توضيح الأحكام من بلوغ المرام

عبد الله البسام

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الأوّل مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

المقدمة

جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعَة الخامِسَة مُصَحَّحَة وَمحَقّقَة وَفيهَا زيَادَات هامَّة 1423هـ - 2003م مكتبة الأسدي مكة المكرمة - العزيزية - مدخل جامعة أم القرى هاتف: 5570506 - فاكس 5575241 ص. ب: 2083

مقدمة الطبعة الخامسة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدِّمة الطبعة الخامسة الحمد لله المبدئ المعيد، شرع أحكامه وفق مصالح العبيد، والصلاة والسلام على صاحب القول السديد، الذي بلَّغ شرع ربه بالموجَز المفيد، وعلى آله وصحبه الذين حملوا الشريعة فأدَّوها بأمانة وتسديد. أما بعد: فأحمد الله تعالى وأشكره على ما يسَّر وسهَّل من وضع هذا الشرح الشامل المفيد، الذي جمع من العلومِ الطارفَ والتليد، بأسلوب مبسوط ميسَّر، وترتيب مفصَّل، ليستفيد منه كل قارىء، فلا يرتفع ويصعب على المبتدىء، ولا ينزل في مستواه عن المنتهي، لذا صار له القبول -ولله الحمد- عند طبقات القرَّاء، فتناولوه بتلهُّف من حين صدوره حتى نفدت نسخ طبعاته الأولى في مدة وجيزة جدًّا. وراح الطلب والسؤال عنها بعد ذلك بإلحاح، مما شجَّعنا على إعادة طبعه، وإسعاف طالبيه، ولكن بصورة أفضل من الأولى، وبتحقيق أوفى وأكمل، أرجو من الله تعالى أن أكون في هذه الطبعة قد سددت وقاربت أكثر من سابقتها. ولابد للإنسان أن يعرض له في فترات لاحقة، ما يقوِّم به فرطات ندَّت منه في أيام سابقة، ما دامت له يد تصل إلى كتاب، أو فكر يهديه إلى صواب. وقد كتب القاضي الفاضل، شيخ صناعة الكتابة في عصره: عبد الرحيم ابن علي البيساني المتوفي سنة (596) -رحمه الله- إلى نائبه في وزارة الكتابة، الأديب الشهير العماد الأصفهاني المتوفي سنة (597)، كتب إليه يقول: "إني رأيت أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يوم إلَّا قال في غده: لو غُيِّر هذا

لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر". وقد كان مني في هذه الطبعة كما قال القاضي الفاضل، فاستدركت: أولًا: ما فاتنا من أخطاء مطبعية وقعت في الطبعات الأولى. ثانيًا: زدت فيها زيادات كثيرة هامة، وفوائد فقهية غالية، ميَّزت هذه الطبعة عن سابقتها تمييزًا بيِّنًا. ثالثًا: زدت في تخريج أكثر الأحاديث، مع تحقيقٍ أكثَرَ في بيان درجة الحديث. رابعًا: زدت كثيرًا في شرح المفردات من الناحية اللغوية والصرفية والنحوية والعلمية، وتحديدٍ أكثرَ للمواضع. خامسًا: وصلتني قرارات المجمَّع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدَّة، وقرارات هيئة كبار العلماء، وقرارات المجمَّع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي، حتى هذا العام (1421 هـ)، منذ تأسيسه، فألحقت كل قرار بالمكان الذي يناسبه من أبواب ومسائل الكتاب. وهي قرارات هامة جدًّا بحثها نخبة مختارة من علماء المسلمين في القضايا المعاصرة، والقضايا المتقدِّمة التي تحتاج إلى فحص وتمحيص، حيث خرج منها المجمَّع برأي واحد فيها. سادسًا: أجريت بعض التغيير والتقديم والتأخير لعبارات وفقرات في الكتاب مما زاده حسنًا وفضلاً. سابعًا: وضعت المتن وهو "أحاديث بلوغ المرام" بأعلى الصحائف، مكتوبة بحرف متميز بلونه وحجمه وضبطه. وبالجملة: فإنَّ القارىء الكريم سيرى -إن شاء الله تعالى- فرقًا كبيرًا

واضحًا بين هذه الطبعة الخامسة، وسابقتها، عسى بذلك أن تكون ملائمة لمقام هذا الكتاب الذي هو شرح لكتاب عظيم ألا وهو كتاب "بلوغ المرام". ونسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه المؤلف عبد الله بن عبد الرحمن البسام شهر شعبان 1421 هـ في منزله في عوالي مكة شرَّفها الله تعالى وحماها من كل سوء

الإلمام في أصول الأحكام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الإلمام في أصول الأحكام الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنَّ من تصدَّى لاستنباط الأحكام الشرعية من مصدرها الأول "الكتاب والسنة"، أو كان يتلقى تلك الأحكام ممن يأخذها من هذا المصدر، ويمعن نظره فيها، ويختار منها ما رأى أنَّه أقرب إلى الصواب، فإنَّ عليه أن يكون ذا إلمام بالأصول الأربعة: 1 - مصطلح الحديث. 2 - أصول الفقه. 3 - القواعد الفقهية. 4 - المقاصد الشرعية. فيعرف بالأصل الأول: الحديث الذي يصلح الاعتماد عليه والاحتجاج به. ويفهم بالأصل الثاني: أدلة الأحكام الفرعية المتعلقة بأفعال المكلفين. ويجمع بالأصل الثالث: شتات المسائل بهذه القواعد التي تضبط أفرادها، وتربط فرائدها عن التشتت والانتشار. ويعرف بالأصل الرابع: أسرار الشريعة ومقاصدها، وما تتوخَّاه من جلب المصالح ودرء المفاسد. لذا فإني جعلت بين يدي شرحي على بلوغ المرام هذه المقدمات الأربع، لتكون أمام قارىء هذا الشرح، فتريه كيف أخذت الأحكام من أصولها، واستنبطت المسائل من مصدرها؛ فيدرك طرق الاستنباط وسبل السير

إلى الاجتهاد؛ فإنَّ إدراكه ذلك يزيده طمأنينة إلى صحة الحكم ويدربه على الإقدام إلى أخذ المسائل من أصولها، ولتكون هذه المقدمات بداية الطريق في سلوك باب الترجيح بين المسائل المتعارضة، والاجتهاد في إصابة الحق في الأحكام المختلفة. والله المسؤول أن ينفع بها من جمَعَها ومن قرأها، وأن يجعل العمل فيها والاستفادة منها خالصَيْنِ لوجه الله الكريم، ومقرِّبَيْنِ لديه في جنات النعيم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف 25/ 3/ 1410 هـ

الأصل الأول في مصطلح الحديث

الأصل الأول في مصطلح الحديث

مصطلح علم الحديث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة، ومقدِّمة مفيدة، في أصول الحديث، أضعها أمام قارىء شرحي على بلوغ المرام، جامعة لما تَمَسُّ الحاجة إليه من مصطلح علم الحديث، توخَّيْتُ فيها تسهيلَ مبادىء هذا الأصل، فقرَّبته من طالب العلم، ليقطف أزهاره، ويجنى بواكير ثماره، بيسر وسهولة، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم. مصطلح علم الحديث: تعريفه: هو علم يُعْرَفُ به حالُ الراوي والمرويِّ من حيثُ القَبُولُ والرد. فائدته: معرفة ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ من الأحاديث بتمييز الصحيح من السقيم. استمداده: تُسْتَمَدُّ مادة هذا العلم من أحوالِ متن الحديث، وأحوالِ رواته وروايتهم، وتتبُّعِ تلك الأحوال. تعريفات: الحديث، والخبر: مترادفان، فهما ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير. الإسناد، والسند: مترادفان، فهما سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن. المتن: ما ينتهي إليه السند من الكلام. تقسيم الحديث باعتبار طرقه: الحديث قسمان: متواتر وآحاد: المتواتر: ما وصَلَ بطرق ليس لها عددٌ معيَّن، فهو ما رواه عدَدٌ كثيرٌ تحيل

أقسام الآحاد

العادةُ تواطؤهم على الكذب. والآحاد: هو الحديث الذي وصل إلينا بطرق محصورة معيَّنة، فإذا ثبتت، أفادت العلم. أقسام الآحاد: غريب: ما انفرد بروايته راوٍ واحدٌ، ولو في طبقة واحدة من طبقات السند. عزيز: أن لا يقل رواته في جميع طبقات السند عن اثنين. مشهور ومستفيض: مترادفان؛ فهما ما رواه ثلاثة فأكثر في كل طبقة ما لم يبلغ حد التواتر. تقسيم الحديث من حيثُ القبولُ: ينقسم إلى أربعة أقسام: 1 - الصحيحُ لذاته: هو ما اتَّصل سنده بنقل عدلٍ تامِّ الضبط عن مثله حتى نهاية السند، وأن يخلو من الشذوذ والعلة. 2 - الصحيحُ لغيره: هو ما اجتمع فيه شروطُ الحسن لذاته، فرواته أقلُّ ضبطًا، وينجبر ذلك بتعدد الطرق. 3 - الحَسَنُ لذاته: هو ما اجتمع فيه شروط الصحيح لذاته لكن يكون راويه خفيف الضبط، ولا يوجد ما يجبر ذلك القصور. 4 - الحسنُ لغيره: هو الحديث الضعيف الذي انجبر ضعفُهُ بتعدُّد الطرق حتى ترجَّح جانب قبوله. أنواع الأحاديث المردودة: يقابلُ الأحاديثَ المقبولة الأحاديثُ المردودة، وهي ما قَصُرَتْ عن رتبة الحسن بفقد شرطٍ فأكثَرَ من شروطه، ويتفاوت هذا الضعف من حيثُ شدتُهُ وخفته، والحديث الضعيف أقسامٌ كثيرة؛ نذكر المشهور منها:

ضعف الحديث من حيث فقد العدالة والضبط

ضعف الحديث من حيثُ فَقْدُ العدالة والضبط: من أقسامه: المختَلِطُ: هو الراوي الذي طرَأَ عليه سوءُ الحفظ بكبر سنه أو ذهاب بصره أو لفقد كتبه، فما حدث قبل الاختلاط قُبِلَ، وما لم يتميَّزْ يتوقَّف فيه. المنكَرُ: ما رواه الضعيف مخالفًا للثقة، ويسمَّى مقابله "المعروف". المبهَمُ: هو أن يكون الراوي مجهولاً. المتروكُ: هو ما رواه راوٍ معروفٌ بالكذب في كلام الناس. الموضوعُ: هو ما رواه راوٍ عُرِفَ بتعمُّده الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ضعفُ الحديث من حيث فَقْدُ الاتصال: المقطوعُ: هو ما أضيف إلى التابعي أو إلى من دونه من قول أو فعل، متصلاً كان أو منقطعًا. المنقطعُ: هو ما سقَطَ من رواته راوٍ واحدٌ فأكثرُ من غير توال قبل الصحابي. المعضَلُ: هو ما سقط من إسناده راويان فأكثر على التوالي في أي مكان في السند. المعلَّقُ: هو ما حُذِفَ من مبدأ إسناده راو فأكثر. المرسَلُ: هو ما رواه التابعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. المدلَّسُ: وهو قسمان: الأوّل: تدليس الإسناد، بأن يُوهِمَ بأنَّه سمع من شيخه وهو لم يسمع منه، ويروي ذلك بصيغة محتملة. الثاني: تدليس الشيوخ، بأن يروي عن شيخ فيسمِّيه بما لا يُعْرَفُ به حتى لا يُعْرَف. ضعفُ الحديث من حيثُ وجود الشذوذِ أو العلة: الشاذُّ: هو ما رواه المقبول مخالفًا من هو أوثَقُ منه، والذي يقابله يسمَّى "المحفوظ".

أقسام الحديث باعتبار من أضيف إليه

المعلَّلُ: هو ما يكون فيه علَّةٌ خفيَّةٌ قادحة في صحته، مع أنَّ ظاهره السلامة، وسبب العلَّة وهمُ راويه. والطريق إلى معرفة حال الحديث وكشف العلة: هو جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته وضبطهم. والعلة قد تكون في المتن، وقد، تكون في السند وهو أكثر. المضطَرِبُ: هو الذي يُروى على أشكال متعارضة، ولا يمكن التوفيق بينها، وتكون متساوية في القوة. والاضطراب قد يكون في المتن، وقد يكون في السند وهو أكثر. أقسامُ الحديث باعتبار من أُضِيفَ إليه: المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، سواء كان متصلاً أو منقطعًا. الموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابي، سواء كان متصلاً أو منقطعًا. المقطوع: هو ما أضيف إلى التابعي أو من دونه من قول أو فعل، متَّصلاً كان أو منقطعًا. المسند: ما اتَّصل سنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. فائدة: المقطوع هو غير المنقطع؛ لأنَّ المقطوع من صفات المتن، والمنقطع من صفات السند. من أنواع الكتب في علم الحديث: الجامع: هو كتاب جمَعَ فيه مؤلِّفه أقسامَ الحديث في العقائدِ والأحكامِ، والآدابِ والتفسير، والسير والمناقب، وغير ذلك، مثل صحيح البخاري. المسند: ما جمع فيه مؤلِّفه الأحاديثَ على ترتيب الصحابة، فكل أحاديث صحابيٍّ جُمِعَتْ وحدها، بقطع النظر عن مواضيعها، وأشهر المسانيد

من أخرج لهم المؤلف في بلوغ المرام

مسند الإمام أحمد. السنن: هو كتاب جُمِعَتْ فيه الأحاديثُ على ترتيب أبواب الفقه؛ مثل سنن أبي داود. المعجم: كتاب جُمعت فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، إما على حسب حروف الهجاء، وإما على حسب وفاة الشيخ، أو غير ذلك؛ مثل: المعاجم الثلاثة للطبراني. المستدرك: كتاب جُمع فيه ما فات صاحب كتاب آخر، ويكون على شرطه؛ مثل مستدرك الحاكم على الصحيحين. المستخرج: كتاب يعمد صاحبه إلى أحد كتب الصحاح، فيورد أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق المؤلِّف؛ كمستخرج الإسماعيلي على صحيح البخاري. العلل: كتاب جمع فيه الأحاديث المعلولة مع بيان عللها؛ مثل كتاب العلل للدارقطني، والعلل للترمذي. الجزء: هو كتاب جمع فيه أحاديث رجل واحد، أو مسألة واحدة؛ مثل جزء "القراءة خلف الإمام" للبخاري. الأربعون: كتاب جمع أربعين حديثًا من باب واحد، أو من أبواب شتَّى، وأشهرها الأربعون للنووي. من أخرج لهم المؤلِّف في بلوغ المرام: 1 - الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمَّد بن حنبل الشيباني البغدادي، أحد الأئمة الأربعة، توفي عام (241 هـ). 2 - الإمام أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري الجُعْفِيّ مولاهم صاحب الصحيح، توفي (256 هـ). 3 - الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري منسوب إلى إحدى

مدن خراسان صاحب الصحيح، توفي (261 هـ). 4 - الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستانى (مدينة بخراسان) صاحب السنن، توفي (275 هـ). 5 - الإمام أبو عيسى محمَّد بن عيسى الترمذي، نسبة إلى ترمذ بخراسان، بقرب نهر جيحون، توفي (279 هـ). 6 - الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، نسبة إلى مدينة نسأ بخراسان، صاحب السنن، توفي (303 هـ). 7 - الإمام أبو عبد الله محمَّد بن يزيد القزويني، نسبة إلى قزوين مدينة بعراق العجم، واشتهر بـ"ابن ماجه"، توفي (273 هـ). 8 - الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، نسبة إلى ذي أَصْبَحَ أحدِ ملوك اليمن، أحدُ الأئمة الأربعة، وعالمُ المدينة، توفي (179 هـ). 9 - الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المُطَّلبي عالم قريش، أحد الأئمة الأربعة، توفي (204 هـ). 10 - الإمام أبو بكر عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة الكوفى العبسى بالولاء، صاحب المصنف، توفي (235 هـ). 11 - الإمام أبو عبد الله محمَّد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري إمام الأئمة، توفي سنة (311 هـ). 12 - الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي نسبة إلى بيهق بلدة بقرب نيسابور، شيخ خراسان، صاحب مؤلَّفات كثيرة مفيدة، توفي (458 هـ). 13 - الإمام أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله النيسابوري اشتهر بلقب الحاكم، ألف المستدرك على الصحيحين، توفي (405 هـ). 14 - الإمام أبو حاتم محمَّد بن حِبَّان البُسْتِيّ نسبة إلى بست مدينة من أعمال كابل، كان من أوعية العلم، توفي (354 هـ).

الذي اطلعت عليه من شروح بلوغ المرام

15 - الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، نسبة إلى "دار قطن" حي في بغداد، إمام حافظ له السنن، توفي (385 هـ). 16 - الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، نسبة إلى طبرية بالشام صاحب المعاجم الثلاثة، توفي سنة (360 هـ). 17 - الإمام أبو علي سعيد بن عثمان بن السَّكن البغدادي، من حفاظ الحديث، له "المنتقى الصحيح" في الحديث، توفي (354 هـ). 18 - الإمام أبو الحسن علي بن محمَّد بن القطان، قرطبي الأصل، من حفاظ الحديث، له عدة مصنفات، توفي (628 هـ). 19 - الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن علي البصري صاحب المسندين الصغير والكبير، توفي (292 هـ). 20 - الحافظ أبو محمَّد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري صاحب "المنتقى من السنن المسندة" توفي (307 هـ). هؤلاء هم الأئمة الذين انتقى الحافظ ابن حجر أحاديث كتابه "بلوغ المرام" من أسفارهم، عرَّفنا بهم القارئ بهذا التعريف الموجز، لتكون المعرفة الأولى لمن لم يعرفهم قبل هذا. الذي اطَّلَعْتُ عليه من شروح بلوغ المرام: 1 - البدر التمام؛ للشيخ الحسين بن محمد المغربي الصنعاني، ولا يزال مخطوطًا، رأيته عند إبراهيم النوري، وعندي صورة منه. 2 - سبل السلام؛ للشيخ محمَّد بن إسماعيل الصنعاني، اختصره من البدر التمام، وقد طُبعَ عدة طبعات، وهو الشرح المتداوَلُ لبلوغ المرام. 3 - فتح العلَّام؛ للشيخ محمَّد صِدِّيق بن حسن خان، مختصر من سبل السلام، وقد طُبِعَ، وكانت نسخه قليلة، ولكنه صوِّر فانتشر. 4 - شرح السيد محمد بن يوسف الأهدل، قال السيد أمين كتبي: إنه رآه في

مكتبة الشيخ عمر حمدان. 5 - شرح الشيخ أحمد الدهلوي، انتخبه من فتح الباري وعدة مصادر أُخر. 6 - شرح الشيخ محمَّد عابد الأنصاري الحنفي نزيل المدينة المنوَّرة، جاء ذكره في ذيل كشف الظنون. 7 - شرح الشيخ محمَّد علي أحمدين المدرِّس المنتدَب من مصر للتدريس في المعهد السعودي بمكة المكرمة، ولا يزال مخطوطًا. 8 - نيل المرام، شَرْحٌ مَدرسيٌّ قام به السيد علوي مالكي، والأستاذ إبراهيم سليمان النوري. 9 - بشير الكرام، حاشية نفيسة للسيد محمد أمين كتبي. 10 - منظومة بلوغ المرام؛ للشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، نظم فيه جل ما حواه بلوغ المرام من الأحاديث -مطبوع. 11 - الإلمام، بتخريج أحاديث منظومة بلوغ المرام؛ للسيد محمد بن يحيى زبارة الصنعاني، مطبوع مع نظم الصنعاني. هذه الشروح والحواشي التي وصل إليها علمي عن بلوغ المرام، وهي تنبيء عن اهتمامِ علماء المسلمين بهذا الكتابِ القيِّمِ المبارك.

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلِّف الإمام العلاَّمة الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني -وَعَسْقَلَان بفتح العين، وسكون السين، وتخفيف اللام، مدينة من أعمال فِلَسْطِينَ قرب غزة- المصري الشافعي، ولد في مصر في اليوم الثاني عشر من شعبان عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة، ونشأ بها، فتوفيت أمه في طفولته، ثم توفي أبوه في صباه. دراسته ومشايخه: دخل الكُتَّاب بعد أن أكمل خمس سنين، فأكمل حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وحفظ كثيرًا من متون العلم في صباه، ومنها: العمدة، والحاوي الصغير، ومختصر ابن الحاجب، ومُلْحة الإعراب. وأخذ العلم عن عددٍ كبيرٍ من الأعلام، من أشهرهم: 1 - السراج البُلقيني: تفقه عليه. 2 - السراج ابن الملقِّن: وقد اختصَّ به ولازمه. 3 - عبد الرحيم بن رزين: سمع عليه صحيح البخاري. 4 - الحافظ العراقي: لازمه نحو عشر سنين، وأخذ عنه جميع مسموعاته. 5 - الجمال بن ظهيرة: أخذ عنه في مكة المكرمة. 6 - العز بن جماعة: أخذ عنه، وأكثر من الأخذ عنه. 7 - الهمام الخوارزمي. 8 - الفيروزآبادي صاحب القاموس: أخذ عنه في علوم العربية. 9 - أحمد بن عبد الرحمن المعروف بـ"ابن هشام": كسلفه، أخذ عنه علوم العربية. 10 - البرهان التنوخي: أخذ عنه القراءات السبع. وبالجملة: فقد أخذ واستفاد عن أئمة عصره في البلاد المصرية، ورحل إلى غيرهم في بلدانهم.

رحلاته

رحلاته: رحل إلى بلادٍ كثيرةٍ كلُّها في طلب العلم وتحقيق مسائله، فمن البلدان التي أقام فيها: 1 - الحرمان الشريفان: وجاور في مكة المكرمة، وصلَّى التراويح في المسجد الحرام سنة (785 هـ)، وسمع صحيح البخاري في مكة على الشيخ المحدِّث عفيف الدين النيسابوري ثم المكي، وتردَّد على مكة المكرمة مراتٍ للحج والاعتمار. 2 - دمشق: ووجد فيها بعض تلاميذ مؤرِّخ الشام ابن عساكر، وأخذ فيها عن ابن الملقِّن والبُلْقِيني. 3 - بيت المَقْدِس: وكثيرٌ من مدن فلسطين؛ كنابلس، والخليل، والرملة، وغزة، واجتمع بعلمائها واستفاد منهم. 4 - صنعاء: وبعض بلدان اليمن، وقرأ على علمائها واستفاد منهم. كل هذا في طلب العلم، والأخذ عن كبار الشيوخ. أعماله: ولاَّه السُّلطان المؤيَّد نيابة القضاء عن جلال الدين البلقيني، ثم عرض عليه قضاء البلاد المصرية في عام (827 هـ)، فقَبِلَ وندم على ذلك، ثم بعد سنة واحدة استقال عنه، ثم ألحَّ عليه في قبوله، فرأى الأمر متعيِّنًا عليه، فقَبِلَ الولاية، وفرح به الناس فرحًا عظيمًا، ثم زيد في ولايته، فضمَّ إليه قضاء البلاد الشامية حتى قَبْلَ عام (833 هـ) وما زال حينًا يقوم بالقضاء، وحينًا يتركه، وذلك لكثرة الشَّغَبِ والتعصُّب والأهواء، حتى بلغت سِنُو قضائِهِ واحدًا وعشرين سنة بعد أن انتهَتْ إليه رئاسةُ القضاة، وكان آخر ولايته القضاء في اليوم الثامن من ربيع الثاني عام (852 هـ). كما ولي من الأعمال: - الخطابة في الجامع الأزهر.

مؤلفاته

- الخطابة في جامع عَمْرِو بن العاص في القاهرة. - منصب الإفتاء بدار العدل. مؤلَّفاته: الحافظ ابن حَجَرٍ رزقَهُ اللهُ تعالى في مؤلَّفاته ميزاتٍ قَلَّ أن توجد لغيره، فإنها جمعت من السعة والتحقيق ما لم يكن لغيرها؛ فصار لها القبول التامّ والانتشار العامّ، في حياته وحتى الآن، فلا نجد باحثًا ولا مؤلِّفًا إلاَّ يعتمد على كتبه، ومن أشهر مؤلَّفاته ما يأتي: 1 - "فتح الباري، بشرح صحيح البخاري" الذي يعتبره المحقِّقون أنفع شروح البخاري، حتى قال بعضهم: إن شرح البخاري دَيْنٌ على أمة محمَّد لم يوفِّه إلاَّ الحافظُ ابن حجر بفتح الباري. 2 - "تهذيب التهذيب" جمع تراجم رجال الحديث، وبيَّن مقاماتهم ومنازلهم. 3 - "الإصابة، في تمييز الصحابة" خصَّه لتراجم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويمتاز ببيان مروياتهم ومن أخذ عنهم. 4 - "بلوغ المرام، من أدلة الأحكامِ" وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى. وبالجملة: فقد بلغت مؤلَّفاته نحو خمسين ومائة، أغلبها في تحقيق السنة المطهرة رواية ودراية. وابن حجر مَفْخَرَةٌ من مفاخر الزمان، وعَلَمٌ من أئمة الإِسلام، ورئيس من رؤساء العلم، نفع الله تعالى بعلمه من تخريج التلاميذ الكبار، ومن تأليف الأسفار. وهذه الترجمة الموجزة لا توفِّيه حقَّه، ولا تظهر مزاياه، ولا تبرز فضله، وقد أفرد له كثير من العلماء والحفَّاظ التصانيفَ في ترجمته، وأحسَنُ مَنْ كتَبَ تلميذُهُ العلَّامةُ السخاوي في كتاب سمَّاه: "الجواهر والدرر، في ترجمة الحافظ ابن حجر" توفي -رحمه الله- في بلاد مصر في 28 ذي الحجة عام (852هـ)، ودفن بالقرافة الصغرى، رحمه الله تعالى رحمة المصطَفَيْنَ الأخيار.

بلوغ المرام

بلوغ المرام كتابٌ مبارَكٌ مفيدٌ مع صغر حجمه، حوَى ما يغني عن التطويل، وأقبل عليه العلماء قديمًا وحديثًا، فلا تجد حَلْقَةَ عالمٍ إلاَّ وكتابُ بلوغ المرام في رأس قائمة الدروس، وأقبَلَ عليه الطَّلاَّبُ بالحفظ والتداول، واستَغْنَوْا به عن غيره من أمثاله، فصار له قبول، وعليه إقبال، حتى استفاد منه في كل عصر الجمُّ الغفير، فلمَّا أنشئت في بلادنا المعاهد العلميَّة والكليَّات الدينية، صار هو أولَ كتاب يفضَّل تدريسه وتقريره. ولهذا الكتاب الجليل ميزات عظيمة نافعة ليست لغيره، نورد بعضها فيما يأتي: 1 - بيَّن مؤلِّفه مرتبة الحديث، من الصحة والحسن والضعف بما يغني الطالب عن الرجوع إلى غيره. 2 - أقتَصَرَ من الحديث على الشاهد مِنَ الباب بما لا يُخِلُّ بالمعنى المقصود، فحصَلَ من هذا الإيجازُ والفائدة. 3 - إذا كان للحديث رواياتٌ أُخَرُ فيها زياداتٌ مفيدة في الباب، ألحقها بإيجاز ووضوح؛ فجاءت روايات الحديث في المسألة يُتَمِّم بعضها بعضًا. 4 - انتقى أحاديث الكتاب من دواوينه المشهورة، وأمهاته المعتبرة، التي أشهرها مسند أحمد، والصحيحان، والسنن الأربع. 5 - يصدِّر الباب -غالبًا- بما في الصحيحين أو أحدهما، ثم يتبعها بما في السنن أو غيرها؛ لتكون الأحاديث الصحيحة هي العمدة في الباب، والمرجع في المسائل، والباقي مكمِّلات ومتمِّمات. 6 - يتتبَّعُ العللَ الموجودة في الحديثِ فيذكرها.

صلتي ببلوغ المرام

7 - إذا كان للحديث متابعاتٌ أو شواهدُ، أشار إليها إشارةً لطيفة، وبهذا جاءت فائدتُهُ من حيثُ الجمعُ أكبَرَ من حجمه. 8 - رتَّب المؤلِّف كتبه وأبوابه وأحاديثه على كتب الفقه؛ ليَسْهُلَ على القارىء مراجعته، وليساير كتب الأحكام من حيثُ الدلالةُ عليها. 9 - جعل في آخره بابًا جمَعَ فيه نخبةً طيبة من أحاديث الآداب سمَّاه: "جامع في الآداب"؛ ليستفيد منه القارىء في الأحكام والسلوك. وبالجملة: فكتابُ بلوغ المرام، من نفائس كتب الأحكام، ويجدر بطلاَّب العلم حفظُهُ وفهمُهُ والعنايةُ به، فقد حرَّر لهم تحريرًا بالغًا ليصير مَنْ يحفظه بين أقرانه نابغًا، يستعين به المبتدىء، ولا يستغني عنه المنتهي، فجزى الله مؤلِّفه خير الجزاء. صلتي ببلوغ المرام: كان شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله تعالى- يدرِّس فيه في مكتبة جامع عنيزة، وقلَّ أن يخلو وقت وليس في هذا الكتاب دَرْسٌ: إما درس خاصٌّ لطلاب العلم، أو عامٌّ لجماعة "الجامع"، وكنت أحد الطلاب عليه رحمه الله، وكان يحثُّنا على حفظ بلوغ المرام، فكنت أحد من حفظ الكتاب ولله الحمد، وكنت أكرِّر أحاديثه خشيةَ النسيان، وأراجع على معانيه شرحه "سبل السلام". وهذا الحفظ والاستذكار والمراجعة فيما بين (1362 هـ) إلى (1367 هـ) ثم التحقْتُ بدار التوحيد بالطائف، فوجدتُّ الكتاب مقرَّرًا في فصولها، ومقسَّمًا على سِنِي الدراسة، وكان يدرِّسنا فيه مبعوث الأزهر الشيخ محمَّد عبد الحكيم، ثمَّ لمَّا تخرَّجْتُ في كلية الشريعة بمكة المكرمة عام (1374 هـ) صرت -مع القضاء- مدرِّسًا في المسجد الحرام، ففتحتُ به درسًا بعد صلاة

المغرب إلى العشاء. ومازلت ملازمًا لهذا الكتاب حتَّى منَّ الله تبارك وتعالى عليَّ فوضعْتُ عليه هذا الشرح، فأسأل الله تعالى بأسمائِهِ الحسنى، وصفاته العلا: أن ينفع به المؤلِّف والمستفيد. وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مقرِّبًا إليه في جنات النعيم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأصل الثاني في أصول الفقه

الأصل الثاني في أصول الفقه

العلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فهذه خلاصةٌ مفيدةٌ في "أصول الفقه"؛ قصدت بها تقديمَ مبادىء هذا العلم الهامِّ الذي لا يستغني عن معرفته دارسُ الكتاب والسنة النبوية، ومستنبطُ معانيهما، والمتصدِّي لاستخراجِ مسائلهما وأحكامهما، انتقَيْتُهَا من عِدَّة مصادر مِنْ كتب الأصول، وأجرَيْتُ فيها الاختيارَ والتنقيح؛ لتكون سهلةً ميسَّرة، وأسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق. العلم: العلم: هو معرفة المعلوم بإدراكه على ما هو عليه في الواقع فيما من شأنه أن يُعْلَمَ، وهو قسمان: ضروريٌّ ومكتَسَب: الضروري: هو كل علم لَزِمَ المخلوقَ على وجه لا يمكنُهُ دفعُهُ عن نفسه مما لا يقع عن نظر واستدلال؛ وذلك كالعلم الحاصل عن طريق الحواسِّ الخمس. والمكتسب: هو كل علم يقع عن نظرٍ واستدلالٍ؛ كالعلم بوجوب الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما يحتاج إلى نظر واستدلال. الجهل: هو تصوُّر المعلوم على خلاف ما هو عليه، وهو نوعان: جهلٌ بسيط: وهو انتفاءُ إدراك الشيء بالكلية فيما مِنْ شأنه أن يُعْلَم. وجهل مركَّب: وهو اعتقادٌ جازمٌ غير مطابِقٍ للواقع، يسمَّى مركَّبًا؛ لأنَّ صاحبه جاهل بالحكم، وجاهل بأنه جاهل. رُتَبُ المُدْرَكَات: 1 - اليقين: هو جزمُ القلب مع الاستناد إلى الدليل.

النظر

2 - الظن: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر وهو الظن. 3 - الشك: تجويز أمرين ليس أحدهما أرجَحَ من الآخر. 4 - الوَهْم: تجويزُ أمرَيْن أحدهما أضعَفُ من الآخر، وهو الوهم. النظر: هو الفكر في حال المنظور فيه، وهو طريقُ معرفة الأحكام إذا وُجِدَ بشروطه. وشروطه: هو أن يكونَ كاملَ الأداة، وهي الإحاطةُ بكثير من العلوم الشرعيَّة، والعلومِ الأصوليَّة، والعلومِ العربية، مما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. الدليل: هو المرشدُ إلى المطلوب، سواءٌ أدَّى إلى العلم أو إلى الظنّ. ناصب الدليل: ناصب الدليل هو الله تبارك وتعالى، والمبلِّغ عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-. المستدِلّ: هو الطالبُ للدليل؛ فيقع ذلك على السائل؛ لأنه يطلب الدليل من المسؤول؛ كما يقع على المسؤول؛ لأنه يطلب الدليل من الأصول. المستدل عليه: المستدَلُّ عليه هو الحكمُ من تحليلٍ وتحريم، وكراهة وندب. المستدَلُّ له: يقع على الحكم؛ لأنَّ الدليلَ يُطْلَبُ له، ويقع على السائل؛ لأنَّ الدليل يُطْلَبُ له. الاستدلال: هو طلبُ الدليل، وقد يكون ذلك من السائل للمسؤول، وقد يكون من المسؤول في الأصول.

أصول الفقه

أصول الفقه: أصول الفقه له معنيان؛ أحدهما: أنَّه مركبٌ إضافيٌّ مكوَّن من كلمتين؛ أصول، وفقه، وثانيهما: أنَّه عَلَم وَلَقَبٌ لهذا الفن. أولًا: التعريف الإضافي: الأصول: جمع أصل، وهو ما يُبْنَى عليه غيره؛ كأصل الشجرة التي يتفرَّع عنها أغصانها. والفقه لغة: الفهم؛ واصطلاحًا: معرفةُ الأحكام الشرعيَّةِ الفرعيةِ التي طريقُهَا الاجتهاد. ثانيًا: التعريف اللقبي: العلمُ بأدلَّةِ الفقهِ الإجماليَّةِ، وكيفيَّةِ استخراج الأحكامِ الشرعيَّة منها، وحالِ المستفيد. فائدة أصول الفقه: هو ذو أهميةٍ كبيرة، وفائدة عظيمة، يستطيعُ المجيدُ فيه سلوكَ طريق الاجتهاد باستخراجِ المسائل الشرعيَّة مِنْ أدلَّتها، واستنباطَ الأحكامِ من أصولها؛ إذا توفَّرَتْ لديه الآلة الكاملة. الأحكام: اتفقت الأمة الإِسلامية على أنَّ الأحكام الشرعيَّةِ هي من الله وحده، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المبلِّغ عنه: إما نصًّا، أو اجتهادًا يقرُّه الله عليه. أقسام الأحكام الشرعية: ينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي: فالأحكام التكليفية خمسة: الواجب: ويسمَّى الفرض، وهو ما يثاب فاعله امتثالاً، ويعاقب تاركه. المندوب: هو ما يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركه.

الأحكام الوضعية

المحرم: ويسمى المحظور، وهو ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه امتثالاً. المكروه: هو ما يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله. المباح: هو ما لا يعاقب فاعله، ولا يثاب تاركه؛ فهو مستوي الطرفين. هذا هو أصل وضع المباح، إلاَّ أنَّه إذا قَصَدَ بفعله الخَيْرَ، التحق بالمأمورات، وإن قصَدَ بفعله الشر، التحق بالمنهيات. الأحكام الوضعية: هو خطابُ الشارع المتعلِّقُ بجعل شيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا، ومن ذلك الصحة والبطلان: السبب: هو جعل الشيء علامةً على تعلُّق الطلب بذمة المكلف؛ كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]؛ فقد جعَلَ الدلوكَ علامةَ توجُّه طلب الصلاة إلى المكلَّف. الشرط: هو ما يلزم مِنْ عدمه عَدَمُ الحكم، فإذا فقدت الطهارة، فقد الأثر المترتِّب عليها، وهو صحة الصلاة، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته. المانع: هو ما يلزمُ من وجوده عدَمُ الحكم، على عكس الشرط؛ كالقتل بغير حق، فإنه يمنع الوارث من الإرث إذا قَتَلَ مورِّثه مع قيام سبب استحقاق الإرث. الصحة: ما ترتَّب المقصودُ من الفعل عليه، عبادةً كان أو عقدًا، فالعبادة أبرأت الذمة، وسقط بها الواجب، والعقد ترتّب آثاره بنفوذه، وذلك بترتُّب الملك عليه. ولا يكون الشيء صحيحًا من عبادة أو عقد إلاَّ باجتماع شروطه وانتفاء موانعه. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: هذا أصلٌ كبير، وقاعدةٌ عظيمة، يحصُلُ به لمن حقَّقه نفع عظيم، ويندفع عنه كثيرٌ من الاضطراب والاشتباه، ومعنى هذا الأصل: أن الأحكام لا تتم حتى تتم شروطها وتنتفي موانعها، وأما إذا عدمت الشروط أو قام مانع، لم يتم الحكم عليه؛ فالصلاة، والزكاة،

الكلام

والصيام، والحج، وسائر الأعمال لا تتم إلاَّ بوجود شروطها وانتفاء موانعها. البطلان: هو الذي لم تترتَّب آثاره عليه لخللٍ في أركانه أو شروطه، سواء كان عبادة أو عقدًا، فإن كان واجبًا: فإن الذمة لم تبرأ، والواجب لم يسقط، بل لا تزال الذمةُ مشغولةً به، وإذا كان عقدًا: فإن أثره وهو انتقال الملك به -لم يحصل. وبعض الأصوليين قالوا: إن الباطل والفاسد مترادفان. وبعضهم قالوا: الباطل ما اتفق العلماء على بطلانه، والفاسد ما اختلفوا فيه، وهذا أرجح. ويحرُمُ فعلُ العباداتِ الباطلة، والعقودِ الباطلة؛ لأن في ذلك مخالفةً لأمر الله تعالى، وتعديًا لحدوده، وفيه سخريةٌ واستخفافٌ بأحكام الله تعالى؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للذي طلَّق امرأته ألبتة: "تتخذون آيات الله هزوًا؟! "، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط؛ قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق". الكلام: هو اللفظُ المفيدُ فائدةً يحسُنُ السكوتُ عليها، أو يتألَّف من اسمين، أو فعل واسم. والاسم: ما دلّ على معنى في نفسه من غير إشعار بزمن، وهو ثلاثة أقسام: 1 - ما يفيد العموم؛ كالأسماء الموصولة، وأسماء الاستفهام، وأسماء الشرط. 2 - ما يفيد الخصوص؛ كالأعلام. 3 - ما يفيد الإطلاق؛ كالنكرة في سياق الإثبات. الفعل: ما دل على معنى واقترَنَ بزمان، وهو ثلاثة أنواع: 1 - ماض: ما أفاد الزمن الماضي. 2 - أمر: ما أفاد الزمن المستقبل.

الأمر

3 - مضارع: ما أفاد الحال أو الاستقبال. الحرف: ليس له معنى في نفسه، وإنما يدل على معنى في غيره، سواء كان عاملاً؛ كحروف الجر، أو غير عامل؛ كحروف الاستفهام. الحقائق ثلاث: 1 - لغوية: وهي اللفظ المستعمل فيما وُضِعَ له في اللغة؛ كالدعاء للصلاة. 2 - شرعية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع؛ كالصلاة لتلك الأفعال، والأقوال المخصوصة. 3 - عرفية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف؛ كالدابَّة للماشية على أربع. وفائدة هذا التقسيم: أن يُحْمَلَ كلُّ لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله، فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية. الأمر: ما تضمَّن طلَبَ الفعل على وجه الاستعلاء؛ مثل: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]. وله صيغ منها: 1 - فعل الأمر؛ كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78]. 2 - اسم فعل الأمر؛ كقول المؤذن: حَيَّ على الصلاة. 3 - المضارع المقرون بلام الأمر؛ كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. ما يقتضيه الأمر: إذا تجرَّدتْ صيغة الأمر من القرائن الصارفة، فإنها تقتضي وجوب المأمور به.

النهي

وصيغة الأمر تقتضي الفوريَّة، وبعضهم قال: لا تقتضي الفوريَّة؛ لأنَّ الغرض إيجاد الفعل من غير اختصاص بالزمن الأول. ولا تقتضي التكرار؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله فرض عليكم الحج، فَحُجُّوا"، ولما سأله الرجل: أفي كل عامٍ؟ أنكر عليه، وقال: "الحج مرة". النهي: النهي هو طَلَبُ الكفِّ عن الفعل على وجه الاستعلاء، وصيغته الفعلُ المضارعُ المقرونُ بلا الناهية؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}. وصيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهيِّ عنه. وإن عاد النهي إلى ذات المنهيِّ عنه أو شرطه: فإنه يقتضي الفساد، وإن عاد إلى أمر خارج: فإن المنهيَّ عنه صحيحٌ مع التحريم. والنهي يفارق الأمر بما يلي: الأول: أن الأمر لا يقتضي الفوريَّة على الراجح؛ بخلاف النهي فيوجب الكف في الحال. الثاني: أن الأمر لا يقتضي التكرار؛ بخلاف النهي فإنه يقتضي أن لا يعود إلى الفعل. موانع التكليف: قال -صلى الله عليه وسلم-: "عُفِيَ لأمَّتي عن الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه" [حديث صحيح] هذه الموانع هي: (أ) الجهل: وهو تصوُّر المعلوم على خلاف ما هو عليه، وقال بعض الأصوليين: إنه عدم العلم بالشيء، وبعضهم قال: إن الأوَّل جهلٌ مركَّب، والثاني جهلٌ بسيط. فمتى فعل المكلَّف محرَّمًا جاهلاً بتحريمه، أو ترك واجبًا جاهلاً بوجوبه عليه، فلا إثم عليه، وأدلته من الكتاب والسنَّة كثيرة؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا

العام

مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. (ب) النسيان: وهو ذهولُ القلب عن شيء كان معلومًا، ومثله السهو عن الشيء، فمتى ترك واجبًا ناسيًا، أو فعل محرَّمًا ناسيًا، فلا شيء عليه، ولكن ذمته لم تبرأ بتركِ الواجب؛ فمتى ذكره، أتى به. جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها". (جـ) الخطأ: وهو أن يقصد بفعله شيئًا فيصادف غَيْرَ ما قصده. فمن فعل شيئًا فأخطأ في تصرُّفه، فلا إثم عليه؛ لأن ذلك مرتَّب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطىء لا قَصْدَ لهما؛ فلا إثم عليهما. (د) الإكراه: إلزامُ الشخص على فِعْلِ ما لا يريد أن يفعله، أو إجبارُهُ على تَرْكِ ما يريدُ فعله، فمن أكْرِهَ على فعلٍ محرَّم، أو تركِ واجبٍ، فلا شيء عليه. فهؤلاء لم تنتف عنهم الأهلية، فهم مكلفون، وإنما عرضت لهم عوارض صاروا في حينها معذورين ومعفوًّا عنهم، فإذا زالت عنهم هذه العوارض، طولبوا بما في ذممهم من الواجبات، فإنها لم تسقط عنهم. والخلاصة: أن هؤلاء الأربعة لا إثم عليهم فيما فعلوه؛ لأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد، وهم ليس لهم قصد فيما فعلوه. وأما ضمان ما أتلفوه من نفس أو مالٍ: فهم ضامنون؛ لأنَّ الضمان مرتَّب على نفس الفعل، سواء قصد أو لم يقصد. العامُّ: هو اللفظُ المستغرِقُ لجميع أفراده بلا حصر؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2]. وصيغ العموم كثيرة منها: 1 - أسماء الشروط، وأسماء الاستفهام.

حكمه

2 - الأسماء الموصولة. 3 - النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام. 4 - المعرف بـ"أن" الاستغراقية. حكمه: إذا ورد في التشريع لفظٌ عامٌ، فإنَّ الحكم يتناول جميع أفراده، فيجب العمل بعمومه حتى يقومَ دليلٌ على التخصيص، فإذا وجد المخصِّص، بقي العام متناولاً ما بقي من الأفراد. ويقل أن يوجد عام ليس مخصِّصًا، حتى قيل: "ما من عام إلاَّ وله مخصِّص". الخاصُّ: هو غيرُ العامِّ، فهو اللفظُ الدالُّ على محصور بشخص أو عدد؛ كرجل، ورجلين، ورجال، ونساء، ورهط، وجماعة. التخصيص: التخصيصُ: هو إخراجُ بعض ألفاظ العام. والمخصِّص -بكسر الصاد-: هو الشارع، ويطلق -أيضًا- على الدليل الذي حصل به التخصيص. أقسام التخصيص: ينقسم إلى متصل ومنفصل: المتصل: ما لا يستقل بنفسه، وأنواعه هي: 1 - الاستثناء: والاستثناءُ إخراجُ بعض أفراد العام بـ"إلاَّ" أو إحدى أخواتها. 2 - الشرط: تعليقُ شيء بشىء وجودًا أو عدمًا بـ"إِنِ" الشرطية أو إحدى أخواتها. 3 - الصفة: وهي ما أشعر بمعنًى يختص به بعضُ أفراد العامِّ؛ من نعت أو بدل أو حال.

المطلق والمقيد

المنفصل: ما يستقل بنفسه. ويكون بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. المطلَقُ والمقيَّد: المطلق: هو اللفظُ الدالُّ على الحقيقة بلا قيد؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. والمقيد: ما دل على الحقيقة بقيد؛ كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ ...} إلى قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. العمل بالمطلق: إذا جاء في النصوص الشرعية لفظٌ مطلَقٌ في موضع، وجاء مقيدًا في موضع آخر: فإن اتحدا حكمًا وسببًا؛ كالدم في الآيتين السابقتين: حمل المطلق منهما على المقيد بلا خلاف بين الأصوليين. وإن اتحد الحكم واختلف السبب، كقوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وفي كفارة قتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]: فهذا فيه خلاف: فبعض الأصوليين: يحمل المطلق منهما على المقيد. وبعضهم: لا يحمله ويقول: لكلِّ نصٍّ حكمه؛ ذلك أن السبب والكفارة أمر تعبديٌّ، ولعلَّ الشارع في مثل كفارة القتل شدَّد في الأمر، وخفَّف في كفارة الظهار، وهكذا كل ما اختلف حكمه واتحد سببه، والله أعلم. المجمَل والمبيَّن: المجمل: هو الذي لا يُعْقَلُ معناه من لفظه، ويفتقر في معرفة المراد منه إلى غيره في تعيينه، أو بيان صفته، أو في بيان مقداره. فمثال الحاجة إلى بيان عينه: القرء في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]؛ فإن القرء لفظٌ مشتركٌ بين الحيض والطهر.

المبين

ومثال ما يحتاج إلى بيان صفته: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]؛ فإن كيفيتها مجهولة تحتاج إلى بيان. ومثال ما يحتاج إلى بيان مقداره: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] في مقدار النصاب ومقدار المُخْرَج. المُبَيَّن: هو ما فُهِمَ منه معنًى معيَّن بالنَّصِّ أو بعد البيان. فالأول: كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، وكلفظ: سماء، وأرض، وجبل، وغير ذلك؛ فالآيتان صريحتان في بيان الحكمين، والألفاظ الثلاثة مفهومة المعنى بأصل وضعها. الثاني: وهو ما يفهم المرادُ منه بعد التبيين؛ مثلُ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؛ فإن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كل منهما مجمَلٌ، ولكن الشارع بيَّنهما، فصار حكمهما التفصيلي بيِّنًا بعد التبيين. العمل بالمُجْمَل: يجب على المكلَّف العزمُ على العمل بالمجمل متى ظَهَرَ له بيانه، ويجب عليه البحثُ عنه إذا احتاج إلى العمل؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن لأمته جميع شريعته، ولم يترك شيئًا إلاَّ بيَّنه، إما بقوله، أو بفعله، أو بهما جميعًا. وكل ما جاء مجملاً في القرآن الكريم: فإن السنة المطهرة بيَّنته وفسَّرته، حتى صار ذكره عَلَمًا عليه وعلى أحكامه التفصيلية؛ ولله الحمد. فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والبيع، والنكاح، وغير ذلك من ألفاظ كانت مجملة مبهمة، إلاَّ أنها بعد أن عُرِفَتْ أحكامها وتفاصيلها، صارت أحكامًا مبيَّنة مفسَّرة لا تحتاج بعد ذلك إلى بيانٍ.

النصوص الشرعية

النصوص الشرعية: كتاب الله تعالى: وهو غنيٌّ عن التعريف، وهو أساسُ الشرع الذي بنيت عليه أحكامه، وكلُّ ما بين الدَّفَّتَيْنِ ثابتٌ ثبوتًا قطعيًّا لا شك ولا ريب فيه، وذلك بطريق التواتر القطعي منذ نزل به الروحُ الأمينُ على قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من رب العالمين؛ فالقرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أُنْزِلَ؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. السنة النبوية: السنةُ المطهَّرةُ هي صِنْوُ الكتاب، وهي ما نقل إلينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ غير القرآن، نقلًا ثابتًا، وبعضُ السنة بلَّغها -صلى الله عليه وسلم- بالوحي، وبعضها بلَّغها باجتهادٍ منه -صلى الله عليه وسلم-. منزلة السنة من الكتاب: للسنة من الكتاب ثلاث منازل: الأولى: سنة موافقةٌ نصوصُهَا نصوصَ الكتاب؛ فهي مؤكِّدة. الثانية: سنة مفسِّرةٌ لنصوص الكتاب المجملة، وسنة مقيِّدة لما جاء في مطلَقه، وسنة مخصِّصَةٌ نصوصها لما جاء من العموم في نصوص الكتاب. الثالثة: سنة أتت بأحكامٍ زائدة على ما جاء به الكتاب: إما بوحي، وإما باجتهاد من الرسول المعصوم الذي لا يقرّه الله على الخطأ. ودلالة الكتاب والسنة إن كانت على جميع المعنى، فهي دلالة مطابقة، وإن كانت على بعضه، فدلالةُ تضمُّن، وإن كانت على توابعِ الحكمِ من شروط ومتمِّمات، فدلالة التزام. النسخ: هو رفعُ حكمِ دليلٍ شرعيٍّ أو لفظِهِ، بدليلٍ آخر من الكتاب أو السنة؛ فإنه

ما يمتنع نسخه

إذا جاء نصٌّ شرعيٌّ بحكمٍ، ثم جاء بعده نص آخر يبطل العمل بحكم النص الأول -في كل ما يتناوله أو في بعضه- سمي النص الثاني: ناسخًا، والنص الأول منسوخًا، ويسمَّى إبطال ما بطل من حكم النص الأول: نسخًا. والنصوص الشرعية التكليفية لم تأتِ دفعة واحدة، بل جاءت تدريجيًّا لتتهيأ نفوس المخاطبين لقبولها وتحمُّل تكاليفها، كما في نصوص الخمر، ونصوص القتال. والنسخ جائزٌ عقلاً: فالأمر لله وحده، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]؛ فله أن يشرع لعباده ما تقتضيه حكمته، وحكمة الله تعالى تقتضي مصالح العباد، والمصالح تختلف حسب الزمان والمكان والحال. أما جوازه شرعًا: فإنه موجودٌ في نصوص الكتاب والسنَّة؛ قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" [رواه مسلم وغيره]. ما يمتنع نسخه: كل النصوص الطلبية قابلة للنسخ إلاَّ قسمين: الأول: ما نص على تأبيد؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة". الثاني: كل نص لا يقبل حسنه أو قبحه السقوطَ؛ نحو قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33]. الأخبار: غير قابلة للنسخ؛ لأنَّ النسخ تكذيبٌ للخبر الأوّل، وهو محالٌ على الله ورسوله، ولأن النسخ محلُّه الحكم. الأحكام: التي تكون صالحة في كل زمان ومكان من أصول الإيمان، وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق، وأمثال ذلك مما هو واجب وحسن في كل مِلَّةٍ سماوية لم تُحَرَّف.

شروط النسخ

كما أنَّه لا يمكن نسخ ما هو قبيحٌ في كل ملَّة سماوية لم تحرَّف؛ وذلك مثل الشرك، والكفر، والظلم، والقبائح، ومساوىء الأخلاق؛ لأن الشرائع أجمعت كلها على ما فيه مصالح العباد، ودفعِ ما فيه مفسدةٌ عليها. شروط النسخ: 1 - تعذُّر الجمع بين الدليلين. 2 - العلم بتأخُّر الناسخ. 3 - ثبوت الناسخ. الفرق بين النسخ وبين التقييد والتخصيص: إنما يظهر في عصر الرسالة فقط؛ وذلك أن النص قد يجيء عامًّا ومعه ما يخصِّصه؛ فيدل هذا من أول الأمر على أن العام قاصرٌ على ما بقي بعد التخصيص، وقد يجيء مطلقًا ومعه ما يقيِّده؛ فيدل هذا من أول الأمر على أن المطلق لا يعمل به إلاَّ مع القيد المذكور. حكمة النسخ: 1 - مراعاةُ مصالحِ العباد بتشريعِ ما هو المناسبُ لهم، وما فيه نفعُهُمْ في دنياهم وأخراهم. 2 - التدرُّجُ في التشريع، وَأَخْذُ الناس به شيئًا فشيئًا؛ كما في تحريم الخمر، وفرض الشرائع. وهناك حِكَمٌ أُخْرَى، وهذان الأمران أهم ما في ذلك بظهورهما في تاريخ التشريع. هذا؛ وإنه من المعلوم أنه لا نسخ بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن أحكام الشرع لا ينسخها إلَّا الشَّارع. إذا تقرَّر هذا، فإننا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجبُ علينا أن ننظر في نصوص الكتاب والسنة من حيثُ التخصيصُ والتقييد، كأنَّ النصوص جاءت معًا فنخصِّص العامَّ، ونقيِّد المطلق، ولا يعنينا تواريخُ مجيء النصوص من الناحية

تعارض النصوص

العملية، وإنما يعنينا مِنَ الناحية التاريخية؛ لنعرف تطوُّرات التشريع والظروف والمناسبات التي جاء فيها. وإنَّ في هذا من الفوائد العظمى ما لا يُسْتَهان به. ونصوصُ الكتاب والسنة ينسخُ بعضها بعضًا على قول جمهور الفقهاء؛ لأنها في مستوًى واحدٍ من حيثُ التشريعُ؛ إذ هي في الحقيقة كلُّها من عند الله تعالى. تعارض النصوص: يجب أن نعلم أنه ليس بين نصوص الشريعة الثابتة تناقُضٌ، بل إذا وُجدَ ما ظاهرُهُ ذلك، فلا بدَّ من نسخٍ أو تخصيصٍ أو تقييدٍ أو تأويل أو ترجيحٍ لأحد النَّصَّيْن على الآخر. فإذا وجدنا نصَّيْنِ صحيحَيْن متعارضَيْن، فلنا في ذلك ثلاث طرق: الأولى: هي الجمع بينهما بحَمْلِ كلِّ واحد منها على حال، فمتى أمكن الجمعُ بينهما، فإننا لا نعدل إلى سواه؛ لأن في ذلك إعمالَ النصوصِ الشرعية كلها. الثانية: إذا لم يكن الجمعُ بينهما، وعرفنا المتأخِّر منهما، اعتبرنا المتأخِّر منهما ناسخًا للمتقدِّم. الثالثة: إذا لم يُعْرَفِ المتقدِّم والمتأخِّر، رجعنا إلى الترجيح؛ فاعتمدنا أصحهما: * فيقدَّم النصُّ على الظاهر. * والظاهر على المؤول. * والمنطوق على المفهوم. * والمُثْبِتُ على النافي. * والناقلُ عن الأصل على المبقي عليه.

الإجماع

الإجماع: هو اتفاقُ الفقهاء المجتهدين مِنْ أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته على أمرٍ من الأمور الشرعية، قولاً أو فعلاً، في أي عصرٍ من العصور. وذهب بعض الأئمة الكبار: إلى أن الإجماع لا يمكن تحقُّقه إلاَّ في عصر الصحابة، إذ كانوا قليلين، وكانت تجمعهم رقعة ضيقة من الأرض، وأما بعد هذا العصر: فقد تفرَّق الفقهاء وحَمَلةُ السنة في نواح متعدِّدةٍ؛ كالعراق، والشام، والمغرب، والحجاز، واليمن، وصار الاطلاع على آراء جميع الفقهاء منهم في عصرٍ واحدٍ مع هذا التفرُّق كالمتعذِّر. لكنْ: جمهورُ الفقهاء على القول بجوازِ الإجماع في كل عصرٍ، فإذا حدَثَتْ حادثة وأفتى فقيه مجتهد، أو حكَمَ بها قاضٍ مجتهدٌ، ثم تناقلها المجتهدون من المفتين والقضاة، وارتضَوْهَا وعملوا بها، ولم يوجد مخالفٌ ممَّن بلغتهم: فهذا إجماعٌ قوليٌّ، ومن المقرِّين لها إجماعٌ سكوتيّ. وقد يكونُ الإجماعُ عمليًّا كالعمل بما تقتضيه العادة والعرف. حجية الإجماع: ذهَبَ جمهورُ علماءِ الأصول: إلى أن الإجماع حجةٌ قطعية، وأنه أصلٌ من أصول التشريع. وإذا اتفق أكثرُ المجتهدين على حكم مسألةٍ شرعيَّة اجتهاديَّة، وخالفهم قليلٌ من العلماء، فما قال به الأكثَرُ لا يعتبرُ إجماعًا، وإنما يعتبرُ حجةً شرعية فقط؛ وذلك لقوَّته. وكثيرٌ من الفقهاء المنتصرين لمذاهبهم، أو لمسألة يَرَوْنها يُسْرِفون في حكايةِ الإجماع، فأيُّ مسألة ينقلون الإجماع فيها، إذا تتبَّعها الباحثُ وجَدَ الخلافَ فيها. قال ابن القيِّم: عادةُ ابن المنذر إذا رأى أكثَرَ أهلِ العلمِ قالوا في مسألة،

مستند الإجماع

حكاه إجماعًا. مستند الإجماع: ذهب جمهورُ الأصوليين: إلى أن الإجماع ليس أصلاً مستقلاًّ بنفسه؛ بل لابد له من مستند من الكتاب أو السنة، سواء علمنا ذلك أو لا؛ إذ يكفي أن يكون الإجماع قد وصل إلينا بطريق النقل الصحيح. وإنما قالوا ذلك؛ لأنَّ الإجماع لو كان أصلاً مستقلاًّ لاقتضى إثبات شرع زائد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك غير جائز. وذهب جمهور الأصوليين: إلى عدم جواز نسخ الإجماع بالإجماع؛ وذلك أن الإجماع الأول لو كان قطعيًّا، وفرضنا أن الثاني قطعي أيضًا؛ كان هذا محالًا؛ إذ الأمة أجمعَتْ على الأول، ولا تجتمعُ الأمةُ على ضلالة، فيحكم على الإجماع الثاني بأنه خطأٌ لمجيئه مخالفًا للدليل القاطع، ولا يتصوَّر وجودُ إجماعٍ قطعيٍّ لاحقٍ ينسخ إجماعًا قطعيًّا سابقًا. القياس: معناه: إلحاقُ فرعٍ بأصل في الحكمِ لمساواتِهِ له في عِلَّةِ حُكْمه. ويشترط لكلِّ قياس أربعةُ أشياء: 1 - المقيس عليه، ويسمَّى الأصل. 2 - المقيس، ويسمَّى الفرع. 3 - الوصف الجامع بين الأصل والفرع، ويسمَّى العلة. 4 - الحكم الشرعي المنقول من الأصلِ إلى الفرع.

مسألتان هامتان

مسألتان هامَّتان المسألة الأولى: ما شرعه الله تعالى لعباده إنما شرعه لهم لمصلحةٍ تعودُ عليهم، بجَلْبِ ما فيه خيرٌ لهم، ودفع ما فيه شرٌّ عنهم، وهذه هي الحكمةُ المقتضيةُ لتشريع الأحكام؛ وإلاَّ فإن الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، ومتعالٍ بكماله المُطْلَقِ أن يناله نفعٌ أو ضرر. والعِلَّةُ الباعثةُ على التشريع قد تكونُ خفيَّة؛ لذا فإنَّ المدارَ هو وجوبُ المتابعةِ والإذعانِ والخضوعِ لأمر الله؛ كما أنَّ الأحكامَ تدار على ما يظهر من الأوصاف الظاهرة المنضبطة التي يُظَنُّ وجودُ الحكمة معها، وسمِّيَتْ تلك الأوصافُ بالعللِ الشرعية. فإنَّ العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يُظَنُّ وجود الحكمة الباعثة على التشريع معه غالبًا. لذا كان دوران الحكم مع علته أضبَطَ وأبعَدَ عن الاضطراب والخلل فيها. ومن هنا فإن القاعدة هي: "أن مناطَ الأحكام المَظَانُّ الكلية". المسألة الثانية: مقاصد الشارع من وَضْعِ الشريعة تنحصرُ في ثلاثة أقسام، هي: الأول: المقاصدُ الضروريَّة، وهي حفظُ الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والنسل، والمال، وحفظُهَا بما يقيمُ أركانَهَا، ويضمَنُ بقاءها، وبما يخلِّصها من الخَلَلِ الواقع بها، ويدرأ عنها الخللَ المتوقَّعَ في المستقبل: فقد شُرع الجهادُ: لحفظ الدين، وضمان بلاغه، والقصاص: لحفظ النفس، والقطع: لحفظ المال، والحد في الزنى: لصون العرض وحفظ النسل، وحد المسكر: لحفظ العقل. الثاني: المقاصد الحاجية، وهي ما يقع محلَّ الحاجة، ولم يصل إلى

الاجتهاد

الضرورة لغرض التوسعة، ورفع الضيق المودِّي إلى المشقة والحرج، والذي يرفعه إباحةُ البيوعِ، والإجارات، والمشاركات، وسائر المعاملات، والتمتُّع بالطيِّبات. الثالث: المقاصدُ الكماليَّة، ويندرجُ تحتها محاسنُ العادات، وكلُّ ما فوقَ الحاجيَّات من التحسينيَّات. الاجتهاد: الاجتهاد: هو بذلُ الفقيه وُسْعَهُ في نيل حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ بطريقة الاستنباط، ومعنى "بذل الوسع": أن يأتي بكل ما يستطيعُ للوصولِ إلى معرفة الحكمِ الشرعيِّ حتى يُحِسُّ من نفسه العجزَ عن طلب الزيادة. ولابد أن يكون مَنْ بَذَلَ جهده لطلب الحكمِ الشرعيِّ فقيهًا؛ لأنَّ غير الفقيه ليس فيه من المؤهِّلات ما يوصِّله إلى المطلوب، فلا يعتبر اجتهاده، ولا يسمَّى مجتهدًا؛ كما لو بذل شخصٌ لم يتعلَّم الطب كلَّ ما في وسعه لمعرفةِ مرضٍ باطنيٍّ في مريضٍ خاصٍ، وَعَمِلَ العلاجَ اللازمَ لهذا المرض. شروط المجتهد: اشترَطَ الأصوليُّون في المجتهِدِ شروطًا إذا توافَرَتْ فيه، كان أهلاً للاجتهاد، وهذه خلاصتها: الأول: أن يكون عالمًا بالكتاب لغةً؛ بمعرفة مفرداته، ومركَّباته وخواصِّها، وذلك باطِّلاعه على مفردات اللغة، والصرف، والنحو، والبيان، والمعاني، بطريق التعلُّمِ والممارسة بالكلام الجيِّد من كلام العرب. الثاني: أن يكون عالمًا بالسنَّة؛ بأن يعرفها بمتنها، وهو نَفْسُ الحديث، وسندِهَا، وهو طريقُ وصولها إلينا، ومعرفة حال الرواة من الجرح والتعديل ... ويكتفي بتعديلِ الأئمة الموثوقِ بهم؛ كالإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم من أئمة السنة الكبار. الثالث: أن يكون ذا معرفةٍ تَامَّة بأصولِ الفقهِ مِنْ معرفةِ العامِّ والخاص،

والمطلق والمقيَّد، والمجمَلِ والمبيَّن، والناسخِ والمنسوخ، وطريقة الجمعِ، والترجيح في النصوص التي ظاهرُهَا التعارض، وغير ذلك مما يحتاجُ إليه المجتهد، وما هو مبيَّن في مَحَالِّهِ من كتب الأُصول. فإذا توافرتْ هذه الشروط في عَالِمٍ، وآتاه الله تعالى الفَهْمَ الصحيحَ لنصوص كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واستعان بالله تعالى، وأكثر البحثَ والمراجعةَ، ثم استعان بكلام الأئمَّة السابقين والعلماء الأقدمين-: فإن الله تعالى سيوفِّقه. ولذا ندركُ خطأ من قال: "إنَّ بابَ الاجتهاد مقفول"، بل هو مفتوح، ولكن بمفتاحه المُعَدِّ له، كما ندرك خطأ شباب جاهل زَجَّ بنفسه في هذا الميدانِ الخَطَرِ بلا سلاح. فنسأل الله تعالى الهدايةَ للجميع، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

الأصل الثالث في القواعد الفقهية

الأصل الثالث في القواعد الفقهية

تعريف وتاريخ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فهذه القواعدُ وشرحها قد استقيناها من عدة مصادر مِنْ كتب القواعد، إلاَّ أننا أجرَيْنا في كلِّ ما اطَّلعنا عليه مِنَ المصادر بعضَ التصرُّفات من الاختصار والتعديل والتوضيح؛ لتكون ملائمةً لمن يريد الفائدة القريبةَ، والثمرة الدانية. تعريف وتاريخ: القاعدة لغة: هي أساس الشيء؛ كالبناء ونحوه. واصطلاحًا: هي حكمٌ أغلبيٌّ ينطبقُ على معظم جزئيَّاته. فهي أصول فقهية كلية في نصوص موجزة؛ تتضمَّن أحكامًا تشريعية عامة. وتمتاز في صياغتها -على عمومها- بالإيجاز. وهي أحكامٌ أغلبيةٌ غيرُ مطَّردة؛ لأنها تصوُّر الفكرة الفقهية المبدئية التي تعبِّر عن المنهاج القياسي العام، والقياسُ كثيرًا ما ينخرم في بعض المسائل إلى حلول استحسانيَّة؛ ولذا فإنها لا تخلو من استثناءات في فروع الأحكام التطبيقية؛ إذ يرى الفقهاء أن تلك الفروع المستثناة من القاعدة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى. ولكنْ كونُ القواعدِ أغلبيةً لا يَنْقُصُ من قيمتها العلمية؛ فإن فيها تصويرًا بارعًا للمقرَّرات الفقهية العامة، وضبطًا لفروع الأحكام العملية، تبيِّن في كل زمرة من هذه الفروع وحدةَ المناط، وجهةَ الارتباط. قال القرافي: وقواعد الفقه عظيمةُ النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظُمُ قدر الفقيه، وتتضحُ له مناهجُ الفتوى، وَمَنْ أخذ الفروعَ الجزئية دون القواعدِ الكليَّة، تناقضت عليه تلك الفروع واضطربت. أما مَنْ ضبَطَ الفقهَ بقواعده، فإنه يستغني عن ضبط أكثر الجزئيات؛

لاندراجها في الكليات، وتناسَبَ عنده ما تضارَبَ عند غيره. والقواعد الفقهية لم توضَعْ كلُّها جملةً واحدة؛ بل تكوَّنت نصوصها بالتدرُّج في عصور ازدهار الفقه ونهضته؛ على أيدي كبار فقهاء المذاهب؛ استنباطًا من دلالات النصوص التشريعية العامة وعلل الأحكام. ولا يعرفُ لكلِّ قاعدة صانعٌ معيّن من الفقهاء، إلاَّ ما كان منها نصُّ حديث نبوي؛ مثل قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، فمعظم تلك القواعد قد اكتسبت صياغتها عن طريق التداول والتحرير على أيدي الفقهاء في مجال التعليل والاستدلال؛ فالتعليل للأحكام أعظَمُ مصدر لتقعيد هذه القواعد. ولعلَّ أقدم من جمَعَ أهمِّ القواعد هو العلَّامةُ أبو طاهرٍ الدبَّاس الحنفيُّ؛ فقد جمع سبع عشرة قاعدة. ثم صنَّف الكرخي فيها رسالةً خاصَّةً جاءت بسبع وثلاثين قاعدة، وهكذا إلى أن جاء السبكيُّ بكتابه "الأشباه والنظائر"، فبسط القول فيها وفرَّعه. ثم جاء الزركشي فصنَّف فيها كتابًا سمَّاه "المنثور في ترتيب القواعد الفقهية"، ثم تابعه الخادمي بمجموعٍ جمع فيه طائفةً كبيرة من تلك القواعد. وقد ألَّف في هذه القواعد عددٌ كبيرٌ من فقهاء المذاهب من أمثال السيوطي الشافعي في كتابه "الأشباه والنظائر"، والقرافي المالكي في كتابه "الفروق"، وابن رجب الحنبلي في كتابه "القواعد الفقهية". قال الشيخ مصطفى الزرقاء: أما قواعدُ المَجَلَّة، فكلُّها قواعدُ كلية ذات صياغة فنية، غير أن فيها شيئًا من الترادُفِ أو التداخُلِ مع غيره. ثم إنَّ الشيخ أحمد الزرقاء والدَ الشيخ مصطفى الزرقاء درَّس تلك القواعد، وعُنيَ بها عنايةً تامَّة، وأطال البحثَ والتفتيش فيها، فألَّف فيها كتابه القيم "شرح القواعد الفقهية" الذي هذَّب فيه تلك القواعد -المائة- ثم شرحها فيه شرحًا جامعًا وافيًا، يغني كلَّ باحث فيها عمَّا سواه في هذا الباب،، والله الموفِّق.

معنى القواعد الفقهية

معنى القواعد الفقهية القواعد: جمع قاعدة، وهي لغةً: أساس البناء. واصطلاحًا: حكمٌ أغلبيٌّ ينطبق على معظم جزئياته؛ لتعرف أحكامها منه، فأحكامها ليست كليةً بل هي أغلبية؛ ذلك أن بعض فروع تلك القواعد يعارضها أثر أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثِّرة؛ فتخرجها عن الاطراد، فحكم عليها بالأغلبية لا بالاطراد. مَيْزَاتُهَا: تمتاز القواعدُ الفقهية بمزيدٍ من الإيجاز في صياغتها على عمومِ معناها، فتعتَبَرُ من جوامعِ الكلمِ كقولهم: "الأمور بمقاصدها"، أو "المشقة تجلب التيسير"؛ فكل من هاتين الجملتين قاعدة كلية كبرى يندرج تحتها ما لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة. وفي هذه القواعد الكلية الفقهية ضَبْطٌ لفروعِ الأحكام العملية. قال القرافي: القواعدُ الكليَّة الفقهيَّة جليلةُ القدر، مشتملة على أسرار الشَّرْع وحِكَمِهِ، فهي مهمةٌ في الفقه، عظيمةُ النفِع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، وتتضحُ له مناهج الفتوى، فمن ضَبَط الفقهَ بقواعده، استغنَى عن حفظ أكثر الجزئيَّات؛ لاندراجها في سلك الكليات. أنواع القواعد الفقهية ومراتبها: القواعد الفقهية ليستْ على درجةٍ واحدةٍ من العمومِ والشمول، فهناك القواعدُ الكبرى، وهي قواعدُ خمسٌ يندرجُ تحت كلِّ واحدة منها عددٌ من القواعد الفقهية، فهي أشملُ وأعمُّ مما سواها؛ بكثرة ما يندرج تحتها من الفروع والمسائل الفقهية من مختلف أبواب الفقه. وهذه القواعد الخمس هي:

الفرق بين القاعدة، والضابط

1 - الأمور بمقاصدها. 2 - اليقين لا يزول بالشك. 3 - الضرر يُزال. 4 - المشقة تجلب التيسير. 5 - العادة محكَّمة. وهناك قواعد أخر أقلُّ شمولاً للفروع من هذه القواعد، وتسمَّى "قواعد جزئية"، وستأتي إن شاء الله تعالى. الفرق بين القاعدة، والضابط: القاعدة قد تستعمل بمعنى الضابط، والضابط قد يستعمل بمعنى القاعدة، إلاَّ أن بينهما فرقين: أحدهما: أن القاعدة تَجْمَعُ فروعًا من أبوابٍ شتى، وأما الضابط فلا يجمع إلاَّ فروعًا من باب واحد. الثاني: أن القاعدة متفقٌ عليها بين المذاهب أو أكثرها، وأما الضابط فيختصُّ بمذهب معيَّن، وقد أجملناها كلَّها باسم القواعد من باب تسمية البعض باسم الكل، وهو سائغٌ لغةً وشرعًا وعرفًا. الفرق بين أصول الفقه، والقواعد الفقهية: علم "أصول الفقه": مجموعةٌ من القواعد التي تبيِّن للفقيه طُرُقَ استخراج الأحكام من الأدلَّة الشرعية، فهو يبيِّن أصل الشريعة في التكاليف العملية، ويرسم المناهج للمجتهد؛ ليسير في سبيل قويم إلى استنباط الأحكام الفرعية، ويعصمه من الخطأ في الاستنباط. فموضوع "علم أصول الفقه" الأدلَّةُ الإجماليَّةُ، والأحكام الكلية، وكيفية استنباط الحكم من الدليل الإجمالي. وأما القواعد الفقهية: فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجع

إلى قياس واحد يجمعها، أو إلى ضابطٍ فقهيٍّ يربطها، فهي أصلٌ للأحكام الفقهيَّة الجزئيَّة المتفرِّقة يَعْمِدُ إليها الفقيه؛ فيجمع شتاتَها ويربطُ بين جزئياتها برباط وثيق هو "القاعدة الفقهية" التي تحكمها؛ فهي مبنية على الجمع بين المسائل المتشابهة من الأحكام الفقهية. فموضوع علم هذه القواعد: هو ما تشابَهَ من المسائلِ والأحكامِ الفقهيَّة، وما يربطُ كلَّ مجموعة متشابهة منها من قياس أو ضابط فقهي هو "القاعدة"، أما "أصول الفقه": فينبني عليه استنباطُ الفروعِ الفقهية من أدلتها.

القواعد الكلية الخمس الكبرى

القواعد الكليَّة الخمس الكبرى تقدَّم لنا أن "القواعد الفقهية" ليستْ على درجةٍ واحدةٍ من العموم؛ فهناك قواعد كبرى، وهناك قواعد أُخر أقلُّ منها شمولاً للفروع، وهذا بيان للكبرى والإشارة إلى بعض معانيها: القاعدة الأولى من القواعد الكبرى: (الأمور بمقاصدها): دليلها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات". معنى القاعدة لغة: الأمور جمع أمر، وهو الحال، والمقاصد: جمع مقصد، ومعناه: الإرادة والعزم. والمعنى: أن أعمال المكلَّف وتصرُّفاته تختلفُ نتائجها باختلافِ مقصودِ الشخص وغايته؛ فمن التَقَطَ لُقَطةً يقصد أخذَهَا لنفسه، كان غاصبًا، ومن التقطها لحفظها وتعريفها وردِّها لصاحبها متى ظهر، كان أمينًا. وكما أن الفعل يتكيَّف حكمه في أحكام الدنيا بناءً على قصد فاعله، فكذلك يترتَّب عليه من جزاء الآخرة بالثواب والعقاب حَسَبَ قصده. وهذه القاعدة على وجازتها ذاتُ معنًى عامٍّ يشملُ كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعلٍ. القاعدة الثانية من القواعد الكبرى: (لا ضرر ولا ضرار): هي نَصٌّ من حديث أخرجه الحاكم، والبيهقيُّ، والدارقطني، عن عبادة ابن الصامت. معنى القاعدة: الضررُ: إلحاقُ مفسدةٍ بالغير، وأما الضرارُ: فالمجازاة بالمقابلة، وحرم الضرر لأنه تعدٍّ، وحرم الضرار؛ لأنه مفسدة بلا مصلحة، وأفضل منه تضمين المتعدِّي، كما في حديث قَصْعة عائشة -رضي الله عنها-. هذه القاعدة ركنٌ من أركان الشريعة لها أدلَّةٌ كثيرة من الكتاب والسنَّة،

القاعدة الثالثة من القواعد الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك)

وهي أساسٌ لمنع الفعل الضار؛ كما أنها أصلٌ لمبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي عمدة الفقهاء في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث. وعلى هذه القاعدة: يبنى كثير من أبواب الفقه؛ كالرد بالعيب، والحَجْرِ بأنواعه، والشفعة، والحدود، والقصاص، والكفارات، وضمان المتلفات، ودفع الصائل، وقتال البُغاة، إلى غير ذلك مما في حِكمة شرعيته دفع للضرر. القاعدة الثالثة من القواعد الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك): من أدلة هذه القاعدة: قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وفي الصحيحين: "شكا إليه -صلى الله عليه وسلم- الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". وفي مسلم: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلم يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أو أرْبعًا؟ فَلْيَطْرَح الشكَّ وَلْيَبْنِ على ما استيقَنَ". أما الدليَل العقلي: فإن اليقين أقوَى من الشك؛ فلا ينهدم اليقين بالشك. معنى القاعدة في اللغة: اليقين: طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، والشك: مطلَقُ التَّرُّدد. وفي اصطلاح الأصوليين: الشك: هو استواءُ طرفي الشيء بلا ترجيح أحدهما على الآخر. معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي: أن الأمر المتيقَّن ثبوته لا يرتفع إلاَّ بدليل قاطع، ولا يحكمُ بزواله لمجرَّد الشك، كذلك الأمر المتيقَّن عدم ثبوته لا يحكم بثبوته بمجرد الشك؛ لأن الشك أضعف من اليقين. مكانة القاعدة: هذه القاعدةُ تدخُلُ في جميع أبواب الفقه، قالوا: إن المسائلَ المخرَّجَة عليها تبلغ ثلاثةَ أرباعِ الفقه وأكثر. القاعدة الرابعة من القواعد الكبرى: (المشقة تجلب التيسير): المعنى اللغوي: المشقة: التعب والجهد والعناء. والتيسير: السهولة

القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى: (العادة محكمة)

والليونة. المعنى الاصطلاحي: أن الأحكامَ التي ينشأ عن تطبيقها حَرَجٌ على المكلَّف، فإن الشريعة تخفِّفها بما يقعُ تحت قدرة المكلَّف دون عسر أو إحراج. دليل القاعدة: أدلتها كثيرة جدًّا من الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثت بالحنيفية السمحة" [أخرجه أحمد]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثتم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين" [متفق عليه]. القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى: (العادة محكَّمة): المعنى اللغوي: العادة مشتقةٌ من العَوْدِ أو المعاودة، بمعنى التكرار، فالعادةُ اسمٌ لتكرير الفعل حتى يصير سهلاً تعاطيه كالطبع، وأما "محكمة": فهي اسم مفعول من التحكيم في القضاء، والفَصْلِ بين الناس، أي: أن العادة هي المرجعُ للفصل عند النزاع. المعنى الاصطلاحي: أن للعادة في نَظَرِ الشرعِ حاكميَّةً تخضع لها أحكام التصرُّفات، فتثبت تلك الأحكام على وَفْقِ ما تقضي به العادة أو العرف إذا لم يكن هناك نصٌّ شرعيٌّ مخالفٌ لتلك العادة أو العرف، فالعادةُ والعرفُ لفظان بمعنى واحد مِنْ حيثُ ما يدلُّ عليهما لفظاهما وَيَصْدُقان عليه، حتى تكون العادة والعرف حجةً وحكمًا. يعتبر العرف والعادة حجةً عند عدمِ مخالفتِهِ لنصٍّ شرعيٍّ، أو شرط لأحد المتعاقدين؛ كما لو استأجر شخص آخر ليعمل له من الظهر إلى العصر فقط، فليس للمستأجر أن يلزمَ الأجير بالعمل من الصباح إلى المساء بحجةِ أنَّ عُرف البلدة كذلك، بل يتبعُ المدَّةَ المشروطة بينهما. إذا وافق العرفُ والعادةُ الدليلَ الشرعيَّ، وجبت مراعاته وتطبيقه. وإذا خالف العرفُ الدليلَ الشرعي من كل وجه، وجب رد العرف والعادة،

فلا يعتبران حكمًا لإثبات حكم شرعي إلاَّ إذا لم يَرِدْ نصٌّ في ذلك الحكم المراد إثباته. وأما إن كانت مخالفةُ العرفِ للدليل الشرعيِّ في بعض أفراده، أو كان الدليل الشرعي قياسًا، فإنَّ العرفَ العامَّ يعتبر مخصِّصًا للنصِّ، ويترك القياس من أجله. ضابط عام: كل ما وَرَدَ به الشرعُ مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة، فإنه يرجع فيه إلى العرف، مثل: الحِرْزِ في السرقة؛ فهو ما يعتبر حده في العرف حيث لا تحديد له في الشرع ولا في اللغة، ويختلف بين مال ومال، وبين حال وحال. ***

قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع العرف

قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع العرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (9) بشأن العرف: إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطِّلاعه على البحوث المقدَّمة من الأعضاء والخبراء في موضوع "العرف" واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرَّر: أولاً: يراد بالعرفِ: ما اعتادَهُ الناسُ، وساروا عليه من قولٍ أو فعلٍ أو تركٍ، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر. ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا، فهو معتبر عند أهله، وإن كان عامًّا، فهو معتبر في حق الجميع. ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية: (أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا، أو قاعدة من قواعد الشريعة، فإنه عرفٌ فاسدٌ. (ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًّا) أو غالبًا. (ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف. (د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرَّحا بخلافه، فلا يعتد به. رابعًا: ليس للفقيه -مفتيًا كان أو قاضيًا- الجمودُ على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدُّل الأعراف، والله أعلم.

القواعد الكلية غير الكبرى

القواعد الكلية غير الكبرى القاعدة الأولى: (إعمال الكلام أولى من إهماله): المعنى اللغوي: إعطاءُ الكلام حكمًا مفيدًا مقتضاه اللغويَّ أولَى من إلغائه؛ فإنَّ العاقلَ يصانُ كلامه عن الإلغاء ما أمكن. أما المعنى الفقهي: فهو إعمالُ كلامِ المتكلِّم من شارعٍ أو عاقدٍ أو حالفٍ أو غيرهم بأن تُحْمَلَ ألفاظه على معانيها الحقيقية. فلو قال شخصٌ لآخر: وهبتك هذا الشيءَ، فأخذَهُ المخاطَبُ، ثم ادَّعى القائلُ أنه ما أراد بلفظ الهبة إلاَّ البيع، وطلَبَ يمينًا، فإنه لا يُقْبَلُ قوله؛ لأنَّ الأصل في الكلام الحقيقة، وحقيقةُ الهبة تمليكٌ بدون عوض. القاعدة الثانية: (إذا تعذرت الحقيقة يُصار إلى المجاز): المعنى: الحقيقة هي الأصلُ، والمجاز فرع الحقيقة، فحيث كان المجاز خَلَفًا عن الحقيقة، فإنه يتعيَّن المعنى الحقيقي للفظ ما لم يوجَدْ مرجِّحٌ للمجاز. ويشترط في اللفظ المستعمَلِ في معناه المجازيِّ وجودُ قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الحقيقيِّ، كأن يكونَ المعنى الحقيقيُّ مهجورًا عرفًا: فلو حلَفَ شخصٌ أن لا يأكُلَ هذا الدقيق، فأكل منه خبزًا، حنث؛ لأن أَكْلَ الدقيق دون خَبْزه مهجورٌ عُرْفًا. القاعدة الثالثة: (المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصًّا أو دلالة): اللفظ المطلق: هو ما دل على أمرٍ من الأمور مجردًا عن القيود. وأما اللفظ المقيَّد: فهو الذي يكون محدَّدًا بشيء من القيود. فلفظ فرس -مثلًا- مطلق، فإذا قلنا: فرسٌ أبيض، صار مقيَّدًا. ومعنى القاعدة: أن اللفظ المطلق يعمل به على إطلاقه حتى يقومَ دليلُ

القاعدة الرابعة: (التأسيس أولى من التأكيد)

التقييد بالنص عليه أو بدلالة الحال. فلو وكَّل شخصٌ آخر على شراء سيَّارة، فاشتراها حمراء، فقال الموكِّل: أردتُّ بيضاء، فيُلْزَمُ الموكِّل بما اشتراه الوكيل؛ لأنَّ وكالته مطلقة؛ فيجري على إطلاقه. حالات التقييد: التقييد بالنصِّ: هو اللفظُ الدالُّ على القيد؛ كما لو قال لوكيله: بع السلعة بالدولار. التقييد بالدلالة: والدلالةُ غير اللفظية تكونُ عرفيةً أو حاليةً. كما لو وكَّل طالبُ علم شرعي آخرَ بشراء كتب، فاشترى له كُتُبَ هندسة، فإن المبيعات لا تلزمُ الموكِّل؛ لأنَّ دلالة الحال تفيدُ وتقيِّد أن مراده كُتُبُ العلم الشرعي. القاعدة الرابعة: (التأسيس أولى من التأكيد): المعنى اللغوي: التأسيس: مِنْ أسَّس البناء: جعل له أسًّا، والتأكيد: معناه التقوية. المعنى الاصطلاحي: أن الكلام إذا دار بين أن يفيد معنى جديدًا، وبين أن يوكِّد معنى سابقًا، كان حمله على إفادة المعنى الجديد أولى من حمله على التأكيد؛ لأن التأسيس يفيد معنى جديدًا لم يتضمَّنه الكلام السابق، بخلاف التأكيد، فإنه لا يفيد إلاَّ إعادة معنى اللفظ السابق. فمن حلف على أمرٍ بأنه لا يفعله، ثم حلف مرة أخرى أنه لا يفعله أبدًا، ثم فعله: فإن نوى بالثاني اليمين الأولى، فعليه كفَّارة واحدة، وإن نوى باليمين الثاني يمينًا آخر، فعليه كفارة يمينين. القاعدة الخامسه: (إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل): المعنى: الأصل -هنا-: ما يجب أداؤه، والأداء: الإتيان بالأصل، أما

القاعدة السادسة: (التصرف في أمور الرعية منوط بالمصلحة)

البدل: فهو القضاء، والقضاء: هو الإتيان بالخلف أو البدل. والمراد: أن الواجب هو أداء الأصل، فإذا لم يمكن إيفاؤه والإتيان به، فإنه ينتقل الحكم إلى البدل. ويكونُ ذلك في حقوق اللهِ تعالى؛ كالصلاة في وقتها، ويكون في حقوق العباد؛ كردّ المغصوب: فالواجب الإتيان بالأداء كاملاً؛ كالصلاة في وقتها مع الجماعة، فإن فات وقتها، أو فأتت الجماعة، أتى بالقضاء بعد فوات الجماعة، أو بعد خروج الوقت. والمغصوب الواجب ردُّه ردًّا كاملًا، فإن تعذر بتلفه أو عدم القدرة على ردّه، فيرد بدله مثلاً إن كان مثليًّا، أو قيمته إن كان متقوَّمًا. ومن أدلة هذه القاعدة: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238، 239]. وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. القاعدة السادسة: (التصرف في أمور الرعية منوط بالمصلحة): المعنى اللغوي: الرعيَّة: عمومُ الناس. منوطٌ: اسمُ مفعول مِنْ "ناط ينوط" بمعنى: رَبَطَ وعلَّق، فمعناه: معلَّق ومرتبط به. المعنى الاصطلاحي: أن تصرُّفَ الإمام وكلِّ من ولي شيئًا من أمور المسلمين: يجب أن يكون مبنيًّا ومقصودًا به المصلحة العامة؛ وإلاَّ فليس بنافذ ولا صحيح شرعًا. فهذه القاعدة تضبطُ تصرُّفات كلِّ من ولي شيئًا من أمور العامة؛ من إمامٍ، وأميرٍ، وقاضٍ، وموظَّفٍ، فتفيد أن أعمال هؤلاء وأمثالهم -لكي تكونَ ملزمة- يجب أن تكون مبنية على مصلحة الجماعة، وأن الولاة وعموم الموظفين ليسوا عمّالاً لأنفسهم، إنما وكلاء على الأمة في القيام بشؤونها، فعليهم أن يراعوا

القاعدة السابعة: (المرء مؤاخذ بإقراره)

خير التدابير لصلاح الرعية. ومن أدلة هذه القاعدة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبدٍ يسترعيه الله عزَّ وجلَّ رعيةً يموت وهو غاشٌّ رعيته، إلاَّ حرَّم الله عليه الجنة" متَّفق عليه. ووجه الدلالة: أن عمله في غير مصلحة الرعية غشٌّ، والغشُّ مردودٌ باطلٌ لا يلزم به أحد. قال الإمام الشافعي: منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم. القاعدة السابعة: (المرء مؤاخَذ بإقراره): المعنى اللغوي: الإقرار من قَرَّ الشيءُ: إذا ثبت في مكانه. وتعريف الإقرار شرعًا: إخبارٌ عن ثبوت حَقٍّ للغير على نفسه. المعنى الاصطلاحي: أنَّ الإنسان مؤاخَذٌ في إخباره عن ثبوت حق لغير على نفسه. حكم الإقرار: أنَّه حجةٌ ملزمةٌ على مَنْ أقرَّ، ومن يأتي عن طريقه. ومن أدلة القاعدة: قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]. وجاء في بعض الأحاديث: "لا عذر لمن أَقَرَّ"، والحديث -وإن لم يعلم له أصلٌ- إلاَّ أنَّه صحيح المعنى. دليل عقلي: هو رجحانُ صِدْقِ المُقِرِّ على كذبه؛ لأنَّ العاقل لا يقر بضرر على نفسه دون حق. والإقرارُ لا يصح ولا يعتبر شرعًا إلاَّ مِنْ مكلَّف، وهو البالغ العاقل؛ فإقرارُ الصغيرِ والمجنونِ لا يصح. ولا يُقبَلُ رجوعُ المقر بحقوق الآدميين؛ لأنها مبنيةٌ على الشح، ويقبل في حقوق الله تعالى؛ كالحدود الخالصِ حقُّها لله؛ فإن حق الله تعالى مبنيٌّ على المسامحة والستر.

القاعدة الثامنة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان)

الإقرار حجة قاصرة على المقر نفسه، أو من يأتي من جهته، ذلك أن إقراره ملزم له فقط؛ فلا يتعداه إلى غيره. القاعدة الثامنة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان): المعنى: أن الإنسان لا يؤاخذ بفعلِ ما أُذِنَ له فيه شرعًا. فالمرتَّب على المأذون غيرُ مضمون إلاَّ بالتعدِّي أو التَّفريط، فمن حفر بئرًا في أرضه، فوقع فيها إنسان أو حيوان، فالحافر هنا غير ضامن؛ لأنه مأذون له، ولأنه غير متعدٍّ. لكن لو حفر في الطريق حفرة، فوقع فيها إنسان أو حيوان، فهو ضامنٌ؛ لأنه غير مأذون له فيه. القاعدة التاسعة: (اليد الأمينة لا تَضْمَنُ إلاَّ بالتَّعَدِّي أو التَّفريط): الشرح: كلُّ من بيده مالٌ برضا صاحبه أو ولايته عليه، فهو أمينٌ عليه، سواءٌ كان للأمين فيما تحت يده حظّ نفسٍ أو لا. ويدخل في الأمين: الأجيرُ، والمرتَهَنُ، والشريكُ، والمضارِبُ، والوديعُ، والوليُّ، والوصيُّ، والوكيلُ، والناظرُ، ونحوهم، سواء كانوا بعملهم مستأجَرين أو متبرِّعين، فكل هؤلاء لا يضمنون ما تلف بأيديهم إلاَّ بإحدى حالتين: الأولى: التعدِّي، وهو فعل ما لا يجوز. الثانية: التفريط، وهو ترك ما يجب. وإن ادَّعوا تلف ما بأيديهم، أو ادَّعوا عدم التعدِّي أو التَّفريط فيه، فالقول قولهم. وأما إن ادَّعوا ردَّها على صاحبها: فإن كانوا قبضوا العين لحظ أنفسهم، فإنه لا يقبل منهم دعوى الرد إلاَّ ببيِّنة، وإن كانوا قبضوها لِحَظِّ صاحبها فقط، فالقول قولهم في الرد أيضًا. وكل من قلنا: القول قوله، فلا بد من أمرين: أن لا يخالف قولُهُ عادة

القاعدة العاشرة: (الخراج بالضمان)

وعرفًا، وأن عليه اليمينَ بطلب صاحبها. أما من كانت العين بيده بغير رضا صاحبها؛ كالغاصب، وَمَنْ في حكمه، فإنه ضامنٌ على كل حالٍ، سواء حصل التلف بتعدٍّ أو تفريطٍ أو لا؛ لأنَّ يده ظالمة متعدية، فتضمن العين بمنافعها التالفة تحت يده، ويضمن النقص الحاصل عنده. القاعدة العاشرة: (الخراج بالضمان): هذه القاعدةُ حديثٌ أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم؛ فهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- لاشتماله على معانٍ كثيرةٍ، وقد جرى مجرى المثل بوجازته وجمعه. المعنى اللغوي: قال في النهاية: الخراجُ: ما حَصَلَ من غَلَّةِ العين، والباء: متعلِّقة بمحذوف، تقديره: الخراج مستَحَقٌّ بسبب الضمان، والضمان هو الكفالة والالتزام. المعنى الاصطلاحي: أن ما خَرَجَ من الشيءِ من غَلَّةٍ ومنفعة، فهو للمشتري عِوَضَ ما كان عليه من ضمان الملك؛ فإنَّ العين المباعة لو تلفت كانت من ضمانه؛ فالغلة إذًا له في مقابل الغرم؛ لأنَّ من يتحمَّل الخسارة -لو حصلت- يجب أن يحصل على الربح، فالنقمة بقدر النعمة، والنعمة بقدر النقمة، والغُنْم بالغُرْم. القاعدة الحادية عشرة: (على اليد ما أخذَتْ حتى تؤدِّيه): هذه القاعدة نصُّ حديثٍ رواه أحمد، وأصحاب السنن، عن سمرة بن جندب. المعنى: أن من أخذ شيئًا بغير حقٍّ، كان ضامنًا له، فلا تبرأ ذمته حتى يرده. الضمان نوعان: 1 - ضمان عقد. 2 - ضمان يد. فضمان العقد: مردُّه ما اتفق عليه العاقدان أو بدله. وضمان اليد: مرده المِثْلُ أو القيمة.

القاعدة الثانية عشرة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص)

والمراد بالقاعدة: ضمان اليد لا العقد. فمن التقط لُقَطةً لنفسه، فيده يد غصبٍ وضمانٍ، حتى يؤديَها لصاحبها. القاعدة الثانية عشرة: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص): المعنى اللغوي: يُقال: سَاغَ الشرابُ في الحَلْقِ: إذا سَهُلَ انحداره لانفتاح منفذه، و"لا مساغ" أي: لا منفذ ولا طريق. والاجتهاد: هو بذلُ الجهد العِلْمِيِّ في استنباط الأحكامِ مِنْ أدلَّتها، وهو نوعان: 1 - اجتهادٌ في فهم النصوص لإمكان تطبيقها، وهذا واجبٌ على كل مجتهد. 2 - اجتهادٌ عن طريق القياسِ والرأي، وهذا لا يجوزُ الالتجاءُ إليه، إلاَّ بعد أن لا نجد حكمَ المسألةِ المبحوثِ عنها في الكتاب والسنَّة والإجماع، وهو المقصودُ هنا. والاجتهاد: لا يُنْقَضُ بمثله؛ فإن أبا بكر حكَمَ في مسائلَ خالفه فيها عمر، فلمَّا ولي عمر، لم ينقض حكم أبي بكر. فإذا اجتهد عالمٌ في مسألة وعمل باجتهاده، ثم بدا له رأيٌ آخر، فعدل عن الأول، فلا ينقض اجتهاده الثاني حكمه الناشىء عن اجتهاده الأول. القاعدة الثالثة عشرة: (ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب): قالوا: إن هذه قاعدة أصوليَّةٌ لا قاعدةٌ فقهية. وهذه القاعدة جزءٌ من قاعدة (الوسائلُ لها أحكامُ المقاصد). فالوسيلةُ إلى الغايةِ تأخذُ حكمها؛ فوسائل الواجبات واجبةٌ، ووسائل المحرَّمات محرَّمة، ووسائلُ المستحبَّات مستحبة، ووسائلُ المكروهات مكروهة، ووسائلُ المباحات مباحة. فإن الله تعالى إذا أمر بأمرٍ، فإنه قد أمر بما لا يتم إلاَّ به، وإذا نهى عن فعلٍ، فقد نهى عن الوسائل الداعية إليه ... وهكذا.

القاعدة الرابعة عشرة: (من استعجل شيئا قبل أوانه، عوقب بحرمانه)

ومن أدلتها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. القاعدة الرابعة عشرة: (من استعجل شيئًا قبل أوانه، عُوقِبَ بحرمانِهِ): المعنى: أن من توصَّل بالوسائل التي ليست مشروعةً تعجُّلاً منه للحصول على مقصوده المستَحَقِّ له، فإنَّ الشرعَ عامَلَهُ بضدِّ مقصوده؛ فأوجب حرمانه جزاءَ فعله واستعجاله. فلو قتَلَ وارثٌ مورِّثه مستعجلاً للإرث، فإنه يُحْرَمُ من الميراث، سواء كان متهمًا أو غير متهم. وقد عبَّر ابن رجب عن هذه القاعدة بقوله: من أتى بسبب يفيد الملك أو الحل، أو يسقط الواجبات على وجه محرَّم، أُلْغِيَ ذلك السببُ، وصار وجوده كعدمه، ولم يترتَّب عليه أحكامه. مكانة هذه القاعدة: هذه القاعدةُ من باب السياسة الشرعية في سد الذرائع؛ كما في حرمان الوارث من الميراث إذا قتَلَ مورِّثه ولو كان قتله خطأ. القاعدة الخامسة عشرة: (ما ثبت بالشرع مقدَّم على ما ثبت بالشرط): دليل هذه القاعدة وأصلها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل" [متفق عليه]. والمراد بكتاب الله: أحكام الله تعالى، فكل ما تضمَّن مخالفة لأُسس الشريعة التي قرَّرها القرآن والسنَّة، فالتعاقد على ذلك أو اشتراطه باطل؛ فكتاب الله هنا ليس معناه القرآن؛ بل ما كتبه الله وأوجبه في شريعته التي شرعها. فهذه القاعدة تفيد أنَّ الشرط إذا ثَبَتَتْ منافاته لمقتضيات الشرع بحيث تتعطَّل الغاية الشرعية من العقد -إن كان في العقود- فعندئذٍ: يبطل العقد إذا كان الشرط يعطِّل ركنًا من أركان العقد، أو يعارض مقصود العقد الأصلي. وإذا كان الشرط لا يعطِّل ركنًا من أركان العقد: فإن الذي يبطل هو الشرط

القاعدة السادسة عشرة: (إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أفسدها، وإن عاد إلى أمر خارج عنها لم تفسد)

وحده، ويبقى العقدُ صحيحًا؛ لأنَّ ما ثبت بالشرع مقدَّم على ما ثبت بالشرط. القاعدة السادسة عشرة: (إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة أفسدها، وإن عاد إلى أمر خارج عنها لم تفسد): الشرح: هذا الضابط في العبادات يبيِّن ما يفسدها وما لا يفسدها مما ورد النهي عنه: فإن كان النهي عائدًا إلى ذات العبادة؛ كالنهي عن الوضوء بماء محرَّم، أو الصلاة في ثوب محرَّم-: فإن الصلاةَ لا تَصِحُّ؛ فإن الطهارة والسترة من شروط الصلاة. أما إذا كان التحريم في أمرٍ خارج عنها؛ كالوضوء في إناء محرَّم، والصلاة بعمامة محرَّمة-: صحت الصلاة، وإن كان الفعل في ذاته محرَّمًا. ومثل الصلاة الصيام: فإن تناوَلَ شيئًا من المفطِّرات، فصومه فاسد، وإن اغتاب أو نَمَّ أو شَتَمَ، صحَّ صومه، وإن كان الفعل في ذاته محرَّمًا. القاعدة السابعة عشرة: (الأصل براءة الذمَّة): المعنى: الذمة وصفٌ شرعيٌّ يعبِّر به الإنسان أصلاً: لما لَهُ وما عليه من الحقوق، والأصل: هو عدم انشغال ذمة الإنسان بحق الآخر من الحقوق المدنية والحقوق الجزائية؛ فالمتَّهم بريء حتى تثبت إدانته، ومع الشك يرجَّح جانب البراءة، ولو حصَلَ خطأ، فإن الخطأ في البراءة خَيْرٌ من الخطأ في إدانة بريء. وهذه القاعدة داخلة تحت القاعدة الكبرى "اليقين لا يزول بالشك"؛ فإن الأصل بقاءُ ما كان على ما كان حتَّى يثبت خلافه. القاعدة الثامنة عشرة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان): الشرح: هذا أصلٌ كبيرٌ يفيد: أن اليقين لا يزولُ بالشك، فمن تيقَّن حالة من الحالات، أو أمرًا من الأمور، فانه لا يزيله إلاَّ بيقين مثله؛ وإلاَّ فالأصل بقاؤه، وفروع الأصل كثيرة جدًّا.

القاعدة التاسعة عشرة: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)

ومن أمثلته: أن من تيَّقن الطهارة وشكَّ في الحدث، فالأصل الطهارة، والعكس بالعكس؛ فمن تيقَّن الحدث وشكَّ في الطهارة، فالأصل الحدث، وهكذا في جزئيات المسائل. وهو مستمدٌّ من نصوص كثيرة، منها الحديث الصحيح أنه شُكِيَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يجده الرجلُ وهو في الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" [متفق عليه]، فمن تيقَّن أمرًا من الأمور، استصحبه حتى يتيقَّن زواله. وهذه القاعدة جزءٌ من القاعدة السابقة: "اليقين لا يزول بالشك". القاعدة التاسعة عشرة: (البيِّنة على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه): هذه القاعدة: نص حديث شريف، الجملة الثانية منه في الصحيحين، وهي: "اليمين على المُنكِر"، وأما الجملة الأولى، فهي من رواية البيهقي. المعنى: البيِّنة عند بعض الفقهاء هي الشهادةُ، ولكنَّها عند المحقِّقين منهم هي: كل ما أبان الحقَّ وأظهره. المدَّعي: من إذا ترك دعواه، تُرِكَ. المدَّعَى عليه: هو مَن إذا ترك طَلَبَ دعواه، طُلِبَ وأُحْضِر. وهذه القاعدة النبوية يؤيِّدها العقل؛ لأن الأصل براءة الذمة، فمن ادَّعى شيئًا وأنكره المدَّعى عليه، فعلى المدَّعي إثباتُهُ بطريقة أو أكثر من طرق الإثبات، وإن عجز، فليس له إلاَّ يمينُ المدَّعَى عليه. وقد أجمع أهل العلم على هذا الأصل العظيم، واعتبروه قاعدةً يرجع إليها في فَضِّ المنازعات، حتى قال بعض العلماء: إن هذه القاعدةَ هي المرادة من قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} [ص: 20] والله أعلم. القاعدة العشرون: (إذا قويت القرينة، قدِّمت على الأصل): الشرح: الاعتبارُ الشرعيُّ هو تقديمُ الأصل وَنَفْيُ ما عداه، لكن قد تَقْوَى

القاعدة الحادية والعشرون: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)

القرينةُ على الأصل؛ وحينئذٍ تقدَّم عليه. فإذا ادَّعت الزوجةُ التي في بيت زوجها أنَّه لم يُنْفِقْ عليها، لم تقبَلْ دعواها؛ لأن القرينة المبنيَّة على العادة تكذِّبها. وإذا تنازع الزوجان في أثاث بيتهما، فالأصل أنهما شركاء فيه، ولكن قرينة أن كلَّ واحد منهما له ما يناسبه من الأثاث قويَتْ على هذا الأصل؛ فصار ما يصلُحُ للزوج فهو له، وما يصلح للزوجة فهو لها. ويأتي هنا تقديمُ غلبة الظنِّ لما يَشُقُّ الوصولُ إلى يقينه، واكتفى العلماء بغلبة الظن بأشياء، منها: الظن في الصلاة، والطوافِ، والسعي، وغيرها على الراجح مِنْ أقوال العلماء. القاعدة الحادية والعشرون: (الصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلاَّ شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالاً): الشرح: هذان الأصلان هما لفظ حديثَيْن صحَّحهما كثيرٌ من أئمة الحديث، وتلقَّتْهُما الأمة بالرضا والقبول؛ لما عليهما من أنوار كلام النبوة في الجمع والاختصار والبيان: فالأوَّل: يدل على أن أي صلح يقع بين المسلمين في الدماء والأموال وأحكام النكاح وغير ذلك، فإنه جائزٌ نافذٌ بين المتصالحَيْنِ، إلاَّ أن يكون الصلح أحَلَّ شيئًا ممّا حرَّمه الله، أو حرَّم شيئًا مما أحله الله، فحينئذٍ يكون الصلح غير جائزٍ ولا نافذ؛ لأنه جاء على غير مراد الله تعالى. وأمثلة الصلح الجائز والصلح المحظور كثيرة. الأصل الثاني: أن كل شرط اشترطَهُ أحدُ المتعاقدَيْن، فهو لازمٌ، مُلْزِمٌ لمن شُرِطَ عليه، سواء كان في عقود الأنكحة، أو في عقود المعاملات، أو المعاهدات، أو غيرها؛ فهي صحيحة لازمة، ما لم تكن الشروط أحلَّت حرامًا،

القاعدة الثانية والعشرون: (الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله)

أو حرَّمت حلالًا؛ فحينئذٍ تكون باطلة، وإن كانت مائةَ شرطُ، فشرط الله أوثَقُ. وأمثلة الشروط الجائزة والممنوعة كثيرة. والدليل على صحة تلك الشروط: أَمْرُ الله تعالى بالوفاء، وتحريمُ الإخلالِ بها قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وأمثالها من النصوص. القاعدة الثانية والعشرون: (الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشْرَعُ منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله): المعنى: أن العبادات توقيفية، فمن أتى بعبادة لم يدلّ عليها كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهي بدعة مردودة. والبدعة نوعان: أحدهما: بدعةُ حقيقيَّة، وهي التي لا يوجد لها أصل في كتاب الله ولا سنَّة رسول الله كصلاة بركوعين وسجود واحد. الثاني: إضافية، وهي الغالب في البدع، وذلك بأن يكون للعمل شائبتان: إحدهما: له تعلق بالشرع كأصل الصلاة والذكر. الثانية: أن لا يكون له تعلق بالشرع، وذلك بأن توقع على هيئة أو كيفية لم يقم عليها دليل، وذلك مثل صلاة الرغائب أو الأذان لصلاة العيد. وكل من النوعين مردود، ومن أدلة ردّها قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وما جاء في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه. القاعدة الثالثة والعشرون: (الأصل في العادات الإباحة؛ فلا يُمْنَعُ منها إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله): العادات هي استعمال ما خلقه الله لعباده من المآكل والمشارب والمراكب

القاعدة الرابعة والعشرون: (الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصه أو راجحة)

والمساكن والصنائع والحرف والمخترعات والمعاملات، كلها مباحة جائزة إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله من الأشياء التي يرجع ضرر استعمالها إلى الأديان أو الأبدان أو الأعراض أو الأنساب أو الأموال. وهذا أصلٌ عظيم يدل على ما في الإِسلام من سماحة وسعة وحركة، فالأصل في العقود والمعاملات والمقاولات والاتفاقيات وغيرها، الأصل فيها الحل ما لم تشتمل على مفسدة، ومفاسد العقود ترجع -غالبًا- إلى ثلاثة أمور: 1 - الربا. 2 - الغرر. 3 - الخداع. وأدلة هذا الأصل كثيرة، منها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. القاعدة الرابعة والعشرون: (الشارع لا يأمر إلاَّ بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلاَّ عما مفسدته خالصه أو راجحة): الشرح: هذه القاعدة تشمل أصول الشريعة وفروعها، وحق الله وحق خلقه، فما أمرت به من المصالحة الأصولية إلاَّ وفيه مصلحة، كالإيمان والإِسلام والإحسان وحسن القصد إلى الله بالتوكل والمحبة والخشية وغيرها، وكذلك ما أمرت به من الفروع كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف وغيرها من العبادات. ومثله ما أمرت به من الأخلاق الحسنة من العدل والصدق والبر والصلة والعفاف ونحوها من الأخلاق الفاضلة. كما أنها نهت عمَّا يضر في الدين والعقل والعِرض والنفس والمال من الكفر والشرك والقتل عدوانًا والزنا والربا والخمر. ثم قد يعرض أمر فيه مصلحة وفيه مضرة، وهنا يأتي باب الترجيح، فما زادت مصلحته على مفسدته فُعِل، وما زادت مفسدته على مصلحته اجتُنِب،

القاعدة الخامسة والعشرون: (إذا تزاحمت المصالح، قدم أعلاها) و (إذا تزاحمت المفاسد، قدم أخفها)

والنصوص لما تقدم كثيرة في الكتاب والسنة، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. الآيات. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (153)} [الأنعام: 151 - 153]. فهذه الآيات الكريمات من سورة الإسراء ومن سورة الأنعام وغيرها من الآيات جمعت الأمر بكل خيرٍ، والنهي عن كل شرٍّ، وقد قال بعض المصلحين: إن الإِسلام مبنيٌّ على "تحقيق المصالح ودرء المفاسد" وهو هذه القاعدة. القاعدة الخامسة والعشرون: (إذا تزاحمتِ المصالحُ، قدِّم أعلاها) و (إذا تزاحمت المفاسد، قدِّم أخفُّها): الشرح: هذان الأصلان الكبيران مِنْ محاسن الشريعة الإِسلامية، ومن سُمُوِّها في أحكامها. الأصل الأول: إذا تزاحمت المصالح، وصار لا بُدَّ من فعل إحداها، قدِّم الأعلى منها على الأدنى؛ جلبًا للخير مهما أمكن: ففي العبادات: تقدَّم الواجباتُ على المستحبَّات، وفي الامتثال: تقدَّم طاعة الله على كل أحد، ثم طاعة الوالدين في المعروف على من سواهما، وهكذا الأقربُ فالأقربُ في البر والإحسان. والعاداتُ يقدَّم منها الأنفعُ على غيره؛ فتقدَّم الأعمالُ المتعدِّي نفعها إلى الخلق على القاصر نفعها. كلُّ هذا ليغتنمَ المسلم ما هو أجلُّ وأفضلُ وأعلى إذا لم يمكنه الإتيان بالأمرين كليهما: الفاضل والمفضول، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. الأصل الثاني: إذا تزاحمت المفاسد، وصار لابد من ارتكاب إحداها، قُدِّم الأخفُّ على الأغلظ؛ اتِّقاءً للشر مهما أمكن الآمر؛ ولهذين الأصلين أمثلة

القاعدة السادسة والعشرين: (الضرورات تبيح المحظورات)

كثيرة؛ فمن تقديم أخف المفسدتين على أشدهما: خرق الخَضِر للسفينة خشية من ذهابها كلها، وكقتله الغلام خشية من كفر أبويه بسبب بقائه. القاعدة السادسة والعشرين: (الضرورات تبيح المحظورات): الشرح: الضرورة هي العُذْرُ الذي يجوزُ بسببه إجراء الشيء الممنوع، وارتكابُ المحظورة؛ كأكل الميتة عند الضرورة، وإجراءِ كلمة الكفر عند الإكراه الشديد. ويجب أن يلاحظ أن ما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها، فمن اضطرَّ إلى أكل الميتة، لا يأكُلُ منها إلاَّ بقدر ما يُمْسِكُ عليه حياته، ولا يَشْبَعُ منها. القاعدة السابعة والعشرون: (درء المفاسد أولى من جلب المنافع): الشرح: القصد من تشريعِ الأحكام دفعُ المفاسد عن الناس، وجَلْبُ المصالح لهم، والمصالحُ المحضة أو المفاسد المحضة قليلة، ولكن إذا تعارضَتْ مفسدةٌ ومصلحة، فإن دفع المفسدة يقدَّم على جلب المصلحة؛ بناءً على أن الشريعة عنيت بالمنهيات أكثَرَ من عنايتها بالمأمورات. القاعدة الثامنة والعشرون: (الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا): الشرح: هذه قاعدة جليلة؛ لأنَّ أحكامَ الله تعالى تدورُ على حِكَمٍ سامية، وأسرار عالية؛ تحقِّق المصالح، وتدرأ المفاسد، فمتى وجدت هذه الأسرارُ والحِكَمُ الربَّانية، وجدت أحكام تناسبها، ويدور الحكمُ حيث تدورُ العلةُ إثباتًا أو نفيًا. والحكمة التشريعية قد يَنُصُّ عليها الشارع الحكيم، وقد يستنبطها العلماء، وقد يكون للحكمِ الشرعيِّ عدةُ أسرار وحِكَم، ويثبت الحكمُ بوجود واحدة. وقليلٌ من الأحكام لا يَفْهَمُ العلماءُ لها حكمةً بيِّنة، فيسمُّونها: الأحكام التعبدية، وأحكامُ الله تعالى تتمثَّل واضحة في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

القاعدة التاسعة والعشرون: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني)

فكل ما أمر به: فهو معروف شرعًا وعقلاً، وكل ما نهى عنه: فهو منكر شرعًا وعقلاً، وكل ما أباحه: فهو طيب، وكلُّ ما حرَّمه: فهو خبيث. وهذه الأسرارُ والحِكَمُ دائرةٌ في أحكام الشريعة كلِّها؛ أصولها وفروعها، عباداتها ومعاملاتها. فنسأل الله تعالى أن يبصِّر المسلمين بأمر دينهم؛ ليَرَوْا جماله وحسنه وموافقته للعقول الصحيحة والفِطَر السليمة، والله الموفق. القاعدة التاسعة والعشرون: (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني): الشرح: القصد في العقد: هو ما قصَدَهُ فاعلُهُ منها، فلا تترتَّب الأحكام على مجرَّد الألفاظ، وإنما تترتَّب على المقاصد والمعاني التي يقصدها العاقدان من الألفاظ المستعملة في صيغة العقد؛ لأنَّ القصد الحقيقي من الكلام هو المعنى، وإنما اعتُبِرَ اللفظ دالاًّ عليه، فإذا أظهر القصد، كان الاعتبار له، ويقيَّد اللفظُ به وترتَّب الحكمُ بناءً عليه. فالهبةُ بشرطِ العوض بيعٌ، وإن كانتْ بغير لفظه،،، وهكذا. القاعدة الثلاثون: (الحدود تُدرأ بالشبهات): لِمَا رُوِيَ عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". قال في فتح القدير للحنفية: أجمَعَ فقهاءُ الأمصار على أنَّ الحدود تدرأ بالشبهات. قال ابن نُجَيْمٍ: القصاصُ كالحدود في الدفع بالشبهة؛ فلا يثبت إلاَّ بما تثبت به الحدود. قال العلماء: من شَرْطِ الشبهة المسقطة للحد: أن تكون قويةً؛ وإلاَّ فلا أثر لها. وقالوا: الشبهة لا تُسْقِطُ التعزير.

القاعدة الحادية والثلاثون: (الوجوب يتعلق بالاستطاعة؛ فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة)

قال ابن نجيم: ويخالف القصاصُ الحدودَ في سبع مسائل، منها: 1 - الحدُّ لا يُورَث، والقصاصُ يُورث. 2 - يصح العفو في القصاص، ولا يصحُّ في الحد إلاَّ حدَّ القاذف. 3 - تصح الشفاعةُ في القصاص دون الحد. 4 - يتوقَّف القصاصُ على الدَّعوى، بخلاف الحد، إلاَّ حد القذف. القاعدة الحادية والثلاثون: (الوجوب يتعلَّق بالاستطاعة؛ فلا واجب مع العجز، ولا محرَّم مع الضرورة): الشرح: كل من عجز عن شيء من الواجبات، فإنها ساقطة عنه غير واجبة عليه: كأركان الصلاة، وشروطها، وواجباتها، فيصلِّي المريض حسب قدرته. وكسقوط الصوم عمَّن عجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى شفاؤه. وكسقوط الجهاد عن الأعمى والأعرج ونحوهما. وكدرجات النهي عن المنكر. وهذه القاعدة الجليلة مأخوذةٌ مِنْ مثل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وحديث: "إذا أمرتكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم"، ونصوصُ أدلَّتها كثيرة. أما الجزء الثاني من القاعدة: فإن الممنوع شرعًا يباح عند الضرورة؛ فقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]؛ وهذه قاعدةٌ أصولية فقهية. القاعدة الثانية والثلاثون: (الشريعة مبنية على أصلين: الإخلاص لله، والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-): الشرح: هذان الأصلان شرطان لكل عملٍ دينيٍّ ظاهرٍ أو باطنٍ، فأقوال اللسان، وأعمالُ الجوارح، وأعمالُ القلوب منوطٌ صلاحها وقبولها بتحقيقِ

فائدة

هذَيْن الأصلين كليهما؛ فإن فُقِدَا أو فُقِدَ أحدهما في العبادة، فهي مردودة. ومن أدلة هذه القاعدة: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"، وغير ذلك من النصوص؛ فأعمالُ المرائين وأعمالُ المبتدعين باطلة. وهذه القاعدة كما أنها تشمل جميع العبادات فإنها أيضًا تشمل المعاملات؛ فأي عقدٍ أو شرط ليس على وفق الشرع، فإنه محرَّم باطل. فائدة: قال الشيخ مصطفى الزرقا: لا تنحصر العقودُ في المعاملات المعروفة في صدر الإِسلام من بيع، وإجارة، وهبةٍ، ورهنٍ، وشركةٍ، وصلحٍ، وقسمةٍ، وإعارةٍ، وإيداع، وسائر العقود الأخرى؛ فيباح للناس إيجادُ أنواع أخر من العقود غير داخلةٍ في أحد الأنواع السابقة، فيمكنهم أن يتعارفوا على أنواع جديدة إذا دعتهم حاجتهم إلى نوعٍ جديدٍ متى توفَّرتِ الأركان العامَّة التي تعتبر من النظام العامِّ في الإِسلام، بحيث لا يخالفُ العقدُ قواعدَ الشريعة التي عبَّر عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كل شرطٍ ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل"، والله أعلم. وفي صباح يوم الأربعاء الموافق 26 من شهر ربيع الأول عام ألف وأربعمائة وعشرة تمَّت هذه المقدِّمة الثالثة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأصل الرابع في المقاصد الشرعية

الأصل الرابع في المقاصد الشرعية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي شرع لعباده من الأحكام ما فيه السداد، وجنَّبهم طرق الغي والفساد، والصلاة والسلام على من أُرْسِلَ رحمةً للعباد، وعلى آله وأصحابه ذوي البصائرِ والرشاد. أما بعد: فإن التفقُّه بمقاصد الشريعة، ومعرفة حِكَمِ الله في أحكامه، ومعرفة أسرارِهِ في أوامره ونواهيه: مِنْ أنفع العلوم وأجلّها؛ ذلك أن الأحكام الشرعية في أصولها وفروعها معلَّلةٌ برعاية مصالح العباد في عاجلهم وآجلهم. فمعرفة أسرار الله تعالى في أحكامه، والتبصَّر فيها: هو كشف عن كنوز ثمينة تزيد المؤمن إيمانًا بربه، ورغبةً في القيام بشرعه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتخفِّف عليه مشقةَ العبادة، وتعينه على اجتناب المعصية، وتقوِّي ثقته بربِّه جل وعلا؛ حينما يتفقَّه بشرعه، ويحصُلُ له المعرفة واليقين: أنه تعالى لم يأمر إلاَّ بما يصلح خلقه، ولا ينهى إلاَّ عما يضرُّهم في حياتهم الأولى والآخرة. لذا فإني بعد أن قَرَأْتُ الكتابَ القيِّم "الموافقات" للإمام الشاطبي، ذلك الكتاب الذي هو ومؤلِّفه غنيَّان عن الإشادة والتعريف، لمَّا قرأْتُ غالبَ فصوله، استخَرْتُ الله تعالى أن ألخِّص منه نبذةً في المقاصد الشرعية، وأجعلها مقدِّمة لشرحي على "بلوغ المرام" لتكون رابعة للمقدمات الثلاث التي هي أصولُ العلوم الشرعية؛ فهو أصلٌ كبيرٌ، وعلم جليل، جاءت الإشارة إليه، والدلالةُ عليه من الكتاب والسنة بنصوص أكثر من أن تحصى: منها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ

وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"، وأشباه ذلك. ولعل أوَّل من ألَّف فيه: الغزالي بكتابه "شفاء الغليل، في مسالك التعليل"، والعزُّ بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام"، ولابن القيِّم في كتابه القيِّم "إعلام الموقِّعين" فصولٌ جيَّدةٌ في هذا الباب، بيَّن فيها حِكَمَ الله وأسرارَهُ في كثيرٍ من الأحكام؛ لا سيَّما في المسائل التي قال المعارضون: "إنها جاءت على خلافِ القياس". وأما أبو إسحاق الشاطبي: فقد أجاد فيه وأعطاه حقّه من التحقيق والتدقيق في كتابه الجليل "الموافقات"؛ ممَّا دفعني إلى أن ألخِّص منه جملة كافية لطالب العلم، وفِقَرًا مفيدة تدرِّبه على التوسُّع في هذا العلم العظيم، والله الموفق.

المقاصد

المقاصد إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا، وهذا ما يدلُّ عليه مثلُ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}، وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فدلَّ الاستقراء من الشريعة أنها وضعَتْ لمصالح العباد. المقاصد قسمان: أحدهما: يرجع إلى قصد الشارع مِنْ وضعه الشريعة. الثاني: يرجع إلى قصد المكلَّف من أفعاله.

القسم الأول فيما يرجع إلى قصد الشارع من وضع الشريعة

القسم الأول فيما يرجع إلى قصد الشارع من وضع الشريعة وهو أنواع: النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة، وفيه مسائل: المسألة الأولى: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق: وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: الأول: مقاصد ضرورية الثاني: حاجية. الثالث: تحسينية. فأما الضروريات فإنه لا بُدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فُقِدَتْ لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد، وفي الآخرة تؤدِّي إلى فواتِ النجاة والنعيم، وحصول الخسران المبين. والحفظ الها يكون بالقيام بأركانِهَا، وتثبيتِ قواعدها، كما يكون بما يَدْرَأُ عنها الاختلالَ الواقعَ أو المتوقَّع فيها: فأصولُ العبادات: راجعةٌ إلى حفظ الدين. والعادات: راجعةٌ إلى حفظ النفس، والعقل. والمعاملات: راجعةٌ إلى حفظ النسل، والمال. ومجموع الضرورات خمسة: هي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وأما الحاجيَّات: فإنه يفتقر إليها مِنْ حيثُ التوسعة، ورفع الضيق المؤدِّي -غالبًا- إلى الحرج، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات:

المسألة الثانية: المقاصد عامة في جميع التكاليف والأزمان والأحوال

ففي العبادات: كالرخص في الطهارة والتيمُّم والمسح على الخف، وفي الصلاة، كالقصر والجمع للمسافر، وفي الحج؛ كالحج عن العاجز. وفي العادات: كالصيد والتمتُّع بالطَّيِّبات. وفي المعاملات: كالقرض والعارية. وفي الجنايات: كالحكم باللوث ووضع الدية على العاقلة. وأما التحسينيات: فهي من الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّب الأحوال المدنِّسات، ويجمع ذلك قسمُ مكارمِ الأخلاق: ففي العبادات كإزالة النجاسة، وفي العادات كأدب الأكل، وفي المعاملات كالمنع من بيع فضل الماء، وفي الجنايات: كمنع قتل الحر بالعبد، فهذه الأمورُ راجعةٌ إلى محاسنَ زائدةٍ على أصل المصالح الضروريَّة والحاجيَّة؛ إذ ليس فقدانها بمُخِلٍّ بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين. المسألة الثانية: المقاصد عامة في جميع التكاليف والأزمان والأحوال: وإذا ثبت أن الشارع قد قصَدَ بالتشريع إقامةَ المصالح الأخرويَّة والدنيويَّة على وجهٍ لا يُخِلُّ لها به نظام، فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا، وكليًّا، وعامًّا في جميع أنواع التكليف، وجميع الأحوال، وكذلك وجدنا الأمر فيها، ولله الحمد. المسألة الثالثة: المقاصد المعتبرة في الشريعة: المقصدُ: هو جَلْبُ المصلحة أو تكميلُها، ودفعُ المفسدة أو تقليلُهَا، والمصالحُ المجتلبة شرعًا والمفاسدُ المستدفعة إنما تعتَبَرُ من حيثُ تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيثُ الأهواءُ والنفوسُ في جَلْبِ مصالحها العادية أو دَرْءِ مفاسدها العادية؛ ذلك أن الشريعة إنما جاءت لتخرج الناس من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

المسألة الرابعة: الدليل على اعتبار مقاصد الشريعة الكلية

المسألة الرابعة: الدليل على اعتبار مقاصد الشريعة الكلية: الدليلُ على أنَّ الشارع قصَدَ المحافظةَ على القواعد الثلاثة: الضروريَّة، والحاجيَّة، والتحسينيَّة، هو استقراءُ الشريعة، والنظر في أدلَّتها الكليَّة والجزئية، فقد تضافَرَ بعضها مع بعض، فصار من مجموعها التواتُرُ المعنويُّ؛ فإن العلماء لم يعتمدوا في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليلٍ مخصوصٍ؛ لأنَّ في جزئيات الأدلَّة نوعَ ظنٍّ عند بعض الأصوليين، وإنما أَلْفَوْا أدلة الشريعة كلَّها دائرةً على خطورة تلك القواعد، فمن كان مِنْ حملة الشريعة يسهُلُ عليه إثبات مقاصد الشارع مِنْ هذه القواعد الثلاث.

النوع الثاني: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بالمقدور وما لا حرج فيه

النوع الثاني: في بيان قصد الشَّارع في وضع الشريعة للتكليف بالمقدور وما لا حرج فيه، ويحتوي على مسائل: المسألة الأولى: ثَبَتَ في الأصولِ أنَّ شَرْطَ التكليف أوسَبَبَهُ قدرةُ المكلَّف عليه، فما لا قدرةَ للمكلَّف عليه لا يصحُّ التكليفُ به شرعًا، وإنْ جاز عقلاً. فالأوصاف التي طُبعَ عليها الإنسانُ؛ كالشَّهوة إلى الطَّعام أو الشَّراب، لا يطلب رفعها، فإنَّه من تكليف ما لا يُطاق. المسألة الثانية: لا تكليفَ بما لا يطاق: الأوصاف التي لا قدرةَ للإنسان على جَلْبِها ولا دفعها على قسمين: أحدهما: ما كان نتيجةَ عمل؛ كالعلم، والحب. الثاني: ما كان فطريًّا، ولم يكن نتيجة عمل؛ كالشجاعة، والجبن، والحلم. فالأول: ظاهر أنَّ الجزاء يتعلق بها في الجملة من حيث كونُهَا مسبّبات مِنْ أسباب مكتسبة. أما الثاني -وهو ما كان منها فطريًّا- فينظر فيه من جهتين: إحداهما: أنَّها محبوبةٌ للشَّارع أو غيرُ محبوبة له. الثانية: مِنْ وقوع الثواب عليها أو عَدَمِ وقوعه. فالنظر الأوَّل: ظاهرُ الدليل النَّقليِّ أنَّ الحبَّ والبغض يتعلَّق بها. والنظر الثاني: أنَّهما يصح تعلُّقهما بالذوات، وهي أبعدُ عن الأفعال من الصفات؛ كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ولا يسوغُ في هذا الموضع أن يقال: إنَّ المراد حبُّ الأفعال فقط، فكذلك لا يقال في الصفات إذا توجَّه الحبُّ إليها في الظاهر: إن المراد الأفعال. وإذا ثبت هذا، فيصح -أيضًا- أن يتعلَّق الحب والبغض بالأفعال؛ كقوله تعالي: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أبغض الحلال إلى الله

المسألة الثالثة: لا تكليف بما فيه حرج

الطلاق". فإذًا الحب والبغض مطلَقٌ في الذوات والصفات والأفعال. المسألة الثالثة: لا تكليفَ بما فيه حرج: الشَّارع لم يقصدْ إلى التكليفِ بالمقدور عليه الشَّاقِّ الذي خرَجَ عمَّا جَرَتْ به العاداتُ قبل التكليف؛ والدليلُ على ذلك أمور: أحدها: النصوصُ؛ قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثت بالحنيفية السمحة". الثاني: ما ثبت من مشروعيَّة الرخص؛ كرُخَصِ القصر، والفِطْرِ، وتناوُلِ المحرمات في الاضطرار؛ فإنَّ هذا يدل قطعًا على مطلق رَفْعِ الحرجِ والمشقَّة. وكذلك ما جاء من النَّهي عن التعمُّق والتكلُّف في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشَّارع قاصدًا للمشقَّة في التكليف، لَمَا كان ثَمَّ ترخيصٌ ولا تخفيف. الثالث: الإجماعُ على عدم وقوعِهِ في التكاليف، وهو يَدُلُّ على عدم قصد الشَّارع إليه، ولو كان واقعًا، لحصل في الشريعة التناقُضُ والاختلافُ؛ وذلك منفيٌّ عنها. لكن ليس معنى هذا نفي المشقَّة عن التكليف؛ فإنَّه لا نزاع في أنَّ الشَّارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه مشقَّةٌ ما، ولكن لا تسمَّى في العادة المستمرَّةِ مشقَّةً، كما لا يُسمَّى مشقَّةً طلبُ المعاشِ بالتحرُّف؛ لأنَّه مُمكن معتاد، وأربابُ العادات يعدُّون المنقطعَ عنه كسلان. وإلى هذا المعنى يرجع الفرقُ بين المشقَّةِ التي لا تُعَدُّ مشقَّةً عادةً والتي تعد مشقَّة، وهو: إنْ كان العمل يؤدِّي الدوامُ عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه، أو إلى وقوعِ خَلَلٍ في صاحبه في نفسه أو ماله أو حَالٍ من أحواله-:

المسألة الرابعة: الحكمة من نفي الحرج في التكليف

فالمشقَّة هنا خارجةٌ عن المعتاد. وإنْ لم يكن فيها شيءٌ من ذلك في الغالب، فلا يعد في العادة مشقَّة، وَإنْ سميت كُلْفَةً، فأحوالُ الإنسان كلُّها كلفةٌ في هذه الدَّار. إذا تقرَّر هذا، فإنَّ التكليفَ الشاقَّ المعتاد على العباد ليس مقصودُ الشارعِ به المشقَّةَ على عباده، وإنَّما قصَدَ به المصالح العائدةَ عليهم. وإذا لم تكنِ المشقَّةُ مقصودةَ الشَّارع في الأعمال المعتادة، فأولى أنْ لا تكونَ مقصودةً منه في غير المعتادة. المسألة الرابعة: الحكمة من نفي الحرج في التكليف: الحرَجُ مرفوعٌ عن المكلَّف لوجهين: أحدهما: الخوفُ من الانقطاعِ من الطريقِ وبُغْضِ العبادة. الثاني: خوفُ التقصيرِ عند مزاحمةِ الوظائفِ المتعلِّقةِ بالعَبْدِ المختلفةِ الأنواع؛ مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر. فالأول: حفظ به على الخلق قلوبهم، وحبَّب إليهم تلك التكاليف، فلو عملوا على غير السهولة، لدخل عليهم فيما كلِّفوا به ما لا تخلص به أعمالهم. الثاني: أنَّ المكلَّف مطالَبٌ بأعمالٍ ووظائف شرعيَّةٍ لا بدَّ له منها، فإذا أوغَلَ في عملٍ شاقٍّ فربَّما قطعه عن غيره، ولا سيَّما حقوقُ الغير التي تتعلَّق به، فيكونُ بذلك ملومًا غير معذور؛ إذ المرادُ منه القيامُ بجميعها على وجهٍ لا يخل بواحدٍ منها، وهذا في العمل الشاقِّ المأذونِ فيه، فأمّا إنْ كان غيرَ مأذون فيه، فهو أظهر في المنع. المسألة الخامسة: مخالفةُ ما تهوى النَّفْسُ شاقٌّ عليها وَصَعْبٌ خروجُهَا منه، وكفى ذلك شاهدًا عليه حَالُ المشركين وأهل الكتاب ممَّن صمَّموا على بقاءِ ما هم عليه، حتَّى رَضُوا بهلاكِ نفوسِهِمْ وَأَحوالِهِمْ، ولم يَرْضَوْا بمخالفة الهوى. والشَّارع قصد بوضع الشريعة إخراجَ المكلَّفِ من اتِّباعِ هواه حتَّى يكون

المسألة السادسة: الاعتدال في التكاليف والدعوة إلى امتثالها

عبدًا لله، وإذًا فمخالفةُ الهوَى ليستْ من المشقَّات المعتبرة في التكليف، وإنْ كانت شاقَّةً في مجاري العادات؛ إذ لو كانت معتبرةً حتَّى يشرع التخفيف لأجل ذلك، لكان ذلك نقضًا لما وُضِعَتِ الشريعةُ له؛ وذلك باطل. المسألة السادسة: الاعتدال في التكاليف والدعوة إلى امتثالها: الشريعةُ جاريةٌ في التكليف على الطريق الوسط، الآخذ من الطرفَيْن بقِسْطٍ لا ميل فيه، الدَّاخلِ تحت كَسْب العبد من غير مشقَّةٍ عليه ولا انحلال؛ كتكليف الصلاة والزكاة والصيام والحَج ابتداءً من غير سبب ظاهر، أو لسببٍ يرجع إلى عدم العلم؛ كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، وأشباه ذلك. فإِنْ كان التشريعُ لأجلِ انحراف المكلَّف إلى أحد الطرفَيْن، كان التشريع رادًّا إلى الوسط؛ لكن على وجهٍ يميل فيه إلى الجانب الآخر؛ ليحصُلَ الاعتدال فيه؛ فعلى الطبيب الرفيق حَمْلُ المريض على ما فيه صلاحُهُ بحسب حاله، حتَّى إذا استقلَّتْ صحَّته، هيأ له له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله. فإذا نظرت في كليَّة شرعية، فتأملها تجدها حاملةً على التوسُّط، فإنْ رأيت ميلاً إلى جهة طرفٍ من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر: فطرف التشديد وعامَّةُ ما يكون في التخويف والترهيب يُؤْتَى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدِّين. وطرَفُ التَّخفيفِ وعامَّةُ ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يُؤْتَى به في مقابلة مَنْ غَلَبَ عليه الحرجُ الشديد. فإذا لم يكنْ هذا ولا ذاك، رأيت التوسُّط لائحًا، ومسلَكَ الاعتدال واضحًا، وهو الأصلُ الذي يُرْجَعُ إليه.

النوع الثالث: في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

النوع الثالث: في بيان قصد الشَّارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة: ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: المقصدُ الشرعيُّ من وضع الشريعة إخراجُ المكلَّف من داعية هواه؛ حتَّى يكونَ عبدًا لله اختيارًا، كما هو عَبْدٌ لله اضطرارًا، ومن أدلَّة ذلك: الأول: النَّصُّ الصَّريح على أنَّ العباد خُلِقُوا للتعبُّدِ لله، والدخولِ تحت أمر الله تعالى ونهيه؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]،،، إلى غيرها من الآيات الآمرة بالعبادة في عمومها وتفاصيلها، فكله راجعٌ إلى طاعة الله في جميعِ الأحوالِ، والانقيادِ إلى أحكامه على كلِّ حالٍ، وهو معنى التعبد. الثاني: ما دلَّ على ذمِّ مخالفة هذا القصد مِنَ النَّهْي عن مخالفة أمر الله، وذَمِّ من أعرَضَ عن شرع الله، وإيعاده بالعذاب العاجل والآجل. الثالث: من علم التجارب والعادات مِنْ أنَّ المصالحَ الدينيَّة والدنيوية لا تحصُلُ مع الاسترسال في اتباع الهَوَى، والمَشْيِ مع الأغراضِ، وهذا معروفٌ؛ ولذا اتفقوا على ذمِّ من اتبع شهواته، وما اتفقوا عليه إلاَّ لصحَّته عندهم. وإذًا: فلا يصح لأحدٍ أنْ يدَّعي على الشريعة أنَّها وُضِعَتْ على مقتضى تشهِّي العباد وأغراضهم. وإذا علمنا أنَّ وَضْعَ الشريعة إنَّما جاء لمصالح العباد، فهي عائدةٌ عليهم بحَسَبِ أمرِ الشارع، وعلى حَدِّه الذي حَدَّه، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم؛ ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلةً على النفوس. وإذا تقرَّر هذا، انبنى عليه قواعد: الأولى: أنَّ كلَّ عملٍ كان المتَّبَعُ فيه الهوَى مين غير التفاتٍ إلى الأمر أو النَّهي أو التخيير، فهو باطل؛ لأنَّه لابدَّ للعمل مِنْ حاملٍ يَحْمِلُ عليه، وداعٍ

المسألة الثانية: تقسيم المقاصد إلى أصلية وتبعية

يدعو إليه. فأمَّا بطلانُ العباداتِ: فظاهر. وأمَّا العادات: فذلك من حيث عدم ترتُّب الثواب على مقتضى الأمر والنَّهي؛ فوجودُهَا في ذلك وعدَمُهَا سواء. الثانية: أنَّ اتباع الهوى طريقٌ مذمومٌ وإنْ جاء في ضمن المحمود؛ لأنَّه إذا تبيَّن أنَّه مضادٌّ بوضعه لوضعِ الشريعة، فحيثما زاحَمَ مقتضاها في العمل، كان مخوفًا؛ لأنَّه سبَبُ تعطيلِ الأوامر وارتكابِ النَّواهي؛ ولأنَّه إذا اتُّبعَ رُبَّما أحدث للنَّفْسِ ضراوة. الثالثة: أنَّ اتباع الهوَى في الأحكام الشرعية مَظِنَّةٌ لأنْ يَحْتالَ بها على أغراضه. المسألة الثانية: تقسيم المقاصد إلى أصلية وتبعية: المقاصد الشرعية ضربان: مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية: فأمَّا المقاصد الأصلية فهي التي لا حظَّ فيها للمكلَّف، وهي الضروريَّات المعتبرة في كلِّ ملة، وإنَّما قلنا: إنَّها لا حظَّ فيها للعبد؛ لأنَّها قيامٌ بمصالحَ عامَّةٍ. وأمَّا المقاصد التَّابعة: فهي التي رُوعِيَ فيها حَظُّ المكلَّف، فمن جهتها يحصُلُ له مقتضى ما جُبِلَ عليه من نَيْلِ الشَّهوات، والاستمتاعِ بالمباحاتِ، وَسَدِّ الخلات. وذلك أنَّ حكمة الله حَكَمَتْ أنَّ قيامَ الدِّين والدنيا إنَّما يصلُحُ ويستمرُّ بدواعٍ من قِبَلِ الإنسانِ تَحْمِلُهُ على اكتساب ما يحتاجُ إليه؛ فخلَقَ له شهوةَ الطعام والشَّراب إذا مسَّه الجوعُ ليحرِّكه ذلك الباعث إلى التسبُّب في سدِّ هذه الخلَّة بما أمكنه، وهكذا بقيَّةُ الشهواتِ هي الأسبابُ الموصِّلة إليها. ثُمَّ خَلَق الجنَّة والنَّار، وأرسل الرُّسُلَ؛ ليبيِّنوا أنَّ الاستقرار ليس هنا،

المسألة الثالثة: العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية

وإنَّما هذه مزرعةٌ لدارٍ أخرى، وأنَّ السعادةَ الأبديَّة أو الشقاوة الأبديَّة هناك؛ لكنَّها تُكْتَسَبُ أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حدَّه الشَّارعُ أو بالخروجِ عنه، فيأخُذُ المكلَّفُ في استعمالِ الأمورِ الموصِّلة إلى تلك الأغراض. المسألة الثالثة: العملُ إذا وَقَعَ على وَفْقِ المقاصد الشرعيَّة: فإمَّا أنْ يكون على المقاصد الأصلية أو المقاصد التَّابعة: فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها، فلا إشكال في صحته وسلامته؛ ذلك أنَّ المقصود الشرعي من التشريع إخراج المكلَّف عن داعية هواه حتَّى يكون عبدًا لله، ويبنى عليه قواعد: من ذلك: أنَّ المقاصد الأصلية إذا رُوعِيَتْ، كان العبد أقرب إلى إخلاص العمل وصيروررتهِ عبادةً، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغيِّر في وجه محض العبودية. المسألة الرابعة: الإنسان قد يدع حظَّ نفسه في أمر إلى حظ ما هو أعلى منه: كما ترى النَّاس يبذلون المال في طلب الجاه؛ لأنَّ حظَّ النَّفس في الجاه أعلى، ويبذلون النفوس في طلب الرئاسة حتَّى يموتوا في طريق ذلك، وهكذا الرهبان قد يتركون لذَّات الدنيا للذَّة الرئاسة والتعظيم فإنَّها أعلى، وحظُّ الذِّكْرِ والتعظيم والرئاسة والاحترام والجاه: أعظم الحظوظ التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها عندهم. المسألة الخامسة: الرهبان ومن أشبههم ينقطعون في الصوامع والديارات، ويتركون الشهوات واللذات، ويسقطون حقوقهم؛ في التوجُّه إلى معبودهم، وَيَعْمَلون في ذلك غايةَ ما يمكنهم من وجوه التقرُّب إلى معبودهم، وما يظنُّون أنَّه سببٌ إليه، إلاَّ أنَّ كلَّ ما يعملون مردودٌ عليهم لا ينفعهم الله بشيءٍ منه في الآخرة؛ لأنَّهم بنوا على غير أصل كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ

نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2 - 4]؛ والعياذ بالله!. ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملَّة؛ فقد جاء في الخوارج قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم ... " الحديث. وعلى الجملة: فالإخلاص في الأعمال إنَّما ينفع إذا كان مبنيًّا على أصلٍ صحيح، فإنْ كان على أصلٍ فاسد، فبالضد.

العادة إذا قصد بالإتيان بها وجه الله

العادة إذا قصد بالإتيان بها وجه الله: ومن المعلوم: أنَّ البناء على المقاصد الأصليَّة يصيِّر تصرُّفات المكلَّف كلها عبادات، سواءٌ كانت من قبيل العبادات أو العادات؛ لأنَّ المكلَّف إذا فهم مراد الشَّارع من قيام أحوال الدنيا، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنَّما يعمل من حيثُ طُلِبَ منه العمل، ويترك إذا طُلِبَ منه الترك، فهو أبدًا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب، فأمَّا باليد: ففي وجوه الإعانات، وأمَّا باللسان: فبالوعظ، والتذكير بالله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وبالدعاء، وبالقلب: لا يضمر لهم شرًّا؛ بل يعتقد لهم الخير ويعرِّفهم بأحسن أوصافهم ولو بمجرَّد الإِسلام، ويَحْتَقِرُ نفسه بالنسبة إليهم،،، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلِّقة بالعباد. فالعامل بالمقاصد الأصلية: عاملٌ في هذه الأمور في نفسه؛ امتثالاً لأمر ربه، واقتداءً بنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فكيف لا تكون تصرُّفات من هذه سبيلُهُ عبادةً كلها؛ بخلاف من كان عاملاً على حظِّه، فإنَّه إنَّما يلتفت إلى حظِّه، أو ما كان طريقًا إلى حظِّه، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق، بل عاملٌ في مباح إنْ لم يُخِلّ بحقِّ الله أو بحقِّ غيره فيه، والمباحُ لا يُتَعَبَّد إلى الله به. لا يكون العمل صحيحًا أو مقبولاً إلاَّ إِذا رَاعَى وجه الله في القصد التابع: أما المقصدُ الأوَّل: إذا تحرَّاه المكلَّفُ يتضمَّن القصد إلى كلِّ ما قصده الشَّارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة؛ فإنَّ العامل به إنَّما قصد تلبية أمر الشَّارع، إمَّا بعد فهم ما قصد، وإمَّا لمجرَّد امتثال الأمر؛ وعلى كلِّ تقدير: فهو قاصدٌ ما قصده الشَّارع. وإذا ثبت أنَّ قصد الشَّارع أعمُّ المقاصد وأوَّلها وَأَوْلاَهَا، وأنَّه نورٌ صِرْفٌ لا يشوبه غرضٌ ولا حظ، كان المتلقِّي له على هذا الوجه قد أخذه وافيًا كاملاً غير منسوبٍ ولا قاصرٍ عن مراد الشَّارع؛ فهو حريٌّ أنْ يترتَّب الثواب فيه

يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة

للمكلَّف على تلك النسبة. وأمَّا القصد التابعُ: فلا يترتَّب عليه ذلك كله؛ لأنَّه حين أخذ الأمر والنَّهي بالحظ، أو أخذ العمل بالحظ؛ قد قصر الحظ عن إطلاقه، وَخَصَّ عمومه؛ فلا ينهض نهوض الأوَّل، وشاهده قاعدة: "الأعمال بالنيات". يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة: العمل على المقاصد الأصليَّة يصيِّر الطَّاعةَ أعظَمَ، وإذا خُولِفَتْ، كانت معصيتها أعظَمَ. أمَّا الأوَّل: فلأنَّ العاملَ على وَفْقها عاملٌ على الإصلاح لجميع الخلق، والدَّفْعِ عنهم على الإطلاق؛ لأنَّه إمَّا قاصدٌ لجميع ذلك بالفعل، وإمَّا قاصرٌ نفسَهُ على امتثال الأمر الذي يدخُلُ تحت قصده كُلُّ ما قصده الشَّارع بذلك الأمر، وإذا فعل، جُوزِيَ على كلِّ نفسٍ أحياها، وعلى كلِّ مصلحةٍ عامَّة قصدها، ولا شكَّ في عِظَمِ هذا العمل؛ ولذلك كان من أحيا النَّفس، فكأنَّما أحيا الناس جميعًا؛ بخلاف ما إذا لم يعمَلْ على وفقه، فإنَّما يبلغ ثوابُهُ مبلَغَ قصده؛ لأنَّ الأعمال بالنِّيات، فمتى كان قصده أعمَّ كان أجره أعظم، ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلاَّ على وزن ذلك، وهو ظاهر. وأمَّا الثاني: فإنَّ العامل على مخالفتها عاملٌ على الإفسادِ العامِّ، وهو مضادٌّ للعامل على الإصلاحِ العامِّ، وقد مرَّ أنَّ قصد الإصلاحِ العامِّ يعظُمُ به الأجر، فالعاملُ على ضدِّه يعظُمُ به وزره؛ ولذلك كُتِبَ على ابن آدم الأوَّل كِفْلٌ من وِزْرِ كلِّ من قَتَلَ النفسَ المحرمة؛ لأنَّه أوَّلُ من سنَّ القتل، وكان من قتل النفس فكأنَّما قتل النَّاس جميعًا، ومن سنَّ سنَّة سيئةً كان عليه وِزْرُها وَوِزْر من عمل بها.

العادات إذا كانت مصلحتها تعبدية، جازت فيها النيابة

العادات إذا كانت مصلحتها تعبُّدية، جازت فيها النيابة: المطلوب الشرعي ضربان: أحدهما: ما كان مِنْ قبيل العادات الجارية بين الخلق في الاكتساب وسائر المعاملات الدنيويَّة، التي هي طرقُ الحظوظِ العاجلة؛ كالعقود على اختلافها، والتصاريف المالية على تنوُّعها-: فهذه النيابة فيها صحيحةٌ؛ فيجوز أنْ ينوب عن غيره منابَهُ في استجلاب المصالح له، ودرء المفاسد عنه، بالإعانة، والوكالة ونحو ذلك، ممَّا هو في معناه؛ لأنَّ الحِكْمَةَ التي يطلب بها المكلَّف في ذلك كلِّه صالحةٌ أنْ يأتي بها سواه، كالبيع، والشراء، والأخذ، والإعطاء، ما لم يكن مشروعًا لحكمةٍ لا تتعدَّى المكلَّفَ عادةً أو شرعًا؛ كالأكل، واللبس، وغير ذلك ممَّا جرت به العادة، وكالنكاح وأحكامه التَّابعة له مِنْ وجوه الاستمتاع التي لا تصحُّ النيابة فيه شرعًا؛ فإنَّ هذا مفروغٌ من النظر فيه؛ لأنَّ حكمته لا تتعدَّى صاحبها إلى غيره. الحاصل: أنَّ حكمة العادات إنِ اختصَّتْ بالمكلَّف، فلا نيابة؛ وإلاَّ صحَّت النيابة. الثاني: التعبُّدات الشرعية؛ فلا يقوم فيها أحدٌ عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلَّف غيرُهُ، وعمل العامل لا يجزى بها غيره، ولا ينتقل بالقصد إليه. والدليل على صحَّة هذه الدعوى أمور: أحدها: النصوص؛ قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وقال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18]. الثاني: المعنى، وهو أنَّ مقصودَ العبادات الخضوعُ لله، والتوجُّهُ إليه والانقياد تحت حكمه؛ حتَّى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافلٍ عنه. والنيابة تنافي هذا المقصود.

خير العمل ما ووظب عليه

الثالث: أنَّه لو صحَّت النيابةُ في العبادات البدنية، لصحَّت في الأعمال القلبية؛ كالإيمان وغيره من الصبر، والشكر، والرضا، والتوكل، والخوف، والرجاء، وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومةً على المكلّف عينًا؛ لجواز النيابة. وما تقدَّم من الآيات كلُّها عموماتٌ نزلَتِ احتجاجًا على الكفَّار، وردًّا عليهم في اعتقادهم حَمْلَ بعضِهِمْ وِزْرَ بعض. خير العمل ما وُوظِبَ عليه: مِنْ مقصود الشَّارع في الأعمال: دوامُ المكلَّف عليها؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعارج: 23]. وفي الحديث: "أحبُّ العمل إلى الله ما داوَمَ عليه صاحبُهُ وإنْ قَلَّ". فالمكلَّف إذا أراد الدخول في عملٍ غير واجب، فمن حقه أنْ لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداءً حتَّى ينظر في مآله فيه؛ فإنَّ المشقَّة التي تدخل على المكلَّف من وجهين: أحدهما: من جهَّة شدَّة التكليف نفسه، بكثرته، أو ثقل في نفسه. الثاني: من جهة المداومة عليه، وإنْ كان في نفسه خفيفًا. الشريعة عامَّة ما لم يقم دليل الخصوصية: الشريعةُ بحسب المكلَّفين كليَّةٌ عامَّة، فلا يختصُّ بالخطاب بحكمٍ من أحكامها الكليَّة بعضٌ دون بعضٍ؛ والدليلُ على ذلك أمور: أحدها: النَّصوص؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثت إلى الأحمر والأسود"، وأشباه هذين النَّصَّين مما يدل على أن البِعْثَةَ عامَّة لا خاصَّة. الثانى: أنَّ الأحكامَ إذا كانَتْ موضوعةً لمصالح العباد، فَهُمْ بالنسبة إلى ما تقتضيه مِنَ المصالح سواءٌ، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة

القياس يدل على عموم الأحكام ولا خصوصية للصوفية

لمصالح العباد بإطلاق. الثالث: إجماعُ العلماء المتقدِّمين من الصحابة والتَّابعين ومَنْ بعدهم؛ ولذلك صيَّروا أفعال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حجَّةً للجميع في أمثالها. القياس يدل على عموم الأحكام ولا خصوصية للصوفية: وهذا الأصلُ المتقدِّم يتضمَّن قواعدَ عظيمة: منها: أنَّه يعطي قوَّةً عظيمةً في إثبات القياس على منكريه؛ مِنْ جهة أنَّ الخطابَ الخاصَّ ببعض الناس يَعُمُّ أمثالها من الوقائع. ومنها: أنَّ كثيرًا ممَّن لم يتحقَّق بفهمِ مقاصد الشريعة يَظُنُّ أنَّ الصوفية جرَتْ على طريقةٍ غير طريقة الجمهور، وأنَّهم امتازوا بأحكامٍ غيرِ الأحكام المبثوثة في الشريعة، مستدلِّين على ذلك بأمور مِنْ أقوالهم وأفعالهم. أحكام العادات: العادات المستمرَّة ضربان: أحدهما: العاداتُ الشرعية التي أقرَّها الدليلُ الشرعيُّ أو نفاها. ومعنى ذلك: أنَّ الشرع أمَرَ بها إيجابًا أو ندبًا، أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا. الثاني: العاداتُ الجارية بين الخلق بما ليس في نفيِهِ ولا إثباتِهِ دليلٌ شرعي. فالأوَّل: ثابتٌ أبدًا؛ كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سَلْبِ العبد أهلية الشهادة، والأمرِ بإزالة النجاسة، وسَتْرِ العورة، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في النَّاس، إمَّا حسنة عند الشَّارع، أو قبيحة؛ فإنَّها من جملة الأمور الدَّاخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها، ولا يصح أنْ ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا. وأمَّا الثاني: فقد تكونُ تلك العوائدُ ثابتةً، وقد تتبدَّل، ومع ذلك فهي أسبابٌ لأحكامٍ تترتَّب عليها، فالثابتةُ: كوجود شَهْوةِ الطعامِ، والوقاعِ، والنظر، والكلام، وأشباه ذلك، والمبتدِّلة: منها ما يكون متبدلاً في العادة من

الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات التعليل

حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل: كشف الرأس؛ فإنَّه يختلف بحسب البقاع في المواقع؛ فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد الشرقية، وغيرُ قبيح في البلاد الغربية؛ فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك. واعلم: أنَّ ما جرى ذكره هنا من اختلافِ الأحكامِ عند اختلافِ العوائد ليس في الحقيقةِ اختلافًا في أصل الخطاب؛ لأنَّ الشرع موضوع على أنَّه دائم أبدًا، وإنما معنى الاختلاف أنَّ العوائد إذا اختلفَتْ، رَجعَتْ كلُّ عادة إلى أصل شرعيٍّ يحكم به عليها. الأصل في العبادات التعبد، وفي العادات التعليل: الأصل في العبادات: التعبُّدُ، دون الالتفاتِ إلى المعاني؛ والدليل على ذلك أمور: منها: الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة لا تتعدَّى محل موجبها، وكذلك الصلواتُ خُصَّتْ بأفعالٍ مخصوصة إن خرجَتْ عنها لم تكن عبادة، وأنَّ الذكر المخصوصَ في هيئةٍ ما مطلوبٌ، وفي هيئة أخرى غيرُ مطلوب، وأنَّ الطهارة من الحدثِ مخصوصةٌ بالماء الطهور وإن أمكنتِ النظافةُ بغيره. ومنها: أنَّ وجود التعبُّدات لم يهتد إليها العقلاءُ اهتداءهم لوجوه معاني العادات، فقد رأيتُ الغالبَ فيها الضلال، ومن ثمَّ حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدِّمة، وهذا ما يَدُلُّ على أنَّ العقل لا يستقلُّ بدرك معانيها ولا بوصفها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك. ولما كان الأمر كذلك، عَذَرَ اللهُ أهلَ الفترات في عدم اهتدائهم؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. وإذا ثبت هذا، لم يكن بُدٌّ من الرجوع في هذا الباب إلا مجرَّد ما حده الشارع، وهو معنى التعبد، ولذلك كان الواقف مع مجرَّد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجدى على طريقة السلف الصالح.

وأما العادات: فالأصلُ الالتفاتُ فيها إلى المعاني؛ وذلك لأمور: الأوَّل: الاستقراء، فإننا وجدنا الشَّارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تَدُورُ حيثما دار، فترى الشيء الواحد يُمْنَعُ في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحةٌ، جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل: يمتنعُ في المبايعة، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس: يمتنع حيث يكون مجرد ربا وغرر مِنْ غير مصلحة، ويجوز إذا كان مصلحة راجحة، ولم يوجد هذا في باب العبادات مفهومًا، كما فهمناه في العادات. وقال تعالي: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]،،، إلى غير ذلك مما لا يحصى، وجميعه يشير إلى اعتبار المصالح للعباد. الثاني: أنَّ الشَّارع توسَّع في بيان العلل في تشريعِ بابِ العادات؛ بخلاف باب العبادات: فإنَّ المعلومَ فيه خلاف ذلك. الثالث: أنَّ الالتفات إلى المعاني قد كان معلومًا في الفترات، واعتمد عليه العقلاء حتى جرَتْ بذلك مصالحهم. إذا تقرر أنَّ الغالب في العادات هي المعاني، فإنَّه إذا وجد فيها التعبُّد، فلابد من الوقوف مع المنصوص؛ كطلب الصداق في النكاح، والذَّبْحِ في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروضِ المقدرة في المواريث، وعَدَدِ الأشهر في العِدَدِ الطلاقية، وما أشبه ذلك.

القسم الثاني فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف

القسم الثاني فيما يرجع إلى مقاصد المكلّف في التكليف وفيه مسائل: الأولى: إنَّما الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرُّفات من العبادات والعادات، والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر، ويكفيك منها: أنَّ المقاصد تفرِّق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب. وفي العادات بين ما هو واجب ومندوب، ومباح، ومكروه ومحرم، وصحيح وفاسد، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة، ويقصد به شيء آخر، فلا يكون كذلك. والأعمال قسمان: عادات، وعبادات: فأما العادات: فلا تحتاج في الامتثال بها إلى نية، بل مجرد وقوعها كاف؛ كرد الودائع والمغصوب، والنفقة على الزوجات ونحو ذلك. وأما العبادات: فتحتاج إلى النية. والأعمال الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلاَّ مع القصد إلى ذلك، فأما ما وضع على التعبد؛ كالصلاة، والحج وغيرهما، فلا إشكال فيه، وأما العادات، فلا تكون تعبديات إلاَّ بالنيات. ينبغي أن يكون قصد المكلف من عمله موافقًا لقصد الشَّارع من تشريعه ذلك العمل: قصد الشَّارع من المكلَّف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في

من قصد من العمل غير ما قصده الشارع بطل عمله وأهدر ثوابه

التشريع، والدليل على ذلك ظاهرٌ من وضع الشريعة. إذ قد مرَّ أنَّها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أعماله، وأن لا يقصد خلاف ما قصده الشارع. ولأنَّ المكلف خُلِقَ لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة، وهذا محصول العبادة؛ فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة. وأيضًا: فإن قصد الشَّارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيَّات، وهو علة ما كلف به العبد، فلابد أن يكون مطلوبًّا بالقصد إلا ذلك، وإلاَّ لم يكن عاملاً على المحافظة؛ لأنَّ الأعمال بالنيات. من قصد من العمل غير ما قصده الشارع بطل عمله وأهدر ثوابه: كل من ابتغى في تكليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها، فعمله في المناقضة باطل؛ فإنَّ المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت، لم تكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة. أما من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له، فهو مناقض لها. والدليل عليه من أوجه: أحدها: أنَّ الأفعال والتروك متماثلة عقلاً بالنسبة إلى ما يقصد بها؛ إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح، فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة، فقد بيَّن الوَجْهَ الذي منه تحصُلُ المصلحة؛ فأمر به أو أذن فيه، وبيَّن الوجه الذي تحصل به المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد، فإذا قصد المكلَّف عين ما قصده الشارع، فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجهه؛ فهو جدير بأن تحصل له، وإن قصد غير ما قصده الشارع، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهُّم أن المصلحة فيما قصدة لأنَّ العاقل لا يقصد وجه المفسدة

قصد المكلف العمل أقسام

كفاحًا-: فقد جعل ما قصَدَ الشارعُ مهمَل الاعتبار، وما أهملَ الشارعُ مقصودًا معتبرًا وذلك مضادة للشريعة ظاهرة. الثاني: أنَّ حاصل هذا القصد يرجع إلا ما رآه الشارع حسنًا، فهو عند هذا القاصد ليس بحسن، وما لم يره الشارع حسنًا، فهو عنده حسن؛ وهذه مضادَّة أيضًا. الثالث: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء، الآية: 115]؛ قال عمر بن عبد العزيز: سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننًا؛ من أخذ بها فهو مهتد، ومن خالفها اتَّبع غير سبيل المؤمنين. الرابع: الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخِذٌ في غير مشروع حقيقة؛ لأنَّ الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض، فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم، لم يأت بذلك المشروع أصلاً، وإذا لم يأت به، ناقضِ الشارعَ في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعلِ لغير ما أمر به والتاركِ لما أَمَرَ به. قصد المكلف العمل أقسام: التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها، فللمكلَّف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها؛ فهذا لا إشكال في موافقته، ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد، فكم من فهم المصلحة فلم يلو على غيرها من قصد التعبد، فهي غفلة تفوِّت خيرات كثيرة، بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد. الثاني: أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطَّلع عليه أو لم يطَّلع عليه، كأن ينوي من هذا العمل ما قصده الشارع من شرعه، وهذا أكمل

ليس لأحد أن يسقط حق الله في نفسه أو ماله أو عمله

من الأول، إلاَّ أنَّه ربَّما فاته النظر إلى التعبد والقصد إليه في التعبد. الثالث: أن يقصد مجرد الامتثال، فَهِمَ قصد المصلحة أو لم يفهم، فهذا أكمل وأسلم: أما كونه أكمل: فإنه نصب نفسه عبدًا ممتثلًا ملبيًا؛ إذْ لم يعتبر إلاَّ مجرد الأمر. وأما كونه أسلم: فلأنَّ العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية، فإن عرض له قصد غير الله، رده قصد التعبد، بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح، فإنه عد نفسه هنالك واسطةً بين العباد ومصالحهم، وإذا رأى نفسه واسطة، فربَّما دخله شيء من اعتقاد المشاركة. وأيضًا: فإنَّ حظه -هنا- محمود، والعمل على الحظ طريق إلى دخول الدواخل، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها. ليس لأحد أن يسقط حق الله في نفسه أو ماله أو عمله: كل ما كان من حقوق الله، فلا خيرة فيها للمكلَّف، ولا يملك إسقاطها؛ وذلك كالطهارة والصلاة والزكاة ... إلخ. وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات، والأكل والملبس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت أنَّ فيها حقًّا لله تعالى، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها لا يسقط حق الله فيها ألبتة، فلو طمع أحد أن يسقط الطهارة، بقي مطلوبًا بها حتى يقوم بها، ولو استحلَّ أكل ما حرَّمه الشارع، أو استحلال نكاح بلا ولي، أو استحلال الربا، أو بيعًا فاسدًا، أو إسقاط حد الزنى، أو الحرابة ونحوها، لم يصح شيء منه. وإذا كان الحكم دائرًا بين حق الله وحق العبد، لم يصح للعبد إسقاط حقِّه إذا أدى إلى إسقاط حق الله؛ وذلك مثل أنَّ حق العبد ثابت له في حياة العبد وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه

سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزيادة على المشروع مع الداعية إلى الزيادة نهي عن الزيادة

فقد خالف الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه، ولا أن يفوِّت عضوًا من أعضائه ولا مالاً من ماله، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء، الآية: 29]، وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة، الآية: 188]. سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزيادة على المشروع مع الداعية إلى الزيادة نهي عن الزيادة: السكوت عن شرعية الحكم على ضربين: أحدهما: أن يسكت عنه؛ لأنَّه لا داعية له تقتضيه، ولا مُوجِبَ يقدِّر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وإجرائها على ما تقرَّر في كُلِّيَّاتها، وما أحدثه السلف الصالح راجعٌ إلى هذا القسم؛ من جمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها مُوجبٌ يقتضيها. فهذا القسم جاريةٌ فروعه على أصوله المقررة شرعًا بلا إشكال، والقصد الشرعي فيها معروف. الثاني: أن يسكت عنه، وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمن. فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنَّه لما كان هذا المعنى المُوجِبُ لشرع الحكم العملي موجودًا، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحًا في أنَّ الزائد على ما كان هناك بدعةٌ زائدة، ومخالفة لما قصده الشَّارع؛ إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد -هنالك- لا الزيادة عليه ولا النقصان منه. وذلك مثل سجود الشكر عند من لم يثبت ذلك عنده كمالك -رحمه الله-

فالبدع هي فِعْل ما سكَتَ الشارع عن فعله، أو تَرْكُ ما أَذِنَ في فعله. فالأول كسجود الشكر عند مالك، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفة. والثاني: كالصيامِ مع ترك الكلامِ، ومجاهدةِ النفس بترك مأكولات معينة. فالبدع إنما أحدثت لمصالحَ يدَّعيها أهلها، ويزعمون أنَّها غيرُ مخالفة لقصد الشَّارع، ولا لوضعِ الأعمال. وإلى هنا تمَّ ما اخترته وما لخَّصته من كتاب -الموافقات- للإمام الشاطبي، وقد جرى اختياره في عدة مجالس، آخرها ليلة السبت الموافق (28/ 5/ 1410 هـ). والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسَّام مكة المكرمة

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله. أما بعد: فقد ذكرنا -في "المقدمة الأولى" من مقدمات هذا الشرح -بيانَ أهمية "بلوغ المرام"، وعظم قدره، وجليل فائدته، والميزات الطيبة التي انفرد بها عن الكتب المصنفة في بابه، مما دعا العلماء إلى العنايةِ به، والإقبالِ عليه، والاستفادةِ منه، واختيارِهِ على غيره في حلقات الدروس، وقاعات المعاهد والجامعات، حتى صار هو العمدة في الاستظهار والاستنباط والاستفادة، فتعدَّدت طباعته، وكثر تداوله، وكما قيل: "المورد العذب كثير الزحام". كما ذكرت في تلك "المقدمة" صِلَتي بهذا الكتاب، وطول صحبتِي إيَّاه، فإنَّها ألفة قديمة، وعلاقة وثيقة، وصلة عريقة، تطلب مني الوفاء لماضيه، وخدمة قارئيه، والقيام بحق مؤلفه، وذلك بشرح يقرِّب معانيه، ويكشف عن مطاويه، ويستخرج درره ويجلو أصدافه ويبرز محاسنه، فحدَّثْتُ نفسي بأني -بعد أن توفَّرَتِ المصادر، وَكَثُرَتِ المراجع، وتيسَّرت الأمور- أستطيعُ أن أقدِّم لطلاب العلم شرحًا يلائم أذواقهم، ويشاكل مناهجهم، ويناسب ما يُلقى عليهم من دروس مادة الحديث، وزاد في إقدامي على شرح هذا الكتاب أمران: أحدهما: ما لمسته من إقبال على شرحي على "العمدة" المسمى "تيسير العلَّام"، واختياره لتدريس مادة الحديث في كثير من دور العلم، وحلقات الدروس في المساجد، وإعجاب الكثير في جمعه وترتيبه وتنسيقه وتبويبه. الثاني: أنَّ الشروح المتداولة لـ"بلوغ المرام" غير مرتَّبة ولا منسَّقة،

وطريقة تأليفها تخالف النهج الذي تسير عليه المعاهد والجامعات الآن. فأقدمت على تأليف هذا الشرح الذي أرجو أن يكون مناسبًا لوقته، ملائمًا لقرَّائه، كافيًا في بابه، وافيًا في مقصوده، وما في هذا الكتاب من فوائد وأحكام، فهي قسمان: أحدهما: ما استخرجته من خزين الحافظة ثمرة دراسات سابقة صاغتها الملكة حتى صار من إعدادها. الثاني: نقولٌ من تلك المراجع؛ إما بنصِّها، وإما باختصار لا يخل بمعناها؛ فإني لا أحذف من الكلام إلاَّ استطرادات خارجة عن الموضوع، أو زيادات عن الخلاصة المختارة. وبعد: فقد حَلَّيْتُ هذا الشرح بأمورٍ تزيدُ في حسنه، وترغِّبُ في قراءته، وأوجزها بما يأتي: أولًا: فَصَّلْتُ مواضيعَ الكتاب ونسقتها، ليأخذ كلُّ طالب علم بغيته ومراده؛ ففيه الكلام عن درجة الحديث، وتفسير غريبه، وبيان أحكامه، وتفصيل الخلاف في مسائله، فكل موضوع من هذه المواضيع له فصله الخاص به وحده. ثانيًا: أنني لم أنتصر لأي إمامٍ، ولم أتعصَّب لأي مذهب، وإنما وجَّهت قصدي إلى ما يرجِّحه الدليل من أقوال العلماء، رحمهم الله تعالى. ثالثًا: أنني ألحقت به ما يناسبه من القرارات التي صدرت من المجامع الفقهية، وهي: مجمَّع الفقه الإِسلامي -التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، ومقره جدة، والمجمَّع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي، ومقره مكة المكرمة، ومجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ومجمَّع البحوث الإِسلامية بالقاهرة. وهذه القرارات قسمان: إما مسائل قديمة بحثها علماء المجلس؛ فقيمة القرار منها دراسته من

أحد هذه المجامع، أو منها كلها، وإعطاء المسلمين فيه رأيًا جماعيًّا من نخبة ممتازة من علماء المسلمين. وإما مسائل مستجدة اقتضاها العصر الحاضرة فدرسها أحد هذه المجامع الكبيرة، وخرج منها برأي شرعي جماعي، طبقت عليه النصوص الشرعية، مما أبان عن عظمة هذه الشريعة وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. رابعًا: أنني حرصتُ على تتبع الحقائق العلمية التي توصَّل إليها العلم في هذه الأزمنة، التي تطوَّرَتْ فيها العلوم الطبيعية والعلوم الكونية؛ مما له صلة في نصوص هذا الكتاب ومسائله؛ لأبرز بقدر علمي واستطاعتي ما تحمله هذه النصوص الكريمة من إعجاز علمي باهر، طابَقَ بكلِّ وضوحٍ وجلاء ما في تلك الحقائق العلمية الجديدة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت، الآية: 53]، وقوله جلَّ وعلا: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} [ص، الآية: 88]، فبظهور هذا التطابق بين النصوص الكريمة وما أودعه الله في هذا الكون من حقائق، يُعْلَمُ أنَّه كله جاء من لدن حكيم خبير، فيزداد الذين آمنوا إيمانًا، وتقوم الحجة الظاهرة القوية على المعاندين. خامسًا: أنَّ هذا الشرح بالرغم من حرصي على تقريبه لطالب العلم المبتدىء، إلاَّ أنِّي توسَّعْتُ فيه اتساعًا، فبحثتُ جميعَ جوانب الحديث روايةً ودراية، فقد تكلَّمْتُ على درجة الحديث من حيثُ القبولُ والرَّدُّ، وذلك في الأحاديث التي ليست في الصحيحَيْنِ أو أحدهما، ثم شرحتُ مفرداتِ الحديث وغريبَ لفظه لغةً ونحوًا وصرفًا، واصطلاحًا، وتعريفًا عمليًّا، ثم إني استنبطتُ الأحكام والآدابَ بطريقةٍ موسَّعة، وَعُنِيتُ عنايةً تامَّةً بعِلَلِ الأحكام وأسرارها؛ لأظهر محاسن الإِسلام وأحكامه أمام القارىء لا سَيَّما الناشئة منهم؛ ليزيد تعلقهم بدينهم، فيأخذوه عن قناعة ويقين. سادسًا: تتميمًا لفائدة هذا الشرح، فإني ألحقتُ -غالبًا- في كل حديث

اصطلاحات خاصة في هذا الشرح

ما يشابه أحكامه ويناسبها من الفوائد مما يعد أحكامًا زائدةً عما يفهم من الحديث أو من الباب؛ لِذا فإني جعلتها بعنوان مميِّز لها حينما أقول: "فائدة" أو "فوائد". اصطلاحات خاصة في هذا الشرح: - إذا قلتُ: "الشيخ" فمرادي: شيخ الإِسلام أحمد بن تيمية. - وإذا قلتُ: "قال ابن عبد الهادي" فمن كتابه المحرَّر. - وإذا قلتُ: "في التلخيص" فمرادي التلخيص الحبير؛ للحافظ ابن حجر. - وإذا قلتُ: "قال الصنعاني" فهو من سبل السلام. -وإذا قلتُ: "قال الشوكاني" فأعني من نيل الأوطار. - و"قال صديق حسن" يعني: من الروضة الندية. - وإذا قلتُ: "قال الألباني" فهو من إرواء الغليل، وقليل من حاشيته على المشكاة. - ومرادي بـ"الروض" الروض المربع، ومرادي بـ"الحاشية" حاشية الروض؛ للشيخ عبد الرحمن بن قاسم. - قد يتكرر شرح اللفظة الواحدة من الحديث أو أكثر من مرة؛ وقصدي إراحة القارىء بإعادة شرحها عن الإحالة إلى مكانها. وبعد: فإنني مغتبط أشدَّ الاغتباط بهذه الصحوة الإِسلامية المباركة، وهذا الوعي المديني الذي جُلَّ أمره صار في الشباب والشابات، فأسأل الله تعالى أن يبارك فيه، وأن يؤيِّده ويقوِّيه، وأن يقيه شر الآفات، ومكايد الأشرار، وتدبير الأعداء. والذي أنصح إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي به: أن يحرصوا على جمع الكلمة، وتوحيد الصف وَلَمِّ الشمل، ولا يكون ذلك إلاَّ بتناسي الخلافات الفرعية في المسائل الاجتهادية.

فلا يكن بحثهم لها مصدر عداوة وبغضاء، وإنما يكون بحث استفادة ووصول إلى الحق: فإن وصلوا إلى إجماع بينهم عليها، فذاك، وإلاَّ عَمِلَ كلُّ منهم بما أوصله إليه اجتهاده بلا عداوة ولا بغضاء، ولا تهاجر ولا تقاطع؛ فقد سبقهم إلى الخلاف فيها علماء أجلَّاء، فلم يحدث بحثهم فيها ونقاشهم مسائلها عداوةً ولا بغضاء، وإنما كل منهم يعمل على شاكلته، وما رأى أنَّه الحق. فليحذر أولادنا الأعزَّاء من التفرُّق والاختلاف؛ فإنَّه سبب الفرقة وإضاعة الجهد؛ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال، الآية: 46]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران، الآية: 103]. بارك الله في أعمالهم، وسدَّد أقوالهم، ونجَّح مساعيهم، وجعلهم هداة مهتدين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف

مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحافظ ابن حجر لكتابه بلوغ المرام الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديمًا وحديثًا، والصلاة والسلام، على نبيه ورسوله محمَّد وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيرًا حثيثًا، وعلى أتباعهم الذين وَرِثُوا علمهم و"العلماء ورثة الأنبياء" أكرم بهم وارثًا وموروثًا. أما بعد: فهذا مختصَرٌ يشتمل على أصول الأدلَّةِ الحديثيَّة، للأحكامِ الشرعيَّة، حرَّرته تحريرًا بالغًا؛ ليصيرَ من يحفظه بين أقرانه نابغًا، ويستعينَ به الطالبُ المبتدي، ولا يستغنيَ عنه الراغبُ المنتهي، وقد بَيَّنْتُ عَقِبَ كُلِّ حديث مَنْ أخرجَهُ من الأئمَّة، لإرادة نُصْحِ الأمَّة. فالمرادُ بالسبعة: أحمدُ، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داود، وابن ماجَهْ، والترمذيُّ، والنَّسائيّ. وبالستة: مَنْ عدا أحمد، وبالخمسة: مَنْ عدا البخاريَّ ومسلمًا، وقد أقولُ: الأربعة وأحمد، وبالأربعة: مَنْ عدا الثلاثةَ الأُوَل، وبالثلاثةِ: من عداهم وعدا الأخير، وبالمتَّفق عليه: البخاريُّ ومسلم، وقد لا أذكر معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مبيَّن، وسمَّيته: "بُلُوغَ المرام، من أدلة الأحكام". واللهَ أسأل أن لا يجعَلَ ما علِمْنَا علينا وبالاً، وأن يرزقنا العمَلَ بما يُرْضِيهِ سبحانَه وتعالى.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب المياه الكتاب: لغة: مدار مادة -كتب- على الجمع، فسمِّي كتابًا؛ لجمعه الحروف والكلمات والجمل، وهو هنا بمعنى المكتوب. واصطلاحًا: ما خُطَّ على القرطاس لإبلاغ الغير، أو ما خُطَّ لحفظه عن النسيان، واستعمل العلماء الكتاب فيما يجمع شيئًا من الأبواب والفصول. الطهارة: لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسيَّة والمعنوية. وشرعًا: ارتفاعُ الحَدَثِ بالماءِ أو الترابِ الطهوريْنِ المُباحَيْنِ، وزوال النجاسة. فالطهارة -باتفاق المسلمين-: هي زوالُ الوصف القائم بالبدن. وحكم هذا الوصف: المنعُ من الصلاة ونحوها، ووجهُ التعبيرِ في جانب الحَدَثِ بالارتفاع؛ لأَنَّه أمر معنوي، ووجه التعبير بالإزالة في النجاسة؛ لأنَّه جرم حسي، والإزالة لا تكون إلاَّ في الأجرام. الباب: لغة: المدخل إلى الشيء. واصطلاحًا: اسم لجملة متناسبة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا. المياه: جمع ماء، وهو المائع المعروف، ويتركَّب كيميائيًّا من غاز الأيدروجين وغاز الأوكسيجين، ومصادره مياه الأمطار والينابيع والعيون والبحيرات والأنهار.

مقدمة

مناسبة البدء بالطهارة هو أنَّ الأحاديث الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان شعائر الإِسلام بُدِئَتْ بالصَّلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج، وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (1009) وأبو داود (61) والترمذي (2)، وابن ماجه (275)؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مفتاح الصلاة الطهور"، والمفتاح شأنه التقديم على ما جعل مفتاحًا له، فصار المناسب هو البدء بالطهارة؛ لأنَّ الطهارة من الحدث والخبث من شروط الصلاة، وشرط الشيء يسبقه. وقال الغزالي في الإحياء: قال الله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال، الآية: 11]. وروى مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطهور شطر الإيمان". والطهارة لها أربع مراتب: الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس. الثانية: تطهير الجوارح من الجرائم والآثام. الثالثة: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة. الرابعة: تطهير السرِّ عما سوى الله تعالى. وهذا هو الغاية القصوى لمن قويت بصيرته فسَمَت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته، لم يفهم من مراتب الطهارة إلاَّ المرتبة الأولى. والأصل: أنَّ الطهارة تكون بالماء؛ ذلك أنَّه أحسن المذيبات، فكل المواد تذوب فيه، وقوَّة تطهيره ترجع إلى بقائه على خلقته الأصلية؛ فإنه إذا خالطه ما غيَّر مسماه، ضعُفَتْ قوة إزالته وتطهيره؛ لأنَّه يفقد خفته ورقته وسيلانه ونفوذه.

1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، سألت عنه البخاري فقال: صحيح، وقال الزرقاني في شرح الموطأ: هذا الحديث أصلٌ من أصول الإِسلام تلقته الأمَّة بالقبول، وقد صحَّحه جماعةٌ: منهم البخاري والحاكم وابن حبَّان وابن المنذر والطحاوي والبغوي والخطابي وابن خزيمة والدَّارقطني وابن حزم وابن تيمية وابن دقيق العيد وابن كثير وابن حجر، وغيرهم ممَّن يزيد على ستَّة وثلاثين إمامًا. * مفردات الحديث: - البحر: هو خلاف البر، وهو المساحات الشاسعة من الماء المالح، يجمع على أبحر وبحار وبحور، سُمِّي بحرًا لعُمْقِهِ واتساعه. - الطَّهُور: بفتح الطَّاء المشدَّدة، من صيغ المبالغة: اسمٌ للماء الطَّاهر بذاته المطهِّر لغيره، واللام ليست للقصر؛ فلا ينفي طهورية غيره لوقوعه جواب سؤال، فـ "أل" جاءت لبيان الحقيقة هنا، و"ماؤه" فاعلٌ للطهور، والضمير عائدٌ إلى البحر. ¬

_ (¬1) أبو داود (83)، الترمذي (69)، النسائي (59)، ابن ماجه (386)، ابن أبي شيبة (1/ 130)، ابن خزيمة (1/ 59)، مالك (22)، الشافعي (1)، أحمد (7192).

وماء البحر حوى أملاحًا معدنية عديدة، ومحلول الأملاح فيه موصِّل كهربائي، يكوِّن أكبر نسبة من الموادِّ الذَّاتية في ماء البحر، وبهذا يكون أقدر مِنْ غيره على إزالة الأنجاس ورفع الأحداث، ولله في خلقه أسرار. - الحِلُّ: بكسر الحاء وتشديد اللَّام، وصفٌ من حَلَّ يحل -من باب ضرب- ضد حرم، أي: الحلال؛ كما في رواية "الدَّارقطني". - مَيْتَتُهُ: بفتح الميم، ما لم تلحقه الذكاة الشرعية، وبكسرها: الهيئة كالجِلْسة، والمراد الأول. و"ميتته" فاعل لِلْحِلّ، والمراد هنا ما مات فيه من دوابِّه، مما لا يعيش إلاَّ فيه، لا ما مات فيه مُطْلَقًا. * ما يُؤخَذُ مِنَ الحديث: 1 - قال الشّافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة. وقال ابن الملقِّن: هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ من أصول الطهارة، مشتملٌ على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّة. 2 - في الحديث طهورية ماء البحر؛ وبه قال جميع العلماء. 3 - أنَّ ماء البحر يرفع الحدث أكبر والأصغر، ويزيل النجاسة الطارئة على محلٍّ طاهر، من بدنٍ، أو ثوب، أو بقعة، أو غير ذلك. 4 - أنَّ الماء إذا تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بشيءٍ طاهرٍ، فهو باقٍ على طهوريته، ما دام ماءً باقيًا على حقيقته، ولو اشتدت ملوحته أو حرارته أو برودته ونحوها. 5 - يدل الحديث على أنَّه لا يجب حمل الماء الكافي للطهارة مع القدرة على حمله؛ لأنَّهم أخبروا أنَّهم يحملون القليل من الماء. 6 - قوله: "الطهور ماؤه" تعريفه بالألف والَّلام المفيد للحصر لا ينفي طهورية غيره؛ لوقوعِهِ جوابَ سؤال عن "ماء البحر"؛ فهو مخصَّصٌ بنصوصٍ أُخرى.

7 - أنَّ ميتة حيوان البحر حلالٌ، والمراد بميتته: ما مات فيه من دوابه ممَّا لا يعيش إلاَّ فيه. 8 - يجب أنْ يكون الماء الرَّافع للحدث والمزيل للخبث ماءً مطهِّرًا؛ لتعليل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بجواز الوضوء منه يكون طهورًا. 9 - جواز ركوب البحر لغير حجٍّ وعمرة وجهاد. 10 - فضيلة الزيادة في الفتوى على السؤال؛ وذلك إذا ظن المفتي أن السائل قد يجهل هذا الحكم، أو أنه قد يُبْتَلَى به؛ كما في ميتة حيوان البحر لراكبه. قال ابن العربي: وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجَاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه؛ تتميمًا للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم -كما هنا- ولا يعد ذلك تكلُّفًا مما لا يعنيه. * خلاف العلماء: ذهب الإمام أبو حنيفة: إلى إباحة السمك بجميع أنواعه، وحرَّم ما عداه؛ مثل كلب الماء، وخنزيره، وثعبانه، وغيره ممَّا هو على صورة حيوان البر، فإنَّهُ لا يحل عنده. وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى إباحة حيوان البحر كله، عدا الضفدع والحية والتمساح؛ فالضفدع والحية من المستخبثات، وأمَّا التمساح فذو نابٍ يفترس به. وذهب الإمامان مالك والشَّافعي: إلى إباحة جميع حيوان البحر بلا استثناء؛ واستدلا بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، والصيد هنا يُراد به المصيد، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أُحِلَّت لنا ميتتان: الجراد والحوت" [رواه أحمد (5690) وابن ماجه (3218)]، قال في القاموس: الحوت هو السمك. ولما جاء في حديث الباب "الحل ميتته"، وهذا هو الأرجح.

2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، ويسمَّى "حديث بئر بضاعة"، قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وقال الترمذي: حسن، وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديث، وقد روي عن أبي سعيد وغيره من غير وجه. وذكر في التلخيص (1/ 20) أنَّ الحديث صحَّحه أحمد، ويحيى بن معين، وابن حزم. قال الألباني: رجال إسناده رجال الشيخين غير عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع فقال البخاري: مجهول الحال، ولكن صححه من تقدم، فهو حديثٌ مشهورٌ مقبولٌ عند الأئمة. قال الشيخ صديق حسن في الروضة: قامت الحجة بتصحيح من صحَّحه من الأئمة. فقد صحَّحه غير من تقدم: ابن حبَّان، والحاكم، وابن خزيمة، وابن تيمية، وغيرهم، وقد أعلَّه ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد، ولكن إعلال ابن القطان وحده لا يقاوم تصحيح هؤلاء الأئمة الكبار. * مفردات الحديث: - طهور: بفتح الطاء، من صيغ المبالغة؛ فهو الطاهر بذاته المطهِّر لغيره. - ينجسه: يقال: نَجَسَ يَنْجُس، من باب قتل، على الأكثر، ونَجُسَ ضد طَهُرَ، والاسم: النجاسة. وهي في عرف الشرع: قذرٌ مخصوصٌ يمنع جنسه الصلاة؛ كالبول والدم. ¬

_ (¬1) أحمد (10864)، أبو داود (66، 67)، الترمذي (66)، النسائي (326، 327).

3 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيْحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ: "الْمَاءُ طَهُورٌ إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أوَّلُ الحديث صحيحٌ، وعجزه ضعيف، ضعَّفه أبو حاتم كما في التلخيص (1/ 21). فقوله: "إنَّ الماء لا ينجِّسهُ شيء" قد ثبت في حديث بئر بضاعة. وقوله: "إلاَّ مَا غلب ... " إلخ: قال النووي: اتفق المحدِّثون على تضعيفه؛ لأنَّ في إسناده رِشْدَينَ بن سعد متفق على ضعفه، ونقل ابن حبَّان في صحيحه الإجماع على العمل بمعناه. وقال صديق حسن في الروضة: اتفق العلماء على ضعف هذه الزيادة؛ لكنَّه وقع الإجماع على مضمونها. * مفردات الحديث: - طَهُور: بفتح الطاء، اسمٌ للماء الذي يُتَطهَّر به؛ فهو طاهر بذاته، مطهِّرٌ لغيره. - ما: نكرة موصوفة بمعنى "شيء"، أو موصولة بمعنى "الذي". - غلب: يُقال: غَلَبَهُ يَغْلِبُهُ -من باب ضرب- غلبًا وغلبة: ظهر عليه وكثر، والمراد: غلب على الماء ريح النجاسة أو طعمها أو لونها، ولو بإحدى هذه الصفات؛ كما يفسِّر ذلك رواية "البيهقي". ¬

_ (¬1) ابن ماجه (521)، البيهقي (1/ 259).

- ريحه: الريح: هو النسيم، طيِّبًا أو نتنًا. - طعمه: الطعم: ما تدركه حاسَّة الذوق من طعامٍ أو شرابٍ؛ كالحلاوة، والمرارة، والحموضة، وغيرها؛ يُقَال: تغيَّر طعم الشيء: خرج عن وضعه الطبيعي. - لونه: اللون: صفة الجسم من السواد والبياض والحمرة، وما في هذا الباب. وهذه الصفات الثلاث يسمِّيها فلاسفة الإِسلام: أعراضًا تفتقر إلى جوهرٍ تقوم به، والجوهر هو الجسم. وفي الكيمياء الحديثة: صاروا يعدون هذه الصفات أيضًا جواهر، فهي آثار جسمية حسية؛ فالماء هنا جوهر، خالطه جوهرٌ آخر، وهو الطعم أو اللون أو الرائحة. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديثان على أنَّ الأصل في الماء الطهارة. 2 - يُقَيَّد هذا الإطلاق بما إذا لاقته النجاسة، فظهر ريحها أو طعمها أو لونها فيه؛ فإنَّها تنجسه، قلَّ الماء أو كثر. 3 - الذي يقيد هذا الإطلاق هو إجماع الأمَّة على أنَّ الماء المتغيِّر بالنجاسة نجسٌ، سواءٌ كان قليلاً أو كثيرًا. أمَّا الزيادة التي جاءت في حديث أبي أُمامة، فهي ضعيفة لا تقوم بها حجَّة، لكن قال النووي: أجمع العلماء على القول بحكم هذه الزيادة. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنَّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيَّرت له طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا، فهو نجس. قال ابن الملقِّن: فتلخَّص أنَّ الاستثناء المذكور ضعيف؛ فتعيَّن الاحتجاج بالإجماع؛ كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما. قال شيخ الإِسلام: ما أجمع عليه المسلمون فإنَّه يكون منصوصًا عليه؛ ولا نعلم مسألة واحدة أجمع عليها المسلمون ولا نصَّ فيها.

4 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ". وَفِي لَفْظٍ: "لَمْ يَنْجُسْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ, وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، ويسمَّى "حديث القلتين". واختلف العلماء في صحَّة هذا الحديث: فحكم عليه بعضهم بالاضطراب سندًا ومتنًا: فأمَّا اضطراب سنده: فلأنَّ مداره على الوليد بن كثير، فقيل: عنه عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، وقيل: عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر: والجواب: أنَّ هذا ليس اضطرابًا قادحًا؛ فإنَّه -على تقدير أنْ يكون الجميع محفوظًا- انتقال من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق: الصواب أنَّه عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عبَّاد بن جعفر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المكبر، وعن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المصغر، ومن رواه على غير هذا الوجه، فقد وهم. وقد رواه جماعة عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير على الوجهين؛ وله طريقٌ ثالثة رواها ابن ماجه (518)، والحاكم، وغيرهما، من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وسُئِل ابن معين ¬

_ (¬1) أبو داود (63)، الترمذي (67)، النسائي (52)، ابن ماجه (517)، ابن خزيمة (1/ 49)، ابن حبان (4/ 57)، الحاكم (1/ 224).

عن هذه الطريق؟ فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإنَّ ابن عليَّة لم يرفعه، فقال: وإنْ لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد. وأعلَّه بعضهم بالوقف؛ لأنَّ مجاهدًا رواه موقوفًا، وصحَّح وقفه الدَّراقطني، والبيهقي، والمزي، وابن تيمية. وأمَّا اضطراب متنه: فلأنَّه روي: "ثلاث قلال"، وروي "أربعين قلَّة". والجواب عنها: أنَّ رواية: "ثلاث" ورواية: "أربعين" شاذة، وأنَّ الصحيح فيها "قلتان". وقال الشيخ الألباني: الحديث صحيح رواه الخمسة، مع الدارمي، والطحاوي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والطيالسي، بإسنادٍ صحيح عنه، وقد صحَّحه الطحاوي، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، والذهبي، والنووي، والعسقلاني، وإعلال بعضهم إيَّاه بالاضطراب مردودٌ. وأمَّا تخصيص القلتين بـ"قلال هجر": فلم يرد مرفوعًا إلاَّ من طريق المغيرة بن صقلاب، وهو منكر الحديث. وقال ابن عبد الهادي في المحرَّر: قال الحاكم: هو على شرط الشيخين؛ فقد احتجا جميعًا بجميع رواته. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: أكثر أهل العلم بالحديث على أنَّه حديثٌ حسن، ويحتج به، وأجابوا عن كلامِ مَنْ طعن فيه. وممَّن صحح هذا الحديث: ابن خزيمة، وابن حبَّان، وابن منده، والطحاوي، والحاكم، والبيهقي، والخطابي، والنووي، والذهبي، وابن حجر، والسيوطي، وأحمد شاكر، وغيرهم. * مفردات الحديث: - قلتين: بضم القاف، تثنية قلة، وهي الجرَّة الكبيرة من الفخار، والجمع: قلال بكسر القاف، والقلتان: خمسمائة رطل عراقي، والرطل العراقي تسعون مثقالاً، وبالصاع: (93.75) صاعًا؛ كما رجَّح ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية،

في شرح العمدة له (1/ 67). - لم يحمل: يُقال: حَمَلَهُ يَحْمِلُهُ -من باب ضرب- حملاً، وللحمل معانٍ؛ أحدها: لم يقبل حمل الخبث، ولم يغلب عليه، وهو المراد هنا. - الخبث: خبُث يخبُث -من باب كرم- خبثًا وخباثة، ضد طاب، والخَبَثُ: هو النجاسة الحقيقية. - لم ينجس: يقال: نَجسَ الشيءُ بالكسر، يَنْجَسُ بالفتح، نَجَسًا بالتحريك، من باب علم، ويقال أيضًا: نَجَسَ بالفتح، يَنْجُسُ بالضم، من باب نصر. والنجاسة: قذرٌ مخصوص يمنع جنسه الصلاة. - لم: حرف نفي وجزم وقلب؛ فهي تنفي الفعل المضارع وتجزمه وتقلب زمانه من الحال أو الاستقبال إلى الماضي، والفعل مجزوم بها. - قلال هجر: جاء تقييد القلال في بعض الروايات بهجر، وتقييدها بهذا المكان لأنَّ قلالها معروفة المقدار كالصِّيعَان المتداولة، وتقدير الماء بها مناسب؛ لأنَّها آنيته. - هجر: قرية من قرى المدينة، والنسبة إليها: هَجَرِيٌّ على القياس، وَهَاجَرِيّ على غير القياس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الماء إذا بلغ قلتين، فإنَّه يدفع النجاسة عن نفسه، فتضمحل فيه، ولا تؤثِّر فيه، ما لم تغيره؛ وهذا منطوق الحديث. 2 - مفهوم الحديث: أنَّ ما دون القلتين تؤثِّر فيه النجاسة، فينجس بملاقاتها، تغير بالنجاسة أو لا. 3 - مناط التنجيس هو كون الماء الذي لاقته النجاسة قليلاً، أي: دون القلتين. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم: إلى أنَّ "القليل" من

الماء ينجَّس بمجرَّد ملاقاة النجاسة، ولو لم تتغير صفة من صفاته. و"القليل" عند أبي حنيفة: هو الذي إذا حركت ناحية منه تحركت الناحية الأخرى. أمَّا "القليل" عند الشافعية والحنابلة فما دون القلتين. وذهب الإمام مالك والظاهرية وشيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم والشيغ محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة السلفية بنجد وغيرهم من المحققين إلى أنَّ الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة، ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة: الطعم أو اللون أو الريح. استدل القائلون بنجاسة الماء بمجرد الملاقاة بمفهوم حديث ابن عمر في القلتين؛ فإنَّ مفهومه -عندهم- أنَّ ما دون القلتين يحمل الخبث، وفي رواية: "إذا بلغ قلتين، لم ينجسه شيء"؛ فمفهومه: أنَّ ما دون القلتين ينجس بمجرَّد الملاقاة. كما استدلوا بحديث الأمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب، ولم يعتبر التغير. وحديث القلتين لا يخالف فيه الحنفية؛ ذلك أنَّ القلتين إذا صبتا في موضعٍ، فإنَّه لا يتحرك أحد جانبيه بتحريك الآخر. وأمَّا أدلَّة الذين لا يرون التنجيس إلاَّ بالتغيُّر، فمنها: حديث القلتين؛ فإنَّ معنى الحديث: أنَّ الماء الذي بلغ قلتين لا ينجس بمجرَّد الملاقاة؛ لأنَّه لا يحمل الأنجاس وتضمحل فيه، وأمَّا مفهوم الحديث: فغير لازمٍ؛ فقد يحصل التنجُّس إذا غيرت النجاسة صفة من صفاته، وقد لا يحمل النجاسة. كما يستدلون على ذلك بحديث صب الذَّنُوب على بول الأعرابي، وغير ذلك من الأدلة. قال ابن القيم؛ الذي تقتضيه الأصول: أنَّ الماء إذا لم تغيره النجاسة،

فإنَّه لا ينجس؛ ذلك أنَّه باقٍ على أصل خلقته، وهو طيِّبٌ، داخلٌ تحت قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهذا هو القياس في المائعات جميعها، إذا وقع فيها نجاسة فلم يظهر لها لونٌ ولا طعمٌ ولا ريحٌ. أهـ. أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا بشأن المياه المتلوثة بالنجاسات إذا عولجت بواسطة الوسائل الفنية ثمَّ زالت منها النجاسة فقرَّر ما يلي: قرار رقم 64 في 25/ 10 / 1398 هـ الآتي بعد البحث والمداولة والمناقشة قرَّر المجلس ما يلي: بناءً على ما ذكره أهل العلم من أنَّ الماء الكثير المتغيِّر بنجاسةٍ، يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماءٍ طهورٍ إليه، أو زال تغيره بطول مكثٍ، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزوال علَّته. وحيث إنَّ المياه المتنجِّسة يمكن التخلُّص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إنَّ تنقيتها وتخليصها -ممَّا طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية- يعتبر من أحسن وسائل التطهير؛ حيث يُبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممَّن لا يتطرَّق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم. لذلك فإنَّ المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة؛ بحيث تعود إلى خلقتها الأولى، لا يُرى فيها تغيُّر بنجاسةٍ في طعمٍ ولا لونٍ ولا ريحٍ. ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها. كما يجوز شربها، إلاَّ إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك محافظةً على النفس، وتفاديًا للضرر، لا لنجاستها. والمجلس إذ يقرِّر ذلك، يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب

متى وُجِدَ إلى ذلك سبيلٌ؛ احتياطًا للصحة، واتِّقاءً للضرر، وتنزُّهًا عمَّا تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع. والله الموفق. وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم. هيئة كبار العلماء * * * أمَّا مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي، في دورته الحادية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م، إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ: فقد نظر في السؤال عن حكم ماء المَجَارِي بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغُسْل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟ وبعد مراجعة المُختصِّين بالطرق الكيماوية، وما قرَّروه من أنَّ التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربع، وهي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدولٌ، موثوق بصدقهم وأمانتهم. قرَّر المجمع ما يأتي: أنَّ ماء المجاري إذا نُقِّيَ بالطرق المذكورة وما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثرٌ في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه -صار طهورًا، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به؛ بناءً على القاعدة الفقهية التي تقرِّر أنَّ الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه؛ إذا لم يبق لها أثره فيه، والله أعلم.

5 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي, ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ"، وَلِمُسْلِمٌ: "مِنْهُ" وَلِأَبِي دَاوُدَ: "وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لاَ يَغْتَسِلْ: لاَ "ناهية"، يجزم بها الفعل، ويطلب بها ترك الفعل، و"يغتسل" مجزوم بالسكون. - الدَّائم: دام الشيءُ يدوم -من باب نصر- دومًا، ودام الماءُ في المكان: استقر؛ فالدَّائم الساكن الرَّاكد. - ثمَّ يغتسل: يجوز فيه ثلاثة أوجه: الجزم عطفًا على "لا يبولنَّ"، والنَّصب على إضمار "أنْ"، والرفع على تقدير: "ثُمَّ هو يغتسل فيه". - الَّذي لا يجري: تفسير للدَّائم، والمراد: المستقر في مكانه كالغدران في البرية. - لا يبولنَّ: "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم. والبول: عرَّفه الأطباء بأنَّه سائل تفصله الكليتان عن الدم لتخرجه من الجسم، ويحوي ما يزيد على حاجة الجسم من الماء والأملاح، ويمر من الكليتين في الحالبين إلى المثانة؛ حيث يتجمع إلى أنْ يخرج من الجسم عن ¬

_ (¬1) البخاري (239)، مسلم (282، 283)، أبو داود (70).

طريق مجرى البول في عملية التبول، ووظيفة إخراج البول أساسية للحياة. - جنب: بضمتين، أي: أصابته الجنابة، وهو الحدث الحاصل من الجماع أو الإنزال. - ثمَّ يغتسل فيه: "ثمَّ" للاستبعاد، أي: بعيد من العاقل أنْ يفعل هذا. - الجنابة: من أجنب فهو جُنُبٌ، للذكر والأُنثى، والمفرد والتثنية والجمع. والجنابة: صفة من نزل مَنِيُّهُ، أو حصل منه جماعٌ حتَّى يتطهر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنابة، بخلاف الماء الجاري؛ فإنَّه غير داخل في النهي. 2 - أنَّ النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم. 3 - النهي عن البول في الماء الدائم ثمَّ الاغتسال فيه من الجنابة، وقال في "طرح التثريب": يحتمل أنَّ النهي عن كلٍّ من "البول والاغتسال"، ويدل عليه رواية أبي داود: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، كما جاء في مسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". 4 - النهي يقتضي التحريم؛ فيحرم الاغتسال من الجنابة في الماء الذي بِيلَ فيه. 5 - ظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين الماء القليل والكثير. 6 - الفساد المترتِّب على النهيين هو إفسادُ الماء بتقذيره على المنتفعين به، وسيأتي -إنْ شاء الله تعالى- الخلاف في الماء المستعمل، هل استعماله في الطهارة يسلبه الطهورية أو لا؟ 7 - النهي عن البول أو الاغتسال في الماء الرَّاكد ليس على إطلاقه اتفاقًا؛ فإنَّ الماء المستبحر الكثير لا يتناوله النهي اتفاقًا؛ فهو مخصَّص بالإجماع. 8 - قال في سبل السلام: الذي تقتضيه قواعد اللغة العربية: أنَّ المنهي عنه في الحديث إنَّما هو عن الجمع بين البول والاغتسال؛ لأنَّ "ثُمَّ" لا تفيد ما تفيده

الواو العاطفة في أنَّها للجمع، وإنَّما اختصت "ثمَّ" بالترتيب. 9 - قال ابن دقيق العيد: "يؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النَّهي عن الإفراد من حديثٍ آخر". 10 - لكن الروايات الواردة في الباب يستفاد منها ما يأتي: - "رواية مسلم" تفيد النَّهي عن الاغتسال بالانغماس فيه، والتناول منه. - "رواية البخاري" تفيد النهي عن الجمع بين البول والاغتسال. - "رواية أبي داود" تفيد النهي عن كل منهما على الانفراد. فحصل من جميع الرِّوايات أنَّ الكلَّ ممنوعٌ، ذلك أنَّ البول أو الاغتسال في الماء الرّاكد يسبِّب تقذيرَهُ وتوسيخَهُ على النَّاس ولو لم يصل إلى تنجيسه. 11 - يلحق بذلك تحريم التغوُّط والاستنجاء في الماء الرَّاكِد الذي لا يجري. 12 - تحريم أذيَّة النَّاس وإلحاق الضرر بهم بأيِّ عمل من الأعمال التي لم يؤذن فيها، ولم تترجَّح مصلحتها على مفسدتها. 13 - اختلف العلماء هل النَّهي للتحريم أو للكراهة؟: فمذهب المالكية: إلى أنَّه مكروه؛ بناءً منهم على أنَّ الماء باقٍ على طهوريَّتِهِ. وذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنَّه للتحريم. وذهب بعض العلماء إلى أنَّه محرم في القليل، مكروه في الكثير. وظاهر النهي: التحريم في القليل والكثير، ولو لم يكن لِعِلَّةِ تنجيسه، وإنَّما من أجل تقذيره وتوسيخه على النَّاس. * تنبيه: يخص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء كما تقدم. ***

6 - وَعَنْ رَجُلٍ صَحِبَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ, وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ, وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قَالَ الشوكاني ما خلاصته: ادَّعى البيهقي أنَّه في معنى المرسل، وادَّعى ابن حزم أنَّ داود الذي رواه عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ضعيف. وَقَالَ ابن حجر في الفتح (1/ 300): رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعلَّه على حجَّة قوية. ودعوى البيهقي أنَّه في معنى المرسل مردودة؛ لأنَّ إبهام الصحابي لا يضر؛ ودعوى ابن حزم أنَّ داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي، وهو ضعيفٌ: مردودة؛ فإنَّه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرَّح باسم أبيه أبو داود وغيره. وصرَّح الحافظ في بلوغ المرام: بأنَّ إسناده صحيح. وقال ابن عبد الهادي في المحرَّر: صححه الحميدي، وقال البيهقي: رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - نهى: النَّهي قولٌ يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء، بصيغةٍ مخصوصةٍ من الفعل المضارع المقرون بـ"لا" النَّاهية. ¬

_ (¬1) أبو داود (81)، النسائي (238).

- المرأة: الأنْثى من بني آدم، بعد البلوغ. - بفضل: أي: بالماء الذي فَضَلَ وبقي بعد اغتسال الرجال. - الرجل: الغلام إِذا احتلَمَ وَشَبَّ سمي رجلاً، والجمع: رجال، وجمع الجمع: رجالات. - وليغترفا: الَّلام لام الأمر، والاغتراف: أخذ الماء بجميع اليدين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نهي الرجل أنْ يغتسل بفضل طهور المرأة. 2 - نهي المرأة أنْ تغتسل بفضل طهور الرجل. 3 - المشروع هو أنْ يغتسلا ويغترفا معًا. وقد جاء في صحيح البخاري (193) عن ابن عمر: "أنَّ الرجال والنساء كانوا يتوضَّؤون في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميعًا"، وفي رواية هشام بن عمَّار عن مالك قال فيها: "من إناء واحد" [رواه ابن ماجه (376)، ورواه أبو داود (77) من وجهٍ آخر]. 4 - هذا الإطلاق مقيَّدٌ بأنهُ ليس المراد به الرجال الأجانب من النساء، وإنَّما المراد الزوجات، أو من يحل له أن يرى منها مواضع الوضوء. 5 - ما جاء في حديث الباب فهو يبين حكم الغسل، وحديث ابن عمر الذي في البخاري يبين حكم الوضوء الذي جاء صريحًا بما رواه الحكم بن عمرو الغفاري قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"، رواه أحمد وأصحاب السنن. والمشهور عند الحنابلة: أنَّه طهور إلاَّ بحق الرجل.

7 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ: "اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَفْنَةٍ, فَجَاءَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا, فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ" وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. وما رواه مسلمٌ قد أُعِلَّ بترددٍ وقع في رواية عمرو بن دينار، ولكنَّهُ جاء في البخاري (253) ومسلم (322) محفوظًا بِلا ترددٍ بلفظ: "أنَّ النبِّيَّ -صلى الله عليه وسلم- وميْمُونَةَ كَانَا يغْتَسِلاَنِ مِنْ إناءٍ واحِدٍ"، وهذا اللفظ وإنْ لم يعارض رواية مسلمٍ، فإنَّ الذي يعارضه ما جاء في رواية السنن وهي صحيحة. قال ابن عبد الهادي في المحرر: صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم والذهبي. قال ابن حجر في التلخيص (1/ 15): وقد أعلَّهُ قومٌ بسماك ابن حرب؛ لأنَّه كان يقبل التلقين، لكن رواه عنه شعبة، وشعبة لا يحمل عن مشايخه إلاَّ صحيحَ حديثهم. * مفردات الحديث: - بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: هي ميمونة بنت الحارث الهلالية -رضي الله عنها- كما أخرجه الدَّارقطني وغيره. - جَفْنَة: بفتح الجيم وسكون الفاء: هي القصعة الكبيرة، جمعها: جفان، والقصعة: إناءٌ كبير يوضع فيه الطعام، ويُتَّخذ غالبًا من الخشب. - جُنُبًا: بضمتين هو من أصابته الجنابة، يطلق على الذكر والأُنثى، والمفرد ¬

_ (¬1) مسلم (323)، أبو داود (68)، الترمذي (64)، النسائي (325)، ابن ماجة (370)، ابن خزيمة (1/ 57).

والمثنى والجمع، سُمِّيَ جُنُبًا؛ لأنَّه أُمِرَ أنْ يَجْتَنِبَ مَوْضِعَ الصَّلاَةِ ما لم يتطهر، أو لأنَّ ماءه جانب وباعد محله ومستقره، وقيل: لمجانبته النَّاس حتَّى يغتسل. - ليغتسل: "الَّلام" للتعليل -لام كي- والفعل منصوب بِـ"أنْ" مضمرة بعدها، وما قبلها يكون مقصودًا لحصول ما بعدها. - لا يجنب: من جنب كفَرِح وككَرُم، أي بكسر عين الفعل أو ضمِّها، فيجوز فتح النون وضمُّها من مضارعه، هذا إذا جعلته من الثلاثي، ويصح أنْ يكون رُبَاعيًّا من أجنب يُجْنِبُ، وهو إصابةُ الجنابة، والمعنى: أنَّ الماء لا تصيبه الجنابة. * مَا يؤْخَذُ من الحديث: 1 - جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة، ولو كانت المرأة جنبًا، وبالعكس، فيجوز للمرأة أنْ تغتسل بفضل طهور الرجل من باب أولى. قال ابن عبد البر في الاستذكار: الأصل في الماء الطهارة؛ لأنَّ الله قد خلقه طهورًا، فهو كذلك حتَّى يجمع المسلمون أنَّه نجس، والمؤمن لا نجاسة فيه، فالنجاسة أعراضٌ داخلة، والمرأة في ذلك كالرجل إذا سلما ممَّا يَعْرِضُ من النجاسات. 2 - أنَّ اغتسال الجنب أو وضوء المتوضِّىء من الإناء، لا يُؤثِّرُ في طهورية الماء؛ فيبقى على طهوريته. 3 - حكى الوزير والنووي وغيرهما الإجماع على جواز وضوء الرجل بفضل طهور المرأة، وإنْ خَلَتْ به، إلاَّ في إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الرواية المشهورة عند أصحابنا؛ فإنَّهم يرون أنَّ المرأة إذا خلت بالماء القليل لطهارة كاملة عن حدث، فإنَّه لا يُطَهِّر الرجل. والرواية الأخرى: قال عنها في الإنصاف: وعن الإمام أحمد: يرفع حدث الرجل في أصح الوجهين، واختارها ابن عقيل وأبو الخطَّاب والمجد. قال في الشرح الكبير: هو أقيس، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. أما وضوء المرأة بفضل الرجل فجائزٌ بلا نزاع.

8 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طُهُوْرُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "فَلْيُرِقْهُ"، وَلِلتِّرْمِذِيِّ: "أُخْرَاهُنَّ, أَوْ أُولَاهُنَّ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - طُهُور: بضم الطاء على الأشهر. قال النووي: جمهور أهل اللغة على أنَّ الطهور والوضوء يضمَّان إذا أُريد بهما المصدر الذي هو الفعل، ويفتحان إذا أُريدَ بهما ما يُتطهَّر به؛ وهنا المراد به المصدر. - ولغ: هو من باب فَتَحَ وَحَسِبَ وَوَرِثَ، ومضارعه: يلَغ بفتح عين الكلمة وكسرها، ويالغ ولْغًا، والولوغ: الشرب بأطراف اللسان، وهو شرب الكلب وغيره من السباع. - أخراهنَّ: بألف التأنيث المقصورة، وجمع أخرى: أُخريات، وأُخَر، مثل كبرى وكبريات وكبر، والمراد: إحداهنَّ؛ كما جاء في بعض روايات هذا الحديث. - التراب: ما نَعُمَ من أديم الأرض. - فليرقه: أي: فليصبَّه على الأرض. قال في المصباح: راق الماءُ وغيرُهُ ريقًا: انصَبَّ، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أراقه، وتبدل الهمزة هاء فيقال: هَرَاقَهُ، وقد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ، ساكن الهاء. - أوْلاهنَّ: "أخراهنَّ" أو "أُولاهُنَّ": الرّاجح أنَّ هذا الشك من الرَّاوي، وليس ¬

_ (¬1) مسلم (279)، الترمذي (91).

للتخيير، ورواية "أوْلاهنَّ" أرجحهما؛ لكثرة رواتها، ولإخراج الشيخين لها، ولأنَّ التراب إذا جاء في الغسلة الأولى، كان أنقى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نجاسة الكلب، وكذا جميع أجزاء بدنه نجسة، وجميع فضلاته نجسة. 2 - أنَّ نجاسته نجاسة مغلَّظة؛ فهي أغلظ النجاسات. 3 - أنَّه لا يكفي لإزالة نجاسته والطهارة منها إلاَّ سبع غسلات. 4 - إذا ولغ في الإناء، فلا يكفي معالجة سؤره بالتطهير، بل لابدَّ من إراقته، ثمَّ غسل الإناء بعده سبعًا إحداهن بالتراب. 5 - قوله: "إذا ولغ" خرج به ما إذا كان ما تناوله بلسانه جامدًا؛ لأنَّ الواجب إلقاء ما أصابه الكلب بفمه، ولا يجب غسل الإناء إلاَّ مع الرطوبة. 6 - وجوب استعمال التراب مرَّةً واحدةً من الغسلات، والأفضل أنْ تكون مع الأوْلى؛ ليأتي الماء بعدها. 7 - تعيُّن التراب، فلا يجوز غيره من المزيلات والمطهرات؛ لأمور: (أ) يحصُلُ بالتراب من الإنقاء مالا يحصُلُ بغيره من المزيلات والمطهِّرات. (ب) ظهر في البحوث العلمية أنَّه يحصُلُ من التراب خاصَّةً إنقاءٌ لهذه النجاسة، لا يحصُلُ من غيره، وهذه إحدى المعجزات العلمية لهذه الشريعة المحمدية، التي لم ينطق صاحبها عن الهوى، إنْ هو إلاَّ وحيٌ يوحى. (ج) أنَّ التراب هو مورد النَّصِّ في الحديث؛ فالواجب التقيد بالنص، ولو قام غيره مقامه، لجاء نص يشمله، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم]. 8 - استعمال التراب يجوز بأنْ يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء، أو أنْ يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به المحل، أمَّا مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزىء. 9 - ثبت طبيًّا، واكتُشِفَ بالآلاتِ المكبِّرة والمجاهر الحديثة: أنَّ في لعاب الكلب

ميكروباتٍ وأمراضًا فتَّاكةً، لا يزيلها الماء وحده، ما لم يستعملْ معه التراب خاصَّة؛ فسبحان العليم الخبير!!. 10 - ظاهر الحديث: أنَّه عامٌّ في جميع الكلاب؛ وهو قول الجمهور. ولكن قال بعض العلماء: إنَّ الكلب المأذون فيه للصيد والحرث والماشية مستثنًى من هذا العموم؛ وذلك بناءً على قاعدة سماحة الشريعة ويسرها؛ فالمشقَّة تجلب التيسير. 11 - ألحق أصحابنا بالكلبِ الخنزيرَ في غلظ نجاسته، وحكم غسلها بغسل نجاسته؛ كما تغسل نجاسة الكلب، ولكن خالفهم أكثر العلماء؛ فلم يجعلوا حكم نجاسته كنجاسة الكلب، في الغسل سبعًا، والتتريب، اقتصارًا على مورد النص؛ لأنَّ العلَّة في غلظ نجاسة الكلب غير ظاهرة. قَال في شرح المهذَّب: لا يجب التسبيع من نجاسة الخنزير، وهو الرَّاجح من حيثُ الدليلُ، وهو المختار لأنَّ الأصل عدم الوجوب حتَّى يرد الشرع. 12 - اختلف العلماء في وجوب استعمال التراب: فذهب الحنفية والمالكية إلى أنْ الواجب الغسلات السبع، وأمَّا استعمال التراب معهن فليس بواجب، وذلك لاضطراب الرواية في الغسلة التي فيها التراب، ففي بعض الروايات أنَّها الأولى، وفي بعضها أنَّها الأخيرة، وفي بعضها لم يعين مكانها ففي إحداهنَّ؛ ومن أجل هذا الاضطراب سقط الاستدلال على وجوب التراب، والأصل عدمه، وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما وأكثر الظاهرية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن جرير وغيرهم إلى اشتراط التراب، فإنْ غسلت نجاسة الكلب بدونه فلا يطهر، وذلك للنصوص الصحيحة في ذلك. وأمَّا دعوى الاضطراب في الرِّواية فمردودة؛ فإنَّه إنَّما يُحكم بسقوط الرِّواية من أجل الاضطراب إذا تساوت الوجوه، أمَّا إذا ترجَّح بعض الوجوه على بعض -كما في هذا الحديث- فإنَّ الحكم يكون للرواية الرَّاجحة؛ كما هو مقرَّر

في علم الأصول، وهنا الرَّاجح رواية مسلم أنَّها "أولاهنَّ". * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل نجاسة الكلب خاصَّةٌ بفمه ولعابه، أو عامَّةٌ في جميع بدنه وأعضائه؟: ذهب الجمهور: إلى أنَّ نجاسته عامة لجميع بدنه، وأنَّ الغسل بهذه الصفة عامٌ أيضًا؛ وذلك منهم إلحاقًا لسائر بدنه بفمه. وذهب الإمام مالك وداود: إلى قصر الحكم على لسانه وفمه؛ وذلك أنَّهم يرون أنَّ الأمر بالغسل تعبُّديّ لا للنَّجاسة، والتعبُّدِيُّ يُقْصَرُ على النصِّ؛ فلا يتعدَّاه لعدم معرفة العلَّة. والقول الأوَّل هو الرَّاجح؛ لأمور: 1 - أنَّه يوجد في بدنه أجزاء هي أنجس وأقذر من فمه ولسانه. 2 - أنَّ الأصل في الأحكام التعليل؛ فيحمل على الأغلب. 3 - أنَّه ظهر الآن أنَّ نجاسة الكلب نجاسة ميكروبية؛ فلم تصبح ممَّا لا تعقل علَّته، وإنُّما أصبحت الحكمة ظاهرة. قال الشافعي: جميع أعضاء الكلب يده أو ذنبه أو رجله أو أي عضوٍ إذا وقع في الإناء، غسل سبع مرَّات، بعد إهراق ما فيه. قال الأستاذ طبارة في كتاب "روح الدِّين الإِسلامي": ومن حكم الإِسلام لوقاية الأبدان تقريرُهُ بنجاسة الكلب، وهذه معجزةٌ علمية للإسلام سبَقَ بها الطب الحديث؛ حيث أثْبَتَ أنَّ الكلاب تنقل كثيرًا من الأمراض إلى الإنسان؛ فإنَّ الكلاب تصاب بدودة شريطية، تتعدَّاها إلى الإنسان وتصيبه بأمراضٍ عُضالٍ، قد تصل إلى حدّ العدوان على حياته، وقد ثبت أنَّ جميع أجناس الكلاب لا تَسْلَمُ من الإصابة بهذه الديدان الشريطية، فيجب إبعادها عن كلِّ ما له صلةٌ من مأكل الإنسان أو مشربه. ***

9 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الهِرَّةِ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ, إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صححه البخاري، والعقيلي، والدَّارقطني، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال الدَّراقطني: رجاله ثقات معروفون. وقال الحاكم: هذا الحديث صحَّحه مالك، واحتج به في الموطَّأ. ومع ذلك: فإنَّ له شاهدًا بإسنادٍ صحيحٍ رواه مالك، ورواه عنه كل من أبي داود والنسائي، والترمذي، والدَّارمي (1/ 203)، وابن ماجه، والحاكم (1/ 263)، والبيهقي (1/ 246)، وأحمد (22074) كلهم عن مالك (44) عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، وصحَّحه النووي في المجموع ونقل عن البيهقي أنَّه قال: إسْنَادُه صحيحٌ. وللحديث طرقٌ أُخر. وقد أعلَّهُ ابن منده بأنَّ حميدة وكبشة مجهولتان، والجواب: أنَّ حميدة روى عنها ابنها يحيى، وهو ثقة عند ابن معين، وأمَّا كبشة: فقال الزبير بن بكار وأبو موسى وابن حبَّان: لها صحبة، وهذا في خصوص هذا الإسناد، وإلاَّ فقد ¬

_ (¬1) أبو داود (75)، الترمذي (92)، النسائي (68)، ابن ماجه (367)، ابن خزيمة (1/ 55).

جاء من طرق أُخر عن أبي قتادة. وبهذا يندفع إعلال ابن منده للحديث، ويصبح الحديث صحيحًا بتصحيح هؤلاء الأئمة له، والله أعلم. * مفردات الحديث: - الهِرَّة: بكسر الهاء وتشديد الرَّاء، آخره تاء مربوطة، هي الأنثى من القطط، جنسٌ من الفصيلة السِّنَّوْرية. - بنجس: بفتح الجيم، وفيها لغاتٌ: ضد الطاهر، وصف بالمصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث، وجمعه أنجاس. - إنَّما: "إنَّ" من أدوات التأكيد دخلت عليها "ما" فكفتها عن العمل، ولكن مجموع الحرفين أفاد الحصر. - الطَّوافين: جمع طوَّاف، وهو مَنْ يكثر الطواف والجولان، وهو الخادم. قال ابن الأثير: الطائف الذي يخدمك برفقٍ وعناية، شبَّهها بالخادم الذي يطوف على مخدومه ويدور حوله. وقد جُمِعَ جمع المذكَّر السَّالم مع أنَّه ليس بعاقل؛ وذلك تنزيلاً له منزلة من يعقل، حيث وصف بصفة الخادم. * ما يُؤْخذ من الحديث: 1 - أنَّ الهرَّة ليست بنجس؛ فلا ينجس ما لامسته أو ولغت فيه. 2 - العلَّة في ذلك أنَّها من الطوافين، وهم الخدم الذين يقومون بخدمة المخدوم، فهي مع النَّاس في منازلهم وعند أوانيهم وأمتعتهم، فلا يمكنهم التحرز منها. 3 - هذا الحديث وأمثاله من أدلَّة القاعدة الكلية الكبرى، وهي: "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فعموم البلوى بها جعل ما تلامسه الهرَّة طاهرًا وإنْ كان رطبًا. 4 - يقاس على الهرَّة كل ما شابهها من الحيوانات المحرَّمة، ولكنَّها أليفة تدعو الحاجة إلى استعمالها؛ كالبغل والحمار، أو لا يمكن التحرز منه؛ كالفأر.

5 - أنَّ فقهاء الحنابلة وغيرهم جعلوا كل ما كان بقدر خلقة الهِرَّة، أو أصغر منها من الحيوانات المحرَّمة، والطير المحرمة: في حكمها من حيثُ الطهارةُ، وجوازُ الملامسة والمباشرة؛ فطهارة هذه الحيوانات وأمثالها أمرٌ غير حل أكله بالذكاة، وإنَّما المراد طهارة البدن وما أصاب ولامس، ولكن الرَّاجح تقييده بما تعم به البلوى من الحيوانات المحرَّمة، سواءٌ كان كبير الخلقة أو صغيرها؛ لأنَّه مناط العلَّة بقوله: "إنَّها من الطوافين عليكم". 6 - قوله: "إنَّها ليست بنجس" دليلٌ على طهارة جميع أعضاء الهِرَّة وبدنها، وهو أصح من قول من قصر طهارتها على سؤرها وما تناولته بفمها، وجعل بقية أجزائها نجسة؛ فإنَّ هذا خلاف ما يفهم من الحديث، وخلاف ما يُفْهَمُ من التعليل، وهو قوله: "من الطوافين عليكم"؛ فالطَّوَّافُ من شأنه أنْ يباشر الأشياء بجميع بدنه وأعضائه. 7 - قال ابن عبد البر: في الحديث دليل على أنَّ ما أُبِيحَ لنا اتخاذه فسؤره طاهرٌ؛ لأنَّه من الطوافين علينا، ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا. 8 - مفهوم الحديث: يفيد مشروعية اجتناب الأشياء النجسة، وإذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ملامستها، فيجب التنزه منها؛ وذلك كالاستنجاء باليد اليسرى، وإزالة الأنجاس والأقذار بها.

10 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ, فَزَجَرَهُ النَّاسُ, فَنَهَاهُمْ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيْقَ عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - في المسجد: يعني مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد لغةً: مَفْعِل -بالكسر-: اسم مكان السجود، وبالفتح: مصدر ميمي، قال الصفتي: ويقال: مَسْيِدٌ، حكاه غير واحد. - أعرابي: بفتح الهمزة: بدوي؛ نسبة إلى الأعراب سكَّان البادية، وقد جاءت النسبة فيه إلى الجمع دون الواحد؛ لأنَّه لا واحد له من لفظه، فهو ممَّا يفرق بين جمعه وبين مفرده بياء النسب. - الطائفة: القطعة من الشيء، أي: ناحية المسجد. قال ابن فارس: الطاء والواو والفاء أصلٌ صحيحٌ يدل على دوران الشيء، ثمَّ يتوسَّعون فيقولون: أخذت طائفة من الثوب، أي قطعةً منه، وهذا على معنى المجاز. - فزجره النَّاس: يقال: زَجَرَهُ يَزْجُرُهُ زجرًا من باب قتل، فالزجر المنع؛ فالنَّاس أرادوا منعه من البول في المسجد. - بوله: البول: هو السائل الذي تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتَّى تدفعه، وقد تقدَّم. - بِذَنُوبٍ من ماء: بفتح الذَّال المعجمة: الدلو الملآنة ماء، ولا تسمَّى ذنوبًا إلاَّ ¬

_ (¬1) البخاري (219)، مسلم (285).

إذا كان فيها ماءٌ. - قضى بوله: "قضى" له عدَّة معانٍ جاءت كلها في القرآن الكريم، ومنها معنى "فرغ"؛ كقوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وكذلك هنا، أي: فرغ من بوله. - فأهريق عليه: أصله: "فأريق عليه" ثمَّ أُبْدِلَتِ الهمزة هاء، فصار "فَهُرِيقَ"، ثمَّ زيدت همزة فصار "فأهريق"، وهو بسكون الهاء مبنيٌّ للمجهول، وقد تقدَّم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ البول نجس، ويجب تطهير المحل الذي أصابه من بدنٍ أو ثوبٍ أو إناءٍ أو أرضٍ أو غير ذلك. 2 - تطهّر الأرض من البول بغمرها بالماء، ولا يشترط نقل التراب من المكان قبل الغسل ولا بعده، ومثل البول بقية النجاسات بشرط عدم وجود شيء من أجزاء النجاسة ذات الجرم. 3 - احترام المساجد وتطهيرها، وإبعاد الأقذار والأنجاس عنها؛ فقد جاء في رواية الجماعة إلاَّ البخاري: قال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول والقذر، وإنَّما هى لذكر الله وقراءة القرآن". 4 - سماحة خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أرشد الأعرابيَّ برفقٍ ولينٍ بعد ما بال، ممَّا جعله يخصه بالدعاء فيقول: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"؛ كما جاء في صحيح البخاري (6010). 5 - بُعْدُ نظره -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفتُهُ طبائعَ النَّاس، وحُسْنُ سيرته معهم، حتى أخذ حبه -صلى الله عليه وسلم- بمجامع قلوبهم؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}. 6 - عند تزاحم المفاسد يرتكب أخفها؛ فقد تركه -صلى الله عليه وسلم- حتَّى أكمل بوله؛ لأجل ما يترتب من الأضرار على قطع بوله من تلويثه بدنه وثيابه وانتشار بوله في مواضع أُخَرَ من المسجد، وما يحدث من ضرر في بدنه، خاصَّة المسالك البولية.

7 - أنَّ البعد عن النَّاس والمدن يسبِّب الجفاء والجهل. 8 - الرفق بتعليم الجاهل وعدم التعنيف عليه. 9 - أنَّ ما يترتب على الأحكام الشرعية من إثمٍ أو عقوبةٍ في الحياة، إنَّما يكون في حق العالِمِ بالحكم، أمَّا الجاهل: فلا ملامة عليه، ولكن يُعَلَّم ليلتزم. 10 - في الحديث حثٌّ على المبادرة إلى إنكار المنكر عند القدرة على ذلك؛ فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينه الصحابة عنه، وإنَّما نهاهم عن العنف على الأعرابي.

11 - وَعَن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ, فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ, وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ والطِّحَالُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ مَاجَهْ, وَفِيهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوفًا. وأمَّا المرفوع ففيه ضعفٌ؛ لأنَّه من رواية عبد الرحمن وأخويه أبناء زيد بن أسلم، عن أبيهم، عن ابن عمر، وقد ضعفهم ابن معين. قال أبو زرعة وأبو حاتم: إنَّه موقوف، وصححه موقوفًا كل من الدَّارقطني (4/ 271) والحاكم، والبيهقيُّ (1/ 254)، وابن القيم. وقال ابن حجر: هي في حكم المرفوع؛ لأنَّ قول الصحابي: "أُحِلَّ لنا كذا" و"حُرِّم علينا كذا"، مثل قوله: "أمرنا بكذا" و"نهينا عن كذا"، فيحصل الاستدلال بهذه الرِّواية؛ لأنَّها في معنى المرفوع. * مفردات الحديث: - ميتتان: مفردها ميتة بالتخفيف، وأمَّا بالتشديد: فهي التي لم يلحقها ذكاة ممّا مات حتف أنفه، أَو ذُكِّيَ ذكاة غير شرعية. وقال ابن دقيق: الميتة بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد في موارد الاستعمال. - دمان: مفرده دم، وهو غير الدم السَّائل الذي يتدفق من القلب إلى جميع أعضاء الجسم عن طريق الشرايين، ويعود إلى القلب بواسطة الأوردة، ولونه أصفر لولا وجود الكريات الحمراء فيه، فهو نجس محرَّم، وإنَّما المراد به هنا ¬

_ (¬1) أحمد (5690)، ابن ماجه (3220).

نفس الكبد والطحال. - أمَّا: حرف تفصيل متضمن معنى الشرط، جعله سيبويه بمعنى: "مهما يك من شيء"، ويجب اقتران جوابه بالفاء. - الكبد: مؤنثة، وقد تُذَكَّر: عضو في الجانب الأيمن من البطن تحت الحجاب الحاجز، له وظائف عدَّة أظهرها إفراز الصفراء، وهو مخزن هام للدَّم يتزوده من طريقي الشريان والوريد البابِيِّ، ويغادر الدم الكبد إلى الوريد الأجوف بنسب منظَّمة، بحكمة الله تعالى وقدرته، فهذا الدم الموجود في الكبد مستثنًى من الدم المحرَّم، فهو حلال طاهر. - الطحال: بزنة كتاب، جمعه: طُحُلٌ وأطحلة، هو عضوٌ يقع بين المعدة والحجاب الحاجز في يسار البطن، وظيفته تكوين الدم، وإتلاف القديم من كريَّاته. فهذان الدمان طاهران مباحان، وسيأتي بحثه في فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم الدم المسفوح؛ أخذًا من إباحة الدمين المذكورين في الحديث؛ فاستثناء حل بعض الشيء دليلٌ على حرمة الباقي، وله أدلَّةٌ أخرى معروفة. 2 - تحريم الميتة، وهي ما ماتت حتف أنفها، أو ذكيت تذكية غير مشروعة. 3 - أنَّ الكبد والطِّحال حلالان وطاهران. 4 - أنَّ ميتة الجراد والحوت طاهرة وحلال. ومعنى ميتة الجراد: هو أنْ يموت بغير صنع آدمي في إماتته، وإنَّما يموت حتف أنفه بأي سببٍ من أسباب الموت، من بردٍ أو غرقٍ أو غير ذلك، فإنْ مات بصنع آدمي، فهو ما جاءت النصوص بحله، وأجمعت عليه الأمة. أمَّا ما مات بشيء من المبيدات السامة، فهذا يحرم؛ لما فيه من السم القاتل المحرَّم، وكذلك ميتة الحوت: هو أن توجد ميتة؛ إما بسبب جزر

المياه عنه، أو نضوب الأنهار، أو بسب قذف الأمواج له، أو أصابته آفة سماوية. والقصد: أنه إذا وجدت ميتة بأي وسيلة من وسائل الموت، فهي حلالٌ طاهرةٌ. أمَّا ما مات بسبب ما يسمَّى بتلوث البحار بمواد سامَّة أو نفايات قاتلة، فهذا يحرم لا لذاته، وإنَّما لما تسمَّم به من مَوادَّ مضرةٍ أو قاتلة. 5 - الحديث دليل على أنَّ السمك والجراد إذا ماتا في ماءٍ، فإنَّه لا يَنْجُسُ قليلاً كان الماء أو كثيرًا، ولو تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنَّه لم يتغير بنجاسة، وإنَّما تغير بشيءٍ طاهرٍ، وهذا وجه سياق الحديث في باب المياه. ***

12 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ, ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ, فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً, وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ, وَزَادَ: "وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ" (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة أبي داود جاءت بإسنادٍ حسن. * مفردات الحديث: الذباب: بضم الذال المعجمة، اسمٌ يطلق على كثيرٍ من الحشرات المجنَّحة، ومنها الذبابة المنزلية ذات الأجنحة الشفافة صاحبة الأرجل المغطَّاة بالشعر، التي تنتهي بوسائل ماصَّة، تمكِّنها من حمل الجراثيم والقاذورات التي تهبط عليها. قال ابن بطال: سُمِّي ذبابًا؛ لأنَّه كلَّما ذُبَّ لاستقذاره، آب. - الشراب: ما شرب من أي نوع من السوائل، جمعه أشربة. - فليغمسه: في الشراب، ثمَّ لينزعه منه، يقال: انغمس في الماء: إذا غاب كله فيه. - ثمَّ لينزعه: أي: ليجذبه ويقلعه من إناء الشراب. - جناحيه: الجناح: هو ما يطير به الطائر ونحوه، وهما جناحان، جمعه أجنحة وأجنُحُ. - الداء: هو المرض ظاهرًا أو باطنًا، يقولون: داءَ الرجلَ داءٌ، أي: نزل به داءٌ، جمعه أدواء، والمراد هنا: وجود سبب الدَّاء في أحد جناحي الذبابة. - شفاء: البرء من المرض، والمراد هنا: وجود سبب الشفاء في أحد جناحي الذباب. ¬

_ (¬1) البخاري (5782)، أبو داود (3844).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - طهارة الذباب في حال حياته ومماته، وأنَّه لا ينجس ما وقع فيه من سائل أو جامد. 2 - استحباب غمسه كله فيما وقع فيه من سائل، ثمَّ نزعه وإخراجه، والانتفاع بما وقع فيه فهو باقٍ على طهارته وماليته. وإنْ كان ما وقع فيه جامدًا، ألقاه وما حوله؛ لعدم سريان مضرته في بقية أجزاء الجامد. 3 - أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الجناح الآخر شفاء، فإذا وقع في الشراب، رفع الجناحَ الذي فيه الشفاء، وغمس في الشراب الجناحَ الذي فيه الداء؛ ليحافظ على السِّلاح الذي أودعه الله بجناحه من العطب، فيبقى ذخيرة له في حياته عند حاجته إليه، فكان من حكمة الله تعالى أنْ أمر أنْ يغمس جناحه الذي فيه الشفاء حتى يُقابَلَ داؤُهُ بدوائه، فيكون مضادًّا له وتزول مضرته. أمَّا إراقته: ففيها إضاعة مال وإفساد، والشرع ليس لعصرٍ من العصور أو شعب من الشعوب؛ فقد يكون لهذا الشراب قيمته الكبيرة في زمنٍ من الأزمنة، ومكان من الأمكنة، وشعبٍ من الشعوب. 4 - في الحديث إعجاز علمي؛ فقد جاء العلم الحديث بمبتكرات واكتشافات؛ فأثبتت وجود حقيقة علمية في وجود داء ضار في أحد جناحي الذباب، بينما أثبت وجود دواء مضاد له في الجناح الآخر، ولله في شرعه أسرار!!. 5 - قاس العلماء على طهارة الذباب كل ما ليس له نَفْسٌ سائلةٌ من الحشرات، فحكموا بطهارتها، وأنَّها لا تنجس ما سقطت فيه من أطعمة أو أشربة، قليلة كانت تلك الأطعمة أو الأشربة أو كثيرة؛ ذلك أنَّ سبب التنجُّس هو الدم المحتقن في الحيوان بعد موته، وهذا السبب غير موجود فيما ليس له دم سائل؛ كالنحلة، والزنبور، والبعوضة، وأمثال ذلك.

بحثٌ فيه ردٌّ لمطاعن الزنادقة في هذا الحديث: طعن بعض الزنادقة في هذا الحديث، بل تعدَّاه الطعن إلى الطعن في أبي هريرة -رضي الله عنه- ومن هؤلاء "محمود أبو ريَّة" في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنَّة المحمدية"، وردَّ عليه الشيخ العلَّامة: عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"، وقال: وقع إليَّ كتاب جمعه أبو رية، فطالعته وتدبرته، فوجدته جمعًا وترتيبًا وتكميلاً للمطاعن في السنة النبويَّة، والجواب عن الطعن في هذا الحديث نلخِّصها في الفقرات التالية: أولًا: الحديث الذي معنا من الأحاديث التي انتقاها واختارها الإمام البخاري لصحتها ووضعها في صحيحه، وحسبك بهذا الإمام الجليل وبكتابه الذي أجمعَتِ الأمَّةُ على قبوله فتلقته بالقبول والرضا، والاعتمادِ والعملِ بما فيه. ثانيًا: حديث الذباب لم ينفردْ بروايته أبو هريرة، وإنَّما رواه أيضًا أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك؛ كما جاء ذلك في مسند الإمام أحمد (3/ 24). ثالثًا: من هو الذي يتطاول حتَّى ينال من طرف صحابي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتَّى يصل إلى أحفظهم لأحاديث رسوله، وأكثرهم لها نقلاً، الذي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحفظ وبطء النسيان، والذي فرَّغ نفسه لحفظ الحديث؛ فلا زراعةَ تشغله، ولا تجارةَ تلهيه، وإنَّما ليله ونهاره يتابع ما يلفظ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحكمة، ثُمَّ يَسْهَرُ عليها ليله لحفظها، ويثبِّتها في قلبه. رابعًا: قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي: علماء الطبيعة يعترفون بأنَّهم لم يحيطوا بكلِّ شيءٍ علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأي إيمان ينفي أبو رية وأضرابُهُ أنْ يكون الله تعالى أطلع رسوله -صلى الله عليه وسلم- على أمرٍ لم يصل إليه علم الطبيعة بعد، هذا وخالق الطبيعة ومدبِّرها هو واضعُ الشريعة. خامسًا: أثبت الأطباء الحديثون أنَّ في أحد جناحي الذباب داءً، وفي الآخر شفاءً، وبهذا -والحمد لله- وضح الحقُّ؛ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء].

13 - وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتٌ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ, وَاللَّفْظُ لَهُ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد روي من أربع طرق عن أربعة من الصحابة، عن أبي سعيد، وأبي واقدٍ الليثي، وابن عمر، وتميم الدَّاري، وحديث أبي واقد هذا رواه أيضًا أحمد (21396) والحاكم (4/ 137) وصححه. قال الشوكاني: رواه الحاكم عن أبي سعيد مرفوعًا، قال الدَّارقطني: والمرسل أصح. وأمَّا حديث ابن عمر: فأخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عاصم بن عمر وهو ضعيف. وأمَّا حديث تميم: فقد رواه ابن ماجه والطبراني، وإسناده ضعيف. * مفردات الحديث: - ما قطع: "ما" موصولة، والفعل بعدها مبني للمجهول. - البهيمة: كل ذات أربع قوائم، من دواب البر والبحر ما عدا السباع، جمعها بهائم. - وهي حية: الواو للحال، أي: والحال أنَّ هذه البهيمة في حال الحياة. - ميْت: بإسكان الياء؛ لأنَّه قد لحقها الموت حقيقة. ¬

_ (¬1) الترمذي (1480)، أبو داود (2858).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - إنَّ ما أُبِينَ من بهيمة في حال حياتها، فهو كَمَيْيَتِها طهارةً أو نجاسة، حلاًّ أو حرمة، فإنْ قطع من بهيمة الأنعام ونحوها مع بقاء حياتها، فهو نجس حرام الأكل، أمَّا لو أُبِينَ من سمكة وبقيت حية، فما أبين فهو طاهرٌ مباح. 2 - قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وهذا متفق عليه بين العلماء. 3 - ما يستثنى من ذلك: فأرة المسك التي تقطع وتُبَانُ من غزال المسك، وهي باقية حية، فهي طاهرة بالسنَّة والإجماع؛ لأنَّ ما أُبين منها بمنزلة البيض والولد والشعر ونحوها. ويستثنى من ذلك أيضًا: "الطريدة"، وهو الصيد يقع بين القوم ولا يقدرون على ذكاته، فيقطع هذا منه بسيفه قطعة، ويقطع الآخر قطعة حتَّى يؤتى عليه فيموت. ومثله النادُّ من الإبل ونحوها إذا توحَّشَتْ ولم يُقْدَرْ على تذكيتها؛ فقد كان الصحابة يفعلون هذا في مغازيهم؛ فقد جاء في البخاري من حديث رافع ابن خديج قال: كُنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذي الحليفة، فَنَدَّ بعير، فطلبه الصحابة فأعياهم، فأهوى إليه رجلٌ بسهم فحبسه الله تعالى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ندَّ عليكم، فاصنعوا به هكذا". * فائدة: قال في حياة الحيوان والموسوعة العربية ما خلاصته: غزال المسك: لونه أسود، له نابان أبيضان بارزان، تفرز غدة منه في سرته دمًا، في أوقاتٍ معلومة من السنة فيمرض منه، فإذا تكامل، سقط جلده الذي هو وعاؤه، فيكون منه أحسن العطور؛ وقد قال المتنبي يمدح سيف الدولة: فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

باب الآنية

باب الآنية مقدمة الآنية: جمع إناء على أفعلة؛ مثل كساء وأكسية. أصله: (أأنية) بهمزتين، قُلِبَت الثانية ألفًا. وجمع الآنية: أوانٍ، وهي الأوعية لغةً وعرفًا. ومناسبة ذكرها هنا: أنَّه لمَّا كانت الطهارة بالماء، وهو سَيَّال لابد له من وعاء، ناسب بيان أحكام الآنية بعده. والأواني تكون من الحديد والنحاس والصُّفْر والخزف والخشب والجلود، ومن أي شيءٍ صلح لجعله إناء، ولو كان ثمينًا؛ كالجواهر والزمرد. والأصل في الأواني: الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. فهذا أصلٌ كبيرٌ يفيد أنَّ ما في هذه الحياة من العادات والمعاملات والصنائع والمخترعات، وما يجري استعماله من الملابس والفرش والأواني وغير ذلك، الأصلُ فيها الإباحةُ المطلقةُ، وَمَنْ حرَّم شيئًا منها لم يحرِّمه الله، فهو مبتدع. فهنا الأواني لا يحرمُ منها إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله، وهي أواني الذهب والفضة؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. ***

14 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تشربوا ولا تأكلوا: "لا" ناهية في الفعلين فجزمتهما، والنَّهي عند الأصوليين: قولٌ يتضمن طلب الكف بصيغة مخصوصة، هي المضارع المقرون بـ"لا" النَّاهية. - الذهب: عنصر فلزي أصفر اللون، جمعه أذهاب وذهوب، وهو جوهرٌ نفيس يستخدم لِسَكِّ النُّقود. - الفضة: عنصر أبيض قابل للسحب والطرق والصقل، من أكثر المواد توصيلاً للحرارة والكهرباء، وهو من الجواهر النفيسة التي تستخدم لسكِّ النقود؛ كما تستعمل أملاحها في التصوير، جمعه فضض وفِضَاض. - صحافهما: بكسر الصاد: جمع صَحْفَة، وهي: إناء من آنية الطعام. - فإنَّها لهم في الدنيا: ليس هذا تعليلاً، وإنَّما بيان الواقع منهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما. 2 - النَّهي يقتضي التحريم والمنع. 3 - أنَّ الحكم عامٌّ في حقِّ الرِّجال والنِّساء. 4 - النَّهي عن استعمالهما في الأكل والشرب يعم استعمالهما لأي منفعة، إلاَّ ما أذن فيه، ممَّا سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى. 5 - إذا كان استعمالهما حرامًا -وهو مظنَّة الحاجة والابتذال- فاتخاذهما أواني ¬

_ (¬1) البخاري (5426)، مسلم (2067).

زينة وتحفًا مثله في التحريم وأولى. 6 - ليس في الحديث إباحة استعمال أواني الذهب والفضة للكفَّار في الدنيا، وإنَّما المقصود بيان حالهم وما هم عليه؛ وإلاَّ فإنهم مخاطَبون ومعذَّبون على أصول الشريعة وفروعها، وعلى أوامرها ونواهيها. أمَّا المسلمون المتقون الله تعالى في اجتنابها: فإنَّهم يتمتعون باستعمالها في الآخرة؛ جزاءً لهم على تركها في الدنيا، ابتغاء ثواب الله تعالى. 7 - النَّهي والتحريم عن استعمال أواني الذهب والفضة واتخاذها عامٌّ، سواءٌ كانت ذهبًا خالصًا أو فضَّةً خالصة، أو مموَّهًا أو مضبَّبًا بهما، أو غير ذلك من أنواع التجميل والتَّحلية؛ فالنَّهي والتحريم عامَّان. قال النووي: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيهما، وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع. 8 - قوله: "فإنَّها لهم في الدنيا" معناه: أنَّه من استعملها، فقد شابههم في استحلالهم إيَّاها، ومن تشبَّه بقومٍ، فهو منهم، وأعظم ما يكون التشبه في الاعتقاد والتحليل والتحريم. 9 - الأصل في الأمر بمخالفة المشركين هو الوجوب، ما لم يَدُلَّ دليل على جواز ترك المخالفة: فمثلاً ما جاء في البخاري (5892)، ومسلم (259) من حديث ابن عمر؛ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خالفوا المشركين وفِّروا الِّلحى"، لا نعلم وجود دليل صارف عن وجوب إعفاء اللحية، فيبقى الإعفاء واجبًا، وحلقها محرَّم؛ لأنَّ فيها تشبُّهًا بالمشركين. أمَّا النوع الثاني: فقد روى أبو داود (652) بإسنادٍ صحيح من حديث شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خالفوا اليهود؛ فإنَّهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خفافهم"؛ فقد جاء في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حافيًا ومنتعلاً".

15 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُجرجر: بضم المثناة التحتية، وجيم مفتوحة، فراء، فجيم مكسورة، والجرجرة: صوت جرع الإنسان للماء، وجرجر فلان الماء: جرعه جرعًا متواترًا له صوت؛ شبه نزول العذاب في بطن الشارب في إناء الفضة بهذا الصوت المخيف. - نار: بالرفع والنصب، فمن رفع جعل الفعل للنَّار، أي: تنصب نار جهنَّم في جوفه، ومن نصب جعل الفعل للشَّارب، أي: يصب الشارب نار جهنَّم، والنصب أجود. - جهنَّم: من الجهومة وهي الغلظة، وجهنَّم: عَلَمٌ على طبقة من طبقات النَّار، وسُمِّيت جهنَّمَ؛ لِبُعْدِ قَعْرِهَا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم الشرب في إناء الفضة، ومثله الذهب وأولى، والنصوص الشرعية كثيرًا ما تذكر شيئًا وتترك مثله وما هو أولى منه، من باب الاكتفاء؛ كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] يعني: والبرد؛ فإنَّه أولى. 2 - الوعيد الشديد على الشَّارب في إناء الفضة ومثله الذهب؛ فإنَّ عذابه غليظ شديد؛ فإنَّه بارتكاب هذه المعصية سَيُسْمَعُ لوقوع عذاب جهنَّم في جوفه صوتٌ مرعب منكر. ¬

_ (¬1) البخاري (5634)، مسلم (2065).

3 - في الحديث إثبات الجزاء في الآخرة، وإثبات عذاب النَّار يوم القيامة؛ وهو أمرٌ واجب الاعتقاد معلومٌ من الدِّين بالضرورة. 4 - وفيه أنَّ الجزاء يكون موافقًا للعمل؛ فهذا الذي أتبع نفسه هواها، وتمتَّع بالشرب بإناء الفضة، سيتجرَّع عذاب جهنَّم، مع تلك المواضع من بدنه التي تمتعت واستلذت بالمعصية في الدُّنيا؛ وهكذا فالجزاء من جنس العمل. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في العلَّة التي من أجلها حرِّم استعمال الذهب والفضَّة: فقال بعضهم: هي الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء. وقال بعضهم: هو هدفٌ تربويٌّ أخلاقيٌّ؛ فإنَّ الإِسلام يصون المسلم عن الانحلال والترف المُفْسِدَيْنِ. وقال بعضهم: العلَّة هي كونهما نقدين؛ فالذهب والفضة هما الرصيد العالمي للنَّقد، الذي تقوم به الأشياء، وتحصل به المطالب والضرورات والحاجات؛ فاتخاذهما واستعمالهما أواني أو تحفًا ونحو ذلك، هو شَلٌّ للحركة التجارية، وتعطيلٌ لقيم الحاجات والضرورات، بدون وجود مصلحة راجحة. وقال ابن القيم: العلَّة في استعمالهما هي ما يكسب القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية، منافاةً ظاهرة. ولهذا علَّل -صلى الله عليه وسلم- بأنَّها للكفَّار في الدنيا؛ إذ ليس لهم نصيبٌ من العبودية التي ينالون بها الآخرة. والله تعالى أعلم، فله في شرعه أسرارٌ وحِكَمٌ، ولا مانع أنَّ كلَّ هذه العلل مقصودة!!. ***

16 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَ الْأَرْبَعَةِ: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذا: شرطية غير جازمة، و"دبغ" فعل الشرط، و"الفاء" رابطة بين فعل الشرط وجوابه وهو "طهر"، و"قد" للتحقيق. - دُبغَ: فعل ماضٍ مبني للمجهول، ويدبغ الجلد بمادَّة خاصَّة؛ ليلين وليزول ما به من رطوبة ونتن. - الإهاب: بزنة كتاب: هو جلد الحيوان قبل أنْ يُدْبَغ، وجمعه: أُهُبٌ بضم الهاء وسكونها. - طهر: بضم الهاء وفتحها، أي: صار طاهرًا. - أيُّما: "أي" اسم جازم يجزم فعلين، الأوَّل فعل الشرط، وهو هنا "دُبغ"، والثاني جوابه وجزاؤه، وهو هنا "طهر"، و"ما": زائدة، و"أيما": من صيغ العموم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (366)، أبو داود (4123)، الترمذي (728)، النسائي (4252)، ابن ماجه (3609).

17 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا" صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الحافظ في التلخيص: أخرجه أحمد (24688)، وأبو داود (4125)، والنسائي (7/ 173)، والبيهقي (1/ 17) وابن حبَّان (2/ 291) من حديث الجون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق، وإسناده صحيح، وفي الباب عن ابن عبَّاس مرفوعًا بلفظ: "دِبَاغ الإِهَابِ طُهُوره" رواه الدَّارقطني، وأصله في مسلم. وقد أخرجه بسندٍ صحيح عن عائشة كلٌّ من النسائي (4244) والطحاوي (1/ 470) وابن حبان (4/ 105)، وذكر كل من الكتاني والمناوي أنَّه حديثٌ متواتر، وأنَّه جاء عن أربعة عشر من الصحابة، وساق الدَّارقطني أسانيده بألفاظٍ مختلفة، ثمَّ قال: أسانيدها صحاح. وقد صحَّحه الإمام النووي. * مفردات الحديث: - المُحَبِّق: بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، ثمَّ باء مكسورة مشدَّدة، آخره قاف، هذلي من قبيلة هذيل. - جلود: جمع جلد، والجلد: غشاء الجسم. - الميتة: بالتخفيف: الحيوان الذي مات حتف أنفه، أو مات على هيئة غير مشروعة. ... ¬

_ (¬1) ابن حبان (2/ 291).

18 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ: "لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا! فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: "يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بشواهده. قال الحافظ في التلخيص: رواه مالك (2/ 498)، وأبو داود (4126)، والنسائي (4248)، وابن حبَّان (2/ 291)، والدَّارقطني (1/ 45)، من حديث العالية بنت سُبيع، عن ميمونة، وصححه ابن السكن، والحاكم، ولكن في إسناده عبد الله بن مالك بن حذافة، وأمه العالية، وفيه جهالة، وأخرجه الدَّارقطني من طريق يحيى بن أيوب، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عبَّاس، ولكن الحديث حسن بشواهده. * مفردات الحديث: - شاة: الواحدة من الضأن والمعز، يُقَال للذكر والأُنْثَى، والجمع شاء وشياه. - القَرَظ: بفتحتين، حب شجر السلم، وشجره من شجر العضاه ذو سوق، أمثال شجر الجوز، وهي من الفصيلة القرنية، يدبغ بحبه الأديم، وكان الدباغ معروفًا بالقرظ عند العرب. * ما يؤْخَذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - حديث ابن عبَّاس عمومه يدل على أنَّ أي إهاب دُبغ فقد طهر، من حيوان طاهر في الحياة أو غير طاهر. ¬

_ (¬1) أبو داود (4126)، النسائي (4248).

2 - حديث سلمة بن المحبق يدل على أنَّ الدباغ يطهر جلود الميتة. 3 - حديث ميمونة يدل على أنَّ الدباغ يطهر جلد الشاة الميتة، ومثل الشاة غيرها من الحيوانات الحلال أكلها. 4 - ما دام أنَّ الجلد قد طهر بعد الدبغ، فإنَّه يجوز استعماله في اليابسات والمائعات، ويجوز لبسه وافتراشه وغير ذلك من الاستعمالات. كما أنَّه ذو قيمة مالية، فيجوز التصرف فيه بأنواع التصرفات من بيعٍ وغيره. 5 - يجوز الدباغ بكل شيءٍ ينشف فضلات الجلد، ويطيبه ويزيل عنه النتن والفساد، سواءٌ كان من القرظ، أو قشور الرُّمَّان، أو غيرهما من المنقيات الطاهرات. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في طهارة جلد الميتة بعد الدبغ، إذا كانت الميتة طاهرة في الحياة: فذهب الإمام أحمد -في المشهور من مذهبه-: إلى أنَّ جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولو كان الحيوان طاهرًا في الحياة، وإنَّما يجوز استعماله في اليابسات، وهو المروي عن عمر، وابنه، وعمران بن حصين، وعائشة، رضي الله عنهم. والدليل على ذلك: ما رواه أحمد والأربعة عن عبد الله بن عُكَيْم الجهني؛ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى قبيلة جهينة: "رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي، فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصب"؛ قال الإمام أحمد: إسناده جيد. وهذا الحديث ناسخٌ لما قبله من الأحاديث التي جاءت بطهارته. وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه يطهر من الجلود ما كان حيوانه طاهرًا في حال الحياة، ولو كان ميتة. قال في المغني: روي ذلك عن ابن عبَّاس، وابن مسعود، وعطاء، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والليث، والثوري،

وابن المبارك، وإسحاق، وهو رواية عن الإمام أحمد. واختار هذه الرواية عن أحمد جماعةٌ من أصحابه، منهم الموفَّق، والشارح، وتقي الدِّين، وصاحب الفائق، ومن علمائنا المعاصرين: الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز، ودليلهم أحاديث الباب المتقدِّمة وغيرها. وقد وَرَد في طهارة الجلد بالدباغ خمسة عشر حديثًا، منها أحاديث الباب. وأجاب من يرون طهارته عن حديث عبد الله بن عُكَيْم بأنَّه مضطربٌ في سنده وفي متنه، وأَنَّه حديث مرسل؛ ذلك أنَّ عبد الله بن عكيم لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثل هذا الحديث لا يقوى على النسخ؛ لأنَّ أحاديث التطهير بالدباغ أصح منه، فبعضها متفق عليه. أما جواب الشيخ تقي الدِّين، فإنَّه يقول: حديث عبد الله بن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال الجلد المدبوغ، فيمكن أنْ يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدبغ، وهذا ما تثبته النصوص المتأخرة، وأمَّا بعد الدبغ، فلم يحرم ذلك قط. * فائدة: عموم حديث ابن عبَّاس (16) يدل على أنَّ أي جلد إذا نقِّي بالدباغ، فقد طهر، ولو كان من حيوان محرم الأكل كالذئب؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشَّافعي وغيرهما، والرَّاجح خلافه.

19 - وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: لاَ تَأْكُلُوا فِيهَا، إِلاَّ أَنْ لاَ تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثعلبة: بفتح المثلثة، بعدها عين مهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فموحدة. - الخشني: بضم الخاء المعجمة، فشين معجمة مفتوحة، فنون، نسبة إلى خُشَيْن بن النمر، من قضاعة. - إِنَّا: إنَّ، بكسر الهمزة وتشديد النون، حرف توكيد ينصب الاسم، وهو هنا ضمير المتكلمين. - قوم: الجماعة من النَّاس، وخُصَّ بجماعة الرِّجال لقيامهم بالعظائم والمهمات، والجمع أقوام. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}. وقال زهير: وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ - أهل كتاب: صفة لقوم، والكتاب هو التوراة أو الإنجيل، وأهله هم اليهود أو النصارى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن الأكل في أواني أهل الكتاب: وهم "اليهود والنَّصارى"؛ لأنَّهم لا يتحاشون النجاسات، وربما وضعوا فيها خمرًا، أو لحم خنزير؛ فالاحتياط ¬

_ (¬1) البخاري (5478)، مسلم (1930).

اجتناب أوانيهم. 2 - أواني المشركين وأَواني الكفَّار أَوْلَى بالمنع؛ ذلك أنَّ أهل الكتاب أقرب منهم إلى الحق، فلهم تعاليم سماوية، أمَّا بقية الكفَّار: فهم أبعد من الكتابيين عن تعاليم الأديان، فهم أقرب منهم إلى النجاسة. 3 - إذا احتاج المسلم إلى استعمال الآنية، ولم يجد إلاَّ آنية الكفار، فله استعمالها بعد غسلها؛ ليحصل له اليقين من طهارتها. 4 - إباحة تبادل المنافع والمصالح من الكفار؛ لأنَّ هذا ما هو إلاَّ مجرَّد معاملة، وأداء حقوق جيرة وقرابة ونحوها، ليس معها ميلٌ قلبي إليهم، ولا ركون إلى اعتقاداتهم. 5 - سماحة الشريعة ويسرها؛ ذلك أنَّ الواجب على الإنسان الابتعاد عن مواطن الريبة؛ لحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فإن احتاج الإنسان إلى ما لا يتحقق تحريمه، فلا حجر عليه ولا تضييق، فإنَّه يجوز استعمال ما نزِّه عن استعماله لأجل حاجته. 6 - في هذا الحديث دليلٌ على نجاسة الخمرة ففي رواية مسلم في صحيحه (1930): "إنَّا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدروهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنْ وجدتم غيرها، فكلوا واشربوا فيها، وإنْ لم تجدوا غيرها، فارحضوها -أي: اغسلوها- بالماء، وكلوا واشربوا". وقد استدل بهذا الحديث على نجاسة الخمر: الخَطَّابِيُّ في "معالم السنن" (4/ 257)، وابن دقيق العيد في كتابه "الإمام"، كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الرَّاية" (1/ 95)، وابن الهمام في "فتح القدير" (1/ 51)، وينظر: "فتح باب العناية" لِمُلَّا علي القاري بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ص (295).

20 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّؤُوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المزادة: بفتح الميم، بعدها زاي، ثمَّ ألف، ثمَّ قال مهملة، وهي الراوية التي يتزوَّدون بها الماء من الموارد، قال أبو عبيد: ولا تكون إلاَّ من جلدين، تزاد بجلدٍ ثالث بينهما لتتسع. - مشركة: المشرك شرعًا: هو من جعل لله شريكًا؛ فإنْ كان في أفعال الله تعالى، فهو شرك في الربوبية، وإن كان في أفعال العبد، فهو شركٌ في الألوهية والعبادة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز استعمال جلد الميتة بعد الدبغ حتَّى في المائعات، فوضوؤه -صلى الله عليه وسلم- من ماء المزادة إقرارٌ للاستعمال، ورضا به. 2 - أنَّ الماء الذي في جلد الميتة المدبوغ طهور؛ ذلك أنَّ ذبيحة المشرك ميتة محرَّمة نجسة، لكن طهَّر جلدها الدباغ الذي أذهب فضلاتها النجسة. 3 - الميتة: هي ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة، وإذا ذكَّاه مشرك، فقد قتل على هيئة غير مشروعة. 4 - أواني الكفَّار المجهول حالها طاهرة؛ لأنَّ الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك في نجاستها من استعمالهم لها. أمَّا نجاسة الكفَّار في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}؛ فهي نجاسة اعتقاد، وليست نجاسة حسية. ¬

_ (¬1) البخاري (344)، مسلم (682).

ولذا فلا يجب بجماع الكتابية إلاَّ ما يجب بجماع المسلمة، وهي كالمسلمة في قيامها بشؤون المنزل، من إعداد طعام وشراب، وغير ذلك. ***

21 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قَدَح: بفتحتين: إناءٌ يشرب به الماء ونحوه، جمعه أقداح، وأمَّا القِدْحُ بكسر فسكون: فالسهم قبل أنْ يراش ويركب نصله، وقدح الميسر أيضًا. - انكسر: انشق. - الشَّعْب: بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: لفظ مشترك بين معانٍ كثيرة، والمراد هنا: الصدع والشق. - سلسلة: بكسر السِّين: سلك من الحديد ونحوه أو قطعة منه، تصل بين طرفي الشّق، وبفتح السِّين: اتصال الشيء بالشيء، ومنه سلسلة الإناء، جمعه: سلاسل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ما دام أن الأصل في استعمال الذهب والفضة هو التحريم؛ كما جاء في النصين المتقدِّمين وأمثالهما، فإنَّ ما أُبيح منهما يتقيد بمورد النص. 2 - جواز إصلاح الإناء المنكسر بضبة يسيرة أو سلسلة لطيفة، عند الحاجة إلى إصلاح الإناء المنكسر. 3 - الحاجة هنا ليس معناها أنَّه لا يجد غيرها من الحديد والنحاس والصفر أو نحوها، وإنَّما معناها أنْ يتعلَّق بإصلاحه غرض من غير أغراض الزينة، وتجميل الإناء وتحسينه. ¬

_ (¬1) البخاري (3109).

* فائدة: يباح للنِّساء من حلي الذهب والفضَّة ما جرت عادتهنَّ بلبسه ولو كثر، ويباح للرجل خاتم من فضَّة لا من ذهب، ويباح تحلية السِّلاح وأدوات القتال بما جرت به العادة أيضًا، وكذا ما دعت إليه حاجة من رباط أسنان، واتخاذ أنف ونحو ذلك. وما عدا ما جاءت النصوص بإباحته، فإنَّه حرام لا يجوز: فلا يجوز للذكور كبارًا أو صغارًا لبس الذهب أو الفضَّة، ولا جعله سلاسل أو ساعات، أو أزارير أو رباط كبك، أو قلمًا أو مفتاحًا، أو أي نوع من أنواع الملابس، أو استعماله في أكل أو شرب أو غير ذلك، أو اتخاذ أواني الذهب أو الفضَّة تحفًا، أو غيره. أمَّا استعمال الفضَّة في الفنادق الرَّاقية والمطاعم الممتازة أدواتٍ للأكل، كجعلها صحونًا أو ملاعق وشوكًا ونحو ذلك، فلا شكَّ في تحريمه ومخالفته للنُّصوص النَّاهية عنه. وعلى ولاة الأمور والقادرين: إنكاره، ومنعهم من ذلك. ***

باب إزالة النجاسة وبيانها

باب إزالة النجاسة وبيانها مقدمة الإزالة: يقال: أزلت الشيء إزالة وزلته زيلاً، والإزالة التنحية. النجاسة: لغة: اسم مصدر، جمعها أنجاس، والنجس: هو المستقذر المستخبَث، ويشمل النجاسة العينية والحُكْمية. وعرفًا: تختص بالعينية. والنجاسة شرعًا: قذر مخصوص؛ كالبول، يمنع جنسه الصلاة ونحوها. وهذا الباب يذكر فيه أحكام النجاسة، وكيفية إزالتها، وتطهير محلها، وما يعفى عنه منها، وما يتعلَّق بذلك. واتفق العلماء على وجوب إزالتها، وأنَّه شرط لصحة الصلاة. قال الوزير: أجمعوا على أنَّ طهارة البدن من النجس شرط في صحة الصلاة للقادر عليها. والنجاسة قسمان: أحدهما: الحُكْمية، وهي الطارئة على محلٍّ طاهر؛ فهذه يكفي في تطهيرها إجراء الماء على جميع مواردها، بعد إزالة عينها عن المحل الطَّاهر. الثاني: العينيَّة: فهذه لا تطهر بحال. وعند الجمهور -ومنهم الحنابلة-: أن النَّجاسة إنَّما تزال بالماء دون غيره من المائعات.

ومذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد: أنَّها تزال بكلِّ مائعٍ طاهرٍ مزيل للعين والأثر؛ واختاره ابن عقيل، والشيخ تقي الدِّين. والنجاسة لها ثلاث صفات: طعمٌ، وريحٌ، ولون: فبقاء الطعم والريح بعد الغسل: دليل على بقاء عينها، وأنَّها لم تَزُلْ، أمَّا بقاء اللون بعد الغسل الجيد: فلا يضر؛ لأنه معفوٌّ عنه. وأثر النجاسة من الروائح الكريهة السَّامة تختلط بالهواء، وتدخل في البدن بواسطة مسامه، فتضر الجسم وتخل بالصحة؛ لأنَّ الهواء سيَّال مركَّبٌ لطيف، يدخل بما يحمل معه بسهولة في أضيق مسام الأجسام؛ ولذا عيَّن الشَّارع الحكيم الماء لإزالة النجاسات؛ لأنَّ الماء في حالته الطبيعية فيه رقَّة وسيلان، وقوَّة في إزالة المستقذرات، والله أعلم. قال العلماء: الأصل في كلِّ شيءٍ أنَّه طاهر؛ لأنَّ القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبداهة قاضية بأنَّه لا تكليف بالمحتمل، حتَّى يثبت ثبوتًا بنقل في ذلك، وليس مَنْ أثبَتَ الأحكامَ المنسوبة إلى الشرع؛ بدون دليل -بأقل إثمًا ممَّن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام؛ فالكل من التقوُّل على الله بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجَّة، ومن أصيب بالوسواس، فعلاجه أنْ يعلم يقينًا أنَّ الأصل في الأشياء الطهارة، وأنَّه لا يحكم بنجاسة شيءٍ حتَّى يعلم يقينًا بنجاسته. ***

22 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "سُئِلَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ? قَالَ: لاَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حسنٌ صَحِيْحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الخمر: ما أسكر من عصير العنب وغيره، وسُمِّيت خمرًا؛ لأنَّها تخامر العقل فتغطيه، وهي مؤنثة وقد تذكر، جمعه خمور. - خَلاًّ: بفتح الخاء وتشديد اللَّام، الخل: ما حَمُضَ من عصير العنب وغيره، جمعه خلول. - لا: حرف نفي، وتأتي على ثلاثة أوجه؛ منها: أنْ تكون جوابًا مناقضًا لنعم، وهذه تحذف الجمل بعدها كثيرًا، وهي المرادة هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الخمر محرمة؛ فعلاجها لتعود خلاًّ لا يجوز، ولو بنقلها من ظلٍّ إلى شمس أو عكسه، وهذا المفهوم من قوله: "تتخذ خلاًّ"، أمَّا عند الشَّافعية: فالأصح أنَّه يطهر بنقلها من الظلِّ إلى الشمس، وبالعكس؛ كما في شرح النووي على مسلم (13/ 152). 2 - إذا خللت، فإنَّها لا تباح بالتخليل، بل حرمتها باقية؛ ويؤيد هذا ما روى أبو داود (3675)، والترمذي (1294): "أنَّ الخمر لما حرمت، سأل أبو طلحة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خمر عنده لأيتام هل يخلِّلها؟ فأمره بإراقتها". 3 - أمَّا إذا تخللت بنفسها بدون تخليل، بأن انقلبت من كونها خمرًا إلى أنْ ¬

_ (¬1) مسلم (1983)، الترمذي (1295).

صارت خلاًّ، فإنَّها تباح؛ لأنَّ غليانها المطرب قد زال؛ فصارت مباحة، والقاعدة: "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا". 4 - الحديث يدل على نجاسة الخمر، ولقوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، وحكى أبو حامد الغزالي الإجماع على نجاستها، وقال ابن رشد: الخلاف شاذ. 5 - أمَّا الصنعاني فيقول في سبل السَّلام: الحق أنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وأنَّ التحريم لا يلزم النجاسة؛ فإنَّ الحشيشة محرَّمة طاهرة، وكل المخدرات والسموم القاتلات لا دليل على نجاستها. وأمَّا النجاسة: فيلازمها التحريم، فكل نجس محرم، ولا عكس؛ وذلك لأنَّ الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كلِّ حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم، فإنَّه يحرم لبس الحرير والذهب، وهما طاهران إجماعًا. وإذا عرفت هذا: فإنَّ تحريم الخمر الذي دلَّت عليه النصوص لا يلزم منه نجساتها، بل لابد من دليل آخر، وإلاَّ بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة، فمن ادَّعى خلافه، فالدليل عليه. أهـ. وتقدَّم كلام الغزالي وابن رشد حكاية الإجماع على نجاستها، وتقدَّم دليل نجاستها من السنَّة المطهرة في حديث رقم (19). * خلاف العلماء في طهارة النجاسة بالاستحالة: اختلف العلماء هل تطهير النجاسة بالاستحالة؟ ذلك بأنْ تنقلب من حالتها إلى حالة أخرى: ذهب أبو حنيفة وأهل الظاهر: إلى أنَّ النجاسة تطهير بالاستحالة؛ وهو رواية في مذهب الإمامين مالك وأحمد، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّها لا تطهير بالاستحالة؛ وهو مذهب الأئمة

الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد. ودليلهم: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل الجَلَّالة وألبانها؛ لأنَّ أكلها النجاسةُ. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: الصواب أنَّ ذلك طاهر، إذا لم يبق أثر النجاسة ولا طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ لأنَّ الله تعالى أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها، فإذا عادت العين، خلاًّ دخلت في الطيبات. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الاستحالة تطهير النجس. وهذا هو الصحيح وأدلَّة هذا القول واضحة. * خلاف العلماء: اتفق العلماء على أنَّ الماء الطهور يزيل النجاسة، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها: فذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنَّ النجاسة تطهَّر في أي موضعٍ كان، بأي طاهرٍ مزيل لعين النجاسة، سواءٌ كان مائعًا أو جامدًا. وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه لا يطهَّر المحل من النجاسة إلاَّ بالماء الطهور، إلاَّ في الاستجمار فقط. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط، فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها، أم أنَّ للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء؟ استدل أبو حنيفة بأحاديث وآثار في هذا الباب، منها: ما رواه أبو داود (386) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه، فإنَّ التراب له طهور". وبما رواه الترمذي في سننه (143) من حديث أم سلمة؛ أنَّها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي امرأةٌ أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

يطهِّرُهُ ما بعده"، وهناك أحاديث أخرى وآثار. وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا الحديث ممَّا رواه مالك فصح، وإنْ كان غيره لم يره صحيحًا. وسُئِلَ الإمامُ أحمد عن حديث أم سلمة، فقال: ليس هذا عندي على أنَّه أصابه "ذيلَ ثوبها" بولٌ، فمر بعدها على الأرض، فطهره؛ ولكنَّه يمر بالمكان فيقذره، فيمر بمكانٍ أطيب منه فيطهره. والرواية الأُخرى عن الإمام أحمد على هذا القول، واختاره ابن عقيل، والشيخ تقي الدِّين. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أن النجاسة إذا زالت بأي شيءٍ، فإنَّها تطهر، وكذلك إذا انتقلت صفاتها الخبيثة، وخلفتها الصفات الطيبة، فإنَّها تطهر بذلك كله؛ لأنَّ النجاسة تدور مع الخبث وجودًا وعدمًا. ***

23 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَا طَلْحَةَ, فَنَادَى: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خيبر: بفتح الخاء، وسكون الياء المثناة التحتية، بعدها باء موحدة، آخرها راء، بلدةٌ تقع شمال المدينة المنورة بمسافة نحو (160 كيلو متر)، وكان يسكنها طائفةٌ من اليهود، ففتحها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السَّابعة من الهجرة، والآن هي بلدة عامرة فيها الدوائر الحكومية، والمرافق العامة، وفيها بعض الآثار. - ينهيانكم: تثنية الضمير لله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. - لحوم: جمع لحم، واللحم من جسم الحيوان والطير: الجزء العضلي الرخو بين الجلد والعظم. - الحمر: بضمتين، جمع حمار، وهو حيوان داجن من الفصيلة الخيلية، يستخدم للحمل والركوب، والأُنثى: حمارة وأتان. - الأهلية: مؤنث الأهلي نسبة إلى الأهل ضد الوحش، والأهلي الأليف من الحيوان. - رجس: بكسر الرَّاء، وسكون الجيم، آخره مهملة، جمعه أرجاس، أي: قذر محرَّم، وأكثر ما يُقال في المستقذر طَبْعًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نجاسة الحمر الأهلية في لحمها ودمها، وبولها وروثها. 2 - أمَّا عرقها ولعابها وبدنها، ففيه خلاف سيأتي إنْ شاء الله. ¬

_ (¬1) البخاري (4198)، مسلم (1940).

3 - تحريم أكل لحومها وشرب لبنها؛ فإنَّها رجسٌ، والرِّجس هو القذر النَّجس. 4 - تقييده بالحمر الأهلية، دليلٌ على طهارة وإباحة الحمر الوحشية؛ ذلك أنَّها صيدٌ طاهرٌ حلال. 5 - التعليل بأنَّها رجس، دليل على أنَّ كلَّ عين نجسة، فهي محرَّمة؛ لما فيها من المضارِّ الصحية، ولأنَّه خبيثٌ مستقذر. 6 - قوله "ينهيانك" تثنية الضمير أحدهما يعود إلى الله تعالى، والآخر يعود إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء مثل هذا في عدَّه نصوص، منها: "أنْ يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما" رواه البخاري (16) ومسلم (43). أمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم- للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس الخطيب أنت" رواه مسلم (870)؛ فقد حملوا هذا على أنَّ الخُطَبَ ينبغي فيها البسط والإطناب؛ ليحصل التبليغ الكامل. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّ روث الحمار الأهلي والبغل، وبوله ودمه ولحمه: نجسة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحمار: "إنَّه رجس" وقال عن روثه: "إنَّه رجس". واختلفوا في بدنه وما يفرزه من عرق، وفي فمه وما يخرج منه من ريقٍ وسؤره، وأنفه وما يخرج منه من مخاط، هل هي نجسة أو طاهرة؟: فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه: إلى نجاستها، وتبعه على ذلك أصحابه؛ قال في المقنع والإنصاف: والبغل والحمار الأهلي نجسة، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال ابن الجوزي: هذا هو الصحيح من المذهب. وذهب الإمامان مالك والشَّافعي إلى أنَّهما طاهران؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه ومنهم الموفَّق؛ قال في المغني: والصحيح طهارة البغل والحمار، قال في الإنصاف: قلت: وهو الصحيح والأقوى دليلاً. واختارها بعض مشايخنا المعاصرين:

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ:" إنَّها طاهرة في الحياة، ولا ينجس منها إلاَّ البول والروث والدم. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح الذي لا ريب فيه أنَّ البغل والحمار طاهران في الحياة كالهِرِّ، فيكون ريقهما وعرقهما وشعرهما طاهرًا. واستدل الأولون على نجاستهما بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّها رجس"، والرجس هو النجس؛ فعموم الحديث يقتضي نجاسة كل شيءٍ منه، والأصل أنَّ كلَّ حيوان محرَّم فهو نجس خبيث، هو وجميع أجزائه. أمَّا الذين يرون طهارة بدنهما وريقهما ومخاطهما وعرقهما وشعورهما: فلهم على ذلك أدلةٌ، منها: أوَّلاً: أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه كانوا يركبونهما، ومع هذا لم يأمر بالتوقِّي من هذه الفضلات منهما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ثانيًا: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال عن الهرَّة: "إنَّها ليست بنجس؛ إنَّها من الطوافين عليكم"، وهذه العلَّة موجودة في الحمار والبغل وأكثر؛ فإنَّ ركوبهما واستعمالهما أكثر لصوقًا وأمس حاجةً من الهِرَّة، فإذا عفي عن الهرَّة لتطوفها، فهو في الحمار والبغل أولى. ثالثًا: القاعدة الشرعية الكليَّة الكبرى، وهي "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فمشقَّة ركوب الحمار والبغل والحمل عليهما مسألةٌ جزئية من هذه القاعدة العظيمة. ولذا قال الإمام أحمد: البغل والحمار طاهران ريقهما وعرقهما وشعورهما. وقال في المغني: الصحيح عندي طهارة البغل والحمارة لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يركبهما ويُرْكَبَانِ في زمنه، فلو كانا نجسين، لبيَّن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: هذا القول هو الأليق بالشريعة المحمدية شريعة اليسر، والبعد عن الحرج والمشقَّة. وقال ابن القيم: دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة.

24 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى, وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ, وَلُعَابُهَا يَسِيْلُ عَلَى كَتِفَي"، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد صحَّحه الترمذي، وفيه شهر بن حوشب مُخْتَلَفٌ فيه، ووثَّقه البخاري، ويؤيده ما ثبت في البخاري (6802) ومسلم (1671) وغيرهما؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر العرنيين بأنْ يشربوا من أبوال الإبل، فإذا كان البول طاهرًا، فاللعاب أولى. * مفردات الحديث: - مِنًى: بالتنوين، أحد المشاعر المقدَّسة، فيها الجمرات الثلاث، ويشرع المبيت فيها ليالي الأيَّام المعدودات، وهي أدنى المشاعر من مكَّة، وفيها الآن جميع المرافق والخدمات التي تسهِّل على الحاج أداء نسكه، من الطرق والجسور، والماء والكهرباء، وغير ذلك من الخدمات، وسيأتي تفصيل أحكام المناسك فيها وتحديدها؛ إنْ شاء الله تعالى. - راحلته: بالحاء المهملة، هي من الإبل: الصَّالحة لأنْ ترحل، جمعها رواحل. وقال بعضهم: الرَّاحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال. - لعابها: بضم اللام فعين مهملة وبعد الألف باء موحَّدة، هو ما سال من الفم وهو إحدى عصارات الهضم، سائلٌ لزج لا لون له يميل إلى الحموضة وقت إفرازه. ¬

_ (¬1) أحمد (17211)، الترمذي (2126).

- يسيل: سال سيلاً وسيلانًا: جرى. - الكتف: بفتح الكاف، وكسر التاء، آخره فاء، وهو عظم عريض خلف المنكب، تكون للإنسان والحيوان، مؤنثة، جمعه أكتاف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - طهارة لعاب البعير، وأنَّه ليس بنجس، وهذا بإجماع المسلمين؛ ذلك أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يرى اللعاب يسيل على عمرو بن خارجة، ولم يأمره بغسله، وإقرارُهُ على الشيء من سنته، وعلى فرض أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم، فإنَّ الله تعالى يعلم، ولو كان نجسًا، لم يقرَّه الله عليه، فإقراره عليه دليلٌ على طهارته. 2 - مثل لعابه -على الصحيح- بوله وروثه فإنَّه طاهر؛ لحديث العرنيين وغيره. 3 - مثل البعير سائرُ بهيمة الأنعام وغيرها من الحيوانات الطاهرة في حال الحياة؛ لنصوصها الخاصَّة؛ للعلَّة الواحدة الجامعة بينها وبين البعير. 4 - جواز الخُطْبة والموعظة على الرَّاحلة. 5 - استحباب الخطب والمواعظ على الأمكنة العالية؛ لأنَّه أبلغ في الإعلام والإفهام، ويحصل به المقصود. 6 - استحباب الخطبة ثاني أيام التشريق بمِنًى من ولي أمر المسلمين أو نائبه؛ ليعلم النَّاس بقيَّة أحكام المناسك ووداع البيت؛ فإنَّ هذه الخطبة منه -صلى الله عليه وسلم- هي في ذلك اليوم. 7 - جواز جعل الخطيب من يساعده في مهمته -تحته- في إبلاغ خطبته، وتوجيه النَّاس أو تسكيتهم أو ترتيبهم، ولا يعتبر هذا من التعالي والكبرياء، ما دام القلب مطمئنًّا. ***

25 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَغْسِلُ الْمَنِيَّ, ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ, وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيه". وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يَابِسًا بِظُفُرِي مِنْ ثَوْبِهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المني: هو سائلٌ أبيضُ غليظٌ تَسْبَحُ فيه الحيوانات المنوية، منشؤه إفرازات الخصيتين. - أفركه: بضم الرَّاءِ، الفرك: هو الدلك والحك، يُقال: فرك الثوب ونحوه: حكَّه، حتَّى يتفتَّت ما عَلِقَ به. - فركًا: مصدر معناه تأكيد حقيقة الشيء، ونفي المجاز. قال النحاس: أجمع النحويون على أنَّك إذا أكَّدْتَ الفعل بالمصدر، لم يكن مجازًا. - بظُفْري: بضم الظاء، وسكون الفاء، مادة قرنية في أطراف الأصابع، جمعه: أظافر وأظفار وأظافير. - أثر الغسل: بفتح الهمزة وبفتح الثَّاء، والأثر: بقيَّة الشيء. ¬

_ (¬1) البخاري (229)، مسلم (288، 290).

- يابسًا: يَبِس يَيْبَس يبسًا، من باب تعب، جف بعد رطوبته، فهو يابس، و"يابسًا": حال من المفعول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ سنَّة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هي الاقتصار على فرك المَنِيِّ إنْ كان يابسًا، وغسله إنْ كان رطبًا. 2 - طهارة مني الآدمي؛ فإنَّ اقتصار النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على حكِّه دون غسله دليلٌ على طهارته؛ كما أنَّ تركه المني في ثوبه -صلى الله عليه وسلم- حتَّى ييبس -مع أنَّ المعروف من هديه المبادرة بغسل النجاسات وإزالتها- دليل على طهارته أيضًا. 3 - الاستحباب في غسل المني، سواءٌ كان رطبًا أو يابسًا؛ لأجل كمال النظافة، كما يغسل المخاط ونحوه من الطَّاهرات. 4 - عدم توقِّي مثل هذه الفضلات التي ليست بنجسة، وجواز بقائها في البدن أو الثوب أو غيرهما؛ أخذًا من بقاء المنِّي في ثوبه -صلى الله عليه وسلم- حتَّى ييبس. 5 - ما كان عليه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من التقلل من الحياة الدنيا ومتاعها؛ إذ إنَّ ثوب نومه هو ثوب صلاته وخروجه، وذلك كله إرشادٌ للأمَّة بعدم المغالاة فيها، والرغبة فيما عند الله تعالى من جزيل ثوابه وعطائه. 6 - خدمة المرأة زوجها، وقيامها بخدمة بيته، والقيام بما يجب له، حسب ما جرت به العادة؛ فإنَّ هذا من العشرة الحسنة للزوج. 7 - أنَّ الخروج على النَّاس مع وجود آثار الأمور العادية من الأكل والشرب والجماع، لا يعتبر إخلالًا بفضيلة خَصْلَةِ الحياء. 8 - أنَّ المرأة الصالحة المتحبِّبة إلى زوجها لا تأنف ولا تترفَّع عن مثل هذه الأعمال، من إزالة الأوساخ والفضلات من ثوب أو بدن زوجها؛ لما تعلمه من عظم قدر حق زوجها عليها.

9 - قال ابن الملقِّن في شرح العمدة: استدل جماعةٌ بهذا الحديث -حديث عائشة- على طهارة رطوبة فرج المرأة، وهو الأصح عندنا -الشافعية-. وقال في المغني: في رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما: نجاسته؛ لأنَّه بللٌ في الفرج لا يُخْلَقُ منها الولد؛ لذا أشبه المذي. الثانية: طهارته لأنَّنا لو حكمنا بنجاسته، لحكمنا بنجاسة منيها. وقال في الإنصاف: وفي رطوبة فرج المرأة روايتان؛ إحداهما: طاهر؛ وهذا هو الصحيح من المذهب. * فائدة: قال الزركشي: الخارج من الإنسان ثلاثة أقسام: أحدها: طاهر بلا نزاع: وهو الدمع، والريق، والمخاط، والبصاق، والعرق. الثاني: نجس بلا نزل: وهو الغائط، والبول، والودي، والمذي، والدم. الثالث: مختلف فيه: وهو المني، وسبب الاختلاف هو تردده في مجرى البول. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: المني طاهر، وكون عائشة تارةً تغسله من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتارةً تفركه لا يقتضي تنجيسه، فإنَّ الثوب يغسل من المخاط والوسخ. وهذا قول غير واحدٍ من الصحابة. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، رحمه الله تعالى.

* خلاف العلماء: ذهب الحنفية والمالكية: إلى أنَّ المني نجس؛ واستدلوا على ذلك بأمور: أوَّلاً: أحاديث غسله من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والغسل لا يكون إلاَّ من نجاسة. ثانيًا: أنَّه يخرج من مجرى البول، فيتعيَّن غسله بالماء؛ كغيره من النجاسات. ثالثًا: قياسه على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط؛ لأنَّها كلها متحللةٌ من الغذاء. رابعًا: لا مانع أن يكون أصل الإنسان وهو المنيُّ نجسًا؛ إذ مَنْ مَنَع ذلك يقول بنجاسة العلقة؛ لأنَّها دم، وهو نجس، وهي أصلٌ للإنسان أيضًا. خامسًا: ليس في أحاديث فرك المني دليلٌ على طهارته، فقد يجوز أنْ يكون الفرك هو المطهِّرَ للثوب، والمني في نفسه نجس؛ كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، فطهورهما التراب، فكان ذلك التراب يجزىء من غسلهما، وليس في ذلك دليلٌ على طهارة الأذى في نفسه. وأيضًا: لو كان المني طاهرًا، فلماذا أمر -صلى الله عليه وسلم- بفركه، فلو كان طاهرًا، لجازت الصلاة به دون فركه. انتهى ملخصًا من شرح معاني الآثار للطحاوي. وذهب الإمام الشافعي وأحمد: إلى أنَّه طاهر ليس بنجس؛ وقالوا: إنَّه لا يزيد وساخة على المخاط والبصاق؛ واستدلوا على ذلك بأمور: أوَّلاً: أحاديث فركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحتِّه من دون غسل، وهذا أكبر دليل على طهارته، ولو كان نجسًا، لم يكف فيه ذلك. ثانيًا: أنَّ هذا أصل خلق الإنسان الطاهر الذي كرَّمه الله، فكيف يكون أصله النجاسة؟! وأمَّا غسله بعض الأحيان من ثوبه -صلى الله عليه وسلم-، فلا يدل على النجاسة، وإنَّما لأجل النظافة، كما تزال البصقة والمخاط.

ثالثًا: عدم مبادرة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى إزالته وتركه حتَّى ييبس، دليل على طهارته؛ ذلك أنَّ المعروف من هدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم- المبادرةُ في إزالة النجاسة، كما أمر الصحابة بغسل بول الأعرابي الذي بال في المسجد، وكما بادر بغسل ثوبه من بول الغلام الذي بال في حجره، وغير ذلك من الجزئيات. والرّاجح: ما ذهب إليه الشَّافعي وأحمد، رحمهما الله تعالى. ***

26 - وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ, وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلَامِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، وقد رجَّح البخاري صحته، وكذا الدَّارقطني؛ وقال البيهقي: الأحاديث المسندة في الفرق بين الغلام والجارية إذا ضُمَّ بعضها إلى بعضٍ، قَوِيَتْ. والحديث رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم، من حديث أبي السمح. وجاء في مسند الإمام أحمد (564) عن عليٍّ مرفوعًا: مثل حديث أبي السمح قال فيه: "بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل"، وإسناده على شرط مسلم. وقد أعلَّ بعضهم حديث علي بالوقف وبالإرسال، وليس بشيءٍ، وله شواهد صحيحة. قال الكتاني: هي أحاديث متواترة جاءت عن خمسة عشر من الصحابة؛ ومنها ما جاء في البخاري (223) ومسلم (287) وغيرهما، من حديث أُمِّ قيس بنت محصن؛ أنَّها أتت بابنٍ لها صغير لم يأكل الطعام، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنضحه ولم يغسله. * مفردات الحديث: - أبو السمح: بفتح السين المهملة، وسكون الميم، وفي آخره حاء، قال الرَّازي: ¬

_ (¬1) أبو داود (376)، النسائي (304)، الحاكم (1/ 271).

اسمه إياد، وذكره ابن الأثير، وهو خادم النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. - من بول الجارية: "من" للتعليل، أي: لأجل إصابته الثوب أو البدن، والأصح أنْ تكون سببية. - البول: بفتح الباء، وسكون الواو: سائلٌ تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتَّى تدفعه إلى الخارج، جمعه أبوال. - الجاريه: الفتيَّة من النساء، والمراد هنا: الطفلة من النِّساء. - يُرَش: مبني للمجهول، الرش هو النضح، وهما دون الصب؛ ولذا جاء في بعض الروايات: "ولم يغسله". - الغلام: بضم الغين، وفتح اللام وتخفيفها، هو من الولادة حتَّى البلوغ، وبعد البلوغ إنْ سمي به، فهو مجاز باعتبار ما كان، والمراد به هُنا، ما في زمن الرضاع حيث قيد بما جاء في الترمذي (606) قال -صلى الله عليه وسلم-: "بول الغلام الرضيع ينضح". * ما يُؤْخذ من الحديث: 1 - يؤخذ من الحديث: أنَّ الأصل في أحكام الغلام والجارية سواء؛ فتفريق السنة بينهما في البول دليل على أنَّ ما عداهما باقٍ على الأصل. 2 - بول البنت نجس كغيره من النجاسات، ولو كانت في سن الرضاع. 3 - فيغسل منه الثوب وغيره إذا أصابه؛ كما يغسل من سائر النجاسات. 4 - بول الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة: نجس؛ ولكن نجاسته أخفُّ نجاسةً من بول البنت. 5 - يكفي في تطهير ما أصابه بولُ الغلام الذي لم يأكل لشهوة: رشُّه بالماء فقط، دون غسله. 6 - فيه أنَّه لا يقتصر في تطهير بول الغلام على إمرار اليد، وإنَّما المقصود إزالة العين. 7 - بحث العلماء في السِّر الذي من أجله حصل التفريق بين بول الغلام وبين بول الجارية: فقال بعضهم: إنَّ الغلام عادةً يكون أَرغَبَ عند أهله من

الجارية؛ فيكثر حمله وتكثر إصابة حامله ببوله، فمن باب التيسير خفف في غسل نجاسة بوله؛ فيكون من باب القاعدة الكبرى: "المشقة تجلب التيسير". وقال بعضهم: إن بول الغلام يخرج من ثقب ضيق، من قضيب ممتد، فيخرج بقوة وشدة دفع، فينتشر بوله وتكثر الإصابة منه، فاقتضت الحكمة التخفيف من الحكم في تطهير نجاسته؛ أما الجارية: فيخرج بولها من ثقب فيه سعة وبدون قضيب، فيستقر في مكان واحدة فيثبت على أصل نجاسة البول. وقال بعضهم: إنَّ الغلام فيه حرارة طبيعية زائدة على حرارة الجارية، وهو معلوم، وهذه الحرارة تخفِّف فضلات الطعام، فإذا صادف أنَّ الطعام خفيف أيضًا، وهو اللبن-: حصل من مجموع الأمرين خفَّة النجاسة، بخلاف الجارية، فليس لديها هذه الحرارة الملطِّفة، فتبقى على الأصل. هذه من الحِكَمِ التي تلمَّسها العلماء للفرق بين بول الغلام وبين بول الجارية، فإنْ صحَّتْ، فهي حِكَمٌ معقولة؛ لأنَّها فروق واضحة، وإنْ لم تصح فالحكمة هي حُكْمُ الله تعالى؛ فإنَّنا نعلم يقينا أنَّ شرع الله هو الحكمة؛ فانَّ الشرع لا يفرِّقُ بين شيئين متماثلين في الظاهر، إلاَّ والحكمة تقتضي التفريق، ولا يجمع بينهما إلاَّ والحكمة تقتضي الجمع؛ لأنَّ أحكام الله لا تكون إلاَّ وفق المصلحة؛ ولكن قَدْ تظهر وقد لا تظهر. أمَّا قَيْءُ الغلام والجارية، ففيهما قولان لأهل العلم: فمن جعل حكمه حكم البول من الغلام والجارية، ألحقه به من باب الأولى؛ لأنَّ القيء أخف نجاسةً من البول؛ وهذا مذهب الحنابلة. وأمَّا من لم يلحقه، فقال: إنَّ الأصل أنَّهما سواء في الأحكام إلاَّ ما أخرجه النص، والنص لم يخرج القيء، فيبقى على أصله، وهو الاشتراك في حكم النجاسة بينهما. ***

27 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيْبُ الثَّوْبَ: "تَحُتُّهُ, ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ, ثُمَّ تَنْضَحُهُ, ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دم الحيض: سيأتي بيانه، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. - تَحُتُّه: بفتح المثناة، وضم الحاء المهملة، وتشديد المثناة الفوقية، من حَتَّ الشيءَ عن الثوب وغيره يَحُتُّهُ حَتًّا: فركه وقشره حتَّى أزال عينه. - تَقْرُصُه: بفتح المثنَّاة الفوقية، وسكون القاف، وضم الرَّاء والصاد المهملتين، من باب نصر: تدلك الدم بأطراف أصابعها بالماء؛ ليتحلَّلَ بذلك ويخرُجَ ما شربه الثوب منه؛ قال في جمع الغرائب: هو أبلغ في إذهاب الأثر عن الثوب. - تنضحه: بفتح الضاد المعجمة، من باب فتح يفتح: ترشه بالماء. - ثُمَّ: تأتي للترتيب، فلا يسبق ما بعدها ما قبلها، فترتَّب إزالة النجاسة اليابسة هذا الترتيب. قال ابن بطَّال: والحت والقرص ممَّا يتصوَّر في اليابس، ولا تأثير لذلك في الرطب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نجاسة دم الحيض، وأنَّه لا يُعْفَى عن يسيره؛ فتجب إزالته من الثوب والبدن وغيرهما ممَّا يجب تطهيره؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بغسله؛ كما هي سُنَّته في إزالة النَّجاسات. ¬

_ (¬1) البخاري (227)، مسلم (291).

2 - أنَّ إزالةَ النجاسة مِنَ الثوبِ والبدنِ والبُقْعَةِ شرطٌ مِنْ شروطِ الصلاة؛ فلا تَصِحُّ الصلاة مع وجودها والقدرة على إزالتها؛ وذلك للأمر بغسل دم الحيض قبل الإتيان بالصلاة. 3 - وجوب حتِّ يابسه ليزول جرمه، ثمَّ دلكه بالماء، ثمَّ غسله بعد ذلك لتزول بقيَّه نجاسته، فيراعى فيه هذا الترتيب الذي هو الأمثل في إزالة النجاسة اليابسة؛ لأنَّه لو عكس لانتشرف النَّجاسة، فأصابت ما لم تصبه من قبل. 4 - جواز الصلاة في الثوب الذي حاضت به المرأة؛ فإنَّه بعد حتِّ ما أصابه، ثمَّ إتباعه بالماء، صار الثوب طاهرًا. أمَّا بدن المرأة الحائض وعرقها ونحوه: فطاهر؛ فإنَّها لم تُؤْمَرْ بغَسْلِ ثوب حيضها، إلاَّ ما أصابه من بُقَعِ دمِ الحيض، وما عداه باقٍ على أصل الطهارة. 5 - قوله: "ثمَّ تُصَلِّي فيه" دليلٌ على أنَّ النجاسة اليابسة لا تزول ويطهر محلها إلاَّ بهذه العمليات الثلاث، وأنَّها إنْ لم تفعل ذلك، فثوبها لم يطهر، وصلاتها لم تصح. أمَّا الدم -وما تولد عنه من قيحٍ وصديد- الخارج من بقية البدن: فجمهور العلماء -وحُكِيَ إجماعًا- أنَّه نجس، لكن يُعْفى عن يسيره، وبهذا خالف دم الحيض والاستحاضة؛ فلا يُعْفَى عن شيءٍ منهما. 6 - الحديث دليل على أنَّ الواجب هو إزالة النجاسة فقط، وأنَّه لا يشترط عددٌ معيَّنٌ من الغسلات، فلو زالت بغسلةٍ واحدةِ، طَهُرَ المحل. وهذا هو القول الرَّاجح من أقوال أهل العلم، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إنْ شاء الله تعالى. 7 - استدل به بعضُ العلماء -ومنهم أصحابنا- على أنَّه لابُدَّ في غسل النجاسات من الماء؛ فلا يكفي غيره؛ مِنْ حَتٍّ أو قرصٍ أو دَلْكٍ، أو شمسٍ أو ريح، وقالوا: إنَّ الماءَ هو المتعيِّن؛ لإزالة النجاسة دون غيره، ولو كانت قويةَ

الإزالة والتطهير؛ فإن الماء هو المتعين؛ لأنَّه جاء منصوصًا عليه في هذا الحديث؛ وهو الأصل في التطهير، لوصفه بذلك في الكتاب والسنَّة. أمَّا شيخ الإِسلام: فيرى أنَّ التطهير قد يكون بغير الماء، وأمَّا تعينه وعدم إجزاء غيره، فيحتاج إلى دليل، ولم يَرِدْ دليلٌ يقضي بحصر التطهير بالماء، ومجرَّدُ الأمر به لا يستلزمُ الأمرَ به مطلقًا؛ فقد أَذِنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالإزالة بغير الماء في مواضع منها الاستجمارُ، ومنها قولُهُ في ذيل المرأة: "يطهره ما بعده" [رواه الترمذي (143)]، وقوله في النعلين: "ثمَّ ليدلكهما بالتراب؛ فإنَّ التراب لهما طهور" [رواه أبو داود (386)]. وهذا القول هو الصوابُ والله أعلم. ***

28 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَتْ خَوْلَةُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ الدَّمُ? قَالَ: "يَكْفِيكِ الْمَاءُ, وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَسَنَدُهُ ضَعِيْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. ضعَّفه ابن حجر؛ لأنَّ فيه ابن لهيعة، وقد اختلط بعد احتراق كتبه، وَلمَّا ذكر الحافظ في التلخيص هذا الحديث برواية أبي داود، قال: ورواه الطبراني في الكبير (615) من حديث خولة بنت حكيم، وإسناده أضعف من الأوَّل، وله شاهدٌ مرسل. أمَّا الشيخ ناصر الدِّين الألباني، فقال: صحيح رواه أبو داود (365)، والبيهقي (2/ 408)، وأحمد (8549)، بإسنادٍ صحيح عنه، وهو -وإنْ كان فيه ابن لهيعة- فإنَّه قد رواه عنه جماعةٌ منهم عبد الله بن وهب، وحديثه عنه صحيح، كما قال غير واحدٍ من الحفَّاظ. أهـ. قلت: وله طريق أخرى ذكرها ابن حجر في الإصابة، أخرجها ابن منده من طريق ابن حفص، عن علي بن ثابت، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن خولة بنت يسار. * مفردات الحديث: - لا يضرك: يُقال: ضرَّه: إذا أَلحق به مكروهًا أو أذى، والضر النقص، والمراد هنا: ولا ينقص من طهارة ثوبك. ¬

_ (¬1) لم يخرجه الترمذي، وإنما أخرجه أبو داود (365). وانظر: تلخيص الحبير (1/ 36).

- فإنْ لم يذهب: أي: أثره بعد حتِّه وقرصه ونضحه. - أثره: الأثر: العلامة، وبقيَّة الشيء، وهو هنا: بقيَّة لون الدم بعد الحَتِّ والقرص والغسل. * ما يُؤْخذ من الحديث: 1 - وجوب غسل دم الحيض من ثوب المرأة وبدنها. 2 - يكون غسله بالماء. 3 - أن الثَّوبَ ونحوه إذا غسل من دم الحيض، ثُمَّ بقي أثر لونه في الثوب أو البدن، أنَّه لا يضر في كمال التطهر، ولا يضر في صحة الصلاة ونحوها. 4 - سماحة هذه الشريعة ويسرها؛ فالمسلم يتقي الله قدر استطاعته، وما زاد عن ذلك، فهو معفوٌّ عنه. 5 - أنَّ بدن الحائض وعرقها طاهران، فإنَّها لم تؤمر بغسل شيءٍ إلاَّ ما أصابه الدم، وأمَّا البدن وبقيَّة الثوب، فهو باقٍ على طهارته الأصلية. أما غُسْلُهَا من الحيض، فليس من أجل نجاستها، وإنما من أجل أن عليها حدثًا أكبر، وهو لا يوصف بأنه نجاسة، وإنما هو وصف يقوم بالبدن ويرتفع بالغُسْلِ، ولو كان نجاسة، لم يُغْسَلْ إلاَّ مكان الحيض، وَلَمَا جَازَ مباشرة الحائض وقربها، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. 6 - المقصود بالطهارة والابتعاد عن النجاسات، هو أنْ يكون المصلِّي على أكمل هيئة، وأحسن زينة؛ حين مناجاة ربِّه تبارك وتعالى. ***

باب الوضوء

باب الوضوء مقدمة الوضوء لغةً: بضم الواو: مصدر هو الفعل، مأخوذٌ من الوضاءة، وهي النظافة والحُسْن؛ وأمَّا بالفتح: فالماء الذي يُتوضأ به. قال النووي: بالضم: إذا أُريد الفعل الذي هو المصدر، وبالفتح: إذا أُريد الماء. وشرعًا: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة، على صفةٍ مخصوصة في الشرع، بأنْ يأتي بها مرتَّبة متوالية. وهو ثابتٌ بالكتاب والسنَّة والإجماع: فالكتاب: آية المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية. والأحاديث فيه قولاً وفعلاً وتقريرًا كثيرة. وأجمع العلماء: على أنَّ الطهارة من الحدث شرطٌ لصحَّة الصلاة. ما يعرف من حِكمة الوضوء: جوهر الصلاة وروحها هو أنْ يتصوَّر العبد أنَّه أمام الله تعالى، ولكي يتهيأ ذهنه لذلك، ويتخلَّص من شواغل الحياة، فُرِض الوضوءُ قبل القيام بالعبادة؛ لكون الوضوء آله هادئة لتنبيه ذهنه المستَغْرِقِ في أعمال الحياة إلى أداء الصلاة. فإنَّ المستغرق بفكره في أعمال تجارته أو صناعته ونحوهما، لو قيل له: قم للعبادة، لوجد صعوبة في تأديتها، وهنا كانت حكمة الوضوء؛ لأنَّه يساعد على ترك التفكير الأوَّل، ويعطيه الوقت الكافي ليبدأ في تفكيرٍ عميقٍ من نوع آخر. وبالجملة: فللنَّفْسِ انتقالٌ واقعيٌّ، وتنبيه من خصلة إلى خصلة، هو

العمدة في المعالجات النفسية، وإنَّما يحصل هذا التنبيه بمراكز في صميم طبائعهم وجذور نفوسهم. وتقتصر الطهارة الصغرى على غسل الأطراف التي جرت العادة بانكشافها وخروجِهَا من اللباس، فتسرع إليها الأوساخ، كما جرت العادة بنظافتها عند الأعمال النظيفة، وعند الدخول على الكبراء، وتقابُلِ النَّاس بعضهم ببعض. كما أنَّ غسل هذه الأعضاء الأربعة فيه تنبيه للنَّفس من النوم والكسل. قال شيخ الإِسلام: جاءت السنَّة باجتناب الخبائث الجسمانية والتطهُّر منها، وكذلك جاءت باجتناب الخبائث الروحانية والتطهُّر منها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاثًا؛ فإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قام أحدكم من نوم الليل، فلا يغمس يده حتَّى يغسلها ثلاثًا؛ فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده"؛ فعلَّل الأمر بالاستنشاق بمبيت الشيطان على خيشومه؛ فعلم أنَّ ذلك سبب الطهارة من غير النجاسة الظاهرة. والوضوء من أهم شروط الصلاة؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنَّ الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتَّى يتوضأ"، ولما روى مسلم: "الوضوء شطر الإيمان"، ونزلت فريضته من السماء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية. واختلف العلماء هل فرض في مكَّة أو في المدينة؟ والمحققون: على أنَّه فرض بالمدينة؛ لعدم النص النَّاهض على خلافه. قال شيخ الإسلام: الوضوء من خصائص هذه الأمَّة؛ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة: "إنَّهم يُبْعَثُون يوم القِيامَةِ غُرًّا محجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوضوء"، وأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف أمته بهذه السيماء؛ فدلَّ على أنَّه لا يشاركهم فيها غيرهم. وأمَّا ما رواه ابن ماجه: "أنَّ جبريل علَّم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الوضوء" زاد عليه أحمد وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي"، فضعيفٌ لا يحتج به.

29 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ, وأَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَة، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيْقًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. هذا الحديث رواه البخاري (887)، ومسلم (252)، من حديث أبي هريرة؛ لكن بلفظ: "مع كلِّ صلاة". قال ابن منده: إسناده مجمع على صحته، وفي معناه عدَّة أحاديث عن عدَّة من الصحابة: عن علي، وزيد بن خالد، وأم حبيبة، وعبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وجابر، وأنس، وأبي أيوب، وابن عبَّاس، وعائشة. قال ابن الملقن في البدر المنير: قد ذكر في السواك زيادة عن مائة حديث. وأمَّا رواية: "مع كلِّ وضوء" فقد أخرجها مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن حميد، عن أبي هريرة، وأخرجها عنه: أحمد، والنسائي، وسندها صحيح. قال ابن عبد الهادي في المحرَّر: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أنْ أشقَّ على أُمَّتي، لأمرتهم بالسواك مع كلِّ وضوء"، رواته كلهم أئمة أثبات. * مفردات الحديث: - لولا: حرف شرط وابتداء، وهي كلمة لربط امتناع الثانية لوجود الأولى، ¬

_ (¬1) مالك (148)، أحمد (7364)، النسائي (2/ 197)، ابن خزيمة (748).

والمعنى هنا لولا مخافةُ أنْ أشق على أُمَّتي، لأمرتهم أمر إيجاب، وهي مركَّبة من "لو" الدَّالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، و"لا" النَّافية؛ فدلَّ الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقَّة، ولابُدَّ لها من جواب مذكور، أو مقدَّر إذا دلَّ عليه دليل، ولا تكثر اللَّام في جوابها. - أنْ: مصدرية، هي وما دخلت عليه في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: لولا مخافة المشقَّة على أمَّتي، ويجوز أنْ يكون مرفوعًا بفعلٍ محذوف، والتقدير: لولا خيفت المشقَّة. - أشق: الشِّقُّ، بكسر الشين: الجهد والمشقَّة، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)}. - لأمرتهم: جواب لولا. - بالسواك: بكسر السِّين، وفتح الواو، بعدها ألف، فكاف، أي: باستعمال السواك؛ لأنَّ السِّواك آلة، وسيأتي بيانه في موضعه، إِنْ شاء الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تأكد استحباب السواك مع كلِّ وضوءٍ، وأنَّ ثوابه قريبٌ من ثواب الواجبات. 2 - أنَّ السِّواك عند الوضوء وعند غيره من العبادات ليس بواجب، فقد منعه -صلى الله عليه وسلم- من إيجابه على أُمَّته مخافة مشقتهم. 3 - أنَّ الذي منع الأمر بوجوبه هو خشية عدم القيام به، ممّا يترتَّب عليه الإثمُ بتركه. 4 - هذا الحديث الشريف من أدلَّة القاعدة الكبرى: "المشقَّة تجلب التيسير"؛ فخشية المشقَّة سبب عدم فرضيته. 5 - كثير من العبادات الفاضلة يترك النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها مع أمته، أو أَمْرَهُمْ بها، خشيةَ فرضها عليها؛ وذلك مثل صلاة الليل في رمضان جماعة، والسواك، وتأخير صلاة العشاء إلى وقتها الفاضل؛ كل ذلك شفقةً على أمته ورحمةً

بهم وخوفًا عليهم، وهذا من خُلُقِهِ الكريم الذي وصفه الله تعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} 6 - سعة هذه الشريعة وسماحتها، ومسايرتها للحالة البشرية الضعيفة؛ قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. 7 - هذا الحديث العظيم دليلٌ على القاعدة الشرعية، وهي: "درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح"؛ فمفسدة الوقوع بالإثم من ترك الواجب، مَنَعَتْ من مصلحة وجوب السِّواك عند كل وضوء. 8 - قال ابن دقيق العيد: السر أنا مأمورون في كلِّ حالةٍ من أحوال التقرُّب إلى الله عزَّ وجل، أنْ نكون في حالة كمال النظافة؛ لإظهار شرف العبادة. وقيل: إن ذلك الأمر يتعلق بالمَلَكِ، فإنَّه يتأذى بالرائحة الكريهة. قال الصنعاني: ولا يبعد أن السر مجموع الأمرين المذكورين؛ لما روى البخاري (854)، ومسلم (564) من حديث جابر مرفوعًا: "من أكل الثوم أو البصل أو الكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". 9 - فحوى الحديث يدل على تعيين وقت السواك في الوضوء، وعند المضمضة. 10 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يجزىء في السِّواك إلاَّ استعمال العود، والرَّاجح: أنَّه يُجزىء بغيره من أصبع وخرقة وغيرهما؛ ولذا قال الموفق والنووي: يجزىء بأي شيءٍ يزيل التغير. 11 - يدل الحديث على قاعدة أصولية، وهي: أن الأمر المطلق يفيد الوجوب، ووجهه: أنَّه لو كان الأمر يفيد الاستحباب، لما امتنع -صلى الله عليه وسلم- من أمرهم بالسواك؛ ولكن ما يقتضيه الأمر، وما يفهمه الصحابة والعلماء من الأمرِ المجرَّدِ عن قرينة صارفة، هو الوجوب، وهو الذي منعه من أمرهم بالسواك.

12 - إذا تعارضت الأدلة الشرعية بين الوجوب والاستحباب، أو بين التحريم والكراهة، وليس هناك أصلٌ يُبنى عليه -فإنَّ طبيعة الشريعة السمحة ومنهجها بالتخفيف على العباد، وورود النصوص العامَّة فيها، تجعل الأخذ بأيسر القولَيْنِ وأبعدهما عن التحريم والوجوب أقرَبَ وأرجَحَ؛ فقد جاء في الصحيحين: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ما خُيِّر بين أمرين إلاَّ اختار أيسرهما". * خلاف العلماء: عموم الحديث يفيد استحباب السِّواك كُلَّ وقت للصائم وغيره، أوَّل النَّهار وآخره، ولا يوجد دليلٌ يخصِّص هذا العموم بالفطر، إلاَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" [رواه البخاري (5927) ومسلم (1151)]، وهذا ليس فيه صريح الدلالة، فإنَّ الخلوف ينشأ من خلو المعدة من الطعام، وليس من الفم. وأمَّا حديث: "إذا صمتم، فاستاكوا في الغداة، ولا تستاكوا بالعشي" فضعيف، وهو معارَضٌ بالأحاديث التي منها ما رواه أحمد (1525) والترمذي (721) وحسَّنه، وعلَّقه البخاري، من حديث كعب بن مالك، قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم"، ولم يقيده بوقتٍ دون آخر. وممَّن قال باستحباب السِّواك مطلقًا: الإمامان أبو حنيفة ومالك، واختاره الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية، قال في الفروع: وهو أظهر. أمّا من كرهه للصائم بعد الزوال: فهما الإمامان الشَّافعي وأحمد وأتباعهما وإسحاق، استدلالاً بحديث: "إذا صمتم فاستاكوا في الغداة، ولا تستاكوا في المساء"، ولكنَّه حديثٌ ضعيف كما تقدَّم. واستدلوا بحديثٍ صحيح وهو: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، ولكن لا دلالة فيه؛ لأنَّ السواك لا يزيل الخلوف؛ لأنَّ مصدره المعدة، وليس مصدره الفم.

30 - وَعَنْ حُمْرَانَ: "أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ, فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ, ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ, ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دعا: بمعنى: طلب الوَضُوء. وضوء: بفتح الواو: اسمٌ للماء الذي يُتوضَّأ به، وأمَّا بالضم: فاسمٌ للفعل. - كفيه: تثنية كف، والكف هي الرَّاحة مع الأصابع، مؤنث، جمعه كفوف وَأَكُفُّ، وحدُّها: مفصل الذراع، سُمِّيت كَفًّا؛ لأنَّ الإنسان يكف بها عن نفسه. - تمضمض: المضمضة: "أنْ يجعل الماء في فمه، وكمالها أنْ يديره في فمه، ثمَّ يمجه أو يبلعه. - وجهه: جمع الوجه: وجوه، وهو ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهي المقابلة. وحدُّه: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى اللَّحْيَيْنِ طولاً، ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عرضًا، يؤخذ حده الشرعي من معناه اللغوي، حيث لم يجر له حَدٌّ في الشرع. استنشق: يُقال: استنشق الماء يستنشقه استنشاقًا: أدخل الماء في أنفه وجذبه ¬

_ (¬1) البخاري (1934)، مسلم (226).

لينزل ما فيه؛ فالاستنشاق: جذب الماء إلى داخل الأنف. - استنثر: يُقال: نَثَرَ الشيء يَنْثُرُهُ نثرًا: رماه متفرِّقًا، ومنه إخراج ما في الأنف من مخاط وغيره بالماء؛ فالاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق. قال ابن قتيبة وغيره: الاستنشاق والاستنثار واحد، وقال الكرماني: إنَّ هذا الحديث دليلٌ على قول من قالوا: إنَّ الاستنثار هو غير الاستنشاق، وهو الصواب، فالاستنشاق هو إدخال الماء داخل الأنف، والاستنثار: إخراج الماء منه. - إلى: قال النحاة: "إلى" تأتي لانتهاء الغاية الزمانية والمكانية؛ فالزمالية مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، والمكانية مثل قوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، وهي هنا للغاية المكانية. أمَّا ما بعد "إلى": فيجوز أنْ يكون جُزْءٌ منه، أو كله، داخلاً فيما قبلها، وجائز أنْ يكون غَيْرَ داخل، ويعرف دخول ذلك أو عدم دخوله بالقرينة، فإنْ لم يكن هناك قرينة تدل على دخوله أو خروجه: فإنْ كان من جنس ما قبلها، جاز أنْ يدخل وأنْ لا يدخل، وإِلاَّ فالغالب أنَّه لا يدخل. وهي هنا داخلٌ ما بعدها فيما قبلها؛ لدلالة الأحاديث التي يأتي تفصيلها في فقه الحديث، إنْ شاء الله. - المِرْفَق: بفتح الميم وكسر الفاء، وبالعكس، لغتان، هو موصل الذراع في العضد، جمعه: مرافق، وهما مرفقان، سُمِّيَ مرفقًا؛ لأنَّه يرتفق به في الاتكاء ونحوه، ويجوز فيه: فتح الميم والفاء؛ على أنْ يكون مصدرًا. - إلى الكعبين: تثنية كعب: هما العظمان الناتئان عند ملتقى السَّاق بالقدم، لحديث النعمان بن بشير في صفة الصلاة: "فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" [رواه أحمد (17962) والبيهقيُّ (1/ 76)]. - مسح برأسه: مسح يتعدَّى بنفسه؛ فالباء -هنا- زائدة مؤكِّدة أنَّ المسح هو لعموم الرأس، وليس لبعضه.

قال بعضهم: إنَّ الباء هنا للتبعيض. وقال ابن جني: أهل اللغة لا يعرفون أنَّ الباء تأتي للتبعيض، وإِنَّما يُورِدُ هذا المعنى الفقهاء قال النحاة: والإلصاق لا يفارق الباء في جميع معانيها؛ فتكون هنا مفيدة لهذا المعنى، ليكون المسح ظاهرًا فيها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث جعله المؤلِّف -رحمه الله تعالى- أصلاً في بيان صفة وضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وجعل ما بعده من الأحاديث والروايات مكمِّلات له. 2 - ينبغي لمن يريد عبادة من العبادات -ومنها الوضوء والطهارة- أنْ يستعد لها بأدواتها؛ لئلا يحتاج إلى ذلك أثناء أدائها. 3 - استحباب غسل اليدين ثلاثًا، قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند الوضوء، وهو سنة بالإجماع؛ والدليل على أنَّ غسلهما سنة فقط: هو أنَّه لم يأت ذكر غسلهما في الآية، وفعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- المجرَّد لا يدل على الوجوب، وإنَّما يدل على الاستحباب؛ وهذه قاعدة أصولية. 4 - استحباب التيمُّن في تناول ماء الوضوء، لغسل الأعضاء؛ فتكون اليد اليمنى هي المتناولة له. 5 - وجوب المضمضة والاستنشاق؛ فإنَّهما داخلان في مسمَّى الوجه، المنصوصِ على غسله في آية المائدة. 6 - لم يقيد المضمضة والاستنشاق بثلاث، ولكن ما دمنا علمنا أنَّ الفم والأنف من مسمَّى الوجه، فيكفي في استحباب التثليث فيهما ما جاء في الوجه. 7 - استحباب الاستنثار بعد الاستنشاق؛ قال العلماء: ويجوز بلعه. 8 - استحباب التثليث في غسل الوجه، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل اليدين، والرجلين؛ فكل هذه الأعضاء يستحب التثليث فيها.

9 - جوب غسل اليدين مع المرفقين. 10 - وجوب مسح الرَّأس؛ قال شيخ الإِسلام: اتفق الأئمة على أنَّ السنَّة مسح جميع الرأس؛ كما ثبت بالأحاديث الصحيحة. 11 - المسح مبني على التخفيف فلا يشرع تكريره، وإنَّما يقتصر فيه على مرَّة واحدة، يُقْبِلُ الماسح بيديه ثُمَّ يُدْبر؛ ليعم المسح جميع الرَّأس. 12 - الأذنان من مسمَّى الرأس؛ ولذا فإنَّ المشروع أنْ يُمْسَحَا بماءِ الرَّأس، ولا يُؤْخَذ لهما ماء جديد غير ماء الرَّأس. 13 - في الحديث التصريح بوجوب غسل الرجلين، والرد على من قال بمسحهما. 14 - فيه وجوب ترتيب غسل الأعضاء والموالاة بينها. 15 - ما جاء في هذا الحديث هو وضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الكامل. 16 - ينبغي للمتوضىء ولكلِّ قائمٍ بعبادةٍ من العبادات، أنْ يستحضر عند فعلها ثلاثة أمور: (أ) طاعة الله؛ لِتَعْظُمَ العبادة في قلبه. (ب) التقرُّب إلى الله؛ ليصل إلى درجة المراقبة، فيحسن عبادته. (ج) الاقتداء بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليحصل على تحقيق المتابعة. 17 - الحديث اشتمل على الواجبات والمستحبات، والذي ينبغي للمسلم أنْ يمتثل أمر الشرع، من دون نظر إلى أنَّ هذا واجب أو مستحب، وإنَّما يفعله امتثالاً لشرع الله تعالى، واقتداءً بنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، وطلبًا للأجر، ولا يأتي البحث عن الحُكْمِ إلاَّ عند تركه، لينظر هل ترك واجبًا أو مستحبًّا؛ وهذا في حقِّ المتعبد. أمَّا البحث العلمي ومعرفة الأحكام، فيعرف هذا وهذا. 18 - فيه التعليم بالقول والفعل، وهذا ما يُسمَّى في التربية: بوسائل الإيضاح، وهذا التعليم عن طريق السمع والبصر.

19 - لم يصرِّح في هذا الحديث بالمضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو بأكثر، وقد يؤخذ منه الأول؛ لأنَّه ذكر تكرار غسل الوجه والكفين، وأطلق أخذ الماء للمضمضة والاستنشاق، وحديث عبد الله بن زيد يدل على أنهما من غرفة واحدة. 21 - الاستنثار يكون باليد اليسرى، وليس في الحديث ما يقتضي أنَّه باليمين. 22 - جواز الاستعانة بإحضار الطَّهُور. 23 - المضمضة أصلها يشعر بالتحريك؛ فيدل على تحريك الماء في الفم. * خلاف العلماء. ذهب الأئمة الثلاثة وسفيان وغيرهم: إلى عدم وجوب المضمضة والاستنشاق، وأنَّهما مستحبان فقط. ودليلهم: ما جاء في الحديث: "عشر من الفطرة ... " [رواه مسلم (261)]، ومنها الاستنشاق، والسنَّة غير الواجب. وهذا الاستدلال ضعيفٌ جدًّا، فإنَّ السنَّة في الحديث هي الطريقة، لا أنَّها العمل الذي يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه؛ فإنَّ هذا الاصطلاح أصوليٌّ متأخِّرٌ. كما استدلُّوا بآية المائدة، وهو استدلال فيه نظر؛ لأنَّ الفم والأنف من مسمَّى الوجه. وذهب الإمام أحمد: إلى وجوب المضمضة والاستنشاق؛ وهو مذهب ابن أبي ليلى، وإسحاق، وغيرهما. استدل الموجبون بأدلَّةٍ منها: أوَّلاً: استمرار النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على إتيانه بهما، وعدم إخلاله بذلك؛ ممَّا يدل على الوجوب، فلو كانا مستحبين، لتركهما ولو مرَّة لبيان الجواز، والفعل المقترن بالأمر دليل الوجوب، وقد أمر الله بهما بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فهما من الوجه داخلان في حدوده.

ثانيًا: حديث عائشة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابدَّ منه"؛ رواه أبو بكر في "الشَّافي". ثالثًا: ما أخرجه مسلم (237) عن أبي هريرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ أحدكم، فليستنشق بمنخريه من الماءِ، ثمَّ ليستنثر". رابعًا: ما أخرجه أبو داود والدَّارقطني عن لَقِيطِ بن صبرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأت، فمضمض". خامسًا: الأمر بغسل الوجه بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أمرٌ بغسلهما؛ فإنَّ الفم والأنف من الوجه؛ لأنَّهما عضوان ظاهران داخلان في مسمَّاه، كما تقدَّم. فالأرجح صحَّة المذهب الأخير؛ لقوَّة أدلته، وعدم ما يعارضها.

31 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ، بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد أخرجه الثلاثة بإسنادٍ صحيح، وقال الترمذي: إنَّه أصح شيءٍ في الباب. قال في المحرَّر: رواته صادقون مخرَّج لهم في الصحيح. وأخرجه أبو داود من ست طرق. وروي عن سلمة بن الأكوع، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس مثله، أي: مثل حديث علي. قال الحافظ: وإسناده صالح. * مفردات الحديث: - مسح: يتعدَّى بنفسه؛ فالباء زائدة مؤكِّدةٌ أنَّ المسح إنَّما هو لعموم الرَّأس. قال النحاة: والإلصاق لا يفارق الباء في جميع معانيها فتكون -هنا- لهذا المعنى. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (115)، الترمذي (32)، النسائي (92).

32 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ -رضي الله عنهما- في صِفَةِ الْوُضُوءِ قَالَ: "وَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَأْسِهِ, فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: "بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ, حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فأقبل بيديه وأدبر: فسَّر الإقبال باليدين والإدبار في الرواية الأخرى، بأنَّه بدأ من مقدم رأسه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثُمَّ ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه. - بدأ: بدأتُ الشيءَ: ابتدأتُ به، وبدأتُ الشيءَ: فعلته ابتداءً، أما "بدا" بلا همزة في آخره، فمعناه: ظهر. - ومقدم الرَّأس: ابتداؤه من منابت شعر الرَّأس المعتاد غالبًا. - القفا: مقصور، وقد يمد، وهو مذكَّر، جمعه: أَقْفٍ وأقفية، وهو مؤخَّر العنق، والمراد هنا: أعلى مؤخَّر العنق. ... ¬

_ (¬1) البخاري (185)، مسلم (235).

33 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي صِفَةِ الْوُضُوْءِ قَالَ: "ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ, وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ, وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. رواه أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، قال المنذري في تهذيب السنن: أخرجه النسائي (140) وابن ماجه (422). وعمرو بن شعيب تَرَكَ الاحتجاجَ به جماعةٌ من الأئمة، قال ابن عدي: أحاديثه عن أبيه عن جدِّه عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- اجتَنَبَها النَّاس، ولم يُدْخِلوها في الصحاح. وقال أبو الحسن بن القطَّان: عمرو بن شعيب عندنا واهٍ. وقد وثَّقه بعضهم؛ قال العجلي: ثقة، وقال ابن معين وأحمد: رُبَّما احتججنا به، وقال البخاري: رأيت أحمد والحميدي وإسحاق يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث صحيح على طريقة من يُصَحِّحون حديث عمرو بن شعيب؛ لأنَّ إسناده صحيح. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: عمرو بن شعيب ضعَّفه ناسٌ مطلقًا، ووثَّقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جدِّه. وقال في التلخيص: جاء من طرق صحيحة، وقال ابن القيم: احتج بها الأئمة الأربعة. ¬

_ (¬1) أبو داود (135)، النسائي (140).

قال محرِّره عفا الله عنه: والحديثُ له شواهدُ كثيرة، منها حديث المقدام بن معديكرب عند أحمد (16737) وأبي داود (121)، وحديث الربيِّع بنت معوِّذ عند أبي داود (129)، وحديث ابن عبَّاس عند النسائي (101)، وصححه الترمذي (36)، وبهذا فَمَسْحُ ظاهر الأُذنين وباطنهما بإبهاميه اعتضد بهذه الشواهد الجياد، والحمد لله. * مفردات الحديث: - إصبعيه: تثنية إصبع، الإِصبع مؤنثة، وكذلك سائر أسماء الأصابع، مثل الخنصر، وفي الإِصبع عشر لغات: إحداها بكسر الهمزة وفتح الباء، قال في المصباح: وهي التي ارتضاها الفصحاء. والإصبع أحد أطراف الكف أو القدم، جمعه أصابع، والمراد هنا أطراف الكف، والمراد الأنملة، فهو مجاز من إطلاق الكلِّ على الجزء؛ كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي: أنامل أصابعهم. - السباحتين: تثنية سباحة، هي الإِصبع التي بين الإبهام والوسطى، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّه يُشارَ بها عند تسبيح الله تعالى، والمراد الأنملة منها. - ظاهر أُذُنَيْه: أي: أعلاهما، والجزء الظاهر منهما. - أذنيه: تثنية أذن، عضو السمع في الإنسان والحيوان مؤنثة، والجمع آذان. - إِبْهَامَيْهِ: تثنية الإبهام، تُذَكَّر وتُؤنَّث، جمعه بُهُم وأباهيم، والإبهام هي الإِصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد والرِّجل، وهي ذات أنملتين، وهي أنفع الأصابع، وأقربها إلى الرسغ. * مَا يُؤْخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - حديث عليٍّ -رضي الله عنه- يدل على أنَّ مسح الرأس مرَّة واحدة، وأنَّ المسح لا يُكَرَّر، كما يكرر الغسل؛ لأنَّ المسح أخف من الغسل، مخففٌ في كيفيته وفي كميته، ولعلَّ الحكمة الرَّبَّانيَّة في التخفيف في الرأس، من

كونه يمسح مسحًا ولا يغسل، وأن مسحه مرَّة واحدة فلا يكرر، هو التيسير على الأمة؛ فإنَّ الرَّأس موطن الشعر، فصَبُّ الماء عليه وتكريره، رُبَّما سبَّب أذيَّةً ومرضًا، فخفَّف الله تعالى عن عباده. 2 - حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- يدل على صفة المسح، وهو أنْ يبدأ بمقدَّم رأسه، فيذهب بيديه إلى قفاه، ثمَّ يردَّها إلى المكان الذي بدأ منه، وتكون هذه الرواية مفسِّرة للرواية التي قبلها، من أنَّه "أقبل بيديه وأدبر"؛ فإنَّ معنى أقبل بيديه، أي: بدأ بهما من قِبَل الرَّأس، وأدبر أي: عاد بهما من دبره، والإقبال والإدبار باليدين يُعْتَبَرُ مسحةً واحدة لا مسحتين؛ لأنَّ شعر مقدَّم الرأس متجه إلى الوجه، ومؤخر الرَّأس متجه إلى القفا، فإذا بدأ بالمقدَّم مسح ظهور الشعر المقدَّم، وأصول الشعر المؤخَّر، وإذا أدبر بهما مسح ظهور الشعر المؤخَّر، وأصول الشعر المقدَّم؛ فالحكمة في الإقبال والإدبار مسح وجهي الشعر، قال بعضهم: هذا المسح يقيم النائم، وينيم القائم؛ فحصل مسحة واحدة لا مسحتان، وليست هذه الصفة واجبة، فعلى أي صفة مسح أجزأ. 3 - قال ابن القيم في زاد لمعاد: الصحيح أنَّه لم يكرر -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه، بل كان إذا كرَّر غسل الأعضاء، أفرد مسح الرَّأس، ولم يصح عنه خلافه ألبتة. 4 - وقال: كَان -صلى الله عليه وسلم- يمسح رأسه كله، ولم يصح عنه في حديثٍ واحد، أنَّه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة. 5 - قال العلماء: من لا شعر له أو حلق رأسه، فلا يستحب له الرد؛ لأنَّه لا فائدة فيه، وكذلك لا يستحب لمن له شعرٌ كثير مضفور، ويكون خرج مخرج الغالب. 6 - حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يدل على مسح الأُذُنين مع الرَّأس، وصفة مسحهما: أنْ يدخل أصبعيه السبَّاحتين في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه.

7 - أنَّ مسح الأذنين منصوصٌ عليه في الآية الكريمة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ذلك أنَّ الأُذنين داخلتان في مسمَّى الرأس شرعًا ولغةً وعرفًا، فالأمر بمسح الرَّأس في الآية أمرٌ بمسحهما؛ ولذا فالسنَّة أنْ تمسحا بماء الرَّأس، لا بماء جديد لهما. 8 - الحكمة في تخصيص الأذنين بالمسح، هو كمال طهارتهما من ظاهرهما وباطنهما، ويستخرج منهما الذنوب التي اكتسبتها، كما تخرج الذنوب من سائر أعضاء الوضوء؛ فإنَّ الأذنين أداتا حاسَّة السمع، فيطهَّران طهارةً حسيَّة بمسحهما بالماء، وطهارة معنوية من الذنوب. 9 - لمسلم (235) عن عبد الله بن زيد في صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم-: "ومسح رأسه بماء غير فضل يديه" وهذا هو المحفوظ، وأمَّا رواية البيهقي: "أنَّ عبد الله بن زيد رأى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ لأُذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه فهي شاذة، وحديث: "الأذنان من الرأس" [رواه أبو داود (134) والترمذي (37)] وأقوال الصحابة أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "مسح رأسه وأذنيه مرَّة واحدة" دليلٌ على أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يمسح رأسه وأذنيه بماءٍ واحد. 10 - حد الرأس من منابت شعر الرأس المعتاد ممَّا يلي الجبهة، إلى مفصل الرأس من الرقبة، ومن الأذن إلى الأذن، ولا يمسح ما نزل من شعر الرأس أسفل من ذلك؛ لأنَّه قد تجاوز مكان الرأس من الإنسان. 11 - ظهر الأذن هو ما يلي الرأس، أمَّا الغضاريف فهي من باطن الأذن. * خلاف العلماء: اتفق الأئمة على أنَّ مسح الرأس من فروض الوضوء، وعلى أنَّ المشروع مسحه جميعه، واختلفوا في وجوب مسحه كله: فذهب أبو حنيفة والشافعي: إلى جواز مسح بعضه؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- توضأ ومسح على ناصيته.

وذهب الإمام مالك والإمام أحمد: إلى وجوب مسحه كله؛ كما ثبت ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة والحسنة. قال شيخ الإِسلام: لم يُنْقَل عن أحدٍ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- اقتصر على مسح بعض الرأس. وقال ابن القيم: لم يصح عنه حديث واحد أنَّه اقتصر على مسح بعض الرأس ألبتة، وقال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، والباء لا تدل على مسح البعض؛ لأنَّها للإلصاق، ومن ظنَّ أنَّها للتبعيض، فقد أخطأ على أئمة اللغة. * تنبيه: ورد في كيفية مسح الرَّأس عدَّة روايات منها: 1 - حديث عليٍّ: "مسح برأسه مرَّةً واحدة" [رواه أبو داود (115) والترمذي (32)]. 2 - حديث عبد الله بن زيد: "فأقبل بيديه وأدبر" [رواه مسلم (235)]. 3 - الرواية الأخرى: "بدأ بمقدِّم رأسه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثمَّ ردهما إلى المكان الذي بدأ منه". 4 - حديث الربيِّع بنت مُعَوِّذ: "مسح برأسه فبدأ بمؤخر رأسه ثمَّ بمقدمه" [رواه أبو داود (129)]. ويوجد أيضًا بعض الروايات الأُخر التي من أجلها قال الصنعاني: ويحمل اختلاف لفظ الأحاديث على تعدد الحالات. قلت: تعدُّد الروايات يدل على جواز المسح على أي كيفية جاءت، وإنَّما مدار الوجوب هو تعميم الرأس بالمسح، واختيار أصح الرويات وأفضلها، لتكون الغالبة في الوضوء. قال ابن القيم: لم يثبت أنَّه أخذ لأذنيه ماءً جديدًا. قال الحافظ: المحفوظ أنَّه مسح رأسه بماء غير فضل يديه، والأُذنان من الرأس؛ كما ورد في الحديث. واختار الشيخ: أنَّ الأذنين يمسحان بماء الرأس؛ وهو مذهب الجمهور.

34 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا, فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فليستنثر: "اللَّام" لامُ الأمر. - استيقظ: انتبه من نومه من غير أنْ يُنَبَّه. - منامه: أي: نومه؛ ومنه قوله تعالى عن إبراهيم: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}؛ كما يطلق على اسم الزمان المصوغ من الفعل؛ ليدل على زمان الحدث. - الشيطان: قَالَ أهل اللغة: في الشيطان قولان: أحدهما: أنَّه من "شطن": إذا بَعُدَ عن الحق؛ فتكون النون أصلية. والقول الثاني: أن الياء أصلية والنون زائدة عكس الأوَّل، وهو من شاط يشيط: إذا هلك. والشيطان: من مخلوقات الله شرِّيرٌ مفسد، واحد الشياطين، وهم عالم غيبي، الله أعلم بكيفية خلقهم، وهم من ذريَّة إبليس، وقد جعل الله لهم قدرة على التكيف والتشكل؛ لحكمةٍ أرادها جلَّ وعلا. - يبيت: يُقال: بات يبيت بيتوتة، أي: أدركه الليل وقضاه، نام أو لم ينم. - خيشومه: بفتح الخاء وسكون الياء وضم الشين، هو أعلى الأنف من داخله. ¬

_ (¬1) البخاري (3295)، مسلم (238).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - بعض الروايات قيدت هذا الاستنثار عند الوضوءة فيكون هو المنصوص عليه مع الوضوء، وبعض الرويات أطلقته ولم تقيده، فالأولى الاستنثار ثلاثًا، إنْ لم يصادف بعد الاستيقاظ من نوم الليل وضوء؛ فإنَّ فيه شَبَهًا قويًّا بغسل اليدين بعد الاستيقاظ من البيتوتة. 2 - يدل الحديث على مشروعية الاستنثار؛ لأنَّه ورد بصيغة الإرشاد، والاستنثار يلزم منه الاستنشاق. 3 - تقييده بنوم الليل، أخذًا من لفظ "يبيت"؛ فإنَّ البيتوتة لا تكون إلاَّ من نوم الليل، ولأنَّه مظنَّة الطول والاستغراق. 4 - علَّل ذلك بأنَّ الشيطان يبيت على خيشومه. قال القاضي عياض: يحتمل أنْ يكون على حقيقته؛ فإنَّ الأنف أحد منافذ الجسم، وليس شيء من منافذه ليس عليه غلق، سوى الأنف والأذنين، وجاء الأمر بالكظم عند التثاؤب من أجل دخول الشيطان حيننئذٍ في الفم. 5 - الاحتراس من الشيطان؛ فإنَّه يريد الولوج إلى ابن آدم مع كلِّ طريق، وهو يجري منه مجرى الدم، ويحاول إضلاله وإفساد عباداته، فابن آدم ملاحَقٌ ومحاصَر منه، والمعصوم من عصمه الله تعالى، واستعان بالله عليه، واستعاذ بالله من شرِّه. 6 - مثل هذه الأحكام السمعية إذا صحَّت، فالواجب على المؤمن التصديق بها والتسليم، ولو لم يدرك كيفيتها؛ قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}. 7 - يرى شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنَّ غسل يدي المستيقظ من نوم الليل، والاستنثار بعد النوم: أنَّ ذلك من ملامسة الشيطان، فقد علَّل الغسل بأنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده، وهنا علَّل الاستنثار بأنَّ الشيطان بات على

خيشومه؛ فعلم أنَّ ذلك هو سبب الغسل والاستنثار. 8 - اسْتَدَلَّ بهذا الحديث من يرى غسل النجاسة ثلاث مرَّات، وهي إحدى الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، ولكن ما دام أنَّنا لم نتحقَّق موجب الاستنثار ثلاثًا، وأنَّ ذلك خاصٌّ بنوم الليل دون النَّهار، فإنَّ الاستدلال بهذا الحديث، وبحديث غسل اليدين ثلاثًا من نوم الليل -ليس بواضح، مع وجود أدلَّة كثيرة صحيحة، دالَّةٍ على الاكتفاء بغسلة واحدة، تذهب بعين النجاسة، عدا نجاسة الكلب. ***

35 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذَا اسْتَيْقَظَ: تَنَبَّه من نومه، والاستيقاظ بمعنى التيقظ، وهو لازم. "إذا" شرطية غير جازمة، جوابها: "فلا يغمس يده". - لا يغمس: يُقال: غَمَسَ يَغْمِس غمسًا من باب ضرب، أي: لا يدخل يده في الماء. - يده: يراد باليد: الكف، وتقدم أنَّها الرَّاحة والأصابع، وَحَدُّها: من أطراف الأصابع إلى مفصلها من الذراع. - فلا يغمس يده: الغمس أنْ يغيب اليد في الماء الذي في الإناء، و"لا" ناهية، و"يغمس" مجزوم بها، وجاء في بعض روايات البخاري: "فلا يغمسنَّ" بنون التوكيد الثقيلة. - فإنَّه لا يدري: إيماء إلى أنَّ الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأنَّ الشَّارع إذا ذكر حكما وعقَّبه بعلَّة؛ دلَّ على ثبوت الحكم لأجلها. -أين: ظرف مكان مبني على الفتح ومحله النصب، ولعلَّ المكان المسؤول عنه جزء من جسد النَّائم، أو ملامسة الشيطان ليده. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل، ثلاث مرَّات، فلا تكفي الغسلة ولا الغسلتان، واليد عند الإطلاق: يراد بها الكف فقط، فلا يدخل فيها الذراع؛ وهذا هو مذهب الإمام أحمد، والجمهور: على أنَّه مستحب. ¬

_ (¬1) البخاري (162)، مسلم (237).

2 - قيدناه بنوم الليل؛ لقوله: "فإنَّه لا يدري أين باتت يده"، والبيتوتة: اسم لنوم الليل، وسيأتي مذهب الجمهور: أنَّها تغسل من عموم النوم، ليلاً أو نهارًا .. 3 - النَّهي عن إدخالهما الإناء قبل غسلهما ثلاثًا، لكن لو غسل يدًا واحدة ولم يغسل الأُخْرى، فله إدخالها وحدها؛ فلكلِّ يد حكمها. وذكر الإناء دليلٌ على أنَّ النَّهي مخصوص بالأداة، دون البِرَكِ والحياض. 4 - أخذ أصحابنا من هذا الحديث أنَّ الماء المغموس فيه يد القائم من نوم الليل سلبت الطهورية منه، وأنَّه أصبح طاهرًا غير مطهِّر، ولكن هذا قول مرجوح، والصحيح: أنَّه باقٍ على طهوريته لما تقدَّم، من أنَّ الماء لا ينجس، إلاَّ إذا تغيَّرت صفة من صفاته بالنجاسة. 5 - قال الخطابي: فيه أنَّ الأخذ بالاحتياط في باب العبادات أولى. قال النووي: ما لم يخرج عن حدِّ الاحتياط، إلى حدِّ الوسوسة. 6 - فيه استحباب الكناية عمَّا يستحيا منه، إذا حصل الإفهام بها. 7 - يجب على السَّامع لِسُنَّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يتلقَّاها بالقبول، وإذا لم يفهم المعنى، فَلْيَرُدَّ هذا إلى قصور في العقل البشري؛ وإِلَّا فأحكام الله تعالى مبنيَّةٌ على المصالح؛ والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}، أمَّا الخواطر الرديئة، فليدفعها عن نفسه؛ فإنَّها من إلقاء الشيطان ووسوسته. * خلاف العلماء: ذهب الشافعي والجمهور: إلى أنَّ كلَّ نومٍ من ليلٍ أو نهار، يشرع بعده غسل اليدين؛ لعموم قوله: "من نومه"؛ فإنَّه مفرد مضاف، وهو يعم كل نوم، وأمَّا قوله: "أين باتت يده" فهو قيدٌ أغلبيٌّ، ومتى كان القيد أغلبيًّا، فهو عند الأصوليين لا مفهوم له؛ كما قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فهنا قيدان: أحدهما: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}. فهذا قيد مقصود، ولذا جاء مفهومه، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ

تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. القيد الثاني: قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}؛ فهذا قيدٌ أغلبيٌّ والقيد الأغلبي لا مفهوم له، ولذا لم يأتِ له مفهوم في الآية الكريمة. ومثل هذا القيد في حديث الباب، بقوله: "باتت يده"؛ فإنَّه قيدٌ أغلبيٌّ، فلا يقتضي التخصيص، ولا مفهوم له، وإذًا فليس نوم الليل شرطًا في غسل اليد ثلاثًا من النوم. وأمَّا المشهور من مذهب الإمام أحمد: فإنَّه لا أثر لنوم النَّهار، وإنَّما وجوب الغسل خاص بنوم الليل؛ لقوَّة: "فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده". واختلف العلماء في الحكمة من غسل اليدين ثلاثًا، بعد الاستيقاظ من النوم: فذهب بعضهم: إلى أنَّها من الأمور التي طويت عنَّا حكمتها، فلم نعلمها، مع اعتقادنا أنَّ أحكام الله تعالى مبنيَّة على المصالح والمنافع، وأنَّ قول النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدري أين باتت يده" يشير إلى هذا الخفاء في العلَّة. وبعضهم قال: لها علَّة مدركة محسوسة، والإنسان يده معه حال نومه، وإنَّما فيه إشارة إلى أنَّ يد النَّائم تجول في بدنه بدون إحساس، وأنَّها قد تلامس أمكنة من بدنه، لم يتم تطهيرها بالماء؛ فَتَعْلَقُ بها النجاسة. أمَّا شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فيقول: إنَّ مشروعية غسل اليدين، هو ملامسة الشيطان لهما؛ ويدل على ذلك التعليل: "فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت"، ومثله جاء في الحديث الذي قبله: "فَإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه" [رواه البخاري (3295) ومسلم (238)]. وهذا تعليل مرضيٌّ مقبول؛ ولعلَّ المصنِّف لم يقرن الحديثين هنا، إلاَّ إشارة إلى تقارب المعنى بينهما، والله أعلم. واختلف العلماء -أيضًا- هل لهذا الأمر معنًى، أم أنَّه تعبدي؟: والرَّاجح من قولي العلماء: أنَّه معقول؛ ويدل عليه قوله: "فإنَّه لا يدري أين باتت يده". وممَّن يرى أنَّ الأمر فيها تعبدي: المالكية والحنابلة.

36 - وَعَنْ لَقِيْطِ بْنُ صَبْرَةَ, -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ, وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ, وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ, إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ: "إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنَّف: صحَّحه ابن خزيمة، وقال في التلخيص: أخرجه الشَّافعي وابنُ الجارود وابنُ خزيمة وابنُ حبَّان والحاكم والبيهقيُّ وأصحاب السنن الأربعة مطوَّلاً ومختصرًا، وصحَّحه الترمذي والبغويُّ وابن القطَّان. وفي الباب حديث ابن عبَّاس: "استنثروا مرَّتين بالغتين أو ثلاثًا" رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن الجارود، والحاكم، وصححه ابن القطان. * مفردات الحديث: - أسبغ: من الإسباغ، وهو الاتساع والإتمام، و"أسبغْ" و"خلِّل" و"بَالِغْ" -كلها أفعال أمر، وفعل الأمر ما دلَّ على طلب وقوع الفعل من الفاعل المخاطب، والأصل أنَّه مبنيٌّ على السكون، فأسبغ الوضوء: وفِّ كلِّ عضوٍ حقه في الغسل؛ فهو الإتمام واستكمال الأعضاء. قال في القاموس: أسبغ الوضوء: أبلغه مواضعه. - خلِّل: تخليل الأصابع: التفريج بينها، وإسالة الماء بينها، والمراد أصابع ¬

_ (¬1) أبو داود (142، 144)، الترمذي (788)، النسائي (87)، ابن ماجه (448)، ابن خزيمة (150).

اليدين والرجلين؛ لحديث ابن عبَّاس: "إذا توضأت، فخلِّل أصابع يديك ورجليك" [رواه أحمد (15945) والترمذي (28)]. - بالغ: ابذل الجهد واستقص، بإيصال الماء إلى أقصى الأنف. - صائمًا: الصيام شرعًا: هو إمساك بنيَّةٍ عن مفسدات الصوم، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، من المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، وسيأتي إِنْ شاءَ الله. "إلاَّ أنْ تكون صائمًا": هذا الاستثناء لا يعود إلاَّ على المبالغة في الاستنشاف، وأمَّا إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع، فلا يعود عليهما؛ لأنَّ الصيام لا يتأثَّر إلاَّ من الاستنشاق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسباغ مشترك بين الواجب وبين المستحب، فيستعمل للوجوب فيما لا يتم الوضوء إلاَّ به، ومستحب فيما عدا ذلك. 2 - استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين عند غسلهما، وتخليلهما: جعل الماء يتخلَّل بينهما، والصَّارف عن الوجوب دقَّةُ الماء، ووصولُهُ إلى ما بينها بدون تخليل، وبهذا يحصل القدر الواجب؛ فيبقى الاستحباب على الاحتياط في ذلك. 3 - استحباب المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء، إلاَّ مع الصيام، فيكره؛ خشية وصول الماء إلى الجوف، والصَّارف له عن الوجوب: أنَّه لو كان واجبًا، لما منعه الصيام، ولوجب التحرز عن نزول الماء في الجوف مع المبالغة، وهو أمرٌ ممكن. ويلحق به استحباب المبالغة في المضمضة لغير صائم؛ لأنَّهما في معنى الاستنشاق؛ كما نصَّ على ذلك الفقهاء. 4 - وجوب المضمضة عند الوضوء، وتقدَّم الخلاف في ذلك، وهو الرَّاجح من

قول العلماء في ذلك. 5 - قوله: "إِلاَّ أنْ تَكُونَ صائِمًا": الاستثناء عائد على الاستنشاق؛ لأنَّه لا أثر له في الإسباغ والتخليل؛ وإِلاَّ؛ فالأصل أنَّ الاستثناء يعود على جميع ما تقدمه من الجمل، إلاَّ أنْ يدلَّ دليلٌ يخصه ببعضها، كهذا الحديث. 6 - قوله: "أسبغ الوضوء ... إلخ" وجه الأمر لواحد، إلاَّ أنَّه أمرٌ لجميع الأمَّه، وهكذا الأوامر والنَّواهي الشرعية؛ لأنَّ الأحكام لا تتعلَّق بالأشخاص، وإنَّما تتعلَّق بالمعاني، والعلل التي أوجبتها، هذا ما لم يكن هناك دليلٌ يدل على تخصيص شخص بعينه؛ كقصَّة أبي بردة وأضحيته. ***

37 - وَعَنْ عُثْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، وله شواهد عن عددٍ كبيرٍ من الصحابة، لا تخلو من مقالٍ، ولكنَّه يَتَقَوَّى بها. قَالَ الحافظ في التلخيص: رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والدَّراقطني وابن حبَّان عن عثمان، وأورد له الحاكم شواهد: عن أنسٍ وعائشة وعليٍّ وعمَّارٍ. قلت: وفيه أيضًا عن أمِّ سلمة وأبي أيوب وأبي أمامة وغيرهم، وعدَّدهم الحافظ في التلخيص، وذكر طرقهم وأسانيدهم. وذكره الكتاني والسيوطي في الأحاديث المتواترة، فقد روي عن ثمانية عشر صحابيًّا، وقد ضعَّف أحاديث التخليل بعض المحدِّثين، وتكلَّموا في أسانيدها؛ كالعقيلي، وابن حزم، والزيلعي. قال الإمام أحمد وأبو حاتم: ليس في تخليل اللحية شيءٌ صحيحٌ. * مفردات الحديث: - لحيته: اللحية: شعر العارضَيْن والذَّقَنِ، جمعه: لحًى، بكسر اللام وضمها. * ما يؤخذ من اللحية: 1 - مشروعية تخليل اللحية في الوضوء، وهو تفريقها وإسالة الماء فيما بينها؛ ليدخل ماء الوضوء خلال الشعر، ويصل إلى البشرة. ¬

_ (¬1) الترمذي (430)، ابن خزيمة (1/ 86).

2 - الشعر الذي في الوجه قسمان: أحدهما: أنْ يكون خفيفًا، ترى البشرة من ورائه؛ فهذا يجب غسله، وغسل ما تحته من البشرة. الثاني: أنْ يكون كثيفًا، وذلك بأنْ لا ترى البشرة من ورائه، فهذا يجب فيه غسل ظاهره، ويستحب تخليل باطنه، وأمَّا في الغُسْلِ: فيجب غسله، وإيصال الماء إلى البشرة، وأصول الشعر. 3 - هذا التفصيل والبيان جاء من التتبع، والاستقراء للوضوء الشرعي، فما ظهر من الوجه يجب غسله، ومنه ما تحت الشعر الخفيف، وما استتر منه لكثافة الشعر، كلحيته -صلى الله عليه وسلم-، فالمشروع تخليلها. ***

38 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتَيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ, فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد صحَّحه أبو زرعة الرَّازي، وابن خزيمة، وأخرجه الحاكم، وابن حبَّان. وقد أخرج أبو داود (94) من حديث أمِّ عمارة الأنصارية بإسنادٍ حسن: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- توضأ بإناءٍ فيه قدر ثلثي مد"، ورواه البيهقي (1/ 196) عن عبد الله بن زيد. والخلاصة: أن عباد بن تميم قد روى الحديث عن عبد الله بن زيد، وعن أم عمارة، وهو ثقة؛ فالروايتان صحيحتان. * مفردات الحديث: - مُدّ: بضم الميم المشدَّدة المهملة، المد: وحدة قيل شرعية، وهي رُبُعُ الصاع النبوي، وقدرها (750 ملل). - يدلك: دلك الجسد بيده ليغسله، ويوصل الماء إلى مغابنه. - ذراعيه: الذِّراع من الإنسان: هي من طرف المرفق إلى الكف، جمعه أذرع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية الوضوء بثلثي المد، والمُدُّ: ربع الصالح النبوي، والصاع النبوي (3 لتر). قال في القاموس: هو ملء كف الإنسان المعتدل، إذا ملأهما ومدّ يده بهما. ¬

_ (¬1) أحمد (16006)، ابن خزيمة (1/ 62).

2 - استحباب التقليل بقدر الحد الذي توضأ به النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثله الغُسْل؛ فإنَّ هذا من هدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. 3 - استحباب دلك أعضاء الوضوء؛ لأنَّ ذلك من الإسباغ المستحب. 4 - بهذه الكيفية للغَسْل، يُعْرَفُ الفرق بين المسح وبين الغَسْل؛ فإنَّ المسح: بَلُّ اليد بالماء، ومسح المكان بها، وأمَّا الغسل: فهو إجراء الماء على المحل، ولو أدنى جريان. 5 - الأفضل هو الاقتداء بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الكمية في ماء الوضوء، ولا تضر الزيادة اليسيرة، وأمَّا الإسراف في الماء فحرامٌ؛ لما روى أحمد (6646) والنسائي (140) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدَّى وظلم". * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم الدلك، هل هو مستحبٌّ أو واجبٌ؟: فذهب الإمام مالك: إلى وجوبه؛ استدلالاً بهذا الحديث. وذهب الإمام أحمد: إلى عدم وجوبه؛ لأنَّه لم يرد ما يدل على الوجوب، وأمَّا فعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فيدل على الاستحباب، والمأمور به هو الغسل، وليس الدلك منه. لكن إِنْ كان الماء لا يصل إلى البشرة إلاَّ بالدلك، فهو واجب، وليس وجوبه من هذا الحديث، وإنَّما مراعاةً للإسباغ الواجب، وإِتمامًا للوضوء.

39 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- "أَنَّه رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً غَيْرَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَهُ لِرَأْسِهِ" أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: "وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرَ فَضْلِ يَدَيْهِ" وَهُوَ الْمَحْفُوظُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الرواية الأولى من الحديث شاذة، والرواية الثانية محفوظة، وحكم الشاذ الرد، وحكم المحفوظ القبول؛ ولذا قال المؤلف في التلخيص: وفي صحيح ابن حبَّان: "ومسح رأسه بماءٍ غير فضل يديه" ولم يذكر الأذنين. * ما يُؤْخذ من الحديث: في الحديث روايتان: إحداهما: أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ لمسح أذنيه ماء، غير الماء الذي أخذه لرأسه. الثانية: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه بماءٍ غير فضل يديه، وهذه الرواية هي الصحيحة؛ لما يأتي: أوَّلاً: أنَّها هي الرواية المحفوظة، فتكون الرواية المقابلة لها رواية شاذة حسب اصطلاح المحدِّثين؛ فإنَّ الحديث الشاذ: ما رواه راوٍ مخالفًا لمن هو أوثق منه، بوجهٍ من وجوه الترجيحات. ثانيًا: أنَّ الرواية الأولى أخرجها البيهقي، وأمَّا الثانية فهي عند مسلم؛ فلها مزيد صحة. ¬

_ (¬1) مسلم (236)، البيهقي (1/ 196).

ثالثًا: تقدَّم أنَّ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أبو داود والنسائي وصحَّحه ابن خزيمة: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السبَّاحتين في أُذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه"، ولم يذكر أخذ ماء جديد لأذنيه. رابعًا: تقدم لنا أن الأذنين من الرأس؛ فهما داخلتان في مسمَّاه لغةً وشرعًا. خامسًا: قال ابن القيم في الهدي: لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أخذ لأذنيه ماءً جديدًا. وقال في تحفة الأحوذي: لم أقف على حديثٍ مرفوعٍ صحيح خال من الكلام، يدل على مسح الأذنين بماء جديد. ***

40 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ, فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُمَّتي: الأمة: الجماعة من النَّاس تجمعهم صفات موروثة، أو مصالح واحدة، أو يجمعهم دينٌ واحد، والمراد هنا: أمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- المتبعون لهديه. - يوم القيامة: يوم بعث الله الخلائق للحساب والجزاء، سمي بذلك لقيام النَّاس فيه من قبورهم، أو لإقامة عدل الله بينهم، أو لقيام الأشهاد. - غُرًّا: بضم الغين وتشديد الرَّاء، جمع أغر، أي: ذو غرَّة، والغرَّة أصلها: لمعةٌ بيضاء في جبهة الفرس، فأطلقت على نور وجوه هذه الأمَّة المحمدية، و"غرًّا": حالٌ من ضمير يأتون. - محجَّلين: جمع محجَّل بتشديد الجيم المفتوحة، من التحجيل، وهو بياضٌ في قوائم الفرس كلها، والمراد: نور هذه الأعضاء يوم القيامة. - من أثر الوضوء: علة للغرة والتحجيل المذكورين. أثر: جمعه آثار، والأثر: العلامة على الشيء، وبقيته. - الوضوء: بضم الواو مصدر، هو الفعل، مشتق من الوَضَاءة: هي الحُسْن، تقول: وَضُؤَ الرجل صار وضيئًا؛ وأمَّا الوَضُوء، وبفتح الواو: فهو الماء الذي يُتوضأ به؛ هذا هو أشهر قولَيْ أهل اللغة في ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري (136)، مسلم (246).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضيلة الوضوء، وأنَّه سببٌ قويٌّ لحصول السعادة الأبدية. 2 - أنَّ أثر الوضوء على الأعضاء سبب لنورها؛ ففي الوجه لمعةٌ بيضاء مشرقة، وفي اليدين والرجلين نورٌ مضيءٌ. 3 - أنَّ هذه ميزةٌ خاصَّة، وأمارةٌ فارقة لأمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، تلك الأمة الممتثلة والقائمة بطاعة الله تعالى. 4 - الرَّاجح: أنَّ الوضوء من خصائص أمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن في الأمم السَّابقة؛ ذلك أنَّ الله تعالى جعل الغرَّة في وجوههم، والتحجيل في أيديهم وأقدامهم، سيما خاصَّةً لهم من أثر الوضوء؛ لما جاء في صحيح مسلم (247)؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكم سيما ليست لأحدٍ من الأمم تَرِدُونَ عليَّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء"، ولو كان غيرهم يتوضأ، لصار لهم مثل ما لأمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخ الإِسلام: الوضوء من خصائص هذه الأمة كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، أمَّا ما رواه ابن ماجه: فلا يحتج به، وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحدٍ من الأنبياء، أنَّه يتوضأ وضوء المسلمين. 5 - أنَّ طاعة الله تعالى سببٌ للفلاح والنجاح والفوز، فكل عبادةٍ لله تعالى لها جزاء يناسبها. 6 - إثبات المعاد والجزاء فيه، وهو ممَّا علم من الدِّين بالضرورة، فإنَّ الإيمان بالبعث هو من أركان الإيمان الستَّة، فلا يصح إسلام أحدٍ إلاَّ بالإيمان بالبعث والجزاء بعد الموت. 7 - البعث يكون للأرواح والأجساد؛ كما صحَّ بذلك الحديث عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّ النَّاس يحشرون يوم القيامة حفاة عراةً غرلًا. 8 - قوله: "من أمتي": الأمة قسمان: أمة دعوة، وأمَّة إجابة؛ فكل وصفٍ أنيط

بأمَّة محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فالمراد به أمَّة الإجابة، وما عدا ذلك، فهم أمَّة الدعوة. * خلاف العلماء: ذهب أبو حنيفة، والشافعي وأحمد وأتباعهم: إلى استحباب مجاوزة الفرض في الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا ببقية حديث الباب: "فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته، فليفعل". قال النووي: اتفق أصحابنا على غسل ما فوق المرفقين والكعبين. وذهب الإمام مالك وأهل المدينة: إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإِسلام، وابن القيم، واختار هذه الرواية من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم. واستدلوا على ذلك بما يأتي: أوَّلاً: مجاوزة محل الفرض على أنَّها عبادة، دعوى تحتاج إلى دليل. ثانيًا: كل الواصفين لوضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ذكروا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين. ثالثًا: آية الوضوء حدَّدت محل الفرض: المرفقين والكعبين، وهي من آخر ما نزل من القرآن. رابعًا: لو سلمنا بهذا، لاقتضى الأمر أنْ نتجاوز حدّ الوجه، إلى بعض شعر الرأس، وهذا لا يسمَّى غرَّة؛ فيكون متناقضًا. خامسًا: الحديث لا يدل على الإطالة؛ فإنَّ الحلية إنَّما تكون زينة في السَّاعد والمعصم، لا العضد والكتف. سادسًا: أمَّا قوله: "فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته وتحجيله، فليفعل" فهذه الزيادة مدرجةٌ في الحديث من كلام أبي هريرة، لا من كلام النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في رواية أحمد (8208)، وقد بين ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ.

ففي مسند الإمام أحمد: قال نُعَيْمٌ المُجَمِّرُ راوي الحديث: لا أدري: قوله: "من استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته، فليفعل" من كلام النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، أو شيء قاله أبو هريرة من عنده؟!. وقال ابن القيم: وكان شيخنا يقول: هذه اللفظة لا تكون من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّ الغرَّة لا تكون في اليد، ولا تكون في الوجه، وإطالتها غير ممكنة وإذا كانت في الرأس، فلا تسمَّى تلك غرة. أهـ. وقال في النونية: واحفظ حدود الرب لا تتَعَدَّهَا ... وكذاك لا تجنح إلى النقصان وانظر إلى فعل الرسول تجده قد ... أبدى المراد وجاء بالتبيان ومن استطاع يطيل غرَّته فمو ... قوفٌ على الراوي هو الفوقاني والرَّاجح الأقوى انتهاء وضوئنا ... للمرفقين كذلك الكعبان هذا الذي قد حدَّد الرحمن في الـ ... ـقرآن لا تعدل عن القرآن وإطالة الغرَّات ليس بممكن ... أبدًا وذا في غاية التبيان فأبو هريرة قال ذا من كيسه ... فغدا يميزه أولو العرفان وَنُعَيْمٌ الراوي له قد شكَّ في ... رفع الحديث كذا روى الشيباني ***

41 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهُ, وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُعجبه: من الإعجاب، يُقال: أعجبني هذا الشيء لحسنه، والعجيب: الأمر يتعجَّب منه، والمصدر العَجَبُ بفتحتين، وأمَّا العُجْبُ بضم العين وسكون الجيم، فهو اسم من أُعْجِبَ فلان بنفسه، والمراد: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يُسَرُّ من التَّيمن ويستحسنه ويفضله ويقدمه، فأمَّا العَجْب بفتح فسكون، فهو أصل الذنب. - التيمُّن: مصدر تيمَّن، وهو تقديم الأيمن على الأيسر، من الجهات والأشياء. - في تنعله: أي: في لبسه النعل ونحوه من الخفين والجوربين، ومثله الثياب. - وترجله: بتشديد الجيم، هو تسريح شعر رأسه ولحيته بالمشط. - طُهوره: بضم الطاء، المراد التطهير بفعل الوضوء، والغسل، وإزالة الأنجاس. - في شأنه: متعلِّق بالتيمن. - في شأنه كله: من الأشياء المستطابة؛ فهذا تعميمٌ بعد تخصيص في كلِّ مُستطاب. * ما يُؤْخذ من الحديث: 1 - استحباب تقديم اليمين في التنعُّل، والترجُّل، والطهور، وما شابهها من الأمور المستطابة. 2 - قوله: "في شأنه كلِّه" هو تعميمٌ بعد تخصيص؛ ولكنَّه تعميم في الأمور المستطابة كما تقدَّم. قال ابن دقيق العيد: هو عامٌّ مخصوص بدخول ¬

_ (¬1) البخاري (168)، مسلم (268).

الخلاء، والخروج من المسجد، ونحوهما، فإنَّه يبدأ فيهما باليسار. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرَّة: استحباب البداءة باليمين، في كلِّ ما كان من باب التكريم والتنزيه، وما كان بضدها استحبَّ في التياسر. 3 - أنَّ جعل اليسرى للأشياء المستقذرة، هو الأليق شرعًا وعقلاً وطبًّا. 4 - أنَّ الشرع الحكيم جاء لإصلاح النَّاس وتهذيبهم، ووقايتهم من الأضرار عامَّة. 5 - أنَّ الأفضل في الوضوء هو البداءة بغسل يمنى اليدين على يسراهما، ويمنى الرجلين على يسراهما. قال النووي: أجمع العلماء على أنَّ تقديم اليمنى في الوضوء سنَّة، من خالفها فاته الفضل، وتمَّ وضوؤه. قال في المغني: لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا. 6 - استحباب البداءة بأيمن الرأس عند ترجيله أو غسله أو حلقه أو غير ذلك. 7 - يستحب تقديم اليمنى من اليدين ومن الرجلين، على اليسرى منهما في كلِّ عملٍ طيِّب ومستحسن، وأنْ يخصِّص اليسرى لما يليق بها؛ من إزالة الأوساخ والأقذار، ومباشرة الأشياء المستقذرة. 8 - في الحديث دليلٌ على أنَّ المسلم الموفَّق يجعل من عاداته عبادات؛ فإنَّ الأمور العادية حينما يأتي بها متَّبِعًا في ذلك هدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وقاصدًا بها القُربة والعبادة، فإنَّ هذه العادات تصير عبادات، وقربات تزيد في حسنات العبد. وبالعكس فإنَّ عبادات الغافل تصير عادات؛ لأنَّه يؤديها في حال غفلة وعدم استحضارٍ لنيَّة التقرب إلى الله تعالى، وعدم استحضار امتثال أمر الله تعالى في أدائها، وعدم استحضار اقتدائه حين أدائها بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّما يستحضر أنَّه قام بهذه العبادة، التي تعوَّد أنْ يقوم بها في مثل هذا الوقت، وغَفَلَ عن المعاني السَّابقة. ففرقٌ بين العبادتين كل منهما بنيَّة مخالفة لنيَّة الأخرى. والله الموفق.

42 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَوَضَّأْتُمْ، فَابْدَؤُوا بِمَيَامِنِكُمْ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأنْ يُصحَّح. وقد حسَّنه النووي في المجموع، وقد أخرجه أحمد (8438) وابن حبَّان (3/ 370) والبيهقي، والطبراني في الأوسط (2/ 21) ويؤيده الذي قبله. * مفردات الحديث: - إذا: ظرفٌ للمستقبل غالبًا، متضمِّنٌ معنى الشرط غالبًا، فعله ماضِي اللفظ مستقبل المعنى كثيرًا؛ كمثل هذا الحديث. - توضأتم: أردتم الوضوء، أو شرعتم فيه. - بميامنكم: مفرده يمين، ضد اليسار؛ للجهة، والجارحة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب التيامن في الوضوء بين اليدين وبين الرجلين، بأنْ يبدأ باليد اليمنى ثمَّ باليد اليسرى، ثمَّ يبدأ بالرجل اليمنى قبل اليسرى؛ كما يدل عليه حديث عائشة المتقدِّم من أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "كان يعجبه التيمن في تنعُّله وترجله وطهوره وفي شأنه كلِّه" رواه البخاري (168) ومسلم (268). 2 - التيامن يتصوَّر بين اليدين والرجلين، بخلاف الوجه: فعضوٌ واحد يغسله ¬

_ (¬1) أبو داود (4141)، ابن ماجه (402)، الترمذي (1766)، النسائي في الكبرى (5/ 482)، ابن خزيمة (1/ 91).

جميعه، والرأس عضوٌ واحدٌ فيمسح جميعه. 3 - أجمع العلماء على أنَّ التيمُّن في الوضوء ليس بواجب، فلو قدَّم الشِّمال على اليمين، أجزأ الوضوء، مع فوات الفضيلة. 4 - قوله: "إذا توضأتم" يعني: شرعتم في الوضوء، وأخذتم به. 5 - أنَّ اليمين تُجْعَل للأعمال الطَّاهرة، وتقدَّم في الأحوال المُسْتطابة، والشمال لما سوى ذلك. ***

43 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بناصيته: النَّاصية؛ قصاص الشعر، ومقدَّم الرَّأس إذا طال، جمعه نواصٍ وناصيات. - العمامة: ثوبٌ يُلَف ويُدَار على الرَّأس، وسيأتي الكلام عليها إِنْ شَاءَ الله تعالى في باب الخفين. - الخفان: مثنى خف، ما يلبسان في الرجلين، ويكون الخف من الجلد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه حكاية المسح على النَّاصية وعلى العمامة، وقال بالمسح عليهما معًا بعض العلماء، والرَّاجح أنَّ الجمع بينهما إنَّما هو برواية الحديث، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح العمامة وحدها، ومسح الرَّأس وحده مبتدئًا بالنَّاصية، فجاءت رواية الحديث بالجمع بينهما؛ فظنَّ بعض العلماء أنَّ الجمع هو بالعمل أيضًا. 2 - اقتصاره -صلى الله عليه وسلم- على مسح النَّاصية لم يُحفظ عنه، قال ابن القيم: لم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة. 3 - الحديث الذي معنا فيه المسح على النَّاصية وعلى العمامة، وتقدَّم أنَّ الرَّاجح أنَّ الجمع بينهما إنَّما هو برواية الحديث، لا الجمع بينهما بالمسح، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- إنْ مسح على العمامة، اقتصر عليها، وإنْ مسح على الرَّأس، مسح ¬

_ (¬1) مسلم (274).

عليه كله لا بعضه. 4 - جواز المسح على العمامة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ لهذا الحديث، ولما روى البخاري (205) عن عمرو بن أمية قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسح على عمامته وخفيه"، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد؛ فلا يصح المسح عليها عند الأئمة الثلاثة. 5 - قد اشترط أصحابنا لصحَّة المسح على العمامة ثلاثة شروط، هي: (أ) أَنْ تكُونَ على ذَكَرٍ دون أُنثى. (ب) أَنْ تكون ساترةً لغير ما العادة كشفه من الرأس. (ج) أَنْ تكُون محنَّكة، أو ذات ذؤابة. وتشارك الخف في شروطه؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. 6 - قوله: "توضأ" استدل به الحنابلة على جواز المسح على الخفين ونحوهما، إذا لبسهما بعد كمال طهارة بالماء، فإنْ كانت طهارته بتيمم، لم يصح، وعلى القول الثاني -من أنَّ التيمم طهارة قائمة مقام الطهارة بالماء- فإنَّه يجوز ولو كان بطهارة تيمم، وهو قولٌ وجيهٌ، ولا يعارضه قوله: "توضأ"؛ فإنَّه ليس له مفهوم. ***

44 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فهو قطعةٌ من حديث جابر في صفة حجَّة الوداع، وقد رواه مسلم عن جابر بن عبد الله بطوله. وإنَّما اختلف -هنا- التعبير من لفظ الخبر عند مسلم، إلى لفظ الأمر عند النسائي. * مفردات الحديث: - ابدؤوا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والواو فاعل. - بما بدأ الله به: يشير إلى الترتيب بين الأعضاء في الوضوء؛ كما رتَّبته الآية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الله تبارك وتعالى ذكر صفة الوضوء في آية المائدة، في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية [المائدة: 6]، فرتَّب أعضاء الوضوء مبتدئًا بالوجه، فاليدين، فمسح الرأس، فغسل الرجلين؛ فترتيبه حسب هذا الترتيب الحكيم جاء في الآية الكريمة. 2 - أنَّ هذا الترتيب المذكور في الآية فرضٌ في الوضوء، فلو أتى به على غير هذا الترتيب، لم يصح وضوؤه، ومن الفقهاء من يصحِّحه. 3 - ممَّا استدلَّ به على لزوم هذا الترتيب، هو إدخال الممسوح -وهو الرَّأس- ¬

_ (¬1) مسلم (1218)، النسائي (5/ 236).

بين مغسولين؛ فإنَّه لم يدخله بينهما إلاَّ مراعاةً لترتيب الأعضاء على هذه الكيفية، وعادة النصوص الكريمة البداءة بالأهم فالأهم. 4 - أمَّا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وبين غسل الوجه، والترتيب بين يدٍ وأُخرى، أو بين رجل وأخرى، أو بين الأُذنين والرَّأس، فالإجماع على أنَّه سنَّة لا واجب؛ لأنَّها بمنزلة عضو واحد؛ إلاَّ أنَّ تقديم اليمين أفضل كما تقدَّم. 5 - الحديث جاء في رواية: بالأمر بالبداءة، وفي روايةٍ أخرى: بالإخبار عن الفعل بالبداءة؛ فاجتمع فيه سنتان: أمره -صلى الله عليه وسلم- وفعله. 6 - الحديث ورد في الحج لتقديم الصفا على المروة؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فيشرع أنْ يطبَّق في كلِّ أمرٍ رتَّبه الله تعالى، فيؤتى به على حسب ما رتَّبه الله تعالى. المؤلِّف -رحمه الله تعالى- ساق هذه القطعة من حديث صفة حج النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ليبين أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا الأمر -وإنْ كان قد ورد في مسألة السَّعي خاصَّة- لكنَّه بعموم الأمر لفظُهُ يدل على قاعدة كليَّةٍ تدخل تحتها آية الوضوء، وهو قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، فيجب البداءة بما بدأ الله به. ***

45 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مُرْفَقَيْهِ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ؛ لأنَّ في إسناده القاسم بن محمد بن عقيل، وهو متروك، وضعَّفه أحمد، وابن معين، وغيرهما، وصرَّح بضعف الحديث جماعةٌ من الحفَّاظ؛ كالمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم. قال الحافظ: يغني عنه ما رواه مسلم عن أبي هريرة: أنَّه توضَّأ حتَّى شرع في العضد، قال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ. * مفردات الحديث: - أدار الماء: أجرى الماءَ، وعمَّمه على جميع المرفقين. - مرفقيه: تثنية مرفق، بكسر الميم وفتح الفاء، وبالعكس، جمعه مرافق، وهو: موصل الذراع في العضد، سُمِّيَ مرفقًا؛ لأنَّه يرتفق به في الاتكاء ونحوه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "إذا توضأ" يعني: شرَعَ في الوضوء، ووصَلَ إلى غسل اليدين. 2 - وجوبُ إدارة الماء على المرفقين عند غسل اليدين؛ لأنَّهما بقيَّة اليد ومنتهاها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لمَّا توضأ: "من توضأ نحو وضوئي هذا ... ". 3 - قال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]؛ قال جمهور المفسِّرين: إنَّ "إلى" هُنا بمعنى "مع"، كما قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] يعني: مع أموالكم، وتقدَّم أنَّ ما بعد "إلى" تارةً يكونُ داخلًا فيما ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 83).

قبلها، وتارةً غَيْرَ داخل، وأنَّ الذي يعيِّنه هو القرينة، وهنا أبانت النصوص أنَّ ما بعدها داخلٌ فيما قبلها؛ فلابُدَّ من غسله. 4 - قال ابن القيم: حديث أبي هريرة في مسلم في صفة وضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّه غسل يديه حتَّى شرع في عضديه" يدل على إدخال المرفقين في الوضوء. ***

46 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ. (¬1) وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَعِيْدِ بْنِ زَيْدٍ (¬2)، وَأَبِي سَعِيْدٍ (¬3) نَحْوُهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَثْبُتُ فِيْهِ شَيْءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف؛ ولكن له طرق يتقوَّى بها. قال الحافظ في التلخيص: قال أحمد: ليس فيه شيءٌ يثبت، فكل ما روي في هذا الباب ليس بقويٍّ. وقال العقيلي: الأسانيدُ في هذا الباب فيها لين. وقال أحمدُ حينما سُئِلَ عن التسمية: لا أعلَمُ فيه حديثًا صحيحًا. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: إنَّ الحديثَ ليس بصحيح. ثمَّ قال ابن حجر: الظَّاهِرُ: أنَّ مجموعَ الأحاديث يحدث منها قوَّة، تدل على أنَّ له أصلاً. وقال الشوكاني: ولا شكَّ أنَّ طرق الحديث تنهض للاحتجاج بها، وقد حسَّنه ابن الصلاح وابن كثير. ¬

_ (¬1) أبو داود (101)، ابن ماجة (399)، أحمد (9137). (¬2) الترمذى (25). (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/ 112).

وممَّن صحَّح هذا الحديث: المنذري وابن القيم والصنعاني والشوكاني وأحمد شاكر. * مفردات الحديث: - لا وضوء: "لا" نافية للجنس، و"وضوء" اسمها، وشِبْهُ الجملة خبرها، والأصل أن النَّفْيَ نَفيٌ للصحَّة، فهي الحقيقة الشرعية، وقيل: للكمال. - اسم الله: المراد به قول: "باسم الله". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب قوله "باسم الله" عند البداءة في الوضوء، قال العلماء: لا يقوم غيرها مقامها؛ للنَّص عليها. قال النووي: التسمية أنْ يقول: "باسم الله" فتحصل السنَّة، وإنْ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو أكمل. 2 - ظاهر الحديث نفي صحة الوضوء، الذي لم يذكر اسم الله عليه. 3 - الحديث بكثرة طرقه صالحٌ للاحتجاج به؛ ولذا أوجب الفقهاء من أصحابنا التسمية عند الوضوء مع الذكر، وتسقُطُ مع النسيان. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في وجوب التسمية عند الوضوء: فذهب الإمام أحمد، وأتباعه: إلى أنَّها واجبة في طهارة الأحداث كلها، ودليلهم حديث الباب وغيره. قال البخاري: إنَّه أحسن شيءٍ في هذا الباب، وقال المنذري: لا شكَّ أنَّ أحاديث التسمية تكتسب قوَّةً، وتتعاضد بكثرتها، وقال ابن كثير: يشد بعضها بعضًا؛ فهو حديثٌ حسنٌ أو صحيح. وهذا القول من مفردات المذهب. قال في شرح المفردات: الصحيحُ مِنَ المذهب: أنَّ التسمية واجبةٌ في

الوضوء، وكالوضوء الغسلُ والتيمُّم، وهو مذهب الحسن وإسحاق. وذهَبَ الأئمة الثلاثة: إلى أنَّها سنَّةٌ، وليست بواجبة، وعدم وجوبها رواية عن أحمد، اختارها الخرقي، والموفق، والشَّارح، وغيرهم. قال الخلَّال: إنَّه الذي استقرَّت عليه الرواية. وقال الشيخ تقي الدِّين: لا تشترط التسمية في الأصح. وقال أحمد: لا أعلم في التسمية حديثًا صحيحًا. وقال المجد: جميع أحاديث التسمية في أسانيدها مقال. وقال السخاوي: لا أعلم من قال بوجوب التسمية إلاَّ ما جاء في إحدى الروايتين عن أحمد. ***

47 - وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال المؤلِّف: أخرجه أبو داود بإسنادٍ ضعيف. وقال في التلخيص الحبير: فيه ليث بن أبي سُلَيْم، وهو ضعيف، وقال ابن حِبَّان: يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه ابن القطَّان، وابن معين، وأحمد. وقال النوويّ في تهذيب الأسماء: اتفق العلماء على ضعفه. * مفردات الحديث: - يفصل: يُقال: فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلًا -من باب ضرب- والفصل: هو التفريق بين شيئين، ومعنى فعله -صلى الله عليه وسلم-، أنَّه يفرِّق بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ ماءً للمضمضة، ثم يأخذ ماءً جديدًا للاستنشاق. - بين: ظرف مبهم، لا يتبيَّن معناه إلاَّ بإضافته إلى اثنين فصاعدًا، كهذا الحديث. وقد تزاد الألف لإشباع الفتحة، فتكون "بينا" كما جاء في حديث أبي هريرة في قصة أيوب -عليه السلام-: "بينا أيوب يغتسل"، وقد تزاد فيه "ما" فيكون "بينما"، فإذا أشبع، أو مع الإشباع زيدت فيه "ما"؛ فحينئذ يكون ظرف زمان بمعنى المفاجأة. ¬

_ (¬1) أبو داود (139).

48 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: "ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا, يُمَضْمِضُ وَيَنْثُرُ مِنَ الْكَفِّ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَاءَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. ذكر المؤلِّف في التلخيص رواياتِ المضمضة والاستنثار من كف واحد عن علي -رضي الله عنه- أنَّها في مسند الإمام أحمد (626، 874)، وفي سنن ابن ماجة (2405)، والرواية الثالثة التي معنا في هذا الحديث، وذكر رواية رابعة التي أفرد فيها المضمضة عن الاستنشاق، تلك الرواية التي أنكرها ابن الصلاح، ولكن المؤلِّف أيدها بقوله: قلت: روى ابن السكن في صحاحه عن شقيق بن سلمة قال: "شهدت عليًّا وعثمان توضَّأ اثلاثًا ثلاثًا، وأفردا المضمضة من الاستنشاق، ثمَّ قالا: هكذا رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضَّأ"؛ فهذا صريح في الفصل، فبطل إنكار ابن الصلاح، فإسناد الحديث صحيح، وممَّن صحَّحه ابن الملقِّن. * مفردات الحديث: - الكف: مؤنث، وهي من الكوع إلى أطراف الأصابع، والمراد من غرفة واحدة من الماء. - تمضمض: يُقال: مضمض يمضمض مضمضة، حرك الماء بإرادته في فمه. - استنثر: يُقَال: نثر ينثر نثرًا، من باب قتل وضرب، والاستنثار إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، الذي هو إيصال الماء إلى جوف الأنف. ¬

_ (¬1) أبو داود (111) والنسائي (95).

49 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: "ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - كفٍّ واحدٍ: الكف: هي من الكوع إلى أطراف الأصابع، جمعُهُ: كفوفٌ وأَكُفٌّ، ولكون تأنيثه مجازيًّا جاز نعته بلفظِ "واحد". * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - حديث طلحة يدل على استحباب الفصل بين المضمضة والاستنشاق، وذلك بأنْ يأخذ لكلِّ واحدٍ ماءً جديدًا؛ ليكون أبلغ في الإسباغ والإنقاء. 2 - حديث علي يدل على استحباب المضمضة والاستنشاق من كفٍّ واحدة، بثلاث غرفات؛ مراعاةً للاقتصاد في ماء الوضوء، ولأنَّ الفم والأنف جزآن من عضوٍ واحدٍ، وهو الوجه. 3 - وحديث عبد الله بن زيد يدل على استحباب المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، بثلاث غرفات أيضًا. 4 - أحسَنُ توجيه للجمع بين هذه النصوص هو إعمالُها، وَحَمْلُهَا على تعدُّد الأحوال، واختلافِ الصفات مع كل مرَّة. قال ابن القيم: وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- يتمضمض ويستنشق تارةً بغرفةٍ، وتارةً بغرفتين، وتارةً بثلاث، وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه، ولا يمكن في الغرف إلاَّ هذا. ¬

_ (¬1) البخاري (185)، مسلم (235).

ولم يجيء الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديثٍ صحيح ألبتَّة، ولفظ أبي داود: "مضمض من الكفِّ الذي يأخذ فيه الماء"، ولفظ النسائي: "مضمض من الكفِّ الذي يأخذ به الماء". أمَّا حديث طلحة بن مصرِّف، فلم يُرْوَ إلاَّ عن أبيه عن جدِّه، ولا يعرف لجدِّه صحبة. أهـ. قال النووي: اتفق العلماء على ضعفه. وقال الحافظ: إسناده ضعيف. أهـ. وبهذا فيكون ما ورد من الصفات هو: 1 - أنْ يمضمض ويستنشق ثلاث مرَّات من ثلاث غرفات، وهذا يفهم من حديث عليٍّ، وحديث عبد الله بن زيد، الذي في الصحيحين. 2 - أمَّا حديث طلحة: فإنَّه يفصل بين المضمضة، وبين الاستنشاق؛ فيأخذ لكلِّ واحدةٍ غرفة، ولكنه لم يبيِّن عدد الغرفات. ***

50 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا, وَفِي قَدَمِهِ مِثْلُ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ. فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن، مع أنَّ العلماء اختلفوا في صحته: فقد قال أبو داود: هذا حديثٌ غير معروف عن جرير بن حازم، ولم يروه إلاَّ ابن وهب، وله شاهدٌ عند مسلم (243)، موقوف على عمر. وقال المنذري: في إسناده بقيَّة بن الوليد، وفيه مقال. وقال الإمام أحمد: إسناده جيد، وقد صحَّحه ابن خزيمة، وأبو عوانة، والضياء المقدسي، وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات مجمع على عدالتهم. ويكفي أنْ نَسُوقَ ما قاله ابن القيِّم على هذا الحديث في تهذيب السنن، قال: علَّل المنذري وابن حزم هذا الحديث برواية بقيَّة له، وزاد ابن حزم أنَّ راويه مجهول. والجواب عن هاتين العلَّتين: أمَّا الأولى: فإنَّ بقيَّة ثقةٌ صدوق حافظ، وإنَّما نُقِمَ عليه التدليس، فإذا صرَّح بالسماع، فهو حجَّة، وقد صرَّح في هذا الحديث بسماعه له. وأمَّا العلَّة الثانية: فباطلةٌ؛ فجهالة الصحابي لا تقدح بالحديث؛ لثبوت عدالتهم. والحديث لمعناه شواهدُ تعضُدُهُ في البخاري (165) ومسلم (242) عن ¬

_ (¬1) أبو داود (173)، وأمَّا النَّسائي فلم يروه، انظر التلخيص (1/ 29).

أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، قالوا: إِنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ويلٌ للأعقاب من النَّار". * مفردات الحديث: - قَدَمه: القدم مؤنثة، وهي: ما يَطأُ الأرضَ من رِجْلِ الإنسان، وفوقها السَّاق، وبينهما المفصلُ الرسغ. - الظفر: فيه لغتان، أجودهما: ضم الظاء والفاء، جمعه أظفار، هو: جسم يكاد يكون شفافًا، موجود على ظهر السلامية الأخيرة، من أصابع اليدَيْن والقدمَيْن. - لم يُصِبْهُ الماء: أصاب السهمُ إصابةً: وصل الغرض، فالمعنى: أخطأه الماء، فلم يصل إليه. - أحسِنْ وضوءك: أحسِنْ فعلَ الشيء، أي أَجِدْ صُنْعَهُ، فَأَتِمَّ وضوءَكَ وأحسنه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب تعميم أعضاء الوضوء، وأنَّ ترك شيء من العضو -ولو قليلًا- لا يصحُّ معه الوضوء. 2 - مشروعية إحسان الوضوء، وذلك بإتمامه وإسباغه، وهذا نص في الرِّجْل، وقياسٌ في غيرها. 3 - أنَّ القدمين من أعضاء الوضوء، وأنَّه لا يكفي فيهما المسح، بل لابدَّ من الغسل؛ كما جاء صريحًا في آية المائدة الآية رقم 6. 4 - وجوب الموالاة بين أعضاء الوضوء، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بأنْ يرجع ليحسن وضوءه كله، من أجل تأخير غسل الرِّجْلِ عن بقيَّة الأعضاء، ولو لم تعتبر الموالاة، لاقتصر على أمره بِغَسْلِ ما تركه فقطْ. 5 - تعيُّن الماء في الوضوء؛ فلا يقوم غيره مقامه. 6 - وجوبُ المبادرة إلى الأمرِ بالمعروف، وإرشادِ الجاهلِ والغافل؛ لتصحيحِ عبادته.

7 - أنَّ إحسان الوضوء هو بإتمامه وإسباغه؛ ليَعُمَّ جميعَ العضو المغسول. 8 - خصَّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأعقابَ بالعقاب بالنَّار؛ لأنَّها التي لم تُغْسَلْ غالبًا، والمراد صاحبُ الأعقاب؛ لأنَّهم كانوا لا يَسْتَقْصُونَ غسل أرجلهم في الوضوء. 9 - في الحديث استحبابُ تحريك الخاتَمِ والسَّاعة في اليد؛ ليحصل اليقين إلى وصولِ ماء الوضوءِ إلى ما تحت ذلك. * خلاف العلماء: ذهب جمهورُ العلماء: إلى وجوب استيعاب أعضاء الوضوء بالماء؛ لما ثبت في الصحيحين: "ويلٌ للأعقاب من النَّار". وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أنَّه يُعْفَى عن نصف العضو أو ربعه أو أقل من الدرهم، وهي روايات تحكى عنه، والصحيحُ عنه: أنَّه يجبُ الاستيعاب. ***

51 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ, وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الصاعُ: مكيالٌ معروفٌ، والمراد به الصاعُ النبويُّ، ويبلغ وزنه (480) مثقالًا من البر الجيد، وباللتر (3 لترات). - المُدّ: بضم الميم، مكيالٌ معروف، وهو ربع الصالح النبوي، ويجمع على أمداد ومدد، ومقداره: (750) ملل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان هديه -صلى الله عليه وسلم- الاقتصاد في الأمور، حتَّى في الأشياء المتوفِّرة المبذولة؛ إرشادًا للناس، وتوجيهًا لهم إلى عدم الإسراف في الأمور. 2 - كان يتوضَّأ بالمُدِّ، وهو مكيال معروف؛ فالصَّاع أربعة أمداد، فيكون المد ربع الصاع، وقدره بالمعيار الحاضر (625) غرامًا، وباللتر (750) ملل. 3 - كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، يعني: من الصاع إلى الصاع والربع، مع وفرة شعره -صلى الله عليه وسلم-، والصاع النبوي: ثلاث لترات. 4 - فضيلة الاقتصاد في ماء الوضوء وفي غيره، وأنَّ الإسراف فيه ليس من هدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. ... ¬

_ (¬1) البخاري (201)، ومسلم (325).

52 - وَعَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ, ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنَ أَيِّهَا شَاءَ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ, وَزَادَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ, وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث في صحيح مسلم؛ فلا داعي لبحثه. وأمَّا زيادة الترمذي فقال: إنَّ في سندها اضطرابًا، ولا يصح فيها شيءٌ، كما ضعَّفها أحمد شاكر، ولكن لها شواهد؛ منها: ما رواه البزَّار والطبراني في الأوسط من حديث ثوبان، وابن ماجه من حديث أنس، والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد، وله شواهد أخرى؛ ولذا أثبته المباركفوري والألباني. * مفردات الحديث: - ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيسبغ الوضوء: "ما" نافيةٌ حجازيةٌ عاملةٌ، اسمها "أحد"، وخبرها "يتوضأ"، و"مِنْ" زائدة، و"أحد" مجرور المحل بـ"من" الزائدة وهو اسم "ما"، والفاء في "يسبغ" بمعنى ثُمَّ، فليست الفاء هنا للترتيب العطفيِّ بإسباغ الوضوء، وليس بمتأخِّر حتَّى يعطف بالفاء؛ ولذا فقد صار معنى الفاء هو معنى ثُمَّ، المفيد لبيان المرتبة. - فيسبغ: الإسباغ: الإتمام والإكمال، وإيصال الماء إلى مغابن الأعضاء. ¬

_ (¬1) مسلم (234)، الترمذي (255).

- إلاَّ: استثناءٌ من النَّفي، وهي في أوَّل الكلام للحصر. - فُتِحَتْ: بالتخفيف والتشديد: أزيل إغلاقها، والتشديدُ مبالغةٌ في فتح أبواب الجنَّة. - الجنَّة: مادة "جنن" تدل على الستر والإخفاء، والمراد بالجَنَّة هنا: دار النَّعيم في الآخرة، جمعها جِنَانٌ. - الثَّمانية: هذه الأبوابَ جاءتْ مبيَّنةً في بعض الأحاديث؛ ففي الصحيحين: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصيام، وباب الصدقة، وجاء في مسند أحمد وغيره: باب الكاظمين الغيظ، وباب المتوكِّلين، وباب الذكر، وباب التوبة. وسيأتي تكميل البحث عنها في الكلام على فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى. - التَّوَّابين: التوبة: الاعترافُ بالذنب، والنَّدَمُ والإقلاع، والعَزْمُ على أنْ لا يعاودَ الإنسانُ ما اقترفه من الذنوب؛ فهي الرجوع عن الذنوب والعيوب، إلى طاعة علاَّم الغيوب، وهذه الصيغةُ -صيغة فعَّال- تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة، وهي هنا محتملة للأمرين، أي: اجعلني من ذوي التوبة، فتكون للنسبة، وأنْ أكون من كثيري التوبة، فتكون للمبالغة؛ وكل من المعنيين صحيح. - المتطهِّرين: بالخلاص من تبعات الذنوب السَّابقة، ومن التلوُّث بالسيئات اللاَّحقة. - التَّوَّاب: من أسماء الله الحسنى، بمعنى: أنَّه الموفِّقُ للتوبة، القابلُ لها؛ قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]. يعني: وفَّقهم للتوبة، {وَأَنَا التَّوَّابُ} [البقرة: 160] يعني: قابل التوبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضيلةُ الوضوء، وما يعود به على صاحبه مِنَ الثواب الجزيل. 2 - مشروعيةُ إسباغِ الوضوء وإتمامِهِ، وما يحصُلُ به من الأجر العظيم.

3 - فضل هذا الذكر الجليل، وأنَّه سبب السعادة الأبدية، وهو مستحبٌّ بإجماع العلماء هنا، وبعد الفراغ من الغسل والتيمم؛ لأنَّه طهارة، فسن فيه الذكر. 4 - أنَّ إسباغ الوضوء، والإتيان بعده بهذا الذكر، من أقوى الأسباب في دخول الجنَّة. 5 - إثباتُ البعثِ، والجزاء بعد الموت. 6 - إثباتُ وجودِ الجنَّةِ وأبوابِها الثمانية، والتخيير في الدخولِ من أبوابها لصاحب العمل الفاضل، ممَّن طهر ظاهره وباطنه. 7 - تفتيح أبواب الجنَّة لصاحب هذه المنزلة، يُحمل على أمرين: أحدهما: تيسيرُ الوصول وتسهيلُ سبل الخير إلى تلك الأبواب، بمعنى أنَّ الله تعالى يُهيِّىء له أسبابَ الأعمال الصالحة التي تبلِّغه هذه الأبواب؛ قال تعالي: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. الثاني: معنى "فتحت" أي: ستفتح يوم القيامة، فوضع الماضي موضع المستقبل لتحقُّق وقوعه وقربه، وهو ضربٌ من التعبير البلاغي؛ قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]. 8 - مطابقة هذا الذكر مكمِّلٌ لطهارة الوضوء؛ فإنَّه بعد أنْ طهَّر ظاهره بالوضوء بالماء، طهَّر باطنه بعقيدة التوحيد، وكلمة الإخلاص التي هي أشرف الكلمات. 9 - كلمة التوحيد: هي مجموعُ شهادةِ أنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَشَهادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ الله؛ فلا تكفي إحداهما عن الأخرى. 10 - زيادة الترمذي لا تنافي الحديث ولا تعارضه، وهي زيادةٌ من ثقة، فهي زيادة مقبولة، فيكون الدعاء بطَلب التوبة، وتطهيرِ الظاهر بالماء، وتطهيرِ الباطن عن الأخلاق الرذيلة، والتطهُّرِ من دنس الذنوب والمعاصي -مناسبٌ عند انتهاء التطهُّر من الحدث الأصغر والأكبر.

فالتوبة: طهارة الباطن، والوضوء: طهارة الظاهر، فكان ذكرهما جميعًا في غاية المناسبة؛ فهو من الأدعية المستحبة في هذا الموطن. وقال الطيبي: قول الشهادتين عَقِبَ الوضوء، إشارةٌ إلى إخلاصِ العمل من الشرك والرِّياء، بعد طهارة الأعضاء من الخَبَثِ والحدث. قال الصنعاني: ولا يخفى حُسْنُ خَتْمِ هذا الباب بهذا الدعاء. 11 - قال ابن القيم: كلُّ حديثٍ في أذكار الوضوء التي تقولها العامَّةُ عند كلِّ عضوٍ بدعةٌ لا أصل لها، وأحاديثها مُختَلَقَةٌ مكذوبةٌ؛ فلم يقل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ولا علَّمه أمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوَّله، وهذا الذكر في آخره، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من الصحابة ولا التَّابعين ولا الأئمة الأربعة. وقال النووي: الأدعية في أثناء الوضوء لا أَصْلَ لها، ولم يذكرها المتقدمون. وقال ابن الصلاح: لم يصحَّ فيه حديث. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: روي عن علي من طرقٍ ضعيفةٍ جدًّا. 12 - قال شيخ الإِسلام: الوضوءُ عبادةٌ كالصلاة والصوم، فهو لا يعلم إلاَّ من الشّارع، وكلُّ ما لا يعلم إلاَّ من الشَّارع فهو عبادة، وقال: من اعتقد أنَّ البدع قربةٌ وطاعةٌ وطريقٌ إلى الله تعالى، وجعلها من تمام الدين، فهو ضال. 13 - التواب: اسم من أسماء الله تعالى، ويسمَّى الإنسان أيضًا بالتواب، ولكن الاشتراك هو باللفظ فقط. أمَّا المعنى: فالله تعالى وصف نفسه بأنَّه توَّابٌ بقوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة] يعني: أنا الذي أوفِّق عبادي للتوبة، وأقبلها منهم، ووصف عباده بالتوبة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة]؛ فوصفهم بكثرة الرجوع إلى الله تعالى، ممَّا عسى أنْ

يبدر منهم من الذنوب، فلكلِّ لفظٍ معنًى، غير معنى اللفظ الآخر، مع العلم بأنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء، في ذاته ولا صفاته. - توبةُ العبد لله تعالى واجبة، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. وللتوبة النصوح شروط: أحدها: الندمُ على ما وقع من الذنب. الثاني: الإقلاعُ عن الذنب إنْ كان متلبِّسًا به. الثالث: العزمُ على أنْ لا يعود إليه في المستقبل. الرادح: الإخلاصُ لله تعالى في التوبة. الخامس: أنْ يتُوبَ قبل حضور الأجل، ومعاينة مقدِّمات الموت. السادس: إنْ كان الحَقُّ الذي عليه لآدمي، ردَّه إليه أو استسمحه. ***

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين مقدِّمة المسح لغة: إمرار اليد على الشيء. وشرعًا: إصابة اليد المبتلَّة بالماء، لحائل مخصوص، في زمنٍ مخصوص. والخف لغةً: بضمِّ الخاء وتشديد الفاء: واحد الخِفَافِ التي تلبس على الرِّجل، سمِّي بذلك؛ لخفَّته. وشرعًا: السَّاتر للقدمين إلى الكعبين فأكثر، من جلد وغيره. وَذُكِرَ بعد الوضوء؛ لأنَّه بَدَلٌ عن غَسْلِ ما تحته. والمسح رخصة: والرخصة لغةً: التسهيلُ في الأمر. وشرعًا: ما ثبَتَ على خلاف دليلٍ شرعيٍّ، لمعارضِ راجح. وفي الحديث: "إنَّ الله يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى رخصه" [رواه ابن خزيمة (3/ 259) وابن حبان (8/ 333)]. والمسح دلَّت عليه الأحاديثُ المتواترة: قال الحسن البصري: حدَّثني سبعون من أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح على خفيه. وقال الإمام أحمد: ليس في نفسي مِنَ المَسْحِ شيء؛ فيه أربعون

حديثًا عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن المبارك: ليس بين الصحابة خلافٌ في جواز المسح على الخفين. ونقل ابن المنذر الإجماعَ على جوازه، واتفق عليه أهل السنَّة والجماعة؛ فهو جائزٌ في الحضر والسفر، للرِّجال والنِّساء؛ تيسيرًا على المسلمين. ***

53 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَتَوَضَّأَ, فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ, فَقَالَ: "دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. . وَلِلْأَرْبَعَةِ عَنْهُ إِلَّا النَّسَائِيَّ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ"، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: ما زاده الأربعة إلاَّ النسائيُّ، قال المؤلف: في إسناده ضعفٌ. قال في التلخيص: "مسح أعلى الخف وأسفله" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة، عن المغيرة؛ وأحمد يضعِّف كاتب المغيرة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وأبي زرعة: حديث الوليد ليس بمحفوظٍ، قال الترمذي: هذا حديثٌ معلولٌ لم يسنده عن ثور غير الوليد. * مفردات الحديث: - فأهوَيْتُ: قال في المصباح: أهوَى إلى الشيء بيده: مدَّها ليأخذه، إذا كان عن قرب، فإنْ كان عن بُعْدٍ، قيل: هوى إليه بغير ألف. - لأنزع: نزع ينزع، من باب ضرب، قلع الشيء، والمراد: لأقلع خفيه من رجليه، فالنزع: قلع الشيء من مكانه. ¬

_ (¬1) البخاري (206)، مسلم (274)، أبو داود (165)، الترمذي (97)، ابن ماجة (550).

- خفيه: تثنية خف، هو ما يلبس في الرِّجْلِ من جِلْدٍ ساتر للكعبين، وقد يستر ما فوقهما، جمعه: خِفَافٌ وأخفاف. - كنت مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: في غزوة تبوك في رجب سنة تسع؛ كما جاء مبينًا في روايةٍ أخرى من روايات صحيح البخاري. - دعهما: فعل أمرٍ من وَدَعَ، فهو معتلُّ الفاء، فتحذف إذا صيغ منه فعل أمر، ومعناه: اتركهما في مكانهما. - فإنِّي أدخلتهما طاهرتين: تعليلٌ لترك نزعهما، والضميرُ في "أدخلتهما" يعود إلى القدمين. - طاهرتين: حالٌ من ضمير القدمَيْن، كما بينَتْ ذلك روايةُ أبى داود (165): "فإِنِّي أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان". - فمسح عليهما: الضمير يعود إلى الخفين، وتثنية الضمير لا يجوز إلاَّ إذا وجد دليل يعيِّن مرجع كل ضميرة كما هو الحال هنا. وفيه إضمارٌ، تقديره: فأحدَثَ فمسَحَ عليهما؛ لأنَّ وقت جواز المسح بعد الحَدَثِ لا قبله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا أحدُ أدلَّة جواز المسح على الخفَّيْنِ من النصوص المتواترة، والمسح لمن عليه الخُفَّان أفضلُ من الغَسْلِ، مراعاةً لأصل التشريع، فالفرعُ أفضل من الأصل، وأمَّا مع عَدَمِ اللُّبْسِ فالأفضلُ الغسل، ولا يلبس ليمسح؛ لأنَّ الغسل هو الأصل. 2 - اشتراطُ كمال الطهارة لجوازِ المَسْحِ على الخفين، فلو غَسَلَ إحدى رجلَيْهِ، ثم أدخلها الخفَّ، قبل غسل الأخرَى، لم يجزىء المسح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنِّي أدخلتهما طاهرتين"؛ فهذه علَّةٌ لترك نزع الخفين، وجواز المسح عليهما.

وبيان علَّة الحكم يحصل منها ثلاث فوائد: الأولى: اطمئنان القلب بالحكم، وارتياحه إليه. الثانية: سمو الشريعة الإسلامية، مِنْ أنَّه لا يوجد حكمٌ، إلاَّ وله علَّة وحكمة. الثالثة: ثبوت الحكم لكلِّ ما ماثَلَ الحكم المعلَّل لعموم العلَّة. قال شيخ الإسلام: إنَّ العِلَلَ مناطُهَا وتعلُّقها بالمعاني المرادة، لا بالأشخاص، فخصائصُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إنَّما جاءَتْ من أجل أنَّه -صلى الله عليه وسلم- نبي. 3 - قال النووي: إنْ لبس مُحْدِثًا، لم يجزئه المسح إجماعًا. 4 - أنَّ رواية النسائي تدل على أنَّ المسح يكون على أعلى الخف وأسفله، ولكن ضعَّف أئمةُ الحديث هذه الزيادة، فالصحيحُ: أنَّ المسح يكون على أعلى الخف فقط. قال الوزير: أجمعوا على أنَّ المسح يختصُّ بظاهر الخف. قال ابن القيم: لم يصحَّ عنه أنَّه مسح أسفلهما، وإنَّما جاء في حديثٍ منقطع، والأحاديثُ الصحيحةُ على خلافه. 5 - وجوبُ غسل الرجلين في الوضوء؛ لما استقرَّ في نفس الصحابي من نزع الخفين لغسل الرجلين عند الوضوء، وإقرار النَّبي -صلى الله عليه وسلم- له على ذلك، لولا أنَّه يريد المسح عليهما. 6 - أنْ يكون الخف ساترًا لمحلِّ العضو المفروض، وهذا مأخوذٌ من مسمَّى الخف، فإن لم يستر العضو لخَرْقٍ فيه وشق ونحوهما، فالرَّاجحُ: جواز المسح عليه، وَإِنْ ظهر بعضُ العضو، فإنَّ الظاهر تابع للمستور، فإنَّه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً. 7 - الوضوءُ أمام النَّاس لا ينافي الآداب العامة، لاسيما مع الأصحاب والمستخدمين والأتباع.

8 - تشرُّف المغيرة بن شعبة بخدمة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، مع كونه من أَكْبَرِ بيت في قبيلة ثقيف. 9 - جواز خِدْمَةِ الفاضلِ بتقديمِ حذائِهِ وخلعهما أو حملهما، إذا كانت الخدمةُ لدينه وعلمه، أو لحقِّهِ من أبوَّةٍ أو ولايةٍ عامَّة ونحو ذلك، وأنَّه لا يعتبر مِنَ المخدوم تكبُّرًا على غيره واستهانةً بهم، ما دام الحاملُ على ذلك النظرَ إلى مبدأٍ شريفٍ وَسامٍ، كما أنه لا يعتبر من الخادم ذُلاًّ وإهانةً لنفسه، ما دام الحاملُ له غرضٌ شريفٌ، ومقصدٌ حسنٌ. 10 - توجيهُ الخادمِ إلى الصواب مع بيانِ وجه الحكم؛ ليكونَ أشدَّ طمأنينةً لقلبه، وأفقه لنفسه، وأسرع لقبوله. 11 - الطهارةُ عند كثيرٍ من الفقهاء -ومنهم أصحابنا الحنابلة- لا تكون إلاَّ إذا كانت بالماء، دون التيمُّم؛ فهو عندهم مبيحٌ لا رافع للحدث، وعلى هذا: يشترط لجواز المسح أَنْ تكون الطهارة التي لَبِسَ بعدها الخفين هي طهارة بالماء. ولكن القول الثاني الذي يعتبر فيه التيمُّم بدلاً من الماء، وقائمًا مقامَهُ في كلِّ شيء، حتَّى في رفع الحدث: فإنَّه يجوز أنْ يمسح ولو كانت الطهارة طهارة تيمُّم، وهو الصحيح. 12 - جواز إعانه المتوضىء على وضوئه بتقريب الماء أو الصبِّ عليه ونحو ذلك، أمَّا غَسْل أعضائه: فلا يكون إلاَّ من حاجة. ***

54 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ, وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد أخرجه أبو داود بإسنادٍ حسن، وقال المؤلِّف في التلخيص: وفي الباب حديثٌ عن علي، إسناده صحيح. * مفردات الحديث: - لو: حرف شرطٍ غير جازم، وهي حرف امتناع لا متناع، فينتفي جوابها لانتفاء شرطها، ففي الحديث انتفاء مشروعية المسح على ظاهر الخف؛ لانتفاء كون دين الله بمجرَّد العقل. - الدِّين: المراد به هنا الشرع، وله معانٍ أخر. - الرأي: يطلق على الاعتقاد والتَّدبير والعقل، وجمعه آراء، ومجرَّد العقلِ دون الرواية والنَّقْل ليس بِشَرْعٍ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوبُ كون مسح الخف على أعلى الخف فقطْ، فلا يجزىء مسح غيره، ولا يشرع مسح غيره معه، سواء الأسفل أو الجوانب. 2 - إنَّ الدِّين مبناه على النَّقْلِ عن الله تعالى، أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس الرأي هو المُحْكَمَ فيه، فالواجبُ الاتباعُ، لا الابتداع. 3 - الذي يتبادر للذِّهْن هو أنَّ الأولى بالمسح هو أسفل الخف، لا أعلاه؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) أبو داود (162).

الأسفل هو الذي يباشر الأرض، وربمَّا أصابته النجاسة، فكان أولى بالإزالة، ولكن الواجب هو تقديمُ النَّقل الصحيحِ على الرأي؛ فإنَّ الذي شرع ذلك هو أعلم بالمصالح. وليس معنى هذا أنَّ الشرع لا يعبأ بالعقل ولا يعتبره؛ فإنَّ تشريف العقل في القرآن الكريم، وتوجيه مواهبهِ ومخاطبته، هي أكثر وأكبر من أن يستشهد بها؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} [يس: 68]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} [الروم: 24]، وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، فالعقل نعمةٌ كُبرى أَنعم الله بها على الإنسان. وإنَّما معناه: أنَّ العقل غير مستقلٍّ بالتَّشريع، فهو يسلِّم ويتلقَّى شرع الله تعالى بنفسٍ راضيةٍ، ويحاول فهم أسرار الله فيها، فإنْ أدرك؛ فذاك من نعمة الله عليه؛ وإلاَّ سلك سبيل الذين قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. 4 - العقل السليم يوافق النقل الصحيح، فالشريعة التي أنزلها الله تعالى لا تقصد إلاَّ نفس الغرض، الذي خُلِقَ العقل من أجله، حينما يكون العقل سليمًا صحيحًا لم يغلبه الهَوَى والشهوات، ولم يمسَّه الضعفُ والخِفَّة. على أنَّه من المعلوم أنَّ العقل لا يكون معيارًا على الشريعة، بل الشريعة هي التي تكون مقياسًا لنقد العقول، فإذا كان هناك عقلٌ يقبل أحكام الشرع، عُلِمَ أنَّه عقلٌ سليمٌ بريءٌ من العلاَّت، وإذا أبى قبولها، علم أنَّه مريض وعليل. 5 - وجوب الخضوع والتسليم، لأوامر الله تعالى، وأوامر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو غايةُ العبادة، وهو كمالُ الانقياد والتسليم. 6 - لعلَّ -والله أعلم- مِنْ حكمة هذا الحكم، أنَّ الغَسْلَ يُتْلَفُ الخف، فاكتفي بالمسح تيسيرًا وتسهيلًا، وحفظًا لمالية الخف، والمسح ليس غسلًا يزيل النجاسة وينقِّي الخف، وما دام أنَّ المسح لن يَزِيلَ الأذى العالق بأسفل الخف، بل إنْ مسحه بالماء يسبِّب حمله للنجاسة، جعل المسح أعلاه ليزيل

ما علق به من غبار؛ لأنَّ ظاهر الخف هو الذي يُرَى، والأفضل أنْ يكون المصلِّي في غاية النظافة، والله أعلم. 7 - مسح الخف في حديث المغيرة مجمَلٌ، وهذا الحديث بيَّن صفته وكيفيته. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل المسح على جميع ظاهر الخف أم لا؟: والرّاجح: أنَّ المسح يكون على أكثره؛ لأنَّ المسح عليهما لا بهما. واختلفوا هل يمسحان كالأذنين معًا، أم تقدَّم اليمنى؟: والرَّاجح: تقديم اليمنى؛ وذلك لأنَّ الرِّجْلين مستقلتان، وليستا كالأذنين تابعتين للرَّأس. ولأنَّ مسحهما فَرْعُ غَسْلهما، والغسل فيه استحباب التيامن. ولأنَّ حديث عائشة صريحٌ في استحباب تيامنه في طهوره، ومسح الخفين من الطهور، فيسن أنْ يمسح بأصابع يديه على ظهور قدميه، فيمسح اليمنى باليمنى، ثمَّ يمسح اليسرى باليسرى، ويفرِّج بين أصابعه، وكيفما مسح أجزأ. وأجمعوا على أنَّ المسح عليه مرَّةً واحدة، وأنَّه لا يسن تكراره. ***

55 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا، أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد صحَّحَهُ الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والطحاوي، ونقل الترمذي عن البخاري أنَّه قال: حديثٌ حسنٌ، ليس في التوقيت شيءٌ أصح منه، وقال النووي: إنَّه جاء بأسانيدَ صحيحةٍ. وَقال ابن عبد الهادي في المحرَّر: رواه أحمد (17625)، والنسائي، وابن ماجه (478)، ورواه ابن خزيمة، وابن حبَّان (4/ 149). * مفردات الحديث: - سَفْرًا: بفتح السِّين، وسكون الفاء، آخره راء: جمع مسافر، مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب، وكان في الأصل مصدرًا، فأمَّا مسافر فجمعه: مسافرون. - ننزع: يُقال: نَزَعَ يَنْزِعُ نَزْعًا -من باب ضرب-: قلعه، فالنزع: الجذب والقلع. - خِفَاف: بكسر الخاء، ففاء مفتوحة: جمع خُفّ، والخف: ما يُلبس في الرجل من جلدٍ رقيق. - جنابة: تقدّمت، وسيأتي بيانها أتم في باب الغسل، إنْ شاء الله تعالى. - غائط: أصله: المكان المنخفض الواسع من الأرض، فكان من أراد أنْ يتبرَّز ¬

_ (¬1) الترمذي (96)، والنسائي (127)، ابن خزيمة (1/ 13).

يستتر به عن النَّاظرين، وكثر استعماله حتَّى سُمِّيَ الخارجُ من الإنسان غائطًا، من باب الكناية، وجمعه غوط وغياط. - بَوْل: بفتح فسكون: سائلٌ تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتَّى تدفعه إلى الخارج، عن طريق مسلكه، جمعه أبوال، وتقدَّم. - نَوْم: فترة من الخمود، مصحوبة بنقصٍ في الإدراك والشعور، تتوقَّف فيها الوظائف البدنية، وهو فترة راحة تساعد الجسم على تعويض ما فقده، من طاقات مختلفة، خلال العمل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جوازُ المسح على الخفَّيْن في السفر، كما كان في الحضر؛ بل الحاجة إليه في السفر أشد. 2 - أنَّ مدَّةَ المسحِ على الخُفَّيْنِ في السفر ثلاثة أيَّامٍ بلَيالِيْهِنَّ، وأنَّهُ بعد الثَّلاثَة يَجبُ خَلعهما، وغَسْلُ ما تحتهما من القدمين في الوضوء. 3 - إنَّ المسح على الخفين يكون من الحدث الأصغر، دون الحدث الأكبر؛ ففيه: يجب خلعهما وغسل ما تحتهما، وهو حكم مُجْمَع عليه بين العلماء. 4 - نقض الوضوء من الخارج من السبيلين، وأهمُّه البول والغائط. 5 - نقض الوضوء من النوم. 6 - مثل النَّوم في نقض الوضوء، كلُّ ما أزال العقلَ وغطَّاهُ؛ من إغماءٍ وبنجٍ ومسكر وغيرها. 7 - عمومُ الحديث يفيدُ جوازَ المسحِ على الخفَّيْنِ، سواءٌ كان صالحًا أو مخروقًا؛ فإنَّ الغالبَ على خفاف الصحابة -رضي الله عنهم- أنْ لا تسلم من وجود الشقوق والخروق. وهذا خلاف ما قيَّده به أصحاب الإمامين الشَّافعي وأحمد، من اشتراط عدم الخرق أو الشق في الخف، وهو قولٌ مرجوحٌ، والله أعلم.

8 - لا يجوز المسح على مالا يستر محل الفرض؛ أخذًا من مسمَّى الخف عندهم. 9 - جواز المسح على الجوربين ونحوهما، ممَّا له حكم الخفين، يستر محل الفرض، والحاجة إلى لُبْسهِ والمشقَّة في نزعه، من أي شيءٍ يكون الجورب؛ من صوفٍ أو وبرٍ أَو قطنٍ أو غيرها. 10 - قال في المغني: ولا يجوز المسح على الخف الرقيق الذي يصف البَشَرَةَ؛ لأنَّه غير ساترٍ لمحل الفرض؛ فأشبه النَّعل. وقال النووي في المجموع: وحكى أصحابنا عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- جواز المسح على الجورب وإنْ كان رقيقًا، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود. * خلاف العلماء: ذهب الإمام أحمد: إلى جواز المسح على الجوربين، وهما ما يصنع على هيئة الخف من غير الجلد. قال ابن المنذر: تروى إباحةُ المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة، وهم: علي وعمَّار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل بن سعد. وهو قول: عطاء والحسن وابن المسيب وابن المبارك والثوري وإسحاق وأبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ لما روى الإمام أحمد (1774)، وأبو داود (159)، والترمذي (99) عن المغيرة بن شعبة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الجوربين والنعلين. قال الترمذي: حسنٌ صحيح. قال الألباني: رجاله كلهم ثقات؛ فإنَّهم رجال البخاري في صحيحه محتجًّا بهم.

وذهب الأئمة الثلاثة -فيما استقرَّت عليه مذاهبهم أخيرًا- إلى جواز المسح عليهما. واختلف العلماء: أيهما أفضل الغَسْلُ أو المسح؟: فذهب الشافعية: إلى أنَّ الغَسْلَ أفضل؛ بشرط أنَّه لا يترك المسح رغبةً عن السنَّة. وذهب الحنابلة: إلى أنَّ المسح أفضل من الغسل. قال في شرح الإقناع: المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنَّما طلبوا الأفضل، وفيه مخالفةُ أهل البدع، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله يُحِبُّ أنْ يُؤْخَذَ برخصه" [رواه ابن خزيمة (3/ 259)، وابن حبَّان (8/ 333)]. وأمَّا ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال: لم يكن -صلى الله عليه وسلم- يتكلَّف ضد حاله التي عليها قدماه، فإنْ كانتا في الخف، مَسَحَ عليهما، وإِنْ كَانتا مكشوفتين، غسل القدمين". وقال -رحمه الله-: هذا أعدل الأقوال. ***

56 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ, وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ" يَعْنِي فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثلاثة أيام: اليوم: من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ ولذا من فعل شيئًا بالنَّهار، وأخبر به بعد غروب الشمس، يقول: فعلته أمس، واستحسن بعضهم أنْ يقول: أمسِ الأقربَ، وهو مذكَّر، وجمعه أيام، جمعه مؤنث، فيقال: أيام مباركة. - لياليهنَّ: جمع ليلة، قال في المصباح: وقياس جمعها ليلات، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقال في المعجم الوسيط: تقول: فعلت الليلة كذا، من الصبح إلى نصف النَّهار، فإذا انتصف النَّهار قلتَ: البارحة، أي: الليلة التي قد مضت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مدَّة مسح المقيم: يومٌ وليلةٌ، ويكون -على الرَّاجح من قولي العلماء- من ابتداء المسح بعد الحدث، إلى مثل وقته من اليوم الثاني. 2 - مدَّه مسح المسافر: ثلاثة أيام ولياليهنَّ، وهو من ابتداء المسح بعد الحدث إلى مثل وقته من اليوم الرَّابع. 3 - مثل الخفين في المدَّة: العمامةُ، وخُمُرُ النِّساء، عند من يقول بجواز المسح عليها؛ ففيها خلاف، والرَّاجح: جواز ذلك. ¬

_ (¬1) مسلم (176).

4 - في الحديث دليلٌ على حكمةِ الشرع، وتنزيل الأمور منازلها، واعتبارِ الأحوال؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فرَّق -هنا- بين المسافر والمقيم، فجعل للمسافر مُدَّةً أطول من مدَّة المقيم، مراعاةً بحال المسافر ومشقَّته، واحتياجه إلى زيادة المدَّة، بخلاف المقيم المستقر المرتاح، والله حكيمٌ عليم. 5 - فيه بيانُ يُسْرِ الشريعة وسماحَتِها، ومراعاتِها لأحوالِ النَّاسِ في قوتهم وضعفهم وحاجتهم. ***

57 - وَعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّةً, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ -يَعْنِي: الْعَمَائِمَ- وَالتَّسَاخِينِ -يَعْنِي: الْخِفَافَ-" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صححَّه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال في المحرَّر: رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى الموصلي والحاكم، وقال: على شرط مسلم، وفي قوله نظر؛ فإنَّه من رواية ثور بن زيد عن راشد بن سعد، عن ثوبان، وثور لم يرو له مسلم، بل انفرد به البخاري، وراشد بن سعد لم يحتجَّ به الشيخان، ووثَّقه ابن معين وأبو حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وخالفهم ابن حزم، والحق معهم. وقال الحافظ في الدراية (1/ 72): إسناده منقطع، وضعَّفه البيهقي، وقال البخاري: حديث لا يصح. * مفردات الحديث: - سرية: جمعها سرايا، وهي القطعةُ من الجيش، سُمِّيَتْ سريةً؛ لأنَّها تَسْرِي في خُفْية، وهي ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، وهي من الخيل نحو أربعمائة، واصطلَحَ علماءُ السيرة النبوية على أنَّ كلَّ جيش لم يكن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمي سريَّه، وكُلَّ ما حضر فيه -صلى الله عليه وسلم- يسمَّى غزوة. - العصائب: مفردها عِصَابة، وهي ما عُصبَ به الرَّأسُ من منديل ونحوه. - العمائم: مفردها عمامة، وهي ما يلف على الرَّأس. ¬

_ (¬1) أحمد (1878)، أبو داود (146)، الحاكم (1/ 275).

- التساخين: بفتح التاء: نوعٌ من الخفاف، قال ثعلب: لا واحد لها من لفظها، يعني: الخفاف أو الأخفاف. * ما يُؤْخذ من الحديث: 1 - جواز المسح على العمامة، والخفاف في السفر. 2 - كما يجوز في السفر، فإنَّه يجوز أيضًا في الحضر؛ فالرخصة عامَّة. 3 - فيه تعليم الجيش والغزاة والمسافرين، إلى ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية؛ ففيه تنبيهُ ولاةِ الأمور وقُوَّادِ الجيوش وكبارِ رجال الأمن، أنْ يُعْنَوْا بتوعية جنودهم التوعية الشرعية، لاسيَّما في الأحكام التي يحتاجون إليها. 4 - أنَّ الأنسب في توجيه العامَّة، وإرشادهم، أنْ يُعْطَوْا من العلم المسائلُ التي هم في حاجتها، والتي تدورُ في محيطهم الحاضر؛ لأنَّهم في حاجتها الآن. 5 - صفة مسح العمامة، وهو أنْ يمسح بيده المبتلَّة بالماء ظاهرَ العمامةِ دون باطنها؛ لأنَّ أعلاها يشبه ظاهر الخف، ولا يجب أنْ يمسح مع العمامة ما جرت العادةُ بكشفه من الرَّأس. 6 - هؤلاء الذين أمرهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالمسح على العصائب والخفاف جنودٌ كثيرون ومسافرون، وحالة الصحابة -رضي الله عنهم- في تقلُّلهم من الدنيا ومتاعها معلومةٌ، فيكون من المحقَّق أنَّ غالب عمائمهم وخفافهم قديمةٌ وممزَّقة، ويبدو منها بعض محل الفرض، فمسحوا عليها، وسيأتي بيان الخلاف، إِنْ شاءَ الله تعالى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في جواز المسح على الخف المخرَّق: فذهب الإمامان الشافعي وأحمد وأتباعهما: إلى أنَّه لا يجوز المسح عليه، ولو كان خرقًا واحدًا، أو كان صغيرًا أيضًا، ودليلهم: أنَّ ما ظهر من محل الفرض ففرضه الغَسْل، وما سُتِرَ ففرضه المسح؛ والغسل لا يجامع

المسح، إذ لا يُجْمَع بين البدلِ والمبدَلِ منه، في محلٍّ واحدٍ. وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أنَّه لا يجوز المسح عليه إذا كان الخرق قدر ثلاثة أصابع فأكثر. وذهب الإمام مالك: إلى أنَّه لا يمسح عليه إذا أكثر وفحش، ويحدِّد فحشَهُ العرف. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى جواز المسح على الخُفِّ المخروق، مادام اسمُ الخفِّ باقيًا عليه، وهو مذهبُ الثوري وإسحاق وابن المنذر والأوزاعي. وقال شيخ الإسلام: إنَّ هذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد ونصوصه في العفو عن يسير ستر العورة، وعن يسير النجاسة ونحو ذلك؛ فإنَّ السنَّة وردت بالمسح على الخفين مطلقًا، وقد استفاضت الأخبار عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: "أنَّه مسح على الخفين"، وتلقَّى الصحابة عنه ذلك، فأطلقوا القول بجواز المسح على الخفين، ومعلومٌ أنَّ الخفاف عادةً لا يخلو كثيرٌ منها من فَتْق أو خَرْق، وكان كثير من الصحابة فُقَراءَ لم يكنْ يمكنهم تجديدُ ذلك. ومن تدبَّر الشريعةَ، وأعطى القياس حقَّه، علم أنَّ الرخصة في هذا الباب واسعة، وأنَّ ذلك من محاسن الشريعة، ومن الحنيفية السمحة، والأدلَّة على رفع الحرج عن هذه الأمَّة بَلَغَتْ مبلغ القطع، ومقصدُ الشَّارع من مشروعية الرخصة الرفقُ في تحمُّل المشاقِّ، فالأخذُ بها مطلقًا موافقة للعقيدة. أمَّا لو زال اسم الخفِّ منه، وزال معناه والفائدة منه: فهذا لا يصح المسح عليه. ***

58 - وَعَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- مَوْقُوفًا، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا, وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا, وَلَا يَخْلَعْهُمَا -إِنْ شَاءَ- إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ, وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث شاذٌّ. والمحفوظ في المسح على الخفين ونحوهما: هو التوقيت؛ للمقيم يومٌ وليلة، وللمسافر ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ. وقد تكلَّم ابن دقيق العيد عن هذا الحديث موقوفاً ومرفوعًا في كتابه "الإلمام"؛ فقال: رواه الدَّارقطني من جهة أسد، ووثَّقه الكوفي والنسائي والبزَّار، قال الحاكم: وروي عن أنس مرفوعًا بإسنادٍ صحيحٍ، ورواته عن آخرهم ثقات إلاَّ أنَّه شاذٌّ بمرة. قال محرِّره عفا الله عنه: والشذوذ في الحديث لا ينافي ثقة رواته؛ ولذا قال صاحب التنقيح: إسناده قوي، ولكن مخالفته لمن هو أوثق منه تُوجِبُ ردَّه، واعتباره من قسم الضعيف في الحديث. * مفردات الحديث: - ولا يخلعهما: "لا" ناهية، إلاَّ أنَّه لم يُرِدِ النَهْيَ؛ بدليل قوله: "إنْ شاء"، ومعنى "لا يخلعهما" أي: لا ينزع الخفين من الرِّجْلين. ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 203)، الحاكم (1/ 181).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه اشتراط الطهارة في المسح على الخفين، وأنَّه لا يجوز المسح عليهما إلاَّ إذا لُبسَا بعد كمال الطهارة؛ كما تقدَّم في حديث المغيرة بن شعبة. 2 - أنَّ الَمسح رخصةٌ، فهو جائزٌ، وليس بواجبٍ، وقد قُيِّد الأمر بالمسح، ويحتمل أنْ يكونَ للاستحباب. قال شيخ الإسلام: الأفضل لِلاَبس الخف: أنْ يمسح عليه، والأفضل لمن قدماه مكشوفتان: غسلهما؛ اقتداءً بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. 3 - الحديث مطلق عن التوقيت؛ ولكنَّه مقيد بالأحاديث الأُخر التي تقدَّمت، ومنها حديث علي، وحديث صفوان -رضي الله عنهما- من أنَّ للمسح مدَّةً محدودة. 4 - المسح على الخفين ونحوهما خاصٌّ بالحدث الأصغر؛ أمَّا الحدث الأكبر فلا يجوز المسح معه، بل لابد من خلع الخفين وغسل القدمين؛ لقوله: "إلاَّ من جنابة"؛ لأنَّ حدث الجنابة أشدُّ وأغلظُ من الحدث الأصغر، فإنَّه يحرُمُ على الجنب ما لا يحرُمُ على صاحب الحدث الأصغر. 5 - فيه مشروعيةُ الصلاة في الخفين ونحوهما؛ لقوله: "وليصل فيهما"، كما صحَّ: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في نعليه". ***

59 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ, وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الحافظ في التلخيص: أخرجه ابن خزيمة، واللفظ له، وصحَّحه الخطابي، ونقل البيهقي أنَّ الشَّافعي صحَّحه. وقد رواه ابن ماجه، وابن حبَّان (4/ 154)، وابن الجارود (2/ 232)، وابن أبي شيبة (1/ 2163)، والدَّارقطني، والترمذي في العلل. * مفردات الحديث: - رخَّص: الرُّخْصة، بضم الرَّاء، وسكون الخاء، وزن غُرْفة، جمعها رُخَصٌ، وهي التسهيل في الأمر والتيسير. - إذا تطهَّر: المراد بالتطهُّر هنا: الطهارة من المحدثين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مدَّة مسح المسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ، ومسح المقيم يوم وليلة. 2 - أنْ يكون المسح بعد طهارةٍ كاملةٍ، ولُبْسِ الخفين بعدها. 3 - الفرق بين المسافر والمقيم: هو أنَّ المسافر في مظنَّة الحاجة إلى طول المدَّة لمشقَّة السفر والبَرْدِ والحفاءِ وتوفيرِ الوقت، بخلاف المقيمِ فهو في راحةٍ من هذا كلِّه. ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 204)، ابن خزيمة (1/ 96).

4 - المسح على الخفين ونحوهما رخصةٌ من الله تعالى، وتسهيلٌ على خلقه، والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- المرخِّصُ مبلِّغٌ عن الله تعالى. 5 - كلَّما اشتدَّتِ الحاجةُ حصلتِ الرخصة والتيسير، وهذه هي قاعدة الإسلام الكبرى في أحكامه الرشيدة. 6 - قوله: "رخَّص" دليلٌ على أنَّ المسح على الخفين رخصةٌ لا عزيمة، والرخصةُ ليست بواجبة، فيكونُ المسحُ على الخفين ليس بواجب. 7 - الرخصة لغةً: السهولة، واصطلاحًا: ما ثَبَتَ على خلافِ دليلٍ شرعي لمعارضٍ راجحٍ؛ فالدليل الشرعي -هنا -وهو: وجوبُ غَسْلِ الرجلين في الوضوء، ومسح الرَّأس، أمَّا المعارض الرَّاجح: فهو التسهيل بالمسح. 8 - وفيه دليلٌ على أنَّ الشرع ينزل المكلَّفين على موجب أحوالهم؛ فكل واحدٍ له منزلته المناسبة لحاله. ***

60 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ -رضي الله عنه- "أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَوْمًا? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَيَوْمَيْنِ? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَثَلَاثَةً أَيَّامٍ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَمَا شِئْتَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلِّف في التلخيص: ضعَّفه البخاري، فقال: لا يصح، وقال أبو داود: اختُلِفَ في إسناده، وليس بالقوي، وقال أحمد: رجالُهُ لا يُعْرَفون، وقال أبو الفتح الأزدي: هو حديثٌ ليس بالقائم. وقال ابن حبَّان: لست أعتمد على إسناد خبره، وقال الدَّارقطني: لا يثبت، وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسنادٌ قائم، ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه. * مفردات الحديث: - أمسح: الهمزة هي أصلُ أدواتِ الاستفهام، وقد حُذِفَتْ هنا للتسهيل والاكتفاء بالهمزة الثانية. - نعم: بفتحتين: حرف جواب يؤتَى بها للدَّلالة على جملة الجواب المحذوفة قائمة مقامها، فقوله في الحديث "نعم" أي: امسَحْ على الخفين. وهذا المعنى هو أحد استعمالاتها الثلاثة. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على عَدَمِ توقيتِ المسح على الخفين، وأنَّ المتوضِّىء يمسح ¬

_ (¬1) أبو داود (158).

عليهما اليومَ واليومَيْن والثلاثة، وما شاء بعدها من الأيَّام. 2 - الحديثُ على فرض صحَّته مقيَّدٌ بأحاديث التوقيت باليوم والليلة للمقيم، وثلاثةِ أيَّامٍ للمسافر، ويمكنُ جعلُ إطلاقه على ما قاله شيخ الإسلام: من أنَّه لا توقيت في حق المسافر الذي يشق عليه اشتغاله بالخلع واللبس، بل يمسح حتَّى تَنْفَكَّ أزمته وانشغاله. 3 - وعلى كلٍّ، فالحديث ضعيف؛ وبناءً عليه: فلا يقاوم أحاديث التوقيت الصحيحة، ولا يُعْمَلُ به، وإنْ عُمِلَ به، قُيِّدَ بأحاديث التوقيت، أو يحمل على حالة عذر المسافر وانشغاله. فائدة: المؤلِّف -رحمه الله- لم يأتِ بما يفيدُ جوازَ المسحِ على الجبيرة. والجبيرة: ما يُربَطُ على كَسْرٍ أو جُرْحٍ؛ من أخشابٍ، أو أسياخٍ، أو خرقٍ أو جِبْس، ونحوها. والأصل فيها: ما رواه أبو داود والدَّارقطني عن جابر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال في صاحب الشجَّة: إنَّما يكفيه أنْ يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها، ويغسل سائر جسده. على أنَّ الحديثَ يُضَعَّف أو ليس بالقوي، ولكن قال الصنعاني: إنَّه يَعْضُدُهُ حديثُ عيٍّ في المسح على الجبائر بالماء؛ فالجبيرةُ يمسحُ عليها كالخف والعمامة، ولكنَّها تخالفهما بأحكامٍ هي: 1 - أنَّه لا يشترط أنْ تستُرَ محلّ الفرض. 2 - ويمسحُ عليها في الحدثِ الأصغرِ والأكبر. 3 - والمسحُ عليها غيرُ مؤقَّت؛ بل يمسحُ حتَّى يحصل البرء. 4 - والمسحُ يكون عليها كلها وليس على بعضها. 5 - وعلى الرَّاجح من قولي العلماء: أنَّه لا يشترط الطهارة عند ربطها.

باب نواقض الوضوء

باب نواقض الوضوء مقدمة النواقض: جمع ناقض، والنقضُ في الأجسام: إبطال تركيبها، وفي المعاني: إخراجها عن إفادة ما هو المطلوبُ منها. فنواقض الوضوء هي العلل المؤثِّرة في إخراجِ الوضوء عمَّا هو المطلوبُ منه، ثُمَّ استُعْمِلَ في إبطال الوضوء بما عيَّنه الشَّارع مبطلًا. والنواقض قسمان: أحدهما: أحداثٌ تنقُضُ الوضوء بنفسها. الثاني: أسبابٌ، وهي ما كان مظنَّةً لخروج الحدث؛ كالنَّوم والمس. والنواقض من حيث الدليل كالآتي: الغائط: ثبت نقضه بالكتاب، والسنَّة، والإجماع. البول: ثبت نقضه بالسنَّة، والإجماع، والقياس على الغائط. المذي: ثبت نقضه بالسنَّة، والإجماع، والقياس على البول. دم الاستحاضة: ثبت نقضُهُ بما رواه أبو داود (286) من حديث عائشة في قصَّة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش: "فتوضئي وصلي؛ فإنَّما ذلك عرق"، ورجال إسناده ثقات، وقال بذلك عامَّة أهل العلم. النَّوم: تعارضَتْ فيه الآراء، واختلفَتْ فيه المذاهب: فبعضهم يرى النَّقض من قليله وكثيره، وبعضهم لا يرى النَّقض منه أصلاً، والجمهور سلكوا مسلك الجمع، وهو النَّقض بالكثير دون القليل، ولهم في النَّوم النَّاقض وغير النَّاقض تفصيل. أمَّا ما عدا هذه الأشياء فقد قَوِيَ فيها خلافُ العلماء، وستأتي إنْ شاء الله.

61 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَهْدِهِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ, ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. فأصله في صحيح مسلم بلفظ: "كانُوا يتنظرون العشاء فينامون ثمَّ يصلون ولا يتوضؤون"، وقد صحَّحه الترمذي والدَّارقطني، قال البيهقي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: إسناده صحيح. * مفردات الحديث: - عهده: العهد: الزمن، يُقال: كان ذلك على عهد فلان، أي: على زمانه، جمعه عهود وعهاد. - ينتظرون: يترقَّبون حضوره لأداء الصلاة. - العِشَاء: بكسر العين والمد، وأوَّل دخول وقته بعد غياب الشفق الأحمر، سُمِّيَتِ الصلاة به؛ لأنَّها تُفْعَلُ فيه، ويُقال لها: العِشَاءُ الآخرة. - حتَّى: حرفٌ يأتي لعدَّة معان، منها أنَّه يكون للغاية والانتهاء، وهو المراد هنا. - تخفق: بكسر الفاء، فهو من باب ضرب، أي: تميل من النُّعاس. قال في المصباح: خَفَقَ برأسه: إذا أخذته سِنَةٌ من النُّعاس، فمال رأسه دون سائر جسده. ¬

_ (¬1) مسلم (376)، أبو داود (200)، الدَّارقطني (1/ 133).

- رؤوسهم: جمع رأس، وَرَأْسُ كلِّ شيء: أعلاه، ومنه سمي الرأس في الإنسان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النومُ اليسير من الجالس لا يَنْقُضُ الوضوء. 2 - النومُ الكثير ناقضٌ للوضوء؛ لما تقرَّر في نفس الصحابي الرَّاوي أنَّ النَّوم ناقضٌ للوضوء، إلاَّ هذا القَدْرَ الذي شاهده. 3 - الطهارةُ من الحدث شرطٌ لصحة الصلاة؛ فنفي الوضوء في هذه الحالة دليلٌ على وجوبها في غيرها، ممَّا يوجبُ نَقْضَ الطهارة. 4 - استحبابُ تأخير صلاة العشاء عن أوَّل وقتها؛ فقد جاء في الصحيحين أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يستحبُّ أنْ يؤخِّر العشاء، ويقول: إنَّه لَوَقْتُها، لولا أنْ أَشُقَّ على أمتي. 5 - حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على البقاء في المسجد انتظارًا للصلاة، وفضل انتظارها؛ فقد جاء في البخاري (647) ومسلم (362) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصلاة تحبسه". 6 - جواز النعاسِ والرقودِ في المسجد، لاسيَّما لانتظار الصلاة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في النوم هل ينقض الوضوء؟ على ثلاثة أقوال: فذهب بعضهم: إلى أنَّ قليله وكثيره ناقض؛ بناءً منهم على أنَّ نفس النَّوم حَدَثٌ ينقض الوضوء. وذهب بعضهم: إلى أنَّه لا ينقض قليله ولا كثيره، ما لم يتحقَّقْ خروج حدث؛ بناءً منهم على أنَّ النوم ليس بناقض، ولكنَّه مَظِنَّةُ الحدث. وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّ الكثير المستثقل ناقضٌ دون النوم اليسير، ولهم تفاصيلُ في تحديد القليل من الكثير، وصفاته النَّاقضة مذكورةٌ في كتب الأحكام.

وهذا القول هو الرَّاجح الذي تجتمعُ فيه الأدلَّة: فإنَّ حديث صفوان بن عسَّال: "كان -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا كُنَّا في سفر أنْ لا ننزع خفافنا ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ إلاَّ من جنابة، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم" [رواه الترمذي (3352)، والنسائي (127)]-أثبَتَ نقضَ الوضوء من النومِ؛ كالغائط والبول. وحديث أنس: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عهده ينتظرون العشاء حتَّى تَخْفِقَ رؤوسهم، ثمَّ يصلون ولا يتوضؤون" -دليلٌ على أنَّ يسير النوم لا ينقض. ***

62 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ, أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ? قَالَ: لاَ، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ, فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةِ, وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ". وَأَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى أَنَّهُ حَذَفَهَا عَمْدًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُستحاض: من الاستحاضة، وهي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة، من مرضٍ وفساد، فيخرج الدم من عِرْقٍ فَمُهُ في أدنى الرحم، يسمَّى "العرق العاذل" وسيأتي بيانه بأتمَّ من هذا في باب الحيض، إنْ شاء اللهُ تعالى. - أفأدع الصلاة: الهمزة للاستفهام الاستخباري، والفاء للتعقيب، وبعدها فعل مضارع للمتكلِّم. - أفأدع: وَدَعْتُهُ أدَعُهُ وَدْعًا، أي: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثمَّ حذفت الواو، ثُمَّ فُتِحَ لأجل حرف الحلق. قال النحاة: إنَّ العرب أماتَتْ ماضي "يَدَع"، ومصدره واسم فاعله، فلا توجد. لا: تأتي على ثلاثة أوجه، أحدها: أنْ تكون جوابًا مناقضًا لـ"نعم"، وهي ¬

_ (¬1) البخاري (228)، مسلم (333).

المرادة هنا. - ذلِكِ: بكسر الكاف: خطابٌ للمرأة السَّائلة، و"ذا": إشارةٌ إلى الدمِ الخارج منها. - عرق: بكسر العين المهملة، وسكون الرَّاء، آخره قاف. قال في الفتح: إنَّ هذا العرق يسمَّى العاذل، وقال في القاموس: يُسمَّى العاذر، أي: أنَّ دمك بسبب انفجار من عرق. - فاذا أَقْبلَتْ حَيْضَتكِ: بفتح الحاء، ويجوز كسرها، المراد بالإقبال: حصول وقتها، وابتداء خروج دَم الحيض أيام عادتها. - وإذا أدبرت: هو وقتُ انقطاعِ الدمِ عنها عند انتهاء أيام عادتها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الخارج من السبيلين ناقضٌ للوضوء، ومنه خروجُ الدم، وهو إجماع العلماء. 2 - أنَّ دم الاستحاضة ليس حَيْضًا، وإنَّما هو دمٌ له أسبابُهُ، وخصائصه، وأحكامه: فسببه: انفتاحُ عرق العاذل، فهو مرضٌ يستدعي البحثَ عن سببه وعلاجه؛ ولذا ينظر الأطباء بقلقٍ بالغٍ إلى خروج الدم في غير وقت الحيض؛ لأنَّها تدل على وجود مرض، إمَّا بجسم المرأة وغددها، أو بجهازها التناسلي. أمَّا دم الحيض: فيخرُجُ من قعر رحم المرأة. فأخبرها -صلى الله عليه وسلم- باختلاف المَخْرَجَيْن، وهو ردٌّ وتوجيهٌ لقولها: "فلا أطهر"، فأبان لها أنُّها طاهرة تلزمها الصلاة. 3 - أمَّا خصائصُ دم الاستحاضة، فقال الأطباء: إنَّه دمٌ أحمَرُ مشرِقٌ خفيف، ليس ذا رائحة، بينما دمُ الحيض: أسودُ ثخين، له رائحة منتنة. 4 - أمَّا أحكامُ دم الاستحاضة: فإنَّه لا يمنعُ شيئًا من العبادات، ولا الأمور التي يتوقَّف فعلها على طهارة المرأة من الحيض، فالمستحاضة تعتبر في حكم

الطاهرة. 5 - لم يرخص لها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك الصلاة، وإنَّما نهاها عن تركها. 6 - أَمَرَهَا -عليه الصلاة والسلام- أنْ يتميز بين دم حيضها ودم استحاضتها، وذلك بأنْ تجلس فلا تصلي أيام عادتها؛ لأنَّ العادة أقوى من سائر الأدلة على تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة. فإنْ لم تعلم عادتها، عملت بالتمييز بين الدمين، فدم الحيض أسود ثخين منتن، ودم الاستحاضة خلاف ذلك. 7 - وجوبُ غَسْلِ دمِ الحيض للصلاة؛ لأنَّه نجس، والطهارة من النَّجاسة شرطٌ لصحة الصلاة. 8 - أنَّ على المستحاضة أنْ تتوضأ لكلِّ صلاةٍ، ومثلها كل مَنْ به حدثٌ دائم من سلس بولٍ، أو جُرحٍ لا يَرْقَى دمه، أو استمرارِ خروج الرِّيح. 9 - نَهْيُ الحائض عن الصلاة، وتحريمُ ذلك عليها، وفسادها منها، وهو إجماع العلماء. 10 - أنَّ الحائض لا تقضي الصلاة بعد طهرها؛ وذلك أخذًا من عدم أمره -صلى الله عليه وسلم- لها بذلك في هذا الحديث؛ فإنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. 11 - الحديثُ دليلٌ على قبول قول المرأة في أحوالها، من الحمل، والحيض والعدَّة وانقضائها، ونحو ذلك. 12 - أنَّ المستحاضة تصلِّي ولو مع جريان الدم؛ لأنَّها تعتبر من الطَّاهرات من الحيض. 13 - وَرَدَ في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري: "واغتسلي"، والمراد به الاغتسال من الحيض إذا أدبرت أيام حيضها، لا أنَّه أمرٌ بالاغتسال لكلِّ صلاة. 14 - قوله: "ثمَّ توضئي لكلِّ صلاة" زيادة رواها البخاري، وحذفها مسلم عمدًا؛

لاعتقاده أنَّها زيادة غير محفوظة، وإنَّما تفرَّد بها بعض بالرواة. لكن قال الحافظ في فتح الباري: إنها زيادة ثابتة من طرقٍ، ينتفي معها تفرُّد من ذكرهم مسلم. 15 - المؤلِّف أورد هذا الحديث في باب نواقض الوضوء لأجل هذه الزيادة: "ثمَّ توضئي لكلِّ صلاة"، وإلاَّ فمناسبة الحديث أن يُذْكَرَ في "باب الحيض" وقد أعاده هناك، والله أعلم. 16 - جوازُ سماعِ الرجلِ الأجنبيِّ صوتَ المرأة عند الحاجة، إذا لم تليِّنه وتُخْضِعْهُ. 17 - الأمرُ بإزالة النَّجاسة. 18 - فيه أنَّ الدَّم نجسٌ، وهو إجماعٌ إلاَّ خلافًا شاذًّا. 19 - أنَّ الصلاة تجب بمجرّد انقطاع دم الحيض. 20 - أنَّ الصلاة تصح حتَّى في حال جريان الدم الذي لا ينقطع. ***

63 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً, فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ? فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجلًا: خبر كان، و"مذَّاء" صفة لرجل. - مذَّاء: بفتح الميم، وتشديد الذَّال المعجمة، ثُمَّ ألف ممدودة، من صيغ المبالغة، من كثرة المذي، والمذي، بفتح الميم، وسكون الذَّال المعجمة، وأيضًا: بكسر الذَّال، وتشديد الياء، جمعه: مُذًى، ومُذَايَات، ومُذَى. وقال في الصحاح: قال الأزهري: الوديّ والمذيّ والمنيّ مشدَّدات، قال أبو عبيدة: المنيّ مشدَّد، والآخران مخففان، وهذا أشهر. والمَذْيُ: ماءٌ أبيضُ لزجٌ رقيق، يخرُجُ عند الملاعبة ونحوها، وخروجه من مجرى البول من إفراز الغدد المبالية. - أنْ يسأل: أي: بأن يسأل، فـ "أنْ " مصدرية، أي: أمرتُه بسؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. - فيه الوضوء: جملة اسمية؛ لأنَّ "الوضوء" مبتدأ مؤخر، وقوله: "فيه" خبر مقدَّم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ خروج المذي يوجب الوضوء، ولا يوجب الغسل؛ وهو إجماع. 2 - في بعض ألفاظ الحديث عند البخاري (178): "فاستحييت أنْ أسال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "، وفي لفظ مسلم (303) "لمكان فاطمة". ¬

_ (¬1) البخاري (132)، مسلم (303).

فالحياء هو الذي منع عليًّا -رضي الله عنه- من أنْ يشافه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا السؤال. 3 - فيه قبول خبر الواحد، والعمل به في مثل هذه الأمور. 4 - جاء في أحد ألفاظ مسلم لهذا الحديث: "اغسلْ ذكرك وتوضَّأ"، وورد في بعض ألفاظه أيضًا: "واغسل الأُنثيين". فقد دلَّت هاتان الروايتان على وجوب غسل الذكر والأنثيين، والوضوء بعد ذلك؛ لأنَّ المذي مخرجه مخرج البول، ولما سيأتي من رواية أبي داود في الفقرة السابعة. 5 - الأمر بغسل الذكر والأنثيين دليلٌ على نجاسة المذي، ولكن بعض العلماء قال: يُعْفَى عن يسيره لمشقَّة التحرُّز منه. 6 - أنَّه لا يكفي في الطهارة من المذي الاستجمار، بل لابد من الماء؛ وذلك -والله أعلم- لأَنَّه ليس من الخارج المعتاد؛ كالبول. 7 - ذهب الحنابلة وبعض المالكية: إلى وجوب غسلِ الذكر كله، والأنثيين من خروج المذي؛ مستدلين بهذا الحديث ورواياته الثابتة، فقد صرَّحت بغسل الذكر وهو حقيقة يطلق عليه، ولما جاء في رواية أبي داود (208) فقال: "يغسلُ ذكره وأُنثييه ويتوضَّأ". ***

64 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، ومنهم من قوَّاهُ وصحَّحه. قال ابن حجر في التلخيص: الحديث معلول، ذكر علَّته أبو داود، والتِّرمذي، والنِّسائي، والدَّارقطني، والبيهقيُّ، وابن حزم، وقال: لا يصح في هذا الباب شيءٌ. قال الترمذي: سمعت البخاري يضعِّف هذا الحديث، وأبو داود أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئًا؛ فهو مرسل. وقال المصنف: رُوِيَ من عشرة أوجه عن عائشة أوردها البيهقي في الخلافيات وضعَّفها. وقوَّى الحديثَ جماعةٌ من الأئمة؛ منهم: عبد الحق وقال: لا أعلم له علَّة، وقال الزيلعي: سنده جيد، وصحَّحه أحمد شاكر والألباني. * مفردات الحديث: - قبَّل: تقبيلاً، والاسمُ: القُبْلة، جمعها قُبَلٌ، مثل غرفة وغرف، والقُبْلة هنا: اللَّثْمَةُ على الفَمِ. - بعض نسائه: هي عائشة راوية الحديث -رضي الله عنها- فقد أخرج إسحاق في مسنده (2/ 172)، عن عروة عن عائشة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبَّلها وقال: "إنَّ القبلة لا تنقض الوضوء". ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 210).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث يدل على أنَّ تقبيل المرأة ولمسها لا ينقض الوضوء، وهو الأصل، والحديث مقرِّر لهذا الأصل من عدم الوجوب. 2 - لكن الحديث معارَضٌ بالآية الكريمة: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، واللَّمْسُ الحقيقي في اليد، وإذا وجد احتمال إرادة الجماع، فقراءة: {أَوْ لَامَسْتُمُ} ظاهرة في مجرَّد لمس اليد، والأصل اتفاق معنى القراءتين. 3 - الأفضل هو حمل هذا الحديث على تقبيل لم يصاحبه شهوة، وإنَّما هو تقبيل مودَّة ورحمة، وهذا النوع من اللمس قد تقرَّر عَدَمُ نقضه للوضوء؛ لما جاء "أن عائشة نامَتْ معترضةً في مصلَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد أنْ يسجد، غمزها في الظلام، لتكف رجليها"، رواه البخاري (375)، ومسلم (512). واللمس ذاته ليس ناقضًا، ولكنَّه مَظِنَّةُ خروج ناقض، فيبقى اللمس المعتاد المجرَّد عن الشهوة على أصل عدم النَّقض. 4 - على فرض صحته حُمِلَ الحديث على ما تقدَّم، وإلاَّ فهو ضعيفٌ؛ فالبخاري يضعِّفه، وذكر أصحاب السنن أنَّ له علَّة، وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيءٌ، وقال ابن حجر: الحديث معلول. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في اللمس هل ينقض الوضوء أم لا؟: ذهب الحنفية: إلى عدم النقض باللمس مطلقاً، ومن أدلتهم حديث الباب، وحديث اعتراضِ عائشة -رضي الله عنها- في مصلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغمزِه لها واستمرارِهِ في الصلاة. وذهب مالك: إلى انتقاض الوضوء بلمس المتوضىء البالغ بلذَّة لشخص يلتذ به عادة. وذهب الإمام الشَّافعي: إلى أنَّ مجرَّد لمس الرجل المرأة، أو المرأة

الرَّجل أنه ناقضٌ للوضوء، بشرط عدم المحرميَّة بينهما، فلا ينتقض بلمس المحرم على الصحيح عندهم. أمَّا المشهور من مذهب أحمد: فإنَّ النَّقض لا يكون إلاَّ من مس بشهوة بلا حائل، وهذا هو الرَّاجح؛ ذلك أنَّ مظنَّة خروج المذي، إنُّما يكون من لمس مصاحب للشهوة. ***

65 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا, فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا? فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا, أَوْ يَجِدَ رِيحًا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذَا وَجَدَ: أحسَّ شيئًا؛ كالقرقرة، بتردُّد الرِّيح في بطنه. - فأشْكَلَ عَلَيْهِ: التبس عليه الأمر، أَوَجَدَ ناقضٌ للوضوء أم لا؟ -صوتًا أو ريحًا: أي: صوتَ الرِّيح عند خروجها من الدبر، أو نَتْنَ ريحها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث أحد أدَّلة القاعدة الكلية الكبرى، وهي: "اليقين لا يزول بالشك"؛ فاليقين: هو طمأنينةُ القلب على حقيقة الشيء. فلذا: فإنَّ الأمر المتيقَّن ثبوته لا يرتفع إلاَّ بدليلٍ قاطع، ولا يحكم بزواله بمجرَّد الشك، كذلك الأمر المتيقن عدم ثبوته، لا يحكم بثبوته بمجرَّد الشك؛ لأنَّ الشكَّ لا يقاوِمُ اليقينَ، فلا يعارضه ثبوتًا ولا عدمًا. 2 - قال النووي: هذا الحديثُ أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الفقه، وهي أنَّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتَّى يُتيقنَ خلاف ذلك، ولا يضر الشكُّ الطارىء عليها. فمن ذلك: مسألة الباب التي ورد فيها الحديث، وهي أنَّ من تيقنَّ الطهارةَ، وشكَّ في الحدث-: حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين ¬

_ (¬1) مسلم (362).

حصول هذا الشك في نفس الصلاة، أو حصوله خارج الصلاة. 3 - العقل السليم يؤيِّد هذه القاعدةَ الشرعية؛ ذلك أنَّ اليقين أقوى من الشك؛ لأنَّ في اليقين حكمًا قطعيًّا جازمًا، فلا ينهدم بالشك. 4 - إذا خُيِّل إلى الإنسان أنَّه خرَجَ منه شيءٌ ناقضٌ للوضوء، وأشكَلَ عليه أخرَجَ منه شيءٌ أم لا؟ فالأصل: بقاء طهارته، فلا يبطل وضوؤه، ولا ينفتل من صلاته حتَّى يتيقنَ أنَّه خرَجَ منه شيء؛ لأنَّ اليقين لا يزول بالشك، وقد بوَّب البخاري -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: "باب لا يتوضأ من الشك حتَّى يستيقن". 5 - أنَّ الرِّيح الخارجة من الدُّبر-بصوت أو بغير صوت- ناقضةٌ للوضوء. 6 - يراد بسماع الصوت ووجدان الرِّيح في الحديث التيقُّنُ من ذلك، فلو كان لا يسمع ولا يشم، وتيقَّن بغير هاتين الطريقتين -انتقض وضؤوه، وإنَّما خصَّهما بالذِّكْر؛ لكونهما الغالب. 7 - تحريم الانصراف من الصلاة لغير سبب بيِّن. 8 - قال الخطابي: في الحديث حجَّة لمن أوجب الحدَّ على من وُجِدَتْ رائحةُ المسكر من فيه، وإنْ لم يشاهَدْ يشربه، ولا شَهِدَ عليه الشهود، ولا اعترف به. ***

66 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: مَسِسْتُ ذَكَرِي، أَوْ قَالَ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ, أَعَلَيْهِ الْوُضُوءٌ? فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ, إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِيْنِيِّ: هُوَ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيْثِ بُسْرَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأصحاب السنن، والدَّارقطني، وقال ابن المديني: هو عندنا أحسن من حديث بسرة، وقال الطحاوي: إسناده مستقيمٌ غيرُ مضطرب، بخلاف حديث بسرة، وصحَّحه أيضًا ابن حبَّان، والطبراني، وابن حزم، وضعَّفه الشَّافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدَّارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي، وأوضَحَ ابنُ حِبَّان ذلك. * مفردات الحديث: - مسست ذكري: مَسِسْتُهُ مَسًّا من باب قتل، ومعناه: أفضيت بيدي، - أعليه: الهمزةُ للاستفهام، وتأتي لطلب التصوُّر أو التصديق، والمراد هنا طلب التصور الذي جوابه بنعم أو لا؛ ولذا أجاب -صلى الله عليه وسلم- بِلاَ. - إنَّما هُوَ بِضْعَةٌ مِنْكَ: تعليل لعدم وجوب الوضوء من مسَّ ذكره. - إنَّما: "إنَّ" حرف توكيد، ينصب الاسم، ويرفع الخبر، إلاَّ أنَّ "ما" الحرفية ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 23)، أبو داود (182)، الترمذي (85)، النسائي (165)، ابن ماجة (483)، ابن حبان (3/ 402)، الدَّراقطني (1/ 149).

كفَّتها عن العمل، فصار منهما أداة حصر قامت مقام النَّفي و"إلاَّ"؛ فأفادت الحصر. - بضعة: بفتح الباء الموحَّدة وكسرها، بعدها ضاد معجمة ساكنة: هي القطعة من اللحم وغيره. - منك: أي: من جسدك، مثل اليد والرجل وغيرهما. ***

67 - وَعَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه مالك (93)، والشَّافعي (2/ 12)، وأبو داود، والنسائي، والترمذي والدَّارقطني والحاكم، وصحَّحه أحمد والبخاري والترمذي والدَّارقطني وابن معين والحازمي والبيهقي (1/ 132) وغيرهم. قال في التلخيص: قال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بُسْرة على حديث طَلْق: أنَّ حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجَّا بأحد رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، إلاَّ أنَّهما لم يخرجاه. قال مُحَرِّره عفا الله عنه: إذا تأمَّلنا كلامَ أئمَّة الحديث في الحديثين: حديث طلق وحديث بسرة، لم نجد فيهما ما يوجبُ إسقاطَ أحدهما بالآخر، وعدم اعتباره، فيبقَى وجه الجمع بين الحديثَيْن، وسيأتي في الكلام على متن الحديثين إنْ شاء الله تعالى. * مفردات الحديث: - بسرة: بضم الباء الموحدة، وسكون السِّين المهملة: القرشية الأسدية. - مَنِ: اسمُ شرط جازم، "مَسَّ" فعل الشرط، و"الفاء" رابطة، و"ليتوضأ" جواب الشرط. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 406)، أبو داود (181)، الترمذي (82)، النسائي (447)، ابن ماجة (479).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان صحيحان، ومهما أمكَنَ الجمع بينهما وإعمالُهُما، فهو أولَى من إسقاط أحدهما بالآخر. 2 - حديث طلق يدُلُّ على أنَّ مسَّ الذَّكَرِ لا ينقضُ الوضوء، وقد علَّله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّما هُو بَضْعَةٌ مِنْكَ"، والبضعة: القطعة من أي عضوٍ من أعضائك. 3 - حديث بسرة يدل على أنَّ مسَّ الذَّكَر ينقض الوضوء. 4 - أفضل ما يجمع بين الحديثَيْن بأحد طريقين: الأوَّل: أنَّه ينقُضُ الوضوء إذا مسَّه مِنْ غير حائل، فإنْ مسَّهُ بحائل لم ينقض؛ ويؤيِّد هذا القول رواية: "الرجُلُ يَمَسُّ ذكره في الصلاة"، فالصلاة ليست محلَّ لَمْسِ الفرج بلا حائل. الثاني: أنَّ مسَّه بشهوةٍ ينقُضُ الوضوء، ومسَّه بدونها لا ينقُضُ. والجمع الأخير أوجه وأقرب، ذلك أنَّ الذَّكر قطعة وبضعةٌ منك، فما دام أنَّ المس مس عادي، لم يصاحبه شهوة، فمجرَّد اللمس ليس ناقضًا، وإنَّما النَّاقض ما يخرج من أحد السبيلَيْن بسبب اللمس، وبدون شهوة هذا الخارجُ منتفٍ، أمَّا إذا صاحبته الشهوة، فإنَّ ذلك يكون مظنَّةَ خروج المذي، وهو ناقضٌ؛ كما أنَّ فوران الشهوة وحرارتها المنافية للعبادة لا يُطْفِئُها ويسكِّنُ هيجانَها إلاَّ الماءُ، لاسيَّما بنيَّة الوضوء، وهو عبادة يصاحبها من النية والذكر ما يسكِّن الشهوة. ***

68 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ, أَوْ قَلَسٌ, أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ, ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ, وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، والصواب إرساله. قال الحافظ في التلخيص: أعلَّه غير واحد بأنَّه من رواية إسماعيل بن عيَّاش، عن ابن جريج، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وقد خالفه الحفَّاظُ من أصحاب ابن جريج، فَرَوَوْهُ عنه، عن أبيه، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وصحَّح هذه الطريقَ المرسلةَ محمدُ بن يحيى الذهلي، والدَّاقطني في العلل، وأبو حاتم، وقال: رواية إسماعيل خطأ، وقال ابن معين: حديث ضعيف، وقال ابن عدي: هكذا رواه إسماعيل مرَّةً، وقال مرَّةً: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة، وكلاهما ضعيف، وقال أحمد: الصوابُ: عن ابن جريج، عن أبيه، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً. * مفردات الحديث: - قَيْء: بفتح القاف المثنَّاة، وسكون الياء، بعدها همزة، وهو تفريغُ محتويات المعدة عن طريق الفم، وينشأ عادةً من تهيج الغشاء المخاطي، وله عدَّة أسباب، وإذا استمرَّ، فهو من النزلات المعوية. - رُعاف: بضم الرَّاء المهملة، ثُمَّ عين مهملة، ثمَّ ألف، بعدها فاء: هو نزيفٌ ¬

_ (¬1) ابن ماجة (1221).

من داخل تجويف الأنف، ينتج عن أسباب محلِّية في الأنف، أو أسباب عامَّة كالالتهاب، والاحتقان، وزيادة ضغط الدم. - قَلَس: بفتح القاف، وسكون اللام وفتحها، ثمَّ سين مهملة: القيء الذي لا يزيد عن ملء الفم أو دونه. - ليبن علي صلاته: اللاَّم لام الأمر، ومعنى البناء على الصلاة، أنْ يحسب ما كان قد صلَّى قبل الوضوء من ركعة أو أكثر، ويصلِّي ما كان باقيًا. * مفردات الحديث: 1 - يَدُلُّ الحديث بظاهره على أنَّ من أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو قلس أو مذي، وهو في الصلاة، فعليه أنْ يَنْصرِفَ عنها، ثمَّ يتوضَّأ، ثمَّ ليبن علي صلاته ويتمَّها، فهي لم تَبْطُلْ. 2 - شَرَطَ في ذلك أنه لا يتكلَّم؛ فمفهومه أنَّه لو تكلَّم، بَطَلَتْ صلاته، ولا يمكنه البناء عليها، بل يجبُ عليه إعادتها. 3 - أخَذَ بهذا -وهو جواز البناء على الصلاة-: الحنفية والزيدية ومالك وأحد قولي الشَّافعي، وذهب جمهور العلماء إلى بطلان الصلاة إذا حصل ناقضٌ للوضوء، وعدم جواز البناء عليها. 4 - الحديث ضعيف؛ فقد ضعَّفه الشَّافعي وأحمد والدَّارقطني وغيرهم، هذا لو سلم من المعارض، فكيف وهو معارضٌ بنصوصٍ صحيحة صريحة، منها ما رواه أبو داود (205) من حديث علي بن طلق قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرفْ وليتوضأ، وليعد الصلاة"، قال الترمذي (1164): هذا حديث حسن. 5 - وجه الشذوذ في الحديث هو جوازُ البناء على الصلاة في مثل هذه الحال، أمَّا المعدوداتُ في الحديث: فإنَّ بطلانَ الوضوء فيها موضعُ نزاعٍ قويِّ بين العلماء، عدا المذي، فهو ناقضٌ بالإجماع؛ لأنَّه خارجٌ من أحد السبيلين.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في الخارج النَّجسِ من غير السبيلين غير البول والغائط؛ وذلك كالقيء والدم والصديد ونحوها، هل خروجُها ينقُض الوضوءَ أو لا؟: ذهب الإمامان مالك، والشَّافعي: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها لا ينقض الوضوء ولو كثر. قال البغوي: هو قول أكثر الصحابة والتَّابعين. قال النووي: لم يثبت قطّ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أوجَبَ الوضوء من ذلك. قال الشيخ تقي الدِّين: الدم والقيء وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد لا تنقض الوضوءَ ولو كَثُرَتْ. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ الدم والقيء ونحوهما لا ينقض الوضوء -قليلها وكثيرها-؛ لأنَّه لم يَرِدْ دليلٌ على نقض الوضوء بها والأصلُ بقاءُ الطهارة. استدل هؤلاء بأدلَّة: أحدها: البراءةُ الأصليَّة؛ فالأصل بقاء الطهارة ما لم يثبُتْ ضدُّها، ولم يثبت عندهم شيء. الثاني: عدمُ صلاحية القياس هنا؛ لأنَّ علَّة الحكم ليست واحدة. الثالث: يروون في ذلك آثارًا منها: 1 - صلاة عمر بن الخطاب وجُرْحُهُ يثْعَبُ دمًا. 2 - كان ابن عمر يعصر الدمَ من عينه، ويصلِّي ولم يتوضأ. 3 - قال الحسن البصري: ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم. وذهب الإمامان أبو حنيفة، وأحمد: إلى أنَّ خروج هذه الأمور وأمثالها ينقض إذا كان كثيرًا، ولا ينقض اليسير منه. استدلُّوا على ذلك بما رواه أحمد (26989) والترمذي (87)، من

حديث أبي الدرداء؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قاء فتوضأ، قال الألباني: صحيح ورجاله ثقات. وأجاب الأولون: بأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، وغايته إنَّما يدل على مشروعية التَّأسِّي به في ذلك. قال شيخ الإسلام: استحبابُ الوضوء من الحجامة والقيء ونحوهما متوجِّه ظاهر، والله أعلم.

69 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُوْمِ الْغَنَمِ? قَالَ: إِنْ شِئْتَ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ? قَالَ: نَعَمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الغَنَم: بفتح الغين المعجمة والنون: القطيع من المعز والضأن، اسم جنس، مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، جمعه: أغنام، سُمِّيت بذلك لأنَّه ليس لها آلة دفاع، فكانت غنيمة لكلِّ طالب. - الإِبِل: بكسر الهمزة وكسر الباء الموحَّدة: الجمال والنوق، لا واحد له من لفظه، مؤنَّث، جمعه آبال. - أتوضأ من لحوم الغنم: بتقدير همزة الاستفهام المحذوفة، والأصل: أأتوضأ ... إلخ. - من لحوم الغنم: أي: لأجل أكلها. - نعم: تقدَّم شرحها في حديث رقم (60). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إباحةُ الوضوء بعد أَكْلِ لحومِ الغنم ولا يجبُ؛ لأنَّ لَحْمَها غيرُ ناقضٍ للوضوء. 2 - أن أكل لحوم الإبل ينقُضُ الوضوء، ويوجبه عند فِعْلِ الصلاة، ونحوها ممَّا يشترط له الطهارة. 3 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ النَّاقض من أجزاء الإبل هو الهَبْرُ فقط؛ ¬

_ (¬1) مسلم (360).

لأنَّهم خصُّوا اللحم بالهَبْرِ دون بقيَّة أجزائها، فهم يَرَوْنَ أنَّ القلب، والكبد، والكرش، والسنام، ونحو ذلك من أجزائها، لا يتناوله النَّص. قال في المغني: والوجه الثاني: ينقض؛ لأنَّه مِنْ جملة الجزور، وإطلاقُ اللحم في الحيوان يراد به جملته؛ لأنَّه أكثر ما فيه، وكذلك لما حرَّم الله تعالى لحم الخنزير، كان تحريمًا لجملته. قال في المبدع: الوجه الثاني: ينقض؛ فإطلاق لفظ اللحم يتناوله. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيحُ أنَّ جميع أجزاء الإبل، كالكَرِشِ، والقلب داخلٌ في حكمها ولفظها ومعناها، والتفريق بين أجزائها ليس له دليل ولا تعليل. ولا يدخل في ذلك الحليبُ، واللبن، والدهن؛ لأنَّه ليس لحمًا، ولا يشمل مسمَّاه. 4 - لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تُبَعَّضُ الأحكامُ في أجزائه، بعضها حلال، وبعضها حرام، وإنَّما الحيوانُ: إمَّا حرامٌ كلُّه كالخنزير، وإمَّا حلالٌ كله كبهيمة الأنعام. وهذا التبعض يوجد في شريعة اليهود؛ فهم الذين حرَّمُ الله عليهم من الحيوانِ الطاهِرَ الحلال، فأباحَ لهم البَقَرَ والغنم، وحرَّم عليهم بعض شحومها. أما هذه الملَّة السمحة: فإنَّ الله لم يعنتها، ولم يشدِّد عليها، فالحيوان إمَّا خبيث فكله حرام، وإمَّا طيب فكله حلال. 5 - الأصل في وجوب الوضوء من لحم الإبل: حديثان صحيحان، هما: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب، وكلاهما في صحيح مسلم، ولكن العلماء تلمسوا معرفة السر والحكمة، فكان أقرب ما وصَلُوا إليه هو أنَّ الإبلَ فيها قوَّةٌ شيطانية، أشار إليها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّها من الجِنِّ" [رواه

أحمد (20034)] فأكلها يورث قوَّةً شيطانية تزولُ بالوضوء، والله أعلم. ويؤيِّد ذلك: أنَ رعاة الإبل عندهم كِبْرٌ وَزَهْوٌ وترفّع، اكتسبوا هذه الطباع من طول بقائهم عندها، ومعاشرتهم لها، بخلاف أصحاب الغنم: فعليهم السكينةُ والهدوءُ ولِينُ القلب، ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في أنَّه ما من نَبِيِّ إلاَّ وقد رعى الغنم. 6 - قوله: "إنْ شِئْتَ" يفيد: عدم وجوب الوضوء من أكل لحم الغنم. 7 - لدينا حديثان: أحدهما: حديث الباب: "أتوضا من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شئت" [رواه مسلم (360)]. الثاني: ما رواه مسلم (253) عن عائشة وأبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "توضؤوا ممَّا مسَّت النَّار". ففي هذين الحديثين عمومٌ وخصوص، فالأوَّل عامٌّ في المطبوخ من لحم الغنم، والثاني عامٌّ في الشيء المطبوخ. والفاصل في ذلك: ما رواه أبو داود (192)، والنسائي (185)، عن جابر قال: "آخِرُ الأمرَيْن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تَرْكُ الوضوءِ ممَّا مسَّت النَّار". وما جاء في البخاري (210) ومسلم (355) "أنَّ النبَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- أكَلَ من كتف شاة وصلى، ولم يتوضأ". فيكون حديثُ الباب من نواسخ حديثِ الوضوء ممَّا مسَّت النَّار. 8 - ألبانُ الإبل فيها روايتان عن الإمام أحمد في نقضها الوضوء، والرواية الرَّاجحةُ في المذهب: أنَّ الألبان لا تنقض، وهو الصحيح؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر العُرَنِيِّينَ بالوضوء من ألبان الإبل، وقد أمرهم بشُرْبها، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، أمَّا قياسها على اللحم بجامع التغذِّي بها كاللحم: فإنَّ هذه العلَّة لم ينصَّ عليها، وإنَّما ظنَّها بعضُ العلماء ظنًّا.

* خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشَّافعي، وأتباعهم: إلى عدم الوضوء من أكل لحم الجزور. قال النووي: احتجَّ أصحابنا بأنباء ضعيفة، في مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحَّا عند الإمامِ الشافعي؛ ولذا قال: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قُلْتُ به. وقال النووي في موضعٍ آخر: لعلَّهم لم يسمعوا نصوصه، أو لم يعرفوا العلَّة. وذهب الإمام أحمد، وأتباعه: إلى نقض الوضوء من أكل لحم الإبل، وهو قول إسحاق بن راهويه. قال الخطابي: ذهب إلى هذا عامَّةُ أصحاب الحديث. وقال ابن خزيمة: لم نر خلافًا بين علماء الحديث. وأشار البيهقي إلى ترجيحه، واختياره، والذبِّ عنه. وقال الشَّافعي: إنْ صحَّ الحديث في لحوم الإبل، قلت به. قال البيهقي: قد صحَّ فيه حديثان. وقال النووي في المجموع: القولُ القديم: إنَّه ينقض، وهو الأقوى من حيثُ الدليلُ، وهو الذي أعتقد رجحانه. ودليل النقض هذا الحديثان الصحيحان: أحدهما: حديث البراء بن عازب: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل أنتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قال: نعم، قال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا" رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. الثاني: حديث جابر بن سمرة أنَّ رجلًا سأل النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إنْ شِئْتَ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم" أخرجه مسلم.

واختار البيهقي هذا القولَ، والنوويُّ، والشيخ تقي الدِّين، وابن القيم، والشوكاني، وعلماء الدعوة السلفية النجدية، ورجال الحديث الذين يقدِّمون الآثار على الآراء. * فائدة: أصحابُ القياس الفاسد قالوا: إنَّ الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس؛ لأنَّها لحمٌ، واللحم لا يُتَؤَضَّأُ منه. أمَّا صاحبُ الشريعة -صلى الله عليه وسلم-: ففرَّق بين لحم الإبل، ولحم الغنم ونحوها؛ كما فرَّق بينهما في: 1 - المعاطن: حيث أجازَ الصلاةَ في معاطن الغنم، ومنع الصلاة في معاطن الإبل. 2 - أصحابُ الإبل أصحابُ فَخْرٍ وخيلاء، وأصحابُ الغنمِ ذَوُو سكينةٍ وهدوء. ذلك أنَّ الإبل فيها قوَّة شيطانية، والغذاء له تأثيرٌ على المتغذِّي؛ ولذا حرَّم أَكْلَ كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير؛ لأنَّها جارحة؛ فالاغتذاءُ بلحومها يجعَلُ في خُلُقِ الإنسان من العدوان ما يَضُرُّ بدينه، فنُهِيَ عن ذلك، والثورةُ الشيطانية إنَّما يطفئها الماءُ، فكان الوضوءُ من لحومها على وفق القياسِ الصحيح، والله أعلم. ***

70 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ, وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رَجَّحَ أكثر الأئمة وقفه، وهو حسن بكثرة طرقه. قالَ البَيْهَقِي: والصحيح أَنَّهُ مَوْقُوف، وقَالَ البُخاري: الأشبه أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَقال ابن أَبي حَاتم: لا يرفعه الثقات، إنَّما هو موقوف، وقال الرَّافعي: لمْ يُصحِّح علماء الحديث في هَذا البَابِ شَيْئًا مرفوعًا. وقال الإمام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء، وقال الذهبي: لا أعلم فيهم حديثًا ثابتًا. وَقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. وقال ابن المديني: لا يصح في هذا الباب شيءٌ. وقد حسَّنه الترمذي والذهبي، وصحَّحه ابن حبَّان وابن القطَّان وابن حزم وابن دقيق العيد والألباني، وقال ابن دقيق العيد: رجاله رجال مسلم. وفي الباب: عن عائشة رواه أحمد وأبو داود وفيه مصعب بن شيبة، ضعَّفه أحمد وأبو زرعة والبخاري وصحَّحه ابن خزيمة، وفيه عن حذيفة، قال ابن أبي حاتم والدَّارقطني: لا يثبت. * مفردات الحديث: - ميتاً: بالتثقيل والتخفيف، فأَمَّا الحيِّ: فبالتثقيل "ميَّت"؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ ¬

_ (¬1) أحمد (9553)، الترمذي (993)، ولم يروه النسائي.

مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] أي: ستموتون، وأَمَّا الإنسان الذي فارق الحياة فبالتخفيف؛ قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. والموتُ: مفارقةُ الرُّوح للجسد، وتدلُّ عليها تغيُّراتٌ ظاهرة تحدُثُ إثرَ مفارقة الحياة، وأُخرى خفيَّة تحدث ببطء، وأَوَّل ما يحدثُ في الموت وَقْفُ التنفُّس. - مَن: اسمُ شرطٍ جازمٌ يجزم فعلين، الأوَّل: فعل الشرط، وهو "غسَّلَ" المبنيُّ على الفتح في محل جزم، والثاني: جوابه وجزاؤه، وهو المجزومُ بالسكون بلام الأمر، والجملة جواب الشَّرْط، والفاء رابطةٌ للجواب. وهكَذا إِعْراب: "وَمن حمله فليتوضَّأ". * ما يُؤْخَذُ مِن الحديث: 1 - ظاهر الحديث وجوبُ الغُسْل على من غسَّل ميتًا كله أو بعضه. 2 - عمومُ الحديث يفيدُ عمومَ الأموات، من كبيرٍ أو صغيرٍ، ذكرًا كان أو أُنثى، مسلمًا كان أو كافرًا، بحائلٍ أَوْ بِدون حائل. 3 - قال الفقهاء: الغاسل: هو من يقلِّبه ويباشره ولو مرَّةً، لا من يَصُبُّ الماء ونحوه، ولا من ييمِّمه؛ فليسوا بغاسلين. 4 - عارض هَذا الحديثَ ما رواه البيهقي (1/ 306) عن ابن عبَّاس؛ أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس عليكم في غُسْلِ ميتكم غُسْلٌ إذا غسَّلتموه، إنَّ ميتكم يموت طاهرًا وليس بنجس، فحسبكم أنْ تغسلوا أيديكم"، قال الحافظ ابن حجر: حديثٌ حسن. والجمع بين الحديثين: أَنَّ الأمر في حديث أبي هريرة للنَّدب، ويؤيد هذا الجمع: ما روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن ابن عمر قال: "كُنَّا نغسِّل الميت، فمنَّا من يغتسل، ومنَّا من لا يغتسل"، قَال الحافظ: إسناده صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين هذين الحديثين.

5 - يؤيد هذا الجمع قاعدةُ ذكرها ابن مفلح في "الفروع" هي أَنَّ الحديث الضعيف إِذا كان دالاًّ على الوجوب بصيغته، أو دالاًّ على التحريم بصيغته، فإنَّه يُحْمَلُ على الاستحباب في الأمر، وعلى الكراهة في النَّهْي؛ احتياطًا، ولا يُلْزَمُ المسلمون بحكمه وجوبًا أو تحريمًا. 6 - أَمَّا قوله: "ومن حمله فليتوضَّأ" فقال الصنعاني: "لا أَعلَمُ قائلاً بالوضوء من حَمْلِ الميت، والوضوءُ يُفَسَّر بغسل اليدين فقطْ، فيكونُ غسلُ اليدين مندوبًا من حَمْلِ الميت، وهو يناسبُ نظافةَ الإسلام؛ ويدل على ندب غسل اليدين ما تقدَّم من حديث ابن عبَّاس: "حسبكم أنْ تغسلوا أيديكم". ولولا وجودُ هذا الحديثِ، وعدَمُ وجود قائلٍ بالوضوء مِنْ حمله، وضعفٌ ظاهرٌ في حديث الأصل أيضًا -لحملنا الحديث على الحقيقة الشرعية، وهي الوضوءُ الشرعيُّ بغَسْلِ الأعضاء الأربعة من حمل الميت؛ لأنَّ الأصل في ألفاظ الشرِع أنْ تُحْمَلَ على الحقائق الشرعية. 7 - الحمل هنا مطلقٌ سواء باشرَ الحملَ بيده، أوْ حمله بنعشه. ***

71 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ" رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا, وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَهُوَ مَعْلُولٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. إلاَّ أَنَّ المُحَدِّثِيْنَ اخْتَلَفُوا في صحَّة هَذا الحديث، فقال أبو داود: قد أُسْنِدَ هذا الحديث ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وهمٌ، إنَّما هو سليمان بن أرقم، وهَكَذَا قالَ أَبُو زرعة الدمشقي: إنَّه الصَّوَاب، وتبعه صالح جزرة، وأبو الحسن الهروي. وَقالَ النَّسائِيُّ: وهذا أشبه بالصواب (يعني: عن سليمان بن أرقم). وقال ابن حزم: صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم بها حجَّة، وسليمان بن داود متفق على تركه. قَالَ ابن حبَّان: سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعَّفه فإنَّما ظنَّ أنَّ الرَّاوي له هو اليمامي. قَالَ ابن حجر: ولولا ما تقدَّم من أنَّ الحكم بن موسى وهم في قوله: سليمان بن داود، وإنَّما هو سليمان بن أرقم، لكان لكلام ابن حبَّان وجه. وصحَّحه الحاكم، وابن حبَّان، والبيهقي، ونقل عن أحمد أنه قال: أرجو أن يكون صحيحًا. ¬

_ (¬1) مالك (468)، النسائي (4853)، ابن حبَّان (14/ 504).

وقد صحَّح الحديثَ بالكتاب المذكور جماعةٌ من الأئمة، لا من حيث الإسناد، لكنْ من حيث الشهرة: فقال الشَّافعي: لم يقبلوا هذا الحديث حتَّى ثبت عندهم أنَّه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وَقال ابن عبد البر: هذا كتابٌ مشهورٌ عند أهل السير، معروفٌ ما فيه عند أهل العلم، معرفةً يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتُرَ في مجيئه، لتلقِّي النَّاس له بالقَبُولِ والمعرفة. وَقال العُقَيْليّ: هذا حديثٌ ثابتٌ محفوظٌ إلاَّ ألا نَرَى أَنَّه كتابٌ غير مسموعٍ عمَّن فوق الزهري. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصحَّ من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتَّابعين يرجعون إليه وَيَدَعُونَ رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمامُ عصره الزهريُّ لهذا الكتاب بالصحة. * مفردات الحديث: - إلاَّ طاهر: الطَّاهر لفظ مشترك، يطلَقُ على الطَّاهر من الحَدَثِ الأكبر، ويطلق على الطَّاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على مَنْ لبس على بدنه نجاسة، والرَّاجحُ أنَّ المراد هُنا: الطَّاهر من الحدث الأصغر؛ كما سيأتي تحقيقه في الكلام على فقه الحديث، إنْ شاء الله تعالى. - القرآن: مصدر مرادف للقراءة، ثُمَّ نُقَلِ، فجعل اسمًا للكلامِ المُعْجزِ المنزَّلِ على النَّبيِّ محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ من باب إطلاق المصدر على مفعوله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عمرو بن حزم الأنصاريُّ حينما بعثه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلى نَجْرَانَ، ليفقَّههم في الدِّين كتب له هذا الكتاب العظيم، الذي جمع كثيرًا من السنن، وتلقَّته الأمَّة بالقبول.

قال الحاكم: حديث عمرو بن حزم من قواعد الإسلام. 2 - في هذا الكتاب "أنَّه لا يمس القرآن إلاَّ طاهر"، والمؤلِّف ساقه لبيان منع المُحْدِث حدثًا أصغر من مسَّه، وكذلك صاحبُ الحَدَثِ الأكبر مِنْ باب أولى. 3 - ظاهر الحديث تحريمُ مَسِّ المصحف بدون حائل لغير المتوضِّىء. 4 - قال الوزير ابن هبيرة: أجمعوا أَنَّه لا يجوزُ للمُحْدِثِ مَسُّ المصحف بلا حائل. وقال شيخ الإسلام: مذهب الأئمة الأربعة: أنَّه لا يمس المصحف إلاَّ طاهر، والَّذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة هو أنَّ مسَّ المصحف لا يجوز للمُحْدِثِ، وهو قولُ الجمهور، والمعروفُ عن الصحابة. 5 - للصغير في مَسِّ المصحف وجهان: أحدهما: المنعُ؛ اعتبارًا بالكبار. الثاني: الجواز للضرورة؛ فلو لم يُمَكَّنْ منه، لم يحفظه. قال في الإنصاف: فيه روايتان في المذهب. قال الشيخ عبد الله أبابطين: المشهورُ من المذهب: أنَّه لا يجوز، وفيه روايةٌ عن أحمد بالجواز. 6 - قوله: "إلاَّ طاهر" هذا اللفظ مشتَرَكٌ بين أربعة أمور: (أ) المراد بالطاهر المسلم؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالمراد بها: طهارةٌ معنويَّهٌ اعتقادية. (ب) المراد به الطاهرُ من النجاسة؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم- في الهرَّة: "إنَّها ليست بنجس". (ج) المراد به الطَّاهرُ من الجنابة؛ لما روى أحمد (640)، وأبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594) عن عليٍّ

-رضي الله عنه-: "أنَّ النبَّي -صلى الله عليه وسلم- لا يحجزه شيءٌ عن القرآن ليس الجنابة". (د) أنَّ المراد بالطَّاهر المتوضِّىءُ؛ لما روى البخاري (6954)، ومسلم (255) أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ أحَدِكُمْ إذا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَؤَضَّأ". كل هذه المعاني للطهارة في الشَّرع محتملَةٌ في المراد من هذا الحديث، وليس لدينا مرجِّح لأحدها على الآخر، فالأولى حَمْلُهَا على أدنى محاملها، وهو المُحْدِثُ حدثًا أصغر؛ فإنَّه المتيقن، وهو موافق لما ذهب إليه الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة وأتباعهم. وهذا لا يعطي المسألة دليلاً قاطعًا على تحريم مَسِّ المصحف للمحدث؛ لأنَّ الشك في صِحَّته موجود، ولكن الاحتياط والأولى هو ذاك. قال ابن رشد: السبَبُ في اختلافهم تردُّد مفهوم قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة]، بين أنْ يكون {الْمُطَهَّرُونَ} هم بنو آدم، وبين أنْ يكونوا هم الملائكة، وبين أنْ يكون هذا الخبر مفهومه النَّهْي، وبين أنْ يكون خبرًا لا نهيًا. فمن فهم من {المطهرون} بني آدم، وفهم من الخبر النَّهي، قال: لا يجوز أنْ يَمَسَّ المصحفَ إلاَّ طاهر. ومن فهم منه الخبَرَ فقطْ، وفهم من لفظ {المطهرون} الملائكة، فال: إنَّه ليس في الآية دليلٌ على اشتراط هذه الطهارة لِمَسِّ المصحف، وإذًا فلا دليلَ من كتابٍ ولا سنَّةٍ ثابتةٍ على قولِ مَنْ لا يرى قبولَ الحديث. 7 - في الحديث تعظيمُ القرآن، وأنَّه يجبُ احترامه، فلا يجوزُ مَسُّ المصحف بنجاسة، ولا يُجْعَلُ في مكانٍ لا يليق؛ إمَّا لنجاستِهِ، وإمَّا بجانب صور، أو تعلق آياته بجانب صورٍ، أو يُتْلَى في مكانِ لهوٍ أو عند الأغاني، أو عند أحدٍ يشرب الدخان، أو في مكان لغطٍ وأصواتٍ، ونحو ذلك ممَّا يعرِّض كتاب الله تعالى للإهانة.

72 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أحيانه: جمع حين، قال في المصباح: الحِينُ: الزمان قلَّ أو كثر، والمراد بكلِّ أحيانه: معظمها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث مقرِّرٌ للأصْلِ، وهو ذِكْرُ الله تعالى على كل حالٍ من الأحوال، ولو كان محدثًا أو جنبًا، والذِّكْرُ بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، وشبهها من الأذكار جائزٌ كلَّ حين بإجماع المسلمين. 2 - يدخُلُ في الذكر تلاوةُ القرآن، إلاَّ أنَّ التلاوة مخصَّصة بحديث عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً" [رواه الإمام أحمد (628)، وأبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، وصححه الترمذي]. 3 - يخصَّص كذلك بحالة البول والغائط والجماع. هذا إذا كان الذّكْرُ باللسان، أمَّا الذكْرُ في القلب: فلا مانع منه في هذه الأحوال، والرَّاجحُ أنَّ مراد عائشة باللسان. 4 - هذا الحديثُ في معنى الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]. ... ¬

_ (¬1) مسلم (373)، البخاري (2/ 114 فتح).

73 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلَيَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال الحافظ في التلخيص: في إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف، قال الدَّارقطني عقبه: صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وذكره النَّووي في فصل الضعيف، ويروى ما يؤيِّد معناه عن عدَّه من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر علَّقه البخاري، وابن عباس رواه الشَّافعي، وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة ذكرهما الشَّافعي ووصلهما البيهقي، وجابر علَّقه البخاري ووصله ابن خزيمة وأبو داود. وفيه عقيل بن جابر لم يوثِّقه إلاَّ ابن حبَّان وصحَّح حديثه، وكذا ابن خزيمة والحاكم، وعن عائشة، قال الحافظ: لم أقف عليه. * مفردات الحديث: - احتجم: أخرج الدم بالمِحْجَمِ، والمحجم: أداةُ سَحْبِ الدَّمِ من المحجوم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الحجامة لا تنقُضُ الوضوء، بل تجوزُ الصلاةُ بعدها. 2 - الحديث مقرِّر للأصل، وهو أنَّ خروج الدَّم من البدن غير الفرجين لا ينقف الوضوء، والأصلُ عدمُ النَّقْضِ حتَّى يقوم ما يرفع الأصل. 3 - المشهورُ من مذهب الإمام أحمد: أنَّ النَّجس الخارج من غير السبيلين إذا فَحُشَ أنَّه ينقُضُ الوضوء. قال في الشرح الكبير: النجس من غير السبيلين غير البول والغائط ينقض ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 151).

كثيره، بغير خلافٍ في المذهب. وقال مالك والشَّافعي وأصحابهما: لا وضوء منه؛ واختاره الشيخ تقي الدِّين؛ لأنَّه لا نصَّ فيه، ولا يصحُّ قياسه على الخارج من السبيل، وإِنَّما هو كالبُصاقِ والمُخَاط، والأصلُ بقاءُ الطهارة حتَّى يأتي ما يرفَعُ هذا الأصل، واختاره شيخُنَا عبد الرحمن السعدي، وتقدَّم الخلافُ في ذلك. 4 - حديثُ عائشة السَّابقُ أنَّ الرُّعافَ والقيء والقَلَسَ ونحوها ممَّا يخرج من البدن من غير السبيلين: ناقضٌ للوضوء، ولكنَّ الحديثَ ضعيف، وعند الترجيح لا يعارِضُ هذا الحديث الذي معنا، لاسيَّما وهذا الحديثُ يقرِّر أصلًا هو أنَّ الأصل بقاء الطهارة. 5 - الحجامة دواء؛ وقد جاء في صحيح البخاري (5680)، عن ابن عبَّاس عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشِّفَاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيَّة نار". قال ابن القيم: إذا كان المرض حَارًّا، عالجناه بإخراج الدَّم بالفصد أو بالحجامة؛ لأنَّ في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج، ففيه استحباب التداوي، واستحباب الحجامة، وأنَّها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال. 6 - استحباب التداوي؛ ففي مسلم (2204) من حديث جابر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكلِّ داءٍ دواء، فإذا أصيب بدواء الدَّاء، بَرَأَ بإذْنِ الله عزَّ وجل". وفي مسند الإِمَام أحمد (17987)، عنَ أسامة بن شريك؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عباد الله تداوَوْا، فإنَّ الله لم يضعْ داءً إلاَّ وضع له شفاءً". قال ابن القيم -لما ذكر أحاديث التداوي-: فقد تضمَّنت هذه الأحاديث الأسبابَ والمسبَّبات، وإبطالَ قول مَنْ أنكرها، ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنَّه لا ينافي التوكل. فكان هديه -صلى الله عليه وسلم- فِعْلَ التداوي في نفسه، والأمْرَ به لمن أصابه مَرَضٌ من أهله، أو أصحابه.

74 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ, فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ، اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالطَّبَرَانِيُّ، وَزَادَ: "وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ"، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ، دُونَ قَوْلِهِ: "اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ"، وَفِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ ضَعْفٌ (¬1). وَلِأَبِي دَاوُدَ -أَيْضًا- عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: "إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا". وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث عليٍّ حسنٌ، أمَّا حديثُ معاوية: فقد رواه أحمد، والطبراني، والدَّارقطني، وفي إسناده بقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيفٌ، وكان قد سُرق بيته فاختلط. وحديث عليٍّ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدَّارقطني، وفيه الوضين ابن عطاء -وهو ضعيف- عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي. قال أبو زرعة: لم يسمع منه، قال الحافظ: وفي هذا النَّفي نظر؛ لأنَّه يروي عن عمر كما جزم به البخاري، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين؟ فقال: ليسا بقويين، وقال الإمام أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وحسَّن حديث عليٍّ: المنذريُّ، وابن الصلاح، والنووي. وأمَّا حديث ابن عبَّاس: فقد ضعَّفه البخاري، وأحمد، والترمذي، وقال ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 97)، الطبراني في الكبير (19/ 372)، أبو داود (203). (¬2) أبو داود (203).

أبو داود: إنَّه حديثٌ منكر، وقال البيهقي: تفرَّد به أبو خالد الدالاني، وأنكره عليه جميع أئمة الحديث، وقال ابن الملقن: هو حديثٌ ضعيفٌ باتفاقهم. * مفردات الحديث: - وكَاء: بكسر الواو والمد: الخيط الذي تُشَدُّ به الصُرَّةُ أو الكيسُ أو القربة. - السَّه: بفتح السين المهملة وكسرها: هي حلقة الدبر، أصلها سَتَهٌ، فسقطت منها عين الكلمة. ومعنى كون العين وكاءَ السه: أنَّ اليقظةَ تحفظُ الدبر، وتمنع خروجَ الخارج منه، كما يحفظ الوكاءُ الماءَ في السِّقاء، ويمنَعُ خروجه. - استطلق: يُقال: طَلُقَ يَطْلُقُ طلاقًا من باب كرم، والطلاق: أصله التخلية من القيد، وباقي معانيه متشعِّبةٌ منه. والمراد هُنا: أنَّ النائم إذا نام، لم يكن له شعور يحبس به الخارج. - مضطجعًا: أصله مضتجعًا؛ لأنَّه من باب الافتعال؛ فقلبت التَّاء طاءً. وأمّا إعرابه فهو حال من فاعل نام، والاضطجاع معناه: وضع الجنب على الأرض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نقض الوضوء من الرِّيح الخارجة من الدبر بصوتٍ أو بدونه. 2 - الحديثُ يدُلُّ على أنَّ النَّوْمَ ليس بناقضٍ بنفسه، وإنَّما هو مظنَّةُ النَّقض، فلا ينقُضُ إلاَّ النُّوْمُ المستغرقُ الذي هو مظنَّة الحدث، وأَمَّا الخفيف فلا ينقض. 3 - مثل النوم كلُّ ما أزال العقل؛ من جنون، أو إغماء، أو سُكْر، أو غيره، فكله من نواقض الوضوء، بجامع زوالِ الإحساسِ في الكل. 4 - قال علماءُ وظائفِ الأعضاء: إنَّ النَّوْمَ فترةٌ من الخمود مصحوبةٌ بنفي الإدراكِ والشعور، وأكثَرُ أجهزة الجسم توقُّفًا عن العمل أثناءَ النوم، هي المراكزُ العليا للمخ، التي تختصُّ بالإدراك والتمييز والتفكير، والرَّدِّ على المؤثِّرات الخارجية بما يناسبها، ومن أهم مميِّزات النوم: ارتخاء العضلات الإرادية، وعدَمُ القدرة على ضبط النفس.

75 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلَاتِهِ فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَلَمْ يُحْدِثْ, فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ (¬1)، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ (¬2)، وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- نَحْوُهُ (¬3). وَلِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ, فَقَالَ: إِنَّكَ أَحْدَثْتَ, فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ"، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ كَذلِكَ بِلَفْظِ: "فَلْيَقُلْ فِي نَفْسِهِ" (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ينفخ: نفَخَ بفمه نفخًا: أخرج منه الرِّيح. - في مقعدته: يُقال: قعد يقعد قعوفا، من باب نصر، والمقعدة: بفتح الميم، وسكون القاف: السَّافلة من الشخص. - يخيَّل إليه: يُقال: خال يخال خيلًا، من باب علم: إذا ظنَّ وتوهَّم، وخُيِّلَ له كذا -بالبناء للمجهول-: إذا توهَّمه أو ظنَّهُ، وهو من أفعال القلوب، والمعنى توهُّم خروج الرَّيحِ من مقعدته. ¬

_ (¬1) البزار (281). (¬2) البخاري (137)، مسلم (361). (¬3) مسلم (362). (¬4) ابن حبان (2666)، الحاكم (134).

- أحدث: مأخوذٌ من الحدوث، وهو كون الشيء لم يكن؛ فالحدث شرعًا: وجود ما ينقض الطهارة. - حتَّى: للغاية، بمعنى "إلى"، و"يسمع": منصوبٌ بـ"أن" مضمرة بعدها، وَ"يجد" معطوف عليه. - صَوتًا ... ريحًا: يعني يسمع صوتًا من الدبر، ويجد ريحًا من الدبر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا كان الإنسانُ متطهِّرًا، فخيِّل إليه أنَّه أحدث، ولكنَّه لم يتحقَّقْ ذلك يقينًا، فالأصل أنَّه باقٍ على طهارته، ولا يلتفت إلى هذه الشكوك والوساوس. 2 - أنَّ الشيطان يتكيَّف ويتمثَّل، فيعمل الأعمال التي يُظَنُّ أنَّها حقيقة، وهي في نفسِ الأمرِ ما هي إلاَّ من خِدَعِهِ، التي يريد أنْ يفسد بها على المسلم عبادته، ويوقعه في شكوكٍ وأوهامٍ. 3 - الواجبُ على المسلم أنْ يكونَ قويَّ الإرادة، نافذ العزيمة، فلا يجدُ الشيطانُ سبيلًا إلى تلبيس عبادته عليه. وأنْ يجاهد هذه الخيالات الشيطانيَّة، فإذا نَفَخَ الشيطانُ في رُوعِهِ فقال: إنَّك أحدثت، فليقل: كَذَبْتَ!. 4 - الشيطانُ عدوٌّ مبينٌ لبني آدم، فمن تمادَى معه، أغواه وأضله، فإذا لم يستطع إغواءه بالشهوات، جاءه من طريق الشبهات؛ فالواجب على المسلم مجاهدته وطرده ودحره؛ قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر]. 5 - الريِّح الخارجة من الدبر مبطلةٌ للوضوء، مفسدةٌ للصَّلاة، بشرط التيقُّن من خروجها. 6 - إذا كثرت الشكوكُ مع الإنسان، فإنَّها لا تُؤَثِّرُ؛ فلا يلتفت إليها.

7 - لا أثر للشكِّ بعد الفراغ من العبادة، فلو فَرَغَ من الوضوء، وشَكَّ هل تمضمَضَ؟ أو فرغ من الصلاة، وشكَّ هل قرأ الفاتحة؟ أو لم يسجد إلاَّ مرَّةً واحدة؟ فلا يلتفت إلى ذلك، والأصل صحَّة العبادة. قال ابن عبد القوي: وَلا الشَّكَّ مِنْ بَعْدِ الفَرَاغ بمُبْطِلٍ ... يُقَاسُ عَلَى هَذَا جَمِيعُ التَّعبُّدِ ***

باب آداب قضاء الحاجة

باب آداب قضاء الحاجة مقدمة أدَّبته أدباً: علَّمتُهُ رياضةَ النفس، ومحاسنَ الأخلاق. قال أبو زيد الأنصاري: الأدبُ يقع على كلِّ رياضةٍ محمودة، يتخرَّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل. وجمع الأدب آدابٌ، مثل سببٌ وأسبابٌ. "قضاء الحاجة": يُكنَّى بها عمَّا يقبُحُ التصريحُ بذكره. وآداب قضاء الحاجة يشمل أقوالاً وأفعالاً، يشرع للمسلم اتباعها، من الابتعاد عن النَّاس، والاستتار عن الأنظار، واختيار المكان المطمئنِّ الآمن به مِنْ رشاش البول، والذِّكْرِ عند دخولِ الخلاء، وعند الخروجِ منه، وهيئةِ الجلوس، والاستعدادِ بأداة التطهير من الأحجار ونحوها، والماء، والتحاشي من التطهُّر بالموادِّ النجسة، أو العظامِ، أو الأشياءِ المحرَّمة، والابتعادِ عند قضاءِ الحاجة عن مجالس النَّاس، ومرافِقِهِمُ العامَّة، وتحت الأشجارِ المُثْمِرة، أو استقبالِ القبلة أو استدبارها، ولزوم السكوت حال قضاء الحاجة، ثمَّ قطع الخارج، والتطهُّر منه، والتحرُّزِ من أنْ يصيبه شيءٌ منه، وغير ذلك من الآداب المرعيَّة في هذا الباب؛ فإن الشريعة الكريمة علَّمتنا كلَّ شيءٍ، وسارت مع المسلمين في كلِّ أعمالهم وتصرفاتهم، ولله الحمد.

76 - عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ, وَهُوَ مَعْلُولٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث معلول. قال النسائي: هذا حديث غير محفوظ، وقال أبو داود: منكر، وقال المؤلف: معلولٌ؛ لانقطاع سنده بين ابن جريج والزهري حيث لم يسمع منه، وقال ابن القيم: إنَّه شاذٌّ ومنكرٌ وغريب. لكن نقل ابن حجر في التلخيص الحبير تصحيحَهُ عن الترمذي وابن حبَّان والمنذري والقشيري في الاقتراح، واعتمد التصحيحَ السيوطيُّ في الجامع الصغير، ومال الحافظ مغلطاي إلى تحسينه. ومن صحَّحه قال مجيبًا عن العلَّة التي ذكروها مِنْ عدم سماع ابن جريج من الزهري، قالوا: فقد سمعه من زياد بن سعد عن الزهري بلفطٍ آخر، فزالت علَّته، ورواته ثقات. * مفردات الحديث: - دخل: يعني أراد دخوله؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النَّحل] يعني: إِذا أَرَدْتَ قِراءَةَ القُرْآن. - الخلاء: بفتح الخاء والمد: المكانُ الخالي، ويراد به المكانُ المُعَدُّ لقضاء الحاجة، فإنْ أراد قضاءَ حاجته بفضاء، فلا داعي إلى تأويلِ الدخول بإرادة الدخول. - خاتمه: خَتَمْتَ الكتابَ ختمًا، وَخَتَمْتُ عليه، من باب ضرب: طبعت، والخاتم بفتح التاء وكسرها، والكسر أشهر. ¬

_ (¬1) أبو داود (19)، الترمذي (1748)، النسائي (5213)، ابن ماجة (303).

قال في المصباح: الخاتم: حَلْقةٌ ذات فَصٍّ من غيرها، فإنْ لم يكنْ، فهي فَتْخَة، بفاء وتاء مثنَّاة من فوق وخاء معجمة. قال ابن كثير: اتخذ -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من فضَّة، ونقش فيه: "محمَّد رسول الله"؛ هكَذا رواه البخاري. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - خاتم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مكتوبٌ عليه "محمد رسول الله"، فكان لا يدخل فيه الخلاء، ويضعه خارجه. 2 - كراهة دخول الإنسان الخلاء أو المكان الذي سيقضي فيه حاجته، ومعه شيءٌ مكتوبٌ فيه ذكر الله تعالى، أو أسمائه وصفاته. 3 - قال الفقهاء: إلاَّ إذا كان دخوله به لحاجةٍ كخشية سرقته أو نسيانه، وهذا الاستثناء مبنيٌّ على قاعدة: أنَّ الكراهة تزول مع الحاجة. قال شيخ الإسلام: الدَّراهم إذا كُتب عليها "لا إله إلاَّ الله"، وكانت في منديل أو خريطة، يجوز أنْ يدخل بها الخلاء. 4 - وجوبُ تعظيم ذكر الله تعالى وأسمائه تعالى، وإبعادها عن كلِّ ما يَمَسُّ قدسيتها وكرامتها؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج]. 5 - اقتصارُ الحكم على الكراهة؛ ذلك أنَّ مجرَّد ترك الفعل لا يدل على التحريم. 6 - إباحةُ اتخاذ الخاتم للرجل، وأنْ يَكْتُبَ عليه، ولو كان اسمُهُ فيه اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ كعبد الله، وعبد الرحمن. 7 - أمَّا المصحفُ: فيحرُمُ إدخاله، أو إدخالُ بعضه المكانَ المُعَدَّ لقضاء الحاجة، ولو كان ملفوفًا بحائل، لما له من مكانةٍ لا تسامى، وقد جاء نعته ووصفه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة]، وإنَّه {قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)} [البروج]، و {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)} [فصلت]، وإنَّهُ {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء:50]، إِلى غير ذلك من النعوت الكريمة.

77 - عَنْ أنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ" أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أعوذ: يُقال: عُذْتُ به عَوْذًا وعِيَاذًا ومَعَاذًا: لجأْتُ إليه، والمَعَاذُ يسمَّى به المصدرُ والمكانُ والزمان، ومعنى أعوذُ به: أعتصِمُ به وألتجىء إليه. - الخبث: فيه لغتان: بضم الباء، وهو: جمع خبيث، وبسكون الباء -على الرَّاجح من قولي أهل اللغة- يراد به الشر. - الخبائث: جمع خبيثة، أي: أهل الشر، وهم الشياطين. قال ابن الأعرابي: أصلُ الخبث في كلام العرب: المكروه، فإنْ كان من الكلام فهو الشتم، وإنْ كان من المِلَل فهو الكفر، وإنْ كان من الطعام فهو الحرام، وإنْ كان من الشراب فهو الضار. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "إذا دخل الخلاء" المراد أراد دخوله؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النَّحل] يعني: إذا أردت قراءته، وجاء في الأدب المفرد للبخاري عن أنس قال: كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إِذا أراد أنْ يدخل الخلاء، قال: "اللهم إنِّي أعوذ بك من الخبث والخبائث". 2 - هذه الاستعاذة ليحصِّن بها المسلم نفسه من محاولة الشيطان إيذاءه ¬

_ (¬1) البخاري (142)، مسلم (375)، أبو داود (25)، الترمذي (26)، النسائي (19)، ابن ماجة (296)، أحمد (11536).

وتنجيسه، حتَّى لا تصحَّ عبادته، فما دام النَّبي -صلى الله عليه وسلم- المؤيَّد بعصمة الله يخاف من الشرِّ وأهله، فالجديرُ بنا أنْ يكونَ خوفنا أشدَّ. 3 - أنَّ الأمكنة النجسة والقذرة هي أماكنُ الشياطين التي تأوي إليها وتُقِيمُ فيها. 4 - الالتجاءُ إلى الله تعالى والاعتصامُ به من الشياطين وشرورِهِمْ، فهو المُنْجِي منهم، والعاصمُ من شرِّهم. 5 - وجوبُ اجتنابِ النجاسات، وَعَمَلِ الأسباب التي تَقِي منها؛ فقد صَحَّ في الأحاديث الشريفة أنَّ من أسباب عذاب القبر عدم التنزُّه من البول. 6 - فضيلة هذا الدعاء والذكر في هذا المكان؛ فكُلُّ وقتٍ ومكان له ذكرٌ خاصٌّ، والذي يلازم عليه يكونُ من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات. 7 - قال الحسن البصري: "اللهم" هي مَجْمَعُ الدعاء؛ فالدعاءُ بلفظ "اللهم" يعني "يا الله"، وهو سؤالُ الله بجميعِ أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ فهو دعاء بالأسماء الحسنى والصفات العلا. 8 - الاستعاذة مُجْمَعٌ على استحبابها، سواءٌ في البنيان والصحراء. 9 - الأمكنة الطيبة كالمساجد يُشْرَعُ عندها أذكارٌ وأدعية، تناسب ما يرجى فيها من رحمة الله وفضله، والأمكنةُ الخبيثة كالحشوش يناسب دخولها أذكارٌ بالبعد عمَّا فيها من خبائثِ الجنِّ وَمَرَدَةِ الشياطين. 10 - الأمكنةُ الطيبة مأوى الملائكة الكرامِ البَرَرَة، والأمكنةُ الخبيثة مأوى الشياطين؛ قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]؛ فكلٌّ فيه ما يناسبه. 11 - فيه إثباتُ وجود الجنِّ والشياطين، فإِنْكارُهُمْ ضلالٌ وكفرٌ؛ لأنَّه ردٌّ لصريح النصوص الصحيحة، وهو نقصٌ في العقل، وضيقٌ في التفكير؛ فإنَّ الإنسان لا يُنْكرُ ما لم يصلْ إليه علمه، وإنَّما -إِذا كانَ لا يُؤْمِنُ بالوحي- يتوقَّف؛ فإنَّ اكتشاف المجهولات يطالعنا كل وقتٍ بجديد؛ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ

الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء]. 12 - الأرواحُ الخبيثةُ الشِّرِّيرة موجودةٌ منتشرة، لا سيَّما عند الأنفس القابلة لها، وكذلك توجد في الأماكن القذرة، أو في البيوت التي تكثُرُ فيها المعاصي وتظهر ويقلُّ فيها ذكر الله، وَطَرْدُ هذه الأرواحِ الخبيثة من الأجسام والبيوتِ لا يكونُ بالذَّهاب إلى أصحاب الدجل ومدَّعي علم الغيب، أو بتخيُّر الأماكن، ونحو ذلكَ، وإنَّما يكونَ بالأوراد والرُّقَى الشرعية. 13 - قال ابن الملقِّن ما معناه: الظَّاهر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجهر بهذا الدعاء في هذا المكان، فهو أظهَرُ مِنْ أنَّه يُخْبِرُ عن نفسه، من أنَّه كان يفعله. ***

78 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ الْخَلَاءَ, فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً, فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غلام: الغلام الصبي من الولادة إلى البلوغ، والجمع: أَغْلِمَةٌ وَغِلْمَةٌ وَغِلْمَانٌ. - نحوي: أي: مقارب لي في السن. - إداوةً: بكسر الهمزة، مفرد أداوي، قِرْبَةٌ صغيرةٌ من جِلْدٍ تتخذ للماء. - عَنَزَة: بفتح العين المهملة، وفتح النون والزاي، جمعه عنزات، وهي عَصًا قصيرةٌ في رأسها حديدةٌ تُسمَّى الزُّجَّ، والزج هو السنان، فالعنزة: هي رمحٌ قصير. - فيستنجي: الاستنجاءُ: القطع، فهو قطع الأذى عنه بالماء والحجارة؛ لأنَّه مأخوذٌ من النجو، وهو العذرة. قال في المصباح: استَنْجَيْتُ: غَسَلْتُ موضعَ النجو، أو مسحته بحجرٍ أو مدر. أمَّا الاستجمار: فهو إزالة النجو بالحجارة وحدها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنس بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- تشرَّف بخدمة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين. 2 - يُؤْخَذُ من الخلاء أنَّه كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يستتر بحيثُ لا يراه أحد؛ فينبغي لمن أراد ¬

_ (¬1) البخاري (152)، مسلم (271).

قضاء حاجته أنْ يستتر عن العيون، إمَّا بالبعد، أو إغلاق باب مكان قضاء الحاجة، أو وضع ما يستُرُهُ من النَّاس. 3 - يدل على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك في الفضاء، وليس في البيوت؛ فإنَّ العنزة والإداوة المحمولة لا يحتاجُ إليهما غالبًا إلاَّ في البَرِّ. 4 - جواز الاقتصار في الاستنجاء على الماء. 5 - الأحوال ثلاثة في الاستنجاء: (أ) أفضلها: الجمعُ بين الحجارة والماء، بتقديم الحجارة ونحوها، ثمَّ إتباعها الماء؛ ليحصُلَ كمالُ الإنقاءِ والتطهُّر. قال النووي: الذي عليه جماعةُ السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار: أنَّ الأفضل أنْ يجمع بين الماء والحجارة، فيستعمل الحجر أوَّلاً لِتَخِفَّ النجاسة، وتقلَّ مباشرتها بيده، ثُمَّ يستعمل الماء، فإنْ أراد الاقتصارَ على أحدهما، جاز الاقتصار على أيهما شاء، سواءٌ وجد الآخر، أو لم يجده، فإن اقتصر على أحدهما، فالماء أفضل من الحجر. (ب) يأتي بعده في الفضيلة: الاقتصارُ على الماء دون الحجارة. (ج) هي الاقتصارُ على الحجارة ونحوها، وهي مجزئةٌ إلاَّ أنَّ الأوَّلَيْنِ أفضلُ منها. 6 - استعداد المسلم بطهوره عند قضاء الحاجة؛ لئلا يُحْوِجَهُ إلى القيام، والتلوُّث بالنَّجاسة. 7 - بعضُ العلماء كره الاقتصارَ في الاستنجاء على الماء، وعلَّةُ الكراهة عندهم ملامستُهُ النَّجاسة؛ ولكنه قولٌ مرجوحٌ، وتعليلُ ذلك غيرُ صحيحٍ؛ لما يأتي: أولًا: أنه ردٌّ ومعارضةٌ لهذا الحديث الصحيح.

ثانيًا: أنه يحصل بالماء الإنقاءُ التامُّ. ثالثًا: أن مباشرة النجاسة لإزالتها لا محذورَ فيها؛ فإنَّ هذا ليس استعمالًا لها، وإنما هو تخلُّص منها، نظير ذلك: إزالةُ المحْرِمِ الطِّيبَ عنه، بجامع المنعِ مِنْ كلٍّ منهما، فإزالتُهُ ليستْ محظورًا في الإحرامِ وإن باشره. قال شيخ الإسلام: الصحيحُ جوازُ ملامسة النجاسة للحاجة، ولا يكره ذلك في أصحِّ الروايتين عن أحمد، وهو قولُ أكثر الفقهاء؛ إذ إن الاستبراء من البول لا يكون إلاَّ بعد الإصابة به. 8 - تحفُّظه عن أعين النَّاظرين؛ وذلك بجعله بينهم وبينه حجابًا ولو من خرقة ونحوها؛ فإنَّ النظر إلى العورة بدون ضرورة محرَّم. 9 - جوازُ استخدامِ الأحرار حتَّى في مثل هذه الأشياء. ***

79 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ لِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: خُذِ الْإِدَاوَةَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي, فَقَضَى حَاجَتَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الإداوة: تقدَّم شرحها في الحديث السَّابق. - توارى عنِّي: استَتَرَ عنِّي واستخفى. - حاجته: الحاجة ما كان محتاجًا إليه، والحاجَةُ جمعها: حَاجٌ، بحذف الهاء، وحاجات، وهي هنا كناية عن التبوُّل والتغوُّط. * مفردات الحديث: 1 - استحبابُ البعد والتواري عن النَّاس، عند إرادة قضاء الحاجة. 2 - أمَّا سَتْرُ العورة عن النَّاس فواجب؛ لتحريم كشفها إلاَّ في مواضع خاصَّة. 3 - استحبابُ إعداد إداوة طهارة الإنسان عند إرادته قضاءَ الحاجة؛ ليقطَعَ الخارج عنه بدون طلبه، بعدي الفراغ من قضاء الحاجة. 4 - جوازُ الاقتصار في الاستنجاء على الماء دون الحجارة؛ فلم يذكُرْ في الحديث إلاَّ الإداوة، ولو كان هناك حجارةٌ، لَذَكَرَها. 5 - جوازُ الاستعانة بغيره على إحضار أدوات طهارته، وتقريبها منه. 6 - جوازُ اتخاذِ الخادمِ ولو كان حُرًّا. 7 - حياءُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وكمالُ خُلُقه، وبعدُهُ عمَّا يُسْتَحْيَا منه، وهو قدوةٌ لكلِّ مسلم -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) البخاري (363)، مسلم (274).

80 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا اللَّاعِنِيْنَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ, أَوْ ظِلِّهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1)، وزَادَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُعَاذٍ -رضي الله عنه-:"الْمَوَارِدَ"، وَلَفْظُهُ: "اتَّقُوا المَلاَعِن الثَّلاَثَةَ: البَزارَ في المَوَارِدِ، وقَارِعَةِ الطَّريْق، وَالظِّلِّ" (¬2) وَلِأَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَوْ نَقْعِ مَاءٍ"، وَفِيهِمَا ضَعْفٌ (¬3). وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ النَّهْيَ عَنْ قَضَاءِ الحَاجَةِ تَحْتِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَضِفَّةِ النَّهْرِ الْجَارِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: - الحديث صحيح. لكن فيه ثلاث زيادات أوردها المؤلِّف: زيادة أحمد: "أو نقع ماء"، وزيادة أبي داود: "الموارد"، وزيادة الطبراني: "الأشجار المثمرة"، وكل هذه الزيادات الثلاث فيها ضعف: فسببُ ضعف زيادة أحمد: وجود ابن لهيعة في سنده، وهو سيِّىء الحفظ. وسببُ ضعف زيادة أبي داود: الانقطاع؛ لأنَّهُ من رواية أبي سعيد ¬

_ (¬1) مسلم (269). (¬2) أبو داود (26). (¬3) أحمد (2710). (¬4) الطبراني في الأوسط (3613).

الحميري عن معاذ، وهو لم يدرك معاذًا؛ فيكون منقطعًا. وأمَّا سبب ضعف زيادة الطبراني: فإنَّ في سنده فرات بن السَّائب، وهو متروك. * مفردات الحديث: - اللاعنَيْن: بصيغة التثنية، قال الخطابي: الَّلاعنين: الأمرين الجالبين لِلعْنِ النَّاس مَنْ فعله. - المَلاَعِن: بالفتح: جمع مَلْعَن، أي: موضع اللعن. - الثلاثة: منصوب، صفة الملاعن. - النَّاس: مشتقٌّ من نَاسَ يَنُوسُ: إِذَا تدلَّى وتحرَّك، ويصغَّر على نُوَيْس، وقد وُضِعَ للجمع كالرهط والقوم، وواحده: إنْسَانٌ على غير لفظه، والأصلُ في نطقه: الاُنَاس، فحذفتِ الهمزةُ لكثرة الاستعمال؛ ولهذا إذا نُطقتْ بدون "أل" قيل: "أناس" أكثر ممَّا يقال: "ناس". - يَتَخَلَّى: مَأْخوذٌ من المكان الخالي؛ لأنَّ عَادَةَ من يريد قضاء حاجته الابتعاد عن النَّاس والخلوة بنفسه. ويُراد به التغوُّط في طريق النَّاس أو ظلهم؛ فهو من ألفاظ الكناية التي يعبر فيها عمَّا يقبح ذكره بما يدُلُّ عليه. - الموارد: جمع مورد، وهو الموضع الَّذي يَرِدُهُ النَّاسُ من عين ماء، أو غدير، أو نحوهما. - البرَاز: بفتح الموحدة، فراء مفتوحة، آخره زاي، وهو المتَّسع من الأرض يكنَّى به عن الغائط، هو المطمئنُ من الأرض، سُمِّيت به عَذِرَةُ الإنسان؛ لأنَّ من أراد قضاءَ حاجتِهِ، قصَدَ المطمئنَّ من الأرض. - الطريق: فعيل بمعنى مفعول، فهو مطروق؛ لأنَّ أقدامَ النَّاس تطرُقُهُ، جمعه طُرُقٌ بضمتين، وهو مذكَّر في لغة أهل نجد، وبه جاء التنزيل؛ قال تعالى:

{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77]، ويُؤَنَّث في لغة أهل الحجاز. - قارعة: المراد به الطريقُ الواسعُ، سُمِّي بذلك؛ لقرعه بأقدام النَّاس. - نقع ماء: بفتح النُّون، وسكون القاف، فعين مهملة، ويراد به: الماء المجتمع: - ضفَّة النَّهر: ضفة بفتح الضاد وكسرها، ضفَّة النَّهر أو البحر أو الوادي، هي: ساحله وشاطئه، وهما ضفتان، جمعه ضفاف. - اللعن: هو الطرد والإبعاد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريمُ البول أو التغوُّط في طرق النَّاس التي يعبرون معها، أو ظلَّهم الذي يجلسون ويستظلون فيه، أو مَوارِدهِمُ التي يسقون منها، أو يسقون منها مواشيهم وداوبهم، أو ضفافِ الأنهرِ والبحار التي يتنزَّهون عندها، أو تحت الأشجار المُثْمرة التي يجنون ثمارها ويأكلون منها، مما يلوِّث ما يسقُطُ منها من ثمر، وينجِّس من يأتي لِلْجَنْيِ منها، وتحلَّل النجاسة مع تربتها، فتمتصُّها عروقها وتغذِّي ثمرتها. 2 - كل هذه المرافق هامَّةٌ ونافعةٌ للنَّاس، فلا يجوزُ توسيخُهَا وتقذيرُهَا عليهم وإلحاقُ الضرر بهم. 3 - يقاسُ عليها كلُّ ما أشبهها ممَّا يحتاجُ إليه النَّاسُ من النَّوادي والأفنيةِ، والحدائقِ والميادينِ العامَّة، وغيرِ ذلك، ممَّا يرتاده الجمهور، ويجتمعون فيه، ويرتفقون به. 4 - احترامُ الأطعمة والأشربة، فلا يجوزُ إهانتها بالنَّجاسات، ولا تقذيرُ أصول الشجر بالنَّجاسة؛ لأنَّه يتحلَّلُ فتمتصُّه جذورها، فيصل إلى فروعها وثمارها، فتتغذَّى بالنَّجاسة، والنَّجاسةُ ولو استحالَتْ فهي مكروهة مستقذرة. 5 - أنَّ التغوَّط أو البول في هذه الأماكن وأمثالها يسبِّب لَعْنَ النَّاس لفاعلها، وربَّما لحقته لعنتهم؛ لأنَّه هو المتسبِّب في ذلك؛ لما روى الطبراني في

الكبير (3/ 179) بإسنادٍ حسن؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آذى المسلمين في طرقهم، وجبَتْ عليه لعنتهم". 6 - جواز إطلاق اللعنة على من فَعَلَ ما فيه أذيَّةُ المسلمين. 7 - اللعنُ معناه: الدعاء بطرده عن رحمة الله تعالى، وهذا دعاءٌ عليه من مظلومين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنَّه ليس بينها وبين الله حجاب" [رواه البخاري (1496) ومسلم (19)]. 8 - اتقوا لعنةَ النَّاسِ لكم بمقتهم وكرههم مِنْ فعل هذا، ولعنهم إيَّاه، واتقوا أيضًا لَعْنَ الله تعالى حينما يدعوا النَّاسُ عليكم، فيقولون: اللهم العَنْ مَنْ فعل هذا، فاجعلوا بينكم وبين هذا وقايةً، باجتنابكم التخلِّي والبول في هذه الأماكن. 9 - في الحديث كمالُ الشريعة الإسلاميَّة وسمُّوها، من حيثُ النظافةُ والنَّزاهة، وبُعْدُهَا عن القذارة والوساخة، وتحذيرُها عمَّا يَضُرُّ النَّاسَ في أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب]. 10 - وفيه شمولُ الشريعة؛ فإنَّها لم تترك خيرًا إلاَّ دَعَتْ إليه، ولا شرًّا إلاَّ حذَّرَتْ منه، حتَّى في هذه المواضع وجَّهَتِ النَّاس وبيَّنَتْ لهم أمكنةَ قضاء حاجاتهم، والأمكنةَ التي يجبُ بُعدهم عنها. 11 - الحديث يشير إلى قاعدةٍ شرعية، هي أنَّه إذا اجتمَعَ متسبِّبٌ ومباشر: فإنْ كان عمل كلِّ واحدٍ منهما مستقلاًّ عن الآخر، فالضمانُ والإثم على المباشر. وأَمَّا إذَا كانت المباشرةُ مبنيَّهً على السبب، صار المتسبِّب هو المتحمِّل؛ كهذا المثال في الحديث؛ فالدعاء فيه إثم، والذي قام به من لعن المتخلِّي عن الطريق مثلاً، ولكن المتسبِّب في هذا الدعاء هو

المتخلِّي، فهنا يكون الدعاء مباحًا في حقِّ المباشر، وهو الدَّاعي، والذي تحمَّل إثمَهُ المتسبِّبُ منه، وهذا المتخلِّي في الطريق. 12 - فيه أن كل ما يؤذي المسلمين فهو حرام؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب]. ***

81 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَغَوَّطَ الرَّجُلَانِ، فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَتَحَدَّثَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ, وَابْنُ الْقَطَّانِ, وَهُوَ مَعْلُوْلٌ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث معلول. وعلَّته التي أشار إليها المُؤَلِّفُ هي ما قاله أبو داود؛ من أنَّه لم يسنده إلاَّ عكرمة بن عمَّار العجلي اليماني، وضعَّف الأئمة روايةَ عكرمة بن عمَّار، عن يحيى بن أبي كثير؛ وقالوا: مضطربة. * مفردات الحديث: - إذَا: شرطية، ووقوعُ الفعل بها متحقِّق، بخلاف "إن" الشرطية، فجوابها غير متحقِّق، وقد يمتنع. - تغوَّط: تغوُّطا، مأخوذٌ من الغائط، وهو المكان المطمئنُّ من الأرض، ثمَّ أطلق الغائط على الخارج المستقذر من الإنسان، كراهةً لتسميته باسمه الخاصِّ؛ لأنَّهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمئنة، فهو من مجاز المجاورة، ثُمَّ توسَّعوا فيه حتَّى اشتقوا منه، وقالوا: تغوَّط الإنسانُ. - رجلان: تثنية رجل، والرجُلُ: الذكَرُ من النَّاس، جمعه رجال. قال في المصباح: وقد جمع قليلًا على رَجْلَة وزن تمرة، ولا يوجد ¬

_ (¬1) أحمد (10917).

جمع غيره على هذا الوزن. والرجلان قيدٌ أغلبيٌّ، وإلاَّ فهو شاملٌ لأي اثنين أو اثنتين فأكثر من النَّاس. - فليتوار: جواب الشرط، و"الفاء" رابطةٌ للجواب، وإنَّما احتيج للَّربط؛ لأنَّ الجملة الجوابية لا تصلُحُ لمباشرة أداة الشرط، واللاَّمُ للأمر، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها بحذف الألف، والفتحة على الرَّاء دليلٌ على الألف المحذوفة. - يتوارى: يستَخْفِي عن أعين النَّاس. - ولا يتحدَّثا: "لا" ناهيةٌ، وجزم الفعل بعدها بها، وجزمُهُ بحذف النُّوْن. - فإنَّ الله: جملةٌ للتعليل؛ إذ أوقع ما سبق عنه. - يمقت: مَقَتَهُ يَمْقُته مَقْتًا، فهو مقيتٌ وممقوت، والمَقْتُ: أشدُّ الغضب. ما يؤخذ من الحديث: 1 - ذكر الرجلين -تغليبًا- وإِلاَّ فالحكم يشمل الرِّجال والنِّساء، وهو في حقِّهنَّ أشدُّ وأعظم. 2 - وجوبُ التواري عند إرادة قضاء الحاجة، ولا يَحِلُّ أمامَ النَّاس بحيث يَرَوْنَ عورته. 3 - يحرم التحدُّثُ أثناء قضاء الحاجة مع الغير؛ لما فيه من الدناءة، وقلَّة الحياء، وضياع المروءة؛ فقد روى البخاري عن ابن عمر أنَّ رجلاً مرَّ على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم عليه، فلم يَرُدَّ عليه. 4 - تحريمُ هذه الأمور مأخوذٌ من أنَّ الله يمقُتُ على ذلك، فالمقتُ أشدُّ من البغض، والله تعالى لا يبغض إلاَّ على الأعمال السيئة، والتحريمُ هو الظَّاهر من الحديث، ولكن مذهب الجمهور أنَّه محمولٌ على الكراهة فقط. 5 - إثباتُ صفة البغض لله تعالى إثباتًا حقيقيًّا يليق بجلاله بدون تشبيهٍ بصفة المخلوقين، ولا تحريفٍ بتفسير البغض بالعقاب. 6 - هكذا صفاتُ الله تعالى يُسْلَكُ فيها مسلك أهل السنَّة والجماعة؛ فهو أسلم

من التعدِّي على كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم - بالتشبيه، أو بالتحريف والتَّأويل، الذي لا يستندُ إلى دليل. ومسلكهم أسلَمُ؛ لأنَّ علم كيفيَّة صفات الله تعالى مبنيةٌ على النَّقْل، لا على العقل المتناقض، ومسلكُهُمْ أحكَمُ؛ لأنَّ الأمور السمعية الغيبية الحكمةُ فيها أنْ يتلقَّاها الإنسان على ما وردَتْ بدون تغيير؛ فهذا منتهى علم الإنسان فيها، فطريقة السلف أعلم وأحكم بشرطين: الأوَّل: أنْ يتجنَّب التمثيل والتشبيه؛ فالله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]. الثاني: اجتنابُ التكييف؛ فلا يعتقد أنَّ كيفيَّة صفةِ الله كذا. فمن آمن بصفاتِ الله تعالى على ما وصَفَ به نفسه أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجَانَبَ التشبيه والتكييف، فقد حصلت له السَّلامةُ والعلمُ والحكمة، ذلِكَ أنَّه لن يصلَ إلى نتيجة، ومآله إمَّا إلى تعطيل الصفة وهو إنكارُها، أو إلى نتيجةِ التشبيه، وكلاهما ضلال. ***

82 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُمْسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ, وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ, وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يمَسَنَّ: "لا" ناهية، والفعلُ مبنيٌّ على الفتح في محل جزم؛ لاتصاله بنون التوكيد، تقول: مَسِسْتُ الشيء، أي: أَفَضْتُ إليه بيدي من غير حائل. - ولا يتمسَّح: من باب التفعُّل الذي يشار به إلى التكلُّف، والمراد: الاستنجاء بيمينه، وأعم مِنْ أنْ يكونَ في القبل أو الدبر. - الخلاء: ممدودٌ، يطلق على الفضاء، والمرادُ به هنا: موضع الخارج من السبيل. - ولا يتنفَّس في الإناء: من باب التفعُّل، يُقال: تنفَّس يتنفس تنفُّسًا. والتنفُّس: إدخالُ النَّفَسِ إلى رئتيه وإخراجُهُ منهما، فتدخل الرِّيحُ وتخرُجُ من أنف الحيِّ ذي الرئة، والمراد هنا: التنفس في الإناء أثناء الشرب، والفعل "يتنفس" مجزوم. وتروى الأفعال الثلاثة بالرفع على أنَّ "لا" للنَّفي دون النَّهي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن مَسِّ الذكَرِ باليمنَى حال البول. 2 - النَّهي عن مسِّ المرأة فرجَهَا باليمنَى حال البول. 3 - النَّهي عن الاستجمارِ باليمنَى، ومثله الاستنجاء بها. ¬

_ (¬1) البخاري (154)، مسلم (267).

4 - وجوبُ اجتناب الأشياء النجسة، فإذا اضطرَّ إلى مباشرتها، فليكن باليسار. 5 - بيانُ شرفِ اليدَ اليمنَى وفضلِها على اليد اليسرى. 6 - أنْ تُعَدَّ اليمنى للأشياء المستطابة؛ لما في الصحيحين: "كان يعجبه التيمن في تنعله وطهوره وفي شأنه كله". 7 - النَّهي عن التنفُّس في الإنَاءِ حيث يكرهه مَنْ بعده، ولئلا يسقُطَ فيه شيءٌ من فضلات فمه أو أنفه، وربما عاد الضرر على الشَّارب أيضًا. 8 - العناية بالنَّظافة لا سيَّما في المأكولات والمشروبات التي يحصُلُ من تلوُّثها ضررٌ في الصحة. 9 - سموُّ الشريعة الإسلامية حيثُ أمرَتْ بكلِّ نافعٍ، ونهت عن كلِّ ضارٍّ؛ فهذا الحديثُ جمَعَ الأدبَ والتوجيه الرشيد في إدخال ما ينفع البدن ويغذِّيه، وفي حالِ إخراج فضلاته النجسة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل النهي الواردُ في الحديث للتحريمِ أو للتنزيه؟: ذهب الظاهرية: إلى التحريم؛ أخذاً بظاهر الحديث. وذهب الجمهور: إلى أنَّه للكراهة، وأنَّ النَّهي إرشادٌ وتوجيهٌ، وهذا هو الرَّاجح؛ فإنَّ الشريعة الإسلامية فيها أوامرُ ونواهٍ في مسائلها وجزئياتها، والعلماء -تبعًا لهذه الأوامر والنَّواهي- مختلفون بين مَنْ يفهم منها الوجوبَ أو التحريم، وبين مَنْ يفهم منها الاستحباب أو الكراهة. وأحسَنُ مسلكِ في فهمها: هو أنْ نربط تلك المسائل الفردية بالقواعد الشرعية العامَّة، ومِنْ تلك القواعد: أنَّ الشريعة جاءتْ لإقرار المصالحِ ودفعِ المضار، سواءٌ أكانت تلك المصالح خالصةً أو راجحة، كما جاءت نواهيها ناهيةً عن كلِّ مفسدةِ، سواءٌ أكانت خالصةً أو راجحة. فإذا طبَّقنا القواعد العامَّة تطبيقًا صحيحًا، كانت الأحكام واضحةً جليَّة،

وقَبِلَتْهَا النفس بطمأنينة وارتياح؛ لأنَّ مآخِذَها واضحةٌ ظاهرة. وإذا طبَّقنا هذه النواهي على هذه القاعدة، وجَدْنا أنها ليسَتْ ممَّا يقتضي التحريمَ، وإنما هي أدبٌ وسلوكٌ وإرشادٌ مستحسن. وإذا طبَّقنا هذه القاعدة على تلك النَّواهي، وجدناها نواهِي لا يقتضي تركها مفسدةً كبيرة، أو لا يمكنُ التحرُّزُ منها إلاَّ بهذا الأسلوب؛ فصارت عند جمهور العلماء مِنْ باب الآدابِ والتوجيهِ والإرشاد، وتركُهَا من الكراهة التنزيهية. ***

83 - وَعَنْ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ, أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ, أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ, أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لقد: "الَّلام" للابتداء، وهي و"قد" جاءتا لتوكيد الخبر. - القِبْلَة: بكسر القاف، وسكون الباء الموحدة: هي الكعبة المشرَّفة. - أحجار: كسارة الصخور الصُّلْبة، واحده حَجَرٌ، وجمعه أحجارٌ وحِجَارة. - رجيع: الرجيع: بفتح الرَّاء، وكسر الجيم، بعدها ياء، وبعد الياء عين مهملة: هو روث ذي الحافر، وفي الحُكْم يشمله وغيره، وسيأتي إِنْ شاءَ الله تعالى. - عظم: جمعه عِظامٌ وَأَعْظُم، هو قَصَبُ الحيوان الذي عليه اللحم. قال الأطباء: العظم عُضْوٌ صُلْبٌ تبلغ صلابته إلى أنَّه لا يثنى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن استقبال القبلة أثناء البول أو الغائط؛ لأنَّها قبلة الصلاة وغيرها من العبادات، وهي أشرف الجهات، وظاهر الحديث: أنَّه لا فرق في الاستقبال بين الفضاء وبين البنيان، وسيأتي الخلاف فيه إنْ شاء الله؛ كما أنَّ النَّهي متوجِّهٌ إلى الاستدبار؛ لما في الصحيحين، من حديث أبي أيوب؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إذَا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبروها" -كما سيأتي في الحديث الذي بعده إنْ شاء الله تعالى- فلا تكون القبلة ¬

_ (¬1) مسلم (262).

مُتَّجَهًا للنَّجاسات؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. 2 - تعظيم الكعبة المشرَّفة بتجنُّب كلِّ ما يَمَسُّ قدسيتها، ومقامها من المعاصي حولها؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج]. 3 - تقديسُها بالطَّاعاتِ؛ كالحجِّ والاعتمار، والطواف، والصلاة، وسائر العبادات والقربات؛ قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران]. 4 - تعظيمُ البيت العتيقِ يشمَلُ حَرَمَهُ ممَّا أدخلَتْهُ الحدود التي تفصل الحَرَمَ من الحل، ويشمل المشاعر المقدسة من مقام إبراهيم وزمزم والصفا والمروة والمسعى وعرفات ومزدلفة ومنى والجمرات، فكلها من شعائر الله تعالى. 5 - على قاعدة أنَّ العبادات توقيفية، لا يُشْرَعُ منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله، فإِنَّها لا تدخُلُ هذه المشاعر في الحكم مع الكعبة المشرَّفة بالنَّهي عن استقبالها واستدبارها بالبول والغائط، وإنَّما توافقها في أصل التعظيم. 6 - النَّهْيُ عن الاستنجاء، أو الاستجمار باليد اليمنى؛ تكريمًا لها، فيكون الاستنجاء باليد اليسرى، ما لم يكن فيها خاتَمٌ فيه ذِكْرُ اسمِ الله، فيجعله في باطن يده اليمنى. 7 - النَّهْيُ عن الاستجمار باقلَّ من ثلاثة أحجار، ويقيَّد هذا النَّهي بما إذا لم يرد إتباع الحجارة الماء، أمَّا إذا أراد إتباعها، فلا بأس من الاقتصار على أقلَّ من ثلاثة؛ لأنَّ القصد هُنا هو تخفيف النَّجاسة عن المكان فقطْ، لا التطهُّرُ الكامل. 8 - ذِكْرُ الأحجار بناء على الأغلب في أعمال المستجمرين، وإِلاَّ فالقصدُ التطهُّر بالحجارة، أو ما قام مقامها في الإنقاء؛ مِنَ الأخشاب، أو الخرق، أو الورق

المنشف، ونحو ذلك؛ لأنَّ الغرض التطهير، لا نوعٌ بعينه. 9 - ليس المراد بالأحجار عددها، وإنَّما المراد بذلك المسحات. قال في الروض وحاشيته: ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر، إنْ لم يحصُلِ الإنقاءُ بثلاث، ولو كانتِ الثلاثُ بحجرٍ ذي شعب أجزت إنْ أنقت؛ لحديث جابر: "فليمسح ثلاث مرَّات"، فبيّن أنَّ الغرض عدد المسحات لا الأحجار، ولأنَّه يحصُلُ بالشعب الثلاث ما يحصُلُ بالأحجار الثلاثة من كلِّ وجهٍ، فلا فرق. 10 - والإنقاءُ بالحجر أنْ لا يبقى أَثَرٌ يزيله إلاَّ بالماء، قال الشيخ تقي الدِّين: علامة الإنقاء أنْ لا يبقى في المحلِّ شيءٌ يزيله الحجر. 11 - النَّهْيُ عن الاستجمار بالرجيع؛ لأنَّه إمَّا نجس، وإِمَّا لأنَّه عَلَفُ داوبِّ الجنِّ. 12 - النَّهي عن الاستجمار بالعظم؛ لأنَّه إمَّا نجس، وإمَّا لأنَّه طعام الجِنِّ أنفسهم. 13 - لعلَّ قائلًا يقول: إنَّنا لا نرى الجنَّ ولا دوابَّهم، ولا نتصوَّر وجود لحمٍ ينبت على العظم؛ ليكون طعامًا لهم، ولا نتصوَّر كيف يكون الروث علفًا لدوابِّهم: والجوابُ: أنَّ مثل هذه الأمور من الأحكامِ السمعيَّة التوقيفية يجبُ الإيمان بها، متى صحَّتْ أخبارها، ولو لم ندركْ كيفيتها؛ فنحن لم نؤتَ من العلم إلاَّ قليلًا، وهُناك عالمٌ غيبيٌّ لم نطلع عليه ولا على أحواله، والإيمان به من الإيمان بالغيب الذي مدح الله تعالى أهله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. 14 - قال الفقهاء: والإنقاء بالماء: الصَّبُّ مع الدَّلك، حتَّى يعود المحل كما كان قبل خروج الخارجِ، ويسترخي قليلًا. ***

84 - وَلِلسَّبْعَةِ عَنْ أَبِي أَيُّوْبَ الأنْصارِيِّ -رضي الله عنه-: "فلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوْها بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ, وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تستقبلوا: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزومٌ بها. - شرِّقوا أو غرِّبُوا: من التشريق أو التغريب، أي: اجعلوا وجوهكم قِبَلَ المشرق أو قِبَلَ المغرب، حال قضاء الحاجة، وهو خطابٌ لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك، ممَّن إذا شرَّقوا أو غرَّبُوا لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهْيُ عن استقبال أو استدبار القبلة، أثناء البول أو الغائط. 2 - الأمرُ بالتشريق أو التغريب حتَّى ينحرف عن استقبال القبلة واستدبارها. 3 - الأصلُ: أنَّ أمر الشَّارع ونهيه عامَّان لجميع الأمَّة، ولكن قد يكونان خاصَّين لبعض الأمَّة؛ فإنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" أمرٌ بالنسبة لأهل المدينة المنوَّرة، ومَنْ هم في سَمْتهم ممَّن إذا شرَّق أو غرَّب، لا يستقبل القبلة. 4 - الحكمة في هذا هو تعظيمُ الكعبة المشرَّفة، وتقدَّم الكلام عليه. 5 - حسنُ تعليمِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه لمَّا بين الجهة المحرَّمة في الاستقبال والاستدبار، عَلَّمَهُم مخرجًا مباحًا، فلم يَسُدَّ عليهم الباب ويتركهم، ولكنَّه أرشدهم إلى الطريق المباحة، وله -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا قضايا كثيرة، مثلُ إرشادِهِ جابي التمر من خيبر: "بعِ الجمع بالدراهم، ثمَّ اشتر بالدَّراهم جنيباً". ¬

_ (¬1) البخاري (144)، مسلم (264)، أحمد (23047)، أبو داود (9)، الترمذي (8)، النسائي (21)، ابن ماجة (318).

6 - هذا المنهج الحكيم في الفتوى هو الذي يتعيَّن على المفتين أنْ يسلكوه؛ فإنَّ وَصْدَ الباب أمامَ المستفتي بالتحريم، والسكوت عن مسألة النَّاس، وهم في حاجةٍ إليها، ويوجد في الشريعة طريقٌ مباحٌ بدلًا عنها يمكنُ سلوكُها: ممَّا يسبِّب للنّاسِ الحرَجَ والضيق في شريعةٍ وسَّعها الله عليهم، أو يسبِّبُ الإقدامَ على الحرام. *خلاف العلماء: جاء في البخاري (145) ومسلم (266) عن ابن عمر قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة، فرأيتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستقبلًا الشَّام، مستدبرًا الكعبة"، ومن أجل هذا الحديث اختلف العلماء: فذهب ابن حزم: إلى تحريم استقبال القبلة واستدبارها أثناء قضاء الحاجة مطلقًا، في الفضاء والبنيان، ويروى هذا القول عن أبي أيوب ومجاهد والنخعي والثوري والشيخ تقي الدِّين وابن القيم. واحتجوا بحديث أبي أيوب؛ فإنَّ القول لا يعارض الفعل في حديث ابن عمر؛ فإنَّ الفعل يحكى ويحتمل الخصوصية أو النسيان أو العذر، وأمَّا القول: فهو محكَمٌ لا تتطرَّق إليه احتمالات. وذهب إلى جواز الاستدبار مطلقًا: عروة بن الزبير وربيعة وداود؛ محتجِّين بحديث ابن عمر الذي في الصحيحين، فقد خصَّص الاستدبار من حديث أبي أيوب، أمَّا الاستقبال: فيبقى داخلًا في عموم حديث أبي أيوب من عدم الجواز. وذهب إلى التَّفصيل، وهو جوازه في البناء، وتحريمه في الفضاء الأئمة: مالك والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وهو مرويٌّ عن ابن عمر، والشَّعبي. وقالوا: إنَّ الأدلَّة تجتمع في هذا القولُ، ويحصل إعمالها كلها. قال الصنعاني: وهذا القول ليس ببعيد؛ لإبقاء أحاديث النَّهْيِ على بابها، وأحاديثِ الإباحة كذلك. قلت: وهذا هو الرَّاجحُ من الأقوال الثلاثة، وبالله التوفيق.

85 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَتَى الْغَائِطَ، فَلْيَسْتَتِرْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن عن أبي هريرة، أمَّا عن عائشة فوهمٌ. روى الحديثَ أصحابُ السنن عن أبي هريرة، ورواه أيضًا ابن حبَّان (4/ 257)، والحاكم (1/ 265)، والبيهقي (1/ 94)، قال المحدِّثون: ومداره على أبي سعيد الحمصي الحبراني، قيل: أنَّه صحابي، ولكن لا يصح، والرَّاوي عنه حصين الحبراني، وهو مجهول، قال أبو زرعة: شيخٌ صدوق، وذكره ابن حبَّان في الثقات، وذكر الدَّارقطني الاختلاف فيه في العلل. ونقل الشيخ السَّاعاتي في الفتح الرَّباني (1/ 262) ما يثبت أنَّ أبا سعيد الخير هو من الصحابة، ونقل عن الحافظ ابن حجر في الفتح بأنَّ إسناد هذا الحديث حسن. كما صحَّحه ابن حبَّان والحاكم والنووي وابن الملقِّن. * مفردات الحديث: - من: شرطية، وفعل الشرط "أتى". - فليستتر: جواب الشرط، و"الفاء" جيء بها للرَّبط؛ لأنَّ الجواب فعلٌ طلبيٌّ، وهو من المواضع الاثنيْ عشَرَ التي يجب أنْ يُرْبَطَ فيها جوابُ الشرط بالفاء. والاستتار: أنْ يجعل بينه وبين النَّاس سترة تمنع رؤية عورته. ¬

_ (¬1) أبو داود (35).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأمر بالاستتار حال قضاء الحاجة، سواءٌ للغائط أو البول. 2 - وجوب الاستتار وتحريم كشف العورة في هذه الحال وفي غيرها، إلاَّ ما استثني للحاجة. 3 - أمَّا ستر بقيَّة الجسم أثناء قضاء الحاجة عن أنظار النَّاس، فإنَّه من الآداب الكريمة، والأخلاق الفاضلة، فلا ينبغي أنْ يقضي حاجته أمام النَّاس، ولو لم يَرَوْا عورته؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبتعد عن النَّاس؛ كما في حديث المغيرة المتقدِّم برقم (79). ***

86 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْغَائِطِ قَالَ: غُفْرَانَكَ" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الخمسة، وصحَّحه أبو حاتمٍ الرَّازي، والحاكم، وابن خزيمة (1/ 48)، وابن حبَّان (4/ 291)، وابن الجارود (2/ 23)، والنووي والذَّهبي. * مفردات الحديث: - الغائط: قال القرطبي: أصل الغائط: ما انخفض من الأرض، وكانت العرب تقصد هذا الصنفَ من المواضع لقضاء حاجتها؛ تستُّرًا عن أعين النَّاس، ثُمَّ سُمِّيَ الحدثُ الخارج من الإنسان غائطًا للمقاربة؛ فهو اسمٌ عرفيٌّ لا لُغويٌّ. - غفرانك: هو مصدر كالشُّكْران، وأصلُ الغَفْرِ في اللغة الستر مع الوقاية، ومنه اشتُقَّ المِغْفَرُ في الحرب، الذي يستر الرَّأْس ويَقِيهِ من السلاح، ومن أسماء الله الحسنى: الغفورُ، أي السَّاتر، ونصب هنا على أنَّه مفعول لفعل محذوف، أي أسألك غفرانك، فهو سؤال العبد ربَّه سَتْرَ ذنوبِهِ وعيوبِهِ، وعفوَهُ عنها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قول: "غفرانك" بعد قضاء حاجته وخروجه من المكان الذي قضى فيه حاجته، ودلالته على الاستحباب؛ لأنَّه لم يأت من الأدلة إلاَّ مجرَّد ¬

_ (¬1) أحمد (24694)، أبو داود (30)، الترمذي (7)، النسائي في الكبرى (6/ 24)، ابن ماجة (300)، علَّل ابن أبي حاتم (1/ 43)، الحاكم (1/ 58).

قوله بنفسه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن بيانًا لمجمل يأخذ حكمه. 2 - معنى "غفرانك" أي: أسألك غفرانك من الذنوب والأوزار؛ فهو منصوب بفعلٍ محذوفٍ. 3 - مناسبة هذا الدُّعاء: أن الإنسان لما خفَّ جسمه بعد قضاء الحاجة، وارتاح من الأذى الماديِّ الذي كان يثقله، ذَكَرَ ذنوبَهُ التي تثقل قلبه وتغم نفسه ويخشى عواقبها، سأل الله تعالى أنَّه -كما مَنَّ عليه بالعافية من خروج هذا الأذى- أنْ يَمُنَّ عليه، فيخفِّفَ عنه أوزاره وذنوبه؛ ليخف ماديًّا ومعنويًّا. 4 - نظير هذا: ما جاء من الذِّكْرِ بعد الوضوء بقول: أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله ... إلخ؛ فإنَّ المتوضىء لما طهر ظاهره، سأل الله أنْ يطهِّر باطنه بهذه الشهادة. 5 - وردتْ أدعيةٌ أُخرى مرفوعة، ولكن كل أسانيدها ضعيفة. قال أبو حاتم: أصح ما في الباب حديث عائشة. ***

87 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْغَائِطَ, فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ, فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَلَمْ أَجِدْ ثَالِثًا، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ، فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ, وَقَالَ: "إنَّها رِكْسٌ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وزَادَ أَحْمَدُ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ: "ائْتِنِي بِغَيْرِهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - روثة: هي بفتح الرَّاء، وسكون الواو، جمعها رَوْثٌ وأرواث، وهي فضلةُ الدَّابة ذات الحافر، وأكثرها الحمير، ويؤيد ذلك رواية ابن خزيمة: "كانت روثة حمار". - رِكْس: بكسر الرَّاء، وسكون الكاف، بعدها سين مهملة، جمعه أركاس، والمعنى: رجس. قال العيني: الرِّجْس والرِّكْس قيل: القذر، وقيل: إنَّ الرِّكْس هو الرِّجْس، وقيل غير ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الروثة هي فضلة الحمار ونحوه مِنْ ذوات الحافر، وقد جاء في زيادة ابن خزيمة: "إنَّها كانت روثة الحمار"؛ فيكون ابن مسعود أتاه بروثة حمار، فألقى الروثة ولم يستعملها، وقَبِل الحجرين، وأمره أنْ يأتيه بغير الروثة بدلًا عنها. 2 - ظاهر الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يريدُ الاقتصار في الاستنجاء على الحجارة؛ ذلك أنَّه طلب ثلاثة أحجار؛ إذ أنَّها أدنى حد للحجارة المطهِّرة وحدها؛ كما تقدَّم ¬

_ (¬1) البخاري (156)، أحمد (4287)، الدَّارقطني (1/ 55).

في حديث سلمان: "أو أن نستنجي بأقلَّ من ثلاثة أحجار"، ولو أراد أنْ يُتْبعَ الحجارة الماء، لَمَا عيَّن الثلاثة، ولما طلب حجرًا ثالثًا بدل الروثة التي ردَّها. والذي يريد أنْ يتبع الحجارة الماء، يكتفي بما تيسَّر حصوله لتخفيف النَّجاسة، والتقليل من مباشرتها، وإِلَّا فالماءُ وحده كافٍ؛ كما في "حديث أهل قباء" الآتي إنْ شاء الله. 3 - الحديث يدل على أنَّه يحرُمُ الاستنجاء بالروثة؛ لأنَّها رِجْسٌ نجس، وتقدَّم أنَّ الروثة هي فضلة ذوات الحافر، والمستعمل من هذه الفصيلة الحيوانية هو الحمار النجس. 4 - قال الفقهاء: الأفضلُ قطعُ الاستجمار على وتر، والحديثُ يدُلُّ على ذلك؛ فإنَّه طَلَبَ ثلاثة أحجار، ولمّا ردَّ الروثة، طلب بدلها، ولعلَّ هذا مراعاةً للإنقاء والإيتار، فالإنقاء لابدَّ منه، وأمَّا الإيتار فمستحب. 5 - تقدَّم في حديث سلمان: أنَّ المراد هو المسحات الثلاث، ولو بحجر واحد ذي ثلاث شُعُب. 6 - فيه دليلٌ على حُسْنِ تعليم النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه لمَّا ردَّ الروثة، أعلم ابن مسعود بسبب ذلك، ولم يردَّها ويطلب غيرها، ويسكت. ***

88 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فالبخاري أخرج في صحيحه قريبًا منه، وقال المجد في المنتقى: رواه الدَّارقطني، وقال بعد إخراجه: إسناده صحيح؛ وكذا قال ابن دقيق العيد في الإلمام، وقال الحافظ: سنده حسن. والنَّهي في الباب "نهى أنْ يستنجى ... إلخ" جاء عن الزبير رواه الطبراني بسندٍ ضعيف، وعن جابر رواه مسلم، وعن سهل بن حنيف رواه أحمد وإسناده واهٍ، وعن سلمان رواه مسلم، وعن ابن مسعود رواه البخاري. * مفردات الحديث: - أنْ يُسْتَنْجَى: الاستنجاء إزالة النَّجْو، وهو الغائطُ، وتقدَّم معنى الغائط. - بعظم: هو العظمُ المعروف، وهو قَصَبٌ يَنْبُتُ عليه اللحم. - رَوْث: جمع روثة، فضلة الدَّابة ذات الحافر، وأكثرها الحمير. - إنَّهما لا يطهِّران: تعليل للنَّهي عن الاستنجاء بهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن الاستنجاء بالعظم، وأنَّه لا يطهر. 2 - الحكمة في ذلك: ما جاء في البخاري أنَّ أبا هريرة قال: يا رسول الله! ما بال ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 56).

العظم؟ فقال: "هي طعام إخوانكم من الجنِّ". 3 - النَّهي عن الاستنجاء بالرَّوْث، وأنَّها لا تطهِّر. 4 - الحكمة في ذلك: ما جاء في الحديث السَّابق: "إنَّها رِكْسٌ" أي: نجس. 5 - في الحديث دلالة على أنَّ الاستنجاء بالأحجار يطهِّر، ولا يلزم بعدها الماء، لأنَّه علَّل بأنَّ العظم والرَّوث لا يطهِّران؛ فدلَّ على أنَّ الأحجار تطهِّر. 6 - إذا كان الاستنجاء بالعظم لا يجوز لكونه طعام الجنِّ، فإنَّ تحريم طعام الإنس من باب أولى بالتحريم. 7 - كلُّ ما يقوم مقام الحجارة مِنَ الأعواد، والأخشاب، والخرق، والأوراق المنشِّفة، وغيرها ممَّا لم يُمْنَعِ الاستجمار به، تحصل به الطهارة. * خلاف العلماء: المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ الاستجمار بالحجارة ليس مطهِّرًا للمحل، وإنَّما هو مبيحٌ للصَّلاة ونحوها؛ وبناءً عليه: فإنَّ أثر الاستجمار نجس، وإنَّما يُعْفى عن يسيره. قال في الإنصاف: وعليه جماهيرُ الأصحاب. والرِّواية الأُخرى: أنَّه مطهِّرٌ؛ اختاره جماعة. والحديثُ الذي معنا يدلُّ على طهارة المحلِّ بعد الاستجمار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يطهران" يعني: العظم والروث؛ فدلَّ على أنَّ الحجارة وحدها تطهِّر. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيحُ: أنَّ الاستجمار مطهِّر للمحل بعد الإتيان بما يعتبر شرعًا؛ للنَّص الصحيح أنَّه مطهِّر. والاستجمار الذي تحصُلُ به الطهارة هو الإنقاءُ بالحجارة ونحوها، بحيث لا يبقى من النَّجاسة إلاَّ أَثَرٌ لا يزيله إلاَّ الماء. ***

89 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ, فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَلِلْحَاكِمِ: "أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ". وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وله شاهدٌ في الصحيحين، في تعذيب أحد صاحبي القبرَيْن بسبب عدم تنزُّهه من البول، وأَمَّا زيادة الحاكم، فقال المصنِّف: صحيحُ الإسناد، وصحَّحه الدَّارقطني، والنووي، والشوكاني. * مفردات الحديث: - استنزهوا من البول: يُقال: نَزُهَ يَنْزُهُ نَزهًا: باعد نفسه ونحَّاها عن القبيح، فالمعنى: اطلبوا النَّزاهة بابتعادِكُمْ عن البول، فالنَّزاهة: هي البعد عمَّا يستكره. - عامَّة عذاب القبر منه؛ مؤنَّثُ عامٍّ، أي: أكثر عذاب القبر سَبَبُهُ عدمُ التنزُّه من البول؛ كما جاء في رواية الحاكم: "أكثر عذاب القبر من البول". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحرص على التنزُّه والابتعاد من البول بأنْ لا يصيبه في بدنه ولا ثوبه. 2 - الأفضلُ المبادرةُ بغَسْله، والطَّهارةُ منه بعد إصابته؛ لئلَّا تصاحبه النَّجاسة، أمَّا وجوبُ إزالتها: فيكون عند الصلاة. 3 - أنَّ البول نجس، فإذا أصاب بدنًا أو ثوبًا أو بقعةً، نجَّسها؛ فلا تصح بذلك ¬

_ (¬1) الدَّراقطني (1/ 128)، الحاكم (1/ 293).

الصلاة؛ لأنَّ الطهارة من النَّجاسة أحد شروطها. 4 - أنَّ أكثر عذاب القبر من عدم التحرُّز من البول؛ كما جاء في الصحيحين أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقبرين فقال: "إنَّهما يعذَّبان وما يعذَّبان بكبير، أمَّا أحدهما: فكان لا يستبرىء من البول، وأمَّا الآخر: فكان يمشي بالنَّميمة". 5 - إثبات عذاب القبر، وأنَّه حقٌّ؛ ففي البخاري (1372)، ومسلم (586) عن عائشة قالت: سألتُ النَّبيَّ عن عذاب القبر؟ قال: "نعم، عذاب القبر حق". ومذهبُ أهل السنَّة: أنَّ عذاب القبر على الرُّوح والبدن. قال شيخ الإِسلام: العذابُ والنَّعيمُ على النَّفْسِ والبدن جميعًا، باتفاق أهل السُّنَّةِ والجماعة. 6 - إثباتُ الجزاء في الآخرة، فأوَّلُ مراحل الآخرة هي القبورُ، فالقبر: إمَّا روضةٌ من رياض الجنَّة، أو حفرةٌ من حُفَرِ النَّار. 7 - قال شيخ الإِسلام: الصحيحُ جوازُ ملامسة النَّجاسة للحاجة إذا طهَّر بدنه وثيابه عند الصلاة، ولا يكره ذلك في أصحِّ الرِّوايتين، وهو قول أكثر الفقهاء. 8 - قال الشيخ: قوله عليه الصلاة والسَّلام: "فإنَّه لا يتنزَّه من بوله" الاستبراء لا يكونُ إلاَّ مِنْ بَوْلِ نفسه، الذي يصيبه غالبًا في فَخِذَيْهِ وساقيه، وربَّما استهان بإنقائه، ولم يُحْكِمِ الاستنجاء منه. ***

90 - وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "عَلَّمَنَا -صلى الله عليه وسلم- فِي الْخَلَاءِ أَنْ نَقْعُدَ عَلَى الْيُسْرَى, وَنَنْصِبَ الْيُمْنَى" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال الإمام النووي -رحمه الله- في المجموع (2/ 89): الحديث ضعيف لا يحتجُّ به، لكن يبقى المعنى، ويُسْتأنس بالحديث. قال في التلخيص: رواه الطبراني، والبيهقي، من طريق رجل من بني مدلج عن أبيه، وفي إسناده من لا يُعْوَف، قال الحازمي: لا نعلم في الباب غيره، وادَّعى ابن الرفعة أنَّ في الباب عن أنس، فلينظر. أهـ. * مفردات الحديث: - الخلاء: بفتح الخاء والمد، أصله: المكان الخالي، فَسُمِّيَ به المكانُ المُعَدُّ لقضاء الحاجة، لخلوِّه من النَّاس، أو لِخَلْوة الإنسان به. - نقْعُد: يُقال: قَعَدَ يَقْعُدُ قعودًا، من باب نصر، والقعود: الجلوس، إلاَّ أنَّ القعود فيه لبث. - ننصب: نَصَبَ يَنْصِبُ نَصْبًا، من باب ضرب، أي: رفع، والمراد: أنْ يرفع رجله اليمنى حال قضاء الحاجة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ نصبِ الرجل اليمنى، والتحامُلِ على الرِّجل اليسرى، وذلك أثناء ¬

_ (¬1) البيهقي (1/ 96).

قضاء الحاجة. 2 - قال العلماء: إنَّ هذه الكيفية تسهِّل خروج الخارج. 3 - أنَّ الشريعة المحمدية جاءتْ بكلِّ ما فيه صلاح، ونهت عن كلِّ ما فيه ضرر، وأنَّها لم تترك شيئًا من أمور العبادة إلاَّ بيَّنته، حتَّى في هذه الحال، وجَّهتهم إلى ما فيه راحتهم وصِحَّتهم. 4 - قال الدكتور الطبيب محمد علي البار: إنَّ أحسن طريقة فسيولوجية لقضاء الحاجة لإخراجِ الفضلاتِ: الجلوسُ على الأرض، والاتكاء على الرِّجْلِ اليسرى؛ وذلك أن شكل المستقيم -وهو آخر الأمعاء الغليظة، وفيه تنخزن الفضلات- على شكل (4)، فإنْ اتكأ على اليسرى؛ صار مستقيمًا، وسهُل نزولُ الغائط، كما أنَّ خَلْفَ المستقيم مِعًى غليظًا يدعى "القولون السيني"؛ لأنَّه على شكل (س)، وكذلك يستقيم وضعه عند الاتكاء على الرِّجل اليُسْرَى، وذلك كله من أسباب سهولة خروج الفضلات. 5 - لا شك أنَّ هذا من الإعجاز العلمي في السنَّة المطهَّرة، وأنَّ هذه التَّعاليم الحكيمةَ الرَّشيدةَ من حكيمٍ عليم. ***

91 - وَعَنْ عِيسَى بْنِ يَزْدَادَ -أو ازْدَادَ- عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. رواه ابن ماجه، وأحمد (18574)، وأبو داود في المراسيل، والبيهقي (1/ 113)، وأبو نعيم في المعرفة، والعقيلي في الضعفاء (3/ 381)، كلُّهم من رواية عيسى بن يزداد، عن أبيه. قال ابن معين: لا يُعْرَفُ عيسى ولا أبوه. وقال أبو حاتم: حديثُهُ مرسل، ولا صحبةَ له. وقال النوويُّ في شرح المهذَّب: اتفقوا على أنَّه ضعيف. وقال ابن القيِّم في إغاثة اللهفان: راجعتُ شيخنا -يعني ابن تيمية- في السلت والنتر، فلم يره، وقال: لم يَصِحَّ الحديث. * مفردات الحديث: - فيلنتر ذكره: نَتَرَ ذكره بالمثنَّاة: جذبَهُ أو قذفه بشدَّه، قال في القاموس: استنتر مِنْ بوله: اجتذبه، واستخرج بقيَّته من الذكر عند الاستنجاء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نتر الذكر هو جَذْبُهُ؛ ليقذفَ بقيَّةَ البول بشدَّة. 2 - الحديثُ على استحبابِ النتر ثلاث مرَّات بعد البول. ¬

_ (¬1) ابن ماجة (326).

3 - الحكمة في ذلك هو إخراجُ بقيَّة البول من الذَّكر إلى الخارج زيادةً في الإنقاء، وتخلُّصًا من بقيَّة البول. 4 - استحبابُ النتر والسلت هو المشهورُ من مذهب الإمام أحمد، والَّذي مشى عليه أصحابُهُ في مصنَّفاتهم. قال في الإنصاف: نصَّ على ذلك، وقال به الأصحاب. 5 - قال شيخ الإِسلام: سلت الذَّكر ونتره بدعةٌ، والبولُ يخْرُجُ بطبعه. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيحُ أنَّه لا يستحبُّ المسح والنتر؛ لعدم ثبوت ذلك، ولأنَّه يُحْدِثُ الوسواس. قال النووي: ينبغي أنْ لا يُتَابعَ الأوهام؛ فإنَّه يؤدِّي إلى تمكين الوسوسة في القلب. ***

92 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءٍ, فَقَالَ: "إنَّ اللهَ يُثْنِي عَلَيْكُمْ، فَقَالوا: إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيْفٍ (¬1)، وَأَصْلُهُ فِي أَبِي دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- بِدُوْنِ ذِكْرِ الْحِجَارَةِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ بدون ذكر الحجارة، ضعيفٌ معها. قال في التلخيص: حديث قباء: " ... وكانوا يجمعون بين الماء والحجارة"، رواه البزَّار في مسنده، وقال لا نعلم أحدًا رواه عن الزهري إلاَّ محمَّد بن عبد العزيز، ومحمد بن عبد العزيز ضعَّفه أبو حاتم؛ ولذا قال النووي في شرح المهذَّب: المعروفُ من طرق الحديث أنَّهم كانوا يستنجون بالماء، وقال في الخلاصة: وأمَّا ما اشتهر في كتب التفسير والفقه مِنْ جمعهم بين الأحجار والماء، فلا يُعْرَفُ، والمحفوظُ الاقتصار على الماء. وضعَّفه أبو حاتم، والنووي، وابن القيم، وابن حجر، وقال المحب الطبري: لا أصل له، ومرادهم الجمع بين الماء والحجارة، وأمَّا الاقتصار على الماء، فقال الشيخ الألباني: الصحيح أنَّ الآية نزلت في استعمال الماء فقط، كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا. وبالاقتصار على الماءِ صحَّحه ابن خُزَيْمَةَ، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فصحَّ الحديث بشواهده. ¬

_ (¬1) البزار (227 كشف الأستار). (¬2) أبو داود (44)، الترمذي (3100).

* مفردات الحديث: - قباء: بضم القاف، وفتح الباء الموحَّدة التحتية المخفَّفة. قال البكري: من العرب من يُذَكِّرُهُ وَيَصرِفه، ومنهم من يؤنِّثه ولا يصرفه. قال النووي: الذي عليه المحقِّقون: أنَّه ممدود مذكَّر مصروف. وقباء: حيٌّ في المدينة معروف، كان يسكنه بطنٌ من الأنصار يُقال لهم: بنو عمرو بن عوف، في هذا الحي المسجد الذي قال الله تعالى فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة: 108]. - نتبع الحجارةَ الماءَ: ينزِّهون أدبارهم بالحجارة من الغائط، ثم يغسلونها بالماء؛ ليحصل كمال الإنقاء. - أثنى عليكم: قال في المصباح: الثناء بالفتح والمد، يقال: أثنيْتُ عليه خيرًا وبخير، وأثنيْتُ عليه شرًّا وبشرٍّ، نص عليه جماعةٌ منهم صاحب المُحْكَم. وقال بعضهم: لا يستعمل الثَّناء إلاَّ بالحسن، وفيه نظر؛ ففي البخاري (1301) ومسلم (949): "أن الصحابة مرُّوا بجنازةٍ، فأثنوا عليها خيرًا، فقال عليه الصلاة والسلام: وَجَبَتْ، ثمَّ مرَّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبت، فسُئِلَ عن قوله: وجبت، فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار"، ولأنَّ الثناء مجرَّد الوصف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أثنى الله تعالى على أهل قباء -إحدَى قبائل الخزرج، وهم بنو عمرو بن عوف -بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة]؛ فسألهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن سبب هذا الثَّناء؟ فقالوا: إنَّا نتبع الحجارة الماء عند الاستنجاء. 2 - في هذا دليلٌ على إزالة النَّجاسة من السبيل بتخفيفها بالحجارة، ثمَّ إتباعها الماء، هو أكمَلُ التطهُّر؛ حيث لم يبق بعد هذا أثر النَّجاسة.

3 - أحوال الاستنجاء ثلاث: (أ) أكملها استعمالُ الحجارة، ثمَّ إتباعُها بالماء حتَّى الإنقاء. (ب) يليها الاقتصارُ على الماء فقط. (ج) آخرها رتبةً وفضلًا الاقتصارُ على الحجارة؛ لأنَّ الماء أبلغ في الإنْقَاء وإزالة النَّجاسة. ***

باب الغسل وحكم الجنب

باب الغسل وحكم الجُنُب مقدمة الغُسْلُ: بضم الغين: اسم مصدر للاغتسال، يعني الفعل. وشرعًا: استعمالُ الماء في جميع البدن على وجهٍ مخصوص، وهو ثابتٌ بالكتاب والسنَّة والإجماع: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ، ومنها: "إذا جلَسَ بين شعبها الأربَعِ، ثمَّ جهدها؛ فقد وَجَبَ الغسل" [رواه البخاري (291)، ومسلم (348)]. وأجمع العلماء على أنَّ الجنابة تَحُلُّ جميعَ البدن، وأنَّه يجبُ الغسلُ منها. وسُمِّيَ جُنُبًا؛ لأنَّهُ يجتنب بعض العبادات وأمكنتها؛ قال تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النِّساء: 43]، وأجمع الأئمة على أنَّه يَحْرُمُ على الجنب المُكْثُ في المسجد، ورخَّص أحمدُ للمتوضِّىء في المكث في المسجد والنَّوم؛ لفعل الصحابة. حكمةُ الاغتسال من الجنابة: ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أبي رافعٍ؛ أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- طاف ذاتَ يومٍ على نسائه يغتسلُ عند هذه وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله، ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر".

وقد ظهرت الآن هذه الحكمةُ النبوية، وهذا الإعجازُ العلمي، قال الجرجاوي: إنَّ الشَّارعَ الحكيمَ فرَضَ الاغتسال بعد خروج المنيِّ، ولم يفرضه بعد خروجِ البولِ، مع أنَّهما من مكانٍ واحدٍ وعضوٍ واحدة ذلك أنَّ البول عبارة عن فضلة المأكول والمشروب، وأمَّا المنيُّ فهو عبارةٌ عن مادَّةٍ مكوَّنةٍ من جميع أجزاء البدن، ولذا نرى الجسم يتأثَّر بخروجه، ولا يتأثَّر بخروج البول؛ ولذا نرى الإنسان بعد الجماع تضعُفُ قوَّة بدنه، فالغسلُ بالماء يُعِيدُ إلى البدن هذه القوَّة المفقودة بخروجِ المنيِّ؛ كما أنَّ خروج هذه القوَّة من الجِسْمِ تسبِّب الكسل، والاغتسالُ يعيد إلى الجسْمِ نشاطه. وقد صرَّح الأطبَّاء أنَّ الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، وأنَّه أنفع شيء له في تنشيط دورة الدم في الجسم؛ ليعود إليه نشاطه وقوته، وأنَّ ترك الاغتسال يسبِّب له أضرارًا كبيرة. فالطَّهارة عمليةٌ نافعةٌ جدًّا للرَّجُلِ والمرأة على السَّواء، إذا فقد بالعملية الجنسية النَّشاط والحيوية، فإنَّ الاغتسالَ يعيدُ إلى الجسمِ ذلك النَّشاطَ، وتلك الحيوية، ولله في شَرْعِهِ حِكَمٌ وأسرار. ***

93 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الماء من الماء: مبتدأٌ وخبر، فالماءُ الأوَّل؛ ماءُ الاغتسال، والثَّاني: المنيُّ النَّازلُ دفقًا بلذةٍ، وقد سمَّاه اللهُ مَاءً؛ فقال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطارق: 6]، وبين اللفظين جناس تام لاتفاق حروفهما في الهيئة والنَّوع والعدد والتَّرْتيِب. - مِن: للتَّعْليل، وفي بعض الطرق: "إنَّما المَاء من الماء". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديثُ يدلُّ على أنَّ وجوب الاغتسال من الجنابة لا يكون إلاَّ من إنزال الماء الذي هو المني، وأنَّه إنْ لم ينزلْ، فلا غُسْلَ عليه من الجنابة. 2 - الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الحكم بمفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند إليه، وهو الماء الأوَّل، كما وَرَدَ في الصحيح محصورًا بأداة "إنَّما" بقوله: "إنَّما الماء من الماء"؛ فهذا الحصر يفيد أنَّه لا غُسْلَ إلاَّ من الإنزال. 3 - الاغتسال هو إفاضة الماء على عموم الجسم، وأجمعوا على مشروعيَّة الدلك، إلاَّ أنَّهم اختلفوا هل يجب أو لا يَجِبُ؟ والصَّحيحُ الذي عليه الجمهور: أنَّه لا يجب؛ لأنَّ الدلك ليس مِنْ مسمَّى الاغتسال. 4 - مفهومُ الحديث معارَضٌ بمنطوقِ حديثِ أبي هريرة الذي بعده، وليس له محملٌ يوجَّه إليه؛ ولذا قال جمهور العلماء: إنَّه منسوخٌ به. ¬

_ (¬1) مسلم (343).

5 - الحكمةُ في الغسل من الجنابة -والله أعلم- أنَّ البدن بعد الجماع يصابُ بالخمولِ والكسل والضَّعف، والاغتسالُ يعيد إليه نشاطَهُ وحيويَّته وقوَّته، والله لطيفٌ بعباده. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء بعد الجماع: "فإنَّه أنشطُ للعود" [رواه ابن خزيمة (1/ 110)، وابن حبَّان (4/ 12)، والحاكم (2/ 333)]، فتعميم الغسمل بالماء أشدُّ نشاطاً وقوَّة. ***

94 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ, ثُمَّ جَهَدَهَا, فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: "وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: إذا جلس: "إذا" شرطية، فعلها: جلس. - شُعَبها الأربع: بضم الشين المعجمة، قال ابن الأثير: والشُّعَبُ: النواحي، واختلفوا في المراد بالشعب الأربع، والرَّاجح: أنَّ المراد بها يَدَا المرأة ورجلاها، وهو كنايةٌ عن الجماع. - جهدها: يُقال: جَهَدَ في الأمر يَجْهَدُ جهدًا، من باب نَفَعَ، والجهد: الطاقة والمشقَّة، وفيه لغتان: ضم الجيم وفتحها، فالضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغيرهم، وقيل: المضموم الطاقة، والمفتوح المشقَّة، والمراد هنا: بلوغ الرَّجل طاقته بحركته. - فقد: "الفاء" رابطةٌ للجواب، و"جلس ثمَّ جهد": جملتان هما الشرط، "قد" حرف توكيد، وإذا دخلت على الماضي، أفادت تحقيق معناه؛ كما في هذا الحديث. الغُسْل: "أل" هنا للعهد الذهني، وهو ما يكون مصحوبًا معهودًا ذهنًا، فينصرف إليه الفكر بمجرَّد النطقِ به، مثل "حَضَرَ الأمينُ". والغُسْل: بضم الغين، المراد: به الفعل. ¬

_ (¬1) البخاري (291)، مسلم (348).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشُّعَبُ الأربع هنا: يدا المرأة ورجلاها، وجلوسُ الرجل بينها أثناءَ الجماعِ هي أليقُ صفةٍ من صفات الجماع، مع جواز غيرها، ما دام الإيلاجُ في مكان الحرث، وهو القُبُل. 2 - أنَّ نَفْسَ الإيلاج بتغييب الحَشَفَة مُوجِبٌ للغسل، وإنْ لم يَحْصُلْ إنزال. 3 - المراد بالجهد هنا الكَدُّ بحركته، الذي يكونُ مع الإيلاج، ويفسِّره روايةُ أبي داود (216): "وألزَقَ الختانَ بالختان، ثمَّ جهدها". 4 - أنَّ منطوقَ الحديث ناسخٌ لمفهومِ حديث أبي سعيدٍ السَّابق، ودليلُ النسخ ما رواه الإمام أحمد (5/ 116) عن أُبي بن كعب قال: "كانوا يقولون: إنَّ الماءَ من الماءِ، رخصةٌ، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخَّص بها في أوَّل الإِسلام، ثمَّ أمر بالاغتسال بعده"، صحَّحه ابن خُزَيمة وابن حبَّان، وقال الإسماعيلي: إنَّه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح بالنسخ، ويؤيِّد هذا الحديث الآية الكريمة: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. قال الشَّافعي: الجنابة تُطْلَقُ بالحقيقة على الجماعِ ولو لم يحصُلْ إنزال. أمَّا منطوقُ حديث أبي سعيد: فليس منسوخًا بحديث أبي هريرة؛ فإنَّ الإنزال يوجب الغسل. 5 - قوله: "فقد وجب الغسل" فيه دلالةٌ على أنَّه ليس على الفَوْرِ؛ وهو إجماع العلماء. ***

95 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ- قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ, فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ? قَالَ: نَعَمْ؛ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ ... " الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - احتلمت: من الحُلْمِ، بضم الحاء المهملة وسكون الَّلام، وهو عبارةٌ عمَّا يراه ويتخيَّله النَّائمُ في نومه من الأشياء، والمرادُ هنا: إذا رأتِ المرأةُ في نومها مثلَ ما يرى الرجلُ مِنْ صورة الجماعِ وتمثيله. - رأت الماء: يعني: إذا خرجِ منهَا المني إثر الرؤيا المناميَّة؛ كما جاء في رواية ابن ماجه (602): "لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ، حتَّى تُنْزِلَ كما يُنْزِلُ الرَّجُلُ". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ المرأة تحتلم في المنام كما يحتلم الرجل، فتتخيَّل العمليَّة الجنسيَّة في منامها كما يتخيَّل الرجل، فرُبَّمَا حَصَلَ منها إنزال. 2 - هذا التخيُّل المناميُّ لا يَدُلُّ على نقصٍ في الدِّين، ما دام أنَّه يَلُمُّ بفُضْلَيَاتِ النِّساء، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يسمعه منهنَّ، ولم ينصحهنَّ بمجاهدتِهِ وأسبابه، فهذا أمرٌ طبيعي، لمن عنده قوَّةٌ غريزيَّة كبتها العقلُ الظَّاهر، فإذا غابتْ مراقبة هذا العقل، تنبَّه العقلُ الباطن؛ ليُشْبعَ هذه الغريزة الطبيعية. 3 - أنَّ المرأة إذا احتلمتْ ورأت الماء، فعليها الغسل. ¬

_ (¬1) البخاري (282)، مسلم (313).

4 - أنَّ المرأة تنزلُ كما ينزل الرَّجل، فالجنينُ يولد من نطفتي الرَّجُلِ والمرأة، وهي نطفةُ الأمشاجِ التي قال الله تعالى عنها: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2]، ومن نطفتها يكونُ شبه الولد بها. 5 - إثباتُ صفة الحياءِ لله تعالى إثباتًا حقيقيًا يليقُ بجلاله. 6 - أنَّ الحياءَ لا ينبغي أنْ يمنع من تعلُّم العلم، حتَّى في المسائل التي عادةً يُسْتحيا منها؛ فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "نِعْمَ النِّساءُ نساءُ الأنصار، لم يمنعْهُنَّ الحياءُ من التفقُّه في الدِّين". 7 - أنَّ من الأدبِ وحسنِ المخاطبة أنْ يُقَدِّمَ أمام الكلامِ الذي يُسْتحيا منه مقدمةً تناسبُ المقام تمهيدًا للكلام، وليَخِفَّ وقعه، ولئلا يُنْسَبَ صاحبه إلى الجفاء. 8 - مشروعيةُ سؤال الإنسان ما يحتاجُ إليه في أمور الدِّين. 9 - الاحتلام المجرَّد عن الإنزال لا يوجبُ الغسل، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأت الماء". 10 - الذي يجد بعد استيقاظه من النومِ بللًا في ثوبِهِ أو بدنه، مِنْ ذكرٍ أو أنثى، لا يخلو من ثلاث حالات: الأولى: أنْ يتحقَّق أنَّه منيٌّ، فيغتسل، ولو لم يذكر احتلامًا. الثانية: أنْ يتحقق أنَّه مَذْيٌ، فهو نجاسةٌ لا غير، يجب عليه غسلها، وليس عليه غسل، وإنما يَغْسِلُ ذكره وأنثييه. الثالثة: أنْ يكونَ جاهلًا بكونه منيًّا أو مَذْيًا، ففي هذه الحال: إنْ سبق نومَهُ ملاعبةٌ أو فكرٌ أو انتشارٌ ونحو ذلك، فالغالب: أنَّه مَذْي؛ فيجب عليه غسل ما أصاب بدنه أو ثوبه منه، ولا يجب عليه غسل. وإنْ لم يسبق نومَهُ خروجُ المذي، فهنا يجبُ عليه الغسل، ويجبُ عليه غَسْلُ ما أصاب بدنه أو ثوبه احتياطًا. ***

96 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ قَالَ: تَغْتَسِلُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ مُسْلِمٌ: "فَقَالَتْ أُمُّ سُلَمَةَ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا? قَالَ: نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ?! ". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نعم: حرف جواب، يؤتَى به للدلالة على جملة الجوابِ المحذوفة، فإذا قيل: أتذهَبُ؟ فقلت: نعم، فالمعنَى: نعم أذهَبُ؛ فالجَوابُ في الحديث تقديره: نَعَمْ على المرأةِ غُسْلٌ إذا احتلمَتْ. - الشبه: بفتحتين، جمعه أشباه، وهو المثلُ والمشابهة. قال في المصباح: أشبه الرجلُ أباه: إذا شاركه في صفة من صفاته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه ما في الحديث الذي قبله مِنْ إمكانِ حُلْمِ المرأة في المنامِ كالرجل، وأنَّها إذا احتلَمَتْ وأنزلت، وجَبَ عليها الغسلُ من الجنابة. 2 - وفيه أنَّ شبه الولد (ذكرًا أو أنثى) بأمِّه يكونُ مِنْ سبب مائها، الذي يلتقي بماء الرجل أثناء العمليَّة الجنسيَّة، فأي الماءين غلَبَ كان له الشبه؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري، عن أنس؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمَّا الشبه في الولد، فإنَّ الرجل إذا غَشِيَ المَرأةَ فَسَبقَهَا ماؤه، كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها، كان الشبه لها". 3 - قانونُ الوراثة عند الأطباء هو انتقالُ العواملِ التي تسبِّب في تشابه الذرية ¬

_ (¬1) البخاري (6121)، مسلم (313).

بالأب والأم، بواسطة عمليَّة التناسُلِ في الحيوان، واكتُشِفَتْ أخيرًا الصِّبْغِيَّاتُ باعتبارها أساسًا ماديًّا بانتقالِ الصفات الوراثية، فيرث كلُّ فردٍ من أبويه عند إخصاب البويضة بالخليَّةِ الذَّكَرية، وليس هذا فحسبُ، بل إنَّ تأثير الوراثة ضِمْنَ الجِينَاتِ يمتدُّ عبر القرون ليتصلَ بالآباءِ والأجداد. فالعلمُ الحديثُ كشَفَ أن ضمن "الجِينَاتِ" تكمُنُ أسرار، يظهرها الله تعالى متى شاء، ومِنْ ضِمْنِ تلك الأسرار: الصفاتُ والسيماتُ والملامحُ التي تعطي الإنسان صفته وشكله، واستعدادَهُ لكثيرٍ من الأخلاق والصفاتِ البدنية والنفسية، وهذا الاكتشافُ الجديد أظهَرَ معجزةً علميَّةً نبويَّة في الحديث الشريف، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عسى أنْ يكونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ" [رواه البخاري (305)، ومسلم (1500)]. 4 - قال الدكتور محمَّد علي البار: هذه كلمةٌ موجزةٌ عن قانون الوراثة التي تنتقلُ بموجبها الصفاتُ الخَلْقِيَّة من الأبوين إلى المولود. وخلاصةُ الكلام: أنَّ الصفاتِ الوراثيةَ إمّا أنْ تكونَ "سائدة"، أو "متنحِّية": فإذا كانتْ سائدة، فإنَّ وجودها في أحد الأبوَيْن يكفي لظهورها في نصف الذرية. وإنْ كانت متنحية، فإنها لا تظهر في الذرية إلاَّ إذا كانتْ هذه الصفةُ موجودةً في الأبوين كليهما، دون أنْ تظهر عليهما، فتظهَرُ على ربع الذرية، ويكونُ الربع الثاني خاليًا تمامًا من هذه الصفات. وبما أنَّ الصفاتِ الوراثيةَ محمولةٌ على ما يسمَّى "الصِّبغِيات"، وبما أنَّ هذه الصبغيات تكونُ على هيئة أزواجٍ في الخلايا الجسدية للأب أو للأم، فإنَّها تتعرَّض للانقسامِ الاختزاليِّ في المبيض، لتكون البيضة في الخصية ليكوَّن الحيوان المنوي.

ويمثِّل موضوعَ الوراثة قولُهُ تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)} [عبس]. فالتقديرُ يكونُ في النطفة؛ فإنَّ الصفاتِ الوراثيةَ كلَّها تحملها النطفة المذكَّرة من الآباء والأجداد، وتَحْمِلها النطفة المؤنَّثة "البويضة" من جهة الأمِّ مِنْ آبائها وأجدادها. فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فعسى أنْ يكونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ" تقريرٌ لكيفيَّةِ وراثةِ الصفات الوراثية "المتنحِّية"، التي لا تكون ظاهرةً في الأبوين، ويكونان حامِلَيْنِ لها، فتظهر في بعض الأولاد، والله أعلم. ***

97 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ, وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَمِنَ الْحِجَامَةِ, وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، ومنهم من قوَّاه. رواه الحاكم (1/ 267) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ونقل ابن عبد الهادي في المحرَّر عن الإمام البخاري أنَّه قال: رواة هذا الحديث كلُّهم ثقات، وتركه مسلم فلم يخرِّجه، ولا أراه تركه إلاَّ لطعن بعض الحفَّاظ فيه، في حين نقَلَ المنذريُّ في تهذيب سنن أبي داود، عن الإمام البخاري؛ أنَّ حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك، ونقل عن أبي داود أنَّه حديثٌ ضعيفٌ، وأنَّه منسوخ. وعلَّة ضعفه: أنَّ في سنده مصعَبَ بنَ شيبة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال أحمد: رَوَى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحمدونه، وليس بالقوي، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدَّراقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ، وقال ابن عدي: تكلَّموا في حفظه. ووثَّقه كلٌّ من يحيى بن معين، والعجلي، ولكن الجرح المفسَّر مقدَّم على التعديل. والحديث الذي معنا صحَّحه ابن خزيمة، وضعَّفه كلٌّ من البخاري، والشَّافعي، وأبو داود، وابن المنذر، والخطابي. والغُسْلُ من الجنابة، وللجمعة، ومِنْ غسل الميت: ثبت بأحاديث أخر. ¬

_ (¬1) أبو داود (348)، ابن خزيمة (1/ 126).

* مفردات الحديث: - أربع: لفظ العدد يؤنَّث مع المذكَّر، فيُقال: أربعةُ رجالٍ، ويذكَّر مع المؤنث فيُقال: أربعُ نساء، وذلك من الثلاثة إلى التسعة، وكذلك العشرة، إنْ لم تُرَكَّب. - الحِجَامة: بكسر الحاء: حِرْفةُ الحَجَّام، وهي: امتصاصُ الدمِ بالمِحْجَم. - غَسْل الميت: بفتح الغين: تغسيله بعد وفاته، وغاسل الميت: هو من يباشر تقليبه وَدَلْكَهُ ولو بحائل، لا مَنْ يَصُبُّ الماء ونحوه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديثُ على مشروعيَّة الاغتسال من هذه الأمور الأربعة الآتية: (أ) الجنابة: والاغتسالُ منها واجبٌ إجماعًا، ونصوصُ ذلك في القرآن الكريم، وصحيح السنَّة؛ كما تقدم بعضه. (ب) غسل يوم الجمعة: مستحبٌّ عند جمهور العلماء، وأوجبه بعضهم، وسيأتي ذكر خلافه، إنْ شاء الله، وسند من يرى الوجوبَ قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "غُسْلُ يومِ الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلمٍ" [رواه البخاري (2665) ومسلم (846)]. (ج) الغسل من الحجامة: سُنَّةٌ وليس بواجبٍ لهذا الحديث، الذي ليس فيه إلاَّ فعله عليه السلام، وقيل: مباحٌ، ودليل الإباحة حديث أنس: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وصلَّى ولم يتوضأ"؛ والحديث ليس بالقوي. (د) الغسل من تغسيل الميت: لحديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غسَّل ميتًا فليغتسلْ" [رواه أحمد (9553) والترمذي (991)]، وهو ضعيف؛ فقد قال الإمام أحمد وابن المديني: لا يصح في هذا الباب شيءٌ، وقال الذهبي: لا أعلم فيه حديثًا، وحديثُ الباب ضعيفٌ، كما تقدَّم في بيان درجة الحديث. 2 - في الحديث دليلٌ على القاعدة الأصولية: (إنَّ دليل المقارنة ليس صحيحًا) فإنَّ الحديث جمع بين ما هو واجبٌ إجماعًا، وهو الغسل من الجنابة، وما ليس بوِاجبٍ إجماعًا، وهو الغسل من الحجامة؛ فهذا التفريق في نصٍّ واحد دليلُ ضعْفِ دلالة المقارنة.

98 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- "فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ عِنْدَمَا أَسْلَم وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَغْتَسِلَ" رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ فقد رواه البيهقي (9/ 66) من طريق عبد الرزاق، وسنده صحيح من رجال الشيخين، وأصله فيهما، وصحَّحه أيضًا ابن خزيمة (1/ 125). * مفردات الحديث: - ثمامة: بضم الثاء المثلثة، وفتح الميم المخففة. - ابن أثال: بضم الهمزة، هو الحنفيُّ من سادات بني حَنِيفَةَ في اليمامة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ من موجبات الغسل إسلامَ الكافر، ولو مرتدًّا. 2 - ظاهرُ الحديث وجوبُ الغسل، سواءٌ وجد منه في كفره ما يوجب الغسل، أو لا. 3 - قال الفقهاء: الحكمةُ في وجوب الغسل عليه: أنَّ الكافر لا يَسْلَمُ غالبًا من جنابة، فأقيمتِ المَظِنَّةُ مُقامَ الحقيقة؛ كالنوم. 4 - قال الفقهاء: ولا يلزم الذي أسلم غسلٌ آخر، بسبب حدث وجد منه في حال كفره، بل يكفيه غسلُ الإِسلام. 5 - قال الفقهاء: يستحبُّ للكافر إذا أسلَمَ أنْ يَحْلِقَ شعره، ويغسل ثيابه أو ¬

_ (¬1) البخاري (2422)، مسلم (1764)، عبد الرزاق (10/ 318).

يبدلها بغيرها؛ لما روى أبو داود (356)، والبيهقي (8/ 323)، عن عُثَيْم بن كثير بن كليب الحضرمي، عن أبيه، عن جدِّه؛ أنَّه أسلم، فقال له النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألق عنك شَعْرَ الكفرِ" قال النووي: إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّ عُثَيْمًا ليس بمشهور، ولم يوثَّق، لكنَّ أبا داود رواه ولم يضعِّفه، وقد قال: إنَّه إذا ذكر حديثًا ولم يضعِّفه، فهو عنده صالح؛ فهذا الحديثُ عنده حسن. * خلاف العلماء. ذهب الإمامان مالك وأحمد: إلى وجوب الغُسْل عند الإِسلام من الكفر، سواءٌ حصَلَ منه حال كفره ما يوجبُ الغُسْلَ، أو لا، وهو مذهب أبي ثور، وابن المنذر؛ مستدلِّين بحديث الباب، وبما رواه أحمد والترمذي "أنَّ قيس بن عاصم لما أسلم أمره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يغتسل"؛ قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح، والأمر يقتضي الوجوب. وذهب الإمام الشَّافعي: إلى أنَّه لا يجب عليه الغسل، إلاَّ أنْ يكون وجد منه حال كفره ما يوجب الغسل. وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أنَّه لا يجب عليه الغسلُ بحال. ودليلُ هؤلاء: أنَّ الإِسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنَّ الجمَّ الغفير أسلموا فلو أمر كلَّ من أسلم بالغسل، لنقل نقلاً متواترًا، أمَّا حديث قيس بن عاصم: فيحمل على الاستحباب، قال الخطابي: وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلم. * تحقيق الخلاف: قول الإمام الشافعي بأنَّ مَنْ وُجِدَ منه حالَ كفره ما يوجبُ الغسلَ وجَبَ عليه الغسلُ عند إسلامه، ومَنْ لا، فلا يجبُ عليه: قولٌ لا يؤيِّده دليل؛ لأنَّه لم ينقلْ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يستفسرُ ممَّن دخل الإِسلام عن ذلك، ولو كان واجبًا، لسألهم، ولو سألهم، لنُقِل نقلاً متواترًا؛ لكثرة من يُسْلِمُ بمحضر الصحابة. يبقى علينا القولُ بوجوبِهِ مطلقًا، أو استحبابِهِ مطلقًا؛ فقصَّة ثُمَامةَ بن أُثَالٍ

فيها روايتان: إحداهما: أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فَمُرُوهُ أنْ يغتسل" [رواه أحمد (7977) وابن خزيمة (1/ 125)]. ويؤيِّده حديثُ قيس بن عاصم؛ أنَّه أسلَمَ، فأمره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "أنْ يغتسلَ بماءٍ وسدر" [رواه أحمد (20088)، والترمذي (605) وحسَّنه]. أمَّا الرِّواية الثانية -التي في الصحيحين في قصَّة إسلام ثمامة-: فإنَّه هو الذي ذهب بنفسه واغتَسَلَ ثمَّ أسلم، فيكونُ اغتسالُهُ من باب إقرارِهِ عليه -صلى الله عليه وسلم- لا أمره به، وهذا لا يدُلُّ على الوجوب؛ كما هو عند الأصوليين. ولذا فالرَّاجحُ: أنَّ غسل الكافر إذا أسلم مستحبٌّ وليس بواجب؛ لما يأتي: أوَّلًا: أنَّ العدد الكثير والجم الغفير أسلَمُوا، فلو أمر كلَّ من أسلم بالغسل، لنقل نقلًا متواترًا أو ظاهرًا. ثانيًا: بعَثَ النَّبيُّ معاذًا إلى اليمن، وقال: "ادعُهُمْ إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله"، ولو كان الغسل واجبًا، لأمرهم به؛ لأنَّه أوَّل واجبات الإِسلام. قال الخطابي: أكثرُ أهلِ العلم على استحبابِ الغسلِ، لا على إيجابه. والاستحباب هو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها جماعةٌ من الحنابلة، قال في الإنصاف: وهو أولى. وبهذا: فحديثُ قيس بن عاصم وحديثُ ثمامة بن أثال، يُحْمَلاَنِ على الاستحباب. وقد أجمَعَ العلماءُ على مشروعية الاغتسال، إلاَّ أنَّ بعضهم يرى الوجوب، وبعضهم يرى الاستحباب. ***

99 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ (¬1). == * مفردات الحديث: - واجب: الواجبُ لغةً: الساقطُ؛ قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ. وشرعًا: ما يُثابُ فاعله امتثالًا، ويستحقُّ العقابَ تاركه. - مُحْتَلِم: بضم الميم، وسكون الحاء المهملة، ثمَّ تاء ولام وميم: بلَغَ سن الحُلُم. قال في النِّهاية: بلغ الحلم: جَرَى عليه حكْمُ الرِّجال، سواءٌ احتلم أو لم يحتلم؛ فالمحتلم: هو البالغ المُدْرِك؛ ولذا فإنَّ الاحتلام هنا مجاز، والقرينةُ المانعة عن الحقيقة: أنَّ الاحتلام إذا كان معه الإنزال، فهو موجب للغسل، سواءٌ كان يوم الجمعة، أو لا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يحتمل نسبة الغسل إلى زمانه، وهو يوم الجمعة؛ فيكونُ الغسلُ خاصًّا لليوم، وفضيلتُهُ حاصلةٌ وَقَعَ الغسلُ قبل الصلاة أو بعدها. ويحتملُ أنْ تكون نسبته إلى صلاة الجمعة، فهو من إضافة الشيء إلى سببه؛ وحينئذٍ لا تحصل فضيلةُ الغسل إلاَّ إِذَا وقع للصلاة قبلها، وهذا هو ¬

_ (¬1) البخاري (2665)، مسلم (846)، أبو داود (341)، الترمذي (493)، النسائي (1375)، ابن ماجة (1089)، أحمد (10644).

الرَّاجحُ؛ لأنَّ سبب الحديث يشير إلى هذا المعنى، ولما جاء في البخاري (877) ومسلم (844) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة، فليغتسل"، وهو مذهب جمهور العلماء. 2 - قوله: "على كلِّ محتلم" يدل على أنَّ غسل الجمعة -وإنْ كان واجبًا للصلاة نفسها- فإنَّه لا يجبُ على الصغار، وإنْ أتوا إليها وصلَّوْهَا، ولولا قيد "الاحتلام"، لوجب على كل من صلاها من الذكور، ولو كانوا صغارًا؛ لأنَّهم إذا تلبَّسوا بها، وجب عليهم كلُّ ما لا تتمُّ عبادتهم إلاَّ به، من الأركان والشروط والواجبات؛ وإلاَّ لَمَا صَحَّتْ عبادتهم. 3 - ظاهر الحديث وجوب غسل يوم الجمعة على كلِّ بالغ، وفيه خلاف يأتي تحقيقه قريبًا إنْ شاء الله تعالى. 4 - من لم يبلغ لا يجبُ عليه الغسل؛ لأنَّ التكاليفَ الشرعية لا تجبُ على الصغيرِ والمجنون. 5 - تخصيصُ مشروعية الغسل يوم الجمعة، وتخصيصُهُ بالرِّجال دون النساء دليلٌ على أنَّ الغسل هو لصلاة الجمعة، فلا يجزىء بعدها، وتقدَّم ذكره. 6 - الحديثُ يدُلُّ على أنَّ وجوبَ الأحكامِ الشرعيَّة منوطٌ بالبلوغ؛ فلا يجب قبله شيء، وتقدَّم بحثه. 7 - جاء في مسلمٍ (854) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير يومٍ طلعَتْ عليه الشمسُ يومُ الجمعة". 8 - ذكر "اليوم" في الحديث دليلٌ على أنَّ الغسل لا يجزىء في ليلةِ الجمعة، بل وقته هو مِنْ طلوعِ الفجر. 9 - فيه دليلٌ على تعظَيمِ هذا اليوم الجليل، ويكونُ تعظيمُهُ بشعور القلب بذلك، وبالاستعدادِ للصلاةِ، واجتماعِهِ بالغسلِ والطيبِ واللباسِ الحسن، والتفرُّغِ للعبادة فيه.

10 - أخذ بعضُ العلماء من مشروعية اغتسال صلاة الجمعة، استحبابَ الاغتسالِ لكلِّ اجتماعٍ عامٍّ للعبادة؛ كصلاة العيد. 11 - قال العلماء: يُسَنُّ أنْ يتنظَّف للجمعة بقَصِّ شاربه، وتقليم أظفاره، وقطع الروائح الكريهة بالسواك وغيره، وأنْ يتطيَّب، ويلبس أَحسَنَ ثيابه؛ لما روى البخاري (883) عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يغتسلُ رجلٌ يوم الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاعَ من طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ وَيَمَسُّ من طيبِ امرأتِهِ، ثُمَّ يصلِّي ما كُتِبَ له، إلاَّ غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأُخْرى". ***

100 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبِهَا وَنِعْمَتْ, وَمَنِ اغْتَسَلَ، فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. مدار صحة الحديث مِنْ ضعفه، على صِحَّةِ سماع الحسن البصريِّ من سَمُرَةَ بنِ جندب، فقد اختلفَ العلماء في ذلك: فعليُّ بن المَدِينيِّ، والترمذيّ، والحاكم: يحملون رواية الحسن عن سمرة على الاتصال، ويصحِّحون الحديث. وقال البزار وغيره: لم يسمع منه، وإنَّما يحدِّث من كتابه. قال ابن الملقِّن: وهو صحيحٌ على طريقة البخاري؛ لأنَّه يصحِّح حديث الحسن عن سمرة مطلقًا. قال الألباني: رجاله ثقات، وله شواهد كثيرة. * مفردات الحديث: - من: اسمُ شرطٍ جازمٌ يجزم فعلين: الأوَّلُ فعلُ الشرط، والثَّاني جوابُهُ وجزاؤه. - توضأ: فعل الشرط، وجوابه "بها"، والفاء رابطة. - فيها: أي: بالسنة أخَذَ المتوضِّىء. ¬

_ (¬1) أحمد (19585)، أبو داود (354)، الترمذي (497)، النسائي (1380)، ابن ماجة (1091).

- نعمت: قال أبو عليٍّ القالي: ولا يجوزُ: نِعْمَة، -بالهاء؛ لأنَّ مجرى التَّاء فيها مجرى التَّاء في قامَتْ وقعدَتْ. قال ابن السِّكيت: التاء ثابتة في الوقف. قال في المصباح: نِعْمَ الرجلُ زيدٌ، مبالغة في المدح، وقوله في الحديث: "فيها ونعمت" أي: نعمتِ الخَصْلَةُ السُّنَّةُ. - أفضل: أَفْعَلُ التفضيل؛ إذِ الجانبُ المفضول فيه فضل، أقلُّ من الجانب الآخر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ غُسْل يومِ الجمعة في يومها قبلها؛ إذ إنَّه شُرِعَ لأجل الصلاة. 2 - أنَّ من لم يتمكَّن من الغسل لعذر، أو لم يُرِدِ الاغتسالَ من دون عذر، كفاه الوضوء؛ ولكنْ فاته الأجرُ والفضيلة. 3 - هذا الحديث دليلٌ على عدم وجوبِ الغسل لصلاة الجمعة، وهو معارض للحديث السَّابق الذي يفيد الوجوب. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أنَّ غسل يوم الجمعة مستحبٌّ غير واجب. واستدلُّوا على ذلك بحديث سمرة الذي معناة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضَّأ يوم: الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". أي: أنَّ من توضَّأ، فقد أخذ بالرخصة، ونعمتِ الرخصةُ التي أخذ بها، ومن اغتسل فقد زاد خيرًا، وهو أفضل من الاقتصار على الوضوء؛ وهذا حديثٌ صحيحٌ صريحٌ بعدم الوجوب؛ قال الألباني: رجاله ثقات، وله شواهدُ كثيرةٌ. وذهب أهل الظَّاهر: إلى أنَّه واجبٌ، عملاً بحديث: "غسل يوم الجمعة واجب على كلِّ محتلم"، وبما في البخاري (894) ومسلم (844) أيضًا: "من

جاء منكم الجمعة، فليغتسل". وتأوَّل الجمهور حديث أبي سعيد بأنَّه وجوبُ اختيارٍ لا وجوبُ إلزام؛ كقول الإنسان لصاحبه: حقُّكَ واجبٌ عليَّ. وأنَّ الحديثَ ورَدَ موردَ التأكيدِ والاهتمامِ بالغُسْلِ لهذه الشعيرة الكبيرة. وتوسَّط شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال: هو مستحبٌّ، ولكنَّه يجبُ على مَنْ فيه رائحةٌ كريهة، وعنده عَرَقٌ يؤذي به المصلِّين والملائكة، فلا يجوز أنْ يحضر الجمعةَ واجتماعَ المسلمين بهذه الرَّائحة، حتَّى يقطعها بالاغتسال والتنظيف. ويؤيِّد ما ذهب إليه الشيخ تقي الدِّين: ما جاء في البخاري (902)، ومسلم (847)، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النَّاس ينتابون الجمعةَ من منازلهم ومن العوالي، فيأتون بالعباء ويصيبهم الغبار، فيخرُجُ منهم الريح، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أنَّكم تطهَّرْتُمْ ليومكم هذا". أمَّا ابنُ القيِّم فقال في الهَدْي: الأمرُ بالغُسْلِ يومَ الجمعة مؤكَّدٌ جِدًّا، ووجوبُهُ أقوَى من وجوبِ الوتر، وقَراءةِ البسملة في الصلاة، ووجوبِ الوضوء مِنْ مَسِّ النِّساء، ووجوبِهِ من مسِّ الذَّكر، ومِنَ الرُّعَافِ والحجامة. ***

101 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْخَمْسَةُ, وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَةُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن ماجه، وابن حبَّان، والحاكم (1/ 253)، والبزَّار، والدَّراقطني (1/ 119)، والبيهقي (1/ 288)، وألفاظهم مختلفةٌ، وصحَّحه الترمذي، وابن السكن، وعبد الحق، والبغوي. قال ابن خزيمة: قال شعبة: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال أيضًا: لم أحدِّثْ بحديثٍ أحسَنَ منه. أهـ. * مفردات الحديث: - كان: قال ابن دقيق العيد: "كان يفعل كذا" بمعنى: أنَّه يتكرَّر منه فعله، وكانت عادته، وقد تستعملُ "كان" لإفادة مجرَّدِ الفعل، ووقوع الفعلِ دون الدلالةِ على التكرار، والأوَّلُ أكثَرُ في الاستعمال، وعليه ينبغي حَملُ الحديث. - يقرئنا القرآن: أي: يتلو القرآن علينا، ويعلِّمنا إيَّاه بتلقينه إيَّاه لنا. - ما لم يكن جنبًا: "ما" مصدرية ظرفية، أي: مدَّةَ بقائه جنبًا؛ فقد حُذِفَ الظرفُ وخلفته "ما"، وأصبَحَ المصدر المؤوَّل بعدها منصوبًا على الظرفية؛ لقيامة ¬

_ (¬1) أحمد (628)، أبو داود (229)، الترمذي (146)، النسائي (265)، وابن ماجة (594)، ابن حبَّان (3/ 79).

مقام المدَّة المحذوفة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريمُ قراءة القرآنِ الكريمِ على الجنب، ويدخُلُ فيه كلُّ من عليه حدثٌ أكبر، وربَّما كان الحديث ليس صريحًا في التحريم، إلاَّ أنَّ الَّذِي يؤيِّد التحريمَ ما رواه عليٌّ قال: "قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن، ثمَّ قال: هكذا لمن ليس بجنب"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 276): رجاله موثقون. 2 - قال في الرَّوْض المُرْبِعِ وحاشيته: وحَرُمَ على الجنب قراءة القرآن، أيْ: قراءة آية فصاعدًا، وله قراءةُ بعضِ آية ما لم تَطُلْ؛ كآية الدَّين. وله قولُ ما وافق قرآنًا؛ كالبسملة، والحمدلة، ونحوهما، ما لم يقصدِ القرآن، فإنْ قصده، حَرُمَ. قال الشيخ تقي الدِّين: أجمع الأئمةُ على تحريمِ قراءة القرآن للجنب. 3 - جواز قراءة القرآن للمُحْدِثِ حدثًا أصغر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لم يكن جنبًا". 4 - فضلُ تلاوةِ القرآن والاجتماعِ لذلك، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ وصحيحة. 5 - فضلُ تعليم القرآن لفظًا ومعنًى وسلوكًا؛ فقد جاء في صحيح البخاري (5027) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه"، وهذا هو تعليمه التَّامّ. 6 - عدَمُ وجوب المبادرة بالاغتسال للجنب، وجوازُ مجالسته النَّاس؛ لما في البخاري (285) ومسلم (371) عن أبي هريرة: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَهُ في بعض طُرُقِ المدينة، وهو جنب، قال: فانخَنَسْتُ منهُ، فذهبْتُ فاغتسلْتُ ثمَّ جئتُ، فقال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتُ جُنُبًا فكَرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ". 7 - فيه وجوبُ تعظيمِ القرآنِ واحترامِهِ، وأنْ يبعد عن كلِّ ما يَمَسُّ كرامته

وقدسيَّته من الأمكنة القذرة، والمَحالِّ المحرَّمة، من مجالس اللهو، والغناء، والفحش، والمناظر المُزْرية والصور المحرِّمة. قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة]. وقال تعالي: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} [عبس]. وقد روى مسلم (1869) عن ابن عمر: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أنْ يسافر بالقرآن إلى أرضِ العدو؛ مخافةَ أنْ ينالَهُ العدو". وروى أبو داود في المراسيل ص (121) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَمَسُّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ". ومِنْ إهانة القرآنِ: كتابتُهُ على الأواني واللوحات التي توضع بجانب الصور، وفي مجالس اللهو، وما حدَثَ أخيرًا من تجسيمِ كلمات القرآن على صور مناظر الطبيعة، كلُّ هذا يُعَدُّ من إهانةِ القرآن والتلاعُبِ به، وإنْ لم يقصد صاحبُهُ ذلك، إلاَّ أنَّه عرَّضه للإهانة والاستخفاف. قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام]. ***

102 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ, ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، زَادَ الْحَاكِمُ: "فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ" (¬1). وَلِلْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً" وَهُوَ مَعْلُولٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: صدر الحديث في مسلم؛ فلا داعيَ للكلام فيه. أمَّا روايةُ الأربعة عن عائشة: فالمؤلِّف أعلَّها؛ لأنها من رواية أبي إسحاق عن الأسود، عن عائشة، قال أحمد: ليس بصحيح، وقال أبو داود: إنَّ أبا إسحاق لم يسمَعْ من الأسود. قال المؤلِّف في التلخيص: أخرج مسلمٌ الحديثَ دون قوله: "ولم يمس ماءً"، وكأنَّه حذفها عمدًا، وقال مهنا، عن أحمد بن صالح: لا يحل أنْ يروى هذا الحديث، وقال ابن مفوز: أجمع المحدِّثون على أنَّه خطأ من أبي إسحاق، ثُمَّ قال ابن حجر: وتساهل في نقلِ الإجماع، فقد صحَّحه البيهقي. قال الترمذي: وعلى فرض صحَّته، فيحمل على أنَّ المرادَ: لا يَمَسَّ ماءَ الغسلِ. وبتأويل الترمذي يتبيَّن أنَّه يوافق أحاديثَ في الصحيحين، التي صرَّحت "بأنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضَّأ لأجل النوم والأكل والشرب والجماع". ¬

_ (¬1) مسلم (308)، والحاكم (2/ 333). (¬2) أبو داود (228)، الترمذي (117)، النسائي في الكبرى (5/ 332)، وابن ماجة (581).

* مفردات الحديث: - وضوءًا: مصدرٌ مؤكِّدٌ للوضوء الشرعي؛ ذلك أنَّ الوضوءَ لغةً: يطلقُ على غَسْل اليدين والفَرْج. - لِلْعَوْدِ: بفتح العين، وسكون الواو، يُقَالُ: عاد إلى الشيء، وعاد له، وعاد فيه: صار إليه ورجع، والمراد -هنا- عاد إلى إتيانِ امرأته. -وهو جنب: الواو للحال، والجملةُ الاسمية جملةٌ حالية، والجنب -بضمتين- مَنْ أصابته الجنابة. - بينهما: أي: بين الجماعِ الأوَّل والجماعِ الثاني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الوضوء لمن جامَعَ أهله، ثُمَّ أراد العَوْدَ إلى الجماعِ مرَّةً أخرى، وقد ثبت أنَّه -صلى الله عليه وسلم- غَشِيَ نساءَهُ ولم يُحْدِثْ وضوءًا بين الفعلين، وثبت أنَّه اغتسل بعد غِشْيانه كل واحدة؛ فالكل جائز. 2 - عمومُ الحديث يفيد أنَّه سواءٌ كانت التي يريد العود إليها هي الموطوءة، أو الزوجة الأُخرى لمن عنده أكثرُ من واحدة. 3 - الحكمةُ في هذا ما أشارَتْ إليه زيادة الحاكم: "فإنَّه أنشَطُ للعود"؛ ذلك أنَّ المجامع يحصُلُ له كسلٌ وانحلال، والماء يعيد إليه نشاطَهُ وقوَّته وحيويَّته، وأبلَغُ من الوضوء الغسلُ بإعادة النشاط والقوَّة. 4 - جواز النومِ بعد الجماعِ، ولو كان جنبًا. 5 - قوله: "من غير أنْ يمس ماء"، يفيدُ أنَّه ينامُ ولا يتوضَّأ. قال الترمذي: على تقدير صحَّته: فيحتمل أنَّ المراد: لا يَمَسُّ ماءَ الغسل، دون ماء الوضوء، ويوافق أحاديث الصحيحين المصرِّحة بأنَّه يغسل فرجه ويتوضَّأ لأجل النوم والأكل والشرب والجماع. ومنها: حديثُ ابن عمر؛ أنَّ عمر قال: يا رسولَ الله، أينام أحدنا وهو

جنب؟ قال: "نعم، إذا توضَّأ" [رواه البخاري (285) ومسلم (306)]. وعن عمَّار بن ياسر: "أنَّ النبَّي -صلى الله عليه وسلم- رخَّص للجنب إذا أراد أنْ يأكُلَ أو يشرَبَ أو ينامَ: أنْ يتوضَّأ وضوءه للصلاة" [رواه أحمد (18407) والترمذي (613) وصححه]. وحديث الباب يفيدُ استحبابَ الوضوءِ للجماع. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في نوم الجنب بدون وضوء: فذهب الظاهرية: إلى التحريم؛ أخذًا بحديث ابن عمر وعمَّار وأمثالهما. وذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة من مذهبه: إلى استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ ذلك أنَّ الوضوء يخفِّف غلظ الجنابة، وثقل حدثها للنَّائم، الَّذي ينبغي أنْ ينام على طهارة تامَّة؛ كما جاء في الترمذي (3589) وغيره من حديث البراء؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أخذْتَ مضجعك، فتوضَّأ وضوءك للصلاة". قال شيخ الإِسلام: يستحبُّ الوضوء عند كل نومٍ لكل أحدٍ. قال الزرقاني: ذهبَ جمهور الصحابة، التَّابعين: إلى جواز تركه بلا كراهة، وعليه فقهاء الأمصار. والرَّاجحُ من هذه الأقوال: ما ذهب إليه الإمام أحمد من استحباب الوضوء، وكراهة تركه؛ فهذا أقلُّ حال ما تَدُلُّ عليه الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة. ***

103 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ, ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ, فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ, ثُمَّ يَتَوَضَّأُ, ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ, ثُمَّ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ, ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ, ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ -رضي الله عنها-: " ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ, ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا الْأَرْضَ". وَفِي رِوَايَةٍ:" فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ"، وَفِي آخِرِهِ: "ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ" وَفِيهِ: "وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ" (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اغتسل: شرَعَ في الاغتسال، وهو من التعبير بالفِعْلِ عن إرادته، من باب المجاز المرسل؛ لأنَّه تعبيرٌ بالمسبَّب عن السبب؛ فإنَّ الفعل مسبَّب عن الإرادة، فأُقِيمَ مُقَامَهُ لِلملابسة بينهما. - من الجنابة: "من" للسببية، أي: بسبب الجنابة. - الجنابة: ما أوجب غُسْلًا لإنزالٍ أو جماعٍ، سُمِّيَ بذلك: إمَّا لأنَّ الماء باعد محلَّه وجانبه، أو لأنَّ الجنب يجتنب ما لا يجتنبه الطاهر. - أصول الشعر: أصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، والمراد هنا: أسافله التي ¬

_ (¬1) البخاري (262)، مسلم (316). (¬2) البخاري (266، 274)، مسلم (317).

تلي البشرة. - فرجه: الفرج، لغةً: الفتحة، والشق، والصَّدْعُ بين الشيئين. قال في المصباح: وكل منفرج بين الشيئَيْن فهو فرجة، والفرجُ من الإنسان: يطلق على القبل والدبر؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما منفرِجٌ، وكثر استعماله في العرف في القُبُل. وقال في النِّهَاية: الفرجُ: ما بين الرِّجْلين، وبه سُمِّيَ فَرْجُ المرأةِ والرجل؛ لأنَّهما بين الرِّجْلَيْن. - حفن: فعل ماضٍ، والحَفْنة: ملء الكف من شيء، جمعه حَفَنَاتٌ وحُفَن. - أفاض: يفيض إفاضة، أي: أسال الماء على بقية جسده وأجراه عليه. - سائر جسده: أي: بقية جسده. قال الأزهري: اتفق أهل اللغة على أنَّ سائر الشيء: باقيه، قليلًا كان أو كثيرًا. قال الصَّغانِيُّ: سائرُ النَّاس: باقيهم، وليس معناه: جميعهم كما زعم من قصَّر في اللغة، وجعله بمعنى الجميع من نحو العوامِّ، ولا يجوزُ أنْ يشتقَّ من سُورِ البلد؛ لاختلاف المادتين. - أفرغ: يُقال: أفرغ الإناءَ إفراغًا، وفرَّغه تفريغًا: إذا قلَبَ ما فيه وأخلاه ممَّا فيه، والمراد هنا: صَبَّ على يديه من الإناء. - ضرب بها الأرض: مسح بيده الأرض؛ ليزيل ما عليها من لزوجة النجاسة، أو المنيِّ. - المنديل: نسيجٌ من قطن أو حرير أو نحوهما مربَّع الشكل، يمسح به رذاذ الماء ونحوه، جمعه مناديل. - فردَّه: هذه الروايةُ تؤيِّد أنَّ ما جاء في بعض روايات البخاري (266) من قوله: "فناولته خرقةً، فلم يَرُدَّهَا" أنَّها مخفَّفة، فإنَّ بعض المحدِّثين قال بالتشديد، والتخفيف أصح؛ ولذا فإنَّ ابن السكن عَدَّ رواية التشديد من الوهم.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث صِفَةُ غُسْل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من الجنابة ترويها عائشة رضي الله عنها. 2 - استحبابُ البداءة بغَسْلِ يديه؛ لأنَّ اليدين هما أداةُ غَرْفِ الماء، وأداةُ دلك الجسد، فينبغي طهارتهما قبل كُلِّ شيءٍ، والمرادُ باليدين عند الإطلاق هما الكَفَّان. 3 - إفراغُ الماء من اليد اليُمْنَى على اليد اليسرى، التي ستباشر غسل الفرج، الذي عليه آثارُ الجماع، فاليمنَى لتناوُلِ الماء، واليسرى لإزالة الأذى. 4 - البداءةُ بغَسْلِ الفرج قبل بقيَّة البدن؛ لإزالةِ الأذى الَّذي عليه؛ لأنَّ غسله: إمَّا لإزالةِ نجاسة تجبُ إزالتها، أو لإزالةِ وساخةِ ينبغي إزالتها أيضًا، وتكون إزالةُ النجاسات والأوساخ قبل رَفْعِ الحدث. 5 - بعد غسله فرجَهُ بشماله، يمسح يده بالتراب؛ وذلك لإزالة اللزوجة العالقة بها، من غسل الفرج المتلوِّث بالنجاسة أو المني، وليَكُونَ ذلك عند إزالة الأذى. 6 - ثمَّ يتوضَّأ بغَسْلِ ما يغسل من أعضاء الوضوء، ومَسْح ما يمسح منها، فرَفْعُ الحدث الأصغر يكونُ قبل رفع الأكبر. 7 - ثمَّ يروِّي بالماء أصول شعره، فإنَّه لو صَبَّ الماء على الشعر الكثيف بدون تخليلِ وتعاهدِ أصوله، لم يَصِلِ الماء إلى أصولها، ولا إلى ما تحتها من البشرة. 8 - ثمَّ يَصُبُّ الماء على رأسه بثلاث حفنات، ليعمَّ الماء ظاهر الشعر وباطنه. 9 - ثمَّ يغسل سائر جسده، ويفيض الماء عليه مرَّةً واحدة، وظاهر النص أنَّه دون أعضاءِ الوضوء التي سبَقَ غسلها، وهو الَّذي يدل لفظ "سائر"؛ فإنَّ السائر هو الباقي. 10 - المشهورُ من المذهب: استحبابُ غسل البدن ثلاثَ مرَّات، ولكن الحديث

يدل على أنَّه لا يشرع غسل البدن إلاَّ مرَّةً واحدة؛ فإنَّ التثليث لم يرد إلاَّ في غسل الرَّأس، وهذا هو الصحيح، والله أعلم. 11 - ثمَّ خصَّ رجليه بالغسل في آخر الأمر؛ لأنَّ كل ما تحدَّر من جسده من أوساخٍ وفضلاتٍ أصابت رجليه، فكان حقُّهما أنْ يطهَّرا بعد ذلك؛ لإزالة ما عَلِقَ بهما، وما نزَلَ عليهما. وفي بعض ألفاظ حديث ميمونة: "ثُمَّ تنحَّى عن مقامه ذلك، فغسل رجليه"؛ وهذا أبلغ في تنظيفهما. 12 - ذكر المؤلِّف في صفة غُسْل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين: حديث عائشة، وحديث ميمونة: فأمَّا حديث عائشة: فذكرت الوضوء، وقالت في إحدى رواياته: "ثمَّ توضَّأ وضوءه للصلاة"، ثمَّ قالت؛ "ثمَّ غسل رجليه"؛ ممَّا يفيد أنَّه كرَّر غسل الرجلين في أوَّل الغسل وآخره. وأمَّا حديثُ ميمونة: فذكرت الوضوء إلاَّ غسل الرجلين، ثمَّ قالت: "ثمَّ تنحَّى مِنْ مقامه، فغسل يديه"، ممَّا يفيد أنَّه لم يغسل رجليه إلاَّ مرَّةً واحدة، بخلاف ما جاء في حديث عائشة من أنَّه توضَّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ قالت: "ثمَّ غسل رجليه". قال الحافظ: "ثمَّ غسل رجليه" أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أنْ كان غسلهما في الوضوء؛ فيحمل هذا على حالةٍ أخرى. 13 - كراهة التنشيف بالمنديل ونحوه بعد الغسل أو الوضوء؛ لأنَّ ما على البدن أو على أعضاءِ الوضوء هو مِنْ أثر العبادة، فينبغي بقاؤُهَا واستصحابها، ويكتفي بنفض زائد الماء باليد دون إزالته. 14 - هذه الصفة هي أفضلُ الصفات للغُسْلِ من الجنابة، فقد جمعَتْ بين تنظيف أداة الغسل، وغَسْلِ الأذى، وترويةِ أصول الشعر، وإسباغِ الوضوء ***

والغُسْل، ففيها النظافةُ والطهارةُ الكاملة. 15 - الحكمة الشرعية من تعدُّد زوجات النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّهُنَّ نَقَلْنَ من الأحكام الشرعيَّة -ولا سيما المنزليَّة- العلْمَ الكثير الذي نفَعَ الأمةَ الإِسلامية، وكلُّ واحدةٍ منهنَّ حفظَتْ وروت غالبًا ما لم تحفَظْ وَتَرْوِهِ الأخرى. 16 - قال ابن الملقِّن: لتخليل الشعر ثلاثُ فوائد: (أ) تسهيلُ إيصالِ الماء إلى الشَّعْرِ والبَشَرَة. (ب) مباشرةُ الشعر باليد؛ ليحصلَ تعميمه. (ج) تبليلُ البشرة؛ خشية أنْ يصاب بِصَبِّ الماء دفعةً واحدة، وَجَعٌ في رأسه. ***

104 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي, أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ?" -وَفِي رِوَايَةٍ: "وَالْحَيْضَةِ?" -"قَالَ: لا, إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أشدُّ شعر رأسي: شد الشيء: قوَّاه وأحكمه، والعقدَةَ: أحكمها وأوثقها. - أفأنقضه: نقض الحبل أو الشعر: حلَّ إبرامه وعقده، والهمزة للاستفهام. - يكفيك: كفى الشيءُ يكفي كفاية: حصل به الاستغناء عن غيره، فهو كاف، والمراد: يغنيك الحَثْيُ عن نقض شعرك. - أنْ تحثي ثلاث حثيات: بالثاء المثلثة؛ يُقال: حَثَيْتُ وَحَثَوْتُ، لغتان مشهورتان، والحثية: هي الحفنة التي هي ملء الكفَّيْنِ من الماء وغيره، والجمع حَثَيَات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عدمُ وجوبِ نقض المرأة شعرها للغُسْلِ من الجنابة، أو الغسل من الحيض. 2 - الاكتفاء بحثي الماء -ثلاث مراتٍ- على الرأس؛ هذا هو مذهب جمهور العلماء، وسيأتي تحقيق الخلاف، إنْ شاء الله تعالى. 3 - يَدُلُّ الحديثُ على أنَّ للمرأة أنْ تَشُدَّ شعر رأسها، ولم يبيِّن صفة الشد هل تضفره أو تعكصه؟ وهذه الأمور عادية لا دخل لها في العبادة، فالعادةُ التي يعملها النَّاس وليسَتْ زيًّا خاصًّا بالكفَّار، يجوزُ فعلها. ¬

_ (¬1) مسلم (330).

* خلاف العلماء: قال في الشرح الكبير: لا يجبُ على المرأة نقضُ شعرها لِغُسْلِهَا من الجنابة، روايةً واحدة، ولا نعلم في هذا خلافًا، إلاَّ عن ابن عمر، والنخعي، ولا نعلم أحدًا وافقهما على ذلك، لما روتْ أم سلمة أنها قالت: "يا رسول الله! إني امرأةٌ أَشُدُّ شعر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاثَ حَثَيَاتٍ ثمَّ تفيضين عليك بالماء، فتتطهَّرين به" [رواه مسلم]. قال في المغني: اتفق الأئمةُ الأربعة على أنَّ نقضه غيرُ واجب. أهـ. واختلفوا في وجوب نقضِ شَعْرِ المرأة لِغُسْلها من الحيض: فذهب الإمام أحمد -في المشهور من مذهبه-: إلى وجوب نقضه، قال مهنَّا: سألتُ أحمد عن المرأة تنقُضُ شعرها من الحيض؟ قال: نعم، فقلت له: كيف تنقُضُهُ من الحيض ولا تنقُضُهُ من الجنابة؟ فقال: حدَّثَتْ أسماءُ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: تنقضه. أهـ. ولما جاء في البخاري (316)، ومسلم (1211) من حديث عائشة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "إذا كنت حائضًا فانقُضِي رأسك وامتشطي". ولأنَّ أصل وجوب نقض الشعر ليتيقَّن وصولُ الماء إلى ما تحته، فعفي عنه في غسل الجنابة؛ لأنَّه يكثُرُ فيشُقُّ ذلك؛ بخلاف الحيض. وذهب أكثر العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه لا يجب، لما روى مسلم عن أم سلمة أنَّها قالت يا رسول الله: "إنِّي أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: إنَّما يكفيك أنْ تحثي على رأسك ثلاث حثيات". وهي رواية عن الإمام أحمد، اختارها الموفَّق، والمجد، والشَّارح والشيخ تقي الدِّين، وغيرهم، لحديث أم سلمة السَّابق. قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الصحيح أنَّه لا يجب عليها نقضه في غسل الحيض؛ لما ورد في بعض روايات أم سلمة عند مسلم؛ أنَّها قالت للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-:

"إنِّي امرأةٌ أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيض والجنابة؟ قال: لا". ومذهب الجمهور: أنَّه إِذا وصَلَ الماء إلى جميع شعرها، ظاهره وباطنه من غير نقض لم يجبِ النَّقْضُ. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: الرَّاجِحُ في الدليل: عدمُ وجوب النقض في غسلِ الحيض؛ كعدم وجوبه في الجنابة، إلاَّ أنَّه في الحيض مشروعٌ للأدلة، والأمرُ فيه ليس للوجوب؛ بدليل حديث أمِّ سلمة، وهذا اختيار صاحب الإنصاف، وأمَّا الجنابة: فليس مندوبًا في حقِّها، وإنَّما هو متأكِّد في الحيض. قال الزركشي: الأوَّل هو الأولى؛ لحمل الحديثَيْن على الاستحباب. ودليلُ من لا يوجبُ النقض: بعضُ روايات حديث أمِّ سلمة التي ذكرت الحيضَ مع الجنابة، وقد قال ابن القيِّم عن بعض هذه الروايات: الصحيحُ في حديث أمِّ سَلَمَةَ الاقتصارُ على ذكر الجنابة دون الحيض، وليس نقض شعر الرَّأس بمحفوظٍ للحائض. وقال الألباني: إنَّ ذكر الحيضة في الحديث شاذٌّ لا يثبت. وبهذا فمذهبُ الإمام أحمد قويٌّ في هذه المسألة، وأنَّ حمل الحديثَيْن على الاستحبابِ محمَلٌ حَسَنٌ. ***

105 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. في سنده أفلت بن خليفة، مجهولُ الحال، لكنْ صحَّحَه ابن خزيمة، وحسنَّه ابن القَطَّان، وكذلك حسَّنه الزَّيْلَعِيّ في نَصْب الرَّاية، وسكت عنه أبو داود؛ فهو عنده صالح، وقال ابن سيِّد الناس: إنَّ التحسين أقلُّ مراتبه؛ لثقة رواته، ووجودِ الشواهد له من خارج. * مفردات الحديث: - لا أحل المسجد: من الحلال ضد الحرام، والمراد: لا أرخِّص للحائضِ والجنبِ أنْ يمكثا في المسجد. - حائض: جمعها حُيَّض، ويكفي ولو بدون تاء التأنيث؛ لأنَّ الحيض وصفٌ مختصٌّ بالمرأة؛ فلا تحتاج -للفرق بينها وبين الرجل- إلى التاء، بخلاف الوصف المشترك، كـ"قائم" للذكر، فإنَّه يُقال للمرأة: "قائمة". - جنب: بضمتين، مَنْ أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكَّر والمؤنث، والمثنَّى والجمع؛ قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريمُ المكث في المسجد للحائض، وَمِثْلُها النفساء، سواءٌ خشي منها ¬

_ (¬1) أبو داود (232)، ابن خزيمة (2/ 284).

تلويثه أَوْ لا؛ وهو مذهب جمهور العلماء. 2 - تحريمُ لبث الجنب في المسجد، أمَّا المرورُ في المسجد للجنب والحائض: فقد أجازه أكثر العلماء؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، والمعنى: اجتنبوا مواضع الصلاة وهي المساجد، وأنتم جنب، إلاَّ عابري طريق. 3 - قوله: "لا أحل المسجد" المسجد: ذاتٌ وعينٌ، وليس معنًى؛ ولذا فإنَّ التحريم المفهوم من النَّهْي لا يمكنُ أنْ يَنْصَبَّ على تلك الذَّات، وإنَّما المراد منافعُهُ من المكثِ والنومِ ونحو ذلك؛ كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ فليس المرادُ الأمَّ ذاتها، وإنَّما المراد نكاحُها. 4 - قال في المغني: ويجوز العبورُ للحاجة، مِنْ أَخْذِ شيء أو تركه، أو كونِ الطريق فيه، وهو مذهب مالك، والشَّافعي، ورويت الرخصةُ عن ابن مسعود، وابن عبَّاس، وابن المسيّب، وابن جبير، والحسن. ودليل جوازه: الآية الكريمة، وحديث أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "ناوليني الخُمْرَةَ من المسجد، قالت: إنِّي حائض؟ قال: إنَّ حيضتك ليست في يدك" [رواه مسلم (298)]. وعن جابر قال: "كان أحدنا يمر في المسجد جنبًا مجتازًا" [رواه سعيد بن منصور (645)]. وعن عطاء بن يسار قال: "كان الرَّجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون جنبًا فيتوضَّأ، ثمَّ يدخل المسجد، فيتحدَّث فيه". ***

106 - وَعَنْ عائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ, تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: "وَتَلْتَقِي أَيْدِينَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تختلف أيدينا فيه: اختلف الشيئان: لم يتفقا، ومعنى اختلاف أيديهما في الإناء، يعني: من الإدخال فيه والإخراج منه، وذلك أن يدخل كل واحدٍ منهما يده وتغرف من الإناء، بعد يد الآخر، ولعلَّه لضيق فم الإناء، وجاء في بعض روايات البخاري: "من إناء واحد، مِنْ قَدَح يُقال له: الفَرَق"، والفَرَق بفتحتين: قال النووي: هو الأفصح، قال ابن الأثير: يسع ستةَ عَشَرَ رِطْلاً. وجملة "تختلف" محلها النصب؛ لأنَّها حال من قوله: "من إناء واحد"، والجمل بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات. - تلتقي: تجتمعان أثناء الأخْذِ والغَرْفِ من الإناء. - من الجنابة: متعلِّق بـ "اغتسل"، وفي "من" معنى السببية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوبُ الاغتسال من الجنابة على الرجل والمرأة. 2 - أنَّ اغتسال المرأة والرجل من إناءٍ واحدٍ لا يؤثِّر في طهارة الماء بالإجماع. 3 - أنَّ وضع الجنب يده في الإناء الَّذي فيه الماءُ لا يسلُبُهُ الطُّهُورية، بل هو باقٍ على طهوريته. 4 - جواز أنْ يَرَى كلُّ واحدِ من الزوجين بَدَنَ الآخرِ وعورته، وهو داخلٌ تحت ¬

_ (¬1) البخاري (261)، مسلم (319)، ابن حبان (3/ 395).

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون]. 5 - استحبابُ التقليل من ماء الوضوء والغسل؛ فهذا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هو وعائشة يغتسلان ويغترفان من إناءٍ واحد. جاء في بعض روايات البخاري (250): "مِنْ قَدَحٍ يُقالَ له: الفَرَق" والقدح: إناءُ شرب. قال الباجي: الصوابُ: أنَّه صاعان، أو ثلاثة آصُعٍ، كما عليه الجماهير. 6 - في الحديث حُسْنُ عِشْرة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لأهله، ومشاركَتُهُ لهم في أحوالهم وأعمالهم؛ تطييبًا للقلب، وإزالةً للكلفة. 7 - فيه فضلُ أزواجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، لا سيَّما الصدِّيقةُ بنت الصدِّيق، فكم نَقَلْنَ للأمَّة من الأحكامِ الشرعية، لا سيَّما الأعمالُ المنزليَّة التي لا يطَّلع عليها إلاَّ المُعاشِرُ في المنزل. ***

107 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً؛ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ, وَأَنْقُوا الْبَشَرَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَاهُ (¬1). وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- نَحْوُهُ, وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. لأنَّه من رواية الحارث بن وجيه، قال أبو داود: حديثه منكر، وهو ضعيف. وقال الترمذي: غريبٌ لا نعرفه إلاَّ من حديث الحارث، وهو شيخٌ ليس بذاك. وقال الشَّافعي: هذا الحديثُ ليس بثابت، وقال البيهقي: أنكره أهلُ العلم بالحديث، مثلُ البخاريِّ، وأبي داود، وغيرهما. وأمَّا حديثُ عائشة عند الإمام أحمد، ففيه راوٍ مجهول، وجهالة الرَّاوي من غير الصحابة توجبُ ضَعْفَ الحديث. ومع هذا الضعف، وبعد بيان ابن حجر في التلخيص الحبير له قال: وفي الباب عن عليٍّ -رضي الله عنه- مرفوعًا: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فُعِلَ به كذا وكذا"، وقال: إسناده صحيح أخرجه أبو داود (249) وابن ماجه (2599)؛ لكن قيل: إنَّ الصواب وقفه على عليٍّ -رضي الله عنه-. أهـ. قلت: ولا يضر وقفه؛ حيث له حُكْمُ الرفع؛ لأنَّه ممَّا لا مجال للرَّأي فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أبو داود (248)، الترمذي (106). (¬2) أحمد (6/ 254).

* مفردات الحديث: - جنابة: قال ابن دقيق العيد: تطلق على المعنى الحُكْمِيِّ الذي ينشأ عن التقاء الختانين أو الإنزال. - أنقوا: نقى الشيءُ نقاوة ونقاء: نَظُفَ، فهو نقيّ. - البَشَر: بفتح الباء الموحَّدة التحتية، وفتح الشين المعجمة، بعدها راء: ظاهر الجلد، مفرده بَشَرَةٌ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوبُ الغُسْلِ من الجنابة والتأكيدُ فيه؛ لأنَّه لا يصحُّ مع الحدث صلاة، ولا نحوُهَا من العبادات التي تتوقَّف صحَّتها على الطهارة. 2 - وجوبُ تعميم الجسم بالماء؛ فلا تكمُلُ الطهارة بترك شيءٍ منه، ولو قليلًا لا يدركه الطَّرْف. 3 - ذلك أنَّ الَّلذَّةَ قد عمَّت جميعَ البدن، واهتزَّ لها، فكذلك الماءُ لابدَّ أنْ يصيبَ جميعَ أجزائه، كما أنَّ جَلْدَ الزَّاني يَعُمُّ بدنه؛ لحصول الَّلذة في جميع البدن. 4 - في تعميم البدن بالغسل دليلٌ على تعلُّقِ الأحكام بعللها، وأنَّ الجنابة نتيجة خروج السلالة من جميع البدن؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة]؛ فصار التطهير شاملاً لجميع البدن. 5 - وجوبُ ترويةِ أصولِ الشعر، وإيصالِ الماء إلى ما تحتها من البشرة. 6 - وجوبُ إنقاء البشرة، وذلك بتبليغ الماء إليها؛ وهو يدلُّ على استحباب ذلك في بقية البدن؛ للتحقُّق من وصول الماء إلى كل جزء منه. 7 - قوله: "إنَّ تحت كل شعرة جنابة" إمَّا أنْ يحمَلَ على ظاهره؛ فيكون معناه أنَّ كلَّ شعرة تحتها جزءٌ لطيف من البدن لحقته الجنابة، فلابُدَّ من رفعها بإصابة الماء هذا الجزء، وإمَّا أنْ يحمل على المبالغة؛ فتكون المبالغة

جائزة، لاسيَّما في مواطن الحث والاهتمام. 8 - قال العلماء: يجب على المغتسل من الحدث الأكبر: أنْ يوصلَ الماءَ إلى مغابنهِ وجميعِ بدنه، فيتفقَّدُ أصولَ شعره، وغضاريف أذنيه، وتحت حلقه وإبطَيْهِ، وعُمْق سُرَّته، وبين إلْيَتَيْهِ، وطَيَّ ركبتيه، ويكفي الظنُّ في الإسباغ. ***

باب التيمم

باب التيمم مقدِّمة أصل التيمُّم: تَأَمُّمٌ، فأبدلت الهمزة ياء. والتيمُّم لغةً: القصد. وشرعًا: مسحُ الوجه واليدَيْن بصعيدٍ على وجهٍ مخصوص. والتيمُّم: مشروعٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس: قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. أمَّا دليله من السنة: فكثرَتْ فيه الأحاديث الصحيحة، ومنها ما في مسلم (522) من حديث حذيفة: "وجُعِلَتْ تربتها لنا طهورًا؛ إذا لم نجد الماء". وهو إجماع العلماء. وأمَّا القياسُ: فقال شيخ الإِسلام: والحق: أنَّ التيمُّم على وَفْقِ القياس الصحيح، فنشأتنا وقوَّتنا من مادَّتَي الماء والتراب، فالتراب أصل الإنسان، والماء حياة كل شيء، وهو الأصل في الطبائع، وكان أصلَحُ ما يقع به تطهيرُ الأدناس هو الماءَ، وفي حالة عَدَمِهِ أو العذرِ باستعماله، يكونُ لأخيه وشقيقه التراب؛ فهو أولى. أمَّا الأستاذ سيِّد قُطْب فيقول: نقفُ أمامَ حرص المنهج الربانيِّ على الصلاة، وعلى إقامتها، في وجه جميع الأعذار والمعوِّقات؛ عند تعذُّر وجود الماء، أو عند التضرُّر بالماء، إنَّ هذا كله يدُلُّ على حرص المنهجِ الربانيِّ على الصلاة، بحيث لا ينقطع المسلم

عنها لسبب من الأسباب. إنَّ هذا ما استطعنا أنْ نستشرفه من حِكْمة النصِّ، وقد تكونُ هناك أسرارٌ من الحكمة، لم يُؤْذَنْ لنا باستجلائها، فللَّه في شرعه حِكَمٌ وأسرار. وهو من خصائص هذه الأمَّة؛ ففي البخاري (335) ومسلم (521): "أُعْطِيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا". وشُرِعَ في السَّنة السادسة في غزوة بني المصطلق، لمَّا ضاع عِقْدُ عائشة -رضي الله عنها- ومكثوا في طلبه على غير ماء؛ فنزلَتْ آية التيمم. ***

108 - عَنْ جَابِرِ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ, وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا, فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (¬1). وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- عِنْدَ مُسْلِمٍ: "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا؛ إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" (¬2). وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ: "وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُعطيت: مبني للمجهول، أي: أعطاني الله تعالى. - خمسًا: أي: خمس خصال، وقد صحَّ أكثر من خمسٍ، قال القرطبي: ليس في هذا تعارُضٌ؛ فإنَّ ذكر العدد لا يدُلُّ على الحصر. - الرُّعْب: بضم الرَّاء وسكون العين، وهو الخوفُ والفزع، يُقال: رعب الرجل وأرعبته رعبًا، أي: ملأته خوفًا، والاسم الرُّعْب. - مسيرة شهر: يُقال: سار يسير سَيْرًا ومَسِيرًا، يستعمل فعله لازمًا ومتعديًا، والمسيرة: المشي ليلًا أو نهارًا. ¬

_ (¬1) البخاري (335)، مسلم (521). (¬2) مسلم (522). (¬3) أحمد (765).

والنكتة في جعل الغاية شهرًا: أنَّه لم يكن بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين أحدٍ من أعدائِهِ أكثرُ من شهرٍ. - مسجدًا: المسجد لغةً: مَفْعِلٌ بالكسر، قال الصِّقِلِّيّ: ويقال: مَسْيِدٌ، وهو ظرف مكان من الثلاثيِّ المجرَّد، وهو موضع السجود، ولا يختص به موضعٌ دون آخر. وشرعًا: كلُّ موضعٍ في الأرض فإنَّه مسجد. - تُربتها: بضم التاء: هي طبيعةُ الأرض، تقول: أرضٌ جيِّدة التربة. - طهورًا: بفتح الطاء: هو الطَّهور بذاته، المطهِّر غيره. - فليصل: خبر المبتدأ، ودخولُ الفاء فيه؛ لكون المبتدأ متضمِّنًا لمعنى الشرط، والَّلام للأمر. - الغنائم: جمعُ غنيمة، وهي ما حصَلَ من الكفَّار بالحَرْبِ بإيجافٍ وركاب. * ما يؤخذ من الحديث: هذا حديثٌ فيه فوائدُ جمَّة، وأحكامٌ مهمَّة نقتصرُ على البارز منها: 1 - تفضيلُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء، وخصائصُهُ كثيرة، صنِّفت فيها الكتب، ولعلَّ أوسعها "الخصائص الكبرى" للسيوطي. 2 - شُرِعَ تعديدُ نِعَمِ الله تعالى على العبد على وَجْهِ الشكر لله، وذِكْرِ آلائه؛ فإنَّه يُعَدُّ عبادةً وشكرًا لله تعالى عليها، واعترافًا بفضله ومننه وكَرَمِهِ على عبده. 3 - أنَّ الله -تعالت قدرته- نصَرَ نبيَّه محمدًا بالرعب، فيصابُ عدوُّه بالخوف، ولو كان بينهما مسيرةُ شهر، وهذا من أكبر العَوْن والنصر على الأعداء؛ فإنَّه عاملٌ قويٌّ يَفُتُّ في عضد العدو حتَّى يصابَ بالانهيار والخذلان، وحدد بالشهر؛ لأنَّه لم يكن بينه وبين عدوه زَمَنَ حروبه أكثَرُ من ذلك. 4 - أنَّ الله تعالى تفضَّل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- حينما أحلَّ له الغنائم التي هي مكاسبُ الحروب الشرعية، وفوائدُ جهادِ الأعداء الدنيويَّة، بينما كان الأنبياءُ قبله:

إمَّا لم يؤذنْ لهم بالجهاد، أو أُذِنَ لهم ولكنْ لم تَحلَّ لهم الغنائم، وكانوا يجمعونها، ثمَّ تنزل عليها نارٌ من السماء فتحرقها. 5 - أنَّ شرَفَ نبيِّه محمَّد -صلى الله عليه وسلم- بشمولِ دعوته وعمومِ رسالته؛ فكان كلُّ رسولٍ قبله إنَّما يُبْعَثُ في قومه خاصَّةً، وفي زمن مؤقَّت محدَّد، أمَّا رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: فهي الرسالة التي عمَّتْ جميع النَّاس؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]؛ بل إنَّ رسالته -صلى الله عليه وسلم- شملت الثقلين -الجن والإنس- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]، ورسالته ممتدَّة حتَّى تقوم السَّاعة. وما العمومُ والشمولُ في هذه الرسالة المحمَّدية إلاَّ لما أودعها الله تعالى مِنْ عواملِ البقاء، وعناصرِ الخلود، وما أقامها عليه مِنْ قواعدِ الشمول والعموم. 7 - قوله في باقي الحديث: "النَّاس" لا يشمَلُ الجنَّ، ولا خلاف أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أُرْسِلَ للثقلين، ولعلَّه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى. 8 - أنَّ الله تعالى سيُظْهِرُ كمالَ فضل هذا النَّبيِّ الكريم، ومقامه العظيم يوم القيامة، باختياره للمقام المحمود، وهي الشفاعةُ العُظْمَى التي يتدافعها كبارُ الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ويتأخَّرون عنها، فتنتهي إليه الرئاسة والشرف، فحينما يقبلها يسجد لله تعالى تحت العرش، ويمجِّد ربَّه بمحامد يلهمه الله إيَّاها، ثُمَّ يُعْطى سؤله، وَتُقْبَلُ شفاعته في ذلك اليوم الذي يحمد فيه الله تعالى، ويحمدُهُ جميعُ الخلائق، حينما شفَعَ فقُبِلَتْ شفاعته؛ لإراحة الخلائق مِنْ شدَّه ذلك اليوم الطويل العصيب؛ فهذا المقام الذي قال تعالى فيه مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء]. 9 - أنَّ الأرض كلَّها جعلت له ولأمَّته مسجدًا، فيصلِّي في أي مكان تدركه الصلاة فيه، فلا يختصُّ به موضعٌ دون غيره، بينما غيره من الأنبياء لا

يصلُّون هم ولا أممهم إلاَّ في أمكنةٍ خاصَّة؛ ولذا جاء في بعض روايات هذا الحديث: "وكان مَنْ قبلي إنَّما يصلون في كنائسهم" [قال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله ثقات (10/ 367)]، وفي رواية أخرى: "ولم يكن أحدٌ من الأنبياء يصلِّي حتَّى يبلغ محرابه" [رواه البيهقي (2/ 433)]. وعمومُ الأرض في هذا الحديث مخصوصٌ بما نَهَى الشَّارعُ عن الصلاة فيه من الأماكن، ممَّا سيأتي بيانه في موضعه، إنْ شاء الله تعالى. 10 - أنَّ الله تعالى يسَّر أمر هذا النبيِّ الكريمِ، وَأَمْرَ أمته، فجعَلَ له صعيدَ الأرض طهورًا؛ فقال: "وجعلت تربتها لنا طهورًا؛ إذا لم نجد الماء"، وكما جاء في الحديث الآخر: "الصعيد وَضُوءُ المسلم، وإنْ لم يجد الماء عشر سنين" [رواه الدَّارقطني (1/ 181)]، بينما الأممُ السَّابقة لا يطهِّرها إلاَّ الماء، فالتيمُّم والصلاة في جميع الأرض هي خصوصيةٌ خَصَّ اللهُ بهما هذه الأمَّة؛ تخفيفًا عنها، ورحمة بها، فله الفضل والمنَّة. 11 - أنَّ الأصل في الأرض الطهارة؛ فتجوزُ الصلاة فيها، والتيمُّم منها. 12 - أنَّ كل أرضٍ صالحةٌ للتيمُّم منها، سواءٌ كانت رملية أو صخرية، أو سبخة رطبة أو يابسة. 13 - قوله: "فأيما رجلٍ" لا يراد به جنس الرِّجالِ وحدهم، وإنَّما يراد النساء أيضًا، فالنساءُ شقائقُ الرجال. 14 - قوله: "وجعلت ترتبها لنا طهورًا" دليلٌ على أنَّ التيمُّم رافعٌ للحدث كالماء؛ لاشتراكهما في الطهورية، وبهذا قال الحنفية، أمَّا المشهور من مذهب الحنابلة والمالكية والشَّافعية: فإنَّه مبيح لا رافع، ولكنَّه قولٌ ضعيفٌ، فالتيمُّم بدل الماء، وله أحكامه. 15 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ التيمُّم يكون لنجاسة البدن، والرواية الأُخرى: أنَّه لا تيمُّم لها؛ لأنَّ الشرع إنَّما ورد بالتيمُّم للحدث دون

النجاسة، وهو قولُ الأئمة الثلاثة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القولُ الرَّاجح. * تنبيه: اقتصر المؤلِّف من الحديث على ذكر خصوصيَّتَيْن، أمَّا الثلاثُ الباقية -وهي: حِلُّ الغنائم، والشفاعةُ الكبرى لإراحةِ النَّاسِ من الموقف، وعمومُ رسالتِهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى النَّاسِ كافَّة- فلم يَأتِ بها، وقد أتينا على شرحها وبيانها. ***

109 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَاجَةٍ, فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ, فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ, ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ, فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً, ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ, وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ, وَنَفَخَ فِيهِمَا, ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: أجنبت: أي: أصابتني جنابة. فتمرَّغت: بفتح المثنَّاة الفوقية والميم، وتشديد الرَّاء، فغين معجمة، أي: تقلَّبت على الأرض كما تتقلَّب الدَّابة، قياسًا منه للتيمُّم من الجنابة على الغُسْلِ منها. - في الصعيد: بفتح الصّاد المشدَّدة، ثُمَّ عين مهملة، فياء، فدال مهملة: هو وجه الأرض، جمعه صُعْدان وصُعُد. - الدابَّه: كل ما يدب على الأرض؛ كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد غلَبَ على ما يُرْكَبُ من الحيوان، ويُسمَّى به المذكَّر والمؤنث، جمعه دَوابُّ. - أنْ تقول بيديك هكذا: فيه استعمالُ القول في معنى الفعل؛ قال في القاموس: ¬

_ (¬1) البخاري (338، 347) مسلم (368).

الفعل حركة. - ظاهر كفيه: ظاهرُ الكفِّ: هو المقابل لباطنه، والكفُّ: من الرسغ إلى أطراف أصابع اليد. - نفخ: بفمه: أخرَجَ منه الريح، وأراد هنا إزالةَ ما كَثُرَ على اليدين من التراب، قال الجوهري: أوله -أي: ما يخرجه الإنسان في فمه- البَزْقُ، ثمَّ التَّفْل، ثمَّ النَّفْث، ثمَّ النَّفْخ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعيَّةُ التيمُّم للصلاة، وغيرها من العبادات الواجب لها الطهارةُ؛ فالتيمُّم أحدُ الطهورَيْن المشروعَيْن. 2 - بيانُ صفة التيمُّم، وهو أنْ يضرب الأرض بيديه ضربةً، فيمسح وجهه بباطن كفيه، ويمسح كلَّ ظاهر يدٍ بالأخرى، سواءٌ في الحدث الأصغر أو الأكبر، فصفته واحدة. 3 - جوازُ تخفيف الغبارِ الكثيرِ العالقِ باليدين من ضرب الأرض بالنفخ، ثمَّ مسح الوجه والكفين بهما، ولا يتعدَّاهما إلى الذراعين. 4 - أنَّ التيمُّم ضربةٌ واحدة تكفي للوجه واليدين. 5 - جوازُ الاجتهاد في مسائل العلم، حتَّى في زمن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وهي مسألة خلافيَّةٌ بين الأصوليين، وأرجَحُ الأقوال الثلاثة: جوازه في غيبة النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، والبُعْدِ عن سؤاله. 6 - فيه استعمالُ أصل القياس، وإقرارُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبه، فهذا عمّارٌ قاس التطهُّر بالتراب على التطهُّر بالماء، فكما أنَّ الماء يَعُمُّ البدنَ في الغسل من الجنابة، فكذلك يقاسُ عليه الترابُ، فيعمّم به البدن. وحكى ابن الملقِّن عن تقي الدِّين فقال: استعمالُ القياس لابد فيه من تقدَّم العلم بمشروعيَّة التيمُّم، وكأنَّ عمَّارا لمَّا رأى الوضوءَ خاصٌّ ببعض

الأعضاء، وكان بدله -وهو التيمم- خاصًّا، وجب أنْ يكون بَدَلُ الغُسْلِ الذي يَعُمُّ جميعَ البدن، عامًّا لجميع البدن. 7 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر عمَّارًا بالإعادة؛ فدل هذا على أنَّ مَنْ عَبَدَ الله على طريق غير مشروعة جهلاً، فإنَّه يعلَّم لمستقبل أمره، ولا يُؤْمَرُ بقضاء ما فاته في أيَّام جهله ولهذه المسألة أدلَّةٌ كثيرة في الشرع، منها هذا، ومنها: قصَّة الرجل المسيء في صلاته. قال شيخ الإسلام: وما تركه لجهله بالواجب، مثلُ مَنْ كان يصلِّي بلا طمأنينة، فالصحيحُ: أنَّ مِثْلَ هذا لا إعادةَ عليه إذا خرَجَ وقت العبادة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للمسيء في صلاته: "اذهب فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ" [رواه البخاري (724)، ومسلم (397)]. 8 - التعليمُ بالقول والفعل يكونُ بتمثيل المطلوب تعلُّمه، وهو ما يسمَّى الآن "وسائل الإيضاح". 9 - سماحةُ هذه الشريعة ويُسْرُها؛ كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. 10 - فيه مراجعة العلماء فيما حَصَلَ به الاجتهاد؛ فإنَّ عمَّارًا راجَعَ فيما اجتهد فيه. ***

110 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ, وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ, وَصَحَّحَ الْأَئِمَّةُ وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، والصوابُ وَقْفُهُ على ابن عمر. أمَّا ضعفه، فقال المصنِّف في فتح الباري: الأحاديثُ الواردةُ في صفة التيمُّم، لم يصحَّ منها سوى حديث ابن جهيم، وحديثِ عمَّار، وما عداهما فضعيفٌ أو مختلفٌ في رفعه، والرَّاجحُ عدَمُ رفعه. وقال المؤلِّف في التلخيص: قال أبو زرعة: حديثٌ باطل. وأمَّا وقفه فقال المؤلِّف هنا: وصحَّح الأئمة وقفه، قال الحافظ: الحديث مرفوعًا ضعيفٌ، وأمَّا الموقوفُ: ففيه علي بن ظبيان، طعن فيه أكثر الأئمة، والثقاتُ رَوَوْهُ موقوفًا. وقال الدَّارقطني في سننه: وقفه يحيى القطان، وهُشَيْم، وغيرهما؛ وهو الصواب. وفي معناه عدَّة روايات كلها غير صحيحة، بل إمَّا موقوفة أو ضعيفة، فالعمدة حديثُ عمَّار، وبه جزم البخاري في صحيحه. وفي الباب: عن جابر، صحَّحَهُ الحاكم، ووافقه الذهبي، وصوَّب الدَّارقطني وقفه. * مفردات الحديث: - التيمُّم: في اللغة: مصدر تيمَّم من باب التفعُّل، وأصله من الأمِّ، بفتح الهمزة ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 182).

وتشديد الميم، وهو القصد، ويُقال: أَمَّه يؤمُّه: إذا قصده؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسَّح به. وفي الشرع: قَصْدُ صعيد طاهر مباح، واستعمالُهُ بصفةٍ مخصوصة؛ لاستباحة الصلاة ونحوها، وامتثال الأمر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ التيمُّم يكون بضربتين، لا ضربة واحدة. 2 - تكونُ أولى الضربتَيْن لمسح الوجه، والضربة الثانية تكونُ لمسح اليدين. 3 - الحديثُ معارِضٌ لحديث عمَّار السابق، الَّذي ليس فيه إلاَّ ضربةٌ واحدةٌ، تكونُ للوجه ولليدين. 4 - قال العلماءُ عن هذا التعارُضِ بين حديثِ عمَّارٍ وحديثِ ابن عمر: (أ) حديثُ عَمَّارٍ في الصحيحين، وحديثُ ابن عمر في سنن الدَّارقطني، التي لم يلتزمْ صاحبها بِصِحَّةِ الأحاديث، بل كثيرًا ما يروي فيها الأحاديثَ الضعيفة، فحديثُ ابن عمر ليس له نسبةٌ مع حديث عمَّار من حيثُ الصحةُ. (ب) حديث عمَّار مرفوعٌ إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، أما حديثُ ابن عمر فهو من كلام ابن عمر، وليس من كلام النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان مما لا مجالَ فيه للرأي، فَفَرْقٌ بين المرفوع والموقوف. (ج) كلُّ الروايات التي وردَتْ بالضربتين، فهي إما موقوفةٌ لم تُرْفَعْ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وإما ضعيفةٌ لا تقومُ بها حُجَّة. 5 - قال ابن عبد البر: الآثارُ المرفوعةُ ضربةٌ واحدة، وما روي من ضربتين فكلُّها مضطربةٌ، وقال أبو زرعة عن حديث ابن عمر: حديثٌ باطل، وقال ابن القيم: لم يصحَّ شيءٌ في الضربتين، وقال الألباني: وفي الضربتين أحاديثُ واهيةٌ معلولةٌ. 6 - لذا فالصحيح في هذا الباب والعمدة هو حديثُ عمَّار، وبه جزم البخاريُّ في صحيحه، فقال: "باب: التيمُّمُ ضربةٌ"، وقال في الفتح: هذا هو الواجب المجزىء.

وقال الإمام أحمد: من قال: إنَّ التيمُّم إلى المرفقين، فإنُّما هو شيءٌ زاده من عنده. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في صفة التيمم: فذهب الإمام أحمد: إلى أنَّ المشروع في التيمُّم هو ضربةٌ واحدة، يمسح وجهَهُ بباطنِ أصابعه ويمسَحُ كفيه براحتيه، ولا يُسَنُّ مسحُ ذراعيه إلى المرفقين، بل يقتصر في المسح إلى الكوعين، هذا هو الصحيح والمشهور من مذهبه. قال الترمذي: وهو قولُ غير واحد من أهل العلم من الصحابة والتَّابعين، منهم علي وعمَّار وابن عبَّاس وعطاء والشعبي وإسحاق، واختاره ابن المنذر، وأهل الظاهر، وهذا هو قول فقهاء الحديث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيِّم، والشوكاني، وعليه العمل عند علماء الدعوة السلفية في نجد. وذلك لما جاء في البخاري (347) ومسلم (368) من حديث عمَّار: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ بيديه الأرض ضربةً واحدةً، ثمَّ مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه". وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّ التيمُّم ضربتان، يمسح بإحداهما وجهه، وبالأخرى يديه إلى مرفقيه. واستدلُّوا بحديث الباب: "التيمُّم ضربتان، ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين"، ومثله عند الدَّارقطني عن جابر. قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفةٌ جِدًّا، ولم يُورِدْ منها أصحاب السنن إلاَّ حديثَ ابن عمر، وقال أحمد: ليس بصحيح عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. وعلى فرضِ صلاحية تلك الأحاديثِ للاستدلال، فلا تُعارِضَ ما في الصحيحين. ***

111 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِيْنَ, فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ" رَوَاهُ الْبَزَّارُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ, وَلَكِنْ صَوَّبَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِرْسَالَهُ (¬1)، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُهُ, وَصَحَّحَهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وله شاهد أشار إليه المؤلِّف وصحَّحه وروى هذا الشَّاهد أحمد (20863)، والترمذي (124)، وأبو داود (333)، والنسائي (420)، والدَّاراقطني، والحاكم، وغيرهم، وصحَّحه الترمذي، وابن حبَّان، والدَّارقطني، وأبو حاتم، والحاكم، والذهبي، والنووي، وابن دقيق العيد. * مفردات الحديث: - الصعيد: وجهُ الأرض البارز، ترابًا كان أو غيره. - عشر سنين: المقصودُ منه: المبالغةُ دون التحديد. - فليمسه بشرته: فليجعلِ الماءَ يصيبُ بدنه بالتطهُّر به، لمستقبل العبادة. - البَشَرة: بفتح الباء والشين: ظاهر الجلد. ¬

_ (¬1) البزار (310 كشف الأستار)، الدَّارقطني (1/ 187). (¬2) الترمذي (124).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية التيمُّم عند فقد الماء، وعدم حصوله. قال الشيخ تقي الدِّين: من امتنع عن الصلاة بالتيمُّم، فإنَّه من جنس اليهود والنَّصارى؛ فإنَّ التيمُّم لأمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة. 2 - أنَّ التيمُّم طهورٌ، وكافٍ عن الماء في رَفْع الأحداث، مهما طالتِ المدَّة عند عدم الماء. 3 - جواز التيمُّم على جميع ما تصاعَدَ على وجه الأرض، من أيِّ نوعٍ من أنواع التربة، وعلى كلِّ ما على الأرض مِنْ طاهرٍ، من فرش ولبد وحيطان وصخور وغيرها، وسيأتي الخلافُ في ذلك، إنْ شاء الله تعالى. 4 - أنَّ التيمُّمَ رافعٌ للحديث وليس مبيحًا فقط؛ فإنَّه -عليه الصلاة والسلام- سَمَّاه وَضُوءًا، وهو قول كثير من أهل العلم، ومذهب الإمام أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو القياس. قال الشيخ تقي الدِّين: وعليه يدل الكتاب والسنَّة والاعتبار. 5 - إذا وُجدَ الماء، بَطُلَ التيمُّم؛ فيجب على المسلم العُدُولُ عن التيمُّم إلى استعمال الماء، لما يُسْتَقْبَلُ من العبادات التي مِنْ شرطها الطهارة؛ وذلك أنَّ وجود الماء يرفع استصحاب الطهارة التي كانت بالتراب، كما هو المفهوم من الحديث. 6 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عشر سنين" ليس توقيتًا لنهاية مدَّه التيمم، وإنَّما مثالٌ لطول المدَّة. 7 - إذا وجد المتيمِّم الماء، وجب عليه أنْ يُمِسَّهُ بشرفه للمستقبل من الصلاة، ونحوها من العبادات؛ لأنَّ الله تعالى جعله قائمًا مَقَامَ الماء، فلا يخرجُ عنه إلاَّ بالدليل. 8 - قال شيخ الإسلام: التيمُّمُ يقومُ مقام الماء مطلقًا، ويبقى بعد الوقت كما تبقى

طهارةُ الماء بعده، وهذا القولُ هو الصحيح؛ وعليه يدل الكتاب والسنَّة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل التيمُّم يرفع الحدث أو لا يرفعه؟: فذهب الحنابلة وغيرهم: إلى أنَّه مبيحٌ لا رافعٌ. واستدلُّوا على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا وجد الماء، فليتق الله وَلْيُمِسَّه بشرته" وقالوا: إنَّ هذا دليل على أنَّ المتيمِّم إذا وجد الماء، وجب عليه إمساسه بشرته، لما سلف من جنابة عليه؛ فإنَّ التيمُّم لم يرفع حدثه، وإنَّما أباح له فعل ما شُرِعَتِ الطهارة له، وأمَّا الحدثُ فباقٍ عليه. وذهب بعضهم، ومنهم الحنفية: إلى أنَّ التيمُّم قائم مقام الماء في كلِّ أحواله، وأنَّه بدَلٌ عنه، والبدل له حكم المُبْدَلِ منه؛ وبناءً عليه: فهو رافعٌ للحدث من الجنابة، فيصلِّي به ما شاء من الأوقات، فإذا وجد الماء بطل تيمُّمه لما يستقبله من عبادة؛ لأنَّ الله تعالى جعله بدلًا من الماء، فحُكْمُه حُكْمُه. ومن أجل هذا قال شيخ الإسلام: إنَّ الخلاف بينهما خلافٌ لفظي؛ ذلك أنَّ الَّذين قالوا: لا يرفع الحدث، لم يوجبوا عليه الإعادة عند القدرة على استعمال الماء، والَّذين قالوا: يرفع الحدث، إنَّما قالوا: يرفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع: أنَّ التيمُّم يبطل بالقدرة على استعمال الماء. ***

112 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ, فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءً، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا, ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ, وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ, ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ؟ فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ: لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث اختلف العلماء في وصله وإرساله، والصواب أنَّه مرسل. فقال في التلخيص: رواه أبو داود، والدَّارمي (1/ 207)، والحاكم (1/ 286)، والدَّارقطني (1/ 188) موصولاً، ورواه النسائي (433)، وابن المبارك، والطبراني في الأوسط (8/ 48) مرسلاً. وقال موسى بن هارون: رفعه وهمٌ؛ فإنَّ ابن نافع يدوِّن عن عطاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا. وله شاهدٌ مرفوعٌ عن ابن عبَّاسٍ، إلاَّ أنَّ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيفٌ لسوء حفظه. * مفردات الحديث: - فحضرت الصلاة: دخل وقتها. - صعيدًا: الصعيد: وجه الأرض. ¬

_ (¬1) أبو داود (338)، النسائي (433).

- طيباً: طهورًا مباحًا. - أصبتَ السُّنَّة: الطريقةَ الشرعية، أي: فِعْلُكَ صحيحٌ، موافقٌ للطريقة الشرعية التي سنَّها النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. - أجزأتك: يقال: أجزأه إجزاءً: إذا كفاه وأغناه، والمعنى: كفتك صلاتك. - لك الأجر مرَّتين: أجرٌ للصلاة الأولى، وأَجْرٌ للصلاة الثانية، ولكنَّ إصابة السنَّة أفضلُ من ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعيَّة التيمُّم، واستقرارُ أمره لدى المسلمين في عهد النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - فَقْدُ الماء هو أحدُ عُذْرَيِ الطهارة بالتيمُّم؛ كما قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. 3 - جوازُ التيمُّم على ما تصاعد على وجه الأرض من أي تربة كانت، وعلى أي شيء طاهر على ظهر الأرض؛ لعموم الحديث، وعدم تخصيصه بشيء. 4 - لابد من طهارةِ ما يُتيَمَّمُ به مِنْ ترابٍ أو متاع، فلا يصحُّ التيمُّم بنجس؛ لقوله: {صَعِيدًا طَيِّبًا}. 5 - أنَّ مَنْ صَلَّى بالتيمم عادمًا للماء، ثمَّ وجده بعد الصلاة، لم يعدها، فقد أجزأته صلاتُهُ وأصابَ السُّنَّة؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مذهب الأئمة الأربعة. وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا وجد الماء، فليتق الله ولْيُمِسَّه بشرته" فهذا عامٌّ فيما قبل الصلاة الحاضرة ولما بعدها، إلاَّ أنَّه إن كان قد صلَّى بالتيمم عادمًا للماء، فصلاته صحيحة ولا يعيدها، ويبقى إمساسُ البشرة بالماء لما يستقبل من العبادات التي يشترط لصحتها الطهارة. 6 - أمَّا المعيد فله أجران: أجر الصلاة بالتيمُّم، وأجر الصلاة بالماء، ولكنَّ إصابةَ السُّنَّةِ أفضلُ من الإعادة. 7 - جوازُ الاجتهاد في مسائل العلم في زمن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنَّ أرجحَ الأقوال: أنَّ

الاجتهاد لا يكون في زمنه إلاَّ في حالِ غيبتِهِ، وبُعْدِهِ عن مكان المستفتي. 8 - اختلَفَ العلماء في جواز التيمُّم بجميع ما تصاعد على وجه الأرض: فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى أنَّه لا يصح التيمُّم إلاَّ بتراب له غبار؛ واحتجا بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وما ليس له غبار لا يَعْلَقُ باليد منه شيء، فلا يجوزُ التيمُّم به؛ كما احتجا بما رواه مسلم من حديث حذيفة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وجعلت لنا الأرضُ مسجدًا، وجُعلت تربتها لنا طهورًا". وذهب الإمامان أبو حنيفة، ومالك: إلى جواز التيمُّم بكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض، سواءٌ كانت ذاتَ غبار أو غير ذات غبار؛ كالرمل، والحصى، والسباخ، والرطب، واليابس، ومحروق، وحجر، وحشيش، وشجر، وعلى ما عليها من فرش، وحيوان، وغير ذلك، فلا يستثنيان شيئًا ممَّا على وجه الأرض. وذهب إلى هذا الأوزاعيُّ، وسفيان الثوري. قال النووي: وهو وجهٌ لبعض أصحابنا. وهو الروايةُ الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وابن القيم، واستظهرها ابن مفلح في الفروع، وصوَّبها في الإنصاف؛ لقوله تعالي: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". فعموم النصوص تفيدُ جوازَ التيمُّم بجميعِ ما تصاعَدَ على وجه الأرض. ***

113 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، قَالَ: "إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْقُرُوحُ فَيُجْنِبُ, فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إِنْ اِغْتَسَلَ، تَيَمَّمَ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا, وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. قال الحافظُ في التلخيص: الصوابُ وقفه، قلت: والصوابُ: أنَّ له حكم الرفع؛ لأنَّ هذا ممَّا لا مجال للرَّأي والاجتهاد فيه، وقال البزَّار: لا نعلم أحدًا رفعه عن عطاء من الثقات إلاَّ جرير بن حازم، وقال أحمد، وابن معين، والعقيلي: إنَّ جريرًا سمع من عطاء بعد اختلاطه؛ ولذا لا يصح رفعه. * مفردات الحديث: - الجراحة: الجُرْحُ: هو الشَّقُّ في البدن، جمع الجُرْحِ: جروح، وجمع الجريح: جَرْحَى. - مرضى: جمعُ مريض، قال القرطبي: المرَضُ: عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال. أهـ. والمراد هنا: المرض الذي يخشى معه التضرُّر من استعمال الماء. - أو على سفر: "أو" حرف عطف، والجار والمجرور متعلِّق بمحذوف، معطوف على خبر "كنتم"، وهو قوله: "مرضى". - القروح: جمع قرح، وهي: الجروح والشقوق من أثر السلاح، ومن مرض، ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1/ 138)، الدَّارقطني (1/ 177) والحاكم (1/ 165).

كالبثور التي تخرج في البدن. - يُجْنِب: بضم أوله، من أجنب، أي: صار جنبًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تفسير ابن عبَّاس للآية بأنَّ من به قروحٌ، مثالٌ للضرر المبيح للتيمُّم، وإلاَّ فكلُّ مرض يبيحُ التيمُّم، ولو لم يصل استعمال الماء إلى الموت، وإنَّما يصل إلى الضرر فقط. 2 - قال العلماء: مَنْ خاف باستعمالِ الماء ضَرَرَ بدنه مِنْ مرض يخشى زيادته، أو بُطْءَ بُرْئه، أو بقاءَ أثره، ونحو ذلك، فإنَّه يعدل عن استعمال الماء في الوضوء، أو الغسل، إلى التيمُّم حتَّى يبرأ. أمَّا العذر بعدم الماء: فقد تقدَّم في أحاديث جابر، وعمَّار، وأبي هريرة، وأبي سعيد. 3 - أنَّ السفر غالبًا يكون معه العذر إلى التيمُّم، ذلك أنَّهم كانوا ما يحملون معهم في سفرهم إلاَّ القليل من الماء، الَّذي يكونُ بقدر شربهم، وإصلاح طعامهم، فيتيمَّمون لصلاتهم؛ ولكن السفر نفسه ليس مبيحًا للتيمُّم؛ فلا يجوز للمسافر الَّذي يجدُ الماء، ولا يخاف الضرر باستعماله: أنْ يتيمَّم، بل يجبُ عليه الوضوءُ للصلاة، ولا يَحِلُّ له أنْ يصلِّي بطهارة تيمُّم. ***

114 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلِّف في التلخيص: رواه ابن ماجه، والدَّارقطني (1/ 226)، وفي إسناده الواسطيّ، وهو كذاب، قال المروزي: سألت أحمد عنه؟ فقال: باطل ليس بشيء. قال البغوي، والنووي: اتفق الحفَّاظ على ضعف هذا الحديث، وفي معناه أحاديث أُخر، قال البيهقي: لا يثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب شيءٌ، وأصح ما فيه حديث جابر، بل صحَّحه ابن السكن، وسيأتي بعد هذا الحديث؛ فيكون عاضدًا لهذا، وصحَّح البيهقي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّه توضَّأ وكفُّه معصوبة، فمسَحَ عليها وعلى العصابة، وغسَلَ ما سوى ذلك. * مفردات الحديث: - زَنْدَيّ: بفتح الزاء المعجمة، وسكون النون، ثُمَّ دال مهملة مفتوحة، وآخره ياء مشدَّدة مثناة تحتية: تثنية زند، الزندان: هما الساعد والذراع، فالأعلى منهما هو الساعد، والأسفل منهما هو الذراع، وطرفهما الذي يلي الإبهام هو الكُوع، والَّذي يلي الخنصر هو الكُرْسُوع، والرُّسْغ -بالغين المعجمة- مجتمع الزندين من أسفل، والمرفق: مجتمعهما من أعلى. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (657).

- الجبائر: جمع جبيرة، وهي ما يُجْبَرُ به العظمُ المكسور، من خرقة تُلَفَّ عليه، أو أعوادٍ تُشَدُّ عليه، أو غير ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه مشروعية المسح على الجبيرة، والجبيرةُ: كلُّ ما وضع على كسر أو جرح من أخشاب أو جبس أو خِرَق أو غير ذلك، تربط على الكسر أو الجرح. 2 - المسحُ على الجبيرة يخالفُ المسحَ على الخفَّيْنِ وعلى العمامة والخمار ببعض الأحكام، وقد تقدَّمت في باب المسح على الخفين، ونعيدها هنا وهي: (أ) يمسحُ على الجبيرة بالحدَثَيْنِ الأكبر والأصغر؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار: ففي الأصغر فقط. (ب) أنَّ مسح الجبيرة يمتد حتَّى يبرأ الجرح أو الكسر؛ بخلاف الخف ونحوه: فالمسح يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيَّام ولياليها للمسافر. (ج) أنَّه يمسح على الجبيرة كلِّها، عند المالكية والشافعية والحنابلة، وقال الحنفية: يكفي مسح أكثرها؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار: فعلى بعضه، وتقدَّمت صفته. (د) الصحيح من قولي العلماء: أنَّه لا يشترط في الجبيرة ربطها على طهارة؛ بخلاف الخف والعمامة والخمار. هذه أهم الأحكام التي تفارق الجبيرةُ فيها كلَّ واحد من الخفين والعمامة والخمار، وهي راجعةٌ إلى أنَّ مسح الجبيرة مَسْحُ ضرورة، لا يمكنُ قياسها على الخفين، وأمَّا ما عداهما فمسحُهُ رخصةٌ وسهولةٌ وتيسير. 3 - هذا الحديثُ والَّذي بعده مِنْ أدلَّةِ مشروعية المسح على الجبيرة، وسماحةِ أحكامِ الشريعة.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في التيمم عمَّا تحت الجبيرة: فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد: إلى الاكتفاء بالمسح؛ فلا يجب التيمُّم معه. وذهب الإمام الشافعي: إلى التيمُّم عمَّا تحت الجبيرة، مع المسح عليها. والقولُ الأوَّل أصحُّ؛ إذ لا يجمع بين مبدل ومبدل منه. ولعلَّ القول بمذهب الشَّافعي هو الذي حمَلَ المؤلِّف على ذكر هذا الحديث هنا. ***

115 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- فِي الرَّجُلِ الَّذِي شُجَّ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ, وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً, ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ, وَفِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى رُوَاتِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. رواه أبو داود (336) وابن ماجه (572)، وقد تفرَّد به الزبير بن خريق. قال الدَّارقطني: وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي؛ فرواه عن عطاء، عن ابن عباس، وهو الصواب، وقال الدراقطني: اختلف فيه على الأوزاعي، والصواب: أنَّ الأوزاعي أرسل آخره عن عطاء، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الأوزاعي لم يسمع هذا الحديث عن عطاء، وإنَّما سمعه من إسماعيل بن مسلم، عن عطاء. * مفردات الحديث: - شُجَّ: بضم الشين المعجمة، مبني للمجهول من شجَّهُ يَشِجُّهُ بكسر الشين وضمها، والشجة: هي الجرحُ في الرأس والوجه خاصَّة. - يعصب: يشدُّ العصابة على رأسه، والعصابةُ: هي العمامة. - خرقة: بكسر الخاء، وسكون الرَّاء: القطعة من الثوب الممزَّق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قصة الحديث: قال جابر: خَرَجْنا في سفر، فأصاب رجلًا منَّا حجرٌ فشجَّه ¬

_ (¬1) أبو داود (336).

في رأسه، ثمَّ احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمُّم؟ قالوا: لا، ما نجدُ لك رخصةً وأنت تَقْدِرُ على الماء، فاغتسَلَ فمات، فلمَّا قدمنا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، أُخْبِر بذلك؟ فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا؛ فإنَّما شفاء العي السؤالُ؛ إنَّما كان يكفيه أنْ يتيمَّم، ويعصب على جرحه خرقة، ثمَّ يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". 2 - هذا الحديثُ يوافقُ القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ولا يخالفُ صحيح سُنَّة في جواز المسح على الكسور والجروح، وإنَّما الحديث ضعيف؛ فقد ضعَّفه البيهقي، وقال: لا يثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب شيء، وضعَّفه الحافظ هنا فقال: رواه أبو داود بسندٍ ضعيف، ولكن كما تقدَّم له ما يَعْضُدُهُ. 3 - يدل الحديث على مشروعية المسح على الجبيرة، سواءٌ كانت على جرح أو كسر، وهي عزيمةٌ وليست رخصة. 4 - أنَّ الواجب المسحُ على كلِّ الجبيرةٍ، وليس على بعضها؛ كالخفين. 5 - غسلُ بقيَّة بدنه الَّذي لم تصبه الجراح؛ ولذا قال بعض العلماء: إنَّه قد يجتمع في الجبيرة على العضو الواحد ثلاثة أمور: غسلٌ ومسحٌ وتيمُّم، فالغسل للبارز من العضو، والمسح لما فوق الجرح من جبيرة، والتيمُّم لما غطته الجبائر من الصحيح الَّذي تعدَّى قدر حاجة الربط، ويخشى الضرر بنزعه، ولعلَّ هذا هو المرادُ من الحديث الَّذي جَمَعَ التيمُّم والمسح والغسل، وهذا على القول الرَّاجح من أنَّ ما تحت الجبيرة لا يتيمَّم عنه بل يمسح فقط؛ كما هو مذهبُ الجمهور الذي بينَّاه في الحديث السَّابق. ***

116 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مِنْ السُّنَّةِ: أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً, ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ الْأُخْرَى" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلِّفُ: رواه الدَّارقطني بإسنادٍ ضعيف جدًّا؛ لأنَّه من رواية الحسن ابن عمارة، وهو ضعيف جدًا، وفي الباب موقوفاً عن علي رواه الدَّارقطني، وفيه حجَّاج بن أرطأة والحارث الأعور، وعن ابن عمر رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب، وعن عمرو بن العاص رواه الدَّارقطني، وفيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو. * مفردات الحديث: - من السُّنَّة: يعني: سنَّة النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فله حكم الرفع. - إلاَّ صلاةً: المستثنى هنا منصوب على أنَّه مفعول به؛ لأنَّ الفعل واقعٌ عليه، فهو مستثنى من كلام ناقص منفي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا قال الصحابي: من السنَّة كذا؛ فالحديث له حكم الرفع؛ لأنَّهم لا يريدون بالسنَّة إلاَّ سنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - لا يجوز للمتيمِّم أنْ يصلِّي بالتيمُّم الواحد إلاَّ صلاةً واحدة، هذا هو ما يفهم من هذا الحديث، وسيأتي تحقيقُ المسألة قريبًا، إنْ شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 185).

3 - يجب على المتيمِّم أنْ يتيمَّم للصلاة الأُخرى تيمُّمًا آخر. 4 - عمومُهُ يفيد وجوب التيمُّمِ للصلاة الأخرى، سواءٌ كانت الصلاتان في وقتٍ واحدٍ، أو كل واحدةٍ منهما في وقت. 5 - من يرى هذا الرَّأي يعلَّل بأنَّ طهارة التيمُّم إنَّما هي طهارةُ ضرورة، أُبيحَتْ بها العبادةُ فقطْ، وإلا فليستْ رافعةً للحديث كالوضوء بالماء. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل التيمُّم يرفع الحدث كالماء، أم أنَّه مبيح للصلاة ونحوها إلى حين القدرة على الماء، وأمَّا الحدث فقائمٌ بحاله؟: وذهب إلى أنَّه رافع مطلقًا: أبو حنيفة؛ وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وابن الجوزي. وذهب مالك، والشَّافعي، وأحمد في المشهور عنه: إلى أنَّه غير رافع بل مبيح فقط؛ ولذا يجبُ أنْ يتيمَّم لوقت كلِّ صلاة؛ فإنَّ تيمُّمه يبطُلُ بدخول وقت الثانية. والصحيحُ دليلًا هو القولُ الأوَّل. قال في الشرح الكبير: القياسُ أنَّ التيمُّم بمنزلة الطهارة حتَّى يجد الماء أو يُحْدِث؛ وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي؛ لأنَّها طهارة تبيح الصلاة، فلم تقدَّر بالوقت كطهارة الماء. أهـ. قال الإمام أحمد: القياسُ أنَّ التيمُّم بمنزلة الطهارة حتَّى يجد الماء. قال في الإنصاف: اختاره الشيخ؛ وهو أصحُّ. أمَّا الحديث الذي معنا فضعيفٌ، قال الحافظ: رواه الدَّارقطنىُّ بإسنادٍ ضعيف جدًّا. لذا فإنَّ الصحيحَ هو أنَّ المتيمِّم يصلِّي بالتيمُّم الواحد ما شاء من فروض ونوافل، ويستبيحُ به كلَّ ما يستبيحُ بطهارة الماء، حتَّى يجدَ الماء، أو يحصُلَ له ناقضٌ من نواقض الوضوء.

باب الحيض

باب الحيض مقدمة يُقال: حاضتِ المرأةُ تحيضُ حَيْضًا ومَحِيضًا، فهي حائض: إذا جرى دمها، والتَّاء المربوطة تلحق الصفات تفرقةً بين المذكر والمؤنث؛ ولكن الأوصاف الخاصَّة بالنِّساء لا تلحقها إلاَّ سماعًا، فلا يُقال: حائضة بل حائض. والحيض لغة: السيلان، من قولهم: حاض الوادي: إذا سال. وشرعًا: دمُ طبيعةٍ وجِبِلَّةٍ يُرْخِيهِ الرحم، يعتاد امرأةً بالغةً في أوقاتٍ معلومة. قال الأطباء في تحليل الحيض (علميًّا): الدورة الطمثية (الحيض) تستغرقُ ثمانيةً وعشرين يومًا، يبدأ اليومُ الأوَّل من النزيف في أوَّلِ أيامِ الدورة، وفي اليوم الخامس عندما يتوقَّف النزيف تبدأ كرات دقيقة في النمو بفعلِ تنشيطِ الهرمونات المنطلقة من الغدة النُّخَاميَّة الموجودة داخلَ المخ، أمَّا في اليوم الرّابع عشر من الدورة الشهرية فيكون الرحم قد أعد نفسه لاستقبال بيضة مخصَّبة للحمل، وينخفضُ مستوى الهرمونات عمَّا كان عليه في بداية الدورة، ويحلُّ محلَّها هرمونٌ آخر يعرف باسم الجعرون، وترتفع نسبة هذا الهرمون ويبقى في حدوث الحمل، بينما تنخفضُ النسبة إذا لم يحدث الحمل، ويتقاطر الدمُ داخلَ الرحم فيحدثُ الطمث (الحيض)، أمَّا إذا وقع الحملُ، فلا يحدثُ الطمث (الحيض). والأصل في الحيض: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:

قال تعالي: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. وأمَّا السنَّة: فمستفيضة، ومنها الأحاديث الثلاثة، التي قال شيخ الإسلام: إنَّ أحكام الحيض تدور عليها، وهي: 1 - حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش. 2 - حديث أم حبيبة بنت جَحْش. 3 - حديث حَمْنَة بنت جَحْش. وأجمع العلماء عليه وعلى أحكامه في الجملة. وستأتي أكثرُ أحكامه مفصَّلة، إنْ شاء الله تعالى. ***

117 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي مِنَ الصَّلَاةِ, فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ, وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ (¬1). وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: "ولِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ, فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ الْمَاءِ, فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا, وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا, وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا وَاحِدًا, وَتَتَوَضَّأْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد رواه أبو داود والنسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم. وقال في المحرَّر: قال الدَّارقطني: رواته كلهم ثقات، وقال الحاكم: على شرط مسلم. قال في التلخيص: رواه مسلم في الصحيح (333) دون قوله "وتوضئي"، وقال البيهقي: "وتوضئي" زيادة غير محفوظة، وكأنَّ مسلمًا ضعَّف هذه الرِّواية لمخالفتها سائر الروايات. ¬

_ (¬1) أبو داود (286)، والنسائي (216)، ابن حبان (4/ 180)، والحاكم (1/ 174). (¬2) أبو داود (296).

وأمَّا حديث أسماء، فقال الحاكم والذهبي: إنَّه على شرط مسلم. * مفردات الحديث: - تُستحاض: الاستحاضة: هي سيلانُ الدمِ في غير أوقاته المعتادة، ويخرُجُ نتيجةَ ورمٍ أو التهاب أو غير ذلك من الأمراض في الرحم، أو في عُنُقِ الرحم، أو في المهبل، أو انفتاح شرْيان، وقد يكون خروجه بسبب تناوُلِ شيءٍ من العقاقيرِ والحبوب أو حالاتٍ نفسية. - مِرْكَن: المِرْكَنُ، بكسر الميم، وسكون الرَّاء الموحَّدة، وفتح الكاف، بعدها نون: وعاءٌ تُغسل فيه الثيابُ، جمعه مَرَاكِن. - صفرة: الصفرةُ لون دم الحمرة. - ذلِكِ: بكسر الكاف: خطابٌ للمرأة التي تشتكي إليه، ويجوزُ فتح الكاف على اعتبار الخطابِ العامِّ. - أمسكي عن الصلاة: يُقال: أمسَكَ يُمْسِكُ إمساكًا، أي: كفَّ عنه، والمعنى: كُفِّي عن الصلاة واتركيها؛ كما جاء في رواية البخاري (228)، ومسلم (333): "فاتركي الصلاة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيانُ دمِ الحيض، وإثباتُ حكمه، وسيأتي إنْ شاء الله، ودمُ الحيض: دمٌ طبيعيٌّ عادي، نتيجة عملية "فسيولوجية"، نابعةٌ من الدورة الرحمية بسبب الهرمونات التي تؤثِّر على الرحم، والتي يفرزها المبيض، والمبيض متأثرٌ بهرمونات الغدة النخامية التي تتحكم فيه، والغدة النخامية تتأثَّر بأوامر صادرة إليها من منطقة في الدماغ تحت "المهاد". 2 - وجودُ الاستحاضة في بعض النساء، وبيانُ أحكامها. 3 - أنَّ المرأة إذا أصيبتْ بالاستحاضة، وأطبَقَ عليها الدم، فإنَّها تميِّز أيام حيضها بلونِ دمِ الحيض الأسود، بينما دَمُ الاستحاضة أحمَرُ مُشْرِقٌ.

4 - أنَّها تمسك عن الصلاة، فلا تصلِّي في تلك الأيَّام التي يكونُ فيه دمها أسود، فإذا تغيَّر الدم من السواد إلى الحمرة، فذلك علامة طُهْرِها من الحيض، فتتوضَّأ وتصلِّي؛ لأنَّها أصبحت طاهرة. 5 - أنَّ دم الاستحاضة ليس له حُكْمُ دم الحيض، من ترك الصلاة ونحوها، وإنَّما هو دَمُ مرضٍ تكونُ معه المرأة طاهرةً، تفعل كلَّ ما يفعله النساء الطاهرات من الحيض. 6 - أنَّ المستحاضة معها نوعُ مرض، فعليها أنْ تغتسل لكلِّ صلاتين غسلًا واحدًا؛ فالظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، والفجر بغسل، وسيأتي بيان خلاف الفقهاء في هذا. 7 - أنَّها تتوضأ لكلِّ صلاة؛ لأنَّها في حكم مَنْ حَدَثُهُ دائمٌ لا ينقطع. 8 - قال الفقهاء: إذا كانتِ المستحاضة لها عادةٌ مستقرَّة تجلس أيام عادتها؛ لأنَّ العادة أقوى من غيرها، فإنْ لم تعلَمْ عادتها، عَمِلَتْ بالتمييز الصالح، بأنْ يكونَ بعضُ دمها أسود أو ثخينًا أو منتنًا، فإنْ لم يكن لها تمييزٌ صالح، فتجلس غالب الحيض، وهو ستٌّ أو سبع. 9 - مَنْ به حدثٌ دائم -كاستحاضة، أو سلس بولٍ، أو مذي، أو ريح، أو جرح لا يرقأ دمه -فعليه أنْ يغسل وجوبًا النجاسةَ ومحلَّها، ويتوضَّأ لوقت كل صلاة إنْ خرج شيء، ويستحبُّ غسل مستحاضة لكلِّ صلاة. 10 - وجوبُ غسل الدم لصلاة؛ لأنَّ الدم نجسٌ بالإجماع. 11 - الطهارةُ من النجاسة؛ لأنَّها شرط لصحة الصلاة. 12 - في الحديث أنَّ المرأة مقبولٌ قولها في أحوالها، من الحمل، والعدَّة وانقضائها، ونحو ذلك. 13 - أنَّ المستحاضة تصلِّي، ولو مع جريان الدم؛ لأنَّها طاهرة. 14 - أن الصلاة تجب بمجرَّد انقطاع دم الحيض.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في وجوب غُسْل المستحاضة لكلِّ صلاة: فذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو مرويٌ عن علي، وابن عبَّاس، وعائشة: إلى أنَّه لا يجب؛ استصحابًا للبراءة الأصلية. وأجابوا عن أحاديث الأمر بالغسل أنَّه ليس فيها شيء ثابت. قال الشيخ صِدِّيق في شرح الروضة: لم يأت في شيء من الأحاديث إيجابُ الغسل لكلِّ صلاة، ولا لكلِّ صلاتين، ولا في كل يوم، بل الَّذي صحَّ إيجابُ الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد، أو عند انقضاء ما يقومُ مقامَ العادة من التمييز بالقرائن؛ كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، فإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم وصلي". وأمَّا ما في مسلم (334)، بأنَّ أمَّ حبيبة بنت جحش كانت تغتسل لكلِّ صلاة، فلا حجَّة في ذلك؛ لأنَّها فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، بل قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثمَّ اغتسلي". وقد وَرَدَ الغسلُ لكلِّ صلاة من طرق لا تقومُ بمثلها حجَّة، لا سيَّما مع معارضتها لما ثبت في الصحيح، ومع ما في ذلك من المشقَّة العظيمة، والشريعةُ سمحةٌ سهلةٌ؛ قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وذهب بعضهم: إلى وجوب الغسل على المستحاضة لكلِّ صلاة؛ عملًا بأحاديث وردت في بعض السنن. والأوَّل أرجح؛ فقد قال شيخ الإسلام: والغسلُ لكلِّ صلاةٍ مستحبٌّ، ليس بواجبٍ عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بل الواجبُ عليها: أنْ تتوضَّأ لكلِّ صلاة من الصلوات الخمس عند الجمهور. ***

118 - وَعَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: "كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدَةً, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْتَفْتِيهِ, فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً أَيَّام، ثُمَّ اغْتَسِلِي, فَإِذَا اسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ, أَوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ وَصُومِي وَصَلِّي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكَ, وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي كُلَّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ, فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ, ثُمَّ تَغْتَسِلِي حِينَ تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا, ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءِ, ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ، قَالَ: وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَحَسَّنَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجه الحديث: الحديث حسن. رواه الخمسة إلاَّ النسائي، وصحَّحه الترمذي، وحسَّنه البخاري، كما صحَّحه جماعةٌ آخرون: منهم ابن المنذر وابن العربي والشوكاني في السيل الجرَّار، كما نُقِلَ صحَّته عن الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه. * مفردات الحديث: - حمنة: بفتح الحاء وسكون الميم: بنت جحش الأسدية، صحابية. ¬

_ (¬1) أحمد (26928)، أبو داود (287)، الترمذي (127)، وابن ماجة (627).

- أُستحاض: بضم الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثنَّاة الفوقية، يُقال: اسْتُحِيضَتِ المرأةُ، موضوعٌ على صيغة المبني للمفعول من حيثُ ضَمُّ أوله وسكونُ ثانيه، فالمرأة هي المستحاضة. - حَيْضة: بفتح الحاء، وهو اسم مصدر أستحاض، فالحيضةُ بالفتح: المرَّة الواحدة، وبالكسر: اسمٌ للهيئة. - كثيرة شديدة: كثيرة في المدَّة، شديدة في الكيفية. - رَكْضَة: بفتح الزاء، وسكون الكاف، بعدها ضاد معجمة، ثمَّ تاء، وأصل الركض الضرب بالرِّجْل؛ ومنه قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]؛ فهي إصابة لَبَّس الشيطان بها على هذه المرأة المؤمنة في أمر دينها. - استنقأتِ: قال أبو الوفاء: كذا وقع في هذه الرواية بالألف، والصواب واستنقَيْتِ؛ لأَنَّه من نقى الشيء وأنقيته: إذا نظفته، ولا وجه فيه للألف والهمزة، فالنقاء: هو الطهر بانقطاع الدم. - فتحيضي: اجعلي نفسك حائضًا، يُقال: تحيضت المرأة أمسكت أيام حيضتها عن الصلاة والصوم. - وذلكِ ... و: بكسر الكاف: خطابٌ للأنثى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه وجودُ المستحاضات زمن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فكن يأتينه -عليه الصلاة والسَّلام- ويسألنه فيرشدهنَّ إلى ما شرعَ اللهُ في حقِّهنَّ، فكذا ينبغي لنساء المسلمين أنْ يسالنَ العلماء فيما يشتبه عليهنَّ في أمر دينهنَّ، حتَّى فيما يتعلَّق بالفروج. 2 - الاستحاضة ليسَتْ حيضًا طبيعيًّا، وإنَّما هو مرضٌ يصيب المرأة من الشيطان الَّذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويريد أنْ يلبس عليه عباداته بكلِّ ما أقدره الله مِنْ وسائلِ الأذى والمَضَرَّة. وهذه الركضةُ الشيطانية سمّاها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: "عِرْقًا"،

ويسمَّى هذا الشَّرْيان بالعاذل، وعلماءُ الطبِّ يفسِّرون الاستحاضة بأنَّها اضطراباتٌ تطرأ فتسبِّب هذا النزيف الَّذي ربما يكون حادًّا. قال الدكتور الطبيب محمد علي البار: الاستحاضة دم يخرُجُ من الرحم أو مِنْ عُنُقِ الرحم أو المهبل، نتيجةَ وجودِ ورمٍ حميد أو خبيث، أو وجودِ التهابٍ في عنق الرحم أو المهبل أو غير ذلك من أمراض هذا الجهاز، وقد يكون من استخدامِ العقاقير، ولعلَّ هذا السببَ الأخيرَ مِنْ أكثرها شيوعًا؛ إذ إنَّ استخدام العقاقير تمنع التجلط "التخثر"، هذه أهم أسباب الاستحاضة. 3 - المرأة المصابة بالاستحاضة التي لا تعرف عادةَ حيضها الأصلية، وليس لها تمييزٌ صالح تَعرِفُ به دمَ الحيض من دم الاستحاضة، فتتحيض بترك الصلاة والصيام ونحوهما عادةَ النساء في أيَّام الحيض، وهي ستَّةُ أيَّام أو سبعة، تعتبر نفسها فيهنَّ حائضًا، عليها أحكامُ الحائض. 4 - إذا أتمَّتِ المستحاضةُ عادةَ النساء، اغتسلَتْ غُسْلَ الحيض -ولو أنَّ لم الاستحاضة معها- فصلَّتْ أربعةً وعشرين أو ثلاثة وعشرين يومًا، وصامت، وأجزأها عن ذلك الصلاةُ والصيامُ الواجبان عليها؛ لأنَّها أصبحت في حكم الطاهرات من الحيض. 5 - تفعل هذه الصفة كلَّ شهر؛ لأنَّ العادة الغالبة عند النساء أنَّ شَهْرَها في الحيض والطهر ثلاثون يومًا، ستَّة أو سبعة منها حيض، والباقي طهر، فهذه أقرب حالةٍ لها، والغالب أنْ يكون شهرها شهرًا هلاليًّا. 6 - أنَّ دم الاستحاضة لا يمنع من الصلاة، ونحوها من العبادات الواجب لها الطهارةُ. 7 - أنَّ دم الحيض يمنع مِنَ الصلاة، ونحوها ممَّا يشترط له الطهارة من الحيض، وإنَّ الصلاة المتروكة زمَنَ الحيض لا تُقْضَى. 8 - أنَّ الدم نجسٌ يجبُ غسله بإجماعِ العلماء.

9 - جمهور العلماء لا يوجبون الغُسْلَ على المستحاضة، فليس لديهم ما يعتمدون عليه في وجوبه، وإنَّما استحبُّوه لها استحبابًا، فإذا أرادت المستحاضة أنْ تغتسلَ فبدلاً من أنْ تغتسِلَ لكلِّ صلاةٍ من الصلوات الخمس، ممَّا يسبِّب لها المشقَّة الكبيرة، لا سيَّما في زمن البرد -فإنَّ لها أنْ تؤخِّر الظهر إلى آخر وقتها، وتقدِّم العصر إلى أوَّل وقتها، وتصلِّيهما في وقتيهما بغسل واحد، وكذلك المغرب والعشاء، وهذا ما يسمَّى: الجمع الصُّورِيَّ، أمَّا الفجر: فلها غسل مستحب واحد لانقطاعها عمَّا قبلها وما بعدها من الصلوات الخمس، ولا شكَّ أنَّ الغسل فيه كمالُ النظافة لولا المشقَّةُ العظيمة. ***

119 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- "أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّمَ, فَقَالَ: امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ, ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ"، وَهِيَ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شَكَتْ: أخبرت النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التَّألُّم ممَّا أَلمَّ بها من هذا المرض. - امكثي: توقَّفي وانتظري قدر عادة حيضتك. * ما يؤخذ من الحديث: شكت أم حبيبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- استمرارَ خروجِ الدمِ منها، فأرشدَهَا إلى الأحكامِ الآتية: 1 - أنَّ المستحاضة تعتبر نفسها حائضًا قدر الأيَّام التي كان يأتيها فيها الحيض، قبل أنْ يصيبها ما أصابَهَا من الاستحاضة. 2 - إذا مضتْ قدر أيّام عادتها الأصلية، فإنَّها تعتبر طاهرةً من الحيض -ولو أنَّ دم الاستحاضة معها- فتغتسل من الحيض؛ فقد أصبحت طاهرةً من الحيض. 3 - أنَّ المستحاضة تعتبر ممَّن حدثُهُ دائمٌ لا ينقطع؛ وعليه: فيجب عليها الوضوء لكلِّ صلاة إنْ خرج منها ما ينقض الوضوء، وإلاَّ فهي باقيةٌ على طهارتها. 4 - أم حبيبة من حرصها -رضي الله عنها- على كمال الطهارة للعبادة؛ فإنَّها ¬

_ (¬1) البخاري (228)، ومسلم (334)، أبو داود (279).

تغتسل لكلِّ صلاة. 5 - قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: دم الاستحاضة مع دم الحيض مُشْكِلٌ، ولابدَّ من فاصلِ يميز بينهما، والعلامات ثلاث: الأولى: العادة؛ وهي أقوى العلامات؛ لأنَّ الأصل بقاء الحيض دون غيره. الثانية: التمييز؛ فإنَّ دم الحيض أسود ثخين، ودم الاستحاضة أحمر صافٍ. الثالثة: اعتبار عادة غالب النساء؛ لأنَّ الأصل إلحاق الفرد بالأغلب. فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنَّة والاعتبار، وهي مذهب الإمام أحمد؛ فإنَّ أحكام الحيض تدور على ثلاثة أحاديث: (أ) العادة الخاصَّة: يدل عليها حديث أم حبيبة بنت جحش. (ب) التمييز: يدل عليه حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش. (ج) عادة النساء الغالبة: يدل عليها حديث حمنة بنت جحش. 6 - إِذا زادت عادتها أو تقدَّمت أو تأخَّرت، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ ما تكرَّر ثلاثًا فهو حيض، ويصير عادةً لها، ولهم تفاصيل في صلاتها وصومها قبل التكرار، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنَّها تصير إليه من غير تكرار، واختاره الموفَّق وجَمْعٌ، وهو اختيار شيخ الإسلام. قال في الفائق: وهو المختار. وقال في الإنصاف: وهو الصواب، وعليه العمل، ولا يسع النساءَ العملُ بغيره. قال في الاختيارات: والمتنقِّلة إذا تغيَّرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال، فذلك حيض، حتَّى تعلم أنَّها مستحاضة باستمرار الدم. 7 - قال الشيخ المباركفوري: ما ذهب إليه جماعةٌ من الفقهاء من البحث

والتدقيقِ والتعقيدِ المُغْلَقِ الَّذي يبعد عن أفهام النِّساء وعقولهنَّ كل البعد، فهو ممَّا تأباه هذه الأحاديث وتمجُّه أصولُ الشريعةِ السمحة السهلة. 8 - ما أطلقة الشَّارعُ عُمِلَ بمقتضى مسمَّاه ووجوده، ولم يَجُزْ تقديره ولا تحديده؛ وهو اختيار كثير من الأصحاب، وكثيرٍ من أهل العلم وغيرهم، وصوَّبه في الإنصاف. 9 - لا حدَّ لأقل الطهر ولا لأكثره، فما دام الدم موجودًا فهو دم حيض، وما دام النقاء موجودًا فهو طهر؛ صحح ذلك في الكافي، وصوَّبه في الإنصاف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. ***

120 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ, وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الكُدْرَة: بضم الكاف، وسكون الدال المهملة، ثُمَّ راء مفتوحة، بعدها تاء، هي الَّلون الأحمر الَّذي يضرب نحو السواد، جمعه كُدَر. - الصُّفْرَة: بضم الصاد المهملة، وسكون الفاء الموحَّدة، ثمَّ راء مفتوحة، بعدها تاء، هي اللون الأحمر الذي يميل إلى البياض، فهو أحمر غير قانٍ يكون بلون الذهب. - شيئًا: أي: حيضًا تقعُدُ فيه المرأة عن الصلاة، ونحوها من العبادات. - الطهر: بضم الطاء، وسكون الهاء: انقطاع خروج دم الحيض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الماء الذي ينزل من فرج المرأة -بعد الطهر من الحيض- لا يعتبر حيضًا، ولو كان فيه الكدرة والصفرة المكتسبة من الدَّم. 2 - أمَّا إذا كان نزولُ هذه الكدرة والصفرة زمن الحيض والعادة، فإنَّه يعتبر حيضًا؛ لأنَّه دم في وقته، إلاَّ أنَّه ممتزجٌ بماء. 3 - هذا الحديث وأمثاله له حُكْمُ الرفعْ؛ لأنَّ الصحابية تحكي حال نساء الصحابة زمن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ووجوده عندهنَّ وإقراره لهنَّ. ¬

_ (¬1) البخاري (326)، أبو داود (307).

4 - فيه دليلٌ على أنَّ تغيُّر الدَّمِ إلى لونٍ آخر لا يشكِّك في أنَّه حيض، ما دام زمنه ووقته. 5 - قال في المغني: من رأت الدمَ في أيَّامِ عادتها صفرةً أو كدرةً، فهو حيضٌ، وإنْ رأته بعد أيام حيضتها، لم تعتد به؛ نصَّ عليه أحمد، وهو مذهب الثوري ومالك والشَّافعي؛ لأنَّ أمَّ عطيَّة قالت: "كنَّا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا" [رواه البخاري (326) وأبو داود (307)]. ***

121 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: "أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيْهَمْ، لم يُؤَاكِلُوْهَا, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اليهود: أبناء يعقوب، ويُسَمَّوْنَ العبرانيين أو الإسرائيليين، نسبةً إِلى أسباط إسرائيل، دينهم اليهودية، ونبيهم موسى -عليه السلام-، وكتابهم التوراة، كتابٌ أنزله الله تعالى على نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام- لكن قومه وأمته حرَّفوه من بعده. - يؤاكلوها: الأكل: إيصالُ ما يُمْضَغُ إلى الجوف، سواءٌ مضغه أو لا، والمؤاكلة: المشاركة في الأكل، ومعنى "لم يؤاكلوها" أي: لم يأكلوا معها بل يعتزلونها. - اصنعوا: يُقال: صنع يصنع صنعًا، أي: عمل الشيء، والمراد هنا مباشرة الرَّجل امرأته دون الفرج. - النكاح: المراد هنا الوطء. ¬

_ (¬1) مسلم (302).

122 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فأتزر: يعني: أَلْبَسُ الوِزْرَة، بكسر الواو، وهي كساء تستر به العورة وما حولها، جمعه وزرات. قوله: "فأتزر": هذا اللفظ الدَّائر على الألسن، قال المطرزي: وهو عاميٌّ، والصوابُ: ائتزر، بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة، وهكذا نص الزمخشري على خطأ من قال: "اتَّزَرَ" بالإدغام؛ لأنَّ التي تدغم هي الأصلية لا المنقلبة. - فيباشرني: يُقال: باشر الرجلُ زوجه: لامَسَ بشرتها، بإلصاق بشرته ببشرتها؛ مأخوذٌ من البَشَرة، وهي ظاهر الجلد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحائض طاهر: بدنها وعَرَقُهَا وثيابها، فتجوزُ مباشرتها وملامستها وقيامها بشؤون منزلها، مِنْ إعداد الطعام والشراب وغير ذلك. 2 - فيه وجوبُ مخالفة اليهود الَّذين لم يؤاكلوا المرأة الحائض ويعتزلونها. 3 - أنَّه يَحِلُّ من المرأة الحائض كل شيءٍ إلاَّ الجماع، فيجوزُ لزوجها أنْ يأمرها فتلبس إزارًا أو سروالاً قصيرًا أو طويلًا، ثُمَّ يباشرها في أي مكانٍ في بدنها، مادام ذلك في غير مكان الحيض، وهو الفرج. والاستمتاعُ بالحائض بما فوق السُّرَّةِ ودون الركبة، لا خلافَ في إباحته ¬

_ (¬1) البخاري (300)، مسلم (293).

عند الفقهاء، وإنَّما الخلاف فيما دون السرَّة وفوق الركبة، والآية الكريمة أمرتْ باعتزال المحيض فقطْ، وهو مكانُ الحيض، أي: الفرج؛ فقال تعالي: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، والحديث: "كل شيءٍ إلاَّ النكاح" رواه مسلم، يدل ذلك على إباحة جميع جسد الحائض إلاَّ موضع الأذَى. * مقارنة بين الأديان الثلاثة: اليهود: يرون المرأة الحائضَ رِجْساً نجسًا، فيعزلونها ويعتزلونها، فبدنها نجس، وثيابها نجسة، وفُرُشُها نجسة؛ فقد روى الإمام أحمد (11945) ومسلم (302) عن أنس: "أنَّ اليهود كانوا إِذا حاضَتِ المرأةٌ فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت". أمَّا النصارى: فلديهم التساهُلُ والتفريط، فإنَّهم يستحلُّون جماعها في فَرْجها على ما فيه من الأذى والدنس، وسيأتي قريبًا -إنْ شاء الله تعالى- بيانُ الجَماع في الحيض ومفاسده. أمَّا الإِسلام: فهو الوسطُ بين الغلو والجفاء، ودينُ العدل في الأمور كلِّها، فالحائضُ محصورة نجاستها في فرجها فقط، فهذا هو المحرَّم؛ قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. وجاء في صحيح مسلم (302) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اصنعوا كلَّ شيءً إلاَّ النكاح". وجاء في سنن أبي داود (213) أنَّ حكيم بن حزام قال: يا رسول الله! ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لك ما فوق الإزار". وجاء في البخاري (300) ومسلم (293) عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض"، ومعناه: يلصق بشرته ببشرتها. وبهذا فالإسلام ترفَّع عن الأذى والقذر، الَّذي لم يتحاش عنه النصارى،

ولم يُهِنِ المرأةَ وينزلها منزلةً سافلة ساقطةً كاليهود، الَّذين قال كتابهم المحرَّف: "إذا كانت امرأةٌ ولها سيل، وكان سيلها دمًا، فسبعة أيَّام تكون في طمثها، وكلُّ من مسَّها يكون نجسًا، وكل من مسَّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحمّ بماء، وإن اضطجع معها رَجُلٌ وهي في طمثها يكون نجسًا". أمَّا الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- الَّذي يضرب لأمَّته المَثَل في العشرة الزوجية فيقبِّل زوجته وهي حائض، ويضطجع معها، ويدعوها وهي في حال حيضها إلى مضاجعته، ويقرأُ القرآن في حِجْرِها، ويمكِّنها من ترجيلِ رأسه، ويأمرها فتتزر فيباشرها بما فوق الإزار، وهو يتقي الجماعَ ويجتنبه منها. ***

123 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ رَسُوْلِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: "يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِيْنَارٍ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ, وَرَجَّحَ غَيْرَهُمَا وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: اختلف العلماء في قبوله، قال الألباني: قوَّاه الإمام أحمد، وقال: ما أحسَنَهُ من حديث! فقيل: تذهب إليه؟ قال: نعم. وأخرجه أصحاب السنن والطبراني والحاكم والبيهقي بإسنادٍ صحيحٍ على شرط البخاري، وصحَّحه الحاكم والذهبي وابن دقيق العيد وابن القيم وابن حجر العسقلاني. وقد ضعَّفه ابن السكن وابن الصلاح، وبالغ النووي في نقله الإجماع على ضعفه في شرح مسلم والمجموع، ودعوى الإجماع مردودة، وقال الحافظ ابن حجر: فيه اضطرابٌ كثير جدًّا في متنه وسنده، واختلف فيه قول الإمام أحمد كثيرًا، وقول الترمذي: علماء الأمصار أنَّه لا فدية، دليلٌ أنَّ العمل على تركه. أهـ. * مفردات الحديث: - يأتي امرأته: يجامعها بإيلاج. - حائض: جمعها حُيَّض، يُقال: حاضتِ المرأةُ حَيْضًا، فهي حائض، ¬

_ (¬1) أحمد (2122)، الترمذي (136)، أبو داود (266)، النسائي (289)، ابن ماجة (640)، الحاكم (1/ 278).

والحائض -بلا تاء- اسمُ فاعل للمرأة التي أصابها الحيض، وإنَّما تركتْ تاء التأنيث؛ لأنَّ الحيضَ وصفٌ خاصٌّ بالنساء. - بدينار: الدينار: نَقْدٌ ذهبيٌ، والدينار الإِسلاميُّ: زنته أربعة غرامات وربع من الذهب (4.25 جم). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم وطء الحائض، وقد قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. 2 - أنَّ الَّذي يجامع زوجته وهي حائض فعليه كفَّارة يتصدَّق بها، وهي دينار أو نصف دينار. 3 - الوطء المحرَّم هنا هو الإيلاجُ، أمَّا مباشرةُ الحائض في غير الفرج: فتقدَّم جوازها، وحديثُ عائشة السابقُ يدلُّ على ذلك. 4 - قال شيخ الإسلام: وجوبُ الكفَّارة في وطء الحائض وَفْقُ القياس، لو لم يأت به نصٌّ؛ ذلك أنَّ المعاصي التي جاء تحريمها -كالوطء في الصيام، والإحرام، والحيض- تدخلها الكفَّارة، بخلاف المعاصي المحرَّم جنسها، كالظلم، والزنى، لم يشرع لها كفَّارة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم كفَّارة الوطء في الحيض: فذهب الإمام أحمد: إلى وجوبها على من وطئ في فرج الحائض، وعليها هي أيضًا كفَّارة إنْ طاوعته. والكفارة دينار أو نصفه على التخيير؛ لحديث الباب. وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّه لا كفَّارة عليه ولا عليها، قال الترمذي: وهو قولُ علماء الأمصار. وقال ابن كثير: فيستغفرُ الله، والأصلُ أنَّ الذِّمَّه بريئة إلاَّ أنْ تقوم الحجة.

وقال ابن عبد البر: حجَّة من لم يوجب الكفَّارة اضطراب الحديث، وأنَّ البراءة الأصلية حجَّةُ من لم يوجبون، مع عدم صحَّة الحديث عندهم. أمَّا الموجبون: فيرون صحَّة الحديث، وأنَّه صالحٌ لإيجاب حكم شرعي. فالحديث قوَّاه الإمام أحمد، وذهب إلى العمل به. كما عمل به جماعةٌ آخرون من السلف، قال الألباني: سنده صحيح، صحَّحه جماعةٌ من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وأخرجه أصحاب السنن، والبيهقي بإسنادٍ صحيح على شرط البخاري، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وابن دقيق العيد، وابن القيم، والله أعلم. * تنبيه: اختلف العلماء في وجه التخيير بين الدينار، ونصفه، على قولين: 1 - قيل: الدينار للوطء في أوَّل الحيض، ونصف الدينار للوطء في آخره، ويؤيد هذا أنَّ الدَّم في أوَّل أيَّامه أغزر وأشد في إصابة الأذى منه في آخره. 2 - وقيل: إنَّ التخيير بين الدينار ونصف الدينار، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام، ويميل إِلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية. وقدر الدينار (4.25) غرامًا، واختار الشيخ أنَّه لا يجزئ إلاَّ المضروب؛ لأنَّ الدينار اسمٌ للمضروب، واستظهره في الفروع. أمَّا المشهور من المذهب: فيجزىء المضروبُ وغيره أو قيمته من الفضَّة فقط، والله أعلم. * مضار الوطء في أثناء الحيض: قال الدكتور الطبيب محمد علي البار: إدخالُ القضيب في الفرج أثناء الحيض، هو إدخالُ ميكروبات في وقتٍ لا تستطيعُ الأجهزة أنْ تقاومه، فيحدث ما يلي: 1 - تمتدُّ الالتهابات إلى قناتي الرَّحم فتسدّها، ممَّا يؤدِّي إلى العقم، أو الحمل

خارج الرحم. 2 - يمتد الالتهاب إلى قناة مجرى البول فالمثانة فالحالبين فالكُلَى، ممّا يسبِّب أمراضَ الجهاز البولي. 3 - تقلُّ الرغبةُ الجنسية لدى المرأة، وخاصَّةً عند بداية الطمث. 4 - الصداع النصفي. 5 - تصاب المرأة بحالة من الكآبةِ والضِّيقِ، فتكون متقلِّبة المزاج. إلى غير ذلك من الأمراض الكثيرة والتي لم يكشف عنها الآن، وإنَّما عبَّر عنها الحكيمُ العلم بقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فَوَصْفُهُ تعالى له بأنَّه "أذى" يشتمل على مضار كثيرة اللهُ أعلَمُ بها!!. ***

124 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ المْرَأَةُ، لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ?! " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أليس إذا حاضت المرأة لم تصلِّ: الاستفهام هنا للتقرير عمَّا جاء في أوَّل الحديث من ذكر نَقْصٍ في دين المرأة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريمُ الصلاة على الحائض، وعدم صحَّتها منها لو صلَّتها، وليس عليها قضاءُ أيَّامِ حيضها بعد الطهر. 2 - تحريمُ الصيامِ على الحائض، ولكن تقضي قدر ما أفطرته أيَّامَ حيضها. 3 - قال ابن المنذر، والوزير ابن هبيرة، والنووي: أجمع العلماء على وجوب قضاء الصوم على الحائض، وسقوط فرض الصلاة عنها في أيام حيضها؛ لما في البخاري (315) ومسلم (335) عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: "كُنَّا نُؤْمَرُ بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة". قال العلماء: والفرق بينهما: أنَّ الصلاة تتكرَّر، فلم يجب قضاؤها للحرج، بخلاف الصوم، والله أعلم. * فائدة (1): الحائض ممنوعةٌ من عبادات أخر، منها: 1 - مَنْعُها من دخول المسجد؛ لحديث: "لا أُحِلُّ المسجد لحائضٍ ولا جنب". ¬

_ (¬1) البخاري (304)، مسلم (80).

2 - ولا يصح أنْ تطوف؛ لحديث: "الطوافُ بالبيت صلاة". 3 - مَنْعُها من قراءة القرآن؛ لحديث ابن عمر: "ولا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن". 4 - لا تمسُّ المصحف؛ لحديث عمرو بن حزم: "ولا يَمَسّ المصحفَ إلاَّ طاهر". * فائدة (2): بيان قول من جوَّز قراة القرآن ومسَّه للحائض للتعلُّم والتعليم: ذهب المالكية في الصحيح عندهم: إلى جواز مَسِّ المصحف للحائض، وقراءَتِها للقرآن في حال التعلُّم والتعليم، ولهم في ذلك أدلَّة، وفي هذا القول تيسيرٌ على المتعلِّمات والمعلِّمات في مدارس تحفيظ القرآن، وحتَّى لا يُنْسَى القرآن الكريم ممَّن حفظته منهنَّ، وخاصَّةً أيَّام النِّفاس، ومن يطول حيضها، وهذا هو مذهبُ البخاريِّ، والطبري، وابن المنذر، وداود، والشعبي، ومذهب الشَّافعي القديم، ورواية عن أحمد، وقد أخذ بهذا القول كثيرٌ من علماء العصر. ***

125 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا جِئْنَا سَرِفَ حِضْتُ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ, غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سَرِف: بفتحِ السين المهملة، ثمَّ راء مهملة مكسورة، ثمَّ فاء موحَّدة: اسمٌ لا ينصرف للعَلمِيَّة والتأنيث. وهو وادٍ يبعد عن حد الحرم من جهة التنعيم بنحو عشر كيلو مترات، وعن مكَّة المسجد الحرام بثمانية عشر كيلو متر، يمر به طريق مكة - المدينة، فهو بين مكَّة وبين واد الجموم (مر الظهران)، وهو ما يعرف الآن بالنوَّارية. - حِضْتُ: بكسر الحاء؛ لأنَّه إذَا أُسند الماضي الأجوف الثلاثي المجرَّد إلى ضمير الرفع، وكان يائيًّا، كُسِرَ أوله، نحو قول المرأة: حِضْتُ، والنساء حِضْنَ؛ ذلك أنَّ أصله حَيَضْتُ -بالتحريك- قلبت الياء ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألفُ لالتقاء الساكنين، فصار حَضْتُ -بالفتح- ثُمَّ أُبدلت الفتحة كسرة؛ لتدل على الياء المحذوفة. - غير ألاَّ تطوفي: بنصب "غير"، و"ألاَّ" بالتشديد أصله "أنْ لا". - غير: بمعنى سِوَى، إلاَّ أنَّها تختلف عنها ببعض الأمور، وهي اسمٌ ملازم للإضافة، وتنقطع عنها إنْ فُهِمَ معناها، ولا تتعرَّف بالإضافة؛ لشدة إبهامها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كانت عائشة مُحْرِمةً بالعمرة متمتِّعة بها إلى الحج، وذلك في حجة الوداع، ¬

_ (¬1) البخاري (305)، مسلم (1211).

فأصابها الحيض بِسَرِف، وادٍ يبعد عن المسجد الحرام بثمانية عشر كيلو متر طريق المدينة - مكة. 2 - فأدخلَتْ حجَّها على عمرتها، وصارتْ قارنةً؛ لأنَّها لم تتمكَّن من طواف العمرة والتحلُّل منها؛ من أجل حيضتها. 3 - جوازُ إتيان الحائض بجميع شعائر الحج، من الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى، والسعي بين الصفا والمروة، لو سبق أنْ طَافَتْ قبل الحيض، وصحةُ ذلك منها، حيث لا يشترطُ لها الطهارة، وهو إجماعٌ. 4 - تحريمُ الطواف على الحائض، وعدم صحَّته منها. 5 - احترامُ البيت وتعظيمُهُ، وأنْ لا يأتيه المسلم إلاَّ على أحسَنِ هيئة، وأتمِّ طهارة؛ {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وكانت العرب -حتَّى في جاهليَّتها- تعظِّمه ولا تطوف به في ثيابها التي عصت الله فيها، وإنَّما يستعيرون ثيابَ قريشٍ يطوفون بها، فإِذا لم يجدوا، طافوا عراة. ***

126 - وَعَنْ مُعَاذٍ بنِ جَبَل -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ? قَالَ: "مَا فَوْقَ الْإِزَارِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. رواه أبو داود وضعَّفه، وقال: ليس بالقوي، وعلَّته جهالة حال سعيد الأغطش، قال الحافظ: فإنَّا لا نعرف أحدًا وثَّقه. وأيضًا فعبد الرحمن بن عائذ راويه عن معاذ، قال أبو حاتم: روايته عن عليٍّ مرسلة، فإذا كان كذلك، فعن معاذ أشد أرسالًا. وله شاهدٌ من حديث حكيم عند أبي داود والترمذي. * مفردات الحديث: - وهي حائض: جملة حالية. - حائض: لم يقل: حائضة؛ لعدم الالتباس بين صفة المذكَّر والمؤنَّث. - ما فوق الإزار: الإزار ثوبٌ يحيطُ بالنصف الأسفلِ من البدن، يذكَّر ويؤنث، وما فوقَ مَعْقِدِ الإزار هو النصفُ الأعلى من البدن. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جوازُ مباشرة الحائض بما فوق الإزار. 2 - النَّهي عن جماعها؛ فهو محرَّم؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. ¬

_ (¬1) أبو داود (213).

3 - أمر الحائض بالاتزار أو لُبْسِ السروال عند إرادة مباشرتها. 4 - الحديثُ يدلُّ على تحريم مباشرة المرأة فيما بين السرَّة والركبة؛ لأنَّ هذا هو مكان الإزار المنهيّ عن قربه، ولكن الحديث معارَضٌ بالآية الكريمة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وبالحديث الصحيح، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اصنعوا كل شيء إلاَّ النِّكاح" [رواه مسلم (302)]؛ فالرَّاجح: جواز مباشرة المرأة بكلِّ بدنها، عدا الفرج. ***

127 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ يَوْماً" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: وَلَمْ يَأْمُرْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَضَاءِ صَلَاةِ النِّفَاسِ"، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مختلفٌ فيه، والرَّاجح أنَّه حسنٌ لغيره؛ فضعَّفه جماعةٌ، منهم الترمذي، وابن القطان، وابن حزم؛ وذلك لأنَّ فيه مَسَّةَ الأزدية، ولا يُعرف حالها، وردَّ تضعيفه النووي، وقال: له شاهدٌ عند ابن ماجه من حديث أنس، وفيه سلام ضعيف، وللحاكم من حديث عثمان بن أبي العاص، ضعَّفه الدَّارقطني، والحسن لم يسمع من عثمان؛ فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضًا، وقد صحَّحه الحاكم وأقرَّه الذهبي، وحسَّنه الخطابي، وقال: أثنى عليه البخاري. * مفردات الحديث: 1 - النفاس: قال ابن فارس: النون والفاء والسين: أصلٌ واحد يدل على خروج النسيم؛ من ريح أو غيرها، ومنه: نفَّس الله كربته. والنِّفاس: ولادة المرأة. قال النووي: المشهور في اللغة: أنَّ "نَفِسْتُ" بفتح النون وكسر الفاء، معناه: حِضْتُ، وأمَّا الولادة فيقال: نُفِست بضم النون وكسر الفاء. قال في شرح الإقناع: دم النفاس: هو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل لأجله. ¬

_ (¬1) أحمد (26021)، أبو داود (311)، الترمذي (139)، ابن ماجة (648)، الحاكم (1/ 282).

وقال الطبيب محمَّد البار: دم النفاس يعرَّف بالطب: بأنَّه الدم الَّذي يخرُجُ بعد الولادة، ويستمرُّ لمدَّة ثلاثة إلى أربعة أسابيع، وقد تطول إلى أربعين يومًا، ويكون في الأيَّام الأربعة الأولى قانيًا، غليظًا، ومحتويًا على دم مجمَّد، ثمَّ يخف تدريجيًّا بعد ذلك، ثمَّ يصير بنيَّ اللون مختلطًا بمادَّة مخاطية، وأخيرا تظهر "القَصَّة البيضاء". وقد تتوقَّف الإفرازات الدموية، ثمَّ يعود الدم إلى الظهور، ويعتبر ذلك نتيجة لوجود بقايا -ولو بسيطة- من المشيمة في الرحم. - نقعد: يقال: قعد يقعد قعودًا، أي: تمسَّك وكف عن العبادة التي تشترط لها الطهارة كالصلاة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النفاس: دمٌ يرخيه الرَّحِمُ مع الولادة. 2 - النفساءُ أحكامها هي أحكامُ الحائض، فيما يجبُ ويحرُمُ ويُكْرَهُ ويُباح. 3 - تجلسُ النفساء أربعين يومًا تكفُّ نفسها عمَّا يفعله الطاهرات؛ فتترك الصلاة ونحوها، وذلك من حين وضعها ما تبيَّن فيه خلق إنسان. قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أنَّ النفساء تَدَعُ الصلاة أربعين يومًا، إلاَّ أنْ ترى الطهر قبل، فتغتسلُ وتصلِّي. وقال ابن رشد وغيره: ابتداءُ النفاس مِنْ خروجِ بعض الولد. قال الشيخ تقي الدِّين: لا حدَّ لأقل النفاس، ولا حدَّ لأكثره ولو زاد على السبعين وانقطع، والأربعون منتهى الغالب. 4 - النفساء كالحائض لا تُؤْمَرُ بقضاء الصلاة التي لم تصلِّها أيام نفاسها، وإنَّما تقضي الصومَ الواجب. * نبذة علمية فقهية عن النفاس: قال الأطباء: النفاسُ هو الفترة التي تلي الولادة، والتي تؤدِّي إلى عودة

الرحم، وجهازِ المرأةِ التناسليِّ إلى حالتِهِ الطبيعيَّة قبل الولادة، وتحتاج هذه العودة إلى مدَّة تتراوَحُ بين ستَّة وثمانية أسابيع، ليعود الرحمُ إلى حجمه الطبيعي. يخرج دمُ النفاس من الرحم بعد الولادة ويستمرُّ فترة قد تصلُ إلى أربعين يومًا، والغالب أنَّ المدَّة هي (24) يومًا، وقد يتوقف الدم لفترة ثُمَّ يعود إلى الظهور، ويعتبر ذلك نتيجة لوجود بقايا -ولو بسيطة- من المشيمة في الرحم، أو أنَّ الرحم انقلب إلى الخلف بدلاً من وضعه الطبيعي إلى الأمام. والفقهاء يعرفون النفاس: بأنَّه الدم الذي يرخيه الرحم مع الولادة، فاهتمامهم بهذا الدم الَّذي أفرزَتْهُ الرحم، بينما الأطبَّاء يركِّزون على حالة الرحم وعودته إلى حالته الطبيعية، فكلا الأمرين مرتبطٌ بالآخر، فالطب إلى النَّاحية الصحية لجهاز المرأة التناسلي، وللرحم على وجه الخصوص، بينما الفقه يهتم بالدم الَّذي يمنعُ الصلاةَ والصيامَ ومَسَّ المصحف ونحوها. وأمَّا أحكامه الشرعية فنورد منها فقرات: يثبُتُ النفاسُ بوضع ما تبيَّن فيه خلق إنسان، ولا حدَّ لأقل النفاس، ولا لأكثره؛ فما دام الدم موجودًا فهو نفاس، فإذا انقطع فهو طُهْرٌ. والنفاس كالحيض فيما يحرِّم؛ كالصلاة، والصوم، والوطء في الفرج، وفيما يوجب؛ كالغسل، وكفارة الوطء، وفيما يُسْقِط؛ كقضاء الصلاة، وفيما يُحِلّ؛ كاستمتاعٍ بما دون الفرج، وفيما يجب قضاؤه؛ كالصيام الواجب. ... انتهى كتاب الطهارة

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة مقدِّمة الصلاة لغةً: الدعاء بخير؛ فهو الشَّائع في كلام العرب قبل ورود الشرع؛ قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادعُ لهم واستَغْفِرْ لهم. وشرعًا: أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، سمَّيت صلاةً؛ لاشتمالها على المعنى اللغوي، وهو الدعاء بالخير. قال في الإنصاف: هذا هو الصحيحُ الَّذي عليه جمهورُ العلماء من الفقهاء وأهل العربية. وفرضت ليلة المعراج قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمَّت أربعًا صلاة الحضر، إلاَّ المغرب؛ فإنَّها وتر النَّهار، وإلاَّ الصبح؛ فإنَّها تطول فيها القراءة، فهاتان الصلاتان بقيتا على ما فرضتا عليه. وللصلوات على سائر الشرائع الواجبة مِيْزاتٌ كبيرة، منها ما يلي: 1 - أنَّها فرضت في السماء، بينما غيرها فرض في الأرض. 2 - فرضت من الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، بينما غيرها بواسطة المَلَك. 3 - فرضت خمسين صلاة، ثمَّ حصل التخفيف في عددها إلى خمس، وبقي ثواب الخمسين في الخمس.

4 - هي الركن الثاني من أركان الإسلام. 5 - هي الغاية في العبودية والتذلُّل، والقُرب من الله تعالى. 6 - تجب على كلِّ مكلَّفٍ، بينما غيرها من الشرائع قد لا تجبُ على البعض؛ لعدم استطاعته. وثبوتها جاء في الكتاب والسنَّةِ وإجماعِ المسلمين؛ فهي ممَّا علم وجوبه من الدِّين بالضرورة؛ فجاحدها كافر. وتاركها تهاونًا وكسلاً اختلف العلماء في كفره. قال شيخ الإسلام: إنَّ كثيرًا من النَّاس لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلُّون أحيانًا ويدعونها أحيانًا؛ فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرةُ في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإنَّ هذه الأحكام إذا جرت على المنافق الخالص كعبد الله بن أُبَيِّ، فَلأَن تجري على هؤلاء أولى وأحرى. والصلواتُ الخمس: أكبرُ أركانِ الإسلام بعد الشهادتَيْن، وأفضلُ الأعمال بعدهما؛ لكونها وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها، ولجمعها ما تفرَّق من العبودية، وتضمُّنها أقسامها وأنواعها، فهي تكبيرُ الله وتحميدُهُ تعالى، والثناءُ عليه وتهليلُهُ وحمده، وتنزيهُهُ وتقديسه، وتلاوةُ كتابه، والصلاةُ والسلام على رسوله محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله، ودعاءٌ للحاضرين وجميع عباد الله الصالحين، وهي قيامٌ وركوعٌ وسجودٌ وجلوس، وخفضٌ ورفع، فكلُّ عضوٍ في البدن، وكلُّ مَفْصِلٍ فيه، له من هذه العبادة حظُّه، ورأسُ ذلك كلِّه القلبُ الحاضر. فرضها الله تعالى على عباده؛ ليذكِّرهم بحقه، وليستعينوا بها على تخفيف ما يَلْقَوْنَهُ من مَشاقِّ هذه الحياة الدنيا. والمجتمع الإنساني بحاجةٍ إلى قُوَّةِ إيمان ترفع نفسية أفراده على وجه الاستمرار إلى المُثُل العليا، لئلا ترتبط الأفراد بالحاجات الماديَّة، والمصالح

الشخصيَّة، ممَّا يؤدي إلى الفساد في الأرض. إنَّ الإنسان إذا لم تتصلْ روحه بخالقها، ظَهَرَتْ فيه مظاهر الاكتئاب؛ فالصلاة طمأنينةٌ في القلب عند المصائب، وراحةٌ للضمير عند النوائب؛ قال تعالي: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. وهي زاجرةٌ عن المنكرات؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، ومكفِّرة للسيئات؛ قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. فالصلاةُ رأسُ القُرُبات، وغُرَّةُ الطاعات؛ لما فيها من تحقيقِ المناجاة، ورِفْعَةِ الدرجات. ***

باب المواقيت

باب المواقيت 128 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ, وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ وَقْتُ الْعَصْرُ, وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ, وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ, وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ, وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1)، وَلَهُ مِنْ حَدِيْثِ بُرَيْدَةَ فِي الْعَصْرِ: "وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ" (¬2)، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: "وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - زالت الشمس: يُقال: زالَ عَنْ مَوضعه، يزول زوالاً، لازمٌ ويتعدَّى بالهمزة، ومعناه: مالت الشمسُ عنْ وَسَطِ السماء إلى جانب الغروب. - تصفرّ الشمس: تكون صفراء عند قربها من الغروب، والصفرةُ لون دم الحمرة. ¬

_ (¬1) مسلم (612). (¬2) مسلم (613). (¬3) مسلم (614).

- الشَّفَق: المراد به هنا الأحمر، الَّذي هو بقيَّةُ شعاعِ الشمس الغاربة. - نصف الليل الأوسط: هو نصفُ الليل؛ وبهذا يكون قد ذهب الثلث الأوَّل، ونصف الثلث الأوسط؛ فإنَّ الأوسط صفة للنصف، والمراد به الأوَّل، وإنَّما عبَّر عنه بالأوسط؛ لأنَّ الليل إذا قسم نصفين ينتهي النصف الأوَّل إلى وسط الليل. - والشمسُ نقيَّة: بيضاءُ صافيةٌ لم يخالطْهَا شيءٌ من الصفرة، والجملة اسمية وقعتْ موقعَ الحال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه بيانُ الأوقاتِ التي عيَّنها الله تعالى، لأداء الصلواتِ الخمس المكتوبة. 2 - أنَّ الصلوات الخمس لا تصح إلاَّ في هذه الأوقات المحدَّدة؛ لقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]، ولما رواه أحمد (3071) عن ابن عباس أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوقت ما بين هذين"، ولما روى البخاري (553) عن بريدة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من فاتته صلاة العصر، حبط عمله". قال شيخ الإسلام: الوقت لا يُمْكِنُ تلافيه، فإذا فات، لم يمكنْ فعلُ الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل إذا أخَّرها عن وقتها عمدًا بدون عذر، يقضيها أم لا؟ سيأتي بيان ذلك، إنْ شاء الله. 3 - أنَّ وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس، إلى أنْ يصير ظل كل شيءٍ طوله، بعد الظل الَّذي زالت عليه الشمس، ثمَّ يدخل وقت العصر من غير فصلٍ بينهما ولا مشترك. 4 - أنَّ وقت صلاة العصر من أنتهاء وقت الظهر، ويمتدُّ الوقت المختار ما دامت الشمسُ بيضاءَ نقيةً، فإذا اصفرَّتْ، دخل وقت الضرورة إلى الغروب.

5 - أنَّ وقت صلاة المغرب مِنْ سقوط كلِّ قرص الشمس غائبة، إلى أنْ يغيب الشفق الأحمر، ثمَّ يدخلُ وقت العشاء، بدون فاصلٍ بينهما ولا مشترك. 6 - أنَّ وقت صلاة العشاء من غيبة الشفق الأحمر إلى نصف الليل، وجمهور العلماء على أنَّه وقتها المختار، وأمَّا وَقْتُ الأداء: فهو ممتدٌّ إلى طلوع الفجر الثاني، وقال بعضهم: إنَّ وقتها ينتهي إلى نصف الليل، وهو أقوى من حيث الدليلُ. 7 - أنَّ وقت صلاة الصبح مِنْ طلوع الفجر الثاني، حتَّى تطلع الشمس. * قرار هيئة كبار العلماء: جاء في القرار الصَّادر برقم (61) في 12/ 4 / 1398 هـ: من هيئة كبار العلماء ما خلاصته: 1 - من كان يقيم في بلادٍ يتمايَزُ فيها الليل من النَّهار، بطلوعِ فجر وغروبِ شمس، إلاَّ أنَّ نهارها يطول جدًا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أنْ يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا؛ لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء]. 2 - ومن كان يقيمُ في بلادٍ لا تغيبُ عنها الشمس صيفًا ولا تطلُعُ فيها شتاءً، أو في بلادٍ يستمر نهارها إلى ستَّة أشهر، ويستمر ليلها إلى ستَّة أشهر مثلًا، وجب عليهم أنْ يصلوا الصلوات الخمس في كلِّ أربع وعشرين ساعة، وأنْ يَقْدُروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلادٍ إليهم، تتمايز فيه الصلواتُ المفروضة بعضُها عن بعض؛ لما ثبت أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حدَّث أصحابه عن المسيح الدجَّال، فقالوا: ما لُبْثُهُ في الأرض؟ قال: "أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، فقيل: يا رسول الله: اليوم الَّذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له".

فتجب على المسلمين في البلاد المذكورة أنْ يحدِّدوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلادٍ إليهم يتمايَزُ فيها الليل من النَّهار، وتعرف فيها أوقاتُ الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية، في كلِّ أربعٍ وعشرين ساعة. هيئة كبار العلماء * خلاف العلماء: اختلف العلماء في نهاية الوقت المختار للعصر: فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشَّافعي وأحمد: وجمهور العلماء: إلى أنَّه ينتهي بمصير الظِّل مثليه، بعد فيء الزوال. ودليلهم ما رواه أحمد (3071) وأبو داود (393) والترمذي (149)، "أنَّ جبريل أمَّ النبَّي -صلى الله عليه وسلم- فصلَّى به العصر -في المرَّة الثانية- حين صار ظل كل شيءٍ مثليه، ثمَّ قال الصلاة ما بين هذين الوقتين" قال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنَّ وقت صلاة العصر يمتد إلى اصفرار الشمس، صحَّحه في الشرح الكبير، واختاره المجد، والشيخ تقي الدِّين؛ لما روى مسلم (612) عن عبد الله بن عمرو: "ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس"، وهو متأخِّر، والعمل بالمتأخِّر متعيِّن. قال شيخ الإسلام: وهو الصحيحُ، وعليه تدلُّ الأحاديث الصحيحة. واختلف العلماء في نهاية الوقت المختار لصلاة العشاء: فذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: أنَّه ينتهي بثلث الليل الأوَّل؛ وهو الجديد من مذهب الإمام الشَّافعي؛ لما في الصحيح عن عائشة قالت: "كانوا يصلون العتمة فيما بين أنْ يغيب الشفق إلى ثلث الليل".

وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى امتداد الوقت المختار إلى نصف الليل، وهو أحد القولين في مذهب الشَّافعي، والرواية الأخرى في مذهب أحمد. قال في المغني: وهو قول الثوري، وابن المبارك، وأبي ثور، وأصحاب الرَّأي، واحد قولي الشَّافعي؛ لما روي عن أنس: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أخَّر صلاة العشاء إلى نصف الليل" [رواه البخاري (572)]. قال في الإنصاف: جزم به الموفَّق في العمدة، واختارها القاضي، وابن عقيل، والمجد، وابن عبد القوي. قال في الفروع: وهي أظهر. قال الشيخ ابن سعدي: وهو الصحيح. قال شيخ الإسلام: لو قيل: إلى النصف تارة، وإلى الثلث تارةً أخرى، لكان وجيهًا. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: وقت الاختيار إلى ثلث الليل، ورواية أخرى إلى نصفه، وكلاهما جاء به أحاديث ثابتة. والليل الشرعي المعتبر من غياب الشمس، إلى طلوع الفجر الثاني. وذهب جماهير أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة وأتباعهم: إلى أنَّه بعد وقت الاختيار للعشاء، يدخل وقت الضرورة، ويمتد حتَّى طلوع الفجر. ويحرُمُ إيقاعُ الصلاة فيه عند بعضهم، ومنهم الحنابلة، إلاَّ أنَّها أداءٌ ليست قضاءً؛ ودليلهم حديث أبى قتادة في مسلم؛ فإنَّه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأُخرى، إلاَّ صلاة الفجر، فقد خصَّها الإجماع. ***

129 - وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيَ الْعَصْرَ, ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِيْنَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ, وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ, وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا, وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ, وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: "وَالْعِشَاءُ أَحْيَانًا يُقَدِّمُهَا وَأَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا، إِذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ, وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ, وَالصُّبْحَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ" (¬2). وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: "فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِيْنَ انْشَقَّ الْفَجْرُ, وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رَحْلَهُ: بفتح الرَّاء المهملة، وسكون الحاء المهملة، بعدها لامٌ ثُمَّ هاءٌ، والرَّحْلُ: مسكن الإنسان، وما يستصحبه من الأثاث عند رحيله أو سفره. - في أقصى المدينة: حال من "رحل"، وليس ظرفاً للفعل، ومعناه: أبعد بيتٍ في المدينة. ¬

_ (¬1) البخاري (547)، مسلم (647). (¬2) البخاري (560)، مسلم (646). (¬3) مسلم (614).

- والشمس حيَّة: بفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء المثنَّاة، ثمَّ تاء، أي: بيضاء نقية قوية الأثر، حرارةً وإنارةً ولونًا، والواو للحال، والجملة الاسمية في موضع الحال من فاعل "يرجع"، فحياةُ الشمس عبارةٌ عن بقاء جرمها لم يتغيَّر، وبقاء لونها لم يتغير، وإنَّما يدخلها التغيير بدنو المغيب. - ينفتل: بالفاء، والتاء المثنَّاة الفوقية مكسورة، أي: يلتفت إلى من خلفه وينصرف إليهم. -جليسه: الجليس على وزن فعيل بمعنى المجالس، وأراد به الَّذي إلى جنبه. - بغَلَس: بفتحتين، الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلَطَ بضوء الصبح. - أَبطؤوا: أبطأ الرَّجلُ إبطاءً، أي: تأخَّر مجيئه، وبَطُؤ من باب قرب، فهو بطيء على وزن فعيل. - انشق الفجر: انشقَّ الشيء: انفرج، قال في النهاية: شق الفجر وانشق: إذا طلع، كأنَّه موضع طلوعه. - الغداة: ويُقال: الغُدْوة بضم الغين، هي البكرة، وقد حدَّها بعضهم بأنَّها: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس. - لا يَكَاد: كَادَ من أفعال المقاربة التي تَدُلُّ على قرب وقوع الشيء، قال في المصباح: كدت أفعل كذا، معناه: قاربت الفعلَ ولم أفعل، وما كدت أفعل، معناه: فعلْتُ بعد إبطاء؛ ومنه قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} معناه: ذبحوها بعد إبطاء. * ما يُؤْخَذ من الحديث: 1 - استحبابُ تعجيل صلاة العصر في أوَّل وقتها؛ فإنَّ الصحابة يصلُّونها مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ثمَّ يذهبون إلى رحالهم في أقصى المدينة، والشمسُ حيَّةٌ مرتفعةٌ بيضاءُ نقيةٌ، لم تدخلْها صفرة المساء. 2 - استحبابُ تأخير صلاة العشاء حتَّى يذهَبَ عامَّة الليل، وهذا التَّأخير مقيَّد بما

إذا لم يجتمعْ أصحابها لها. 3 - تقديم صلاة العشاء في أوَّل وقتها إذا رأى أصحابَهُ قد اجتمعوا للصلاة، وذلك مراعاةً لراحتهم، وعدم المشقَّة عليهم في الانتظار في وقت راحتهم. 4 - يكونُ التَّأخير مستحبًّا في حقِّ جماعة في مكانٍ واحد، وفي حقِّ النساء في بيوتهنَّ. 5 - كراهة النوم قبلها؛ لئلا يستغرق النَّائم في النوم حتَّى تفوته، أو يفوته وقتها المختار. 6 - كراهة الحديث بعدها؛ لئلا يتأخَّر عن النوم، فيشق عليه قيام الليل، أو القيام لصلاة الصبح، وهذا في حَقِّ من ليس عنده عذر، من ضيف أو دراسة علم أو عَمَلٍ فيه مصلحة للمسلمين. 7 - استحباب تعجيل صلاة الصبح، وذلك بأن يدخل فيها بغلس، حيث لا يزال ظلام الليل قد خالطه قليل من ضوء الصبح؛ فإنَّه مع تطويل القراءة ينصرف من الصلاة، والنَّاس يعرف بعضهم بعضًا. 8 - قال ابن دقيق العيد: صلاة الجماعة أفضلُ من الصلاةِ في أوَّل الوقت. 9 - استحباب تطويل القراءة في صلاة الصبح؛ فهو المراد من قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء]، وهنا قدِّرت في الستين آية، ومائة آية. 10 - استحباب مراعاة حالة المأمومين، بعدم التأخُّر عليهم في أداء الصلاة، وطول الانتظار، ومن حيث تخفيفُ الصلاة بدون إخلال بما يكمِّلها من الواجبات والمستحبات، والميزانُ في ذلك إرشادُهُ -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل. 11 - حالة المساجد زمن النبوَّة، من عدم الإضاءة، وبساطة المبنى، ولكنَّها منوَّرة بالإيمان والصلاة والعبادة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].

130 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُوْلِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا، وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ليبصر: بضم الياء من الإبصار، والَّلام فيه التَّأكيد. - مواقع: جمع موقع، وهو موضع الوقوع. - نبله: بفتح النون، وسكون الباء الموحَّدة التحتية: هي السهام العربية، وهي مؤنثة، جمعه نبال وأنبال، لا واحد لها من لفظها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ تعجيل صلاة المغرب في أوَّل وقتها، بحيث ينصرفُ منها والضوء باق، واستحبابُ التعجيل باتفاقِ الأئمَّة؛ قاله الشيخ تقي الدِّين. 2 - المراد بالغروب هو غروبُ قرص الشمس جميعه، بحيث لا يرى منه شيء، ونُقِلَ الإجماع على ذلك؛ لما في البخاري (536)، ومسلم (636) من حديث سلمة بن الأكوع: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب". 3 - يمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة والشَّافعي وأحمد. قال النووي: هذا هو الصوابُ الَّذي لا يجوز غيره؛ وذلك لما روى مسلم (612) وغيره عن ابن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وقت المغرب ¬

_ (¬1) البخاري (559)، مسلم (637).

ما لم يسقط نور الشفق"، ولما روى الدَّارقطني (1/ 229) عن ابن عمر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشفقُ الحمرة، فإذا غاب، وَجَبَتِ الصلاة". قال عياض: الشفق: الحمرةُ التي تَبْقَى في السماء بعد مَغِيب الشمس، وهو بقيَّة شعاعها؛ هذا هو قولُ أهلِ اللغة وفقهاءِ أهل الحجاز. ***

131 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَعْتَمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ, ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى, وَقَالَ: إِنَّهُ لَوَقْتُهَا، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَعْتَمَ: دخل في العَتَمَةِ، وهي ظلمة الليل، وسمِّيت الصلاةُ باسم وقتها، والعتمة: آخرُ ثلث الليل الأوَّل. - العشاء: بكسر العين والمد، سمِّيت الصلاةُ باسم وقتها الَّذي تصلَّى فيه. - عامَّة الليل: أي كثيرٌ من الليل، لا أكثره. - إنَّه لوقتها: أي: وقتها الفاضل، لولا المشقَّة على الأُمَّة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ تأخير صلاة العشاء إلى عامَّة الليل، إلاَّ أنَّه لا يتجاوز ثلثه أو نصفه؛ فإنَّهما آخر الوقت المختار، على خلاف فيهما، تقدَّم. 2 - استحباب مراعاة حالة المأمومين، وعَدَم المشقَّة عليهم في الانتظارِ، وتطويلِ الصلاة. 3 - فيه دليلٌ على القاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح"، فدفع مشقَّتهم قُدِّمَتْ على مصلحة فضيلة الوقت المختار لها. 4 - جواز عمل العمل المفضول أحياناً؛ لبيان حُكْمِهِ للنَّاس. 5 - رحمة النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وطلبُهُ أيسَرَ الأمرين؛ تخفيفًا على الأُمَّة، وتسهيلاً في أعمالهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: " إنَّما بعثتم ميسرين، ولم تُبْعَثُوا معسِّرين" [رواه البخاري (220)]. ¬

_ (¬1) مسلم (638).

132 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اشتد: أصله اشتَدَدَ، فأُدغمتِ الدَّالُ الأولى في الثانية، فهو من الاشتداد من الافتعال. - أبردوا: بهمزةٍ مفتوحة مقطوعة، وكسر الرَّاء، أي: ادخلوا في صلاة الظهر في وقت البرد. - بالصلاة: الباء للتعدية، والمعنى: ادخلوا في صلاة الظهر في البرد، وهو سكون شدَّة الحر، وذلك بانكسار شدَّة حر الظهيرة. - فإنَّ شدَّة الحرِّ: الفاء للتعليل، أراد بيانَ أنَّ علَّة الأمر بالإبراد هي شدَّةُ الحر المُذهبةُ للخشوع. - فيح جهنَّم: بفتح الفاء، وسكون المثنَّاة التحتية، فحاء مهملة، أي: شدَّة غليانها. - جهنَّم: أكثر النحاة على أنَّه لفظٌ أعجميٌّ عُرِّبَ، فهو غير منصرف للعَلَميَّة والعُجْمَة، وذكره في الصِّحَاح في الرباعي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ الإبراد في صلاة الظهر أيام شدة الحر؛ وذلك بأنْ تُؤَخَّر عن أوَّل وقتها إلى أَنْ تَخِفَّ شدة الحرارة، واستحباب الإبراد هو مذهبُ الأئمةِ الأربعة، وجمهورِ العلماء. ¬

_ (¬1) البخاري (536)، مسلم (615).

2 - الحكمة في هذا: راحة المصلِّين، وتأديتها في جوٍّ مريحٍ بعيدٍ عمَّا يشغل قلب المصلِّي عن الصلاة، ويذهبُ عنه الخشوعَ الَّذي هو رُوحُ الصلاة؛ ولذا استحبَّ العلماء الإبراد حتَّى في حقِّ من يصلِّي وحده أو في بيته؛ لأنَّ المعنى في الجميع واحد. 3 - سبب شدَّة الحرِّ هو نَفَسٌ من جهنَّم، يأذنُ الله تعالى بفتحه، فيحدث هذا الوهج الحار؛ فقد روى البخاري (537) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكَتِ النَّار إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ أَكَلَ بَعْضِي بعْضًا، فأذِنَ لي بنفسين: نفسٌ في الشتاء، ونفسٌ في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير". قال القاضي عياض والنووي: لا مانع من حمل الحديث على ظاهره، من شكاية النَّار إلى ربِّها حقيقةً؛ فإنَّه ما من شي إلاَّ يسبِّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. قال مُحَرِّره: وهذا لا يخالف الظواهر الكونية، فالكلُّ بأمر الله تعالى وبعلمه. قال شيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي -رحمه الله تعالى- عند كلامه على هذا الحديث: ولا منافاة بين هذا وبين الأسباب المحسوسة؛ فإنَّها كلَّها من أسباب الحر والبرد، فيجب على المسلم أنْ يثبت الأسباب الغيبية الَّتي ذكرها الشَّارع، ويؤمن بها، ويثبت الأسباب المشاهدة المحسوسة، فمن كذَّب أحدهما، فقد أخطأ. 4 - قال ابن حجر في الفتح ما خلاصته: الأمر بالإبراد أمرُ استحباب، وقيل: أمر إرشاد، وقيل: بل هو للوجوب؛ حكاه عياض وغيره. وغفل الكرماني، فنقَلَ الإجماعَ على عدم الوجوب، نعم قال جمهور أهل العلم: يستحبُّ التأخير في شدَّة الحر إلى أن يبرد الوقت، وذلك في البلاد الحارَّة. ***

133 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيْجٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والدَّارمي (1/ 301) وابن ماجه، والطبراني في الكبير (24/ 222)، وصحَّحه جماعةٌ، منهم الترمذي وابن حبَّان وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وقال الديلمي: إسناده صحيح، وقال السيوطي: إنَّه متواتر، وكذا قال المناوي في فيض القدير. وأقر الحافظ في فتح الباري تصحيح من صحَّحه، وللحديث عدَّة طرق، العمدة فيها حديثُ رافع بن خديج. * مفردات الحديث: - أَصْبحوا: ادخلوا في الصباح، والمراد: أطيلوا صلاة الصبح وقراءتها، حتَّى تسفروا؛ كما جاء في الرواية الأُخرى: "أسْفِروا". - فإنَّه أعظم لأجوركم: تعليلٌ لإطالة صلاة الصبح بالنهار، والقراءة فيها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب إطالة القراءة في صلاة الصبح، بحيث يدخل في الصلاة في أوَّل وقتها، ولا يخرج إلاَّ وقد أسفَرَ؛ كما جاء في بعض روايات هذا الحديث: "أسفروا بالصبح"، ولما ثبت أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "كان يقرأ بالستين إنْ قصر، والمائة ¬

_ (¬1) أحمد (16806)، أبو داود (424)، الترمذي (154)، النسائي (549)، ابن ماجة (672).

إنْ أطال" [رواه البخاري (516)، ومسلم (647)]، وقراءته مرتَّلة، صلوات الله وسلامه عليه. 2 - فسَّرنا الإصباح بالصلاة بإطالةِ القراءة؛ ليوافقَ هذا الحديث "ابتداء صلاته -صلى الله عليه وسلم- بغلس"، وهو ظلمة آخر الليل. 3 - صلاة الفجر في أوَّل وقتها، وإطالةُ القراءة فيها هو مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة. أمَّا الحنفية: فيرون التأخير، وحُجَّتهم ظاهر الحديث، ويقولون: إنَّه آخر الأمرين في حياته، عليه الصلاة والسلام. ***

134 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ, وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنه- نَحْوَهُ, وَقَالَ: "سَجْدَةً" بَدَلَ "رَكْعَةً"، ثُمَّ قَالَ: وَالسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَنْ: شرطية، شرطها "أدرك" الأولى، وجوابها "أدرك" الثانية، والفاء جاءت لتربط الجواب بالشرط. - سجدة: معناها الركعة بركوعها وسجودها. - فقد أدرك الصبح: أي: أدرك صلاة الصبح أداء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديثُ يدل على امتداد وقت الصبح إلى طلوع الشمس. 2 - يدل على امتداد وقت العصر إلى غروب الشمس. 3 - يدل على أنَّ إدراك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، يعتبر إدراكًا للصلاة في وقتها؛ فهي أداءٌ لا قضاء. فإدراكُ ركعة من الصلاة في الوقت يسري على الصلاة كلِّها، فتكون كلها ¬

_ (¬1) البخاري (579)، مسلم (608). (¬2) مسلم (609).

أداء، مع الإثم بإيقاع بعض الصلاة بعد وقتها. 5 - تأخيرُ صلاة العصر إلى اصفرار الشمس لا يجوز؛ لأنَّ هذا وقت ضرورة، نُهِيَ عن الصلاة فيه؛ فقد روى مسلم (831) من حديث عقبة بن عامر قال: "ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أنْ نُصلِّيَ فيهنَّ، وأنْ نقبر فيهنَّ موتانا"، منها: "وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتَّى تغرب". "وكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي العصر والشمسُ بيضاءُ نقية مرتفعة". 6 - جاء في بعض الروايات: "من أدرك ركعة"، وفي بعضها: "سجدة" بدل "ركعة"، وليس المراد نفس الركوع أو نفس السجود، وإنَّما المراد ركعة كاملة بأعمالها وأقوالها، إلاَّ أنَّه عبَّر عن الكل باسم البعض. 7 - المشهور من مذهبنا: أنَّ الوقت يُدْرَكُ بتكبيرة الإحرام فيه، والرواية الأخرى: أنه لا يُدْرَكُ إلاَّ بإدراك ركعة، كما يدل عليه هذا الحديث، واختاره الشيخ تقي الدِّين، وقال: إنَّه عامٌّ في جميع الإدراكات لا تكون إلاَّ بركعة، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمهما الله تعالى. ***

135 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ" (¬1). وَلَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّي فِيهِنَّ, وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ, وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ, وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ" (¬2). وَالْحُكْمُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَزَادَ: "إِلَّا يَوْمَ الْجُمْعَةِ" (¬3)، وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ نَحْوُهُ (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة الشَّافعي وزيادة أبي داود ضعيفتان؛ فزيادة الشافعي فيها إبراهيم بن يحيى، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان، قال أبو حاتم: إبراهيم ¬

_ (¬1) البخاري (586)، مسلم (827). (¬2) مسلم (831). (¬3) الشافعي (1/ 139). (¬4) أبو داود (1083).

ضعيف، وقال الأزدي: منكر الحديث. وأمَّا إسحاق، فقال الزهري: يُرْسِلُ الأحاديثَ، وقال ابن سعد: يروي أحاديث منكرة، ولا يحتجُّون بحديثه. وأمَّا زيادة أبي داود، فهي منقطعة؛ لأنَّ أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، ومع هذا ففيها ليث بن أبي سُلَيْم، وهو ضعيف. قال أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: ضعيف الحديث. * مفردات الحديث: - لا صلاة بعد العصر، ولا صلاة بعد الفجر: قَالَ ابن دقيق العيد: صيغةُ النفي إذا دخلَتْ على الفعل في ألفاظ الشَّارع، فالأوْلَى حملُها على نفي الفعلِ الشرعيِّ، لا على نفي الفعلِ الوجوديِّ؛ فيكون قوله: "لا صلاة بعد الصبح" نفيًا للصلاة الشرعية لا الجنسية، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّ الشَّارع يطلق ألفاظه على عُرْفِهِ، وهو الشرعيُّ، وأيضًا: إذا حملناه على الفعل الجنسي، وهو غيرُ مُنْتَفٍ، احتجنا إلى إضمارٍ لتصحيح اللفظ، وهو المسمَّى بدلالة الاقتضاء. - نَقْبُر: بضم الباء وكسرها، أي: ندفن فيها الموتى. - الشمس بازغة: بزغَتِ الشمسُ تبزُغُ بزوغًا، من باب نصر، أي: ابتدأت في الطلوع. - حين: الحين: وقتٌ مبهمٌ يصلُحُ لجميع الأزمان -طال أو قصر- والمراد به هنا: وقتُ الزوال. - قائم الظهيرة: هو قيام الشمس وقت الزوال من قولهم: قامت به دابَّته، أي: وقفت، والمعنى: أنَّ الشمس إذا بلَغَتْ وسَطَ السماء، أبطأتْ حركة الظلِّ إلى أنْ تزول، فيحسب النَّاظر إليها أنَّها وقَفَتْ وهي سائرة؛ ولكنَّه سير لا يظهر له

أثرٌ سريع، فيُقال لذلك الوقوف المشاهد: "قائم الظهيرة". - حتَّى تزول: حتَّى تميلَ عن وسط السماء نحو المغرب. - تَضَيَّف الشمس للغروب: بفتح التاء والضاد المعجمة، وتشديد الياء: تميل نحو الغروب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نفيُ صحة الصلاة بعد صلاة الصبح؛ لأنَّه دَخَلَ وقت النَّهي الَّذي لا تصحُّ فيه الصلاة. 2 - نَفْيُ صحة الصلاة بعد صلاة العصر؛ لأنَّه دَخَلَ وقت النَّهي الَّذي لا تصح الصلاة فيه. 3 - رواية مسلم: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" أزالتِ الشكَّ الَّذي جاء في رواية: "لا صلاة بعد الصبح"، والَّذي فيه احتمالُ إرادة طلوع الصبح، أو إرادة فعل الصلاة. 4 - النَّفْيُ في هذين الوقتين أبلَغُ من النَّهي؛ لأنَّ النَّفي فيه نفيُ وقوع حقيقة الشيء، وأمَّا النَّهي فلا يُعْطِي هذا المعنى. 5 - السَّاعاتُ الثلاث التي ينهى فيها عن الصلاة وعن دفن الموتى هي: (أ) من طلوع الشمس حتَّى ترتفع قِيدَ رمح وتزول حمرتها. (ب) حين ينتهي ارتفاعُ الشمسِ حتَّى تزول. (ج) حين تميلُ إلى الغروب حتَّى يتم غروبها. * أوقات النهى بالبسط: 1 - من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. 2 - من طلوع الشمس حتَّى ترتفع قدر رمح. 3 - عند قيام الشمس حال الاستواء حتَّى تزول. 4 - من بعد صلاة العصر إلى اصفرار الشمس.

5 - من الاصفرار حتَّى يتم الغروب. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على تحريم الصلوات النوافل المطلقة، وأنَّها لا تصح ولا تنعقد في أوقات النهي الخمسة المتقدِّم ذكرها. واختلفوا في جواز الصلوات ذوات الأسباب؛ كتحية المسجد، وركعتي الوضوء، وصلاة الكسوف: ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه: إلى عدم جواز نفل الصلاة في أوقات النهي مطلقًا، سواءً كانت من ذوات الأسباب أو غيرها. وذهب الإمام الشَّافعي: إلى جواز نفل ذوات الأسباب، وهو روايةٌ قوية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام وغيره من أصحاب أحمد. ومنشأ الخلاف بين الفريقَيْن: هو بُدُوُّ التعارض بين الأحاديث، فطائفة منها: عمومها يفيد النهي عن الصلاة مطلقًا في تلك الأوقات، وطائفة أخرى: عمومها يفيد استحباب إيقاع الصلاة ذات السبب، ولو في وقت النَّهي. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: التحقيقُ: أنَّ العموم في الأوقات مقدَّم على العموم في الصلوات؛ ولأنَّ أحاديثَ النَّهي قد دخلها التخصيص بالفائتةِ، والنومِ عنها، والنَّافلةِ التي تقضى؛ فضَعُفَ جانبُ عموم تخصيصها بذلك. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: تجويزُ ذواتِ الأسباب في أوقات النَّهي أرجحُ مِنْ منعها؛ لأنَّ ذواتِ الأسباب تفوت بفوات أسبابها، بخلاف النوافل المطلقة. واختلف العلماء هل يبدأ النهي عن الصلاة بطلوع الفجر أم بعد صلاة الفجر؟:

ذهب إلى الأوَّل الأئمة أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وأتباعهم؛ مستدلِّين بما روى أبو داود (1278) والترمذي (419) عن ابن عمر؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة بعد الفجر إلاَّ سجدتين". وذهب الشَّافعية: إلى أنَّ النَّهي يبتدىء من صلاة الفجر؛ واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري (561) عن أبي سعيد: "لا صلاة بعد صلاة الفجر حتَّى تطلع الشمس"، وغيره من الأحاديث. وما استدل به الحنابلة فيه مقال، ولا يُقاوِمُ أحاديثَ الصحيحين؛ كما سيأتي بيان ذلك. * فائدة: الحكمة في النَّهي عن الصلاة في هذه الأوقات، هي البعدُ عن مشابهة المشركين الَّذين يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها؛ فالإِسلامُ يريد من أتباعه الوَحْدَةَ في عباداتهم وعاداتهم وأحوالهم، ويريدُ منهم الاستقلال؛ فلا يحتذون غيرهم، بل تكون لهم شخصيَّتهم الإسلامية. ***

136 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ, لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى، أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أوْ نَهَارٍ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، والدَّارمي (2/ 96)، وابن ماجه، والدَّارقطني (1/ 424)، والحاكم، والبيهقي (5/ 92)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. * مفردات الحديث: - عبد مناف: ابن قُصَيٍّ، هو الأب الرَّابعُ للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وذريته هم أعزُّ بيتٍ في قريش، قال الزركلي: وكان له أمرُ قريشٍ بعد أبيه. - أية ساعة: "أي" اسم موصول، والتَّاء للتَّأنيث جاءتْ للمطابقة؛ لأنَّ "أيًّا" الموصولة تجوزُ فيها المطابقة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عبد مناف هو الأبُ الرَّابع للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت ذريته فيهم سقايةُ الحجيج والرفادة، وهم قِمَّةُ الشرف في قريش، وراوي الحديث جبير بن مطعم من زعماء بني عبد مناف؛ فإنَّ أباه الرَّابع عبدُ مناف. 2 - تحريمُ منع المتعبِّدين في المسجد الحرام في أي ساعة من ساعات الليل ¬

_ (¬1) أحمد (16301)، أبو داود (1894)، الترمذي (865)، النسائي (585)، ابن ماجة (1254)، ابن حبان (4/ 421).

والنَّهار، سواءٌ كان وقت نهي أو لا. وقال بعضهم: إن المراد به ركعتا الطواف؛ بدليل قَرْنِ الصلاة بالطواف. وقال بعضهم: إن الحديث لا يعطي شيئًا من هذين المعنيين، وإنما هو خطابٌ موجَّه إلى ولاة البيت، بأن لا يمنعوا منه أحدًا في أي وقت، أما مسألة "أن الوقت للصلاة أو عدمه"، فأمرٌ مرجعه إلى نصوصِ الشرع، وهذا توجيهٌ حسنٌ. 3 - ظاهرُ الحديث: جوازُ الصلاة في المسجدِ الحرامِ في أية ساعة من الليل والنَّهار. 4 - إقرارُ ولاية البيت في يد مَنْ ولاَّه اللهُ تعالى أَمْرَ المسلمين، في مكَّة المكرمة وما حولها. 5 - الحديثُ دليلٌ على صِحَّة قول من يرى أنَّ الصلواتِ ذوات الأسباب تُصلَّى في أوقات النَّهي؛ لأنَّه خصَّص أحاديثَ النَّهي العامَّة. 6 - فيه فضيلةٌ ومنقبةٌ كبيرة لقريشِ وُلاَةِ هذا البيت، ولبني عبد مناف منهم خاصَّة، وفضيلةٌ لمن جاء بعدهم ممَّن شرَّفه الله بخدمة هذا البيت المبارك، الَّذي قال الله فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران]، وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]. ***

137 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ وَقْفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح السند، ولكنَّه موقوف. أخرجه ابن خزيمة، من حديث ابن عمر مرفوعًا، والبيهقي (1/ 373)، وصوَّبا وقفه، وقال: روي هذا الحديث عن عليٍّ، وابن عمر، وابن عبَّاس، وعبادة بن الصامت، وشدَّاد بن أوس، وأبي هريرة، ولا يصح فيه شيء. * مفردات الحديث: - الشفق: قال ابن بَطَّال في شرح المهذَّب: الشفق: هو بقيَّةُ ضوء الشمس وحمرتها في أوَّل الليل، يرى في المغرب إلى صلاة العشاء. قال الخليلُ: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الأخيرة، فإذا ذَهَبَ، قيل: غاب الشفق. - الحمرة: بضم الحاء، وسكون الميم، هي مؤنَّث اللون الأحمر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تعيُّن تفسير الشفق أنَّه الحمرة التي تكونُ إثْرَ شعاع الشمس بعد مغيبها؛ وهذا التفسير مرفوعٌ إلى النَّبى -صلى الله عليه وسلم-، وتمام الحديث: "فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة". ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1/ 182)، الدَّارقطني (1/ 269).

2 - هذا الشفق الأحمر هو الَّذي يحدِّد نهاية وقت صلاة المغرب، وبداية صلاة العشاء، قال النووي: الصوابُ أنَّ المراد بالشفق هو الأحمر، ولا يجوز غيره. 3 - يمتد وقتُ المغرب إلى غيبة هذا الشفق الأحمر، ثمَّ يبدأ وقت العشاء، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة والشَّافعي وأحمد. ***

138 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْفَجْرُ فَجْرَانِ: فَجْرٌ يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ, وَفَجْرٌ تَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ -أَيْ: صَلَاةُ الصُّبْحِ- وَيَحِلَّ فِيهِ الطَّعَامُ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ (¬1). وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُهُ, وَزَادَ فِي الَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ: "إِنَّهُ يَذْهَبُ مُسْتَطِيلًا فِي الْأُفُقِ"، وَفِي الْآخَرِ: "إِنَّهُ كَذَنَبِ السِّرْحَان" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح الإسناد، والرَّاجح وقفه. قال الدَّارقطني: لم يرفعه غير أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن ابن جريج، ووقفه الفريابي وغيره عن الثوري، ووقفه أصحاب ابن جريج عنه أيضًا، لكنْ له شاهدٌ من رواية جابر عند الحاكم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الفجرِ فجران، فأمَّا الَّذي يكون كذنب السرحان فلا يُحِلُّ الصلاةَ، ولا يُحَرَّمُ الطعامَ، وأمَّا الَّذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنَّه يُحِلُّ الصلاة، ويحرَّم الطعامَ". قال البيهقي: روي موصولاً ومرسلًا، والمرسل أصح، وأخرجه الحاكم وصحَّحه. وفي الباب: عن سمرة رواه مسلم، وعن ابن مسعود متَّفقٌ عليه. ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (3/ 210)، الحاكم (1/ 191). (¬2) الحاكم (1/ 191).

* مفردات الحديث: - مستطيلًا: استطال الشيء استطالة، بمعنى: طال وامتدَّ وارتفع، ومستطيلًا هنا: اسم فاعل. - الأفق: بضمتين، قال في المصباح: الناحيةُ مِنَ الأرض ومِنَ السماء، والجمع آفاق. - كَذَنَب السِّرْحان: بكسر السِّين المهملة، وسكون الرَّاء، فحاء مهملة، والسرَحان هو الذئب، وذنبه يمتدُّ مستطيلًا ممتدًا مرتفعًا؛ ففيه شَبَهٌ منه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الفجر فجران: الأوَّل منهما: الفجر الكاذب، والثاني: الصادق، وأحكامهما وصفاتهما مختلفة. 2 - صفة الأوَّل منهما أنْ يذهَبَ مستطيلًا في الأفق، وأنَّه كذنب الذئب من امتداده إلى أعلى الأفق، ومن حيثُ لونُهُ الأبيضُ الضارب إلى الزرقة. 3 - صفة الفجر الثاني منهما أنَّه معترضٌ في الأفق، وأنَّ لونه أبيضُ ناصعُ البياض. 4 - حكم الفجر الأوَّل أنَّ ظهوره لا يحرِّم الأكلَ على مَنْ أراد الصيام؛ لأنَّه لا يزال الليل باقيًا، وأنَّها لا تَحِلُّ فيه صلاة الصبح؛ لأنَّه لم يدخُلْ وقتها. 5 - حكمُ الفجر الثاني يحرِّم على من أراد الصيامَ الأكلَ؛ لأنَّ ظهوره هو بدايةُ النهار، وتَحِلُّ فيه صلاةُ الصبح؛ لأنه قد دَخَلَ وقتها. ***

139 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه الترمذي والحاكم، وقد أخرجه البخاري (527)، ومسلم (85) عن ابن مسعود بلفظ: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحبُّ إلى الله؟ قالَ: الصَّلاَةُ لوقتها". * مفردات الحديث: - الأعمال: "أل" من أدوات العموم، وقد عورض بحديث: "أفضل الأعمال إيمانٌ بالله" فحمل هنا على الأعمال البدنية، فلا تتناول أعمال القلوب. - في أوَّل وقتها: رواية البخاري: "الصلاة لوقتها" بدون لفظ "أول" ووجه الجمع في رواية البخاري مثل الَّلام في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: مستقبلاتٍ أوَّلَ عدتهنَّ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ أفضل الأعمال الصالحات هو أداء الصلاة المفروضة في أوَّل وقتها. 2 - عِظَمُ الصلواتِ الخمس، وفضيلةُ الاهتمام بهنَّ، وأدائهنَّ في أوَّلِ وقتهنَّ. 3 - يستثنى من ذلك الصلاةُ التي يستحبُّ أنْ تصلَّى في آخر وقتها المختار، وهي العشاءُ، فقد صلاَّها -صلى الله عليه وسلم- حين ذهَبَ عامَّةُ الليل، وقال: "إنَّه لَوَقْتُها لولا أنْ أشُقَّ على أمتي" [رواه مسلم (638)]، وكذلك فضيلة الإبراد في الظهر؛ ¬

_ (¬1) الترمذي (173)، الحاكم (1/ 188).

فيخصَّص بهما حديث الباب. 4 - قال فقهاؤنا: وتحصُلُ فضيلة التعجيل في أوَّل الوقت بالتأهُّب، والأخذ بأسبابها من طهارةٍ وسترة؛ لأنَّ مَنْ فَعَلَ ذلك وأخَذَ بفعل الأسباب لا يُعدُّ متوانيًا، بل مهتمًّا بها. 5 - جاء في بعض الأحاديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمانٌ بالله عزَّ وجل"، وكما وردتْ أحاديث أخر في أنواع البر بأنَّ فعلها هو أفضل الأعمال. وأحسنُ جوابٍ على هذا بين شبه هذا التعارض، أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مِنْ حكمته يخاطبُ كلَّ واحد على حسب حاله، ويوجِّهه إلى ما هيأه الله له: فإنْ كَان قويَّ البدن شجاعًا، وَجَّهه إلى الجهاد، وإنْ كان ليس فيه لياقةٌ لذلك، وجَّهه إلى القيامِ بأداء الصلوات، وإنْ كان غنيًّا، وجَّهه إلى الصدقة؛ ليعمَلَ كلُّ إنسان بالَّذي يحسنه، ويستغلّ مواهبه التي منحه الله إيَّاها، فيما يُصْلِحُ نفسه، وينفع غيره، وكلٌّ ميسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له، وهذه من حكمة اختلاف مواهب الخلق، وميولهم واستعداداتهم، والله أعلم. 6 - قال ابن الملقن: الَّذي قيل في الجمع بين الأحاديث المتعارضة: أنَّها أجوبة مخصوصة، لمسائل مخصوص، بالنسبة إلى حاله أو وقته، أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت، أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك. 7 - فيه السؤالُ عن العلم ومراتبه في الأفضلية، وتقديمُ الأهمِّ فالأهمِّ في الأعمال. ***

140 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُوْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ، وَأوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللهِ، وَاَخِرُهُ عَفْوُ اللهِ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيْفٍ جِدًّا (¬1)، وَلِلْتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، دُوْنَ الأَوْسَطِ، وَهُوَ ضَعِيْفٌ أَيْضًا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف جِدًّا. قال في التلخيص: لأنَّه من رواية يعقوب بن الوليد المدني، قال أحمد: كان من الكذَّابين الكبار، وكذَّبه ابن معين، وتركه النسائي، ونسبه ابن حِبَّان إلى الوضع. قال البيهقي: كذَّبه الحفَّاظ، ونسبوه إلى الوضع. قال أحمد: لا أعرف شيئًا يثبت فيه، يعني في هذا الباب. وكذلك رواية الترمذي من طريق يعقوب المذكور. وقال ابن الملقِّن: هذا الحديث لا يصح من جميع طرقه. * مفردات الحديث: - رضوان الله: بكسر الرَّاء: رضاء الله، منافٍ لسخطه، قال الألوسي: رضا الله لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكادُ يَخْطُرُ على بال، فهو أعلى المراتب الثلاث. - رحمة الله: تفضُّله وإحسانه على عبده، فهي دون مرتبة الرضا. ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (1/ 249). (¬2) الترمذي (172).

- عفو الله: معناه: محو الذنب، ولا يكون المحو إلاَّ من تقصير، والتقصير هنا بالنسبة لِسَبْقِ مَنْ أدَّى الصلاةَ في أوَّل وقتها. قال الإمام الشافعي: رضوانُ الله أحبُّ إلينا من عفوه، فالعفو يشبه أنْ يكون للمقصِّرين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ أداء الصلاة المفروضة في أوَّل وقتها؛ طلبًا لرضوان الله تعالى. 2 - إِنْ لمْ يَكنْ ذلك فلتؤدَّ في وسطه؛ لنيل رحمة الله تعالى. 3 - أمَّا أداؤها في آخر الوقت، ففيه تكاسُلٌ وتثاقُلٌ عن الطاعة، فمن أخَّرها إلى آخر وقتها، فإنَّ الله تعالى يعفو عنه، ويسامحه على تكاسُلِهِ وعدمِ مبادرته. 4 - أنَّ أفضل الثلاثة رضوان الله، ثمَّ رحمة الله، ثمَّ عفو الله، والعفو لا يكون إلاَّ بعد شيءٍ من التقصير. 5 - فضيلةُ النشاط في العبادة، والمبادرةِ إليها، والإتيانِ إليها برغبة؛ قال تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وقال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171]، وذم المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء]. ***

141 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الفَجْرِ إلاَّ سَجْدَتَيْنِ" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِالرَّزَّاقِ: "لاَ صَلاَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ إلاَّ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ" (¬1)، وَمِثْلُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ؛ كما مال لذلك ابن حجر، ومنهم من صحَّحه. فقد أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدَّارقطني، والبيهقي من عدَّة طرقٍ، كلُّها عن قدامة بن موسى بسنده إلى ابن عمر. قال الترمذي: غريبٌ لا نعرفه إلاَّ من حديث قدامة بن موسى، عن محمد ابن الحصين، وقُدَامَةُ ثقةٌ احتَجَّ به مسلم، وثَّقه ابن معين، وأبو زرعة، وغيرهما، ولكن شيخه -وهو محمَّد بن الحصين- مجهول، ويعضُدُ الحديثَ شواهدُهُ، ممَّا روي عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم. قال ابن الملقِّن: أعلَّه ابن القطَّان بما ليس بعلَّة. قال الألباني: الحديثُ صحيحٌ بالنظر إلى مجموعِ طرقه، التي خلت من متهمٍ، أو راوٍ واهٍ جدًّا. لكنْ كلام ابن حجر في التلخيص الحبير يفيد ضعفه، وينظر كذلك نصب الراية. ¬

_ (¬1) أحمد (4742)، أبو داود (1278)، الترمذي (419)، عبدالرزاق (3/ 53)، ولم يروه ابن ماجة. (¬2) الدارقطني (1/ 419).

مفردات الحديث: - لا صلاة: كلمة "لا" نافية، ولكنَّه نَفْيٌ بمعنى النَّهْي، والتقدير: لا تصلُّوا. - سجدتين: أي: ركعتين كاملتين، وهذا من إطلاقه الجزء وإرادة الكل؛ كما فسَّرتها الرواية الثانية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النفي المتضمِّن للنهي عن الصلاة النَّافلة بعد طلوع الفجر، إلاَّ ركعتي الفجر، وهما راتبة صلاة الفجر. 2 - جواز ركعتَي الفجر بعد طلوع الفجر، وأنَّهما في وقتهما، وهذا الحديث معارَضٌ بما هو أصحُّ منه؛ وهو ما جاء في البخاري (1995)، ومسلم (827) من حديث أبي سعيدٍ الخدري؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صَلاَةَ بَعْدَ صلاَةِ الفجر حتَّى تَطْلُعَ الشمس". وَبِمَا روى البخاري (581) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتَّى تَطْلُعَ الشمس". قال المجد في المنتقى: وهذه النصوصُ الصحيحةُ تدُلُّ على أنَّ النَّهي في الفجر لا يتعلَّق بطلوعه. 3 - يحتمل أنَّ المؤلِّفَ أورَدَ هذا الحديث لبيان جوازِ قضاء ركعتَيِ الفجر، بعد أداءِ فَرْضِها في وقت النَّهي. ***

142 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: "شُغِلْتُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الآنَ، فَقُلْتُ: أفَنَقْضِيْهِمَا إذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: لاَ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (¬1). وَلأبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- بِمَعْنَاهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. حديثُ أمِّ سَلَمة رواه أحمد، والنسائي (579) والسراج، من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أمِّ سلمة، قالت: "دخل عليَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فصلَّى بعد العصر ركعتَيْن، فقلت: ما هذه الصلاة؟ فما كنْتَ تصلِّيها، فقال: قَدِمَ وفد بني تميم، فشغلوني عن ركعتين، كنت أركعها بعد الظهر". إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين، إلاَّ قولها: "أفنقضيهما ... "؛ فقد ضعَّفها البيهقي، وابن حجر في الفتح، وصحَّحها ابن حبان، وقال ابن رجب في شرح البخاري: إسنادها جيد، وكذلك قال ابن باز. * مفردات الحديث: - شغلت: مبني للمجهول، وهو من باب نفع، والمصدر: الشُّغْل بضم الشين، وأمَّا الغين، فيجوز ضمها وسكونها، وشغلت عن كذا أُلْهِيتُ عنه، قال ابن ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 315). (¬2) أبو داود (1280).

فارس: ولا يكادون يقولون: "اشتَغَلَ" بالبناء للفاعل، وهو جائز. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدلُّ الحديث على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- شُغِلَ عن الرَّاتبة التي بعد الظهر، فصلاَّها بعد صلاة العصر قضاءً. 2 - أم سلمة -رضي الله عنها- سألته هل نفعلُ ذلك، بأنْ نقضي هاتين الركعتين هذا الوقت إذا فاتتا؟ فنفى ذلك، وقال: لا تقضوهما في هذا الوقت. 3 - دلَّ هذا الحديث على أنَّ قضاءَ راتبة الظهر -التي بعدها- بعد صلاة العصر من خصائصِهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَهَامُّهُ كثيرة وكبيرة، والله تعالى أعطاه ذلك لتكميل ثوابِهِ وأعماله، ما لم يُعْطَ غيره مِنْ نوافل العبادات، وهي كالوصالِ، ووجوب صلاة الليل، ممَّا هو مذكورٌ في كتب الخصائص. ***

باب الأذان والإقامة

باب الأذان والإقامة مقدمة الأذان لغةً: مِنْ أذَّن يؤذِّنُ تأذينًا وأذانًا، فالأذان: اسم المصدر القياسي، وهو لغةً: الإعلام؛ قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي: إعلامٌ منهما إلى النَّاس. والأذان شرعًا: إعلامٌ بدخول وقت الصلاة، بألفاظٍ مخصوصة. والإقامة شرعًا: إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة، بذكرٍ مخصوص. الأدلة على مشروعيتهما: وهما مشروعان بالكتاب، والسنَّة، وإجماع الأُمَّة: قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]، وفيما رواه مسلم (387) وغيره من حديث معاوية أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤذِّنون أطولُ النَّاس أعناقًا يوم القيامة". قال ابن رشد: والأمر بالأذان منقولٌ بالتواتر، والعلمُ به حاصلٌ ضرورة، وأجمعتِ الأمَّة على مشروعيته. حكمهما: وهما: فرض كفاية، فليس لأهل مدينةٍ، ولا قريةٍ، أنْ يَدَعُوهما؛ لأنَّهما من الشعائر الظاهرة. قال الشيخ تقي الدِّين: هما فرضا كفاية، وكثيرٌ من العلماء يُطْلِقُ السُّنَّة على ما يثابُ عليه شرعًا، ويعاقب تاركه شرعًا؛ فالنِّزاعُ إذًا لفظي. وفرض الكفاية: هو ما يَلْزَمُ جميعَ المسلمين إقامتُهُ، وإذا قام به من يكفي، سقطت الفرضيَّة عن الجميع، وإلاَّ أثموا. والأذان: جامعٌ لعقيدة الإيمان؛ فأوَّله: إثبات الذَّات والإجلال والتعظيم

لله تعالى، ثمَّ إثباتُ الوحدانية له، ونَفْيُ ضدِّها من الشرك بالله تعالى، ثمَّ إثباتُ رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ دعوةٌ إلى الصلاة، الَّتي هي عمودُ الإسلامِ، ثمَّ دعوةٌ إلى الفلاح، الَّذي هو الفوزُ والبقاء في النَّعيمِ المقيم، ثمَّ التذكيرُ بإقامة الصلاة. فهذه المعاني العظيمةُ الجليلة محتوياتُ الأذان والإقامة. ويجب الأذانُ والإقامةُ على الرِّجَال؛ لما روى البيهقيُّ (1/ 408) وضعَّفه عن أسماء بنت يزيدَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ليس على النِّساءِ أذَانٌ ولاَ إقَامَةٌ". وصَحَّ عن ابن عمر موقوفًا عند البيهقي (1/ 458)، كما قال ابن الملقِّن في "خلاصة البدر" (1/ 106). قال الوزير: أجمعوا على أنَّهما لا يُشْرَعان لهنَّ ولا يسنَّان، ويجبان -على الصحيح- حضرًا وسفرًا؛ فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُهُمَا حضرًا ولا سفرًا. قال النووي: لا يشرعان لغير المكتوباتِ الخمس عند جمهور العلماء من السلف والخلف. جمل الأذان: والأذان المختارُ خمسَ عشرةَ جملةً. قال الشيخ: مذهبُ أهلِ الحديث هو تسويغُ كلِّ ما ثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكرهون شيئًا من ذلك. حكم استبدال الأذان بالإسطوانات: قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إنَّنا ننكر استبدالَ الأذان بالإسطوانات؛ فإنَّ ذلك يفتح على النَّاسِ بابَ التلاعُبِ بالدِّين. ولا بأس باستعمال رافعِ الصوت في الأذان وخُطْبةِ الجمعة والعيدين ونحو ذلك؛ ليحصُلَ به إسماعُ الأذان في مسافاتٍ بعيدة. وليس هذا من البدع؛ فإنَّ البدعة هي الطريقة المحدثة في الدِّين، مضاهاةً للشريعة، والميكروفون لا يقصد باستعماله إلاَّ رَفْعُ الصوت فقطْ، فهو وسيلةُ تبليغٍ، وهي ترجعُ إلى العادات، والله أعلم.

143 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "طَافَ بِي وأنَا نَائِمٌ رَجُلٌ فَقَالَ: تَقُوْلُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَذَكرَ الأَذَانَ بِتَرْبِيعِ التَّكبِيرِ، بِغَيْرِ تَرْجِيْعٍ، وَالإِقَامَةَ فُرَادَى، إِلاَّ "قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ"، قَالَ: فَلَمَّا أصْبَحْتُ أتيْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "إِنَّهَا لَرؤْيَا حَقٍّ .. " الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَزَادَ أَحْمَدُ في آخِرِهِ قِصَّةَ قَوْلَ بِلاَلِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي أَذَانِ الفَجْرِ: "الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ". وَلاِبْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَالَ المُؤَذِّنُ في الفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، قَالَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ من النَّوْمِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارمي (1/ 286)، وابن الجارود (2/ 49)، والدَّارقطني (1/ 241)، والبيهقي (1/ 415). وسنده حسن. وقد صحَّحه جماعةٌ من الأئمة؛ كالبخاري والنووي والذَّهبي وغيرهم. وأمَّا زيادة أحمد: فقال سعيد بن المسيب: "أُدْخِلَتْ هذه الكلمةُ في التأذين لصلاة الفجر". ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 43)، أبوداود (499)، الترمذي (189)، ابن خزيمة (1/ 371).

قال في سبل السلام: "وصحَّح الزيادةَ ابنُ خزيمة وابنُ السكن". قال ابن حزم: "وإسنادُهُ صحيح، والأحاديثُ لم تَرِدْ بإثباتها إلاَّ في صلاة الصبح". قال ابن عبد البر: "روى قصَّةَ عبد الله بن زيد هذه جماعةٌ من الصحابة بألفاظٍ مختلفة، ومعانٍ متقاربة؛ فالأسانيدُ في ذلك متواترةٌ من وجوهٍ حسان". وقال ابن رشد: "إنَّها منقولةٌ بالتواتر، وإنَّ العلم بها حاصلٌ بالضرورة". * مفردات الحديث: - طَافَ بِي: طَافَ يَطِيفُ طَيْفًا، من باب باع. قال في المصباح: "أصله الواو فهو يَطُوفُ؛ لكن قُلِبَتْ واوه ياءً؛ إمَّا للتخفيفِ، وإمَّا لغة؛ فالطائف: ما ألَمَّ بالإنسان". وقال في المحيط: "طاف بالشيء: دَارَ حوله، وطاف الخيالُ: جاء في النوم". - بتربيع التكبير: تكريره أربع مرَّاتٍ. - ترجيع: رجَّع -بالتشديد- المؤذِّنُ في أذانه تَرْجِيعًا، بمعنى: أنْ يأتيَ بكلٍّ من الشَّهادتينِ مرَّتَيْنِ خافِضًا بهما صوتَهُ، ومرَّتين رافعًا بهما صوته. - الإِقَامَة: يُقال: قام يقوم قومًا وقيامًا، ويتعدَّى بالهمزة، فيُقال: أقام الصلاة إقامة: نادى لها. - رُؤيا: يقال: رأى يَرَى رؤية. قال في المحيط: "الرؤيا كالرؤية، غير أنَّها مختصَّةٌ بما يكونُ في النوم، فرقًا بينهما، فالرؤيا: ما رأيته في منامك، جمعها رُؤًى". - حي: بتشديد الياء، بمعنى: هَلُمَّ وأَقْبِلْ، وهو اسم فعلٍ بمعنى الأمر، مبنيٌّ على الفتح، فقول المؤذِّنين: "حي على الصلاة" يعني هلم وأقبل إلى الصلاة. - فرادى: قال في المصباح: "فرادى: جمع فرد على غير قياس"، ومعناه: لا

تكرير في شيءٍ من ألفاظها، إلاَّ "قد قامت الصلاة"، فإنَّها المقصودة من الإقامة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استشار النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بوسيلةٍ يعلمون بها دخول وقت الصلاة المفروضة، فتفرَّقوا قبل أنْ يَصِلُوا إلى حَلًّ. 2 - رأى عبد الله بن زيد في منامه رجلاً يَحْمِلُ ناقوسًا، فقال: أتبيعُ النَّاقوس؟ فقال الهاتف: وما تصنع به؟ قال: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير؟ قَالَ: بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر ... إلى آخر الأذان، فاخبر به النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنَّها لرؤيا حقٍّ"، وأمر بالعمل بها. 3 - دلَّ الحديثُ على مشروعيَّة الأذان لدعاء الغائبين إلى الصلاة في المساجد. 4 - مشروعيَّةُ الشفع في الأذان، بأنْ يأتيَ بجُمَلِهِ مَثْنَى، أو رُبَاعَ، كالتكبير في أوَّله، ويكون بخمسَ عشرةَ جملةً، كلُّها مشفوعةٌ إلاَّ الجملةَ الأخيرة؛ فهذا أذان عبد الله بن زيدٍ المختار. 5 - مشروعية إفراد الإقامة إلاَّ التكبيرَ في أوَّلها، و"قد قامت الصلاة"، فهي مشفوعة، وظاهر الحديث: إفراد التكبير في أوَّله، ولكن جمهور العلماء على أنَّ التكبير في أوَّلها مرَّتان. 6 - الأفضلُ تركُ الترجيع، الَّذي هو الإتيانُ بالشهادتين بصوتٍ منخفضٍ، ثمَّ إعادَتُهُمَا بصوتٍ عال. 7 - استحبابُ أنْ يقولَ المؤذِّن في صلاة الصبح، بعد "حي على الفلاح": "الصلاة خيرٌ من النوم" مرَّتين. 8 - مناسبةُ هذه الجملة لهذا الوقت؛ لأنَّ الناس غالبًا في منامهم، فيحتاجون إلى هذا التذكير. 9 - الحكمةُ في تكرير الأذان، وإفرادِ الإقامة: هي أنَّ الأذان لإعلام الغائبين؛

فاحتيج إلى التكرير ورفع الصوت، وأنْ يكونَ على مرتَفَعٍ؛ بخلاف الإقامة: فإنَّها لإعلام الحاضرين، وإنَّما كرِّرت "قد قامت الصلاة"؛ لأنَّها مقصود الإقامة. 10 - قال ابن الملقِّن: ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: (أ) إظهارُ شعار الإسلام. (ب) كلمةُ التوحيد. (ج) الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، ومكانها. (د) الدعاءُ إلى الجماعة. 11 - ذكر العلماءُ أغلاطَ المؤذِّنين، التي منها: (أ) مَدُّ الهمزة في "أشهد"؛ ليخرج إلى الاستفهام. (ب) مَدُّ الباء من "أكبر"؛ فينقلب المعنى إلى جمع "كَبَر" وهو الطبل. (ج) الوقف على "إله"، ويبتدىء "إلاَّ الله". (د) إدغام الدَّال في الرَّاء، من "محمدًا رسول الله". (هـ) أنْ لا ينطق بالهاء من "الصلاة"، فيبقى دعاء إلى النَّار. (و) الوقوفُ على آخرِ الكلمة بحركة. ***

144 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُوْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَّمَهُ الأَذَانَ فَذَكَرَ فِيْهِ التَّرْجِيع" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلكِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ، وَرَوَاهُ الخَمْسَةُ فَذَكَرُوهُ مُرَبَّعًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث شاذٌّ بذكر التكبير في أوَّل الأذان مرَّتين. فقد رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة أربع تكبيرات. قال ابن عبد البر: "التكبير أربع مرَّات في أوَّل الأذان هو المحفوظُ من رواية الثقات، من حديث أبي محذورة، ومن حديث عبدالله بن زيد". قال في التلخيص: حديث عبد الله بن زيد بتربيع التكبير في أوَّله هي قصَّة مشهورة، رواه أبوداود، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان. والتربيع عمل أهل مكَّة، وهي مَجْمَع المسلمين في المواسم، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة. قال النووي: يقولُ المؤذِّن كلَّ تكبيرتين، بنَفَسٍ واحد. * مفردات الحديث: - فيه الترجيع: رجَّعت الكلام وغيره، أي: ردَّدته، والترجيعُ في الأذان، معناه: ترديد الشهادتين مرَّتين، الأُولَى بخفض الصوتِ، والثانية برفعه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ أبا محذورة هو أحدُ مؤذِّنِي رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكَّة المشرَّفة. 2 - مشروعيةُ تعليمِ الأذان للجاهل به. ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (386).

3 - الترجيعُ وَرَدَ في حديث أذانِ أبي محذورة، ولم يَرِدْ في أذانَيْ بلال وعبد الله ابن أم مكتوم، وفي مثل هذا يستحبُّ أنْ يؤتَى به أحيانًا، ففي ذلك إعمالُ السنَّة كلِّها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهبُ أهل الحديث وَمَنْ وافقهم هو تسويغُ كلِّ ما يثبُتُ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يكرهون شيئًا من ذلك إذا تنوَّعت صفته، كالأذان، والإقامة، والتشهُّدات، والقراءات، فمِنْ تمام اتباعِ السُّنَّة أنْ يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فهذا أصل للإمام أحمد مستمرٌّ في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها. 4 - استحبابُ أنْ يكون المؤذِّن حسَنَ الصوت، جميل الأداء. 5 - مشروعية الترجيع، وذلك بالإتيانِ بالشهادتَيْن خافضًا بهما صوته، ثمَّ إعادتهما بصوتٍ مرتفع. 6 - التكبيرُ مرَّتان في أوَّلِ الأذان في أذان أبي محذورة، أمَّا في أذان بلال فأربع، وهو الَّذي تلقَّاه عبد الله بن زيد في منامه. 7 - يختلف أذان أبي محذورة عن أذان بلال، بعدد جُمَلِهِ. 8 - أبو محذورة من بني جُمَح من قريش، كان بعد الفتح مع صِبْيَانِ مكَّة، يحكون الأذانَ استهزاءً، فسمعه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فأعجبه صوته، فدعاه وعلَّمه الأذان، فكان مؤذِّنَ أهلِ مكَّة، وبلالٌ مؤذِّنَ أهلِ المدينة. ***

145 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوترَ الإِقَامَةَ إِلاَّ الإِقَامَةَ، يَعْنِي: إِلأَ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ولَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ الاِسْتِثْنَاءَ. وَلِلنَّسائِيِّ: "أمَرَ النَّبَيُّ -صلى الله عليه وسلم- بلاَلاً" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُمِرَ بلال: بضم الهمزة على صيغة المجهول، والرَّاجحُ عند الأصوليين: أنَّ الآمر هو الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، قال الكرماني: الصوابُ أنَّه مرفوع. - يشفع: يُقال: شفَعَ العددَ يشفعُهُ شَفْعًا، أي: صيَّره شفعًا، أي: زوجًا، والمعنى: أضافَ إلى الواحد آخر، وإلى الركعة أخرَى؛ فصار شفعًا. - يوتر: يُقال: أوتَرَ يُوتِرُ إيتارًا: جعل الشفع وترًا، وأوتر الإقامةَ: جعَلَ جملها وترًا، والوتر الفَرْد. - يوتر الإقامة إلاَّ الإقامة: المراد من "الإقامة" الأولى: جميعُ جملِ الإقامة، والمراد من "الإقامة" الثانية: جملة "قد قامت الصلاة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديثُ مرفوع إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا التعبير عن الصحابة في حكم الرفع؛ لأنَّ الآمر والنَّاهي هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - استحبابُ شَفْعِ جميعِ الأذان، وذلك لأجلِ أنْ تكرَّر جُمَلُهُ، فيسمعها البعيدون؛ لإعلامهم بدخول وقت الصلاة. ¬

_ (¬1) البخاري (605)، مسلم (378)، النسائي (2/ 3).

3 - استحبابُ وِتْرِ الإقامة، والإتيانِ بجملها مفردةً؛ لأنَّها لإعلامِ الحاضرين بإقامة الصلاة؛ فلا تحتاجُ إلى التكرير. 4 - استحبابُ تكرير "قد قامت الصلاة" في الإقامة؛ لأنَّها المقصودُ من الإقامة؛ فصار لهذه الجملة مزيدُ عناية واهتمام. 5 - يؤخذُ من الحديث استحبابُ تكرير الأشياء الهامَّة على النَّاس، إذا لم يسمعوها في الأول؛ ليعوها ويستوعبوها، سواءٌ في الخُطَبِ، أو الدرس، أو غير ذلك مِنْ مواطن الإرشاد والتعليم. فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أنسٍ قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعيدُ الكلمةَ ثلاثًا؛ لِتُعْقَلَ عنه". 6 - أحسنُ استدلالٍ على جواز تفاوت جُمَلِ الأذان -ما بين أذانِ بلالٍ وأذانِ أبي محذورة- هو أنَّ هذا الأذانَ ينادَى به كلَّ يومٍ خمس مرَّاتٍ على أعلى مكانٍ، ويجيبُ المؤذِّنَ المسلمون كلُّهم، زمن الصحابة، ثمَّ التابعين، ومع هذا لم يذكر اختلاف بينهم في جواز الأمرين. ***

146 - وعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَأَيْتُ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ وَاتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَلاِبْنِ مَاجَهْ: "وَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ". وَلأِبِي دَاوُدَ: "لَوَى عُنمهُ لَمَّا بلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ يَمِيْنًا وَشِمَالاً، وَلَمْ يَسْتَدِرْ" (¬1) وأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أحمد، والترمذي، والحاكم (1/ 399) قال الترمذي: حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصحَّح هذه الرواية -أيضًا- ابن خزيمة، وأبو عوانة. وأمَّا رواية ابن ماجه: ففيها الحجاج بن أرطاة، وهو غير محتجٍّ به. وأمَّا قوله: "لم يستدر" فقد قال عنها البيهقي: إنَّها لم ترد من طريق صحيح، لأنَّ مدارها على سفيان الثوري، وهو لم يسمعه من عون، إنَّما رواه عن رجلٍ عنه، والرَّجل يتوهَّم أنَّه الحجَّاج، والحجَّاج غير محتجٍّ به. * مفردات الحديث: - فاه: هو الفم، جمعه: أفواه، و"فو" من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو، ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 308)، أبو داود (520)، الترمذي (197)، ابن ماجة (711). (¬2) البخاري (634)، مسلم (503).

وتنصب بالألف، وتجر بالياء. - هاهنا وهاهنا: "هنا" اسم إشارة للقريب، و"ها" للتنبيه، تدخل على أربعة مواضع، أحدها: الإشارة غير المختصَّة بالبعيد، كهذا الحديث. - إصبعاه: مجازٌ عن الأنملة، من باب إطلاق الكُلِّ وإرادة الجزء. - لوى عنقه: التفَتَ برأسه فقط. - لم يستدر: استدار، بمعنى: دار، ومعنى لم يستدر: أن جسمه ثابتٌ تجاه القبلة ويلوي عنقه يمينًا بِـ"حي على الصلاة"، وشمالاً بِـ"حيَّ على الفلاح". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعيَّة الأذان، وقد تقدَّم أنَّه من شعائر الدِّين الظاهرة، وأنْ يضع المؤذِّنُ أعلى سبَّابتيه في أذنيه؛ لأنَّه أرفع لصوته، وإذا رآه البعيد، عَلِمَ أَنَّه يؤذِّن. 2 - استحباب استقبال القبلة في الأذان، وأنْ لا ينصرف عنها بجملته إلى الجهتين في الحَيْعَلَتَيْنِ، وفي رواية عن أحمد وغيره: أنَّه لا يدورُ إلاَّ إذا كان على منارة، قَصْدَ الإسماع. 3 - يلتفتُ ويلوي عنقه يمينًا، عند قوله: "حي على الصلاة"، ويلوي عنقه شمالاً عند قوله: "حي على الفلاح"؛ لأنَّ هَاتَيْنِ الجملتَيْنِ هما اللتان فيهما التصريحُ بمناداةِ النَّاسِ؛ ليحضروا للصلاة، وما عداهما من جمل الأذان، فَذِكرٌ. 4 - أمَّا بقيَّة جسده فيبقى مستقبلَ القبلة، لا يلتفت به، ولا يستدبر به القبلة. 5 - استحبابُ إبلاغِ الأذان للنَّاسِ وإسماعهم إِيَّاه بأيِّ وسيلة مباحة، كمكبِّرات الصوت الحديثة الآن، فهي مستحبَّة لما فيها من الفائدة الكبيرة، وليستْ من البدع؛ فإنَّ البدعة في الدِّين: هي طريقةٌ في الدِّين مخترعة، تضاهي العبادة الشرعية، يُقْصَدُ بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبُّد لله تعالى، وهذه الأجهزةُ لا يقصد باستعمالها العبادة، وإنَّما يُقْصَدُ بها رفعُ الصوت، فهي وسيلة تبليغ، فمرجعُهَا إلى العادات، والله أعلم.

147 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُوْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْجَبَهُ صَوْتُهُ، فَعَلَّمَهُ الأَذَانَ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الدَّارمي (1/ 291)، وأبو الشيخ بإسناد متصل إلى أبي محذورة، وأخرجه أيضًا ابن حبان (5/ 574) من طريق أخرى، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وصَحَّحه ابن السكن، وابن حزم، وابن دقيق العيد. * مفردات الحديث: - أبو مَحْذورة: بفتح الميم، وسكون الحاء: مؤذِّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكَّة، اختُلِفَ في اسمه، وأشهرها أنَّه: أوس بن معير بن محيريز، قرشي من بني جُمَح. - أعجبه صوته: عَجِبْتُ من الشيء عَجَبًا، من باب تعب، ومعناها: استحسانُ الشيء والرضا به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ كون المؤذِّن رفيعَ الصوت، حَسَنَ الأداء، شجيَّ النداء. 2 - استحبابُ تعليمِ الأذان لمن أراد أنْ يَقُومَ به. 3 - استحبابُ تحسينِ الصوتِ بالأذان وتلاوةِ القرآن؛ لأنَّ هذا أدعَى للخشوع، والإقبالِ على السماع. ... ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (377).

148 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- العِيْدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1) وَنَحْوُهُ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- وَغَيْرهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سَمُرة: بفتح السين، وضم الميم، ابن جُنْدُب، وجابرٌ: صحابيٌّ جليلٌ حليفٌ للأنصار. - غير مرَّة ولا مرَّتين: التحديد بالمرَّة والمرَّتين غير مرادٍ: وإنَّما المراد أنَّ ذلك كثير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ صلاة العيد، سواء الفطر أو الأضحى، لا يشرَعُ لها أذانٌ ولا إقامة، وهو كالإجماع بين العلماء. 2 - قال ابن القيِّم في الهدي: "كانَ -صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى إلى المصلَّى في صلاة العيد، صلَّى من غير أذانٍ ولا إقامةٍ، ولا قولِ: "الصلاة جامعة"، فالسنَّةُ أَنْ لا يُفْعَلَ شيءٌ من ذلك". 3 - الحكمةُ في عدم الأذان للعيدَيْن -والله أعلم- أنَّ دخولَ وقتهما يشتهرُ بثبوتِ دخولهما، وأنَّ وقتهما محدَّدٌ ومعلوم. والأذانُ الغرضُ منه الإعلامُ بدخول الوقت، وهنا النَّاسُ ليسوا بحاجةٍ ¬

_ (¬1) مسلم (887). (¬2) البخاري (960)، مسلم (886).

إلى الإعلام بدخول الوقت، وليسوا في حالِ غفلةٍ عن الصلاةِ ووقتها. 4 - الأذانُ والإقامةُ لا يشرعان لغير الصلوات الخَمْس المكتوبة، فلا يشرعان لا لنافلة، ولا جنازة، ولا عيد، ولا استسقاء، ولا كسوف. قال النووي: لا يشرعان لغير المكتوباتِ الخمس، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف. ***

149 - وَعَنْ أَبِي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحَدِيْثِ الطَّوِيْلِ فِي نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلاَةِ: "ثُمَّ أذَّنَ بِلالٌ فَصَلَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا كانَ يَصْنعُ كُلَّ يَوْمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ولهُ عَنْ جَابِر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وإقَامَتَيْنِ" (¬2). وَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "جَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بإقَامَةٍ وَاحِدةٍ"، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: "لِكُلِّ صَلاَةٍ"، وفي روايةٍ لَهُ: "وَلَمْ يُنادَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - في نومهم عن الصلاة: هي صلاةُ الفجر، حين رجوعهم من غزوة خيبر. - المزدلفة: هي إحدَى مشاعر الحج، وهي واقعةٌ بين وادي محسِّر ومأزمي عرفة، فوادي محسِّر غربها، والمأزمان شرقها، سمِّيت مزدلفة؛ لازدلاف الحجاج بها من عرفات إلى منى، وهي مبيت الحجاج ليلة عيد النحر. وسيأتي بيانها في الحج، إنْ شاء الله تعالى. - ولم يناد: النِّداء -هنا- يراد به: الأذان الشرعي. ¬

_ (¬1) مسلم (681). (¬2) مسلم (2/ 891). (¬3) مسلم (1288)، أبو داود (1928).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية الأذان والإقامة للصلاة الفائتة بنَوْمٍ، ومثلها المنسيَّة، فيؤذَّن لها ويُقام؛ لأنَّها ليست قضاء، وإنَّما هي أداءٌ؛ لحديث: "من نام عِن صلاةً أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها، لا كفَّارة لها إلاَّ ذلك" [رواه البخاري (597)، ومسلم (684)]، ولمسلم (684) من حديث أبي هريرة، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نسيَ صلاةً فليصلِّها إذا ذكرها؛ فإنَّ الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} ". 2 - في حديث جابرٍ دليلٌ على أنَّ الصلاتَيْن المجموعتَيْن في وقتٍ واحدٍ لهما أذانٌ واحدٌ وإقامتان، لكلِّ صلاةٍ إقامةٌ، هذا هو الرَّاجحُ من الروايات، وسيأتي الخلاف. 3 - فيه دليلٌ على أنَّ صلاة الليل إذا قُضِيَتْ في النَّهار أنْ يجهر فيها بالقراءة؛ فإنَّ القضاء يحكي الأداء في أغلبِ صوره، ولقوله في الحديث: "فصلَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كما كان يصنع كلَّ يوم". ومثله صلاةُ النهار تصلَّى بالليل، كما تصلَّى بالنهار. 4 - وفيه دليلٌ على أنَّ النائم عن الصلاة معذورٌ، ما لم يتخذ النومَ عادةً له، يفوِّت عليه الصلاة في وقتها. 5 - وفيه دليلٌ على أنَّ الصلاة المقضيَّة، تشرعُ لها الجماعة؛ كالمؤدَّاة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الأذانِ والإقامةِ لصلاتَي المغرب والعشاء، المجموعتَيْنِ ليلة المزدلفة: فذهب الحنفية: إلى أنَّهما تصلَّيان بأذانٍ واحدٍ، وإقامةٍ واحدة. وذهب بعضهم، ومنهم سفيان الثوري: إلى أنَّهما تصليان بإقامةٍ واحدة بدون أذان.

وذهب بعضهم، ومنهم مالك: إلى أنَّهما تصليان بأذانين، وإقامتين. وذهب بعضهم، ومنهم إسحاق بن راهويه: إلى أنَّهما تصلَّيان بإقامتين، بدون أذان. وذهب بعضهم، ومنهم الشافعي وأحمد: إلى أنَّهما تصلَّيان بأذانٍ واحدٍ، وإقامتين. وسبب الاختلاف: تعدُّد الروايات، وبما أنَّه خلافٌ على واقعة واحدة، فإنَّ ابن القيِّم وأمثاله من المحقِّقين حكموا على متون هذه الروايات بالاضطراب، وصحَّحوا رواية جابر الَّذي تتبَّع حجَّة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من أوَّلها إلى آخرها، ورواية جابر هو أنَّه -صلى الله عليه وسلم- صلاَّهما بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، وهذا هو مذهب الإِمامين الشَّافعي وأحمد، رحمهما الله تعالى. واختلفوا في حكم الجمع إذا وصَلَ مزدلفة قبل دخول العشاء: فالمشهورُ من مذهب الإمام أحمد: أنَّه يصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها؛ لأنَّ عذره في الجمع زال. وذهب بعضهم: إلى أنَّه يؤخِّر المغرب حتَّى يدخُلَ وقت العشاء؛ ليجمع بينهما، تحقيقًا للجمع المشروع في هذه الليلة. وذهب بعضهم: إلى أنَّه يصلِّيهما جمعًا متى وصل، سواءٌ في وقت المغرب أو بعد دخول وقت العشاء، وهذا هو الأرجحُ؛ لأنَّه حصَلَ الجمعُ المراد، وحصَلَ به الصلاةُ من حين الوصول. ***

150 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالاَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُوْمٍ، وَكانَ رَجُلاً أعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أصْبَحْتَ، أصْبَحْتَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي آخِرِهِ إِدْراجٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فكلوا واشربوا: أي: السحور، إنْ أردتم الصيام. - ينادي: أي: يؤذِّن، كما في رواية الطحاوي، ومعناهما واحد، فالأذان: هو النِّداء؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]. قال في المصباح: النِّداء، بكسر النون أكثر من ضمِّها، وبالمد فيهما أكثر من القصر. - بليل: الباء للظرفية، أي: في ليل، والمرادُ به قبيل الفجرة حيثُ بيَّنته رواية البخاري: "لم يكنْ بينهما إلاَّ أنْ يَرْقَى هذا، وينزل هذا". - أصبحت أصبحت: أي: دخلْتَ في وقت الصباح؛ فقد جاء في رواية البيهقي: "ولم يكن يؤذِّن حتَّى ينظر النَّاس إلى بزوغِ الفجر". واختلف في اسم ابن أمِّ مكتوم، والأكثر: أنَّه عمرو، وهو قرشيٌّ عامريٌّ، وأُمُّه من بني مخزوم، وهو من المهاجرين الأوَّلين، وهو الَّذي نزل في قصَّته أوَّل سورة عبس. ¬

_ (¬1) البخاري (617)، مسلم (1092).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز اتخاذ مُؤَذِّنَيْنِ لمسجدٍ واحدٍ، ويستحبُّ تعاقبهما في الأذان. 2 - مشروعية أنْ يؤذِّن كل واحدٍ منهما في وقتٍ خاصٍّ معلوم؛ ليعلم وقت أذان هذا من أذان الآخر. 3 - استحبابُ أنْ يكونَ الأذانُ على مكانٍ عالٍ؛ لقوله في بعض ألفاظ الحديث: "فما كان بينهما إلاَّ أنْ يصعد هذا، وينزل هذا". 4 - جوازُ أذان الأعمَى، إذا وُجِدَ مَنْ يُخْبِره بدخول وقت الأذان. 5 - جوازُ الأذانِ لصلاة الصبحَ قبل وقتها، فأصحابنا الحنابلةُ أجازوه من بعد نصف الليل، ولكن رواية البخاري (1919) لهذا الحديثِ لا تُثْبتُ ذلك؛ فإنَّ نص الرِّواية: "ولم يَكنْ بينهما إلاَّ أنْ يرقى هذا، وينزل هذا". وعند الطحاوي بلفظ: "إلاَّ أنْ يصعد هذا، وينزل هذا". وللعلماء في دخول وقت الأذان للصبح من الليل ستَّة أقوال، والأفضل: الاقتصار على الوارد أو قربه بقليل؛ فيكون في السحر قبيل طلوع الفجر، وعليه يدل الحديث، واختاره من الشَّافعية البغوي، ومال إليه من الحنابلة الموفَّق ابن قدامة. 6 - جوازُ الأكل والشرب لمريدِ الصيامِ حتَّى يتبيَّن الصبح؛ فإنَّ أذان بلال الَّذي يتقدَّم الصبح بقليل، لم يكن أذانه مُحَرِّمًا للطعام على الصائم؛ قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. 7 - وفيه دليلٌ على أنَّ مريد الصومِ لو أكلَ ظانًّا بقاءَ الليل، ثمَّ تبيَّن أنَّه أكلَ بعد طلوعِ الفجر: لا قضاءَ عليه، ولا إِثْمَ عليه؛ لأنَّه مأذونٌ له، وما ترتَّب على المأذون جائزٌ. 8 - إذا كان للمسجدِ الواحدِ مؤذِّنان، وأذَّنا للصبح، فالواجبُ أنْ يكون أذان

الأخير منهما مع طلوع الفجرة حتَّى يكون في أذانه الإعلامُ بالكفِّ عن المفطِّرات لمريد الصيام، والإعلام بدخولِ وقت الصلاة. 9 - الحديثُ فيه إدراج، وهو من قوله: "وكان رجلاً ... إلخ" قيل: من كلام ابن عمر، وقيل: من كلام الزهري. 10 - قوله: "إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل" يقتضي أنَّ هذه كانتْ طريقتَهُ وعادتَهُ دائمًا. 11 - الأذان للصبح قبل الوقت مناسب؛ ذلك لأنَّ النَّاس في حالة نوم، ولو لم يؤذَّن إلاَّ بعد أنْ يطلع الفجر، لَمَا تمكَّنوا من الاجتماع في المسجد للصلاة، إلاَّ بعد فوات أوَّلِ الوقت، فَشُرِعَ الأذانُ ليلاً لهذه الغاية. 12 - فيه دليلٌ على صحَّة العمل بِخَبَرِ الواحد. ***

151 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ بِلاَلاً أَذَّنَ قَبْل الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلا إِنَّ العَبْدَ نَامَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، وله روايتان: إحداهما: الَّتي ساقها المؤلِّف من أنَّ الَّذي أذَّن قبل الفجر هو بلال، مؤذِّنُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه أبو داود، والترمذي، وابن المديني، وقد ضعفوها. الثانية: أنَّ الَّذي بادَرَ بالأذان هو مسروح، مؤذَّن عمر، ورجَّحَهَا أبوداود؛ وهو الصواب. * مفردات الحديث: - ألاَ: يؤتَى بها لاستفتاحِ الكلام، ويُراد بها -في مثل هذا- تنبيهُ السَّامع إلى ما يُلْقَى إليه من الكلام، كما هو المراد هنا. - إنَّ العبد نام: أي: غَفَلَ عن الوقت بسبب النعاس، والمقصودُ: إعلام النَّاس بالخطأ، وبلال -رضي الله عنه- أصله مولًى لأبي بكر الصديق وأعتقه، فكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سَيِّدُنا، وأعتق سَيِّدَنا، يعني: بلالاً. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدلُّ الحديثُ على أنَّ الأذان لصلاة الصبح لا يصحُّ إلاَّ بعد طلوع الفجر، وأنَّ المؤذِّن إِذَا أخطأ فأذَّن قبل الصبح، عليه أنْ يعود فينبِّه النَّاس إلى خطئه؛ ¬

_ (¬1) أبو داود (532).

وهكذا وقع لبلال لمَّا أذَّن قبل الصبح. 2 - هذا الحديثُ هو دليلُ الحنفية في أنَّ الأذانَ لا يصحُّ إلاَّ بعد دخول الوقت، ومن ذلك صلاةُ الصبح؛ فلا يؤذَّن لها قبل وقتها بطلوع الفجر. 3 - جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- أجازوا الأذانَ لصلاةِ الصبح قبل طلوع الفجر، وَحَمَلُوا هذا الحديثَ على أنَّه وَقَعَ قبل أنْ يشرع الأذان الأوَّل لصلاة الصبح. 4 - إذا لم يمكنْ حملُ هذا الحديث على أحد المحامل الوجيهة، فإنَّه لا يقاوم الأحاديثَ الصحيحةَ التي تجيزُ الأذانَ لصلاةِ الصبح من الليل، ومنها: (أ): ما جاء في البخاري (621) ومسلم (1093) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يمنعنَّ أحدَكُمْ أذانُ بلال من سحوره؛ فإنَّه يؤذِّن بليل". (ب): ما في البخاري (623) ومسلم (1092) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل، فكُلُوا واشربوا حتَّى يؤذِّن ابن أُمِّ مكتوم". وحديث الباب إنْ صحَّ، فهو موقوفٌ على عمر بن الخطاب، فهو الَّذي وقع له ذلك مع مؤذِّنه، وأنَّ حمَّادًا انفرد به. قال ذلك حفَّاظ الحديث وأئمة المسلمين؛ أمثال أحمد بن حنبل، والبخاري، والترمذي، وأبي حاتم، والذهلي، وغيرهم. قال البيهقي: الأذان للصبح بالليل ثابت عند أهل العلم بالحديث، والأحاديثُ الصحاحُ أولَى بالقبول من هذا الحديث. ***

152 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ: فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُوْلُ المُؤَذِّنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِثْلُهُ (¬2). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي فَضْلِ القَوْلِ كَمَا يَقُوْلُ المُؤَذِّنُ كَلِمَةً كَلِمَةً سِوَى الحَيْعَلَتَيْنِ، فَيَقُوْلُ: "لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الحيعلتين: تثنية حَيْعَلَة، وهي كلمةٌ منحوتة من "حي على الصلاة" و"حي على الفلاح" ونَحْتُ الكلمة: أخذها وتركيبها من كلمتَيْن أو كلمات، كما يُقال: بَسْمَلَ من "باسم الله"، وَحَمْدَلَ من "الحمد لله"، وهكذا. - مثل ما يقول المؤذِّن: "مثل" منصوبٌ على أنَّه صفة لمصدرٍ محذوف، أي: قولوا قولاً مِثْلَ ما يقول المؤذِّن، وكلمة "ما" موصولة، والمِثْلُ هو النظير. - حول: الحول: القدرة على التصرُّف، والمعنى: لا تحوُّل عن معصية الله إلى طاعته إلاَّ به. - قوَّة: أي: طاقة. - لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله: يجوز في إعرابها خمسة أوجه، أفضلها فتحهما بلا ¬

_ (¬1) البخاري (611)، مسلم (383). (¬2) البخاري (612). (¬3) مسلم (385).

تنوين، ومعناها: لا حركة ولا استطاعة إلاَّ بمشيئة الله، وهذا المعنَى هو المناسبُ في هذا المقام، وتسمَّى "الحوقلة"؛ فالحاء والواو من الحول، والقاف من القوَّة، والَّلام من اسم الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ إجابة المؤذِّن بمثل ما يقولُ في جُمَل الأذان، سوى الحيعلتين. 2 - الإجابة في الحيعلتين تكونُ بـ "لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله". 3 - الإجابةُ بهذه الطريقة في غاية الحسن والمناسبة؛ فألفاظُ الأذان بالذكر تكون من السامع والمجيبُ بالذكر مثلُ المؤذِّن، وأمَّا في النِّداء إلى حضور الصلاة بـ "حي على الصلاة، وحي على الفلاح"، فالمناسبُ التبرِّى من الحول والقوَّة على ذلك، والاستعانةُ بالله تعالى على المهمَّة التي يدعو إليها المؤذِّن ويناد لها. 4 - حديثُ أبي سعيد أن القول مثلُ قول المؤذِّن في جميع جُمَل الأذان، وحديثُ عمر أنَّ السَّامع يقول عند "حي على الصلاة، وحي على الفلاح": "لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله": فمَنْ ذهَبَ مذهبَ الترجيح، أخذ بعموم حديث أبي سعيد؛ لأنَّه أصح. ومن ذهب مذهب الجمع، حَمَلَ العامَّ على الخاص، وعمل بالحديثين، وهو الاقتصارُ على الحيعلة، وهو مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم المالكية والحنابلة، وهذا هو الأولى؛ عملاً بنصوص السنة كلِّها. 5 - فضل الله تعالى ورحمته على عباده، فالأذان عبادةٌ جليلةٌ، ولن يدركها ويدرك فضلها كلُّ أحد، فعوِّض من لم يؤذِّن بالإجابة؛ ليحصُلَ على أجر الإجابة، وسيأتي بيانها، إنْ شاء الله تعالى. 6 - قوله: "كلمةً كلمةً" فيه استحبابُ المتابعة، فيقولُ المجيبُ الجملةَ بعد المؤذِّن لا معه؛ فقد روى النسائي في الكبرى (6/ 14) عن أمِّ سلمة: "أنَّه

-صلى الله عليه وسلم- كان يقول كما يقول المؤذِّن حين يسكت". 7 - قال العلماء: لو لم يجاوبه حتَّى فرَغَ من الأذان، استُحِبَّ له التدارُكُ إنْ لم يَطُلِ الفصلُ، فإنْ طال، فإنَّها سنَّة فاتَ محلُّهَا. 8 - جمهورُ العلماء على أنَّ إجابةَ المؤذِّن سنَّةٌ مستحبة، وليمست بواجبة؛ لما روى مسلم (382) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- سمع مؤذِّنًا، فلمَّا كبَّر، قال: "على الفطرة"، فلمَّا تشهَّد، قال: "خرجت من النَّار"؛ فلو كانت واجبة، لقال مثل ما يقول. وذهب فريقٌ من الحنفية والظاهرية: إلى أنَّها واجبة، وفريقٌ آخر من الحنفية: لا يرون الوجوب بل الاستحباب؛ كقول الجمهور، وهو الرَّاجح من القولين، والله أعلم. 9 - أمَّا إجابةُ المقيم بمثل ما يقول، فقد جاء فيه ما روى أبو داود (528) عن بعض أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أنَّ بلالاً أخذ في الإقامة، فلمَّا قال: قد قامت الصلاة، قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أقامها الله وأدامها"، وقال في سائر ألفاظ الإقامة كنحو حديثِ عمر في الأذان؛ ولكنَّه ضعيف. 10 - لا تكره متابعة المؤذِّن في حالي من الأحوال، ولا وَقْتٍ من الأوقات، إلاَّ في حالٍ نَهَى الشرعُ عن الذكر فيها. ***

153 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا رَسُوْلَ اللهِ! اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمي، فَقَالَ: أنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يأْخُذُ عَلَى أذَانِهِ أَجْرًا" أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. أخرجه الخمسة، وحسَّنَه الترمذي، وصحَّحه الحاكم وابن خزيمة. قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أخرى، دون قوله: "واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". ولكن رواه بهذه الزيادة أبو عوانة في صحيحه، ولهذه الزيادة طريق ثالثة صحَّحها الترمذي. * مفردات الحديث: - اقتد بأضعفهم: أي: لاَحِظْ أضعفَهم في تخفيف الصلاة. - أجرًا: يعني: أجرة دنيوية على أذانه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قَدِمَ عَلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وَفْدُ ثَقيف، قادمين من الطَّائف سنةَ تسع من الهجرة، فضرَبَ لهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في قبَّهً في ناحية المسجد؛ ليسمعوا القرآن، وكان معهم عثمان بن أبي العاص الثقفي -وهو أصغرهم سنًّا- فكان في تلك ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 21)، أبو داود (531)، الترمذي (209)، النسائي (2/ 23)، ابن ماجة (714)، الحاكم (1/ 199).

الفترة يلازم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ويستقرئه القرآن، فحفظ شيئًا كثيرًا من القرآن، فكان أعلمَهُمْ بكتابِ الله وبسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا رأى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حرصه على الخير وصلاحه، جعله أميرًا عليهم وعلى الطائف. 2 - طلب من النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يكونَ إمامًا لقومه في الصلاة، فجعله إمامًا، فقال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم". 3 - هذا الطلبُ ليس مِنْ طلبِ الولاية المذموم، الَّذي يرادُ به الاستعلاءُ على النَّاس، وطَلَبُ الجاهِ والمنصب، وإنَّما طلب هذه الولاية ليحصُلَ له أجرها وثوابها؛ فبهذا يكون الطلَبُ وجيهًا محمودًا. 4 - إذا كَانَ الإنسانُ يعلَمُ من نفسه الكفاءةَ والقُدْرَةَ على العمِل، وأنَّ غيره لا يقومُ مقامه ولا يَسُدُّ مكانه، فيتعيَّن عليه الطلب؛ لكونه فرْضَ عين عليه، ومن ذلك طَلَبُ يوسف -عليه السلام- الولايةَ بقوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف]؛ فإنَّه رأى اقتصاد مصر مترديًا، ورأى في نفسه قوَّةً وقدرةً على إصلاحه وحفظه، فطلبه لهذه الغاية الشريفة. 5 - يستحبُّ للإمامِ مراعاةُ حال الضعفاء والمسنِّين والعجزة؛ فلا يشقُّ عليهم بطولِ الصلاة، وطولِ الانتظار لها، وإنَّما يراعي حال الضَّعَفَة والعاجزين. 6 - اختيار المؤذِّن الأمين، الَّذي يؤذِّن لوجه الله تعالى وطَلَب ثوابه، لا الرَّجل الَّذي لا يؤذِّن إلاَّ لأجل عرضٍ من الدنيا، فهذه عبادةٌ جَليلةٌ لا يفرّط في ثوابها لأجل الدنيا، أمَّا إذا أخذ الجُعَالةَ والرِّزْقَ من بيت المال، أو من الأوقاف الخيرية على العمل الديني، فلا بأس؛ لأنَّ مَنْ أراد القيامَ به لا يتمكَّن من ذلك إلاَّ بهذا المرتَّب؛ ليقومَ بنفقة نفسه، ونفقةِ مَنْ يعول، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. ***

154 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيؤذِّنْ لَكُمْ أحَدُكمْ ... " الحَدِيْثَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حضرت الصلاة: يعني: دخل وقتها. - فليؤذِّن: الَّلام لام الأمر، والفعل بعدها مجزوم بها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوبُ الأذان، وأنَّه من الفروضِ الواجبة على المسلمين؛ فهو من شعائر الدِّين الظاهرة، التي يُقَاتَلُ مَنْ تركها. فقد روى البخاري عن أنسٍ قَالَ: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غزا بنا قومًا، لم يكن يُغِيْرُ بنا حتَّى يصبح، وينظر، فإذا سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإنْ لم يسمع أذانًا أغار عليهم"، فالأذان شعار الإسلام. 2 - أنَّ الأذانَ فرضُ كفاية، إذا قام به مَنْ يكفي، سقط عن الباقين، وإلاَّ أثموا جميعًا، وهذه قاعدةُ فروضِ الكفايات كلِّها. 3 - إطلاقُ الحديث بأذان أحد الحاضرين مقيَّدٌ بالنصوص الأُخر، من بيان الصفاتِ المطلوبة في المؤذِّن، منها: (أ) قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن زيد: "ألقه إلى بلال؛ فإنَّه أندى منك صوتًا" [رواه أبو داود (499)]. ¬

_ (¬1) البخاري (628)، مسلم (674)، أحمد (3/ 436)، أبو داود (589)، الترمذي (205)، النسائى (2/ 9)، ابن ماجة (979).

(ب) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "واتَّخِذْ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا" [رواه أبو داود (531)، والترمذي (155)]. (ج) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤذِّنُ مؤتَمَنٌ" [رواه أبوداود (517)، والنسائي (207)]. (د) "أنَّ النبَّي -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ أذانَ أبي محذورة، فاعجبَهُ صوتُهُ فعلَّمه الأذان" [رواه ابن خزيمة (377)]. وهكذا من ذكر الصفات التي تُطْلَبُ في المؤذِّن. 4 - اشتراطُ الإسلامِ في المؤذِّن، فلا يصحُّ من كافرة لقوله: "وليؤذِّن لكم أحدكم". 5 - أنَّ الأذان لا يصحُّ إلاَّ إذا حضرتِ الصلاة بدخول وقتها، وتقدَّم استثناء صلاة الصبح بالأحاديث الصحيحة. 6 - وجوبُ رفع الصوت في الأذان؛ لأنَّ المقصود إعلام النَّاس بدخول الوقت. ***

155 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلالٍ: "إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتْ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ ... " الحَدِيْثَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال الترمذي: لا نعرفه إلاَّ من حديث عبد المنعم، وهو إسناد مجهول، كما ضعَّفه البيهقي (1/ 248) وابن عدي، وله شاهد من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو الشيخ من حديث سليمان، ومن حديث سليمان، ومن حديث أُبَيّ بن كعب عند عبد الله أبن الإمام أحمد، وكلها واهية. لكن روي هذا المعنى من كلام عمر وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- كما في مصنف أبن أبي شيبة قال الصنعاني: إلاَّ أنَّه يقوِّي روايات هذا الحديث المعنى الَّذي شُرِعَ له الأذان. * مفردات الحديث: - ترسَّل: أي: تمهَّل، ورتِّل ألفاظَ الأذان، ولا تسردها. - احْدُر: بالحاء والدَّال المهملتين، والدَّال المضمومة، فراء، والحَدْرُ: الإسراعِ فِي الإقامة. - فرغ: فرَغ يَفْرُغُ -من باب قعد- فراغًا، يقال: فَرَغَ من الشيء: أتمَّه، والمراد ¬

_ (¬1) الترمذي (195).

هنا: انتهى من كله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبابُ الترسُّل، والتمهُّل، والترتيل في أداء الأذان؛ ليسمع البعيد. 2 - أمَّا الإقامة فالأفضلُ الحدر بها وإرسالُهَا مسرعًا بها؛ لأنَّها لإعلامِ الحاضرين بإقامة الصَّلاة، فلا يحتاجون ما يحتاجُ إليه البعيد. 3 - الأذانُ هو إعلامُ النَّاس بدخول الصَّلاة، ودعوتُهُمْ إلى الحضورة فالأفضلُ أنْ يُجْعَلَ بين الأذانِ وإقامةِ الصلاةِ وقْتٌ يستعدُّون فيه للحضور، ويَفْرُغون من أعمالهم، التي بدأ الأذان وهم قائمون بها، من أكلٍ ولبسٍ وطهارةٍ ونحوها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يَفْرُغُ الآكل من أكله". 4 - كما أنَّ المستحبَّ أنْ لا يطيل الانتظار ما بين الأذان وقبل الصلاة، فيشق علي الحاضرين. 5 - في البخاري (603) ومسلم (378): "أمِرَ بلالٌ أنْ يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلاَّ قد قامت الصلاة". قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء. وشَفْعُ الأذان، وإيتار الإقامة: هو المتواتر في الجملة، والحكمةُ في تكرير الأذان وإفراد الإقامة: أنَّ الأذان لإعلام الغائبين، فاحتيج إلى التكريرة بخلاف الإقامة: فإنَّها لإعلام الحاضرين؛ فلا حاجة إلى تكرير ألفاظها. ***

156 - وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّىءٌ" وَضَعَّفَهُ أيضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. ضُعَّفَ هذا الحديثُ بالانقطاع بين الزهري وأبي هريرة؛ كما أنَّ الراوي عن الزهري ضعيف، ورواه الترمذي، عن يونس، عن الزهري، عنه موقوفًا، وقال: هذا أصح. * مفردات الحديث: - إلاَّ متوضِّىء: يتعيَّن في "متوضِّىء" الرَّفع على أنَّه بَدَلٌ من المستثنى منه، وهو فاعل مقدَّر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهرُ الحديثِ اشتراطُ الطهارة للأذان، لكنْ حمله الجمهور على الاستحباب، دون الوجوب. 2 - الحكمة في مشروعية الطهارة للأذان أمران: الأوَّل: لاتصاله بالصلاة؛ فإنَّ تمام الحديث عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الأذان متصلٌ بالصَّلاة؛ فلا يؤذِّن أحدكم إلاَّ وهو طاهر" من باب الاستعداد لها بشرطها. الثَّانِي: أنَّ الأذان عبادةٌ ينبغي الإتيان بها على طهارة، لاسيَّما العبادة المتعلِّقة بالصَّلاة. ¬

_ (¬1) الترمذي (200).

3 - وإِذَا كان الأذان تشرع له الطهارة، فهي في الإقامة -الَّتي هي الإعلام للقيام إلى الصَّلاة- من باب أولى؛ ولذا قال العلماء: وتكره إقامةُ مُحْدِثٍ. قال شيخ الإسلام: في صحة إقامة المُحْدِثِ خلافٌ. 4 - الَّذي صَرَفَ العلماءَ عن الأخذ بظاهر الحديث -فلم يوجبوا الطهارةَ على المؤذِّن- هو أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، لا تقومُ به حُجَّةٌ على إثبات حكم شرعي، فقد ضعَّفه الترمذيُّ، والحافظ ابن حجر بالانقطاع، والترمذي صحَّح وقفه على أبي هريرة. ***

157 - وَلَهُ عَنْ زِيَادِ بْنِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: قَال رَسُوْل اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ أذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ"، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ درجة الحديث: الحديث حسنٌ بشواهده. رواه الترمذي، وقال: إنَّما نعرفه من حديث عبد الرحمن الإفريقي، وهو ضعيفٌ عند الجمهور؛ ولكنَّ العمَلَ عليه عند أكثر أهل العلم، قال أحمد: لا أكتب حديث الإفريقي. قال في التلخيص: وقد ضعَّفه ابن القطان وغيره. وله طريقٌ ثانية: أخرجها الطبراني والعقيلي، من حديث سعيد بن راشد، عن عطاء، عن ابن عمر، وفيه قصَّة، وسعيد ضعيف، وضعَّف حديثه هذا أبوحاتم الرَّازي وابن حبان. وقد حسَّن الحديث الحازمي، وقواه العقيلي وابن الجوزي، وصحَّحه أحمد شاكر. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - روى الخمسة عن زياد بن الحارث الصُّدَائي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أخا صُدَاءٍ أذِّن، قال: فأذنت، فأراد بلالٌ أنْ يقيم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يقيم أخو صُداء؛ فإنَّ من أذَّن فهو يقيم". 2 - الحديث دليلٌ على أنَّ الإقامة حقٌّ لمن أذَّن، قال الترمذي: العمَلُ على هذه عند أكثر أهل العلم، أنَّ من أذَّن فهو يقيم. ¬

_ (¬1) الترمذي (199).

3 - جمهور العلماء يُجَوِّزُن إقامَةَ مَنْ لم يؤذِّن؛ لعدم نهوضِ الدليل على المنع، ولِمَا يَدُلُّ عليه قول عبدالله بن زيد: أنا رأيت الأذان، وأنا أريده، قال: "فأقم أنت". وسيأتي أنَّه حديثٌ ضعيفٌ. 4 - استحقاقُ الأشياء العامَّة للنَّاس بالشروع فيها، والأخذ بأسباب استحقاقها، فالأذانُ هو النِّداء الأوَّل، والإقامة هي النِّداء الثاني، فاستَحَقَّ الثَّانيَ لقيامه بالأوَّل. ***

158 - وَلأبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّه قَالَ: "أنَا رَأيْتُهُ -يَعْنِي الأَذَانَ- وَأنَا كُنْتُ أرِيْدُهُ، قَالَ: فَأَقِمْ أنْتَ" وَفِيْهِ ضَعْفٌ أَيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث حسنٌ. الحديث في إسناده محمد بن عمر الواقفي، وهو ضعيفٌ، ضعَّفه ابن القطان، وابن معين، والبيهقي، وقال: وقع في سنده ومتنه اختلاف. وله طريقٌ أخرى أخرجها أبو الشيخ عن ابن عبَّاس، وإسناده منقطع، لأنَّه من رواية الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وهذا من الأحاديث التي لم يسمعها الحكَمُ من مقسم. لكن حسَّن الحديثَ ابنُ عبد البر؛ كما في التلخيص الحبير (1/ 209)، وحسَّنه الحازمي؛ كما في الدراية لابن حجر، وحسَّنه ابن الملقِّن. وروى البيهقي في الخلافيَّات عن عبد الله بن زيد: " ... فقال: "علمهن بلالاً"، قال: فتقدَّمت، فأمرني أنْ أُقيم، فأقمت" وإسناده صحيح؛ كما في الدراية للحافظ ابن حجر (1/ 115). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عبد الله بن زيد الأنصاري هو الَّذي رأى الأذانَ في المنام، وأخبر به النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فأقرَّه حكمًا شرعيًّا، وشعيرةً إسلامية كبرى. 2 - النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم يَرُدَّ حجته بذلك ولم يَنْفِهَا، وإنَّما قال عليه الصلاة والسَّلام: ¬

_ (¬1) أبو داود (512).

"يكفيك الإقامةُ، فأقم أنت". 3 - النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قدَّمَ المصلحةَ العامَّةَ على المصلحة الخاصَّة؛ فعبد الله بن زيد له حقٌّ في الأذان، وقيامه به مصلحةٌ خاصَّةٌ به، وقيامُ بلال به مصلحةٌ عامَّة لِحُسْنِ صوتِهِ ونداوته، فقدَّمها، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله ابن زيد: "قم مع بلال، فَأَلْقِ عليه ما رأيتَ فليؤذِّنْ به؛ فإنَّه أندى منك صوتًا" [رواه الترمذي (189)]، ففي هذا تقديمُ المصلحة العامة على المصلحة الخاصَّة، وأنَّه من السياسةِ الشرعيَّةِ الحكيمة. 4 - جوازُ أنْ يقومَ بالأذان واحدٌ، ويقومَ بالإقامة آخَر، وهو مذهبُ الجمهور، كما تقدَّم. 5 - حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على فعل الخير، وتسابقهم إليه؛ فهم أوَّل من تناله هذا الآية: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]. 6 - فضلُ الأذانِ، وتنافُسُ الصحابة بالحصول على القيامِ به؛ فقد جاء في البخاري (615)، ومسلم (437) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداء والصف الأوَّل، ثمَّ لا يجدوا إلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا عليه، لاَسْتَهَمُوا عليه". 7 - فيه مراعاةُ المصالح الخاصَّة إذا لم تُخِلَّ بالمصالح العامة؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ له في الإقامة رعايةً لحقِّه، وقيامُهُ بها لا يُخِلُّ بمقصودِ الإقامة، فما هي إلاَّ إعلامٌ للحاضرين بقيامِ الصَّلاة، فلا تحتاجُ إلى صوتٍ عالٍ كالأذان.

159 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤَذِّنُ أمْلَكُ بِالأَذَانِ، وَالإِمَامُ أمْلَكُ بِالإِقَامَةِ" رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ (¬1). ولِلْبَيْهَقِيِّ نَحْوهُ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- مِنْ قَوْلهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال في التلخيص: تفرَّد به شَرِيك، قال البيهقي: وليس بمحفوظ، ورواه أبوالشيخ من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عمر، وفيه مُعَارِكُ بن عباد، وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عليٍّ موقوفًا. قلت: مُعَارِك: بضم الميم بعدها عين مهملة ثمَّ ألف ثمَّ راء وآخره كاف. * مفردات الحديث: - أملك بالأذان: فهو أحقُّ به، ووقته موكولٌ إليه؛ لأنَّه الأمينُ عليه. - أملك بالإقامة: فالإمَامُ أحقُّ بها، فلا يقيمُ المؤذِّنُ إلاَّ بإشارته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المؤذِّنُ موكولٌ إليه تحرِّي دخول الوقت، فهو الأمينُ عليه، فمراقبته ودخوله منوطةٌ به، وراجعٌ أمرُهُ إليه. 2 - أمَّا الإقامةُ فأمرها راجعٌ إلى الإمام، فلا يقيمُ المؤذِّنُ إلاَّ بعد إشارته. ¬

_ (¬1) ابن عدي في الكامل (4/ 1327). (¬2) البيهقي (2/ 19).

3 - قيام المأمومين إلى الصلاة، وَرَدَ فيه ما جاء في البخاري (637) ومسلم (604): "إذَا أُقيمت الصَّلاَة، فلا تقوموا حتَّى تروني". 4 - أمَّا شروعُ المقيم في الإقامة، ففيه حديث جابر بن سمرة في مسلم (606): "إنَّ بلالاً كان لا يقيم حتَّى يَخْرُجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". 5 - ظاهرُ الحديث الأوَّل أنَّ المقيم يقيمُ، وإنْ لم يحضر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وظاهر الحديث الثاني أنَّه لا يَشْرَعُ في الإقامة حتَّى يخرُجَ من بيته ويراه، وجَمَعَ العلماءُ بين الحديثَيْن بأنَّ بلالاً يرقُبُ وقتَ خروجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فإذا رآه، شرع في الإقامة قبل أنْ يراه غالبُ النَّاس، ثمَّ إذا رأوه، قاموا إلى الصَّلاة. *خلاف العلماء: قال في المغني: يستحب أنْ يقومَ المأمومُ إلى الصَّلاة، عند قول المؤذِّن: قد قامت الصلاة. قال ابن المنذر: أجمَعَ على هذا أهل الحرمَيْن. وقال الشَّافعي: يقوم إذا فرَغَ المؤذِّن من الإقامة. وقال أبو حنيفة: يقوم إذا قال: حَيَّ على الصلاة. ولا يستحبُّ عندنا -الحنابلة- أنْ يكبِّر الإمام، إلاَّ بعد فراغ المقيم من الإقامة، وعلى هذا جُلّ الأئمة في الأمصار، وما نقل عن الإمام أبي حنيفة: أنَّه يكبِّر إذا قال المقيم: قد قامت الصَّلاة، فهو قول غير مصحَّح في المذهب، بل الصحيحُ والمفتَى به عندهم كرأي الجمهور. وقال مالكٌ في الموطَّأ: لم أسمَعْ في قيام النَّاس حين تقامُ الصَّلاة حَدًّا محدودًا، إلاَّ أنِّي أرى ذلك على طاقة النَّاس؛ فإنَّ منهم الثقيل والخفيف. وقد تقدَّم في حديث أبي قتادة: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتَّى تروني"؛ فهو يفيد أنَّ قيام النَّاس إلى الصلاة، منوطٌ برؤية الإمام مقبلاً إليها. ***

160 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بيْنَ الأَذَانِ وَالإِقامَةِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. رواه أحمد (11790)، وأبو داود (521)، والترمذي (212) وصححه؛ كما صححه ابن حبَّان (4/ 594)، والضياء. قال الألباني: فيه زيدٌ العَمِّيُّ ضعيف، ولكن الحديث جاء من طريق أخرى صحيحة، ورجالها كلُّهم ثقات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرده الله تعالى، بل يقبلُهُ من فضله وكرمه. 2 - استحبابُ الدعاء في هذا الوقت، واغتنامُ النفحةِ الإلهيَّة والكرمِ الرباني. 3 - لعلَّ السبَبَ في قبول الدعاء في هذا الوقت الفاضل، أنَّ منتظرَ الصلاةِ في صلاة، فهو عند الله تعالى في صلاة، والدعاءُ في الصلاة لا يُرَدُّ. فقد جاء في البخاري (647) ومسلم (362) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزالُ أحدكم في صلاة ما دامَتِ الصلاةُ تحبسه، لا يمنعه أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهلِهِ إلاَّ الصلاة". 4 - استحبابُ التقدُّم إلى المسجد؛ لتحصيلِ هذا الوقت والاجتهاد فيه. 5 - قيَّدت الأحاديثُ هذا الدعاء بأنَّه إذا كان بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، فهذا اعتداءٌ في ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (6/ 23)، ابن خزيمة (425).

الدعاء، يأثم صاحبه، ولا يقبل دعاؤه. 6 - قال ابن القيِّم فى الجواب الكافي: الدعاءُ مِنْ أقوى الأسباب، فليس شيءٌ أنفع منه، فمتى أُلْهِمَ العبدُ الدعاءَ، حصَلَتِ الإجابة. وقال الشيخ تقي الدِّين: مِنْ أدبِ الدعاءِ الثناءُ على الله تعالى، والصَّلاةُ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فالدعاءُ من أبلغِ الأسباب لجلب المنافع وَدَفْعِ المضارّ، ويستحبُّ إخفاءُ الدعاء؛ فهو أبلَغُ في التضرُّع، وأقربُ للإخلاص. ***

161 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَالَ حِيْنَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: الَّلهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعوة التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيْلَةَ وَالفَضِيْلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَة" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. أخرجه البخاري (614) والأربعة، قال المجد ابن تيميَّة في المنتقى: رواه الجماعة إلاَّ مسلمًا، وكذا قال ابن دقيق العيد في الإلمام. * مفردات الحديث: - اللهم: يعني: "يا الله"، والميمُ عِوَضٌ عن ياء النَّداء، فلذلك لا يجتمعان، قال علماء اللغة: إنَّ "اللهم" في كلام العرب على ثلاثة أنحاء: 1 - أحدها للنِّداء المحض. 2 - للإيذان بنُدْرةِ المستثنى؛ كقولك بعد كلام: اللهم إلاَّ إذا كان كذا. 3 - ليدل على تيقُّن المجيب في الجواب المقترن هو به؛ كقوله لمن قال: أزيد؟: اللهم نعم، أو اللهم لا. - رَبَّ: منصوبٌ على النِّداء، والربُّ: هو المربِّي المصلح للإنسان. - الدعوة: بفتح الدَّال هي ألفاظُ الأذان المشتملة على التوحيد. - التَّامَّة: صفةٌ للدعوة، وُصفت بالتَّمام؛ لأنَّ فيها أتمَّ القول، وهو لا إله إلاَّ ¬

_ (¬1) أحمد (657)، أبو داود (205)، الترمذي (1164)، ابن حبان (816)، النسائي في عشرة النساء (137، 140).

الله، ولأنَّها اشتملت على أصول الشريعة وفروعها. - الصَّلاة القائمة: إمَّا أنْ يكونَ معناها التي ستقام، أو الدَّائمة، أي: التي لن تغيِّرها مِلَّةٌ ولا نسخ، فهي قائمةٌ دائمة، ما دامت السمواتُ والأرض. - آتِ: أوَّله همزة ممدودة، فعلُ دعاءٍ مبنيٌّ على حذف حرف العلَّة، ومعناه: أَعْطِ، والفاعلُ ضميرٌ مستتر، تقديره: أنت. - الوسيلة: على وزن فعيلة، وتُجْمَعُ على وسائل، وهي في اللغة: ما يتُقرَّب به إلى الغير، وهي المنزلة كما صرَّح بذلك -صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ آخر، فقال: "إنَّها منزلة في الجنَّة، لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أنْ أكون أنَا هو" [رواه مسلم (384)]. - الفضيلة: معطوفة على الوسيلة عَطْفَ بيان، وهي مرتَبَةٌ زائدة على سائر الخلق. - مقامًا محمودًا: نصب مقامًا على الظرفية، ونُكِّرَ تفخيمًا، و"محمودًا" صفة له، والمقامُ المحمود يُطْلَقُ على كلِّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، والمراد هنا: الشفاعةُ العظمَى في فصل القضاء، حيث يحمده فيه الأوَّلون والآخرون. - حلَّت له: من حَلَّ يَحِلّ، بكسر حاء المضارع منه، أي: وَجَبَتْ له، واستحَقَّ الشفاعة؛ فهي ثابتةٌ لابدَّ منها بالوعد الصَّادق، وهو جوابُ "مَنِ" الشرطية. - شفاعتي يوم القيامة: الرَّاجحُ: أنَّ المراد بهذه الشفاعة العظمى، التي بها إراحة الخلائقِ مِنَ الموقف، ويحتملُ إرادةُ غيرها من شفاعاتِ النَّبىِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ كالشفاعة بإدخالِ الجنَّة بغير حساب، وكرفعِ الدرجات، ليعطَى كل واحدٍ ما يناسبه، والله أعلم. - يوم القيامة: القيامة في اللغة: اسمٌ لما يقوم، ودخلها التَّأنيثُ للمبالغة؛ لما يقوم فيها من الأمور العظام، التي منها قيامُ الخلائقِ مِنْ قبورهم، وقيامُ

الأشهادِ على العباد، وقيامُ النَّاس في الموقف، وغير ذلك. وقد جاء لها أسماءُ كثيرة في الكتاب العزيز. قال القرطبي: وكلَّما عَظُمَ شان شيء، تعدَّدت صفاته، وكثرت أحواله، وقد سمَّاها الله تعالى في كتابه بأسماءٍ عديدة، ووصفها بأوصافٍ كثيرة. - الَّذي وعدتَه: عائدٌ إلى قوله "مقامًا محمودًا"، وأطلق عليه الوعد؛ لأنَّ "عسى" في الآية ليس على بابه، فهو في حقِّ الله واقعٌ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث بهذا اللفظ الَّذي أورده المؤلَّف، سليمٌ من زيادات ضعيفة، أضيفت إليه. 2 - فضيلةُ هذا الدعاءِ الجامع لهذه التوسُّلات العظيمة، والدرجات الرَّفيعة من نداء الله، والتضرُّع إليه بألوهيَّته وربوبيَّته، وبدعواتِهِ التَّامَّاتِ الكاملات، وبالمنازِلِ العالية، وبهذه الصَّلاةِ الدَّائمة القائمة، أنْ يُتمَّ على نبيِّنا محمَّد نعمته، ويعليَ شأنه، ويرفع مقامه بإعطائِهِ الشفاعة العظمى، والرتبةَ الكبرى، وأنَّ ينيله مقامَ الحَمْدِ والثناء الَّذي وعده إيَّاه، حين أكمَلَ رسالته، وأدَّى أمانته، ونصَحَ أمته، وأكمَلَ عبوديته، وتفطَّرَتْ قدماه متهجِّدًا بكتابه، ومطَّرِحًا بين يدي ربه. 3 - مَنْ أجاب المؤذِّن، وصلَّى على نبيِّنا محمَّد -كما قيد بحديث آخر- فقد استحَقَّ أنْ يكون ممَّن يشفعُ فيهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، حينما يتأخَّرُ جميعُ الشفعاءِ، ويتصدَّى لها هو -صلى الله عليه وسلم-. 4 - أُلحق بهذا الدعاء جمل زائدة، ليسَتْ ثابتةً، منها: - اللهم إنِّي أسالك بحَقِّ هذه الدعوة. - والدرجةَ الرفيعة. - إنَّك لا تُخْلِفُ الميعاد.

- يا أرحم الرَّاحمين. فهذه الفقرات نقدها العلماء، وبينوا أنَّها غيرُ ثابتة، والواجبُ هو الاقتصارُ على ما صَحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 5 - هذا الحديثُ فيه زيادتان؛ لحصول فائدة هذا الدعاء: الأولى: إجابةُ المؤذِّن بمثل ما يقول، عدا الحيعلتين؛ كما تقدَّم. الثانية: الصَّلاةُ على النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّها مدخل الدعاء. *فائدة: جاء في صحيح مسلم (384) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص؛ أنَّه سَمعَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذَا سمعتم المؤذِّن، فقولوا مثل ما يقول، ثمَّ صَلُّوا عليَّ، ثمَّ سَلُوا اللهَ لي الوسيلة، فمَنْ سال الله لي الوسيلةَ، حَلَّتْ عليه شفاعتي". انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله "باب شروط الصلاة"

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الثاني مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة مقدمة الشروط: جمع شرط، وهو لغة: العلامة، سمي شرطًا، لأنَّه علامة على المشروط؛ قال تعالى عن علامات السَّاعة: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: علاماتها. واصطلاحًا: ما يلزم من عدمه العَدَمُ، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته. وشروط الصَّلاة: هي ما يتوقَّف عليها صحتها، إلاَّ بعذر. وقد أجمع الأئمة على أن للصلاة شرائط، لا تصح إلاَّ بها، إن لم يكن عذر، وهي التي تتقدَّمها، وشروط الصلاة ليست منها، وإنَّما تجب لها قبلها، إلاَّ النية: فالأفضل مقارنتها لتكبيرة الإحرام، وتستمر الشروط حتَّى نهاية الصَّلاة، وبهذا فارقت الأركان، الَّتي تنتهي شيئا فشيئًا. وشروطُ الصَّلاة تسعة: الإسلام، والتمييز، والعقل، (وهي شروط لوجود كل عبادة بدنية عدا الحج والعمرة، فيصحَّان من الصغير، ولو دون التمييز)، والباقي من الشروط ستَّة هي: - الوقت: قال عمر -رضي الله عنه-: الصلاة لها وقت، لا يقبلها الله إلاَّ به. - الطهارة من الحدث. - الطهارة من النَّجاسة في البدن والثوب والبقعة. - ستر العورة، وتختلف باختلاف المصلين. - استقبال القبلة. - النية. وستأتي مفصَّلة إنْ شاء الله تعالى.

162 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا فَسَا احَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ، فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. قال الترمذي: "الحديث حسن"؛ ويشهد له ما رواه مسلم (362) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكَلَ عليه أخَرَجَ منه أمْ لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد، حتَّى يسعمع صوتًا، أو يجد ريحًا". وقد حسَّن الحديثَ الإمامُ الترمذي، وصحَّحه كلٌّ من ابن حبان، وابن السكن. * مفردات الحديث: - علي بن طَلْق: بفتح فسكون، من بني حَنِيفة، صحابيٌّ. - فسا: الفُسَاءُ بضم الفاء: خروج الرِّيح من الدبر بلا صوت. - لِيُعِدِ الصَّلاَةَ: الَّلام لام الأمر، من الإعادة، وذلك باستئنافها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ خروج الرِّيح من الدبر ينقُضُ الوضوءَ، وتبطُلُ به الصلاة، وقد أجمع العلماء على هذا. 2 - على المُحْدِثِ أنْ ينصرف من صلاته، ويتوضَّأ ويعيد الصَّلاة؛ لبطلان صلاته ¬

_ (¬1) أبو داود (205)، الترمذي (1166)، النسائى فى "عشرة النساء" (137)، أحمد (1/ 86)، ابن حبان (2237)، ولم يروه ابن ماجة.

بالحدث. 3 - يحرُمُ على من أحدَثَ في الصلاة أنْ يستمرَّ فيها ويتمَّها، ولو صوريًّا؛ فكل حدثٍ مَنَعَ ابتداء الصلاة، يمنع الاستمرار فيها؛ فإنَّ صلاته بلا وضوء استهزاءٌ بالدِّين، وتلاعُبٌ بالشعائر الدينية. 4 - جميع الأحداث النَّاقضة للوضوء، حكمها كَحُكْمِ خروج الرِّيح، فيما ذُكِرَ من الأحكام. 5 - هذا الحديث معارَضٌ بما تقدَّم من حديث عائشة، من أنَّ مَنْ أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو مذيٌ في صلاته، فإنَّه ينصرف ويتوضَّأ، ويبني على صلاته حيث لم يتكلَّم، ولا وجه للمعارضة، فحديثُ الباب أصحُّ منه، أمَّا حديث عائشة فمُتكلَّم فيه. ***

163 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لاَ يَقْبلُ اللهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَه ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي. قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وصحَّحه ابن خزيمة، وأحمد شاكر، والألباني. * مفردات الحديث: - حائض: يُقال: حاضت المرأة حيضًا، فهي حائض؛ لأنَّه وصفٌ خاصٌّ بها، وجاء: حائضةٌ، وجمعها حائضاتٌ، وجمع الحائض: حُيَّض. وقوله في الحديث: "الحائض" ليس المراد من هي حائض حالة التلبُّس بالصَّلاَة، بل المراد: البالغة. - بخِمَار: جمعه خُمُر، وهو بكسر الخاء وفتح الميم، يُقال: خمَّر الشيء غَطَّاه، فالتخمير التغطية؛ ومنه خمار المرأة، الَّذي تُغَطِّي به رأسها وعنقها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحائض لا تُصلِّي ولا تصحُّ منها الصَّلاة حال حيضها، وإنَّما المراد بقوله: ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 150)، أبو داود (641)، الترمذي (377)، ابن ماجة (655)، ابن خزيمة (775).

"الحائض" يعني: المكلَّفة، التي بلغَتْ سنَّ الحيض. 2 - ليس المراد من الحديث البالغة بالحيض فقط، وإنَّما المرادُ البالغة بأية علامة من علامات البلوغ، وهي: الحيضُ، أو نزولُ المنيِّ، أو نباتُ شعر العانة، أو بلوغُ خمسة عشر عاماً، ولكنَّه عبَّر بما يخصُّ النساء، وهو الحيض. 3 - أنَّ ابتداء الحيض للأُنثى من علامات بلوغها، ولو أنَّ سنَّها أقلُّ من خمسة عشر عامًا. 4 - أنَّ الجارية إذا بلغَتْ، كلِّفت بالأحكام الشرعية كلِّها. 5 - أنَّهُ يجبُ على المرأة أنْ تَسْتُرَ في صلاتها -فيما تستُرُ من مدنها- رأسَها وعنقها، بخمارٍ يُغطِّي ذلك كله. 6 - أنَّ ستر العورة في الصلاة شرطٌ لصحَّتها، والعورةُ في الصَّلاة تختلفُ باختلاف المصلِّين، من حيث الجِنسُ، ومن حيث السنُّ، وسيأتي بيانه، إنْ شاء الله تعالى. 7 - مفهومُ الحديث أنَّ البنت التي دون البلوغِ تَصِحُّ صلاتها، ولو لم تغطِّ رأسها بخمار، فعورتها أخفُّ من عورة البالغة. 8 - نفي قبول الصلاة ممَّن لم تخمِّر رأسَهَا في الصلاة، المرادُ به نفىُ حقيقة الصلاة، فلا تجزىُء ولا تَصِحُّ، لا مجرَّدُ عدَمِ حُصُولِ الثواب.

164 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "إِنْ كانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، يَعْنِي فِي الصَّلاَةِ". وَلِمُسْلِمٍ: "فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِنْ كانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لاَ يُصَلِّي أحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يصلِّي: نص ابن الأثير على إثبات الياء في روايات الصحيح، ورواه الدَّارقطني بحذفها، على أنَّ كلمة "لا" ناهية، وأمَّا بقية الروايات، فهي فيه نافية، لكن بمعنى النَّهي. - الثوب: مذكَّر، وجمعه أثوابٌ وثياب، وهو ما يلبسه النَّاسُ من كتان، وقطن، وصوف، ونحوها. واللباسُ الكاملُ يكون من قطعتَيْنِ: إحداهما: الرداء، وهو ما ستر أعلى البدن. والأخرى: الإزار، وهو ما ستَرَ أسفلَ البدن. وليس الثوبُ ما يُفَصَّل ويُخاطُ على هيئة البدن، فهذا يسمَّى قميصًا. - التحف به: يُقال: لَحَفَهُ يَلْحَفُهُ لَحْفا: غطَّاه باللحاف، واللِّحافُ: كل ثوبٍ ¬

_ (¬1) البخاري (361)، مسلم (3010). (¬2) البخاري (359)، مسلم (516).

يلتحفُ به، فيغطِّي به بدنه، وجمعه لُحُف. - عاتقه: العاتق: هو ما بين المنكب والعنق، وهو موضعُ الرداء، ويذكَّر ويؤنَّث، والجمع عواتق. - فخالف بين طرفيه: أي: خالَفَ ما بين طرفي الثوب، والمخالفةُ بين طرفيه تكون بإلقاء طرفه الأيمَنِ على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن، ليستُرَ بذلك صدره، ولكنْ وَسَطُ الثوب على ظهره ليستُرَ أعلى البدن، هذا إذا كان الثوب واسعًا، أمَّا إذا كان ضيقًاَ، فيأتزر به؛ ليستر عورة الصلاة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الثوب المرادُ به الإزارُ الَّذي يكسو أسفل جسم الإنسان، والرداءُ الَّذي يكسو أعلاه، وليس المرادُ به القميص؛ فإنَّ القميص الَّذي فُصِّل وخُيِّط على هيئة البدن، قائم مقام الثوبين، لأنَّه مغط لأعلى البدن وأسفله. 2 - إنْ كان الثوبُ واسعًا، فعلى المصلِّي أنْ يلتحف به، فيغطِّي به من المنكبين إلى ما تحت الركبتين؛ لأنَّه وجد سترة كاملة لما يجب، ويستحب أنْ يستره في الصلاة. 3 - إنْ كان الثوبُ ضيِّقًا لا يكفي كلَّ البدن، فليستُرْ به العورة الواجبَ سترها، وهي للرجل من السُّرَّة إلى الركبة، فيجعله إزارًا له، ولو كشف عن المنكبين، وأعلى الجسم. 4 - استحباب ستر أحد العاتقَيْنِ في الصلاة، لمن وجَدَ سترةً كافيةً له وللعورة، فإن لم تَكْفِ إلاَّ العورةَ فقطْ، قدَّم سترها على ستر العاتقين أو أحدهما؛ لأنَّها أهم. 5 - الحديثُ يدلُّ على أنَّ المسلم يتقي الله ما استطاع، فما يَقْدِرُ على القيام به من الواجبات، يقوم به، وما عجَزَ عنه سَقَطَ عنه، والله غفورٌ رحيم.

6 - يدلُّ الحديث على القاعدة الشرعية: "تقديم الأهم فالأهم"؛ فإنَّ التكاليف إذا تزاحمَتْ، ولم يمكن القيامُ بها كلِّهَا، قُدِّم أهمها. 7 - قال شيخ الإسلام: الأفضلُ مع القميص السروالُ من غير حاجة إلى الإزار والرِّداء، وقال القاضي: يستحبُّ لبس القميص، ولا يكره في ثوبٍ يستُرُ ما يجب ستره؛ لما في الصحيحين لمَّا سُئِلَ -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: "أوَ لكلٍّ منكم ثوبان". 8 - قال النووي: لا خلافَ في جَوَازِ الصلاةِ في الثوب الواحد، وأجمعوا على أنَّ الصَّلاة في الثوبين أفضل. والله تعالى أمر بقدرٍ زائدٍ على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذُ الزينةِ في قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ إيذانًا بأنَّ العبدَ ينبغأنه أنْ يلبَسَ أزيَنَ ثيابه، وأجمَلَهَا فى الصلاة، للوقوفِ بين يدي ربِّه تبارك وتعالى. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية سَتْرِ الرجلِ عاتقَهُ في الصلاة، واختلفوا في الوجوب: فذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى وجوب ستر أحد العاتقين، في الصلاة المفروضة، إذا كان قادرًا على ذلك. قال في الإنصاف: الصحيحُ من المذهب أنَّ ستر أحد المَنْكِبَيْنِ شرطٌ في صحَّةِ صلاةِ الفرض، وعليه جماهير الأصحاب. قال بعضهم: في ذلك كمالُ أَخْذِ الزينة، وَحُسْنِ الأدب، والحياءُ بين يدي الله تعالى. وذهب أكثر العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة:- إلى عدم الوجوب، وأنَّه لا يجبُ إلاَّ ستر العورة، والعاتقان ليسا من العورة، أشبها بقية البدن.

استدلَّ الإمامُ أحمد بحديث أبي هريرة في الصحيحين؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصلِّي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتِقِهِ منه شيء". أمَّا الجمهور: فيحملون النَّهْيَ في الحديث على التنزيه، وبأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في ثوب واحدٍ، كان أحد طرَفَيْهِ على بعض نسائه، وهي نائمةٌ، والله أعلم. * تنبيه: المشمهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ الصَّلاة التي يجبُ فيها سترُ أحد العاتقين هي الفريضةُ فقط، أمَّا النَّافلة فيجزىء سَتْرُ العورة، وَيُسَنُّ ستر العاتقين أو أحدهما. ووجه الفرق بين الصلاتين الفريضة والنَّافلة: أنَّ النَّافلة مبنية على التخفيف؛ فإنَّه يسامح فيها بترك القيام، وترك استقبال القبلة في السفر إذا صلَّى على الرَّاحلة، فصارتْ أحكامها أخفَّ من الفريضة. والرِّواية الأُخرى عن الأمَام أحمد: أنَّ النَّفل كالفرض. قال في الشرح الكبير: ظاهرُ كلامِ الإمام أحمد التسويةُ بينهما؛ لأنَّ ما اشتُرِطَ للفرض اشترط للنَّفل، ولأنَّ الخبر عامٌّ فيهما؛ وهذا ظاهر كلام شيخنا رحمه الله. وممَّن اختار ذلك شيخنا عبد الرحمن السعدي، فقال: الصحيحُ أنَّ ستر المنكب يستوي فيه الفرضُ والنَّفل، وأنَّه سنَّةٌ فيهما؛ فيو من كمال السترة.

165 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَتُصَلِّي الْمَرْأةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ بِغَيْرِ إزَارٍ؟ قَالَ: إِذَا كانَ الدِّرْعُ سَابِغًا، يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا" أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أبو داود، والحاكم (3/ 719) والبيهقي (2/ 233) بسندهم إلى أُمِّ سَلَمَة، وفيه أم محمد بنت زيد، وهي مجهولة، وفي الحديث علَّةٌ أُخرى، وهي تفرُّد ابن دينار بروايته، وهو ضعيف مِنْ قبل حفظه. وصحَّح وقفه المؤلِّفُ في التلخيص الحبير، بينما رجَّح ابن الملقِّن والشوكاني رفعه. * مفردات الحديث: - دِرْع: بكسر الدَّالِ المهملة، وسكون الرَّاء المهملة، ثمَّ عينٍ مهملة، والمراد به هنا: قميص المرأة، فلذا جاء مطلقًا، فلو أُريد به درع الحرب، لقيَّده بالحديد، كما في البخاري: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- رَهَنَ درعًا من حديد"، قال ابن فارس: درع الحديد مؤنَّثة، ودرع المرأة: قميصُهَا، مذكَّر. - سابغًا: بفتح السين المهملة، وكسر الباء الموحَّدة، ثمَّ غين معجمة، أي: واسعًا، ساترًا لظهور قدميها. - إِزَار: الإزار: ثوبٌ يحيطُ بالنصف الأسفل من البدن، يذكَّر ويؤنَّث، يُقال: ائتزر واتَّزر، أي: لبس الإزار. ¬

_ (¬1) أبو داود (640).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الدرع: هو قميصُ المرأة، الَّذي يستُرُ جسمها من عاتقها، حتَّى يغطِّي قدميها. 2 - أمَّا الخمار فيغطِّي رأسها وعنقها. 3 - فإذا غطَّتِ المرأةُ بدرعها السَّابغِ قدَمَيْهَا، وغطَّتْ بخمارها الضَّافي رأسها وشعرها وعنقها، فقد سَتَرَتْ عورتها في الصَّلاة، فتصلِّي، ولو لم يكن عليها إزارٌ، أو سروالٌ تحت الدرع. 4 - أنَّ قدمَي المرأةِ: مِنْ عورتها في الصلاة، فيجبُ سترهما، فإنْ بَدَيَا أو أحدهما وهي قادرةٌ على سترهما، لم تَصِحَّ صلاتها، وسيأتي ذكره الخلاف في ذلك. 5 - وجهُ المرأة: ليس بعورة في الصَّلاة، فإذا لم يكنْ حولها رجال أجانب، فلها كشفُهُ، وصلاتها صحيحة. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنَّ للمرأة أنْ تَكْشِفَ وجهها في الصَّلاة. قال الشَّارح: لا نعلم فيه خلافًا. وقال القاضي: هو إجماع. والمراد: حيث يراها أجنبي. وأمَّا كفَّاها: فجمهور العلماء أنَّهما ليسا بعورةٍ في الصَّلاة. واختار المجد، والشيخ تقي الدِّين، وغيرهما: أنَّ قدميها ليسا بعورة، وجزم به الموفَّق في العمدة، وصوَّبه في الإنصاف، وهو مذهب أبي حنيفة. وما عدا ذلك: فهو عورةٌ إجماعًا. هذا كله في الصلاة. وأمَّا خارج الصلاة، فعورةٌ باعتبار النظر، كبقية بدنها. 6 - المرأة لها نقابٌ، وبرقع ولثام، وهي كما يلي:

(أ) النِّقاب: جمعه نُقُبٌ، مثل كتاب وكُتُب، وهو خمارٌ يستُرُ وجه المرأة، وتجعَلُ القناعَ على مارن الأنف، فيبدو منه محجر العينين. (ب) البُرْقُع: بضم الباء، وسكون الرَّاء، جمعه براقع، وهو الخمارُ يستُرُ الوجه، وفيه ثقبان بقدر العينين، فكأنَّ فتحته أضيقُ من النِّقاب. (ج) اللثام: هو البرقع، إلاَّ أنَّه يكونُ على طرف الأنف، فهو أوسع فتحةً من النِّقاب. * فائدة: تفصيل العورة في الصلاة، في المشهور من مذهب الإمام أحمد وغيره: 1 - عورةُ الرجلِ البالغِ، وَمَنْ بَلَغَ عَشْرَ سنين، والبنت المراهقة: ما بين السرَّة والركبة. 2 - عورة الصبيِّ من السَّابعة إلى العاشرة الفرجان فقطْ. 3 - عورة المرأة البالغة الحرَّة كلُّ بدنها عدا وجهها، فليس بعورةٍ في الصلاة؛ على الرَّاجحِ من أقوال العلماء. ***

166 - وَعَنْ عَامِرِ بْن رَبِيعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَشْكَلَتْ عَلَيْنَا القِبْلَةُ، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وله شاهدٌ من حديث جابر عند الدَّراقطني (1/ 272)، والحاكم (1/ 324)، والبيهقي (2/ 10)، وقال الحاكم: هذا حديث يحتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم، فإنِّي لا أعرفه بعدالةٍ ولا جرح، وتعقَّبه الذهبي بقوله: هو أبو سهل، واهٍ. قال الألباني: وللحديث متابعةٌ أخرى فيها ضعف. وبالجملة، فالحديثُ بطرِقِهِ الثلاثِ يرتقي إلى درجة الحسن، إنْ شاء الله. * مفردات الحديث: - الفاء: الفاء في {فَأَيْنَمَا} للاستئناف. - أين: اسمُ شرطٍ جازمٌ، في محلِّ نصب ظرف مكان، متعلِّق بما بعده. - ما: زائدة. - تولُّوا: فعل الشرط، مجزومٌ بحذف النون، والواو فاعل. - فثمَّ: الفاءُ رابطةٌ لجواب الشرط. و"ثمَّ": ظرفُ مكان، مبنيٌّ على الفتح، في محل نصبٍ، متعلِّقٌ بمحذوفٍ، خبرٌ مقدَّم. ¬

_ (¬1) الترمذي (345).

- أشكلت: أشكَلَ يُشْكِلُ إشكالاً، أي: التبَسَتْ علينا جهةُ القبلة، في تلك الليلة المظلمة. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا أشْكَلَتْ جهةُ القبلة على المسافر، وصلَّى، ثمَّ تبيَّنَ له خطؤه، فصلاته صحيحة، سواءٌ علم بالخطأ في الوقت، أو بعده. 2 - أنَّ استقبال القبلة شرطٌ من شرائط الصَّلاة، لا تصحُّ بدونه، سواءٌ أكانت الصَّلاة فرضًا أو نفلاً؛ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. 3 - قال الشيخ تقي الدِّين: استقبالُ القبلة في الصلاة من العلم العامِّ عند كل أحد، وأنَّه من شرائط صحَّة الصَّلاة. قال ابن رشد: ما نُقِلَ بالتواتر، كاستقبال القبلة، وأنها الكعبة، لا يردُّه إلاَّ كافر. 4 - قال العلماء: ومن قَرُبَ من الكعبة بأنْ أمْكَنَهُ معاينتها، ففرضهُ إصابةُ عينها، وأمَّا من بَعُدَ عنها، ففرضُهُ استقبالُ جهتها. قال في الإنصاف: البعد هنا هو بحيثُ لا يقدرُ على المعاينة، ولا على من يخبرهِ بِعِلْمٍ، وليس المرادُ مسافةَ قصر ولا ما دونها. 5 - تفسيرُ الايَة الكريمة، قال ابن جرير: نزلتْ هذه الآية في قوم عَمِّيَتْ عليهم القبلة، فصلَّوْا على أنحاء مختلفة؛ فقال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة: 115]. 6 - علماء السلف أثبتوا لله تعالى جهة علوِّ تليقُ بجلال الله وعظمته، ملاحظين في ذلك انتفاءَ إحاطةِ شيء به سبحانه وتعالى؛ فهو جلَّ وعلا المحيطُ بكلِّ شيء. ***

167 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. أخرجه الترمذي، وابن ماجه، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وقد قوَّاه البخاري، ورجالُهُ كلُّهم ثقات. * مفردات الحديث: - بين: كلمةُ تنصيف وتشريك، وهي ظرفٌ بمعنى وسط، فإنْ أُضيفَتْ إلى ظرف الزمان، كانتْ ظرفَ زمان، كقولك: أتيتُكَ بين الظهر والعصر، وإذا أُضيفَتْ إلى ظرفِ المكان، كانت ظرفَ مكان، تقول: داري بين دارك ودار أخيك. - القِبْلَة: بكسر القاف، وسكون الباء: هي الجهة، والمراد بها هنا: الكعبُة المُشَرَّفَة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الجهات الرئيسةُ الأفقيَّة أربعٌ: الشّمَالُ، ويقابله الجنوب، والشَّرْقُ، ويقابله الغرب، فما بين الشرق إلى الغرب (180) درجة، فهذه المسافة كلُّهَا قبلةٌ لمن لم يشاهد الكعبة، وكذلك قَدْرُهَا من غير جهتها. 2 - الحديثُ دليلٌ على أنَّ الواجب على من لم يشاهد الكعبةَ استقبالُ الجهة، لا العين؛ فالحديثُ يدلُّ على أنَّ ما بين الجهتين قبلَةٌ، وأنَّ الجهة كافيةٌ في ¬

_ (¬1) الترمذي (344)، ابن ماجة (1011).

الاستقبال. 3 - أمَّا مشاهدُ الكعبة، فقال العلماء في حكمه: وفرضُ مَنْ عايَنَ الكعبةَ إصابةُ عينها، بحيثُ لا يخرُجُ شيءٌ منه عن الكعبة، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وذلك كمَنْ في المسجد الحرام، أو كان خارجَهُ، وينظُرُ إليها. 4 - قال ابن القيِّم: الصوابُ: أنَّه مع كثرة البعد يكثُرُ المحاذي للعين؛ فإنَّ الدائرة إذا عظصت اتسعَتْ جدًّا؛ فإنَّ التقوُّس لا يظهر في جوانب محيطها، إلاَّ خفيفًا، فيكون الخط الطويل متقوِّسًا نحو نظره، وهذا لا يظهر للحس. 5 - ما ذكره الإمام ابن القيم مبنيٌّ على نظرية هندسية هي: "محيط الدائرة يتناسب تناسبًا طرديًّا، مع نصف القطر" يعني: أنَّه كلَّما بعدت المسافة عن الكعبة، زاد عدد المصلِّين القاصدين نفس جهة القبلة "الكعبة". 6 - استقبالُ القبلة شرطٌ لصحة الصلاة؛ فقد قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، لكن الاستقبال يسقط بأمورٍ، منها: أوَّلاً: العجز: إذا عَجَزَ عن استقبال القبلة لمرضٍ أو ربطٍ، فيسقط عنه، ويصلِّي حيث توجَّه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ومثل المريضِ والمربوطِ مَنْ كان في الطائرة، ولا يجدُ مكانًا يصلِّي فيه إلاَّ كرسيَّه المتَّجه إلى غير القبلة، صلَّى حيث اتجاهه. ثانيًا: الخائف: فإذا قاتَلَ العدوَّ أو هرَبَ منه أو من سيل أو غير ذلك، ووجهتُهُ إلى غير القبلة، صلَّى حسب ما توجه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، والخائف سواءٌ أكان راجلاً أو راكبًا، سيتوجَّه حيث مأمنه. ثالثًا: النَّافلة في السفر: فإذا كان الإنسان سائرًا راجلاً أو راكبًا، فإنَّه يصلِّي حيث توجَّه؛ لحديث عامر بن ربيعة قال: "رأيت النبَّي -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي على

راحلته حيث توجَّهَتْ به، ولم يصنعه في المكتوبة" [رواه البخاري (1093) ومسلم (701)]. والمشهور من مذهب الإمامِ أحمد: أنَّه يلزمه الاستقبالُ عند تكبيرة الإحرام بالدَّابَّة أو بنفسه؛ لحديث أنس الَّذي في أبي داود. والرِّواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنَّه لا يلزمه الاستقبالُ حتَّى عند تكبيرة الإحرام، وهو مذهبُ أبي حنيفة، ومالك؛ لإطلاقِ الأحاديث الصحيحة، أمَّا حديث أنس: فيحمل على الاستحباب. قال ابن القيم: حديث أنس فيه نظر، فكلُّ من وصفوا صلاته -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، أطلقوا أنَّه كان يصلِّي عليها قِبَل أيِّ جهة توجَّهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرةَ الإحرامِ، ولا غيرها. رابعًا: مذهبُ الإمامِ أحمد: جوازُ الصلاة على الرَّاحلة في السفر، ولو قصيرًا، قال في. المنتهى وشرحه: "وتجوز الصَّلاةُ على الراحلة إلى غير القبلة في النَّافلة، وفي السفر ولو كان قصيرًا، نصَّ عليه". ***

168 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "رأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بهِ" متَّفقٌ عَلَيْهِ. زَادَ البُخَارِيُّ: "يُومِىءُ بِرَأسِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُهُ فِي المَكْتُوبةَ" (¬1). وَلأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَديثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَكَانَ إذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أنْ يَتَطَوَّعَ، اسْتَقْبلَ بِناقَتِهِ القِبْلَةَ، فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُ رِكَابِهِ" وَإسْنَادُهُ حَسَنٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث أنس حسن، فقد حسَّنه ابن حجر، والنووي في المجموع، وصحَّحه ابن السكن وابن الملقِّن. * مفردات الحديث: - راحلته: يُقال: رَحَلَ يرحَلُ رحيلاً، من باب نفع، بمعنى: شَخُص وسار، والرَّاحلة من الإبل: ما يرحل، سواء كانت ذكرًا أو أُنثى، تسمى الرَّاحلة والرحول، والهاء فيه للمبالغة لا التأنيث، جمعها رواحل. - حيث: ظرف مكان، وهي مبنيةٌ على الضم، وهي مُلاَزِمَةٌ للإضافة إلى جملة، اسمية كانت أو فعلية، والفعلية أكثر. - حيث توجَّهت به: أي: إلى أي جهة وجِّهت الدَّابة، صلَّى إلى القبلة أو غيرها. ¬

_ (¬1) البخاري (1093، 1097)، مسلم (701). (¬2) أبو داود (1225).

- يُومىء: ماضيه "أومأ"، وأصله: ومأ، أي: يشير. - المكتوبة: المفروضة، وهي الصلواتُ الخمس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جوازُ صلاة النَّافلة على الرَّاحلة في السفر، ولو قصيرًا، ولو بلا عذر، والرَّاحلة سواءٌ أكانت ناقة أو غيرها؛ فقد جاء في مسلم (700) "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على حماره". قال البغوي: يجوزُ أداءُ النَّافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير عند أكثر أهل العلم. 2 - أنَّه لا يلزمُ المصلِّي على الرَّاحلة استقبالُ القبلة، بل يتوجَّه حيث جهةُ سيره. 3 - أنَّه لا يلزمُ الركوعُ والسجود، بل يكفي الإيماءُ برأسه؛ إشارةً إلى الركوع وإلى السجود، ويكونُ السجود أخفَضَ من الركوع، كما في زيادة ابن خزيمة: "ولكنَّه يخفضُ السجدَتَيْن من الركعة". 4 - أنَّ هذا لا يجوزُ في الفريضة، بل يجبُ أن يصلِّيها مستقرًّا في الأرض. 5 - ظاهرُ حديث أنس أنَّه يجب عليه الاستقبال عند تكبيرة الإحرام، فإذا كبَّر للإحرام صلَّى متوجِّهًا جهة سيره، وتقدَّم ما هو الرَّاجحُ في الحديث الَّذي قبل هذا. 6 - هذا كله بناءً على شدَّة الاهتمام بالفريضة، ووجوب أدائها على أكمل وجه؛ بخلاف النَّافلة: فإنَّ فيها تيسيرًا وتسهيلاً. 7 - هذا التسهيلُ والتخفيف في النوافل ترغيبًا في الإكثار منها، وأنَّه لا يمنع من الإكثار منها أيُّ عذر. 8 - المشهورُ من مذهب الحنابلة: أنَّ الصَّلاة المكتوبة لا تجوزُ على الرَّاحلة إلاَّ بعذر؛ لما روى أحمد، والترمذي، عن يعلى بن أمية "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى مَضِيقٍ هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماءُ مِن فوِقِهم، والبلة أسفل

منهم، فَحَضَرَتِ الصلاة، فأمر المؤذِّنَ، فأذَّنَ وأقام، ثمَّ تقدَّم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، فصلَّى بهم يومىء إيماءً، يجعَلُ السجودَ أخفَضَ من الركوع". وتصحُّ في سفينة، ولو مع القدرة على الخروج منها، إذا أتى بما يعتبر لها من قيام، واستقبال قبلة، وغيرهما؛ لما روى الدَّارقطني والحاكم، عن ابن عمر قال: "سُئِل النبَّيُّ -صلى الله عليه وسلم- كيف أُصلِّي في السفينة؟ قال: صَلِّ فيها قائمًا إلاَّ أنْ تخَافَ الغَرَقَ". أخرجه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي، لكنَّه قال: وهو شاذٌّ بمرَّة، وأخرجه الدَّارقطني وضعَّفَه. 9 - مثل الباخرة السيَّارة، قال الشيخ صِدِّيق حسن: وأمَّا العجلة النَّارية، كالقطارات والسيَّارات والترامات ونحوها، فحُكْمُهَا عند الشَّافعيَّة حكمُ السفينة، وحكمها عند الأحناف حكمُ الرَّاحلة. وأمَّا الطائرة: فتصح مع الإتيان بما يعتبر لها، وإلاَّ لم تصح، إلاَّ أنْ يخشى أنْ يخرُجَ الوقتُ عليه وهو فيها، فيصلِّي حسب حاله. ***

169 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ المَقْبرَةَ وَالحَمَّامَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الشَّافعي (2/ 20)، وأحمد (11375)، وأبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745)، وابن خزيمة (2/ 7)، وابن حِبَّان (4/ 498)، والحاكم (1/ 380). وقد اختُلِفَ في وصله وإرساله، فرواه حمَّاد موصولاً، ورواه الثوري مرسلاً، ورواية الثوريِّ أصحُّ وأثبت، قال: الدَّارقطني: المحفوظُ المرسل، ورجَّحه البيهقي، ونقل ابن حَجَرٍ في التلخيص عن صاحب "الإمام" قال: حاصل ما عُلِّل به الإرسال، وإِذا كانَ الواصلُ له ثقةً، فهو مقبول. قال المناوي في فيض القدير: قال الترمذي: فيه اضطرابٌ، وتبعه عبدالحق، وضعَّفه جمع، وقال ابن حجر: حديث مضطرب. وقال أيضًا: رجال ثقات، لكن اختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحَّته الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر أيضًا في التلخيص: له شواهد. وقال ابن تيمية: أسانيده جيدة، ومن تكلَّم فيه ما استوفى طرقه. وصحَّحه الألباني. ¬

_ (¬1) الترمذي (317).

وأشار البخاري إلى صحَّته في جزء القراءة، وهو الأقرب. * مفردات الحديث: - إلاَّ المقبرة. المستثنى هنا يجبُ فيه النصب، ولا يجوز غيره؛ ذلك أنَّ المستثنى واقعٌ في كلامٍ تامٍّ موجب. والمقبرة: مثلَّثة الباء، وهي موضعُ القبور. - مسجد: بفتح الجيم وكسرها: الموضعُ الَّذي يُسْجَدُ فيه، وهو مشتقٌّ من سَجَدَ يَسْجُدُ سجودًا، أي: خضع وذلَّ، وكل موضع يتعبَّد فيه فهو مسجد. - الحَمَّام: بفتح الحاء، وتشديد الميم، جمعه حمَّامات، هو المغتسل، مذكَّر، وقد يؤنث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأرضُ كلُّها مسجد، فأي بقعةٍ من الأرض حضَرَتِ المسلمَ فيها الصلاةُ صلَّى فيها، وهذا ما يفيده أحاديث كثيرة، منها: حديث: "أُعطيت خمسًا لم يعطهنَّ أحدٌ من قبلي: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". 2 - لا تصحُّ الصلاة في المقبرة التي هي مدفن الموتى؛ لما روى مسلم (972) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصلُّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها". قال ابن حزم: أحاديثُ النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة متواترة، لا يسع أحدًا تَركُهَا. وجزَمَ غيرُ واحدٍ من المحقِّقين بأنَّ العلَّة سَدُّ الذريعة عن عبادة أربابها. قال ابن القيم: تعظيمُ القبور أعظمُ مكائد الشيطان، التي كاد بها أكثَرَ النَّاس، وما نجا منها إلاَّ مَنْ لم يُرِدِ الله له الفتنة. قال الشيخ تقي الدِّين: عمومُ كلامهم يوجبُ منعَ الصَّلاة عند قبرٍ واحدٍ، وهو الصوابُ، واستثني صلاة الجنازة بالمقبرة؛ لفعله -صلى الله عليه وسلم-، فخصَّ النَّهي بذلك؛ لأنَّها دعاء للميت، لا تشمل ركوعًا ولا سجودًا، ولا خفضًا ولا رفعًا.

3 - يستفاد من النَّهي عن الصلاة في المقبرة، النَّهيُ عن كلِّ مكانٍ فيه أشياء يخشى أنَّ تعظيمَهَا يؤدِّي إلى عبادتهاة كالصَّلاة عند التماثيل، والصور، والكنائس. 4 - لا تصحُّ الصَّلاة في الحَمَّام، وهو الموضعُ الَّذي يُغْتَسَلُ فيه بالماء الحميم، والعلَّةُ في المنعِ ما جاء مرفوعًا: "الحَمَّام بيت الشيطان"، فهو من الأماكن التي تكشف فيه العورات، ويوجدُ فيه الاختلاط؛ فصار من مواطن الشيطان التي نادَى إليها. 5 - يستفاد من النَّهْي عن الحَمَّام، النَّهْيُ عَمَّا شابهه من مواطن الشياطين؛ كمجالس اللهو المحرَّم منَ الأفلام الخليعة، والأغاني الماجنة، والألعاب المحرَّمة، ومجالس المجون، ونحو ذلك، فكلُّها مواطن شياطين، تتنزَّه عنها طاعة الله وعبادته. قال شيخ الإسلام: تكره الصَّلاة في كلِّ مكانٍ فيه تصاوير، وهو أحقُّ بالكراهة من الصلاة في الحَمَّام؛ لأنَّ كراهة الصَّلاة في الحمام: إمَّا لكونه مظنَّة النَّجاسة، وإمَّا لكونه بيت الشيطان، وهو الصحيح، وأمَّا محل الصور فَمَظِنَّةُ الشرك. وقال النووي: الصَّلاَةُ في مأوى الشيطان مكروهٌ بالاتفاق، وذلك مثل مواضع الخمر، والحَانَةِ، ومواضعِ المُكُوس، ونحوها من المعاصي الفاحشة، والكنائس، والبِيَعَ، والحشوش، ونحو ذلك. ***

170 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: المَزْبلَةِ، وَالمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالحَمَّام، ومَعَاطِنِ الإِبِل، وَفَوْقَ ظَهْرِ بيتِ اللهِ تَعَالى" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ درجة الحديث: الحديث ضعيف. رواه الترمذي، وابن ماجه (746)، والطحاوي، والبيهقي (2/ 329) عن زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر. قال البيهقي: تفرَّد به زيد بن جبيرة، قال البخاري: منكر الحديث جدًّا. وقال الترمذي: ليس بالقوي، قال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه، قال الحافظ: متروك. قال الحافظ في التلخيص الحبير: "في سند ابن ماجة عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف". * مفردات الحديث: - المَزْبَلَة: بفتح الميم والباء على الأصح، وهي مكان إلقاء الزبل، وهو السرجين (كلمة أعجمية ومعناها السماد) والقمامة. - المَجزرة: بفتح الميم، المكان الَّذي تجزر فيه المواشي، أي تذبح أو تنحر. - المقبرة: مثلثة الباء، موضع القبور. - قارعة الطريق: ما تقرعه الأقدام بالمرور، والمراد به: الجادَّة، والطريق الواسعة. ¬

_ (¬1) الترمذي (346).

- الحمَّام: بفتح الحاء، وتشديد الميم، ثمَّ ألف، وآخرُهُ ميم: هو المكان المُعَدُّ بمائه الحميم للاغتسالِ، جمعه حَمَّامَات. - مَعَاطِن الابلَ: بفتح الميم، وعين مهملة، وكسر الطاء المهملة، فنون، واحدها عَطَن، بفتح العين والطاء، هي مَبَارِكُ الإبل عند الماء، وما تقيمُ فيه وتأوي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديثُ فيه النَّهي عن الصَّلاة في سبعة مواطن، وعدَّدها. 2 - الحديثُ ضعيفٌ لا تقومُ به حجَّة على حكمٍ شرعي؛ لأنَّ فيه زيدَ بنَ جبيرة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه، وقال الحافظ: متروك. 3 - فبناءً عليه: فالمواطنُ السبعة بعضُهَا ثبت النَّهي عن الصَّلاة فيه من طرق أخر، فهذه يكون منهيًّا عنها، ومكتسب النَّهي والتحريم من غير هذا الدليل، وأمَّا الَّتي لا يوجد لها دليلٌ غير هذا الحديث، فهي تبقى على أصل الإباحة والطهارة؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا" [رواه البخاري (328)، ومسلم (521)]. 4 - أمَّا أدلَّة المواطن المحرَّمة، فهي: (أ) المقبرة والحمام: تقدَّم دليلُ المنع فيهما في الحديث الَّذي قبل هذا. (ب) أعطانُ الإبل: لما روى أحمد (16900)، والترمذي (348)، وغيرهما، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"لا تُصلُّوا في أعطان الإبل". (ج) الحُشَّ: قال ابن عباس: "لا يصلِّيَنَّ أحدكم في حُشٍّ، ولا في الحمام"، قال ابن حزم: لا نعلم لابن عبَّاسٍ مخالفًا من الصحابة. والحُشّ: هو مأوى الأرواح الخبيثة؛ ولذا يستحبُّ لداخله أنْ يستعيذ بالله تعالى من الشيطان، فيقول: "أعوذ بالله من الخبث، والخبائث". (د) المجزرة: هي موضعُ نجاسةٍ؛ لما يراقُ فيها من الدماء المسفوحة

النجسة؛ ولذا تحرم فيها الصلاة. (هـ) المزبلة: هي ملقى الكناسة، والقمامة، والفضلات، والسرجين؛ فتحرم فيها الصلاة. (و) أمَّا قارعة الطريق: فهي الطريقُ العامَّة وأرصفتها، فالمشهورُ من مذهبنا: منْعُ الصَّلاة فيها؛ لهذا الحديث، ولكثرة المرور فيها، وانشغال القلب في المارِّين. والرِّواية الأخرى: صحةُ الصلاة فيها، وهو مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي؛ فهي باقيةٌ على أصل الجواز. (ز) فوق الكعبة لهذا الحديث، وهو المشهور من المذهب. والقولُ الثاني: جوازُ الصلاة عليها فرضًا أو نفلاً، وهو قول جمهور العلم. قال الموفَّق: الصحيحُ جوازُ الصَّلاة فيها؛ لعموم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". * خلاف العلماء: المشهور من مذهب الإمام أحمد وأتباعه: النَّهْيُ عن الصلاة في المواطن السبعة، وهو من المفردات، ودليلُ الحنابلة حديثُ الباب، وهو غيرُ عمدة. وذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنَّها تصحُّ الصَّلاة فيها، إلاَّ المقبرةَ، ومعاطنَ الإبل، والحُشَّ. ودليل الجمهور على طهارتها، وجواز الصَّلاة فيها: عمومُ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، واستثنى منه المقبرة، والحمَّام، ومعاطن الإبل، بأحاديث صحيحة. قال الموفَّق: الصحيحُ جوازُ الصَّلاة فيها، وهو قولُ أكثر أهل العلم.

وأمَّا الحديث: فضعيف لا تقوم به حجَّة. ذهب بعض العلماء: إلى أنَّ العلَّة في النَّهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، وعدم صحتها فيها، هي نجاسَتُهَا، وهي مبنيةٌ على القول بأنَّ جميعَ أرواثِ وأبوال الحيوان نجسة، سواءٌ منها الحلالُ المأكول، أو محَرَّمُ الأكل. وهذا قولٌ ضعيفٌ، مخالفٌ للأدلة الصحيحة، فإنَّ ما يؤكل لحمه، طاهرُ الفضلات، وقد أمر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العُرَنيِّين أنْ يَشْرَبُوا أبوال الإبل، ولو كانت نجسةً لم يُبِحْهَا، ولو أباحتها الضرورةُ لأمَرَ النَّبيُّ بالتحرُّز منها، وغَسْل نجاستها من أفواهَهم وثيابهم وأوانيهم وغير ذلك، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجَة لا يجوز. وذهب بعضهم: إلى أنَّ العلَّة تعبُّدية، فلا نعقلُ حكمتها ولا سرَّها، وما علينا إلاَّ أنْ نقولَ: سمعنا وأطعنا، والعلَّةُ والحكمةُ هي ما أَمَرَ الشرعُ أو نهى عنه، وذلك كافٍ للمؤمن؛ قال تعالي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]؛ فالواجب: التسليمُ والانقيادُ والإيمانُ الصَّادق بأنَّ الله تعالى لم يشرع شيئًا إلاَّ وله مصلحةٌ، ومنفعةٌ وحكمة، قد تظهر وقد تخفى. وذهب بعض أهل العلم: إلى أنَّ العلَّة في الصَّلاة في معاطن الإبل، هي العلَّةُ بالأمر بالوضوء من لحومها، وذلك أنَّ الإبلَ لها قُرَنَاءُ من الشياطين، تأوي معها إلى معاطنها، ولذا يعرف رعاة الإبل والَّذين يسوسونها بالكبرياء والتعظُّم، تأثُّرًا بمعاشرتها. وبهذا: فالصَّلاة لا تصحُّ في الأمكنة التي تأوي إليها الشياطين، والله أعلم. ***

171 - وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغَنَوِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، وَلاَ تَجْلِسُوا عَلَيْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أبي مَرْثَد: بفتح الميم، وسكون الرَّاء، ثمَّ ثاء مثلَّثة، ثمَّ دال. - الغنوي: بفتح الغين المعجمة، نسبةً إلى قبيلة غَنِيِّ بنِ أعصر، إحدى القبائل العدنانية، اسمُهُ: كِنَازُ بن حُصَيْن، صحابيٌّ، حليف بني هاشم. - القبور: جمع قبر، والمقبرة بضم الباء وفتحها: موضع القبور، والجمع مقابر، وَقَبَرْتُ الميتَ: دفنته، وأقبرته: أمرتُ بدفنه، ومنه: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عبس]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن الصلاة إلى القبور، بأنْ تكون المقبرةُ في جهة المُصَلِّى. 2 - النَّهي يقتضي الفسادة فتكونُ الصَّلاة باطلةً. 3 - حكمة النَّهْي هو خشيةُ تعظيمها، الَّذي قد يؤُولُ إلى عبادةِ أصحابها. قال ابن القيم: من أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها، أكثرُ ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبِهِ وأوليائِهِ من الفتنة في القبور، حتَّى آل الأمرُ فيها إلى أنْ عُبِدَ أربابُهَا من دون الله، أو عُبِدَتْ قبورهم، ووإن أوَّلُ هذا الدَّاءِ العظيمِ في قوم نوح. قال ابن حزم: أحاديثُ النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة متواترةٌ، ولا يَسَعُ ¬

_ (¬1) مسلم (972).

أحدًا ترْكُهَا. 4 - قال فقهاء الحنابلة: ولا يضر قبر وقبران؛ لأنَّها لا تسمَّى مقبرةً حتَّى يكون فيها ثلاثة قبور فأكثر، ولأنَّ العلَّة عند هؤلاء الفقهاء لم تعقل. قال الشيخ تقي الدِّين: العلَّة هي ما يُفْضِي إليه ذلك من الشرك، ثمَّ قال: عمومُ كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجبُ مَنْعَ الصَّلاة عند قبرٍ واحدٍ، وهو الصواب. 5 - وبهذا فإنَّ الصَّلاة لا تصحُّ في مسجد فيه قبر، ولو كان واحدًا، أو كان القبر في مؤخَّر المسجد ما دام أنَّه داخلٌ في المسجد. 6 - النَّهْيُ عن الجلوس على القبور؛ لأنَّ ذلك إهانةٌ لأصحابها؛ فقد جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأنْ يَجْلسَ أحدُكُمْ على جمرةٍ، فتحرقَ ثيابه، فتخلُصَ إلى جلده، خيرٌ من أنْ يجلس على قبر"، فيكون تحريمُ الوطء عليه أولَى؛ لما في ذلك من الاستخفاف بحق المسلم؛ لأنَّ القبر بيته، وحرمتُهُ ميتًا كحرمته حيًّا. والنَّهج الصحيح: أنَّ المسلم لا يكون غاليًا ولا جافيًا؛ فلا تعظيم للقبر، يجُرُّ إلى الفتنة، ولا استخفافَ بالقبورِ وأصحابها، تذهَبُ بحرمتهم، وخيرُ الأمور الوسط، والله الموفِّق. ***

172 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا جَاءَ أحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأى فِي نَعْلَيْهِ أذًى أوْ قَذَرًا، فَلْيَمْسَحهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا" أَخْرَجَهُ أَبُودَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان (5/ 560)، والحاكم (1/ 235)، ووافقه الذَّهبي، وقال النووي في المجموع: حديثٌ حسن رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، واعتمد الألباني في إرواء الغليل تصحيحه، وكذلك في صحيح أبي داود. * مفردات الحديث: - أذًى: الأذى يأتي بمعنى القَوْلِ المكروه؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]. ويأتي بمعنى القذر؛ كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، والمراد هنا: القذر. - قذر: مصدر قَذِرَ الشيءُ فهو قَذِرٌ، من باب تعب، وهو الوسخ. - أذى، أو قذر: الشك من الرَّاوي. ¬

_ (¬1) أبو داود (650)، ابن خزيمة (786).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديثُ على جواز الصَّلاة في النعلَيْن، إذا كانا طاهرَيْن، وأنَّ الصَّلاة فيهما من السنَّة. 2 - منعُ الدخولِ بهما المسجد، إذا كان فيهما أذًى، أو قذرٌ، أو نجاسة. 3 - إذا أراد دخولَ المسجد بهما والصَّلاةَ فيهما، فيجبُ عليه النَظَرُ إليهما: فإن رأى فيهما قذرًا، أو أذًى، مسحَهُ بالأرض أو بغيرها، ثمَّ دَخَلَ بهما، وصلَّى بهما إنْ شاء ذلك. 4 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لو صلَّى جاهلاً، أو ناسيًا أنَّ في بدنه أو ثوبه، أو نعله نجاسةً، فإنَّ صلاته غير صحيحة، وعليه إعادتها. والرواية الأُخرى عنه: أنَّ صلاته صحيحةٌ، ولا يعيد. اختار هذه الرِّواية الأخيرةَ الموفَّق ابن قدامة، والمجد، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وغيرهم؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في نعليهِ، فلمَّا كان في أثناء الصَّلاة خلعهما، بعد أنْ أخبره جبريل أنَّ فيهما نجاسةً، ثمَّ بنى على ما مَضَى من صلاته، ولأنَّ الصَّلاة بالنَّجاسة من باب فِعْلِ المحظور، وما كان مِنْ فعل المحظور، فإنَّ الإنسانَ إذا فعله ناسيًا، أو جَاهلاً، فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]؛ بخلاف ترك المأمور: فلا يُعْذَرُ بجهله، ولا نسيانه، فلابُدَّ من الإتيانِ به، فقد أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المسيءَ في صلاته أن يعيدها، حتَّى أتى بها على الوجه الصحيح. 5 - احترامُ المساجد، وتطهيرُهَا عن الأذى والقذر؛ لأنَّها موضعُ عبادة، فيجب أنْ تكون طاهرةً نظيفة؛ قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26]. ***

173 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا وَطِىءَ أَحَدُكُم الأَذَى بِخُفَّيْهِ، فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف؛ لكنْ له طرقٌ يشد بعضها بعضًا، تجعله محتجًّا به. وقد أخرجه ابن السكن، والحاكم (1/ 271)، والبيهقي (2/ 430) من حديث أبي هريرة، وسنده ضعيف، وفي الباب غير هذا، بأسانيدَ لا تخلو من ضعف، إلاَّ أنَّه يشُدُّ بعضها بعضًا. قال الشوكاني: وهذه الروايات يقوِّي بعضها بعضًا، فتنهضُ للاحتجاج بها على طهارة النَّعل بدلكه في الأرض، رطبًا أو يابسًا. * مفردات الحديث: - وطىء: من باب سمع، ومعناه: داس. - بِخُفَّيهِ: تثنية خف، وهو ما يُلْبَسُ في الرِّجْل من جلدٍ رقيق. - طهورهما: بفتح الطاء: الشيء الَّذي يتطهَّر به. - التراب: بضم التاء المثناة الفوقية ما نَعُمَ من أديم الأرض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأذى -هنا- النجاسةُ، كما تشمَلُ أيضًا ما يستقذرُ من غير النجاسة، ودليل إرادة النجاسة قولُهُ: "فطهورهما التراب"، فالطهورُ لا يكون شرْعًا إلاَّ من نجاسة. ¬

_ (¬1) أبو داود (386)، ابن حبَّان (4/ 250).

2 - أنَّ نجاسة الخف يكفي في تطهيرها مَسْحُهَا بالتراب وَدَلْكُهَا به، دون الماء. 3 - هذا راجعٌ لسماحة الشريعة ويسرها، فالخُفُّ كثيرًا ماَ يصاب بالأذى والنجاسة، من أجل مباشرته الأرض، فلو لم يَكْفِ في تطهيره إلاَّ الماء، لَشَقَّ ذلك، ولأدَّى أيضًا إلى إتلافه بالماء بتكرُّره عليه. 4 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يطهر شيء بغير الماء، فلا يطهر الخُفُّ بمسحه في الأرض، ولا تطهيره بالتراب، ذلك أنَّ الماء تَعَيَّنَ لإزالة النجاسات، فلا يقوم غيره مقامه. والرِّواية الأخرى عن الإمام أحمد: يطهر الخفُّ بالدلك في الأرض؛ اختارها الموفَّق، والشَّارحُ، وتقي الدِّين، وجماعة. قال في الفروع: وهي أظهر، وهذا هو الرَّاجح دليلاً وتعليلاً؛ فقد جاء في سنن أبي داود (385) من غير وجه؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فليدلكهما بالتراب؛ فإنَّ التراب لهما طهور". 5 - قال شيخ الإسلام: لم يأمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا عامًّا بأنْ تزال النجاسات بالماء، وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع: الاستجمار، والنعلين، وذيل المرأة. وهذا القول هو الصواب. ***

174 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَم النَّاسِ؛ إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، والتَّكبِيرُ، وَقِرَاءَةٌ القُرآنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يصلح: "لا": نافية؛ ولذا فالفعل المضارع بعدها مرفوع، ولام "يصلُحُ" تكون بالضم والفتح. - التسبيح: مصدر سبَّح، والتسبيحُ بمعنى التنزيه والتقديس، ويكونُ بمعنى ذكر الله تعالى، يُقال: فلان يسبِّح الله، أي: يذكُرُهُ بأسمائه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سببُ الحديث أنَّ رجلًا عَطَسَ في الصَّلاة، فشمَّته معاويةُ بن الحكم، وهو في الصَّلاة، فأنكر المصلُّون من الصحابة، بما أفهَمَهُ ذلك، وبعد الصَّلاة علَّمه النَّبيٌّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنَّ هذه الصَّلاة لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النَّاس إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن". 2 - أنَّ مخاطبة النَّاس في الصَّلاة -ولو بالدعاء- عمدًا يُبْطِلُ الصَّلاة؛ ولذا قال فقهاؤنا: وتبطُلُ الصَّلاة بـ"كاف الخطاب"، إلاَّ لله تعالى، ولرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-. 3 - أنَّ مخاطبة الناس في الصَّلاة إعراضٌ عن مناجاة الله تعالى؛ فقد جاء في البخاري (417) ومسلم (551) من حديث أنس وغيره، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَا قال أحدكم في صلاته، فإنَّه يناجي ربَّه". ¬

_ (¬1) مسلم (537).

4 - يستحب للمصلِّي ويتأكَّد عليه حضورُ قلبه في الصَّلاة، فلا يلهيه عن معانيها وأحوالها مُلْهٍ، بل يُفْرِغُ قلبه ويستجمعه، لاستحضار ما يقولُ فيها ويفعل؛ فقد جاء في البخاري (1199) ومسلم (538) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ في الصلاةِ لَشُغْلاً". 5 - قد يُظَنُّ أن بين هذا الحديث، وبين حديث "المسيء صلاته"، أنَّ بينهما تعارضًا؛ ذلك أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المسيء في صلاته أنْ يعيد الصلاة -ثلاث مرَّات- حتَّى أتى بها على الوجه الصحيح؛ أمَّا معاويةُ بن الحكم فلم يأمُرْهُ بالإعادة، مع أنَّه تكلَّمَ في الصَّلاة عمدًا. ووجه الجمع بين الحديثَيْن من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ: أحدها: أنَّ المسيء في صلاته تَرَكَ ما هو واجبٌ في الصَّلاة، وأمَّا معاوية. فقد فَعَلَ مَا نُهِيَ عنه فيها، وَتَرْكُ المأمور أعظَمُ من فعل المحظورة ولذا فإنْ تارك المامور لا يُعْذَرُ بجهلٍ ولا نسيان؛ بخلاف فاعل المنهيِّ عنه: فهو معذور في حال الجهل والنسيان. الثاني: أنَّ المسيء تَرَكَ ما تقَرَّرَ ثبوتُ أصله؛ بخلاف معاوية: فهو بانٍ أصل إباحة الكلام في الصلاة، ويدل على ذلك حديث زيد بن أرقم الآتي. الثالث: جاء في حديث معاوية قوله: "إنِّي حديثُ عهدٍ بجاهليةٍ"، والشرائع لا تلزم المسلمَ إلاَّ بعد بلوغها إيَّاها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "الشرائعُ لا تَلْزَمُ إلاَّ بعد العِلْمِ بها، فلا يقضي ما لم يعلم وجوبها. 6 - الصَّلاةَ أقيمتْ لذكر الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه]. فالمصلِّي مشغولٌ فيها بذكر الله تعالى، ومتنقِّلٌ من قراءة كتاب الله إلى ذكر الله تعالى، بتسبيحه، وتعظيمه، وتمجيده، وتحميده، وتكبيره،

وتهليله، فكلُّ خفضٍ ورفعٍ له تكبيرٌ، وكلُّ ركوعٍ وسجودٍ وقيامٍ وقعودٍ له ذكرٌ، فالمصلِّي مستغرقٌ في أذكار الله المنوَّعة، فالموفَّقُ مَنْ راقب قلبه، وأحضَرَهُ ليفهم هذه الأصول، ويتدبَّر تلك الأقوالَ والأحوال، والمحرومُ من أدَّاها بقلبٍ غافلٍ، وألفاظٍ جوفاء، وحركاتٍ صُورية خالية من معانيها، ومقاماتها العالية. 7 - حُسْنُ تعليم النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وحسنُ دعوته وإرشاده، فمعاويةُ بن الحكم لم يتكلَّم عالمًا، وإنَّما تكلَّم جاهلاً؛ ولذا لم يعنِّفه ولم يوبِّخه، وإنَّما علَّمه وأرشده -بحكمةٍ ولين- إلى أنَّ الصَّلاة مناجاة مع الله تعالى، فلا يصلح فيها شيءٌ من كلام النَّاس؛ كما أرشد الأعرابي الَّذي بال في المسجد، وكما سكت عن التائب المنيب الَّذي جامَعَ في نهار رمضان، فما زاد -صلى الله عليه وسلم- على أنْ أفتاه؛ فالقسوة والشدَّةُ والغِلْظةُ هي لمرتكب المحرَّم عمدًا، المُصِرِّ على فعله؛ فلكل مقامٍ مقالٌ وحال. ***

175 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ كُنَّا لنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يُكَلِّمُ أحَدُنَا صَاحِبهُ بِحَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة]؛ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، ونُهِينا عَنِ الكَلاَمِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إنْ كُنَّا لنتكلَّم: "إنْ" مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمُهَا محذوف، و"الَّلام" للتَّأكيد. - يكلِّم أحدنا: جملة استئنافية كأنَّها جوابٌ عن قول القائل: كيف كنتم تتكلَّمون؟. - حافظوا: أي: واظبوا، وداوموا. - الوسطى: الفضلى، بألف التأنيث المقصورة، أي: الصلاة الفضلى، وهي صلاةُ العصر على الرَّاجح. - قانتين: نُصِبَ على الحال من الضمير الَّذي في "قوموا"، واشتقاقُهُ من القنوت، والقنوتُ له معان كثيرةٌ، والمراد به هنا: السكوت. - أُمرنا ونُهينا: مبنيَّان للمجهول، والآمرُ والنَّاهي هو النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان المسلمون أوَّلَ الأمر يتكلَّمون في الصَّلاة، يُكلِّم الرَّجلُ صاحبَهُ بالكلام اليسير، الَّذي لابد منه؛ فانزل الله. {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة]، فأُمِرُوا بالسُّكوت ونُهُوا عن الكلام، وهذا ¬

_ (¬1) البخاري (1200)، مسلم (539).

صريحٌ في إباحة الكلام في أوَّلِ الإسلام، ثُمَّ نسخ بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} والمراد به: السكوتُ في الصَّلاة. 2 - قال ابن كثير: هذا الأمر يستلزمُ تركَ الكلامِ في الصَّلاة لمنافاته إياها؛ فإنَّ القنوتَ المأمورَ به هو السكوتُ، فالكلامُ ينافيه". وهذا كما فهمه الصَّحابة، وعملوا بمقتضاه في زمن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ مَنْ تكلَّم في الصَّلاة عامدًا لغير مصلحتها، فإنَّ صلاته فاسدة. قال شيخ الإسلام: هذا ممَّا اتفَقَ عليه المسلمون، والعامدُ هو من يَعْلَمُ أنَّه في صلاة. 3 - الحديث يدُلُّ على عِظَمِ الصَّلاة وأهميَّتها، وأنَّ الدخولَ بها هو انصرافٌ وانشغالٌ عن جميع ما في الحياة، وأنَّ المحافظةَ عليها بما يُكَمِّلُهَا في أركانها وشروطها، وواجباتها ومستحباتها، هو المحافظةُ عليها، التي أشار إليها بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون]. 4 - قال النووي: في الحديث دليلٌ على تحريمِ أنواعِ كلام الآدميين، وقد أجمع. العلماء على أنَّ المتكلِّم فيها عامدًا عالمًا بتحريمه، وتكلَّم لغير مصلحتها -تبْطُلُ صلاته. 5 - الآمر بالسكوت، والنَّاهي عن الكلام، هو النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالحديثُ له حكم الرفع. 6 - أنَّ الكلام مع تحويمه، فهو مفسدٌ للصلاة؛ لأنَّ النَّهي يقتضي الفساد. 7 - أنَّ المعنى الذي حُرَّمَ من أجله الكلام، هو طَلَبُ الإقبالِ على الله في هذه العبادة، والتَّلذُّذِ بمناجاته؛ فليحرصِ المصلِّي على هذا المعنى السَّامِي. * خلاف العلماء: أجمع العلماءُ على بطلانِ صلاة من تكلَّم فيها عامدًا، لغير مصلحتها، عالمًا بالتحريم.

واختلفوا في السَّاهي، والجاهل، والمكرَه، والنَّائم، ومحذِّر الضرير والمتكلِّم لمصلحتها: فذهب الحنفية والحنابلة: إلى بطلان الصَّلاة في كلِّ هذا؛ عملاً بهذا الحديث الَّذي معنا، وبحديث: قال الصحابة للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: كُنَّا نسلِّم عليك في الصَّلاة فترُدُّ علينا، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ في الصَّلاة لشغلاً" متفق عليه، وغيرهما من الأدلة. وذهب الإمامان: مالك والشَّافعي: إلى صحَّة صلاة المتكلِّم، جاهلاً، أو ناسيًا أنَّه في الصَّلاة، أو ظانًا أنَّ صلاته تمَّت، فسلَّم وتكلَّم، سواءٌ كان الكلام في شأن الصلاة، أو لم يكن في شأنها، سواءٌ أكان إمامًا أو مأمومًا؛ فإنَّ الصَّلاة عندهما تامَّة، يبنى آخرها على أوَّلها، وهذا القولُ روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها شيخُ الإسلام، وكثيرٌ من المحقِّقين، وأدلتهم: (أ) حديث ذي اليدين، وسيأتي في سجود السهو. (ب) حديثُ "عُفِيَ لأُمَّتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه". وحديثُ الباب محمولٌ على العالم المتعمِّد. واختلفوا في النفخ، والنحنحة، والأنين، والتأوه، والانتحاب، ونحو ذلك. فذهب الحنفية والشَّافعية والحنابلة: إلى أنَّها تبطل الصَّلاة، إذا انتظم منها حرفان، وإنْ لم ينتظم منها حرفان، أو كان الانتحاب من خشية الله، أو التنحنح لحاجة -فلا تبطل. واختار الشيخ تقي الدِّين أنَّها لا تبطُلُ الصلاة، ولو انتَظَمَ منها حرفان، وقال: إنَّ هذا ليس مِنْ جنس الكلام، فلا يمكنُ قياسُهُ على الكلام. والخلاصة: أنَّ الكلمات ثلاثة أنول: 1 - كلمات تَدُلُّ على معنًى في نفسها؛ مثل: "يد" و"فم" و"سن" وغير ذلك.

2 - كلمات تدُلُّ على معنًى في غيرها؛ مثل "عن" وَ"مِنْ" وَ"في" ونحوها. فهذان النوعان يدلان على معنًى بالوضع، وهذه قد أجمَعَ العلماء أنَّها تفسد الصَّلاة، إنْ لم يكن عذرٌ شرعيٌّ يَمْنَعُ القولَ بالإبطال. 3 - كلماتٌ ليس لها معنى بالوضع، كالتأوُّه، والبكاء، والأنين، فالرَّاجحُ أنَّه لا يُبْطِلُ الصَّلاة، لأنَّه ليس كلامًا في اللغة، فقد كان علي -رضي الله عنه- يستأذن على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فيتنَحْنَحُ له. * فائدة: قال شيخ الإسلام: الأظهر أنَّ الصَّلاة تبطُلُ بالقهقهة؛ لما فيها من الاستخفاف والتَّلاعب المنافي مقصود العبادة. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ الضحك يفسد الصَّلاة. واختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى، التي حثَّ الله تعالى عليها بقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] على أقوالٍ كثيرة، وأوصلها العلماء إلى سبعة عشر قولاً، والرَّاجح أنَّها "صلاة العصر"، وما عدا هذا القول، فهو ضعيفُ الدلالة. فقد جاء في البخاري (2931) ومسلم (627) من حديث علي -رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: "ملأَ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتَّى غابت الشمس"؛ فهذا تبيينُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لها، وليس مع بيانه بيان. قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي: وهو قول جمهور التَّابعين، وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وهو مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد، وصار إليه معظم الشَّافعية، وبه قال ابن حبيب، وابن العربي، وابن عطية من المالكية". ***

176 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" مُتَّفَق عَلَيْهِ. زَادَ مُسْلِم: "فِي الصَّلاَةِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - التصفيق: مصدر صفَّق بالتشديد بيديه، معناه: أنْ تضرب المرأةُ براحة يدها اليمنى على ظهر اليسرى؛ للتنبيه على شيء نابها في الصَّلاة. - التَّسبيح: مصدر سبَّح بالتشديد، والمراد هنا قولُ المصلِّي: سُبحان الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قصَّةُ الحديث: أنَّهُ حَصَلَ بين بني عمرو بن عوف فتنةٌ، فأتاهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في منازلهم في قُبَاء ليصلحَ بينهم، فكانتِ الصَّلاة، فجاء بلالٌ إلى أبي بكر، فقال له: أتُصلِّي للنَّاس؟ فقال: نعم، فصلَّى أبو بكر، فجاء النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والنَّاس في الصَّلاة، فتخلَّص حتَّى وقَفَ في الصفِّ الأوَّل، فصفَّق النَّاس، فالتَفَتَ أبو بكر، فرأى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فأشار إليه أنِ امكثْ في مكانك، فَرَفَعَ أبو بكر يديه، وَحَمِدَ الله، ثمَّ استأخَرَ حتَّى استوى في الصف، وتقدَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلَّى بالنَّاس، فلمَّا انصَرَفَ، قال: "مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق، مَنْ نَابه شيء في صلاته فليسبِّح، إنَّما التسبيحُ للرِّجال، والتصفيق للنِّساء". 2 - استحبابُ التسبيح في حقِّ الرِّجال، إذا نابهم شيءٌ في صلاتهم، وذلك يقول: سبحان الله. 3 - استحبابُ التصفيق للنِّساء، إذا نابهنَّ شيءٌ في صلاتهن؛ وذلك أستر لهنَّ، ¬

_ (¬1) البخاري (1203)، مسلم (422).

لاسيَّمَا وهنَّ في عبادة. 4 - كل هذا إبعاد للصَّلاة عمَّا ليس منها مِنَ الأقوال؛ لأنَّهَا موضعُ مناجاة مع الله سبحانه وتعالى، فلمَّا دعت الحاجةُ إلى الكلام، شُرِعَ ما هو مِنْ جِنْسِ ما شرع فيها، وهو التسبيح. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشَّافعي وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، والأوزاعي، وغيرهم: إلى ما دلَّ عليه الحديث، مِنْ أنَّهُ إِذَا ناب المصلِّي شيء في صلاته، يقتضي إعلامَ غيره بشيء، مِنْ تنبيه إمامه على خَلَلٍ في الصَّلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو استئذان داخل، أو كون المصلِّي يريد إعلامَ غيره بأمر -فإنَّهُ في هذه الأحوال وأمثالها يسبِّح، فيقول: "سبحان الله"؛ لإفهام ما يريدُ التنبيهَ عليه. واستدلُّوا على ذلك بما في صحيح مسلم (421) عن أبي هريرة قال: قال رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "التسبيح للرِّجال، والتصفيق للنِّساء في الصلاة". وقوله:"في الصَّلاة" زيادةٌ عند مسلم على ما عند البخاري، إلاَّ أنَّها ثابتة. وذهب أبو حنيفة، وتلميذه محمد بن الحسن: إلى أنَّه متى قصد بالذِّكر جوابًا، بطلت صلاته، وأمَّا إنْ قصد به الإعلام بأنَّه في الصَّلاة، لم تَبْطُلْ. وَحَمَلاَ التسبيحَ المذكور في هذا الحديث على ما كان القصدُ به الإعلامَ بأنَّه في الصَّلاة. وهما على هذا التَّأويل محتاجان لدليلٍ على ذلك، والأصلُ عدمُ هذا التخصيص؛ لأنَّه عامٌّ، وتخصيصه من غير دليل لا يمكنُ المصير إليه؛ ولذا فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور. وذهب الشَّافعي وأحمد وأتباعهما، وجمهور العلماء: إلى أنَّ المرأة إذا نابها شيءٌ، فينبغي لها أنْ تُصفِّق ببطن اليد اليُمنى على ظهر اليد اليُسرى.

وذهب مالك: إلى تسوية المرأة والرَّجُلِ بالتسبيح، وحرَّم التصفيق للرِّجال والنِّساء؛ مستدلاًّ بعموم حديث سهل بن سعدَ: "من نابه شيءٌ في صلاته فليسبِّح" [رواه البخاري (1234) ومسلم (421)]. وهذا عامٌّ في حقِّ الرِّجال والنِّساء، أمَّا قوله: "إنَّما التصفيق للنِّساء" فَعَلَى جهة الذم. وجواب الجمهور: أنَّ مثل هذه التأويلاتِ لا تقاومُ النصوصَ الصحيحة الصريحة؛ فقد جاء في صحيح البخاري (1234) "إذَا نابكم شيءٌ في الصَّلاة، فليسبَحّ الرِّجال وليصفق النساء"، ولما نقل ابن الولي مذهب مالك، قال: ليس بصحيح، وقال القرطبي المالكي: وقول الجمهور هو الصحيح، خبرًا ونظرًا. ***

177 - وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أِبيهِ قَالَ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَفِي صَدْرِهِ أزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ" أخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه ابن حبَّان، وابن خزيمة، والحاكم، ورواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح. وقال الحافظ في الفتح: إسناده قوي. * مفردات الحديث: - أزيز: الأزِيز، بفتح الهمزة، بعدها زاي معجمة، فياء، ثمَّ زاي أخرى معجمة، صوت غليان القِدْر. - المِرْجَل: بكسر الميم، فسكون الرَّاء المهملة، ففتح الجيم فلام: هو القِدر الَّذي يُطْبَخُ به. - من البكاء: البكاء إذا مددتَّ أردتَّ به الصوتَ الَّذي يكونُ معه، وإذا قصرت أردتَّ خروجَ الدمع، قاله العيني في شرح البخاري، وهاهنا المراد به: المعنى الأوَّل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحبَابُ الخشوع في الصَّلاة، والانطراحِ فيها بين يدي الله تعالى. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 25)، أبو داود (904)، الترمذي في "الشمائل" (315)، النسائي (1214)، ابن حبان (2/ 439).

2 - أنَّ النَّحيب في الصَّلاة لا يُبْطِلُهَا، إذا كان مِنْ خشية الله، هذا المذهبُ، وإنْ كان مِنْ غَيْرِ خشية الله تعالى، فبان حرفان، بَطَلَتْ، وتقدَّم أنَّ الصحيح: أنَّ مثل هذا الصوتِ لا يُبْطِلُهَا ولو بان منه حرفان. 3 - حالة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مع ربِّه وهو الذي غَفَرَ اللهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ولكنَّه مع هذا هو أخشَى النَّاسِ وأتقاهم، وأخوفُهُمْ من الله تعالى لكمالِ معرفته بربِّه. 4 - إنَّ الصَّلاةَ موطنُ تضرُّعٍ، وخشوعٍ، ودعاءٍ؛ لأنَّها الصلةُ بين العبد وربه، وكلما قَرُبَ العبد من ربِّه، ازدادتْ رغبته ورهبته. ***

178 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَدْخَلَانِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي، تَنَحْنَحَ لِي" روَاهُ النَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَهْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مختلفٌ فيه، فمنهم مَنْ حسَّنه، ومنهم من ضعَّفه، وقد صحَّحه ابن السكن، وابن حبان، وقال البيهقي (2/ 247): مختلفٌ في إسناده ومتنه، فقيل: سبَّح، وقيل: تنحنَحَ، ومداره على عبد الله بن نجي، واختلف عليه، فقيل: عنه، عن علي، وقيل: عنه، عن أبيه، عن علي، قال ابن معين: لم يسمعه من علي، وبينه وبين علي أبوه، وقد ضعَّفه النووي في المجموع، وقال: لِضعْفِ سندِهِ واضطرابِ راويه ومتنه. * مفردات الحديث: - مدخلان: بفتح الميم، فسكون الدال، فخاء معجمة: تثنية مدخل، والمراد: زمان دخول. - تَنَحْنَحَ: بفتح التاء المثناة الفوقية، فنون مفتوحة، فحاء، فنون، وآخره حاء، أي: ردَّد في جوفه صوتًا، كالسُّعَال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - صلة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قويَّةٌ، فهو ابن عمه، وزوجُ ابنته، وَمِنْ أخصِّ أصحابه وأقربهم إليه؛ لذا فله وقتان، يأتي فيهما النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسكنه. ¬

_ (¬1) النسائي (1212)، ابن ماجه (3715).

2 - أنَّ النَّحنحة في الصلاة لا تُبْطِلُهَا، ولو بأن منها حرفانم لأنَّها ليست من جنس الكلام. 3 - أنَّه لا يجوزُ الدخولُ إلى بيت أحد إلأَ بإذنه، ولو كان أقربَ النَّاس إليه؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)} [النور: 27]. 4 - الإذنُ بالدخول يكون لفظيًّا وعرفيًّا، فهو راجعٌ إلى العادة بينهما، وإلى ما تعارَفَا عليه، ويكفي فيها رغبةُ صاحب المنزل في الدخول. 5 - استحبابُ التواصُلِ بين الأقارب والأصحاب، وذلك بالزيارات والاجتماع، وأن يكون للكبير وصاحب القَدْرِ الحَقُّ بأن يُؤتى إليه في منزله. 6 - أن تكونَ الزيارةُ في أوقاتٍ معلومة، مناسبة لدخول المنازل والأنس والجلوس، فأمَّا أن تكون مفاجأة، أو في أوقاتٍ لا يرغب الدخول فيها والجلوس، فهي التي نهى الله عنها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، وكما تقدم في آية سورة النور. 7 - استحبابُ صلاة النافلة في البيت؛ فإنَّ الصلاة فيها نورة ولذا جاء في البخاري (731) ومسلم (781) قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّها النَّاس صَلُّوا في بيوتكم؛ فإنَّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة". * * *

179 - وَعَنِ ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قُلْتُ لِبلَالٍ: كيْفَ رَأيْتَ النَّبَيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَرُدَّ علَيهِمْ حِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ هَكذَا، وَبَسَطَ كَفَّهُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صححه الترمذي، وأخرجه أحمد (23369)، وابن ماجه (1017)، وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. قال الساعاتي في بلوغ الأماني: الحديث رجالُهُ رجالُ التصحيح. * مفردات الحديث: - كيف: اسمٌ جامدٌ يأتي على وجهين، فيكون شرطًا، ويكون استفهامًا، وهنا للاستفهام. - يقول هكذا: الأصل في القولِ هو النطقُ باللسان، إلاَّ أنَّه يعبَّر به عن الفعل. قال في محيط المحيط: ويستعمل القولُ لغير ذي اللفظ تجوُّزًا. - بسط كفَّه: نَشَرَهَا، ضِدّ قبضها. - كفه: الكف، هي راحةُ اليد مع الأصابع، مؤنَّث، جمعها كفوف وأكف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قصةُ الحديث: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إلى قباء ليصلِّي فيه، فجاء سُكَّانُ قباء من الأنصار يسلِّمون عليه، فأدركوه في الصلاة، فكانوا يسلِّمون، وكان يرد عليهم باسطًا كفه، يشير بها إلى ردِّ السلام. ¬

_ (¬1) أبو داود (927)، الترمذي (368).

2 - يدل الحديثُ على أنَّ الإشارة في الصّلاة لا تُبْطِلُهَا، ولو كانت إشارةً مفهومة تكفي عن الكلام، سواءٌ أكانتْ بالرأس، أو باليد، أو بالعين، أو غيرها. 3 - أنَّ الحركة إذا كانَتْ قليلةً لحاجة لا تُبْطِلُ الصلاة، فهذا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يبسط يده لكل مُسَلِّم عليه. 4 - جوازُ السلام على المصلِّي، فإنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا سلَّم من الصلاة، أقرَّهم، ولم ينههم عن ذلك. 5 - قال في الإقناع وشرحه: المذهبُ لا يكره السّلام على المصلِّين؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- حين سلَّم عليه أصحابه، لم ينكر ذلك. قال في الحاشية: وهو مذهبُ مالك والشّافعيّ. قال النووي: وهو الّذي تقتضيه الأحاديثُ الصحيحة. 6 - قال في حاشية الروض: مذهبُ جمهور العلماء، ومنهم مالك والشافعي وأحمد: يستحبُّ رَدُّ السلام من المصلِّي بالإشارة؛ لحديث ابن عمر: "أنَّ النبَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يشير في صلاته" [رواه الترمذي (367) وصححه]. 7 - حُسْنُ خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه يأتي أبوابَ الخيرات بِحَسَبِ حاله فيها، وهو بهذه الأعمالِ يأتي فعلَ الخير، ويشرعه لأمته، عليه الصلاة والسلام. 8 - وجوبُ رد السلام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، والإشارة من المصلِّي هي أحسنُ ما يَقْدِرُ عليه في رد السلام. 9 - استحبابُ زيارة مسجد قباء، والصلاةِ فيه لِمَنْ في المدينة، فهو المسجد الذي قال تعالى فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]. 10 - حِرْصُ ابن عمر -رضي الله عنهما- على سُنَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وتتَبُّعِ آثاره، فما فاته من سنته يسألُ عنه من حضره؛ كبلالٍ، وأختِهِ، حفصة، وغيرهما؛ ولذا فإنَّه -رضي الله عنه- جمع بين الرواية والدراية؛ فهو قدوة حسنة لشباب المسلمين في تلمُّسِ العلمَ النافع.

180 - وَعَنْ أَبي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَهُوَ حامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا" مُتَّفَقٌ علَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُمامة: بضم الهمزة وفتح الميم، هي: بنت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووالد أمامة هو أبو العاص بن الربيع، وزينت توفيت سنة (8 من الهجرة)، وابنتها أمامة تزوجت بعلي بن أبي طالب، وقتل عنها، ثمّ تزوجت بعده المغيرة ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز مثل هذه الحركة في الصلاة فرضًا أو نفلًا، من الإمام والمأموم والمنفرد، ولو بلا ضرورة إليها، وهو قول محققي العلماء، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في تلك الصلاة إمامًا في فريضة، وهي أولى بالمحافظة عليها من الصلاة في حال الانفراد، أو التنفل. 2 - جواز ملامسة وحمل من تُخشى نجاسته، تغليبًا للأصل، وهو الطهارة على غلبة الظن، فاليقين لا يزول بالشك، فاليقين هو أصل طهارة الأشياء، والشك هو مظنة نجاسة ثياب الأطفال وأبدانهم، وأمامة وقت حمله لها بنت ثلاث سنين. 3 - تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحسن خلقه، ورحمته بالكبير والصغير، فصلوات الله ¬

_ (¬1) البخاري (516)، مسلم (543).

وسلامه عليه، فهو -صلى الله عليه وسلم- قدوة في حسن الخلق، وفي الرأفة، والرحمة، والحنان، ولا سيَّما على الصغار والضعفاء، كما أنَّ في الحديث بيان سماحة ويسر الشريعة. 4 - جواز دخول الأطفال المساجد إذا لم يحصل منهم أذية للمصلين، وإشغال لهم عن صلاتهم، وحُفِظوا من توسيخ المسجد وتنجيسه. 5 - ترك مستحبات الصلاة عند الحاجة إلى تركها، فالحامل لهذه الطفلة لن يتمكن من وضع اليدين مقبوضتين على الصدر، ولا يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين في الركوع، وغير ذلك من فضائل الصلاة. 6 - يُحمل وجود "أُمَامَةَ" في قبلة المصلين، إما لأنَّ سترة الإمام سترة للمصلين خلفه، وإما أنَّ النَّهي هو عن المرور، لا عن الجلوس والاعتراض، كما كانت عائشة تعترض في قِبلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أراد السجود غمزها بيده، فكفت رجليها، وإما لأن المحمولة صغيرة دون البلوغ، كما سيأتي في الباب بعده. * خلاف العلماء: ذهب الإمام مالك وبعض العلماء إلى: أنَّ الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وجعلوا من الحركة الكثيرة حمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامة في صلاته، وتأولوا هذا الحديث إلى ثلاثة أوجه: 1 - روى ابن القاسم عن الإمام مالك: أنَّ هذا في النافلة، والنافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في الفريضة. 2 - وروى أشهب عنه: أنَّ هذا للضرورة، وفسروها بانه لم يجد أحدًا يكفيه أمرها. 3 - وروي عن مالك: أنَّ الحديث منسوخ، ونسخ بتحريم العمل والانشغال في الصلاة بغيرها.

والجواب: أما الأول: فإنَّه مردود بالروايات الصحيحة، ومنها: "بينما نحن ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، إذ خرج علينا وأمامة بنت أبي العاص على عنقه"، وبما أخرجه مسلم عن أبي قتادة قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤم الناس، وأمامة على عنقه". واْما الثاني: وهي حالة الضرورة، فهي بعيدة جدًّا، فإنَّ الكافي له -صلى الله عليه وسلم- عن حملها كثيرون، فالمنزل الذي خرج منه فيه أهله، وغيرهم من خدمه. أما الثالث: وهي دعوى النسخ، فهي مردودة؛ بانَّ احتمال النسخ لا يعتمد عليه في إسقاط حكم ثابت، ثم إنَّ حديث: "إنَّ في الصلاة لشغلًا" قاله لابن مسعود حينما قدم من الحبشة قبل بدر، وزينب وابنتها لم يقدما المدينة إلاَّ بعد بدر بأيام. قال النووي بعد أن ساق تأويلات رد الحديث: فكل ذلك دعاوى باطلة مردودة، لا دليل عليها. والصحيح: جواز مثل هذه الحركة للحاجة، وقد جاء في السنة الثابتة مثلها؛ كفتحه عليه السلام الباب لعائشة، وصعوده درجتي المنبر ليراه الناس، وكذلك إشارته بيده برد السلام وغير ذلك. * فائدة: قسَّم بعض العلماء -ومنهم الحنابلة- الحركة في الصلاة إلى أربعة أقسام حسب الاستقراء والتتبع من نصوص الشريعة: الأول: يبطل الصلاة، وهو العمل الكثير المتوالي لغير ضرورة، ولغير مصلحة الصلاة. الثاني: يكره في الصلاة ولا يبطلها، وهو اليسير لغير حاجة، مما ليس

لمصلحة الصلاة؛ كالعبث بالثياب والشعورة لأنَّه منافٍ للخشوع المطلوب، ولا تدعو إليه حاجة. الثالث: الحركة المباحة، وهي اليسيرة المتفرقة غير المتوالية للحاجة؛ كحديث الباب. الرابع: الحركة المشروعة، وهي التي تتعلق بها مصلحة الصلاة، أو تكون حركة لفعل محمود مأمور به؛ كتقدم المصلين وتأخرهم في صلاة الخوف، أو للضرورة؛ كإنقاذ غريق من هلكة. ***

181 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقْتُلُوا الأسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ: الحَيَّةَ والعَقْرَبَ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَةُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، وله شواهد كثيرة، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - الأسودين: تثنية أسود، يطلق على الحيَّة والعقرب، على أي لون كانا، ولو لم يكونا أسودين. - الحيَّة: -بفتح الحاء المهملة وفتح الياء المشددة-: هي الأفعى تكون للذكر والأنثى، وأنما دخلت الهاء؛ لأنَّه واحد من جنس، جمعها: حيَّات. - العقرب: دويبة من فصيلة العنكبيات، ذات سم تلسع، تطلق على الذكر والأنثى، جمعه: عقارب. - الحيَّة والعقرب: بدل من الأسودين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قتل الحيَّة والعقرب، ولو في الصلاة، ولو لم يكونا أسودين؛ فإنَّ هذه صفة غالبة. 2 - أنَّ هذه حركة قليلة محمودة، فلا تبطل الصلاة ولا تنقصها، ولو لم تكن من ¬

_ (¬1) أبو داود (921)، الترمذي (390)، النسائي (1202)، ابن ماجه (1245)، ابن حبان (2352).

مصلحة الصلاة. 3 - مشروعية قتل كل مؤذٍ من الهوام وغيرها، في الصلاة أو خارجها؛ فإنَّه إذا استحب قتل هذه الفواسق في الصلاة، فقتلها خارجها يكون أولى. 4 - اغتفرت الحركة في الصلاة، لقتل هذه الهوام المؤذية، من أجل مبادرة الفرصة قبل فواتهاة كإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، ودفع المعتدي؛ لأنَّ مثل هذا يفوت بفوات وقته، فسومح فيه حتى في أثناء أداء العبادة. 5 - مشروعية قتل هذين الأسودين ليس لذاتهما، وإنما هو لطبعهما العدائي المؤذي، فيستحب قتل كل مؤذ، فمن آذى طبعًا قتل شرعًا. ***

باب سترة المصلي

بَابُ سُتْرَةِ المُصَلِّي مقدمة السُّتْرَة: -بضمٍّ فسكونٍ -: ما يُستر به كائنًا ما كان، وسترة المصلي هي: ما يجعله المصلي أمامه؛ لمنع المرور بين يديه. فالمصلي واقف بين يدي ربه يناجيه ويناديه، فإذا مرَّ بين يديه في هذه الحالة مارٌّ، قطع هذه المناجاة، وشوَّش هذا الاتصال؛ لذا عظُم ذنب فاعله، وتعرض لعذاب، لو يعلمه لتمنى أن يقف أربعين سنة، ولا يمر بين يدي المصلي وبين سترته، وهذا وعيد شديد. ولذا أبيح للمصلي قتال هذا المعتدي، ودفع هذا المفسد، وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيطانًا. ووضع السترة سنة، وليست واجبة بإجماع الفقهاء؛ لأنَّ الأمر باتخاذها للندب؛ إذ لا يلزم من عدمها بطلان الصلاة، ولأنَّ السلف الصالح لم يلتزموا وضعها، ولو كان واجبًا لالتزموه. وقد جاء في صحيح البخاري (493): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في منى إلى غير جدار". وللسترة فوائد هامة، منها: 1 - أنَّ اتخاذها هو سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية والتقريرية، وإحياء السنة واتباعها هو الصراط المستقيم.

2 - أنَّها تقي الصلاة -القطع-؛ إن كان المارُّ مما يقطعها، عند من يقول بذلك، وتقيها النقص إن كان ينقصها. 3 - إنَّها تحجب النظر عن الشخوص والروغان، لأنَّ صاحب السترة يضع نظره دون سترته غالبًا، فينحصر تفكيره في معاني الصلاة. 4 - يعطي المصلي المجال للمارين، فلا يحوجهم إلى المرور أمامه، أو الوقوف حتى ينتهي من صلاته. 5 - أنَّ السترة تكون وقاية للمار من إثم المرور، الذي يناله بسبب تنقيصه صلاة المصلي. ***

182 - عَنْ أَبِي جُهَيم بنِ الحارِثِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قال رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يَعْلمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا علَيْهِ مِنَ الإثْمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ، خيرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ". مُتَّفقٌ علَيْهِ، واللَّفْظُ لِلبُخَارِيِّ، ووقَعَ فِي البَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخر: "ارْبَعِينَ خَرِيفًا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لو: حرف شرط لما مضى، وتفيد امتناع شيء لامتناع غيره، ويسمى حرف امتناع لامتناع، ولها شرط وجواب، إلاَّ أنَّها لا تجزم. - يعلم: فعل مضارع، وهو شرط "لو". - لكان: جواب "لو". - أن: مصدرية، والتقدير: لو يعلم المارُّ ماذا عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي، لكان وقوفه أربعين، خيرًا من أن يمر. - ماذا عليه: كلمة "ما" استفهامية، ومحلها الرفع على الابتداء، و"ذا" اسمٌ موصولٌ، بمعنى "الذي"، ومحلها الجر بالإضافة، و"عليه" صلتها، ومتعلق الجار والمجرور خبر "ما". - خيرًا: خبرًا لـ"كان"، واسم "كان" هو قوله: "أن يقف" مؤول بمصدر، بمعنى: "وقوفه". - خريفًا: على أنَّه مجاز مرسل، قال في "المصباح": الخريف الفصل الذي تخترف فيه الثمار. وهو أحد فصول السنة، وبروجه الثلاثة هي: الميزان والعقرب والقوس، ¬

_ (¬1) البخاري (510)، مسلم (507)، البزار (9/ 239).

وهو بالأشهر الإفرنجية من (21 سبتمبر) إلى (21 ديسمبر)، سمي خريفًا لاجتناء الثمار فيه، والمراد هنا: السنة كلها، ولكن العرب تسمي الكل بالجزء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المصلي واقف بين يدي الله تعالى يناجيه، فقطع هذه المناجاة، وتشويش هذا الاتصال بالمرور بين المصلي، وبين قبلته -ذنب كبير على المار. 2 - تحريم المرور بين يدي المصلي، إذا لم يكن له سترة، أو المرور بينه وبينها، إذا كان له سترة. 3 - المشهور من مذهب أحمد: أنَّه يستحب للمصلي رد المار بين يديه، والرواية الأخرى أنَّ ذلك يجب؛ لظاهر الأخبار، وأما المار فالمشهور من المذهب: تحريم المرور، وحكى ابن حزم الإجماع على إثمه. 4 - وجوب الابتعاد عن المرور بين يدي المصلي؛ خشية من هذا الوعيد الشديد. 5 - الأوْلَى للمصلي أن يبتعد فلا يصلي في طرق النَّاس، وفي الأمكنة التي لابد لهم من المرور بها؛ لئلا يعرض صلاته للنقص أو القطع، ويعرض المارة للإثم، أو الحرج بالوقوف. 6 - فسرت "الأربعين" الروايةُ الأخرى بأنَّها: "أربعون سنة"، وليس المراد الحصر، فمفهوم العدد غير مراد عند كثير من الأصولبين، وإنما المراد المبالغة في النهي؛ كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. 7 - هذا الحكم في عموم البقاع، عدا مكة المكرمة، ففيها خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. 8 - ظاهر الخبر أنَّ الوعيد خاص بالمار، لا بالواقف والقاعد والمضطجع، وهذا قول الجمهور. قال ابن القيم: ولا تبطل بالوقوف قدامه ولا الجلوس، ذكره المجد،

واختاره الشيخ تقي الدين. أمّا الإمام مالك، فقال: لا يصلي إلى النائم، ولكن السنة ثابتة بجواز اعتراض النائم، ومنها قصة عائشة. 9 - إذا لم يكن للمصلي سترة، فما مقدار ما يجب البعد عنه عند المرور؟ قالت الحنفية والمالكية: يحرم من موضع قدمه إلى موضع سجوده، وعند الشافعية والحنابلة: ثلاثة أذرع من قدم المصلي. وقال الموفق: لا أعلم حد البعيد في ذلك ولا القريب، وقال: الصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي، ودفع المار بين يديه، فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه. 10 - سترة الإمام هي سترة لمن خلفه من المأمومين، بإجماع العلماء؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى إلى سترة، ولم يأمر أصحابه باتخاذ سترة أخرى لهم، لما في البخاري (76)، ومسلم (504) من حديث ابن عباس قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررتُ بين يدي بعض أهل الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر عليَّ أحد". 11 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا بأس أن يصلي بمكة، بل بالحرم كله إلى غير سترة؛ وذلك لما روى الإمام أحمد (26699)، وأبو داود (2016)؛ والنسائي (2959)، وابن ماجه (2958) عن المطلب بن أبي وداعة: "أنَّه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة". والحديث في إسناده مجهول، وضعَّفه الألباني. وقد جاء في الصحيحين: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى بمزدلفة إلى غير سترة"، ومحققو العلماء يرون جواز المرور، والحديث ليس معارضًا للأحاديث

الصحيحة في تحريم المرور، وإنّما هو مخصِّص لها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو صلَّى المصلي في المسجد الحرام، والناس يطوفون أمامه، لم يكره؛ سواء مرَّ من أمامه رجل أو امرأة. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ويمر بين يديه الطائفون، وبقية الحرم كذلك عند الأصحاب، وأصل ذلك أنَّه من خصائص الحرم؛ لأنَّها بلد شأنها الازدحام، وجمع الخلق. * فائدة: استحب العلماء الدنو من السترة، بألا يزيد ما بين المصلي وبينها إلاَّ قدر مكان السجود؛ لما روى أبو داود (695) عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلَّى أحدكم إلى سترة، فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته". وقد جاء في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد قال: "كان بين مصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين الجدار ممر الشاة". ***

183 - وَعنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالتْ: "سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ المُصَلِّي فَقَالَ: مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْل". أَخرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غزوة تبوك: تبوك إحدى مدن المقاطعة الشمالية للمملكة العربية السعودية، تبعد عن المدينة المنورة شمالًا بنحو (680) كيلو متر، وغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، ولم يلق فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عدوًّا. - مؤخرة الرَّحْل: -بضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المعجمة، ويقال: بفتح الخاء مع شدها وفتح الهمزة-: هي العود الذي يكون في آخر الرحل، يستند إليه الراكب، وهي نحو ثلثي الذراع. - الرحل: -بفتح الراء وسكون الحاء المهملة-: هو ما يوضع على ظهر البعير للركوب، ويسمى: الكُوْر، بضم الكاف وسكون الواو. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية السترة للمصلي؛ لما تقدم من فوائدها التي تعود على صيانة الصلاة وحفظها، وعلى الابتعاد عما ينقصها، وعلى درء الإثم عن المار، وعدم التسبب فيما يشق عليه ويحرجه. 2 - أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، في طولها وعرضها، إن أمكن. 3 - إن لم يجد المصلي هذا، فتكون بعصا ونحوه. 4 - فإن لم يوجد فبخطٍّ يكون أمامه؛ كما سيأتي في حديث أبي هريرة؛ فالقصد ¬

_ (¬1) مسلم (500).

أن يأتي المصلي بما يقدر عليه وما يستطيعه، فإنَّ الله تعالى لا يكلف نفسًا إِلَّا وسعها. 5 - أنَّ مشروعية السترة تكون في الحضر والسفر، وفي الفضاء والبناء. 6 - أنَّ مشروعية السترة متقررة لدى الصحابة -رضي الله عنهم- من قبل غزوة تبوك، في السنة التاسعة من الهجرة. ***

184 - وَعَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ بِسَهْمٍ". أَخْرَجهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ رواه الإمام أحمد في مسنده (14916)، قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. * مفردات الحديث: - ليستتر: ليجعل له سترة حال صلاته. - بسهم: -بفتح السين المهملة وسكون الهاء-: هو عود دقيق من الخشب يُجعل في طرفه نصل، يرمى به عن القوس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب السترة أمام المصلي؛ لحفظ صلاته من النقصان، أو البطلان، والاستحباب هو مذهب الجمهور. 2 - الأفضل في السترة أن تكون كمؤخرة الرَّحل -كما تقدم- فإن لم يجد ذلك ولا أقل منه، جعل ولو سهمًا، والسهم هو: عود دقيق من الخشب، يغرز في طرفه نصل يرمى به. 3 - الحرص على وضع السترة، ولو من أدق الأشياء وأقلها، لأجل إشعار النفس بأنَّ أمام العينين حدًّا عن مجاوزة النظر، فلا يتبعه القلب بأفكاره ووساوسه، وليجعل بينه وبين المارين حدًّا، يميز به موضع حرم صلاته من مكان ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 252).

مرورهم. 4 - ظاهر الحديث أنَّه لا يعدل إلى السهم، إلاَّ بعد ألا يجد سترة كافية؛ كمؤخرة الرحل، أو ما هو دونها. 5 - الأفضل الدنو من السترة، وأن تكون عند موضع سجوده؛ لتحد من تجاوُز نظره إلى ما وراء مكان السجود، ولئلا يحتجز مساحة أكبر من حاجته، فيضيق على المارين، ولئلا يعرض صلاته للنقص، أو القطع ممن يمر بينه وبينها. ***

185 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ: المَرْأةٌ، والحِمَارُ، وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ ... " الحديثَ، وفِيهِ: "الكَلْبُ الأسْوَدُ شَيْطَانٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ولَهُ عَنْ أِبي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، دُونَ "الكَلْبِ" (¬2)، وَلأبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ دُونَ آخرِهِ، وقَيَّدَ المَرْأَةَ بِالحَائِضِ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث في أصله صحيح، إلاَّ أنَّ قول المؤلف في رواية أبي هريرة: "إنَّه في مسلم دون الكلب"، وهمٌ منه -رحمه الله- فإنَّه موجود في مسلم بلفظ: "يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب"، أما تقييد المرأة بالحائض، فرجَّح جمهور المحدثين أنَّها موقوفة على ابن عباسٍ، ولم يصح رفعها. * مفردات الحديث: - يقطع الصلاة: يبطلها. - الحمار: حيوان داجن من الفصيلة الخيلية، يستخدم للحمل، والركوب، والأنثى حمارة، جمعه: حُمُرٌ وَحَمِيرٌ، وجمع الحمارة حمائر. - الكلب: كل سبع عقور، وغلب على النابح حتى صار حقيقة لغوية، لا تحتمل غيره، وجمع الكلب: كُلُب وكِلَاب، والأنثى: كَلْبَة، وجمعها: كَلْبَات. - المرأة: فاعل "يقطع"؛ أي: مرور المرأة ... إلخ. ¬

_ (¬1) مسلم (510). (¬2) مسلم (511). (¬3) أبو داود (703)، والنسائي (750).

والمرأة: بوزن "تمرة"، بفتح الميم وسكون الراء ثم همزة مفتوحة، تأنيث "المرء"، وهو الرجل، ويجوز نقل فتح الهمزة إلى الراء، ثم تحذف الهمزة إلى الراء، ثم تحذف الهمزة، فتصير "مَرَة" بوزن "سنة". قال في اللسان: للعرب في المرأة ثلاث لغات: يقال: هي امرأته، ومرأته، ومرته والمراد بالمرأة هنا: البالغة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المصلي إذا لم يجعل له سترة لصلاته، يكون أعلاها بقدر مؤخرة الرحل، وأدناها كسهم واحد، أو خط في الأرض أمامه -فإنَّه يفسد صلاته، ويبطلها مرور واحد من ثلاثة أشياء: المرأة، والحمار، والكلب الأسود البهيم. 2 - إِنْ وضع سترة في قِبلته فلا يضره مرور شيء من ورائها، ولو كان واحدًا من هذه الأشياء الثلاثة؛ لأنَّ السترة حددت مكان مصلاه، وجعلت لصلاته حِمًى، لا يضره من مرَّ وارءها. 3 - زيادة أبي داود والنسائي عن ابن عباس، بتقييد المرأة بالحائض -غير صحيحة، ولو كانت هذه الزيادة صحيحة، لقيدت هذه الزيادة حديث مسلم المطلق بعموم المرأة، ولكن الزيادة ضعيفة، فيبقى الحديث على إطلاقه. قال ابن العربي: إنَّه لا حجة لمن قيد الحكم بالحائض؛ لأنَّ الحديث ضعيف، وليست حيضة المرأة في يدها ولا رجلها. 4 - خصَّ الكلب الأسود من بين سائر الكلاب؛ لأنَّه شيطان، فإنَّ راوي الحديث أبا ذر -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: فما بال الأسود، من الأحمر، من الأصفر، من الأبيض؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان". 5 - مرور الشيطان يبطل الصلاة؛ لأنَّه علة القطع في الكلب الأسود. 6 - الشياطين أعطاهم الله القدرة على التشكل والتكيف على الصورة التي

يريدونها، فيمكن حمل هذا الحديث على ظاهره، وأنَّ الشيطان يأتي بصورة هذا اللون من الكلاب؛ ليفسد على المسلم صلاته. 7 - استحباب وضع السترة أمام المصلي؛ لتقي صلاته من النقص، أو من البطلان، فهي حصانة للصلاة، وسور لها من آفات نقصها وفسادها. 8 - أنَّ أعلى السترة وأفضلها هي أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد ذلك عرض ما استطاع عرضه، ولو بخط في الأرض، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 9 - الحكمة في قطع هذه الأشياء -والله أعلم- هي ما يأتي: المرأة: موضع فتنة وانشغال قلب، بما يتنافى مع مكانة الصلاة ومقامها؛ ولذا جاء في صحيح مسلم (1403) من حديث جابر بن عبد الله؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ المرأة إذا أقبطت، أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدُكم امرأةً، فأعجبته فليأتِ أهله؛ فإنَّ معها مثل الذي معها". 10 - قَرْنُ المرأة مع هذين الحيوانين النجسين ليس لخستها، وإنما هو لمعنى آخر، ترغب المرأة أن تكون متصفة به؛ لما فيها من الجاذبية، وميل القلوب إليها، ولكنه مُنَافٍ للعبادة. 11 - الحمار: لعل له صلة بالشياطين؛ وأنها ترغب قربه، وتأتي أمكنته، ولذا جاء في البخاري (2303) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم نهاق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنَّها رأت شيطانًا" وللحمار صوت منكر، قال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، فالمصلي معرَّض لنهيقه المنكر، الذي قد يواصله المرة بعد الأخرى، حتى يسبب اختلال الصلاة. 12 - الكلب: إما أن يكون هو الشيطان جاء بصورة كلب، والشيطان قمة الشر والفساد، وإما أن يكون هلذا الحيوان النجس القذر، الذي لا يكفي في إزالة نجاسته إلاَّ تكرير الماء واستعمال التراب، وصاحب اللون الأسود

منها هو أشدها وأعتاها، فهو من الشياطين المتمردة، ولذا جاء الحديث الصحيح بقتله. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ المرور بين يدي المصلي لا يبطل الصلاة، ولو كان المارُّ امرأةً أو حمارًا أو كلبًا أسود؛ لما روى أبو داود (719) من حديث أبي سعيدة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم". وحملوا الحديث على أنَّ المراد نقص الأجر لا الإبطال، و"لأنَّ زينب بنت أبي سلمة مرت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تقطع صلاته". [رواه أحمد (25984)، وابن ماجه (948) بإسناد حسن]. ولما روى أحمد وأبو داود عن الفضل بن العباس قال: "أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ونحن في بادية، فصلى في الصحراء ليس بين يديه سترة، وحمار لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى بذلك". ولأنَّ الشيطان عرض له -صلى الله عليه وسلم- في قبلته. قال النووي: جمهور العلماء من السلف والخلف، على أنَّه لا يبطل الصلاة مرور شيء، ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا بإعادة الصلاة من أجل ذلك، وتأولوا أنَّ المراد نقص الصلاة، بشغل القلب بهذه الأشياء. وهذه الرواية هي المشهورة من مذهب الحنابلة، عدا الكلب الأسود، جزم بها الخرقي، وصاحب "الوجيز"، قال في "المغني": هي المشهورة، وصححها في "تصحيح الفروع" وغيره، وجزم بها في "التنقيح" و"الإقناع" و"المنتهى" وغيرها. أما الكلب الأسود: فإنَّه له يقطع الصلاة، رواية واحدة عند الحنابلة. وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، إلى: أنَّ المرأة والحمار أيضًا يقطعانها ويفسدانها، وهو مذهب الظاهرية في الثلاثة: المرأة، والحمار،

والكلب الأسود. قال ابن حزم: ويقطع صلاة المصلي كونُ كلب بين يديه مارًّا أو غير مار، وكون الحمار بين يديه كذلك أيضًا، وكون المرأة بين يدي الرجل صغيرة أو كبيرة. وممن اختار قطع الصلاة بهذه الأشياء الثلاثة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وقال: قد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، ثبت ذلك من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل. والذي عارض هذا الحديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك لمعارض هذا شأنه. وقال الشيخ: مذهب أحمد وجماعة من أصحابه قطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب الأسود، قال: والصواب أنَّ مرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود، يقطع الصلاة. واختاره صاحب "المغني". وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: تبطل الصلاة بمرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود، إذا كان إمامًا أو منفردًا، في صلاة فرض أو نفل، هذا إذا كان المرور بين المصلي، وبين سترته إن كان له سترة، أو بين يديه بقدر ثلاثة أذرع من قدمه. وحجة القائلين. ببطلان الصلاة من مرور الثلاثة: حديث الباب، وهو حجة قوية لا يدفعها شيء. * فائدة: النساء لا يقطع مرور بعضهن صلاة بعض، وهو صريح حديث أبي ذر: "يقطع صلاة الرجل المسلم" فالقطع خاص بالرجال، وهو مما يقوي المعنى الذي ذكرناه عن سبب قطع المرأة صلاة الرجل. وقال في "الإنصاف": ظاهر كلام الأصحاب أنَّ الصغيرة التي لا يصدق عليها أنَّها امرأة، لا تبطل الصلاة بمرورها، وهو ظاهر الأخبار.

186 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شيْءً يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فأَرَادَ أحَدٌ أن يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فإن أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" مُتَّفَقٌ عليْهِ، وفِي رِوَايَةٍ: "فإنَّ معَهُ القَرِينَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - القرين: -بفتح القاف ثم راء مهملة مكسورة ثم ياء فنون-: هو المقارن المصاحب من شياطين الجن. - يجتاز: بالجيم؛ من: الجواز، وهو المرور. - شيطان: مشتقٌّ إمّا من: "شَطَن" إذا بعُد؛ لبعد الشيطان عن الحق، وعن رحمة الله، فتكون النون أصلية، وإما مشتق من: "شاط" إذا احترق، فوزنه: فعلان، وكل عاتٍ متمرد من الجن أو الإنس فهو شيطان، قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه: الحامل له على ذلك الشيطان، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنَّ معه قرين". -فإن أبى: "إنَّ" شرطية، وفعل الشرط "أبى". - فليقاتله: الفاء رابطة للجزاء، و"اللام" الساكنة الجازمة، و"يقاتله" مجزوم بلام الأمر، فإنَّ هذه الرواية جاءت على صيغة الأمر للحاضر، وهي جواب وجزاء "إنْ" الشرطية. - إنَّما هو شيطان: تعليل لمشروعية قتاله، والشيطان هو المارد، وإطلاقه على ¬

_ (¬1) البخاري (509)، مسلم (505، 506).

الإنس شائع سائغ، قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب وضع السترة بين يدي المصلي، فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، إمامًا أو منفردًا، أما المأموم فسترة الإمام سترة له؛ لِما روى البخاري (2797) ومسلم (1841) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما الإمام جُنَّة". قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنَّ المأموم لا يضره من مرَّ بين يديه. قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: إنَّ سترة الإمام تقوم مقام سترة المأموم في الأمور الثلاثة، التي تفيدها السترة، وهي: (أ) عدم البطلان بمرور الكلب الأسود ونحوه. (ب) وعدم استحباب رد المار بين يدي المصلي. (ج) وعدم الإثم على المار بينه وبين قبلته، وهو ظاهر الأخبار. 2 - إذا وضع المصلي أمامه سترة تحفظ صلاته، واحتاط لها، فإن اعتدى أحد بعد ذلك، فاراد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنَّما هو شيطان، فإن لم يضع بين يديه سترة، فليس له دفعه؛ لأنَّ التفريط منه بتركها. 3 - جواز مقاتلة من أراد المرور بين المصلي وسترته؛ لأنَّه صائل ومعتدٍ. 4 - المقاتلة هنا تحمل على منعه من المرور، فإن أبى الرجوع فله قتاله. قال القرطبي: يدفعه بالإشارة ولطيف المنع، فإن لم يمتنع دفعه دفعًا أشد من الأول، وأجمعوا على أنَّه لا يقاتله بالسلاح. 5 - قال الشيخ المباركفوري: الحكمة في مشروعية السترة: أنَّ العبد إذا قام يصلي فإنَّ الرحمة تواجهه؛ لما روى أحمد (20823) وأبو داود، (945) والترمذي (379) بإسناد جيد من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

"إذا قام أحدكم في الصلاة، فلا يمسح الحصى؛ فإنَّ الرحمة تواجهه". وفي البخاري (1129)، ومسلم (546): "إنَّ كنتَ فاعلًا، فواحدة". واتَّفق أهل العلم على كراهته، فإذا وضع المصلي أمامه السترة، فمرَّ أحدٌ من ورائها، فإنَّ الرحمة لا تزاحم، فلا يقع خلل ونقص لصلاته. 6 - حكى ابن حامد الإجماع على استحباب السترة؛ واستحباب الدنو منها، قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة، بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. 7 - قال في "شرح الزاد" وغيره: ويستحب انحرافه عن السترة قليلاً، ويجعلها على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد لها صمدًا؛ لِما روى أبو داود عن المقداد: "ما رأيته صلَّى إلى عود أو عُمُد أو شجرة، إلاَّ جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر". وسدًّا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى. 8 - هذا الحديث دليل على عظم إثم المار وجرمه، حتى إنَّ بعض العلماء ومنهم ابن القيم عد ذلك من الكبائر. 9 - كما أنَّه دليل على استحباب صيانة الصلاة مما ينقصها، ويذهب بكمالها. 10 - المارّ هذا هو من شياطين الإنس، الذين يفسدون على الناس صلاتهم وعباداتهم، أو أنَّ الشيطان الذي هو صاحبه وقرينه، يقويه ويحضه على أذية الناس، وفساد عباداتهم. 11 - أنَّ مدافعة المار تكون بالأسهل، فيكون بالمنع، فإن لم يُفِدْ فليدفعه، فإن لم يُفِدْ فبالمقاتلة اليدوية، ولا ينتقل إلى العنف إلاَّ بعد نفاد وسائل اللين، وهذا عام في جميع مدافعة الصائل، ما لم يخش المباغتة، فيستعمل أحسن وسائل الوقاية. 12 - قال النووي: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، بل صرَّحوا بأنَّه مندوب.

187 - وَعَنْ أبِي هُريْرَة -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَ صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شيْئًا، فإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإَنْ لَم يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَديْهِ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، ولَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، بَلْ هُوَ حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الحافظ: الحديث حسن، وصححه ابن حبان، وصححه الإمام أحمد وابن المديني، كما صححه الدارقطني، وقال البيهقي: لا بأس بالعمل به إن شاء الله تعالى. قال ابن عبد البر: أشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم، وردَّ ذلك الحافظ ابن حجر، وقال: إنَّه حسن. * مفردات الحديث: - فَلْيَنْصِب: بكسر الصاد؛ أي: يرفع ويقيم. - عصا: مقصورة، مؤنثة، والتثنية: عصوان، مما يدل على أنَّ أصله الواو. - تلقاء: بكسر التاء وسكون اللام آخره مد. قال في "محيط المحيط": اسم من: اللقاء، ويُتَوسع فيه فيُستعمل ظرفًا لمكان اللقاء والمقابلة، فينصب على الظرفية. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 249)، ابن ماجه (943)، ابن حبان (2361).

قلتُ: كما في هذا الحديث. - فليخطّ: يقال: خطَّ يخطُّ خَطًّا؛ أي: رسم علامةً، وجمع الخط: خطوط. قال في "المصباح": خطَّ على الأرض: أَعْلَمَ عَلامةً، وهو المراد هنا من الخط أمام المصلي؛ ليكون سترة له. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب السترة بين يدي المصلي وتأكدها؛ لكثرة الأمر فيها. 2 - أنَّ السترة تكون بأي شيء بارز، يكون تلقاء وجه المصلي، يمنع المارين من المرور في قِبْلته، ومكان سجوده. 3 - فإن لم يجد شيئًا بارزًا، يكون بقدر مؤخرة رحل الراكب، فوق قتب البعير، إن لم يجد هذا، انتقل إلى ما دونه. 4 - إن لم يجد شيئًا، فلينصب عصا؛ فقد جاء في البخاري (473) ومسلم (503) من حديث أبي جحيفة: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى بهم بالبطحاء، وبين يديه عنزة". والعنزة عصا في طرفها حديدة دقيقة، ويجوز وضع العصا في الأرض، والأفضل أن يكون عرضًا، حتى يحيط بمكان المصلي، ويستر جميع جهته القبلية. 5 - إن لم يجد العصا خطَّ خطًّا، ويكون عرضًا، والأفضل أن يكون مقوسًا؛ كالمحراب. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول عن الخط: مثل الهلال. 6 - أنَّ المصلي إذا وضع السترة من أي نوع من هذه الأنواع، فإنَّه لا يضر صلاته شيء، ولا ينقصها، ولا يبطلها من مرَّ بين يديه من ورائها. 7 - أما المفهوم: فإنَّه إذا لم يضع سترة، فإنَّ صلاته تنقص، أو تبطل بمرور المار بالقرب منه. 8 - صريح الحديث: أنَّه لا يضع السترة الدنيا حتى لا يجد التي أعلى منها، وأنَّها

مبنية على الحديث الشريف: "إذا أمرتكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم". [رواه البخاري (7288)]. 9 - الصلاة عبادة جليلة، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا وقف المصلي فإنه يناجي الله تعالى، والمرور أمامه يخل بهلذه المناجاة، ويقطع هذا الاتصال الإلهي بانشغال القلب، فاحتيط للصلاة بهذه الوقاية. * فائدة: هذا إذا كان المصلي إمامًا أو منفردًا، أما المأموم فسترة الإمام سترة له؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي إلى سترة دون أصحابه، واتَّفق المصلون خلفه على أنَّهم مصلون إلى سترة، فلا يضرهم مرور شيء بين أيديهم؛ ففي البخاري (493) ومسلم (504) عن ابن عباس قال: "أقبلت على حمار أتان، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس، فمررت بين يدي بعض الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد". قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنَّ المأموم لا يضره من مر بين يديه. * * *

188 - وَعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ، وَادْرَؤوا مَا اسْتَطَعْتُمْ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي سنَدِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وبعضهم ضعَّفه؛ لأنَّ فيه مجالد بن سعيد، وهو سيء الحفظ، وقد اضطرب فيه، فمرَّة رفعه، ومرَّة أوقفه، والموقوف أشبه بالصواب، ثم إنَّ شطره الأول مع ضعْفه يعارض الحديث الصحيح، في أنَّ المرأة وما ذكر معها تقطع الصلاة، وأما الشطر الثاني منه فصحيح المعنى، يشهد له حديث أبي سعيد في الصحيحين: "إذا صلَّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنَّما هو شيطان". وهذا لفظ البخاري. والحديث له طرق وشواهد موقوفة أيضًا عن عثمان وعلي وابن عمر وعائشة وجابر، ومن الشواهد ما هو إسناده صحيح، ومنها ما هو حسن، كما بيَّنه ابن حجر في "الدراية"، وتقدم قبل عدة صفحات بحث المسألة، وذكر فيها أدلة من قال بأنه لا يقطع الصلاة شيء، وذكر هناك شواهد لهذا الحديث، مما تقويه وتجعله محتجًّا به، ولهذا قال ابن الهمام في "فتح القدير": له طرق لا ينزل بها عن رتبة الحسن، بل حديث عائشة في الصحيحين في صلاته -صلى الله عليه وسلم- وهي معترضة، يعارض حديثهم في إبطال الصلاة. ¬

_ (¬1) أبو داود (719).

* مفردات الحديث: - لا يقطعُ الصلاةَ شيء: هذا عامٌّ مخصوصٌ بالأمور الثلاثة التي مرَّت في حديث أبي ذر، والتخصيص اصطلاحًا: هو إخراج بعض أفراد العام. - ادرؤوا ما استطعتم: يقال: درأه يدرؤه، إذا دفعه، والمعنى: ادفعوا المار أمام قبلتكم قدر استطاعتكم، وليكن الدفعُ بأسهل ما يغلب على الظن دفعه به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر هذا الحديث أنَّ الصلاة لا يقطعها أيُّ مار أمام المصلي، ولو لم يكن للمصلي سترة. 2 - أمر الشارع بدرء المار أمام المصلي بقدر استطاعته. 3 - الحديث معارِض لحديث أبي ذر، الذي فيه أنَّ الصلاة يقطعها: المرأة والحمار والكلب الأسود، فأوَّل جمهور العلماء حديث أبى ذر على نقص الصلاة، بشغل القلب بمرور الثلاثة المذكورة أمام المصلي. وأما هذا الحديث: فظاهره عدم بطلان الصلاة، وإن نقص ثوابها بالمرور. 4 - أما على القول الصحيح الذي تقدم من أنَّ الثلاثة تبطل الصلاة، فيكون حديث أبي ذر مخصِّصًا لهذا الحديث، فإن لم يكن التخصيص، عدلنا إلى ترجيح حديث أبي ذر في مسلم على هذا الحديث الضعيف، الذي لا تقوم به حجة لو سلم من المعارِض، فكيف وقد عارضه حديث في صحيح مسلم؟! والله أعلم. * فائدة: السترة: مشروعة للمصلي، وكره العلماء استقبال: نارٍ، وسراجٍ، وصورةٍ، ونجاسةٍ، وبابٍ مفتوحٍ، ونائمٍ، وكافرٍ، وغير ذلك. * * *

باب الحث على الخشوع في الصلاة

باب الحث على الخشوع في الصلاة مقدمة الخشوع: قال جماعة من السلف: الخشوع في الصلاة: السكون فيها. وقال البغوي: الخشوع في البدن والبصر والصوت. وقال أبو الشيماء: هو التذلل والتواضع لله بالقلب والجوارح. وقال ابن القيم: جماع الخشوع: هو التذلل للآمر، والاستسلام للحكم، والانصياع للحق، فيتلقى الأمر بقبول وانقياد، ويستسلم للحكم بلا معارضة ولا رأي، ويتضع قلبه وينكسر، لنظر الرب إلى قلبه وجوارحه. وعلى ضوء هذه التعريفات، نشأ خلاف أهل العلم، هل الخشوع من أعمال القلب، أو من أعمال الجوارح كالسكون، أو هو من مجموع الأمرين؟ قال الرازي: القول الثالث: أنَّه عام للقلب والجوارح، ودليله ما صحَّ من كلام سعيد ابن المسيب: "لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه"، فهو يدل على صحة المعنى اللغوي الشرعي، من أنَّ الخشوع يكون للقلب والجوارح، فأفضله إذن أن يتواطأ القلب والجوارح عليه، فالقلب بحضوره وانكساره بين يدي الله تعالى، والجوارح بسكونها وسكوتها ذليلة بين يدي الله تعالى، وكل هذا راجعٌ إلى مراقبة الله تعالى. قال ابن القيم: اعلم أنَّ نمو الخشوع إنما يكون بترقب من آفات النفس والعمل، فإنَّ انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبها لك، تجعل القلب خاشعًا لا محالة، لمطالعة عيوب النفس وأعماله ونقائصها من الكِبر والعُجب

والرياء، وضعف الصدق، وقلة اليقين، وتشتت العزيمة، وعدم تجرد الباعث من الهوى النفساني، وعدم إيقاع العمل على الوجه الذي ترضاه لربك، وغير ذلك من عيوب النفس، ومفسدات الأعمال. ويكمل الخشوع بتصفية القلب من مراءاة الخلق، وتجريد رؤية الفضل، فيخفي أحواله عن الخلق جهده، والمعصوم من عصمه الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة، والفاقة، والذل، وقد شاهدت من شيخ الإسلام في ذلك ما لم أشاهده من غيره، قدس الله روحه. قال محرره: أما الخشوع في الصلاة فهو روحها، ويكثر ثوابها أو يقل، حسبما عقله المصلي منها، وقد أثنى الله تعالى على الخاشعين، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون]. وقال الشيخ الحداد: ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها، حُسن الخشوع فيها، وحضور القلب، وتدبر القراءة، وفهم معانيها، واستشعار الخضوع والتواضع لله عند الركوع والسجود، وامتلاء القلب بتعظيم الله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وفي سائر أجزاء الصلاة، ومجانبة الأفكار والخواطر الدنيوية والإعراض عن حديث النفس في ذلك، بل يكون الهَمُّ مقصورًا على إقامتها، وتأديتها كما أمر الله، فإنَّ الصلاة مع الغفلة، وعدم الخشوع والخضوع -لا حاصل لها، ولا نفع فيها- ولذا جاء في الحديث التصحيح: "ليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل منها، وأنَّ المصلي قد يصلي الصلاة، فلا يكتب له منها إلاَّ سدسها وإلاَّ عشرها". [رواه أحمد (18415)، وأبو داود (796)]، أعني: أنَّه يكتب له منها القدر الذي كان فيه حاضرًا مع الله خاشعًا، وقد يقل ذلك، وقد يكثر بحسب الغفلة والانتباه. فالحاضر الخاشع في جميعها له الصلاة كلها، والغافل اللاهي في جميع صلاته لايكتب له شيء منها. اهـ كلامه.

ولإحضار القلب في الصلاة أسباب منها: 1 - الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم. 2 - تدبر القراءة في الصلاة، وأنواع الذكر فيها. 3 - استحضار عظمة الله تعالى، وأنَّ المصلي يناجيه متوجهًا إليه. 4 - معرفة ضعف الإنسان وفقره في حال ركوعه وسجوده لجلال الله تعالى وعظمته. 5 - حصر نظره في موضع سجوده؛ فإنَّ النظر إذا تفرق، تبعه القلب. 6 - ألا يدخل الصلاة وهو في انشغال بال، من أجل شهوة أكل أو شرب، أو من أجل مدافعة أحد الأخبثين. ذهب جمهور العلماء إلى صحة الصلاة وإجزائها، ولو غلبت عليها الوساوس، وذلك مع نقص ثوابها وأجرها. * * *

189 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1)، وَمَعْنَاهُ: أَن يَجْعلَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتهِ. وفِي البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ ذلِكَ فِعْلُ اليَهُودِ فِي صَلَاتِهِمْ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مختصرًا: اسم فاعل من: الاختصار؛ يعني: واضعًا يده على خاصرته، اْو يديه على خاصرتيه، والخاصرة من الإنسان هي ما بين الوَرِك، وأسفل الأضلاع، وهما خاصرتان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي أن يصلي المصلِّي واضعًا يده على خاصرته، وهي ما بين رأس الوَرِك، وأسفل الأضلاع. 2 - الحكمة في النّهي هو الابتعاد عن مُشابهة اليهود؛ فإنَّهم يضعون أيديهم على خواصرهم في الصلاة. 3 - وقيل: الحكمة أنَّه فعل المتكبرين، ولا منافاة، فإنَّ من طبيعة اليهود الكبر، واحتقار الناس، ولا يرون شعبًا، ولا جنسًا أفضل منهم، فهم يقولون: إنَّهم شعب الله المختار. 4 - المطلوب في الصلاة الخشوع والخضوع؛ لأنَّ المصلي واقف بين يدي الله تعالى، متذلِّلًا بعيدًا عن صفات المتكبرين وسيماهم. ¬

_ (¬1) البخاري (1219)، مسلم (545). (¬2) البخاري (3458).

5 - الواجبُ البعد عن مشابهة أهل الضلال؛ سواء أكان هذا التشبه مما يُخرج من الملة، أو كان يفضي إلى المعصية؛ فإنَّ من تشبه بقوم، فهو منهم. 6 - جمهور العلماء حملوا النهي على التنزيه، ومن هؤلاء الحنابلة، قالوا: لأنَّه لا يعود على الصلاة ببطلان. وهذا محمل وجيه، ما لم يقصد المختصر التشبه باليهود أو المتكبرين؛ فيكون حرامًا. * * *

190 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ، فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا المغْرِبَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا كان وقت صلاة المغرب وقد قُدِّم طعام العشاء، والنفوس متشوقة إليه، فإنَّ الأفضل هو تقديم الطعام قبل أداء الصلاة. قال بعض المالكية: ينبغي أن يعمم هذا الحكم، ولا يخص صلاة دون صلاة، وأن ذلك قد ورد في صلاة المغرب، فليس فيه ما يقتضي الحصر فيها. 2 - الحكمة في هذا: هو أنَّ المطلوب في الصلاة هو حضور القلب، والحاجة إِلى الطعام تشغل القلب، وتحول دون الخشوع في الصلاة، ففضِّلَ تقديم الأكل على دخول الصلاة، لتؤدَّى الصلاة براحة البال، وحضور القلب. 3 - يؤخذ منه إبعاد كل ما يشغل النفس عن الصلاة، ويلهي القلب عن استحضار معاني الصلاة، من القراءة والأذكار، والتنقل فيها من ركن إلى ركن آخر. 4 - جمهور العلماء حملوا تقديم الطعام على الصلاة؛ على الندب، وهو الراجح، أما الظاهرية: فحملوه على الوجوب، فلم يصححوا الصلاة في هذه الحال عملًا بالظاهر. 5 - إذا ضاق وقت الصلاة المكتوبة؛ بحيث لو قُدِّم الطعام لخرج وقتها -فجمهور العلماء على تقديم الصلاة؛ محافظة على الوقت. أما الذين أوجبوا الخشوع في الصلاة: فإنَّهم أوجبوا تقديم الطعام على الصلاة. ¬

_ (¬1) البخاري (672)، مسلم (557).

6 - هذا الخلاف فيما إذا كانت النفس محتاجة للطعام، ومتعلقة به، أما مع عدم الحاجة إليه، وإنما حان وقت وجبة عادية، فالصلاة والجماعة لها مقدمة على ذلك، على أنَّه لا ينبغي أن يجعل وقت طعامه، أو وقت منامه موعدًا لوقت الصلاة، ويفوِّت الصلاة أول وقتها؛ لأجل مواعيده الرتيبة في أكله ومنامه. 7 - قال في "الروض" و"حاشيته": ويكره دخوله في الصلاة إذا كان بحضرة طعام يشتهيه، وظاهر عباراتهم إنَّ لم تتُق نفسه إليه، فإنَّه يبدأ بالصلاة من غير كراهة. * * *

191 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَمْسَحِ الحَصَى؛ فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ. وزَادَ أَحْمَدُ: "وَاحِدَةً، أَوْ دَعْ" (¬1) وفي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَيْقِبٍ نَحْوُهُ بِغَيْرِ تَعْلِيلٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال المؤلف: إسناده صحيح، فقد رواه الخمسة بإسناد صحيح. وأما زيادة: "فإنَّ الرّحمة تواجهه"، ففي سندها: أبو الأحوص. قال الألباني: لم يوثقه سوى ابن حبان، فلم تثبت عدالته وحفظه. * مفردات الحديث: - المسح: هو أن يُمِرَّ يده على الشيء؛ لإذهاب ما عليه من أثر تراب، أو ماء ونحو ذلك، قال في "المصباح": مسحت الشيء مسحًا: أمررتُ عليه اليد. - الحصى: دقاق التراب العالق بمواضع سجوده، والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب؛ لكونه كان الغالب على موضع سجودهم من الأرض. - الرحمة: مصد: رحم يرحم رحمة ومرحمة، والرحمة: هي العفو والغفران. - فإنَّ الرحمة تواجهه: تعليل في النهي عن المسح؛ لئلا يشغل خاطره عن سبب الرحمة. ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 150، 163)، أبو داود (945)، الترمذي (379)، النسائي (3/ 6)، ابن ماجه (1027). (¬2) البخاري (1207)، مسلم (546).

- تواجهه: تقابله، والمراد: أنَّ الرحمة تنزل عليه، وتُقْبِل إليه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يكره للمصلي أن يمسح الحصى العالق بمواضع السجود من بدنه. 2 - كما يكره أن يمسح موضع سجوده من الأرض، فإن كان لابد من تسوية موضع سجوده، فليكن مرَّة واحدة. 3 - الحكمة في هذا هو ما جاء في الحديث من أنَّ الرحمة تكون تلقاء وجهه، في هذه التربة، التي علقت بوجهه من أثر السجود، وتكون في موضع سجوده الذي ذكر الله تعالى فيه، وسبَّحه عنده. 4 - وقيل: خشية العبث المفضي إلى الإخلال بالصلاة، والمنافي للخشوع والتواضع، وأنه يشغل المصلي، ولا مانع من إرادة الأمرين: المحافظة على الرحمة التي علقت به، والبعد عن العبث المنافي للخشوع. 5 - يستحب لمريد الصلاة أن يسوِّيَ مكان صلاته وموضع سجوده؛ لئلا يحتاج إلى ذلك أثناء الصلاة، ولئلا ينشغل باله به في الصلاة. 6 - جمهور العلماء حملوا ذلك على الكراهة، لا على التحريم؛ لأنَّ المخالفة ليست كبيرة، والحركة ليست كثيرة، فهو من مكروهات الصلاة. * * *

192 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَختَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ". روَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ولِلْتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ، وصَحَّحَهُ: "إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لَابُدَّ، فَفِي التَّطَوُّعِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية الترمذي قال عنها في "نصب الراية": فيها علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما أنَّ فيها انقطاعًا بين سعيد بن المسيب وأنس. * مفردات الحديث: - اختلاس: بالخاء المعجمة فمثناة فوقية آخره سين مهملة؛ اختلس الشيء: استلبه نُهْزة ومخاتلة، فهو الأخذ على وجه الغفلة من المختلَس منه، والنَّهزة من المختلِس. - يختلسه: استعير لذهاب الخشوع في الصلاة بتصوير قبح تلك الفعلة، أو أنَّ المصلي مستغرِق في مناجاة ربه، والله تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد منتظر فوات تلك الحالة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة، فيختلسها منه. - إياك: "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، لفعل محذوف تقديره "احذر"، و"الكاف" للخطاب. ¬

_ (¬1) البخاري (751). (¬2) الترمذي (589).

- الالتفات: يقال: لتفت بوجهه يَمْنةً وَيَسْرة: صرفه إلى ذات اليمين أو الشمال، والالتفات منصوب على العطف على "إياك"، أو على التحذير بفعل محذوف تقديره: احذر الالتفات. - هلكة: بفتح الهاء واللام والكاف بعدها تاء، الهلاك: الموت، وسمي الالتفات: هَلَكَة؛ باعتبار كونه سببًا لنقصان الثواب الحاصل بالصلاة. - إياك: "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، لفعل محذوف تقديره "احذر"، و"الكاف" للخطاب. - لابُدَّ: أي: لا محيص، ولا معدل، ولا مناص، وليس لك من ذلك بُدٌّ: يريدون به الإطلاق على أي وجه كان، و" بُدّ" لا يعرف استعمالها إلاَّ مقرونة بالنفي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كراهة الالتفات في الصلاة إلاَّ من حاجة. 2 - فإن كان ثمَّ حاجة؛ كخوف وترقب عدو، لم يكره؛ لما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال: "ثُوِّب بصلاة الصبح، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعْب، وكان قد أرسل فارسًا من الليل يحرس". 3 - كراهةُ الالتفات، إذا كان بالرأس والعنق فقط، أما إن استدار المصلي بجملته فاستدبر القبلة حرُم، وبطلت صلاته. قال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على أنَّ الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة. 4 - سبب الكراهة: أنَّه نقص في الصلاة أذهب الخشوع فيها، والإقبال على الله تعالى، وسبب الإعراض عن الله تعالى، وعن القبلة التي أُمر المصلي أن يتوجه إليها، ويصمد نحوها كل صلاته. 5 - والالتفات من كيد الشيطان، فإنّه سرقة من صلاة العبد، أحدثت بالصلاة

نقصًا في قيمتها عند الله تعالى. 6 - جاء في الرواية الأخرى التحذير من الالتفات في الصلاة، وبَيَّنَتْ أنه هلكة، وأي شيء أعظم من هلكة تصيب الإنسان في دينه، وفي أعظم شعيرة يؤديها، فقد جاء في الدُّعاء المأثور: "اللهمَّ لا تجعل مصيبتنا في ديننا". 7 - سبب حمل العلماء الحديث على الكراهة: -أنَّه لا يبلغ بطلانها، وإنما هو نقصٌ فيها. 8 - الصلوات المكتوبات أهمُّ الصلوات، ويجب أن تكون العناية والاهتمام بهن أكثر، ولذا فإنَّ وقوع الالتفات في الصلاة النافلة أخف منه في الفريضة، وهكذا سائر الأمور المكروهة في الصلاة، فوقوعها في النافلة أخف وأسهل من الفريضة. 9 - سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلاسًا، تصويرًا لقبح تلك الفعلة بالمختلس، فالمصلي مقبل على ربه يناجيه، والشيطان مترصِّد له يريد قطع تلك المناجاة عليه، فاذا التفت المصلي، فإنَّ الشيطان قد ظفر بمطلوبه من اختلاس أغلى ما بين يدي المصلي تلك الساعة. 10 - أجمع العلماء على كراهة الالتفات في الصلاة، وقال ابن هبيرة: جمهور الفقهاء على أنَّ الالتفات لا يفسد الصلاة ولا يبطلها، وإنما ينقصها. 11 - قال الغزالي: إنما يقبل الله من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك، فاعبده في صلاتك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، فإن لم يحضر قلبك ولم تسكن جوارحك، فهذا لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فعالج قلبك عساه أن يحضر معك في صلاتك، فإنَّه ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عقلت منها. ***

193 - وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَإنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْصُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وفِي رِوَايَةٍ: "أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يناجي ربه: من: ناجاه مناجاة، فهو مناجٍ، وهو المخاطِبُ لغيره، والمحدِّث له، وأصل المناجاة: المسارَّة؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9]، والمراد به هنا الإقبال على الله تعالى، وكما في الحديث: "لا يتناجى اثنان دون الثالث". - يبصقن: بالصاد أو السين أو الزاي، فالحروف الثلاثة متقاربة المخارج، وهي حروف الصفير، والفعل هنا مبنيٌّ على الفتح، في محل جزم؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والبصق، إخراج ماء الفم، وما دام فيه فهو ريق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصلاة فرضًا أو نفلًا موطن مناجاة لله تعالى، واتصال العبد بربه، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه] فلا يليق أن يبصق المصلي بين يديه، فإنَّ المناجاة تكون لمن هو أمامك، ولذا جاء في رواية أخرى للبخاري (417): "فإنَّ ربه بينه وبين القبلة"، وهذه معية خاصة من الله تعالى لعبده حال مناجاته، كما جاء في الحديث الآخر: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وهو سبحانه على دنوه وقربه من عبده في علوه. ¬

_ (¬1) البخاري (374، 1214)، مسلم (551).

2 - ولا يبصق عن يمينه؛ فقد جاء في التصحيح: "فإنَّ عن يمينه ملكًا"، ولابن أبي شيبة "فإنَّ عن يمينه كاتب الحسنات". 3 - وكذلك عن شماله ملك كريم؛ فقد قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} [ق] وقد أخرج البغوي في تفسيره من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات". فإذا قيل: كيف يبصق عن شماله وفيه الملك؟ فالجواب والله أعلم هو ما يأتي: (أ) أنَّ المصلي لا يبصق في الصلاة، إلاَّ في حال الحاجة، والحاجة تبيح المكروهات. (ب) جهة اليمين أشرف من جهة الشمال، فيجعل اليمين للمستطابات، والشمال للمستقذرات. (ج) المَلَك المقيم في جهة اليمين، أشرف من المَلَك المقيم في جهة الشمال. (د) أرشد الشارع المصلي أن يبصق تحت قدمه الشمال، فهو لم يبصق جهة المَلَك، وإنما أسفل منه وتحت القدم، والمسلم يتقي الله تعالى ما استطاع. 4 - العلو ثابت لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة، ممن يقتفون الآثار، ويعنون بالأخبار، فالعلو المطلق ثابت لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، فهو مُسْتَوٍ على عرشه، بائِنٌ من خلقه، محيط بكل شيء، وإثبات الجهة لله تعالى ليس معناه أنَّ الجهة تحيط به وتحصره، فالله تعالى أعظم وأجل وأوسع من ذلك، فقد وسع كرسيه السموات والأرض. {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}. 5 - المنفي عن الله تعالى جهة السفل؛ فلا يجوز إثباتها له تعالى، فله العلو

المطلق بذاته، وصفاته، وقدره، وقهره. 6 - وينفى عنه تعالى الحلول، فهو مع خلقه بعلمه وإحاطته التامة، وهو مع المؤمنين والمحسنين بحفظه ورعايته الخاصة، وهو مع العابدين الساجدين والداعين بسمعه وإجابته، وإعطائه وتفضله. 7 - قال الإمام الجويني: العبد إذا أيقن أنَّ الله تعالى فوق السماء، عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية، صار لقلبه قِبلة في صلاته وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنَّه فوق سماواته على عرشه، فإنَّه يبقى حائرًا لا يعرف جهة معبوده، فإذا دخل في الصلاة وكبَّر توجه قلبه إلى جهة العرش، منزِّهًا ربه تعالى عن الحصر، معتقدًا أنَّه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره، وإحاطته وقدرته ومشيئته، وذاته فوق الأشياء، حتى إذا شعر قلبه بذلك في الصلاة، أو التوجه إليه، أشرق قلبه واستنار بالإيمان، وعكست أشعة العظمة على عقله، وروحه ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزَّه ربه عن صفات خلقه من الحصر والحلول، وذاق حينئذٍ شيئًا من أذواق السابقين المقربين. وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: ربُّنا تعالى على عرشه، فوق مخلوقاته كلها، كما تواترت فيه نصوص الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والسلف الصالح، فإنَّه مع ذلك محيط بالعالم كله، وقد أخبر أنَّه حيثما توجه العبد، فإنَّه مستقبل وجهه عزَّ وَجَلَّ. 8 - جاء في بعض ألفاظ الحديث: "قِبلَ وجهه"؛ قال الحافِظُ وغيره: وهذا التعليل يدل على أنَّ البصاق إلى القبلة حرام؛ سواء كان في المسجد، أو لا، ولا سيَّما المصلي. 9 - جاء في البخاري (415) ومسلم (552)، من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها".

قال النووي: إذا بصق في المسجد، فقد ارتكب الحرام، وعليه أن يدفنه، ويجب الإنكار على من رأى من يبصق في المسجد. 10 - الإسلام يدعو إلى النظافة والطهارة والنزاهة، وَيُنَفِّرُ من القذارة والوساخة، فالأفضل للمسلم أن يصحب معه "مناديل" يزيل بها الأقذار والأذى، ويلقيها في أواني، الزبالة وأماكنها. ***

194 - وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ قِرَامٌ لِعَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1)، وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، وَفِيهِ: "فَإِنَّهَا ألْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قِرَام: -بكسر القاف المثناة وفتح الراء المخفَّفة ثم ألف فآخره ميم-: هو ستر رقيق من صوف ذي ألوان، ويتَّخذ سترًا وفراشًا في الهودج. - أمِيطي: أَمرٌ من: أَماط يميط، أي: أزيلي، قال ابن سيده: ويقال: ماط عنِّي ميطًا ومياطًا، وأماطه: نحَّاه ودفعه. - تصاويره: ألوانه، وزخارفه، ونقوشه. - تعرض: بفتح التاء وكسر الراء؛ أي: تلوح وتظهر، وفي رواية: بفتح العين وتشديد الراء، وأصله: "تتعرض" فحذفت إحدى التاءين. - أَنْبِجَانِيَّة: -بفتح الهمزة وسكون النون، وكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم، ثم ألف ثم نون مكسورة، بعدها ياء النسبة ثم تاء التأنيث-: هي كساء غليظ له أعلام منسوبة إلى بلد تسمى "أنبيجان" من كور "قنسرين". - أبي جهم: بفتح الجيم وسكون الهاء، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية القلة: "أبو جُهيم" بالتصغير، وهو عامر بن حذيفة القرشي العدوي. ¬

_ (¬1) البخاري (374). (¬2) البخاري (373)، مسلم (556).

- ألهتني: من: الإلهاء، لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه، إذا غفل، من باب علم، ومعنى ألهتني: أشغلتني، وأما لهى يلهو، إذا لعب، فمن باب نصر ينصر. - عن صلاتي: عن كمال الحضور، وتدبر أركانها وأذكارها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب إبعاد كل ما يشغل المصلي، من ألوان وزخارف تكون في قِبلته، وصيانة الصلاة عن كل ما يلهي المصلي، وهو إجماع. 2 - الأفضل للمصلي أن يقصد الأماكن التي لا يكون بها ما يلهيه، أو يشغله عن صلاته، وحضور قلبه فيها. 3 - لب الصلاة وروحها حضور القلب والخشوع، فليحرص المصلي على استجلاب دواعي ذلك؛ لتتم صلاته وتكمل عبادته، قال الإِمام أحمد: كانوا يكرهون أن يجعلوا في القِبلة شيئًا، حتى المصحف. 4 - القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ بإزالة ما قدر على إزالته، من الأمور المنافية للشرع، والمبادرة إلى ذلك. 5 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يعرض له ما يعرض لغيره -من البشر- من الخواطر، إلاَّ أنَّها لا تتمكن منه، كما هي إلاَّ خطرات بسيطة، حتى يعود إلى مناجاة الله تعالى، والاتصال بربه. 6 - كراهة زخرفة المساجد وتزويقها، وجعل الكتابات والنقوش فيها، مما يلهي المصلين، ويشغلهم عن تدبر صلاتهم، بتتبع هذه النقوش والزخارف، وكذلك الصلاة على المفارش المنقوشة المزخرفة. 7 - جواز ستر الجدر بالستائر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ما أمر بإزالتها إلاَّ من أجل تصاويرها، التي عرضت له أثناء صلاته، والأفضل تركه؛ لما في صحيح مسلم (2106)، عن عائشة؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أمرت أن أكسو الحجارة والطين".

8 - أنَّ الخواطر التي تعرض للمصلي لا تبطل صلاته، وإنما عليه إبعادها، وإزالة دواعيها إليه. 9 - قال في "الروض وحاشيته": ويكره أن يصحب ما فيه صورة من فص، ودنانير ودراهم، وثوب فيه صورة، فيكره اتفاقًا؛ لتشبهه بعباد الأوثان. 10 - قال الطيبي: فيه إيذان بأنَّ للصور والأشياء الظاهرة، تأثيرًا في القلوب والنفوس الزكية، فضلا عمَّا دونها. 11 - قال شيخ الإِسلام: المذهب الذي نصَّ عليه الأصحاب وغيرهم: كراهة دخول الكنيسة التي فيها الصور، فالصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة، هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه. 12 - واتَّفق أهل العلم على كراهة استقبال ما يلهي المصلي من صورة، أو نار، أو سراج، أو قنديل، أو شمعة؛ لأنَّه يذهب الخشوع، ولما فيه من التشبه بالمجوس في عباداتهم النيران، والصلاة مستقبلًا لها تشبه الصلاة لأجلها. 13 - دلت النصوص على أنَّ الأجر والثواب مشروطٌ بحضور القلب، وخضوعُ القلب فراغه من غير ما هو ملابس له، وإذا دفع الخواطر ولم يسترسل معها لم تضره، وعلى العبد الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب، من تفكر فيما لا يعنيه، ودفع الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، ولا ريب أنَّ العبد كلما أراد توجهًا إلا الله بقلبه، جاءه من الوسواس أمور أخر، فالشيطان بمنزلة قاطع الطريق وعلى العبد الاجتهاد في أن يعقل ما يقوله ويفعله فيتدبر القرآن والذكر والدعاء، ويستحضر أنه يناجي الله كأنَّه يراه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في تصوير، واقتناء الصور التي لها روح، وقد أطال العلماء الجدال في ذلك، حتى صَنَّفُوا فيها بعض الرسائل الصغار، ولكننا نأتي بخلاصة صغيرة هنا:

أولًا: أجمع العلماء على تحريم الصور المجسِّمة، لذوات الأرواح؛ للنصوص الصحيحة الصريحة في ذلك، لما فيها من المضاهاة الظاهرة لخلق الله تعالى، ويشتد التحريم والخطورة إذا كانت لعلماء ورجال صالحين؛ لأنَّها وسيلة لأكبر ذنب، وأعظم معصية، وهو الشرك بالله تعالى. ثانيًا: جمهور العلماء يخصصون من عموم النصوص لُعَب الأطفال. لما جاء في البخاري (6130) ومسلم (2440) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنتُ ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي" ومثل هذه الصورة بعيدة عن المحظور والغلو بالتماثيل، ولما فيهنَّ من حاجة البنات الصغار إلى تدريبهن على أولادهن، ولكن على ألاَّ يُتوسَّع في هذه اللعب، ويتفنن في صُنعها حتى تصبح كالتماثيل، كما هو حال غالبها اليوم. ثالثًا: اختلفوا في الصور الشمسية غير ذات الظل: فذهب بعضهم إلى حل مثل هذه الصور، وأنها هي ظل الشخص، حبسته مواد معروفة، وإلاَّ لنُهي عن الصورة التي تظهر في المرآة، والماء الصافي ونحو ذلك، والله أعلم. ***

195 - وَعَنْ جَابِرَ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ إِلى السَّماءِ في الصَّلاَةِ، أوْ لاَ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ولَهُ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طعامٍ وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبثَانِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لينتهينَّ: من الانتهاء، و"اللام" جواب قسم محذوف، والنون المشددة آخره للتوكيد، وهو خبر بمعنى الأمر. - أو لا ترجع: "أو" هنا للتخيير، الذي قصد به التهديد، وهو خبر في معنى الأمر، والمعنى: ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار، أو خطفها عند الرفع من الله تعالى، فلا تعود إليهم أبصارهم. - يدافعه: لفظ المدافعة إشارة إلى شدة الاحتياج لقضائهما، فكأنَّهما يدفعان المصلي إلى قضائهما، والمصلي يدفعهما حتى يؤدي الصلاة. - الأخبثان: هما البول والغائط، فمن احتبس بوله فهو حاقن، ومن احتبس غائطه فهو حاقب، قال أهل اللغة: الحاقن: مدافع البول، والحاقب: مدافع الغائط، والحازق: مدافع الريح، والحاقم: مدافع البول والغائط. - والأخبثان: مثنى "أخبث"؛ وهو الذي صار ذا خبث. ¬

_ (¬1) مسلم (428). (¬2) مسلم (560).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الخشوع هو لب الصلاة وروحها، ويكون بالقلب والجوارح، والذي يرفع بصره إلى السماء، ويجيل نظره هاهنا، وهاهنا، لم يخشع قلبه ولا جوارحه؛ ذلك أنَّ القلب بفكره يتبع النظر، ولذا رأى سعيد بن المسيب رجلًا يعبث بلحيته وثيابه، فقال: "لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه". 2 - النَّهي الأكيد، والوعيد الشديد على من رفع بصره إلى السماء في الصلاة؛ فقد روى الإِمام أحمد (20997)، وأبو داود (909)، والنسائي (1195)، من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه، انصرف عنه" 3 - النبي -صلى الله عليه وسلم- توعد من رفع بصره إلى السماء في الصلاة، بخطف بصره، ومع ذلك يوجد كثير ممن يرفعون أبصارهم، ولم يُعرف أنَّ أحدًا رفع بصره إلى السماء، ثم خطفت، فلم يرجع إليه نظره، وأصبح لا يبصر. والجواب: أنَّ تخلف الوعيد -كرمًا ولطفًا- لا يعني أنَّه لن يقع الأمر. الأمر الثاني: أنه قد لا يخطف حسًّا, ولكنه خطف معنى، وهذا أعظم، فإنَّ الأول عقوبة في الدنيا، والثاني عقوبة في الدنيا والآخرة، فإنَّ الإنسان إذا كان لا يستفيد من نظره فيما يعود عليه بإصلاح أمره، فقد خطفت فائدة بصره، ولذا قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]. 4 - هذا الوعيد يدل على تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة. قال النووي: أجمع العلماء على تحريمه. قلتُ: يريد إجماع جمهور العلماء؛ فإنَّ مذهب الإِمام أحمد أنَّ رفع البصر مكروه فقط، قال في "الإنصاف": وعليه الأصحاب.

5 - رفع البصر مُنَاف لأدب الصلاة ومقامها؛ فإنَّ المصلي يناجي الله تعالى، وهو تجاهه في قِبلته، فرفع البصر وروغانه عمن يراه بقلبه، إساءة أدب، تدل على أنه لا يحس أنه يعبد إلهًا يراه، وأقرب إليه من حبل الوريد. 6 - قال فقهاؤنا: يكره تغميض عينيه؛ لأنَّه فعل اليهود، ولأنَّه مظنة النعاس، إلاَّ إن احتاج إليه، فتزول كراهته. قال ابن القيم: لم يكن من هديه تغميض عينيه، ثم قال: الصواب: أن يقال: إن كان فتحهما لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع، لما في قِبلته من زخرف وتزويق، أو غيره مما يشوش قلبه، فهناك لا يكره التغميض قطعًا، والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده، من القول بالكراهة. 7 - أما حديث عائشة فيدل على كراهة الصلاة في حال مدافعة الأخبثين، وهما: البول والغائط، ويرى شيخ الإسلام: أنَّ الحاقن أو الحاقب أفضل له أن يقضي حاجته، ولو لم يكن عنده ماء، ويصلي بالتيمم، ويقول: إنَّ الصلاة بالتيمم وهو طهارة شرعية، أفضل من الصلاة بالماء، في حال تشوش المصلي وانشغال باله. 8 - مثل مدافعة الأخبثين كل ما يشغل باله من ريح في جوفه، أو حر أو برد شديدين، أو جوع أو عطش مفرط، أو غير ذلك مما يذهب عنه الخشوع وحضور القلب؛ فإنَّ حضور القلب هو لب الصلاة، فإذا لم يوجد فهي أفعال وحركات تجزىء صاحبها, ولكنها لم تُنِلْه مقام المؤمنين المفلحين، الذين هم في صلاتهم خاشعون. 9 - في صلاة مدافع الأخبثين خلافٌ، ولكن الجمهور على صحتها، ويؤولون ظاهر الحديث بأنَّه لا صلاة كاملة، أما الظاهرية فلا يرون صحة الصلاة عملًا بظاهر الحديث، وقول الجمهور هو الصواب إن شاء الله.

10 - قال القاضي عياض: كل العلماء مجمعون على أنَّه إن بلغ به ما لا يعقل به صلاته، ولا يضبط حدودها، فإنه لا يجوز له الدخول فيها، وأنه يقطع إن أصابه ذلك فيها. 11 - قال ابن الملقن في "شرح العمدة": نلخص أن مدافعة الأخبثين أربعة أحوال: أحدها: أن يكون بحيث لا يعقل منهما الصلاة، فلا تحل له الصلاة، ولا الدخول فيها إجماعًا. ثانيها: أن يكره بحيث يفعلها مع ذهاب خشوعه بالكلية، فحكمه حكم من صلَّى بغير خشوع، والمذهب أنَّ ذلك لا يبطل الصلاة. ثالثها: بحيث يؤدي إلى الإخلال بركنٍ أو شرطٍ، فهذا يمنع عليه الدخول، ويفسد صلاته باختلالهما. رابعهما: بحيث يؤدي إلى الشك في شيء من الأركان، فحكمه حكم من شكَّ في ذلك بغير هذا السبب، وهو البناء على اليقين. ***

196 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أحَدُكمْ، فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وزادَ: "في الصَّلاَةِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - من الشيطان: لأنَّ التَّثاؤب ينشأ من امتلاء المعدة، وثقل البدن، وركود الحواس، التي تسبب النوم والكسل. - تثاءب: بوزن "تقاتل"، قال في: "المصباح": تثاؤب عامي بالهمزة، أصابته الثوباء، وهي حركة للفم ليست إرادية لرفع البخارات المحتقنة في عضلات القلب، تكون هذه الحركة من كسل أو نوم. - فلْيَكْظِم: بفتح ياء المضارعة وكسر الظاء، مجزوم بلام الأمر، والكَظْم: سد الفم بطباق الشفتين، وكظم يكظم من باب ضرب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التثاؤب: حركة للفم ليست إرادية، وإنَّما تأتي من هجوم كسل أو نوم، وهذه الحركة تسبب له فتح فيه. 2 - ما دام أنَّ التثاؤب نتيجة الكسل والفتور، فإنَّ هذا من تسليط الشيطان، الذي يثبط المسلم عن القيام بواجباته الدينية، ومكملاته الخُلُقِيَّة. 3 - منظر الفم مفتوحًا أثناء التثاؤب منظر كريه؛ لذا ندب للمتثائب أن يكظمه بطباق أسنانه وشفتيه ما استطاع، فإن لم يستطع، فيضع على فيه ما يستره عن نظر الحاضرين. ¬

_ (¬1) مسلم (2994)، الترمذي (370).

وذلك لما روى مسلم (2995) من حديث أبي سعيدٍ الخدري؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا تثاءب أحدكم، فليمسك بيده على فمه؛ فإن الشَّيطان يدخل". 4 - هذا من أدب المجالسة، ومن احترامك الحاضرين أن يكون الجليس على أحسن حال، وأجمل مظهر. 5 - كما أن إطباق الفم أثناء التثاؤب، فيه إغاظة ومكايدة للشيطان، الذي سلط الكسل والعجز على المسلم؛ ليحرمه من النشاط في طاعة الله تعالى. 6 - أنَّ الله تبارك وتعالى يريد من المسلم القوة والنشاط في العبادة، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ولذا كانت الصلاة تباعد الأعضاء بعضها عن بعض، في الركوع والسجود، وهذا يدل على الرغبة في النشاط والقوة، أما الكسل والفتور فهي من صفات المنافقين، الذين يثقلون عند العبادة. ***

* فائدة: أهمل المؤلف رحمه الله ذكر النية، وهي من شروط الصلاة، وتتميمًا للفائدة، فإنَّنا نلحق هذين الحديثين العظيمين اللذين هما من قواعد الإِسلام ومبانيه العظام: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه (¬1). * مفردات الحديث: - إنما الأعمال بالنيات: كلمة "إنَّما" تفيد الحصر، فهو هنا قصر موصوف على صفة، وهو إثبات حكم الأعمال بالنيات، فهو في قوة: "ما الأعمال إلاَّ بالنيات"، وينفي الحكم عمَّا عداه. - النية: لغة: القصد، ووقع بالإفراد في أكثر الروايات، مال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ، من جلب نفع، أو دفع ضر. اهـ. وشرعًا: العزم على فعل العبادات تقربًا إلى الله تعالى. - فمن كانت هجرته: جملة شرطية. - فهجرته إلى الله ورسوله: جواب الشرط، واتحد الشرط والجواب؛ لأَنَّهما على تقدير: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا. ¬

_ (¬1) البخاري (1)، مسلم (1907).

النية نوعان: أحدهما: يُقْصَد بها تمييز العادة عن العبادة، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، هذا النوع يتكلم عنه الفقهاء في كتب الأحكام الفرعية. الثاني: قصد المعبود بالعبادة، وهذا هو سر العبادة وروحها، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وهذه النية أهم الأمرين، ذلك أنَّ إخلاص النية للمعبود هو الأصل، فالعبادة التامة هي ما توفر لها خمسة مقامات: 1 - نية العمل، فالعمل الذي يؤتى به ولَمْ يُنوَ، ليس بعبادة، وفاعله ليس متقربًا إلى الله تعالى. 2 - نية المعبود، بأن يكون القائم لم يقم بها إلاَّ مخلصًا بها لوجه الله تعالى. 3 - أن يقوم مستحضرًا عن القيام بها امتثال أمر الله تعالى بها ورسوله. 4 - أن يستحضر عند القيام بالعبادة، أنَّه يعبد الله تعالى بالإيقان بها. 5 - أن يستحضر وهو يفعلها الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فهذه العبادة الكاملة التامة، التي يحصل صاحبها على كامل ثوابها، أما مجرَّد نية العمل، فهو يبرىء الذمة من الواجب، بدون الثواب الكبير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ مدار الأعمال على النيات، صحةً وفسادًا، وكمالًا ونقصًا، وطاعةً ومعصيةً، فمن قصد بعمله الرياء فقد فسد عمله، ومن قصد بالجهاد -مثلًا- إعلاء كلمة الله فقط، كَمُلَ ثوابه، ومن قصد ذلك والغنيمة معه، نقص ثوابه، ومن قصد الغنيمة وحدها, لم يأثم, ولكنه لا يعطى أجر المجاهد، فالحديث مسوق لبيان أنَّ كل عمل طاعةً كان في الصورة أو معصيةً، يختلف باختلاف النيات. 2 - أنَّ النيَّة شرط أساسي في العمل، ولكن الغلو في استحضارها، يفسد على

المتعبد عبادته، فإنَّ مجرد قصد العمل يكون نية له، بدون تكلف استحضارها وتحقيقها. 3 - أنَّ النيَّة محلها القلب، واللفظ بها بدعة. 4 - وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل الدنيا، ما دام أنَّ شيئًا من ذلك يفسد العبادة. 5 - وجوب الاعتناء بأعمال القلوب، ومراقبتها. 6 - أنَّ الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى. * فائدة: ذكر ابن رجب أنَّ العمل لغير الله على أقسام: فتارة يكون رياءً محضًا، لا يقصد به إلاَّ مراءاة المخلوقين، لتحصيل غرض دنيوي، وهذا لا يكاد يصدر عن مؤمن، ولا شكَّ في أنَّه يحبط العمل، وأنَّ صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارةً يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فإنَّ النصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وإن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء ودفعه صاحبه، فإنَّ ذلك لا يضره بغير خلاف، وقد اختلف العلماء من السلف في الاسترسال في الرياء الطارىء، هل يحبط العمل أو لا يضر فاعله، ويجازى على أصل نيته؟ اهـ بتصرف. ***

الفائدة الثانية: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" [رواه البخاري (6954)، ومسلم (255)]. * مفردات الحديث: - لا يقبل الله: بصيغة النفي، وهو أبلغ من النهي؛ لأَنَّه يتضمن النهي، وزيادة نفي حقيقة الشيء. - أحدث: أي: حصل منه الحدث، وهو الخارج من أحد السبيلين، أو غيره من نواقض الوضوء، وفي الأصل: الحدث: الإيذاء. - الحدث: وصف حكمي يقوم بالبدن، يمنع وجوده من صحة العبادة المشروط لها الطهارة. * المعنى الإجمالي: الشارع الحكيم أرشد من أراد الصلاة ألا يدخل فيها إلاَّ على حال حسنة وهيئة جميلة؛ لأنَّها الصلة الوثيقة بين الرب وعبده، وهي الطريق إلى مناجاته، لذا أمره بالوضوء والطهارة فيها، وأخبره أنَّها مردودة غير مقبولة بغير ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ صلاة المحدِث لا تقبل، حتى يتطهر من الحدثين: الأكبر، والأصغر. 2 - أنَّ المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة، وعدم إجزائها. 3 - أنَّ الحدث ناقض للوضوء، ومبطل للصلاة إن كان فيها. 4 - الحديث يدل على أنَّ الطهارة شرط لصحة الصلاة. ***

باب المساجد

باب المساجد مقدمة المساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: بفتح الميم وكسر الجيم، اسم مكان السجود. قال الصقلي: ويقال مسيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد. وأما شرعًا: فكل موضع في الأرض فإنَّه مسجد. وهذا من خصائص هذه الأمة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا" [رواه البخاري (335)، ومسلم (521)]. قال القرطبي: هذا ما خصَّ الله به نبيه، وكانت الأنبياء قبله إنَّما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة، ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة، لقرب العبد من ربه فيه، اشتق منه اسم مكان، فقيل: مسجد. وللمساجد أحكام ذكرها الفقهاء في "باب الاعتكاف"، وأفرد بعض العلماء كتبًا مستقلة بأحكام المساجد، من أهمها: "إعلام الساجد بأحكام المساجد" للزركشي الشافعي. وكانت المساجد -زمن عز الإِسلام وقوته- منارة العلم ومثابة العلماء، فيها تزدحم الحلقات، وتلقى المحاضرات، وتعقد الندوات، وتسمع المناظرات، والمساجلات، فكان المسجد هو الأساس في الإِسلام، فقد كان من رسالته: أولًا: إنه مكان للعبادات وإقامة الشعائر، فكان المسلمون يلتقون فيه،

يجتمع قويهم بضعيفهم، وغنيهم بفقيرهم، وعالمهم بجاهلهم، فكان المحرومون من هذه المواهب يتلقونها، ويأخذونها ممن منَّ الله عليهم بها، من إخوانهم العلماء، والأقوياء، والأغنياء، والعقلاء. ثانيًا: كان المسجد هو الجامعة العلمية التي تلقى فيها الدروس، وتعقد فيها الحلقات، فتجد علماء الشريعة وعلماء اللغة، وعلماء الاجتماع، وتجد الوعاظ والمرشدين والموجهين، فيخرج التلميذ من المسجد عالمًا تقيًّا زكيًّا، حمل العلم الشرعي، وتحلَّى بالسلوك الإِسلامي، فأخذ العلم، شريعة وحقيقة وطريقة. ثالثًا: كانت تعقد في المسجد رايات الجهاد، ويُعيَّن فيه القوَّاد، وتُجهَّز الجيوش، وتتلقى أخبار الفتوح والانتصارات، فتبلغ المسلمين من أعواد منابر المساجد. رابعًا: كان المسجد كل شيء في حياة المسلمين، ذلك أنَّ أساس حياتهم كانت قائمة على الدين، وكانت أمورهم تسير وفق أحكام الإِسلام، ولما فصلوا الإِسلام عن الحياة، وقصروه على العبادات، وأبعدوه عن مجال الحياة والسياسة، ضعف أمر المسجد وهان شأنه، واستخفَّ بمقامه، وصار لا يتمسك به إلاَّ الطبقة المحرومة من الجاه والمال، والثقافة العصرية، التي صار لها الشأن الأكبر في الأوساط العلمية، فهانوا وضعفوا. فانصراف المسلمين عن المسجد، وبُعدهم عنه، واستخفافهم بأمره، وبعدهم عن القيام برسالته، والتخلي عن دوره -هو الذي حط من قدرهم، وهو الذي قلل من شأنهم، وهو الذي فرَّقهم فأضعفهم، فإذا كانوا يريدون العزة، وإذا كانوا يرجون السيادة، فليعيدوا إلى المسجد رسالته، وليهتموا بأمره، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، والله من وراء القصد، وهو المستعان.

197 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَمَرَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بِبِنَاءِ المسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال ابن عبد الهادي في "المحرر": إسناد بعضهم على شرط الصحيحين، وصححه ابن حبان، وقال الساعاتي: سنده صحيح، إلاَّ أنَّ الترمذي رجَّح إرساله. * مفردات الحديث: - الدور: بضم الدال ثم بعدها واو ثم راء، جمع؛ "دار"، وهي مؤنثة، يحتمل أنَّ المراد بها البيوت، ويحتمل إرادة الأحياء، فيُبنى في كل حي مسجدٌ، والمعنى الأخير أجود وأقرب. - تطيب: يجعل فيها الطيب، وتطييبها يكون بالبخور ونحوه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الدور هنا تحتمل معنيين: إما أن يراد بها أحياء القبائل، فيستحب بناء المساجد في الأحياء المسكونة؛ ليجتمع أهل الحي للصلوات فيها, ولا شكَّ في عِظم أجر ذلك؛ لما جاء في البخاري (450)، ومسلم (533)، عن عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بني مسجدًا، بني الله له مثله في الجنة". ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 279)، أبو داود (455)، الترمذي (594).

ويحتمل أنَّ المراد بها: البيوت، فإنَّه يستحب تعيين مكان للصلوات النوافل، أو الفرائض، ممن لا تجب عليهم في المسجد؛ لما جاء في البخاري (424)، ومسلم (263)، وغيرهما عن عتبان بن مالك أنَّه قال: "يا رسول الله، إنَّ البيوت تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني فتصلي في مكانٍ من بيتي أتَّخذه مسجدًا، فقال: سنفعل، فلما دخل قال: أيَّ مكان تريد؟ فأشرتُ له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصففنا خلفه، فصلَّى بنا ركعتين". 3 - استحباب تنظيف المساجد وتطييبها، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، وقال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ....} [الحج: 26]. 4 - احترام شعائر الله تعالى ومواطن عبادته، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج]. 5 - قال في "شرح الإقناع": ويسن أن يُصان المسجد عن رائحة كريهة، من بصل وثوم وكراث ونحوها، وإن لم يكن فيه أحد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس" [رواه ابن ماجه (3367)]. 6 - استحباب صلوات النوافل في البيوت، حتى ممن تجب عليه الجماعة، جاء في البخاري (731)، ومسلم (781)، عن زيد بن ثابت؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل صلاة المرء في بيته، إلاَّ المكتوبة". ***

198 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". مُتَّفَق علَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: "وَالنَّصَارَى" (¬1). ولَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: "كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ، بنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا"، وفِيهِ: "أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قاتل الله اليهود: لعنهم الله وأبعدهم من رحمته، وقد جاء في حديث عائشة في البخاري (435)، ومسلم (529)؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قال ابن عباس: كل شيء في القرآن "قتل" فهو لعن، وقال ابن عطية: قاتلهم الله: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المغلوب. - أوْلئكِ: بكسر الكاف، خطابٌ للأنثى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرواية الأولى قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سياق الموت؛ قالت عائشة: لما نزل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مما صنعوا. 2 - الرواية الثانية: عن عائشة قالت: إنَّ أمَّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتاها في الحبشة، فيها تصاوير، فقال: "إنَّ أولئك إذا كان فيهم ¬

_ (¬1) البخاري (437)، مسلم (530). (¬2) البخاري (427)، مسلم (528).

الرجل الصالح، فمات، بنَوْا على قبره مسجدًا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". 3 - في الحديث تحريم التصاوير في المساجد، لاسيما للرجال الصالحين، فالفتنة فيهم أكبر وأعظم، وإذا كانت الصورة تماثيل مجسمة، كان الإثم أكبر، والفتنة أعظم. 4 - في الحديث تحريم بناء المساجد على القبور، أو دفن الموتى في المساجد؛ للعلة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. 5 - في الحديث عدم صحة الصلاة في تلك المساجد التي فيها القبور، أو فيها التماثيل؛ لمشابهة ذلك بعبادة الأصنام، وكما جاء النهي عن الصلاة في المقابر. 6 - وفيه: أنَّ من بني مسجدًا على قبر، أو دفن ميتًا في مسجد، ووضع الصور والتماثيل في المسجد، -فهو من شرار الخلق؛ لما يحدث بسبب فعله من الفتنة الكبيرة، وهي الشرك بالله تعالى. 7 - وفيه: أنَّ بناء المساجد على القبور، ونصب الصور في المسجد -هو عمل اليهود والنصارى، وأنَّ من فعل هذا، فقد شابههم واستحق العذاب الذي يستحقونه. 8 - قال شيخ الإِسلام: العلة التي لأجلها نهى الشارع -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ المساجد على القبور -هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم: إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإنَّ الشرك بالرجل الذي يعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون، ويخضعون، ويعبدونها بقلوبهم، عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء، ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- مادتها،

حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، تبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. 9 - قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، جزم بما لا يحتمل الشك أنَّ هذه المبالغة، واللعن والنهي، ليس لأجل نجاسة الأرض من رفات الأموات، وإنما خشية من التدرج عندها إلى عبادتها، أو عبادة أهلها، فإنَّه -لعمر الله- من هذا الباب دخل الشيطان على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عبَّاد الأصنام، منذ كانوا إلى يوم القيامة. 10 - قال الشيخ عبد العزيز بن باز: وضع الزهور على قبر الجندي المجهول بدعة، وغلو في الأجداث، وهو شبيه بعمل أولئك في صالحيهم من جهة التعليم، واتخاذ شعار لهم، ويخشى منه أن يكون ذريعة -على مدى الأيام- إلى بناء القباب عليهم، والتبرك بهم، واتخاذهم أولياء من دون الله. ***

199 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلاً، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ ... " الحدِيث، مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - برجل: جاء في الصحيحين وغيرهما: أنَّ الرجل: ثمامة بن أثال الحنفي، من سادات بني حنيفة، أسلم بعد ذلك. - خيلًا: قال القرطبي: الخيل مؤنثة، والمراد بالخيل: راكبوها من الفرسان، وواحد الخيل: خائل، وقيل: لا واحد له من لفظه، وسميت خيلاً؛ لاختيالها في المِشْيَة. - بسارية من سواري المسجد: السارية مفرد، والجمع: سواري، مثل: جارية وجواري، وهي الأسطوانة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ثمامة بن أثال من سادات بني حنيفة، أَسَرَتْهُ خيل المسلمين، فربطه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فكان يمر من عنده النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "ما عندك يا ثمامة؟! " ثلاثة أيام. 2 - فيه: جواز ربط الأسير في المسجد، وإن كان كافرًا. 3 - فيه: دليلٌ على جواز دخول المشركين والكتابيين المسجد للحاجة؛ كأعمال تتعلق بالمسجد هم أقدر من غيرهم عليها، ونحو ذلك، فقد كان الكفار يدخلون عليه مسجده، ويطيلون الجلوس. ¬

_ (¬1) البخاري (4372)، مسلم (1764).

4 - قال الشيخ صديق حسن في تفسير قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ...} [التوبة: 28]: عدم قربانهم الحرم متفرع عن نجاستهم، وإنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم، ونهي المشركين أن يقربوا الحرم، راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك، والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم. * خلاف العلماء: اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد: فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد، وقال الشافعي: الآية عامَّةٌ في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد. أما مذهب الإِمام أحمد: فإنه لا يحل لأي كافر دخول حرم مكة، أما المساجد الأخر فليس له دخولها, ولو كانت مساجد الحل، إلاَّ لحاجة، كما لو استؤجر، لعمارتها وإصلاحها. قال الزركشي في "إعلام الساجد": يمكن الكافر من دخول المسجد واللبث فيه، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده -صلى الله عليه وسلم-، وقد ترجم البخاري: "باب دخول المشرك المسجد"، وأدخل حديث الأعرابي السائل عن الإِسلام، وحديث اليهود الذين ذكروا أنَّ امرأة ورجلاً زنيا، وغير ذلك. ***

200 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:- "أنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ بِحَسَّانَ يُنْشِدُ فِي المَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حسان: بتشديد السين، وهو ابن ثابت الأنصاري الخزرجي، شاعرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. - ينشد: أنشد الشعر إنشادًا، يعني: يسمع الناس في المسجد شيئًا من الشعر، ويتغنى به. - لحظ إليه: قال في "المصباح": لَحَظته بالعين، ولحظتُ إليه: نظرتُ إليه بمؤخر العين، عن يمين ويسار، فاللِّحاظ -بالكسر- مؤخر العين مما يلي الصدغ، والمراد: نظر إليه نظر إنكار وعتب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء في "صحيح البخاري" أنَّ حسان أنشد في المسجد، ما أجاب به المشركين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- به فنظر إليه عمر -رضي الله عنه- كالمنكِر عليه، فقال: "كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك". 2 - جاء في الترمذي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تناشد الأشعار في المسجد"، وقال الترمذي: حديث حسن. 3 - جمع العلماء بين الحديثين؛ بأنَّ المنهي عنه في المسجد وغيره، الأشعار ¬

_ (¬1) البخاري (3212)، مسلم (2485).

التي فيها هجاء الأبرياء، أو الغزل المقصود، أو نحو ذلك من الكلام الباطل، أما المنافحة عن دين الله، ورد الباطل بالكلام الحق، ونظم الحِكم والمواعظ، مما له غرض صحيح -فلا مانع منه. فالشعر كلامٌ، قبيحه قبيح، ومليحه مليح، فقد قال في "شرح الإقناع": يجب صون المسجد عن إنشاد شعر محرم، ويباح فيه إنشاد الشعر المباح. 4 - يقاس على الشعر كل كلام، فما كان منه خير ومصلحة للدين، فهو مرغوب فيه، وما لا فائدة منه، أو فيه مضرة، فإنَّ بيوت الله تنزه عن ذلك. 5 - كما أنَّه لابد من مراعاة عدم إشغال المصلين، والذاكرين، والتالين كتاب الله تعالى، فتراعى حالهم، ولا يشوش عليهم، فإنَّ أصل بناء المساجد لإقامة الصلاة، وذِكر الله تعالى. ***

201 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي المسْجِدِ، فَلْتقُلْ: لاَ رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ المسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ينشد: -بفتح الياء المثناة التحتية، وسكون النون وضم الشين المعجمة- من باب نصر، من: نشد الضالة، إذا طلبها وسأل عنها، وكذا إذا عرَّفها. يقول أهل اللغة: نشدت الدابة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها، ورواية هذا الحديث: "ينشد" -بفتح الياء وضم الشين- إذا طلب، ومثله الرواية الأخرى. - ضالة: كل ما ضلَّ، -جمعه ضوال- قال في "المصباح": ضالة بالهاء، للذكر والأنثى، والجمع: الضوال، ويقال لغير الحيوان: ضائع ولقطة، فالضالة خاصة بالحيوان. - لا ردَّها الله عليك: دعاء عليه بنقيض قصده، وهو نوع من أنواع التعزير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ من سمع من ينشد ضالة في المسجد، فليدْعُ عليه جهرًا، بقوله: لا ردها الله عليك؛ فإنَّ المساجد لم تبن لهذا. 2 - هذا الحكم عامٌّ؛ سواء كانت حيوانًا، أو متاعًا، أو نقدًا، أو غير ذلك؛ بجامع أنَّ المساجد لم تبن لهذا. 3 - الحديث يدل على تحريم نشدان الضالة في المسجد، ووجوب الدعاء عليه ¬

_ (¬1) مسلم (568).

بهذا الدعاء، وإعلامه باستحقاقه الدعاء؛ حيث اتَّخذ المسجد لنشدان الضوال، وإشغال المصلين والمتعبدين، بأعمال الدنيا. 4 - ظاهره أنَّه لو خرج عند باب المسجد فنشدها، فإنَّه لا يحرم؛ لأنَّه ليس من المسجد. 5 - فيه بيان وظيفة المسجد، بأنَّها للصلاة وذكر الله وتلاوة كتابه، والمذاكرة في الخير، ونحو ذلك. 6 - قال ابن كثير: المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى في الأرض، وهي بيوته التي يعبد الله فيها، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] أمر بتطهيرها من الدنس، واللغو، والأقوال، والأفعال، التي لا تليق بها. 7 - جاء في الطبراني في الكبير (8/ 132)، وابن ماجه (750) من حديث وائلة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "جنبوا مساجدكم مجانينكم، وصبيانكم، ورفع أصواتكم". لكن قال عبد الحق عن هذا الحديث: إنَّه لا أصل له، وقال ابن حجر: له طرق وأسانيد، كلها واهية. 8 - كما يحرم على صاحب الضالة أن ينشد ضالته في المسجد، فإنَّه يحرم أيضًا على من وجد ضالة، أن ينشد في المسجد صاحبها؛ ذكر ذلك الفقهاء، ومنهم الحنابلة. ***

202 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا رَأيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا لهُ: لاَ أرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، والتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال الترمذي: حديث حسنٌ غريب، وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير, وصححه الحاكم (2/ 65)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: سنده صحيح على شرط مسلم. * مفردات الحديث: - أو يبتاع: أصله من: الباع، وهو ما بين الكفين إذا بسط بهما يمينًا وشمالاً، ولما كان المتبايعان يمدان باعيهما عند البيع، اشتق منه البيع، وابتاع بمعنى: اشترى. - تجارتك: التجارة بالكسر مصدر، سمي به حرفة البيع والشراء. - لا أربح الله تجارتك: أي: لا يجعلها نافعة ناجحة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث أنَّه يجب على من سمع من يبيع، أو يشتري في المسجد، أن يقول له جهرًا: لا أربح الله تجارتك؛ فإنَّ المساجد لم تبن للبيع والشراء. 2 - تحريم البيع والشراء في المسجد، وهل ينعقد البيع والشراء مع التحريم، أم لا؟ ذهب الإِمام الشافعي، وكثير من العلماء إلى: انعقاده مع التحريم. ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (6/ 52)، الترمذي (1321).

وذهب الإِمام أحمد إلى: أنَّه يحرم ولا ينعقد، قال ابن هبيرة: منع صحته وجوازه أحمد، قال في "الفروع": والإجارة كالبيع، قال في "الإقناع": ويحرم في المسجد البيع والشراء والإجارة، فإن فعل فباطل، ويسن أن يقال لمن باع أو اشترى: لا أربح الله تجارتك، ردعًا له. 3 - المساجد إنما بنيت لطاعة الله وعبادته، فيجب أن تجتنب أحوال الدنيا، قال القرطبي: ومما تصان عنه المساجد، وتنزه عنه: الروائح الكريهة، والأقوال والأفعال السيئة، فذلك من تعظيمها، فإنَّ معنى قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...} [النور: 36] يعني: أمر وقضى أن تبنى وتعلى، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحض علي بنيان المساجد، ومعنى "ترفع": تعظم ويرفع شأنها، وتطهَّر من الأنجاس والأقذار، قالت عائشة "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتَّخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب"، رواه أحمد (5854). 4 - قال القرطبي: وتصان المساجد عن البيع والشراء وجميع الأشغال؛ لما روى مسلم (569) من حدثني بريدة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما صلى قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا وجدت؛ إنما بنيت المساجد لما بنيت له"، وهذا يدل على أنَّ الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلاة، والأذكار، وقراءة القرآن. ***

203 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ، وَلاَ يُسْتَقَادُ فِيهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ لغيره. قال المؤلف في "التلخيص": لا بأس بإسناده، وصححه السيوطي في الجامع الصغير. والجملة الثانية داخلة في الجملة الأولى، والجملة الأولى لها شاهد من حديث ابن عباس عند الحاكم، فالحديث قوي. * مفردات الحديث: - لا تقام: من الإقامة؛ أي: لا تنفذ ولا تجري. - الحدود: هي العقوبات التي حدَّها الله تعالى، وسيأتى تعريفها في بابها إن شاء الله. - لا يستقاد: من: قاد قودًا، والقود بفتحتين: القصاص قال في "اللسان": القود: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل والمعنى: أي: لا يقام القود في المساجد. * ما يؤخد من الحديث: 1 - النَّهي عن إقامة الحدود وتنفيذها في المساجد، سواء أكان قتلًا، أو قطعًا، أو جلدًا. ¬

_ (¬1) أحمد (15151) أبو داود (4490).

2 - الحكمة في هذا -والله أعلم:- أن إقامة الحدود يحصل فيها لَغَطٌ، وارتفاع أصوات، كما أنَّ الحد قد يلوث المسجد بالدم، أو غيره مما يخرُج ممن يقام عليه الحد. 3 - الحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المسجد؛ لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم، قال في "شرح المنتهى": ويحرم إقامة الحد بمسجد؛ لحديث حكيم بن حزام، ولأنَّه لا يُؤمَن من حدوث ما يلوث المسجد. فإن أقيم به لم يُعد؛ لحصول الزجر. ***

204 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيْبٍ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الخندق: أخدود أحاطه النبي -صلى الله عليه وسلم- على شمال المدينة، لما حاصرها المشركون، عام خمسة من الهجرة؛ ليمنع العدو من الهجوم المباغت على المدينة وأهلها. - سعد: هو: سعد بن معاذ، سيد قبيلة الأوس من الأنصار، من فضلاء الصحابة، رضي الله عنه. - خيمة: هو كل بيتٍ يقام من أعواد الشجر، أو يتخذ من الصوف، أو القطن، ويقام على أعواد، ويشد بأطناب، جمعه: خيمات وخيام. - ليعوده: "اللام" للتعليل، والفعل منصوب بها، وزيارة المريض تسمى: عيادة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سعد بن معاذ أحد سادات الأنصار، شهد بدرًا وأُحُدًا، وأصيبَ يوم الخندق في أكحله، فأصابه نزيف لم يرقأ، فجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- يُمَرَّض في خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب، ولتمرضه امرأة، يقال لها: "رفيدة" تعالج المرضى، وسأل -رضي الله عنه- ربه ألا يميته، حتى يقر عينه بمعاقبة بني قريظة، الذين خانوا وصاروا مع الأحزاب، فاستجاب الله دعاءه، فلم يمت حتى قُتِلَ رجالُهم، وسُبِيَ نساؤُهم وأطفالُهم. ¬

_ (¬1) البخاري (463)، مسلم (1769).

2 - غزوة الخندق في شوال عام خمسة من الهجرة، حاصر المدينة فيها قريش، وبعضُ قبائل نجد، بمؤامرة وتدبير من يهود بني النضير الذين بقي منهم حيي بن أخطب اليهودي النضري، وامتد الحصار خمسة وعشرين يومًا، أما المسلمون فحفروا خندقًا شمال المدينة حين علموا بالمؤامرة وعلموا بزحف عدوهم إليهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب]. 3 - وفي الحديث: دلالة على جواز النوم في المسجد، وبقاء المريض فيه، وإن كان جريحًا. 4 - فيه: تقدير أهل الفضل، والسابقة في الإِسلام، وتنزيلهم منازلهم، من الشفقة والعناية والتكرمة. 5 - فيه: هذه الفضيلة لسعد بن معاذ -رضي الله عنه- لمواقفه الكريمة في الإِسلام، فقد أسلم بإسلامه قبيلته جميعًا، وهم بنو عبد الأشهل، وله كلام ومقام كريم يوم بدر، حينما استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في القتال، وله حكم فاصل في بني قريظة، ولذا جاء في فضله أحاديث كثيرة، رضي الله عنه. 6 - في الحديث بيان دَور المسجد في صدر الإِسلام، وأنَّه ليس للصلاة فقط، وإنما تلقى فيه العلوم، وتُعقد فيه الرايات، وتفض فيه الخصومات، وتعقد فيه المشاورات، وتحكم فيه جميع الأمور. ***

205 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَسْتُرُنِي، وَأنَا أنْظُرُ إِلَى الحَبشَةِ، يَلْعَبُونَ في المسْجِدِ ... " الحديث. مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الحبشة: جيل من الناس من السود في أفريقيا، وتسمى بلادهم الآن أثيوبيا، وعاصمتها "أديس أبابا" تحدها شمالاً أرتيريا، وشرقًا الصومال، وغربًا السودان، دخلها الإِسلام في القرن السابع. - يلعبون: يطلق اللعب على كل ما يلعب به، ورواية مسلم: "يلعبون في المسجد بحِرابهم". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحبشة جُبِلُوا على حب اللعب والطرب؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سمح لهم بإقامة غرضهم هذا في المسجد، مراعيًا في ذلك سياسية شرعية هامة، أشار إليها في بعض ألفاظ الحديث، وهي: (أ) إعلام الطوائف التي لم تدخل في الإِسلام -لخوفها من شدته وعنفه- أنَّ الإِسلام دين سماح، وانشراح، وسعة، لاسيما من تلك الطوائف، طائفة اليهود، الذين ينأون عنه وينهون عنه؛ ولذا جاء في بعض ألفاظ الحديث أنَّ عمر أنكر عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعهم؛ لتعلم اليهود أنَّ في ديننا فسحة، وأني بعثتُ بالحنيفية السمحة". ¬

_ (¬1) البخاري (454)، مسلم (892).

(ب) أنَّ لعبهم كان في يوم عيد، والأعياد هي أيام فرح ومسرة، وتوسُّع في المباحات. (ج) أَنَّه لعب رجال فيه خشونة، وحماس، وشجاعة. 2 - أنَّ لعبهم بحرابهم فيه تدريب على الشجاعة، والبسالة، والقتال، والاستعداد للعدو، وفيه مصلحة شرعية عامة. فسماحة الإِسلام ويسره مع تلك المبررات الهادفة، سوَّغت قيام مثل هذا في المسجد النبوي الشريف. 3 - أما رد الخبر بأنه منسوخ، أو بأنَّ اللعب خارج المسجد ونحو ذلك -فتعسفات لا دليل عليها ولا سند لها. ولا يعارضه ما أخرجه ابن ماجه (750)، والطبراني في الكبير (8/ 132)، والبيهقي (10/ 103) عن وائلة بن عدي؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "جَنبِّوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم" فهؤلاء ليسوا بصبيان، ولا بالمجانين، الذين يأتون بما يشغل المصلين وقت الصلاة. وأيضًا هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، قال ابن حجر: له طرق وأسانيد، كلها واهية. وقال عبد الحق: لا أصل له. 4 - في الحديث دليلٌ على أنَّ المرأة تنظر إلى الرجال الأجانب، إذا لم يكن ذلك نظر شهوة. 5 - وفي الحديث بيان يسر الشريعة وسماحتها، وأنَّ نهجها مخالف لما عليه كثير من المتشددين والمتنطعين، الذين يرون الدين شدةً وجفاءً، وغلطة وعنفًا؛ فقد جاء في صحيح البخاري (3931): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "دَخَلَ عَلَى عائشة أيام مني، وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على فراشه وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر، فانتهرهما، فكشف عن وجهه، وقال: يا أبا بكر! دعهما؛ إنَّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا". فهذه سماحة الإِسلام وأحكامه.

6 - أما استغلال هذه النصوص الشريفة وأمثالها، واستغلال سماحة الإِسلام لإفشاء الأغاني المحرمة، والمجالس الخليعة، والأصوات الفاتنة الرقيقة الرخيمة، والمناظر المخجلة -فهذا لا يجوز؛ فهذا شيء، وهذ شيء آخر، والإِسلام وسط بين الغالي والجافي، والله الهادي إلى سواء السبيل. ***

206 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِينِي، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي ... " الحَديث. مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وليدة: الأمة الصبية إلى أن تبلغ، جمعها: ولائد. - خِباء: -بِكسر الخاء المعجمة ثم موحدة تحتية فهمزة ممدودة-: الخيمة تكون من وبر أو صوف، وقد تكون من شعر، جمعها أخبية، مثل كساء وأكسية، وتكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه الوليدة السوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها، فجاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد النبوي، فكانت تأتي إلى عائشة فتتحدث عندها. 2 - الحديث يدل على جواز الإقامة، والمنام في المسجد حتى من النساء، لاسيما لمن لم يكن له مأوى يقيم فيه، كما كان أهل الصُّفة ملازمين صفة في مسجده -صلى الله عليه وسلم-. 3 - جواز ضرب الخباء والخيمة في المسجد، للمقيم فيه والمعتكف، إذا لم يضيق على المصلين، فإن ضيَّق أزيل؛ لأنَّ حاجتهم العامة إلى العبادة مقدمة على حاجته الخاصة. 4 - أصحاب الصفة -وهو مكان مظلَّل في المسجد النبوي- هم طائفة من فقراء ¬

_ (¬1) البخاري (439)، ولم يروه مسلم.

الصحابة منقطعين للعبادة، وفي نفس الأمر مستعدون للجهاد، ونصر دين الله وإعلاء كلمته، فهم حين يحصل النفير، أو الأمور الهامة للإسلام والمسلمين في مقدمة الصفوف، ولم ينقطعوا فيها، ويهملوا أمر المسلمين، كما يتذرع بذلك جهَّال المتصوفة إلى الانقطاع في الزوايا، والخلوات؛ ليتركوا الجهاد وأمور المسلمين، التي ورد الشرع بالقيام بها. فالإِسلام دين الفتوة والنشاط والحركة، وليس دين المسكنة، والانزواء، والانطواء، فالمؤمن القوي خير وأحب إلا الله من المؤمن الضعيف، فالانزواء والانطواء، والبعد عن أحوال المسلمين، ومهام أمورهم سلبية لا يرضاها الإِسلام. ***

207 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيْئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - البصاق: بضم الباء، وفيه ثلاث لغات: بالزاي والصاد والسين، والأوليان مشهوران، والبصاق: هو ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فهو ريق. - خطيئة: بوزن فعيلة، بالهمزة، ويجوز قلبها ياءً، والخطيئة: هي الإثم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - البصاق -ومثله المخاط- في المسجد من الخطايا والذنوب؛ لأنَّ هذا يدل على أنَّ من فعل ذلك، فإنه لا يعظم المسجد، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. 2 - يعارض هذا الحديث ما تقدم من حديث أنس في الصحيحين: "فليبصق عن يساره تحت قدمه". ووجه الجمع بينهما ما قاله الإِمام النووي: هما عمومان، لكن الإذن في البصق إذا لم يكن في المسجد، ويبقى عموم الخطيئة إذا كان في المسجد، من دون تخصيص. 3 - المراد بالبصاق هنا: إذا وقع خطأً من غير إرادة، فهو خطيئة معفو عن إثمها، ويؤيد هذا التقييد: ما جاء في البخاري (414)، ومسلم (548): "من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- رأى نخامة في جدار المسجد، فشق عليه، فقام فحكه بيده". وفي رواية النسائي (2/ 52): "فغضب حتى احمرَّ وجهه، فقامت امرأة من ¬

_ (¬1) البخاري (415)، ومسلم (552).

الأنصار فحكتها، وجعلت مكانها خلوقًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما أحسن هذا! ". 4 - الممكن أن يقال: البصاق في المسجد خطيئة، عام خُصَّ منه المصلي حال الصلاة؛ لأنَّه مكفوف عن الحركة، ويبقى البصاق لمن في المسجد، وهو لا يصلي على الأصل في النهي المقتضي للتأثيم، الذي لا يحتمل منه إلاَّ بدفنها، وإنَّ قرينة حكة النخامة من جدار المسجد، ثم سياق الحديث -لتؤكد أنَّ المقصود ترخيص البصاق للمصلى، إذا كان تحت قدمه اليسرى في مسجد أو غيره، وهو ظاهر، والله أعلم. 5 - وجوب العناية بالمساجد وتنظيفها واحترامها، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ...} [الحج: 26]، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...} [النور: 36]، وقالت عائشة: "إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظف وتُطيب". ***

208 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَتَباهَى النَّاسُ فِي المَسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. صححه السيوطي في "الجامع الصغير"، ولم يتعقبه المناوي. وقال في "بلوغ الأماني": أخرجه الأربعة، وأورده البخاري تعليقًا عن أنسٍ، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، وأخرجه أبو داود من طريق أبي قلابة بسند صحيح. * مفردات الحديث: - يتباهى: أي: يتفاخرون بالبناء المزخرف، فيقول بعضهم: مسجدي أحسن من مسجدك، علوًا وزينةً وزخرفةً. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التباهي بالمساجد هو التفاخر بحسن بنائها وزخرفتها وتزويقها وعلوها وارتفاعها وارتفاع سقوفها؛ بأن يقول الرجل للآخر: مسجدي أحسن من مسجدك، وبنائي أحسن من بنائك في مسجدك. وقد تكون المباهاة بالفعل دون القول، كان يبالغ كل واحد في تزيين مسجده، ورفع بنائه، وغير ذلك؛ ليكون أبهى من الآخر، فالواجب ترك ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 134)، أبو داود (449)، النسائي (689)، ابن ماجه (739)، ابن خزيمة (2/ 282).

الغلو فيها، والتزين، ويكتفي بقوة إنشائه وبساطته. 2 - هذه الظاهرة من علامات الساعة، التي لا تقوم إلاَّ على تغير أحوال الناس، ونقص دينهم، وضعف إيمانهم، حينما تكون أعمالهم ليست لله تعالى، وإنما للرياء، والسمعة، والتباهي، والتفاخر. 3 - دلَّ الحديث على تحريم هذا الأمر، وأنه عمل غير مقبول؛ لأنَّه لم يُعمل لله، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: "من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه". [رواه مسلم (2185)]. قال الشيخ تقي الدين: ولا يظن المرائي أنَّه يكتفي بحبوط عمله، لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب. 4 - في الحديث أنَّ نقص الإيمان, وضعف الدين، والإقبال على زهرة الحياة الدنيا من أمارات الساعة وعلاماتها، وأنَّ على المرء الفَطِن الكَيِّس ألا تغره هذه المظاهر، ولا تخدعه تلك الزينات، فإنَّما هي زائلة، ولا ينفع إلاَّ الباقيات الصالحات. 5 - فيه: أنَّ المسلم قد يقوم بالعمل الذي صورته الصلاح، ويظن أنَّه قام بعمل خيري، ولكنه لم يَحْتَطْ لنفسه، فيدخل عليه الشيطان من جانب آخر، فينخدع فيبطل أصل عمله، فعلى العامل لوجه الله أن يحتاط لدينه، ولذا قال تعالى في حق مثل هؤلاء: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف]. 6 - فيه: إثبات قيام الساعة وإثبات المعاد، وهو معلوم من الدين بالضرورة، ولله الحمد. ***

209 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المسَاجِدِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ أبنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله، وقال الشوكاني: صححه ابن حبان، ورجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - بتشييد المساجد: يقال: شاد البناء يشيده: طَلاَه بالشيد -بالكسر- والشيد: كل ما طلي به البناء من جص أو نُورَةٍ أو رخام أو دهان، وتشييد البناء أيضًا بإعلائه وتطويله، ورفع سقوفه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس: لتزخرف كما زخرفت اليهود والنصارى معابدهم. وهذا الإدراج عن ابن عباس مهم، له حكم الأخبار النبوية؛ فإنَّ فيه من أنباء الغيب، فلا يكون بالرأي، وقد وقع هذا الأمر. 2 - دلَّ ظاهر الحديث على تحريم الزخرفة والتزويق في المساجد؛ لأنَّه من عمل اليهود والنصارى، والتشبه بهم محرَّم، فمن تشبه بقوم فهو مثلهم. 3 - زخرفة المساجد ليست من السنة، بل من البدع، على ما فيه من الإسراف في ¬

_ (¬1) أبو داود (448)، ابن حبان (1615).

النفقة، وهو محرَّم، مع ما في ذلك من إشغال القلوب، وإذهاب الخشوع الذي هو روح العبادة. 4 - قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أمرت" استفيد منه أنَّه لا يحسن ذلك، وأنَّه لو كان حسنًا وقُربة لأمر الله تعالى به، فالمساجد في الإِسلام ما أكنَّت من البرد والحر، وأذرت من المطر، وما زاد فهو مشغلة للقلب، ومضيعة للمال. 5 - قال في "شرح الإقناع": ويكره أن يزخرف المسجد بنقش، وصبغ، وكتابة، وغير ذلك، مما يلهي المصلي عن صلاته. 6 - كان مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- باللَّبِن، وسقفه بالجريد، وعُمُده خشب النخيل، ولم يزد فيه أبو بكر -رضي الله عنه- ولما نخرت خشبه وجريده زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أعاده علي بنائه الأول، وزاد فيه، ولما كان في عهد عثمان -رضي الله عنه- زاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالأحجار والجص، وجعل عُمُده من الحجارة، وسقفه الساج، فأدخل فيه ما يفيد القوة، ولا يقتضي الزخرفة. قال ابن بطال: وهذا يدل على أنَّ السنة في بنيان المساجد هو ترك الغلو في تحسينها، فقد كان عمر مع كثرة الفتوحات في أيامه، وكثرة المال عنده، لم يغير المسجد، كما كان عليه، وكذلك في زمن عثمان زاده، ولم يزخرفه. ***

210 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى القَذَاهُّ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، لكن له شواهد. ورواه أبو داود، وقال الترمذي: هد ذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، وقد ذاكرت به البخاري، فلم يعرفه واستغربه، وقال: لا أعرف للمطلب سماعًا من أنس. ونقل المناوي "في فتح القدير" عن الحافظ ابن حجر، قال: في إسناده ضعف، لكن له شواهد. * مفردات الحديث: - عُرضت: فعل ماضٍ، مبني للمجهول، وهو من: عرض يعرض عرضًا، من باب ضرب، وعرضت الشيء: أظهرته وأبرزته. - أجور: جمع أجر، وهو الثواب على الحسنات، وهو نائب الفاعل. - أمتي: أمة الرسول نوعان: أحدهما: أمة الدعوة، التي تشمل كل من دُعِي إلى الدين. والثاني: أمة الإجابة، وهم الذين اتَّبعوه، وهم المراد هنا. - القَذاة: بفتح القاف المثناة، وبعدها ذال معجمة مفتوحة، ثم ألف ثم تاء التأنيث، جمعها: قذًى بزنة حَصًى، والقذاة: ما يسقط في العين والشراب، والمراد هُنا: كِسَرُ الأخشاب. ¬

_ (¬1) أبو داود (461)، الترمذي (2916)، ابن خزيمة (2/ 271).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثواب أعمال أمته، كبيرها وصغيرها، حتى ثواب القذاة، التي يخرجها الرجل من المسجد. 2 - فيه: دليل على أنَّ الأعمال تحصى كلها، الكبير منها والحقير، وتُوفَّى أصحابها؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة]. 3 - الظاهر أنَّ أعمال أمته عرضت عليه ليلة عرج به، فاطَّلع على أعمال أمته، وثوابهم عليها. 4 - فيه: دليل على تعظيم المساجد واحترامها، ومشروعية تنظيفها وتطييبها، كما جاء في مسند أحمد (25854) عن عائشة قالت: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد، وأن تُنظف وتطيب" فتعظيمها من تعظيم حرمات الله. 5 - المنقبة الكبيرة لنبينا -عليه الصلاة والسلام- حيث أراه الله تعالى من آياته، وأطلعه على شيء من غيبه؛ ليزداد بصيرة ويقيناً، مما يزيده نشاطًا في دعوته، وحماسًا في رسالته، فعين اليقين أرسخ من علم اليقين، ولذا قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فأراه الله تعالى ما طمأن قلبه، وزاد في إيمانه. 6 - في الحديث أنَّ المسلم لا يَحْقِر من الأعمال شيئًا؛ سواء أكانت حسنة أم سيئة، فيأتي الحسنات كبرت أو صغرت، ويتجنب السيئات كبيرها وصغيرها، فالكل محصى في كتاب مبين. ***

211 - وَعَنْ أَبِي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذا دخل: "إذا" شرطية، وفعلها "دخل". - فلا يجلس: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم، وهو جزاء الشرط. - ركعتين: أطلق الجزء وأراد الكل، وهذا كثير، والغالب أنَّ الجزء المذكور لم يعين إلاَّ لأهميته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نُهِيَ داخل المسجد أن يجلس حتى يصلي ركعتين، تسميان تحية المسجد. 2 - ظاهر الحديث الأمر بهما للوجوب، وحمله جمهور العلماء على الندب والاستحباب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- للذي يتخطى رقاب الناس: "اجلس، فقد آذيت"، ولم يأمره بالصلاة. ولقوله -صلى الله عليه وسلم- لمن علَّمه أركان الإِسلام، وفيها الصلوات الخمس، دون تحية المسجد. 3 - ظاهر الحديث أنَّهما تصليان في أي وقت، سواء أكان وقت نهي أم لا، وفي ذلك خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. 4 - ظاهر الحديث أنَّ الداخل إذا جلس فاتتا عليه، ولكن قال جمع من أهل العلم: إذا لم يطل الوقت، فإنَّهما تستدركان، فيصليهما؛ لما روى ابن حبان ¬

_ (¬1) البخاري (1163)، مسلم (714).

في صحيحه (2/ 76) من حديث أبي ذر: "أنَّه دخل المسجد، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قُمْ فاركعهما". 5 - قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: الطواف تحية الكعبة، وتحية المسجد الحرام الصلاة، وتجزيء عنها الركعتان بعد الطواف. وهذا لا ينافي أنَّ تحية المسجد الحرام الطواف؛ لأنَّه مجمل وذا تفصيل، ذكر معناه في الإقناع. قال في "سبل السلام": لو دخل المسجد الحرام، وأراد القعود قبل الطواف، أو لم يرد الطواف، فإنَّه يشرع له التحية، كغيره من المساجد. 6 - إذا دخل المسجد وهم في المكتوبة، وهو يريد الصلاة معهم، فإنَّه يجب عليه أن يدخل معهم، ولا يجوز له الانشغال بصلاة غير المكتوبة؛ لما في صحيح مسلم (710): "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلاَّ المكتوبة". وتجزيء عن تحية المسجد، فإنه إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد، دخلت إحداهما في الأخرى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الصلوات ذوات الأسباب؛ كتحية المسجد، وركعتي الوضوء، وصلاة الكسوف، هل تصلى وقت النَّهي أم لا؟: فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنَّ جميع التطوعات لا تصلى في وقت النهي عدا ركعتي الطواف، وعند الحنفية: حتى ركعتا الطواف، لا يصليها في أوقات النَّهي، مستدلين بعموم أحاديث النَّهي. وذهب الشافعية وإحدى الروايتين في مذهب أحمد إلى: أنَّ النَّهي خاص بالنفل المطلق عن السبب، أما الصلوات ذوات الأسباب فجائزة عند وجود سببها.

واستدلوا بالأحاديث الخاصة بهذه الصلوات؛ فإنَّها مخصِّصة لأحاديث النَّهي العامة. واختار هذه الرواية شيخ الإِسلام ابن تيمية، وغيره من أصحاب الإِمام أحمد. قال المجوزون: إنَّه بهذا تجتمع الأدلة كلها، ويعمل بأحاديث الجانبين كلها. ***

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة مقدمة صفة الصلاة هي: الهيئة الحاصلة في الصلاة، بما لها من الأركان والواجبات والسنن, وهي تبرىء الذمة وتسقط الواجب، إذا أداها العبد بشروطها وأركانها وواجباتها فقط. وهي أعظم العبادات وسيلة إلى مرضاة الله تعالى، وحصول ثوابه، إذا صاحب أداءَ الواجبات الخشوعُ، والخضوع، والطمأنينة، وجمع؛ القلب على الله تعالى، بحيث يؤديها بحال المراقبة لله تعالى، والتفكر والتدبر لما يقول من القراءة، والذكر، والدعاء، ولما يفعل من هيئات القيام، والركوع، والسجود، والقعود. قال الغزالي: لن تصل أيها المسلم إلا القيام بأوامر الله تعالى، إلاَّ بمراقبة قلبك وجوارحك، في لحظاتك وأنفاسك، من حين تصبح إلا حين تمسي، فاعلم أنَّ الله مطلع على ضميرك، ومشرف على ظاهرك وباطنك، ومحيط بجميع خطواتك وخطراتك، وسائر سكناتك وحركاتك، فتأدب في حضرة الملك الجبار، واجتهد ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدكَ حيث أمرك. واعلم أنَّ الله مطلعٌ على سريرتك، وناظر إلى قلبك، فإنَّما يتقبَّل من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك، فاعبده في صلاتك كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، فإن لم يحضر قلبك، ولم تسكن جوارحك، فهذا لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فعالج قلبك، عساه أن يحضر معك صلاتك، فإنَّه ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عَقلتَ منها. اهـ كلامه، رحمه الله تعالى.

212 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: إِذَا قُمتَ إِلى الصَّلاةِ فَأسْبغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمِّ اقْرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذلك في صلاَتِكَ كُلِّهَا". أَخْرَجَهُ السَّبعةُ، واللَّفظُ للبُخَارِيِّ. ولابن ماجهُ بإسْنَادِ مسُلمٍ: "حتَّى تطْمَئِنَّ قَائِمًا" (¬1). ومِثله في حَدِيثِ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ: "حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا". ولأحْمَدَ: "فَأَقِمْ صُلْبكَ حَتَّى تَرْجِعَ العِظَامُ". وَللنَّسَائِيِّ وَأبي داودَ مِنْ حَديث رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ: "إنَّها لَنْ تَتِمَّ صَلاَة أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبغَ الوُضُوءَ، كَمَا أمَرَهُ اللهُ تَعَالى، ثُمَّ يُكَبِّرَ الله تَعالى، ويَحْمَدَهُ وَيثْنِيَ عَلَيْهِ". وفِيها: "فَإنْ كانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأ، وإلاَّ فَاحْمَدِ الله، وَكبِّرْهُ، وَهَلِّلْهُ". ولأبِي دَاودَ: "ثُمَّ اقْرَأ بِأُمِّ الكِتَابِ، وَبِمَا شَاءَ اللهُ". ¬

_ (¬1) البخاري (757)، مسلم (397)، أبو داود (856)، الترمذي (303)، النسائي (884)، أحمد (2/ 437)، ابن ماجه (1060).

ولابنِ حِبَّانَ: "ثُمَّ بِمَا شِئْتَ" (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أسبغَ: يقال: سبع يسبغ سبوغًا، من باب قعد: تمَّ وكَمُلَ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أسبغت الوضوء: أتممته؛ أي: أبلغته مواضعه، ووفَّيت كل عضو حقه. - أم الكتاب: هي الفاتحة، سميت بذلك؛ لجمعها المعاني العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، ولأنَّها فاتحته في التلاوة والكتاب. - ما تيسر من القرآن: ما سهل عليك معرفته من القرآن، والمراد بذلك سورة الفاتحة؛ لأنَّها أيسر سورة تحفظ من القرآن، ولما جاء في أبي داود: "فاقرأ بأم الكتاب". - راكعًا: الركوع: حني الظهر حتى تمس اليدين الركبتين، وكماله حتى يستوي الرأس بالظهر. - حتى تطمئن راكعًا: جاء في تفسير الطمأنينة في بعض روايات الحديث، بقوله: "حتى تطمئن مفاصلك، وتسترخي"، و"حتى تستوي جالسًا"، "فأقم صلبك حتى ترجع العظام"، و"يسجد حتى يمكن وجهه وجبهته"، فهذه تفاسير الطمأنينة في هذه الأركان ونحوها، و"حتى" في هذه المواضع لغاية ما يقع به الركن، فدلت "حتى" على أنَّ الطمأنينة داخلة فيه. - راكعًا: منصوبَة على أنَّها حال مؤكدة. - أقم صلبك: بضم الصاد وسكون اللام، وقد تضم اللام للاتباع، وهو فقار الظَّهر، قال تعالي: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق]. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 340)، ابن حبان (5/ 212)، أبو داود (858، 859)، النسائي (1136).

ويجمع على: أصلاب وأصلب. - كبره وهلله: كلمتان منحوتتان من "الله أكبر" و"لا إله إلاَّ الله"، والنحت: هو جمع حروف الكلمة وتركيبها، من كلمتين أو كلمات. - فكبر: يعني: قل: "الله أكبر" لا يقوم غيرها مقامها، وتكون همزة "الله" مقصورة، فإن مدها, لم تنعقد صلاته؛ لأنَّها صارت همزة استفهام. ومثلها في القصر همزة "أكبر" فهي بالمد تكون استفهامًا، وإن قال: "أكبَار" لم تنعقد صلاته؛ لأنه جمع "كَبَر"، والكبر: الطبل، فيكون "أكبار" بمعنى: طبول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا حديثٌ عظيمٌ جليلٌ يسميه العلماء "حديث المسيء في صلاته". 2 - قصة الحديث أنَّ رجلًا من الصَّحابة، اسمه: "خلاد بن رافع"، دخل المسجد فصلى صلاة غير مجزئة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه، فلما فرغ من صلاته، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم قال: "ارجع فصل؛ فإنَّك لم تصلِّ"، فرجع وعمل في صلاته الثانية، كما عمل في صلاته الأولى، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "ارجع فصل؛ فإنَّك لم تصل" ثلاث مرات، فأقسم الرجل أنَّه لا يُحسن من الصلاة إلاَّ ما فعل، فعندما اشتاق إلى العلم، وتهيَّأ لقبوله، علَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يصلي، كما جاء في الحديث. وذلك بأن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يركع حتى يطمئن راكعًا، ثم يعتدل من الركوع ويطمئن، ثم يسجد فيطمئن، ثم يجلس بعد السجود ويطمئن، ثم يسجد أخرى ويطمئن، ثم يفعل هكذا في صلاته كلها، ما عدا تكبيرة الإحرام، الخاصة بالركعة الأولى. 3 - ما ذُكر في هذا الحديث -من الأقوال والأفعال- هو مما يجب في الصلاة، وما لم يذكر فيه يدل على عدم وجوبه، ما لم يثبت بدليلٍ آخر؛ ذلك أنَّ ما

ذكر فيه قد سُبق بلفظ الأمر، بعد قوله: "ارجع فصل؛ فإنك لم تصل"، كما أنَّه سيق مساق الاستقصاء، في تعلم ما يجب في الصلاة. وأما الاستدلال به على أنَّ كل ما لم يذكر فيه لا يجب، فلأنَّه مقام تعليم جاهل لواجبات الصلاة، فلو ترك بعض ما يجب، لكان منه تأخيرٌ للبيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز بالإجماع. 4 - طريق الاستدلال بهذا الحديث على ما يجب، وما لا يجب من أقوال الصلاة وأفعالها، هو أن تُحْصَى ألفاظ الحديث الصحيحة, وكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في الاستدلال على هذا الحديث، فإنَّنا نتمسك بوجوبه، ما لم يأت دليل معارض أقوى منه. وكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث الذي سيق مساق التعليم، وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث، احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب، واحتمل البقاء على الظاهر، فيحتاج إلى مرجع للعمل به. 5 - يدل الحديث على وجوب الأعمال المذكورة في هذا الحديث؛ بحيث لا تسقط سهوًا ولا جهلًا، وهي: (أ) تكبيرة الإحرام: وهي ركن من أركان الصلاة في الركعة الأولى فقط. قال الغزالي: التكبير معناه: تعظيم الباري جلَّ وعلا، بأنَّه أكبر من كل شيء وأعظم، وهو متضمن تنزيهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، وحكمة الاستفتاح به استحضار عظمة من يقف بين يديه، وأنَّه أكبر شيء يخطر بباله، ليصيب الخشوع والحياء من يشتغل فكره بغيره، ولهذ أجمع العلماء على أنَّه ليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل منها. (ب) قراءة الفاتحة في كل ركعة، ثم الركوع، والاعتدال منه، ثم السجود، والاعتدال منه، والطمأنينة في كل هذه الأفعال، حتى في الرفع

من الركوع والسجود، خلافًا لمن لم يوجبْها في هذين الركنين. (ج) أما بقية الأركان -كالتشهد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتسليم- فقال البغوي: إنَّها معلومة لدى السائل. 6 - يفعل هذه الأركان في كل ركعة من أركان الصلاة، عدا تكبيرة الإحرام، فهي في الركعة الأولى دون غيرها. 7 - جاء في صفة الاعتدال بعد الركوع في هذا الحديث، لفظ: "حتى تطمئن قائمًا"، وجاء فيه: "فأقم صلبك حتى ترجع العظام"؛ والعلماء أمام هذا التغاير بين ألفاظ الحديث، يذهبون مذهب التعارض، ولكن هذا المخرج قد لا يمكن في بعض الأحاديث، والأفضل حينئذ هو الجمع بين النصين، ما أمكن الجمع، فإن لم يمكن فإننا ندع الشاذ، ونأخذ بالمحفوظ والراجح. ففي هذا الحديث نأخذ بقوله: "حتى تطمئن قائمًا"، فإنَّه أبلغ من "حتى ترجع العظام"؛ لأنَّ الطمأنينة رجوع العظام وزيادة. 8 - الطمأنينة: قال فقهاؤنا: هي الركن التاسع من أركان الصلاة، في الركوع، والاعتدال منه، والسجدة، والجلوس بين السجدتين، وفي قدرها وجهان: أحدهما: أنها السكون وإن قلّ، وهي المذهب. الثاني: أنَّها بقدر الذكر الواجب، قال المجد وغيره: وهذا هو الأقوى. قال في "الإنصاف": وفائدة الوجهين إذا نسي التسبيح في ركوعه أو سجوده، أو التحميد في اعتداله، أو سؤال المغفرة في جلوسه، فصلاته صحيحة على الوجه الأول، ولا تصح على الثاني. والوجه الثاني هو القول الصحيح في قدر الطمأنينة. 9 - وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع، والرفع من السجود، وسيأتي بيانه إن شاء الله. 10 - وجوب الوضوء وإسباغه للصلاة، وأنَّ ذلك شرط.

11 - وجوب استقبال القبلة للصلاة، وأنَّ ذلك شرط. 12 - وجوب الترتيب بين الأركان؛ لأنَّه ورد بلفظ "ثم"، كما أنَّه مقام تعليم جاهل بالأحكام. 13 - أنَّ هذه الأركان لا تسقط جهلًا ولا سهوًا، بدليل أمر المصلي بالإعادة، ولم يكتف -صلى الله عليه وسلم- بتعليمه، ولأنَّها من باب المأمورات التي لا يعذر تاركها بجهل ولا نسيان. 14 - أنَّ صلاة المسيء بالكيفية التي صلاها غير صحيحة، ولا مجزئة، ولولا ذلك لم يؤمر بإعادتها, وليكن في ذلك عبرة وعظة لمن ينقرون صلاتهم، ولا يتمونها, وليعلموا أنَّها صلاة غير مجزئة. قال شيخ الإِسلام: قوله: "فإنَّك لم تصل" نفى أن يكون عملُه صلاةً، والعمل لا يكون منفيًا إلاَّ إذا انتفى شيء من واجباته، فلا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات. وقال الصنعاني: لا يتم حمل النفي على نفي الكمال، فإنَّ كلمات النفي موضوعة لنفي الحقيقة. 15 - أنَّ من أتى بعبادة على وجه غير صحيح جهلًا، ومضى زمنها، فإنَّه لا يطلب منه إعادتها؛ بناءً على القاعدة الشرعية التي ذكرها شيخ الإِسلام ابن تيمية، بقوله: "أوامر الشرع لا تلزم المكلف إلاَّ بعد عليه بها، وكذلك من ترك واجبًا قبل بلوغ الشرع، كمن لم يتيمم لعدم الماء؛ لظنه عدم الصحة، أو لم يترك الأكل حتى يتبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود". 16 - مشروعية حسن التعليم، وطريقة الأمر بالمعروف؛ بأن يكون بطريقة سهلة ميسرة، حتى لا ينفره، فيرفض المتعلم إذا عُلِّم بطريق العنف والشدة والغلظة. 17 - يستحب للمسؤول أن يزيد في الجواب إذا اقتضت المصلحة، ذلك كأن تكون قرينة الحال تدل على جهل السائل، ببعض الأحكام التي يحتاجها.

18 - أنَّ الاستفتاح، والتعوذ، والبسملة، ورفع اليدين، وجعلهما على الصدر، وهيئات الركوع، والسجود، والجلوس، وغير ذلك -كلها مستحبة. 19 - قوله: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، القرآن: هو كلام الله تعالى حقًّا؛ قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فليس هو عبارة عن كلام الله، كما تقوله الأشاعرة، ولا حكايه عن كلام الله، كما تقوله الكرامية، ولا مخلوقًا، كما تقوله المعتزلة، ولكنه كلامه هو، كما قاله هو جلَّ وعلا، وبلَّغه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واعتقده الصحابة والتابعون، وأتباعهم من أئمة السلف الصالح، وبهذا يعرف فضل هذا القرآن، وأنَّه أشرف الكلام، وأصدقه، وأعدله، وأفصحه، وأبلغه. 20 - أنَّ المعلِّم يبدأ في تعليمه بالأهم فالأهم، وتقديم الفروض على المستحبات. *خلاف العلماء: ذهب الحنفية إلى: صحة الصلاة بقراءة أي شيء من القرآن، حتى من قادر على الفاتحة عالم بها، مستدلين بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] واستدلُّوا أيضًا بإحدى روايات هذا الحديث "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن". وذهب الجمهور إلى: عدم صحة الصلاة بدون الفاتحة لمن يحسنها، مستدلين بما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا نفي لحقيقة الصلاة، لا لكمالها. وأجابوا عن الآية: بأنَّها جاءت لبيان ما يقرأ في صلاة الليل، بعد الأمر في أول السورة بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل] فخففت القراءة والصلاة إلى المتيسر من ذلك.

وأما رواية الحديث: فمجملة، فسَّرتها الروايات الآخر عند أبي داود (856): "اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله" وقد سكت عنه، أبو داود، وما سكت عنه فهو صالح. ولابن حبان (5/ 88) في حديثه: "واقرأ بأم القرآن، وبما شئت". قال ابن الهمام: الأولى الحكم بأنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال للمسيء في صلاته ذلك كله. واختلف العلماء في قراءة الفاتحة؛ هل تكون في الركعتين الأوليين، أم في جميع الصلاة؟ فذهب بعض العلماء إلى: وجوب الفاتحة في الركعتين الأوليين دون غيرهما. وجمهور العلماء: يرون وجوبها في كل ركعة، ويدل عليه قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". قال الحافظ ابن حجر: وحديث أبي قتادة في البخاري، من كونه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" -دليل الوجوب. واختلف العلماء في وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع، وما بين السجدتين. فذهب الحنفية إلى: عدم وجوبها في الرفع من الركوع، وما بين السجدتين. وذهب جمهور العلماء من فقهاء المذاهب الأربعة إلى: وجوب الطمأنينة في الاعتدال بعد الركوع، والجلسة بعد السجود، كما هو محل اتفاق في بقية الأركان، وحجة الجمهور بعض روايات هذا الحديث التي أمرت بالطمانينة فيهما، وما جاء في البخاري (759)، ومسلم (471)، من حديث البراء بن

عازب: "أنَّه رمق صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريبًا من السواء". * فائدة: قال ابن الملقن في "شرح العمدة": اعلم أن الواجبات في الصلاة على ضربين: متفق عليه، ومختلف فيه، وليس هذا الحديث موضوعًا لحصرها، بل لحصر ما أهمله هذا الرجل المصلي وجهله في صلاته، فقد استدل به الكثير من الفقهاء على أنَّ ما ذكر فيه فهو واجب، وما لم يذكر فليس بواجب؛ فليس الحديث موضوعًا لبيان سنن الصلاة اتفاقًا. ***

213 - عنْ أَبي حُمَيْدٍ السَّاعِديِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنكِبيَه، وَإذَا رَكعَ أمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبلَ بِأَطْرَافِ أصَابعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةِ، وإِذَا جَلَسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ اليُمْنَى، وَإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ" أَخْرجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أمكن يديه: يقال: مكنه من الشيء، وأمكنه منه: أقدره عليه، وأمكن يديه من ركبتيه؛ أي: مكن اليد من الركبة في القبض عليها. - جعل يديه حذو منكبيه: "حذْوَ" بفتح الحاء وسكون الذال، يقال: حاذى الشيءُ الشيءَ محاذاة: صار بحذائه وإزائه؛ يعني: أنَّ المصلي يرفع يديه -عند تكبيرة الإحرام- حتى تحاذي منكبيه. - منكبيه: المنكب: -بفتح الميم وكسر الكاف-: هو مجتمع رأس العضد والكتف، مذكرًا. - هصر ظهره: بفتح الهاء فصادٌ مهملةٌ مفتوحة فراءٌ، أصل الهصر: أن يأخذ برأس العود، فيثنيه إليه ويعطفه. قال الخطابي: ثنى ظهره في استواء من غير تقويس، وفي رواية البخاري على الراجح: "حتى ظهره" بالحاء المهملة ¬

_ (¬1) البخاري (728).

والنون، والمعنى واحد. - فقار: بتقديم الفاء على القاف، وبفتح القاف المخففة، جمع "فقيرة"، وهي عظام فقرات الظهر المستقيمة من عظام الصلب، من لدن الكاهل إلى العجب، والجمع: فقر وفقار، قال ثعلب: فقار الإنسان سبع عشرة. - رُكبتيه: تثنية "ركبة"، جمعه "ركب"، مثل: غرفة وغرف، والركبة: موصل ما بين أسفل أطراف الفخذ وأعالي الساق. - مفترش ذراعيه: افتراش الذراعين: هو إلقاؤهما على الأرض. - حنى: بالحاء المهملة والنون، هو بمعنى الرواية الأخرى: "غير مقنع رأسه، ولا مصوِّبه". قال شيخ الإِسلام: الركوع في لغة العرب لا يكون إلاَّ إذا سكن حين انحنائه، وأما مجرد الخفض فلا يسمى ركوعًا. - مقعدته: المقعدة: هي السافلة من الشخص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب تكبيرة الإحرام بقول: "الله أكبر"، ولا تنعقد الصلاة بدونها. 2 - استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام. قال في "شرح الإقناع": ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، ويسقط ندب رفع اليدين مع فراغ التكبير كله؛ لأنَّه سنة فات محلها. قال الحافظ: روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابيًّا، منهم العشرة المبشرون بالجنة، وهو سنة عند الأئمة الأربعة. 3 - استحباب تمكين يديه من ركبتيه أثناء الركوع، وتفريج أصابعه، وأحاديث وضع اليدين على الركبتين في الركوع -بلغت حد التواتر. 4 - استحباب هصر المصلي ظهره أثناء الركوع؛ ليستوي مع رأسه، فيكون الرأس بإزاء الظهر، فلا يرفعه ولا يخفضه. 5 - ثم يرفع رأسه، ويديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ويقول الإِمام والمنفرد:

"سمع الله لمن حمده"، ويقول المأموم: "ربنا ولك الحمد"، ويبقى مستويًا مطمئنًا، راجعًا كل فقار من فقرات الظهر إلى مكانه. 6 - ثم يسجد ويضع كفيه على الأرض، غير مفترش لذراعيه، موجهًا أصابع يديه إلى القبلة، غير قابض لهما. 7 - يضع قدميه على الأرض، مستقبلًا بأطراف أصابعه القبلة. 8 - إذا جلس في التشهد الأول فرش رجله اليسرى، وجلس عليها، ونصب اليمنى مستقبلاً بأصابعها القبلة. 9 - إذا جلس في التَّشهد الأخير -للصلاة التي فيها تشهدان- جلس متورِّكًا، بأن يقدم رجله اليسرى ويخرجها من تحته، وينصب اليمنى، ويضع إليتيه على الأرض. 10 - قال الفقهاء: المرأة تفعل مثل ما يفعل الرجل في جميع ما تقدم، حتى رفع اليدين، لكن تضم نفسها في ركوع وسجود وغيرهما، فلا تتجافى، وتسدل رجليها في جانب يمينها في جلوسها، والتربع والسدل أفضل؛ لأنَّه أستر لها، قال في "الإنصاف": بلا نزاع. ***

214 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... إِلى قَوْلِهِ: مِنَ المُسْلِمِيْنَ اللَّهُمَّ انْتَ المَلِكُ لاَ إِله إلاَّ أنْتَ، أنْتَ رَبَيِّ وَانا عَبْدُكَ ... إِلى آخرِهِ". رواهُ مُسْلِمٌ. وفي رِوَايَةٍ لهُ: "إنَّ ذَلكَ في صلاَةِ اللَّيْلِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجةُ الحديث: قول المؤلف: وفي رواية لمسلم: "أنَّ ذلك في صلاة الليل" قال عنه في "تحفة الأحوذي": هذا الحديث روي في مسلم من وجهين، ليس في واحد منهما أنَّ ذلك في صلاة الليل، ورواه الترمذي من ثلاثة أوجه، ليس في واحد منها أنَّ ذلك في صلاة الليل، ورواه أبو داود من وجهين لم يقع في واحد منهما أنَّ ذلك في صلاة الليل؛ فهذا وهمٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- والله أعلم. وتمام دعاء الحديث: " ... حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسْكِي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين". * مفردات الحديث: - وجَّهتُ وَجْهِي: أي: توجهت بالعبادة وأخلصتها للذي فطر السموات ... إلخ. - فاطر السموات والأرض: الفطر: الابتداء، وهو المراد هنا؛ أي: مبتدىء خلق السموات والأرض، ومخترعها على غير مثال سابق. ¬

_ (¬1) مسلم (771).

- حنيفًا: حال، ومعناه: مائل من الباطل إلى الدين الحق، وهو الإِسلام. - نُسُكِي: النسك: العبادة، وكل ما يتقرب به إلى الله، وعطفه على "الصلاة" من باب عطف العام على الخاص. - محيَايَ وَمَمَاتِي: أي: أعمالي في حين حياتي، وعند موتي، فهو المالك لهما المختص بهما، ويجوز فيهما فتح الياء وإسكانها, ولكن فتح الأول وإسكان الثاني أكثر. - لَبيْكَ وسَعْديك: أي أسعد بأمرك، وأتبعه إسعادًا متكررًا، وأجيبك إجابة بعد إجابة، يارب. - أَنَا بكَ وَإِليك: أي: التجائي وانتهائي إليك، وتوفيقي بك. - تباركت: أي: ثبت الخير عندك وكثر. - وجهت وجهي: بإسكان الياء عند الأكثرين وفتحها، أي: قصدت بعبادتي. - لله: متعلق بالجميع؛ أي: كل ما ذكر كائنٌ لله تعالى، وذلك في الصلاة والنسك بالإخلاص لوجهه تعالى، وفي الحياة والموت، بمعنى أنَّه خالقهما ومدبرهما، لا تصرف لغيره فيهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استفتاح الصلاة فرضًا كانت أو نفلاً؛ سواء أكان ذكرًا أم دعاءً، يقال بعد تكبيرة الإحرام، وقبل التعوذ والقراءة، وهو في الركعة الأولى دون غيرها. 2 - هو مندوب وليس بواجب؛ لحديث المسيء في صلاته المتقدم. 3 - وقد ورد له عدة ألفاظ، والأفضل أن يأتي كل مرَّة بلفظ منها؛ ليعمل بجميع النصوص الواردة فيه، وإن اقتصر على بعضها جاز. قال شيخ الإِسلام: يستحب أن يأتي بالعبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها، فلا يجمع بينها, ولا يداوم على نوع منها. 4 - قوله: "قام إلى الصلاة" يعني: إذا دخل فيها، قال هذا الذكر.

5 - "وجهت وجهي" أي: قصدت بعبادتي، فينبغي أن يكون المصلي -حال قوله هذا الذكر- مقبلاً على مولاه، غير ملتفت بقلبه إلى سواه، فيكون على غاية الحضور والإخلاص، وإلاَّ كان كاذبًا، وأقبح الكذب أمام من لا تخفى عليه خافية. 6 - "الذي فطر السموات والأرض": يعني: أوجدهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ومَن أوجد مثل هذه المبدعات، التي هي غاية في الإبداع والإتقان، حقٌّ له أن تتوجه إليه الوجوه، وأن تعول عليه القلوب، فلا يلتفت إلى غيره، ولا يرجى أحد سواه. 7 - "حنيفًا": مائلاً إلى الحق، مستقيمًا عليه. 8 - "مسلمًا": مستسلمًا منقادًا لله تعالى، متوجهًا إليه. 9 - "وما أنا من المشركين": حال مقررة لمضمون الجملة التي قبلها. 10 - "إنَّ صلاتي": العبادة المعروفة فرائضها ونوافلها. 11 - "ونُسكي": ذبحي، الذي أتقرَّب به إلى الله تعالى. وخصَّ هاتين العبادتين الشَّريفتين؛ لمزيد فضلهما، ودلالتهما على محبَّة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، هذا في الصلاة، وببذل ما تحبه النفس من المال في طاعة الله تعالى، وهو الذبح والتقرب إليه بإراقة الدماء. 12 - "محياي ومماتي": ما آتيه في حياتي من الأعمال، وما يقدره ويجريه الله تعالى عليَّ في مماتي. 13 - "لله ربِّ العالمين، لا شريك له" في العبادة، ولا في الملك، ولا في الصفات. 14 - "وأنا من المسلمين" هكذا رواه مسلم (771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3435)، والنسائي (897)، وابن ماجه (760)، وقد رواه

مسلم (771)، وأبو داود (760)، من وجه آخر: "وأنا أول المسلمين"، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- هو أول المسلمين على الإطلاق، وبالنسبة لغيره فليقتصر على: "وأنا من المسلمين" لا غير، إلاَّ أن يقصد لفظ الآية، وحينئذٍ يفوته -إن اقتصر عليها- سنة دعاء الاستفتاح. 15 - قوله: "أنت الملك لا إله إلاَّ أنت": إثبات الإلهيَّة المطلقة لله تعالى -على سبيل الحصر- بعد إثبات الملك. 16 - "أنت ربي وأنا عبدك": أي: أنت مالكي، وموجدي، ومربيني بأنواع النعم والمنن، وأنا عبدك الذليل الخاضع لأمرك، الملتجىء لفضلك. 17 - "ظلمتُ نفسي": بالمخالفة، واعترفت بذنبي، وأنت الكريم الذي نطلب منه المغفرة. 18 - "واغفر لي ذنوبي جميعًا": أي: حتى الكبائر والتبعات. 19 - " لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت": أي: صغائرها وكبائرها، حقيرها وجليلها. 20 - "اهدني لأحسن الأخلاق": ارشدني للأخلاق الحسنة الظاهرة والباطنة، والخُلُق الحسن هيئة نفسانية، ينشأ عنها جميل الأفعال، وكمال الأحوال. 21 - "اصرف عني سيئها" أي: ارفع عني الأخلاق السيئة. 22 - "لبيَّك وسعديك، والخير كله في يديك" أجيبك مرة بعد أخرى، وأحظى وأسعد بإقامتي على طاعتك، وكل فرد من أفراد الخير هو من طَوْلك وإفضالك. 23 - "والشر ليس إليك": الأمور كلها بيد الله تعالى خيرها وشرها، ومعنى هذا أنَّ الشرَّ لا يتقرب به إليك، ولا يصعد إليك، ولا ينسب إليك. 24 - "تباركت وتعاليت": تعاظمت وتمجدت، وأدرت البركة على خلقك، والبركة: هي الكثرة والاتساع. 25 - "وتعاليت": ارتفعت شأنًا وقدرًا، أو تنزهت عمَّا لا يليق بك.

26 - "أستغفرك وأتوب إليك" أطلب منك المغفرة، وأطلب منك التوبة. 27 - "قال المؤلف: وفي رواية: "أنَّ ذلك في صلاة الليل"، قال المحدِّث الشيخ عبد الرحمن المباركفوري في كتابه "تحفة الأحوذي": قول المؤلف هذا فيه نظر؛ فإنَّ الحديث مروي في صحيح مسلم في باب صلاة الليل، بل وقع أحدهما "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، ومثل ذلك في روَايتيْ أبي داود، ووقع في رواية الدارقطني: "إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة، قال: وجَّهتُ وجهي ... إلخ". وقال الشوكاني في "النيل": وأخرجه ابن حبان وزاد: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، ولذلك رواه الشافعي وقيَّده أيضًا بالمكتوبة، فالقول بأنَّ هذا الدعاء مخصوص بصلاة التطوع، ولا يكون مشروعًا في المكتوبة -باطل جدًّا. اهـ كلامه. ***

215 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذَا كَبَّرَ للصَّلاَةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أنْ يَقْرَأَ، فسَأَلْتهُ، فَقَالَ: أَقُولُ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِب، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ، كمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ والثَّلْجِ والبرَدِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - هنيهة: قال في: "القاموس": الهِنو -بالكسر-: الوقت، وهنيهة تصغير: هنية، ويراد بها: السكتة اللَّطيفة. - خطايا: جمع: "خطيئة"، وأصله: خطائي، بهمزة مكسورة بعد المد، يليها ياء متحركة هي لام الكلمة، ثم فتحت الهمزة في الجمع، وقلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار "خطاآ" فكرهوا اجتماع ألفين بينهما همزة، فقلبت ياءً فصارت "خطايا". - نقّني: بتشديد القاف، وهو أمر من نقَّى: ينقي تنقية، وهو مجاز عن إزالة الذنوب، ومحو أثرها. - كما باعدت: "ما" مصدرية، تقديره: كإبعادك بين المشرق والمغرب، ووجهه أنَّ التقاء المشرق والمغرب لما كان مستحيلاً، شبَه أن يكون اقترابه من الذنوب، كاقتراب المشرق والمغرب. - الأبيض: خصَّ الثوب الأبيض بالذكر؛ لأنَّ الدنس يظهر فيه، زيادة على ما ¬

_ (¬1) البخاري (744)، مسلم (598).

يظهر في سائر الألوان. - الدَّنس: -بفتح الدال والنون- هو الدرن والوسخ. - البَرد: -بفتح الباء والراء- حب الغمام. قال الخطابي: ذِكر الثلج والبرد تأكيد، وليس المراد بالغسل هنا على ظاهره، وإنَّما هو استعارة بديعة للطهارة العظيمة من الذنوب. قال شيخ الإِسلام: إنَّ الغسل بالماء الحار أبلغ في الإزالة، ولكن جيء هنا بالثلج والبرد؛ ليناسب حرارة الذنوب التي يراد إزالتها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الاستفتاح، ومكانه بعد تكبيرة الإحرام، وقبل التعوذ والقراءة، وهي السكتة اللطيفة التي أسرَّ بها النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - أنَّ صفة الاستفتاح الإسرار به، إلاَّ إذا كان هناك حاجة إلى الجهر به، ليعلمه من خلفه من المصلين، كما فعله عمر رضي الله عنه. 3 - أدب أهل العلم في حسن تلقينه، فالمتعلم يسأل، والمعلم يجيب في المسائل التي هم في حاجة إليها، وهم مشتغلون بالعمل بها, لا بأغلوطات المسائل الصورية. 4 - سكتات الإِمام -عند فقهائنا الحنابلة- ثلاث: الأولى: قبل الفاتحة في الركعة الأولى. الثانية: بعد الفاتحة بقدرها، وهو مذهب الشافعي. قال ابن القيم عن السكتة الثانية: إنَّها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا ينبغي تطويلها، بقدر قراءة المأموم الفاتحة. والرواية الثانية عن الإِمام أحمد: لا يسكت، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وهو المفتى به، والمعتمد في كتب المذهب.

الثالثة: سكتة يسيرة بعد القراءة كلها وقبل الركوع؛ ليرد إليه نفَسه. قال شيخ الإِسلام: إنَّ الأئمة الثلاثة: أبا حنيفة ومالكًا وأحمد، وجماهير العلماء لم يستحبوا أن يسكت الإِمام ليقرأ المأموم، فهي عندهم غير واجبة ولا مستحبة، بل منهيٌّ عنها، والسكتتان اللتان جاءت بهما السنة: الأولى: بعد تكبيرة الاستفتاح. الثانية: سكتة لطيفة بعد القراءة؛ للفصل، لا تسع لقراءة الفاتحة. وأما السكتة التي عند قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} هو فهي من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي، ومثل هذا يسمى سكوتًا. 5 - "اللَّهمَّ باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب": معناه: إنَّه كما لا يجتمع المشرق والمغرب، لا يجتمع الداعي وخطاياه، فالمراد بهذه المباعدة: إما محو الخطايا السابقة، وترك المؤاخذة بها، وإما المنِع من الوقوع فيها، والعصمة منها، بالنسبة للآتية. 6 - "اللَّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس": معناه: أزل عني الخطايا، وامحها عني كهذه التنقية، فإنَّ النقاء أظهر ما يكون في الثوب الأبيض، من غيره من الألوان. 7 - "اللَّهمَّ اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد" الماء الساخن أبلغ في إزالة الأدران والأوساخ من الثلج والبَرد، ولذا كثر تلمس العلماء سببًا لهذا التعبير؛ وأحسن ما قيل فيه ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قال: لما كانت الذنوب لها حرارة ووهج، وهي سبب لحرارة العذاب، ناسب أن تغسل بما يبردها ويطفىء حرارتها، وهو الثلج والماء والبرد.

* فائدة: قال ابن الملقن في "شرح العمدة": ترقى -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء، فطلب: (أ) ما يليق بالعبودة، وهو المباعدة. (ب) ثم ترقى فطلب التنقية. (ج) ثم ترقى فطلب الغسل؛ فإنه أبلغ منهما. ***

216 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُكَ، وَلاَ إِلهَ إِلاَّ غَيْرُكَ". رواه مسُلمٌ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ، والدَّارقُطْنِيُّ مَوْصُولًا وهُوَ مَوْقُوفٌ (¬1). وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ الخَمْسَةِ، وَفِيهِ: وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: "أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ حيث رواه مسلم بسند منقطع، والدارقطني موصولاً، وهو موقوف. قال ابن القيم في "الهدي": قد صحَّ أنَّ عمر كان يستفتح به، ويجهر به، ويعلمه الناس، وهو بهذا في حكم المرفوع، كما أنَّ الدارقطني رواه موصولاً، وقد صححه الحاكم والذهبي، وصحَّ رفع الحديث من عدة طرق، فالحديث صحيح. وأما حديث أبي سعيد: فقال الترمذي: إنَّه أشهر حديث في الباب، وقال ابن خزيمة: لا نعلم في استفتاح "سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك" خبرًا ثابتًا عند أهل المعرفة بالحديث، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد. وللحديث شاهد من حديث جبير بن مطعم، صححه ابن حبان، وشاهد ¬

_ (¬1) مسلم (399)، الدراقطني (1/ 299). (¬2) أحمد (3/ 50)، الترمذي (242)، أبو داود (775)، النسائي (2/ 132)، ابن ماجه (804).

من حديث ابن مسعود. * مفردات الحديث: - سبحانك: منصوب على المصدر، وحُذف فعله، وهو "أُسَبِّح"، وهو علم للتسبيح، والعلم لا يضاف إلاَّ إذا نكر، ومعناه: التنزيه عن النقائص. - وبحمدك: الواو للحال أو لعطف الجملة؛ سواء قلنا: إضافة الحمد إلى الفاعل، والمراد من "الحمد" -حنيئذ- لازمه، أو إلى المفعول، ويكون معناه: سبحتُ متلبسًا بحمدي لك. ومعنى "وبحمدك ": أي: أنَّ ما قمت به من التسبيح، هو بتوفيقك وهدايتك، لا بحولي وقوتي. - تعالى: تعاظم، وارتفع، وتنزه عمَّا لا يليق بجلاله. - جدّك: بفتح الجيم وتشديد الدال، أي عظمتك وجلالك وسلطانك. - الرجيم: أي: المرجوم بالطرد، واللعن عن رحمة الله تعالى. - همْزه: هو الجنون والصرع، الذي يعتري الإنسان. - نَفْخه: بوسوسته بتعظيم نفسه، وتحقير غيره عنده، فيزدريه، ويتعاظم عليه. - نفْثه: قال ابن القيم: النفث: فعل السحر، والنَّفاثات هي: الأرواح والأنفس؛ لأنَّ تأثير السحر إنَّما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة، فإذا تكيف نفس الساحر بالخبث، والشر الذي يريده بالمسحور، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نَفْسِه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، فيقع بإذن الله الكوني القدري، لا الأمري الشرعي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا أحد أنواع استفتاحات الصلاة، قال ابن القيم: صحَّ أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يستفتح به، ويجهر به؛ ليعلمه الناس، فهو

في حكم المرفوع، قال الألباني: إسناده صحيح. 2 - سبحانك اللَّهمَّ: أنزهك عمَّا لا يليق بك، وبجلالك يا رب، وما تستحقه من التنزيه عن النقص والعيب، ونصب "سبحانك" على المصدر؛ أي: سبحتك تسبيحًا، فوضع "سبحانك" موضع التسبيح. 3 - وبحمدك: هذا الجار والمجرور إما متَّصل بفعل مقدر، وتكون الباء للسببية، أو صفة لمصدر محذوف، والمعنى: أحمدك -يا رب- وأثني عليك بما تستحقه، من المحامد والثناء. 4 - تبارك اسمك: كثر وكمل واتسع، وكثرت بركاته. 5 - تعالى جدّك تعاظم شأنك، وارتفع قدرك. 6 - لا إله إلاَّ غيرك: لا معبود بحق سواك، فأنت المستحق للعبادة، وحدك لا شريك لك، بما وصفت به نفسك من الصفات الحميدة، وبما أسديته من النعم الجسيمة. 7 - قال الإِمام أحمد: أنا أذهب إلى هذا الاستفتاح، فلولا أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقوله في الفريضة ما فعل ذلك عمر، وأقرَّه المسلمون. قال المجد وغيره: اختاره أبو بكر وابن مسعود، واختيارُ هؤلاء وجهر عمر به يدل على أنَّه الأفضل، وأنَّه الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يداوم عليه غالبًا. 8 - يجوز الاستفتاح بكل ما ورد وثبت، قال شيخ الإِسلام: الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة باتِّفاق المسلمين، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يداوم على استفتاح واحد قطعًا، والأفضل أن يأتي بالعبادات المتنوعة على وجوه متنوعة، كل نوع منها على حدته، ولا يستحب الجمع بينها. 9 - الاستعاذة بالله تعالى في الصلاة سنة مندوب إليها، عند الجمهور، قال النووي: اعلم أنَّ التعوذ بعد دعاء الاستفتاح سنة، وهو مقدمة للقراءة، قال تعالي: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل] ومعناها

عند جماهير العلماء: إذا أردت القراءة فاستعذ بالله. قال الشيخ تقي الدين: التعوذ عند أول كل قراءة من الشيطان الرجيم. 10 - "أعوذ بالله": معناه: ألجأ إلى الله تعالى، وأعتصم به. 11 - اللَّفظ المختار للتعوذ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وجاء "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"، ولا بأس به، لكن المشهور المختار الأول. 12 - "من الشيطان" المتمرد العاتي، من شياطين الجن والإنس. 13 - "الرجيم" المرجوم المطرود، والمبعد عن رحمة الله، فلا تسلطه علي بما يضرني، في ديني ودنياي، ولا يصدني عن فعل ما ينفعني، في أمر ديني ودنياي، فمن استعاذ بالله تعالى، فقد أوى إلى ركن شديد، واعتصم بحول الله وقوته، من عدوه الذي يريد قطعه عن ربه، وإسقاطه في مهاوي الشر والهلاك. 14 - من هَمْزه: نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه عقله. 15 - نفثه: هو السحر المذموم، وقال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق] هو شر السحر، فإنَّ النفاثات في العقد هنَّ السواحر، اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر. والنفث: هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل، فهو مرتبة بين النفخ والتفل. 16 - نَفْخه: الكِبْر؛ لأنَّه ينفخ في الإنسان بوسوسته، فيعظم في عين نفسه، ويحقر غيره عنده، فتزداد عظمته وكبرياؤه. ***

217 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، والقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ ولَمْ يُصَوِّبهُ، وَلكِنْ بَيْنَ ذلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ منَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوي جَالِسًا، وَكانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكعَتَيْنِ التَّحيَّةَ، وَكانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَيَنْصِبُ اليُمْنَى، وَكانَ يَنْهَى عنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ". أخرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَهُ عِلَّةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ عند مسلم، أمَّا العلة التي أشار إليها المؤلف الحافظ: فإنَّ مسلمًا أخرجه من رواية أبي الجوزاء عن عائشة، وأبوالجوزاء لم يسمع من عائشة، ففيه انقطاعٌ، كما أنَّه أعِلَّ بأنَّ مسلمًا -رحمه الله- أخرجه من طريق الأوزاعي مكاتبة لا سماعًا. * مفردات الحديث: - القراءة: معطوفة على الصلاة. - لم يُشْخِص: بضم الياء وسكون الشين المعجمة، وكسر الخاء المعجمة ثم صاد مهملة؛ من: شخصت كذا؛ أي: رفعته، فالشاخص من كل شيء: المرتفع، والمراد: لم يرفع رأسه. ¬

_ (¬1) مسلم (498).

- لم يصوِّبه: بضم الياء وفتح الصاد المهملة وكسر الواو المشددة، أصله من: التصويب؛ أي: لم يخفضه خفضًا أنزل من مستوى ظهره. - بين: ظرف، بمعنى الوسط، فإن أضيفت إلى ظرف الزمان، كانت ظرف زمان، وإن أُضيفت إلى ظرف المكان، كانت ظرف مكان. - عُقْبَة الشيطان: بضم العين وسكون القاف، فسَّره أبوعبيد بالإقعاء المنهي عنه؛ بأن يلصق أليتيه في الأرض، وينصب ساقيه وفخذيه. - يفرش: بضم الراء وكسرها، والضم أشهر. - افتراش السَّبعُ: السبع -بفتح السين المهملة، وضم الباء التحتية الموحدة ثم عين-: واحد السباع المفترسة، وافتراش السبع: هو أن يبسط الساجد ذراعيه في الأرض، فيشابه السبع في هيئة إقعائه، وافتراش ذراعيه. - التحية: يعني: التشهد الأول المعروف. - يختم الصلاة: ختم الشيء: أتمه وبلغ آخره، والمراد هنا: أتم الصلاة وأكملها. - التسليم: يعني: السلام عليكم، ورحمة الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث فيه بيان صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي". [رواه البخاري]. 2 - تُسْتَفْتَحُ الصلاة بتكبيرة الإحرام، فيجب على الإِمام والمأموم، والمنفرد أن يكبر بلفظ "الله أكبر"، فلا يجزىء غيرها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تحريمها التكبير". [رواه أحمد وأبو داود وغيرهما]، فلا تنعقد الصلاة بدونها. 3 - تُستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مما يدل على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وحجتهم هذا الحديث.

4 - كان -صلى الله عليه وسلم- إذا ركع لم يُشْخِص رأسه؛ بأن يرفعه عن مساواة ظهره. 5 - ولم يصوِّبه؛ بأن يخفضه، فينزل به عن مساواة ظهره، ولكن بين ذلك، فيجعله كما روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال: "رأيت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يصلي، وكان إذا ركع سوَّى ظهره، حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقر". 6 - كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان يقول: "لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صُلبه في الركوع والسجود". [رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح]، والعمل على هذا عند أهل العلم، من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعده. 7 - إذا رفع من السجود، لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يأمر بهذا، كما تقدم في قوله: "لا تُجْزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه، في الركوع والسجود". 8 - كان -صلى الله عليه وسلم- يجلس بعد كل ركعتين، فيقرأ في جلسته: "التحيات لله"، وهو التشهد الذي ورد فيه، وأحسنه ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: التفت إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إذا صلى أحدكم، فليقل: التَّحيَّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله" وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حديث رقم (250). 9 - وكان -صلى الله عليه وسلم- في جلوسه بين السجدتين، وللتشهد الأول من الصلاة ذات التشهدين، يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويوجه أصابعه إلى القبلة. 10 - وكان -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن عُقْبة الشيطان؛ وذلك بأن ينصب ساقيه وفخذيه، ويضع أليتيه بينهما على الأرض، فهذا هو إقعاء الكلب، الذي يحض الشيطان على مشابهته؛ ليذهب ببهاء الصلاة وهيئتها الجميلة.

11 - وكان ينهى -صلى الله عليه وسلم- عن أن يفترش المصلي ذراعيه؛ بأن يضعهما على الأرض، لما في هذه الهيئة من مشابهة للسبع المؤذي المفترس، حينما يبسط ذراعيه على الأرض، إما مُسْتَجْدِيًا للآكلين، وإما متربصًا متوثبًا بالغافلين. 12 - وكان -صلى الله عليه وسلم- يختم الصلاة بالتسليم؛ بأن يقول ناويًا الحاضرين من المصلين والملائكة المقربين: "السَّلام عليكم ورحمة الله" مرَّة عن يمينه، وأخرى عن يساره؛ ليعم الحاضرين بهذا الدعاء الكريم المناسب. والسلام هو ختام الصلاة؛ لما روى أحمد وأبو داود أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وختامها التسليم". 13 - أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- روت هذه الصفة الكاملة من صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لتعلم أمته أن يصلوا مثل هذه الصلاة، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي". [رواه البخاري]. ***

218 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِي اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الوُّكُوعِ". مُتَّفَقٌ عَليْهِ (¬1). وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ: "يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذَي بِهِمَا مَنْكَبيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ" (¬2). وَلمُسلمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَحْوُ حَدِيث ابْنِ عُمَرَ، لكِنْ قَالَ: "حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحَديث: حديث أبي حميد صحيحٌ، فأصلُه عند البخاري، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان وابن القيم. وأعله الطحاوي بأنَّ محمَّد بن عمرو لم يَلْقَ أبا قتادة، فقد رواه عطاف بن خالد عن محمَّد بن عمرو قال: حدثني رجل أنَّه وجد عشرة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ: والتحقيق عندي: أنَّ محمَّد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه، هو محمَّد بن عمرو بن علقمة الليثي، وهو لم يَلْقَ أبا قتادة، ولا قارب ذلك، إنَّما يروي عن أبي سلمة، وغيره من كبار التابعين. وأما محمَّد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه، فهو محمَّد بن عمرو بن عطاء تابعي كبير، جزم البخاري بأنَّه سمع من أبي حميد وغيره، ¬

_ (¬1) البخاري (735)، مسلم (390). (¬2) أبو داود (730). (¬3) مسلم (391).

وأخرج الحديث من طريقه، وللحديث طرق عن أبي حميد سمي في بعضها من العشرة: محمَّد بن مسلمة، وأبو أسيد، وسهل بن سعد, وهذه رواية ابن ماجه من حديث عباس بن سهل بن سعد عن أبيه. * مفردات الحديث: - حذو: بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة؛ أي: إزاء ومقابل منكبيه. - منكبيه: تثنية "منكب"، وجمعه: "مناكب"، وهو مجتمع رأس العضد والكتف، مذكر. - فروع أذنيه: عوالي أذنيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب رفع اليدين حتى تحاذي المنكبين، عند افتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام، وكذلك عند تكبيرة الركوع، وعند رفع رأسه من الركوع، فهذه ثلاثة مواضع يستحب فيها رفع اليدين حذو المنكبين. 2 - قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على ذلك، إلاَّ أهل الكوفة فقد خالفت الحنفية فيما عدا الرفع عند تكبيرة الإحرام، مستدلين بما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود؛ بأنَّه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- "يرفع يديه عند إلافتتاح، ثم لا يعود". والجواب: أنَّ الرفع في غير تكبيرة الإحرام قد ثبت، والمثبت مقدم على النافي، وحديث ابن مسعود لم يثبت، كما قال الشافعي، وعلى فرض ثبوته، فإن تركه له يكون مبينًا لجوازه. وقد نقل البخاري عن الحسن البصري، وحميد بن هلال؛ أنَّ الرفع هو عمل الصحابة، ولذا قال علي بن المديني: حقٌّ على المسلمين أن يرفعوا أيديَهم عند الركوع، والرفع منه. قال شيخ الإِسلام: رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه، بمثل رفعهما

عند الاستفتاح- مشروع باتفاق المسلمين. قلت: تقدم خلاف أهل الكوفة. قال شيخ الإِسلام: هم معذرون قبل أن تبلغهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 3 - الرواية الأخرى: "أن يرفع يديه حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، وأحسن جمع بين الروايتين أن يحمل على التوسع، واختلاف الأحوال، فالوجهان سنة. 4 - قال في "شرح الإقناع": ويكون رفع اليدين مع ابتداء الركوع استحبابًا؛ لقوله في الحديث: "وإذا كبر للركوع". 5 - والرفع في المواطن كلها من مستحبات الصلاة، قال ابن القيم: روى رفع اليدين عنه -في هذه المواطن الثلاثة- نحو ثلاثين صحابيًّا، واتَّفق على روايتها العشرة، ولم يثبت عنه خلاف ذلك. وقال في "شرح الإقناع": "رفع اليدين في موضعه من تمام الصلاة وسننها، فمن رفع يديه في موضعه، فهو أتم صلاة ممن لم يرفع يديه؛ للأخبار". 6 - اختلفت آراء العلماء في الحكمة في رفع اليدين، فقالوا في تكبيرة الإحرام: رفع حجاب الغفلة عن الله، والدخول عليه، وفي غيرها: إعظامًا لله. وقال بعضهم: إنَّها استسلام وانقياد؛ كالأسير المستسلم. وقال بعضهم: زينة للصلاة، ويروى هذا عن ابن عمر، وعلى كلٍّ فهو اتباع لسنة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. * فائدة: ورد موضع رابع يشرع رفع اليدين فيه؛ وذلك حينما يقوم من التشهد الأول في الصلاة ذات التشهدين، فقد جاء في صحيح البخاري (736)، من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قام من الركعتين، رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كان يصنع عند افتتاح الصلاة". كما جاء أيضًا في سنن أبي داود (721)، والترمذي (218)، وابن حبان

(5/ 187)، من حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، رووا أنَّه إذا قام من الركعتين كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. قال الخطابي: هو حديث صحيح، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، والقول به لازم على أصل قبول الزيادات، والزيادة من الثقة مقبولة. وقال ابن دقيق في "شرح العمدة": ثبت الرفع عند القيام من الركعتين. وقال البيهقي: هو مذهب الشافعي؛ لقوله: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، ولذلك حكاه النووي عن نص الشافعي، وقال: إنَّه في الصحيح، وأطنب في ذلك في "شرح المهذب". وقال شيخ الإِسلام: رفع اليدين في هذا الموضع مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين بالسنة، وقد ثبتت في الصحاح والسنن, ولا معارض لها ولا مقاوم، واختاره الشيخ وجده وصاحب "الفائق"، واستظهره في "الفروع" و"المبدع"، وصوَّبه في "الإنصاف"، وهو أصح الروايتين عن أحمد. ***

219 - وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلى يَدِهِ اليُسْرَى، علَى صَدْرِهِ". أخرجه ابن خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، رواه أحمد (18375)، ورواه مسلم (401)، بدون "على صدره" وله طريق أخرى عند أحمد وأبي داود والنسائي في "الكبرى" (1/ 310)، والدارمي (1/ 312)، وابن الجارود، والبيهقي (2/ 28)، بإسناد صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والنووي في "المجموع"، وابن القيم في "زاد المعاد". * مفردات الحديث: - يده: إذا أطلقت اليد، فالمراد بها: الكف، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فالمراد باليد هنا: الكف. - صدره: بفتح فسكون، والصدر لغة: مقدم كل شيء، ومنه: صدر الإنسان، وهو الجزء الممتد من أسفل العنق إلى فضاء الجوف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، على صدره في الصلاة، أثناء القيام للقراءة. 2 - وهو من مستحبات الصلاة وفضائلها, وليس بواجب فيها. 3 - وضع اليد على الأخرى وضمها على الصدر، هي وقفة الخاضع الخاشع ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1/ 243).

المتواضع الذليل بين يدي ربه تعالى. وينبغي أن يلاحظ المصلي هذه المعاني في نفسه. 4 - حديث الباب صحيح، رواه الإِمام أحمد وصححه النووي، وابن القيم، وجاء فيما رواه أحمد (22342)، والبخاري (707)، عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى، في الصلاة". قال أبو حاتم: ولا أعلمه إلاَّ ينمى ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ: حديث سهلٍ له حكم الرفع؛ لأنَّه محمول على أنَّ الآمر لهم بذلك هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 5 - هذا معارض بما رواه أحمد (877)، وأبو داود (756)، عن علي قال: "من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة"، ولكن قال العلماء عن هذا الأثر: إنَّه حديث ضعيف؛ لأنَّ مدار طرق أسانيده على عبد الرحمن الواسطي. قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن حصين: ليس بشيء، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وقال البيهقي: هو متروك، وقال النووي: هو ضعيف بالاتفاق. وقالوا: أصح شيء في هذا الباب حديث وائل بن حجر. ومع ضعف هذا الحديث، فإنَّ العمل عليه عند الحنفية والحنابلة، أما الشافعية فقال النووي: يجعل تحت صدره فوق سرته، هذا مذهبنا المشهور، وبه قال الجمهور. قلتُ: لكن الصحيح من حيث الدليل وضع اليدين على الصدر؛ لصحة أحاديثه، وعليه العمل عند أهل الحديث.

* خلاف العلماء: جمهور العلماء على استحباب وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، ووضعهما إما على الصدر، أو تحت السرة على الخلاف المتقدم، ولكنَّهم اختلفوا في هذا القبض حال الاعتدال من الركوع: فذهب بعضهم إلى: استحباب قبضهما، ووضعهما على الصدر، كما كان الحال في القيام قبل الركوع. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة وأتباعهم- إلى: إرسالهما إلى الجانبين، وأنَّه لا يسن قبضهما، ووضعهما على الصدر، أو تحت السرة، فهذا خاص بالقيام قبل الركوع. استدلَّ الأولون: بما رواه البخاري (707) عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". كما استدلو بما رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة، وصححه من حديث وائل بن حجر قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"، وأصل الحديث في مسلم بدون "على صدره". فهذان الحديثان الصحيحان عامان في القيام، سواء أكان قبل الركوع أم بعده، ومن فرَّق بين القيامين فعليه الدليل. وهذه الحال هي وقفة وهيئة السائل الذليل، الخاشع بين يدي الله تعالى، فينبغي الاتصاف بها في الصلاة. أما الجمهور -وهم الذين لا يرون استحباب هذه الهيئة بعد الرفع من الركوع- فإنَّهم يقولون: إنَّ هذين الحديثين وردا في القيام قبل الركوع، أما بعد الركوع، فإنَّه لم يرد فيه شيء مطلقًا, ولو كان له أصل لنقل إلينا, ولو من طريق واحد، فهذا السكوت من واصفي صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يدل على أنَّ وضع اليد على اليد على الصدر، لا يوجد لا في أثر صحيح، ولا ضعيف.

كما أنه لم يعرف القبض عن أحد من السلف، ولا أنَّ أحدًا من الأئمة فعله، وأسرف الشيخ ناصر الدين الألباني، فجعل قبض اليدين، ووضعهما على الصدر بعد الركوع "بدعة ضلالة". والمسألة للاجتهاد فيها مساغ، ولذا ذهب الإمام أحمد إلى التخيير بين فعله وتركه، والتخيير راجع إلى ما وصل إليه فهم المجتهد واجتهاده، والله أعلم. ***

220 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِأُمِّ القُرْآنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ حِبَّانَ والدَّارَقُطْنِيِّ: "لاَ تُجْزِىءُ صَلاَةٌ لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بفَاتِحَةِ الكِتَابِ". وَفِي أُخْرَى لأحْمَدَ وَأَبِي دَاودَ والتِّرْمذِيِّ وَابْن حِبَّانَ: "لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، فَإنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث أصله في الصحيحين. وأما رواية ابن حبان والدارقطني: فقد أخرجها ابن خزيمة في صحيحه, وصححها ابن القطان. وأما رواية أحمد: فقال الحافظ: رواه أحمد، والبخاري في جزء القراءة وصححه. قُلْتُ: وحسَّنه الترمذي، وقال عن رواية الصحيحين: "وهذا أصح"، ومن شواهده: ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمَّد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الحافظ: إسناده حسن. ¬

_ (¬1) البخاري (756)، مسلم (394)، أحمد (5/ 321)، أبو داود (823)، الترمذي (311)، ابن حبان (1785، 1789)، الدارقطني (1/ 321).

* مفردات الحديث: - بأم القرآن: الفعل متعدٍّ بنفسه، وإنما عدِّي بحرف الجر على معنى: لم يبدأ القراءة إلاَّ بها. - لا صلاة: "لا" تأتي بعدة أوجه، أحدها: أن تكون نافية للجنس، كما هي هنا. قال ابن دقيق العيد: صيغة النفي إذا دخلت على الفعل في ألفاظ الشارع، فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي؛ فيكون قوله: "لا صلاة" نفيًا للصلاة الشرعية؛ لأنا إذا حملناه على نفي الفعل الجنسي -وهو غير منتفٍ- احتجنا إلى إضمارٍ؛ لتصحيح اللفظ، فحينئذٍ يضمر بعضهم "الصحة"، وبعضهم "الكمال". - أم القرآن: قال البخاري: سميت "أم الكتاب"؛ لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال القرطبي: لأنها متضمنة لجميع علوم القرآن. - فاتحة الكتاب: قال القرطبي: سميت بذلك؛ لأنه لا تفتح قراءة القرآن إلاَّ بها لفظًا، وتفتح بها الكتابة في المصحف خطًّا، وتفتح بها الصلوات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أم القرآن، وفاتحة الكتاب من أسماء سورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فهي أم القرآن؛ لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته، وهي فاتحة الكتاب؛ لأنَّه يفتتح بها القرآن، ولأنَّ الصحابة افتتحوا كتابة المصحف الأم بها. ولها عدة أسماء، كلها تشير إلى فضلها وأهميتها، فقد جاء في صحيح البخاري (4474)؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعظم سورة في القرآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهي السبع المثاني".

2 - يدل الحديث على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، وأنَّها ركن لا تصح الصلاة بدونها، والصحيح أنَّها تجب في كل ركعة؛ لحديث المسيء في صلاته، "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". [رواه البخاري (724) ومسلم (397)]. 3 - لا صلاة: "لا" النافية تكون لنفي الذات، وهو معناها الحقيقي، ولا تكون لنفي الصفات إلاَّ إذا تعذر نفي الذات، ونفي الذات ليس هنا بمتعذر؛ لأنَّ الصلاة معنى شرعي مركب من الأقوال والأفعال، مُنْتَفٍ بانتفاء بعضها، أو كلها. ويؤيد هذا المعنى قوله: "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". 4 - قال ابن القيم في تفسيره القيم: اشتملت الفاتحة على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن، فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، هي مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهي: "الله، الرب، الرحمن"، وبنيت السورة على الإلهية في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وعلى الربوبية في: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وطلب الهداية، وتضمنت التصديق بالرسالة، وإثبات المعاد في: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة. قال ابن كثير: وأما "الصراط المستقيم" فهو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم اختلفت فيه عبارات المفسرين، وذلك أنه قيل: هو كتاب الله، وقيل: الحق، وقيل: النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكل هذه الأقوال صحيحة متلازمة، وحاصلها واحد، وهو المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمن فاز بمعانيها فقد فاز من كماله بأوفر نصيب. 5 - قال شيخ الإِسلام: والعبد مضطر دائمًا إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنَّه لا نجاة من العذاب، ولا وصول

إلى السعادة إلاَّ بهذه الهداية، فمن فاتته فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين. وقال ابن القيم: ولما كان سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب، ونيله أشرف المواهب -علَّم الله عبادَه كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم لا يكاد يرد معهما الدعاء. * خلاف العلماء: أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم على وجوب قراءة الفاتحة، للإمام والمنفرد، وأنَّ الصلاة لا تصح بدونها، عدا الحنفية في إجزاء الصلاة، وتقدم خلافهم. واختلفوا في وجوب قراءتها على المأموم: فذهب الإِمام الشافعي وأهل الحديث إلى: أنَّها تجب على المأموم في الصلاة السرية والجهرية، مع الإمكان، ويستثنى من القول بوجوب قراءة الفاتحة إذا أدرك الإِمام راكعًا، فيكبر ويرفع مع الإِمام، ويكون مدركًا للركعة، فتسقط عنه الفاتحة حينئذٍ، وكذا لو أدرك الإِمام ولم يتمكن من إكمال الفاتحة، فإنه يركع وتسقط عنه في هذه الحال. ويدل لذلك حديث أبي بكرة في الصحيحين، ووجه من النظر -مع الأثر- أنَّ هذا الرجل لم يدرك القيام، الذي هو محل قراءة الفاتحة، فسقط عنه الذكر لسقوط محله، كما يسقط غسل اليدين في الوضوء إذا قطعت. كما استدل الجمهور -وهم المانعون من قراءة المأموم خلف الإِمام:- بما جاء في صحيح مسلم (404) أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإذا قرأَ فأنصتوا"، وجاء في مسند الإِمام أحمد (14233)، وغيره بإسناده صحيح متصل، رجاله كلهم ثقات؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له إمام فقراءته قراءة له".

وثبت النهي عن القراءة خلف الإِمام عن عشرة من الصحابة. قال الشعبي: أدركت سبعين بدريًّا، كلهم يمنعون المأموم من القراءة خلف الإِمام. واستدلَّ الشافعية ومن وافقهم: بحديث عبادة بن الصامت الذي معنا، وأجابوا عن حديث: "من صلي خلف الإِمام، فقراءته قراءة له" بما قاله ابن حجر من أنَّ طرقه كلها معلولة، لا تقوم بها حجة، وأما الآية والحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" -فهي عمومات تصدق على أي قراءة، وحديث عبادة خاصٌّ بالفاتحة، والدليل الخاص يقضي على الدليل العام. أما الإِمام مالك -فيرى وجوب قراءة الفاتحة في السرية، وعدم مشروعيتها في الجهرية، ويرى أنَّ هذا القول تجتمع فيه أدلة الفريقين. فإذا كانت الصلاة جهرية، فإنَّ قراءة الإِمام له قراءة، بما يحصل له من أجر السماع والإنصات، وفائدة فهم المعنى من التدبر والتفكر، ولذا رجحه الإِمام المحقق شيخ الإِسلام ابن تيمية، وهو قول أكثر السلف؛ أنَّه إذا سمع قراءة الإِمام أنصت، فإنَّ استماعه لقراءة الإِمام خير من قراءته، فإنَّ الإنصاف إلى قراءة الإِمام من تمام الائتمام به، فإنَّ من قرأ على قومٍ لا يستمعون لقراءته، لم يكونوا مؤتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم، فإنَّ متابعته لإمامه مقدمة على غيرها، حتى في الأفعال. وقال في موضع آخر: القراءة مع جهر الإِمام منكر، مخالف للكتاب والسنة، وما عليه الصحابة. وممن مال إلى هذا التفصيل الذي يراه الإِمام مالك، ورجَّحه الشيخ تقي الدين -كثير من علماء الدعوة، منهم الشيخ عبد الله بن محمَّد، والشيخ محمَّد ابن إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، رحمهم الله تعالى.

لكن قال ابن الملقن في "شرح العمدة": قد يستدل بهذا الحديث من يرى وجوبها على العموم؛ لأنَّ صلاة المأموم صلاة، فتنتفي قراءتها، فإن وجد دليل يقضي تخصيصه من هذا العموم قدم، وإلاَّ فالأصل العمل به، بل صح ما يدل على عمومه؛ "فإنَّه عليه الصلاة والسلام ثقلت عليه القراءة في صلاة الفجر، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا: نعم، قال: لا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب؛ فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". اهـ كلام ابن الملقن. ***

221 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ:- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، كانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}." متَّفقٌ عَلَيْهِ. زَادَ مُسْلِمٌ: "لاَ يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيْ أوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلاَ في آخِرِهَا". وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ وَالنَّسائيِّ وابن خُزَيْمَةَ: "لاَ يَجْهَرُونَ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وَفِي أُخْرَى لابنُ خُزَيْمَةَ: "كَانُوا يُسِرُّونَ". وعلى هذا يُحْملَ النَّفْيُ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، خِلافًا لِمَنْ أَعَلَّهَا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وأعله بعضهم باضطراب رواياته، لكن قال الحافظ في "الفتح" (2/ 266): وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ: "كَانُوا يَفْتَتِحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "، ورواه آخرون عنه بلفظ: "فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". كذا أخرجه مسلم في رواية أبي داود الطيالسي ومحمَّد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمَّد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال: ¬

_ (¬1) البخاري (743) مسلم (399)، أحمد (3/ 275)، النسائي (907)، ابن خزيمة (1/ 250).

هذا اضطراب من شعبة، لأنَّا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في "جزء القراءة"، وأبو داود وابن ماجه من طريق أيوب، وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة، والبخاري في "جزء القراءة" وأبو داود من طريق هشام الدستوائي، والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد ابن سلمة، والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة؛ بلفظ: "لم يكونوا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وقد قدح بعضهم في صحته؛ يكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة وفيه نظر؛ فإنَّ الأوزاعي لم يتفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي، والسراج عن يعقوب الدورقي، وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة؛ بلفظ: "فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه، لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه، أن المراد: أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرؤونها سرًّا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن النسائي وابن حبان، وهمام عند الدارقطني، وشيبان عن الطحاوي وابن حبان، وشعبة أيضًا من طريق وكيع عنه عند أحمد، أربعتهم عن قتادة، ولا يقال: هذا اضطراب من قتادة؛ لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك، فرواه البخاري في "جزء القراءة" والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة، والسراج من طريق ثابت البناني، والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار، كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ الثاني للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ، حمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع

على نفي الجهر، ويؤيده أنَّ لفظ رواية منصور بن زاذان: "فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة؛ بلفظ: "كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب؛ كابن عبد البر؛ لأنَّ الجمع إذا أمكن، تعيَّن المصير إليه. اهـ. * مفردات الحديث: - بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أي: بهذا اللفظ، وتأويله على إرادة اسم السورة، التي كانت تسمى عندهم بهذه الجملة، والدال مِنْ "بالحمد" مضمومة على سبيل الحكاية. - {بِسْمِ اللَّهِ}: الباء متعلقة بمحذوف تقديره: أبدأ، وتثبت الباء بغير ألف؛ لكثرة استعمالها هنا و"اسم" زائدة لإجلال ذكره تعالى. و"الاسم" مشتق، إما من السمو، وهو الرفعة والعلو، وإما من السمة، وهي العلامة؛ لأنَّ الاسم علامة لمن وضع له. و"الله" هو أجل أسمائه تعالى، ولا يسمى به غيره تعالى. قال بعض العلماء: إنَّه اسم الله الأعظم، وهو عَلَمٌ على الذات الجليلة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، أنَّهم كانوا يستفتحون قراءة الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. 2 - زيادة الإِمام مسلم أكدت أنَّهم لا يذكرون "البسملة"؛ لا في أول القراءة، ولا في آخرها. 3 - يدل الحديث على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، فلا تتعيَّن قراءتها معها، وإنَّما تستحب كإحدى فواصل السور، وفيها خلاف، وسيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى.

4 - رواية أحمد والنسائي وابن خزيمة: أنَّهم لا يجهرون بالبسملة، وإنَّما يسرون بها. قال الحافظ: وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم، وهو توجيه حسن. قال في "شرح الإقناع": ثم يقرأ البسملة سرًّا, وليست من الفاتحة، حكاه القاضي إجماعًا سابقًا. 5 - {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: تشتمل على اسم الجلالة العظيم، وصفات الرحمة والخير والبركة، فهي ألفاظٌ جليلةٌ يستحب الإتيان بها في أول كل عمل ذي بال، من أكلٍ وشربٍ، وجماعٍ، وغُسلٍ، ووضوءٍ، ودخولِ مسجدٍ، ومنزلٍ، وحمَّامٍ، فهي إما أن تَحْمِلَ بركة وخيرًا، وإما أن تدفع شرًّا وأذى، والبسملة عند فقهائنا الحنابلة قسمان: واجبة، ومستحبة: (أ) فتجب في الوضوء، والغسل، والتيمم، والتذكية، والصيد. (ب) تسن عند قراءة القرآن، والأكل، والشرب، والجماع، وعند دخول الخلاء. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على: أنَّ البسملة بعض آية من سورة "النمل"، ثم اختلفوا في مشروعية قراءتها في الصلاة: فذهب الأئمة الثلاثة إلى ذلك، أما مالك: فإنَّه لا يرى مشروعية قراءتها في الصلاة المكتوبة؛ لا سرًّا، وجهرًا. ثم اختلفوا: هل هي واجبة في الصلاة، أو لا؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى: أنَّ قراءتها سنة لا تجب؛ وذلك أنَّها عندهم ليست آية من الفاتحة. وذهب الشافعي إلى: وجوبها. قال ابن رشد: وسبب الخلاف اختلاف الآثار في هذا الباب.

وما ذهب إليه الشافعي هو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين، ودليلهم: ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنَّه صلَّى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعدما فرغ: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وعدم الجهر بها هو مذهب جمهور العلماء، وهو مروي عن الخلفاء الراشدين، وطوائف من السلف الخلف، وهذا هو الراجح من هذه الأقوال. قال شيخ الإِسلام: المداومة على الجهر بها بدعة، مخالفة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأحاديث المصرحة في الجهر كلها موضوعة. وذكر ابن القيم: أنَّ الجهر بها تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمانية، ما بين صاحب وتابع. ومن أقوى الأدلة على عدم مشروعية الجهر بها: ما جاء في صحيح مسلم (395) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تبارك وتعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدِي نِصفين، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال: أثنى عليَّ عبدِي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولِعَبْدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ...} إلخ، قال: هذا لِعبدي ولعبدي ما سأل". فهذا دليلٌ صحيحٌ، على أنَّ البسملة ليست من الفاتحة، ولهذا لم تذكر، فهذا القول هو الراجح الصحيح، والله أعلم. ***

222 - وعَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ قالَ: "صَلَّيْتُ وَرَاءَ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- فقَرَأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثمَّ قَرَأ بِأُمِّ القُرْآنِ، حَتَّى إذا بلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ}، قالَ: آمينَ، ويقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الجُلُوسِ: اللهُ أكبر، ثُمَّ يَقُولُ إذَا سَلَّمَ: والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ إنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". رَواهُ النَّسَائِيُّ وَابْن خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحَديث: الحديث حسن، ومنهم من ضعفه. فقد ذكره البخاري تعليقًا، وقال ابن حجر في "الفتح": أخرجه ابن حبان، وابن خزيمَةَ، والنسائي، وهو أصح حديث وَرَدَ في البابِ، وأعلَّه الزيلعي، وأجاب ابن حجر عمن قال: إنَّ غير نُعيم رواه بدون ذكر البسملة، فالجواب: أنَّ نعيمًا ثقة، فتقبل زيادته، ونقل النووي في "المجموع" تصحيحه, وثبوته عن الدارقطني وابن خزيمة والحاكم والبيهقي. وسئل شيخ الإِسلام ابن تيمية عن هذا الحديث، فقال: اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بالفاتحة حديثِ صريح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة. * مفردات الحديث: - ولا الضالين: الضلال في كلام العرب: هو الذهاب عن سنن القصد، وطريق الحق، والأصل: الضاللين، ثم أدغمت اللام في اللام. ¬

_ (¬1) النسائي (905)، ابن خزيمة (1/ 251).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الجهر بالبسملة في أول القراءة في الصلاة. 2 - قال في "شرح المغني": هو أصح حديث ورد، وقد بوَّب عليه النسائي في "سننه" فقال: "الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقد سئل شيخ الإِسلام عن هذا الحديث، فقال: "اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بها حديث صريح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة". وبهذا فلا حجة فيه على هذا الحكم، ولا يقاوم الأحاديث الصحيحة مما ذكر، وما لم يذكر. 2 - استحباب قول: "آمين" للإمام، مادًّا بها صوته، ويؤيد هذا ما رواه الحاكم (1/ 357)، والبيهقي (2/ 46)، وصححاه من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} يقول: آمين، يمد بها صوته حتى يسمع أهل الصف الأول، فيرتج المسجد". 4 - التأمين هو من طابع الدعاء؛ أي: يختم به الدعاء، ومعناه: "استجب"، ويقال التأمين بعد سكتة لطيفة بعد القراءة؛ لِيُعلم أنَّه ليس من القرآن. 5 - في الحديث مشروعية تكبير الانتقال من ركن إلى ركن آخر، وسيأتي له تحقيق، إن شاء الله تعَالى. ***

223 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قَرَأتم الفَاتحَةَ، فَاقْرَؤوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ فَإِنَّهَا إِحْدَى آيَاتِهَا". رَوَاهُ الدَّارقُطنِيُّ، وَصَوَّب وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. صَوَّب الدارقطني وقفه، قال في "التلخيص": صحح غير واحد من الأئمة وقفه، وقد أعلَّه ابن القطان بهذا التردد، أما ابن الملقن فقال: إسناده صحيح، وذكره ابن السكن في "صحيحه". * مفردات الحديث: - إذا قرأتم: يعني: إذا أردتم قراءة الفاتحة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية قراءة "البسملة" في الصلاة، عند إرادة قراءة الفاتحة، وذكر العلة في ذلك بأنَّها إحدى آيات الفاتحة، فهي منها. 2 - الحديث معارض بأحاديث صحيحة لا يمكن قبوله معها، وقد صححه الأئمة موقوفًا, وللاجتهاد فيه مجال، فإذا صح فهو من كلام أبي هريرة واجتهاده -رضي الله عنه- وتقدم كلام شيخ الإِسلام: اتَّفق أهل الحديث على أنَّه لم يثبت في الجهر بالبسملة حديث صحيح، وإنما يوجد صريحًا في أحاديث موضوعة. وقال الطحاوي: إن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه. ¬

_ (¬1) الدراقطني (1/ 312).

224 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ، وَقَالَ: آمِينَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": قال الدارقطني: إسناده حسن، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين، وقال البيهقي: حسن صحيحٌ. * مفردات الحديث: - آمين: قال القرطبي: معنى "آمين" عند أكثر أهل العلم: اللَّهمَّ استجيب لنا، وُضع موضع الدعاء، قال الزمخشري: "آمين": صوت سمي به الفعل، الذي هو: استجيب. وفي آمين لغتان: المد على وزن "فاعيل"، والقصر على وزن "يمين". قال الجوهري: وتشديد الميم خطأ. قال ابن جزي: "آمين" اسم فعل، معناه: اللَّهمَّ استجيب، فهو أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة، للدعاء الذي فيها. قال النووي: الميم مخففة في الموضعين، وهو مبني على الفتح، مثل "أينَ" و"كيفَ"، لاجتماع الساكنين. قال العيني: التأمين على وزن "التفعيل" من: أَمَّن يُؤَمِّن، إذا قال: "آمين"، وهو بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعند جميع القراء، أما المد ¬

_ (¬1) الدارقطني (1/ 335)، الحاكم (1/ 223).

والتشديد فلغة شاذَّةٌ مردودة، ومن لحن العوام، وهو خطأ في المذاهب الأربعة. وكلمة "آمين" من أسماء الأفعال؛ مثل: "صه" للسكوت، و"مه" يعني: اكفف، ومعناها: اللَّهمَّ استجيب، عند الجمهور، وتفتح في الوصل؛ لأنَّها مبنية بالاتفاق؛ مثل "كيف"، وإنَّما لم تكسر؛ لثقل الكسرة بعد الياء. ***

225 - وَلأبِي دَاوُدَ والتِّرمذِيِّ مَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوهُ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال في "التلخيص": رواه الترمذي، وأبو داود، والدارقطني (1/ 335)، وابن حبان (5/ 111) من طريق الثوري عن سلمة بن كهيل عن حُجْر بن عنبس عن وائل بن حجر، وفي رواية أبي داود: "رفع بها صوته"، وسنده صحيح، وصححه الدارقطني، وأعله ابن القطان بحُجْر بن عنبس، وأنَّه لا يعرف، وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف، قيل: له صحبة، ووثقه ابن معين وغيره. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على مشروعية التأمين للإمام بعد قراءة الفاتحة، وأن يَمُدَّ بها صوته. فقد جاء في رواية الحاكم (1/ 357)، والبيهقي (2/ 46) عن أبي هريرة؛ أنَّه كان يقول: "آمين" حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج المسجد. 2 - فائدة: المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يأت إلاَّ بما ورد بتأمين الإِمام، ولم يتعرَّض للمأموم؛ وقد جاء في البخاري (780)، ومسلم (410) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أمَّن الإِمام، فأمِّنوا؛ فإنَّ من وافقَ تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه". وفي رواية: "إذا قَالَ الإِمَامُ: {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمين، فإنَّ الملائكة تقول: آمين، وإنَّ الإِمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين ¬

_ (¬1) أبو داود (932)، الترمذي (248).

الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه". وقد أجمع العلماء على: أنَّ التأمين للإمام، والمأموم، والمنفرد، والجمهور منهم على أنَّه مستحب، غير واجب. واختلفوا في الجهر به والإسرار: فذهب الحنفية والمالكية إلى استحباب الإسرار، به حتى في الصلاة الجهرية. وذهب الشافعية والحنابلة إلى: الجهر به في الجهرية، والإسرار به في السريَّة، وعلى استحباب مقارنة تأمين المأموم للإمام؛ لحديث: "إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين" حتى يقع تأمينهم وتأمينه معًا. والصلاة الجهرية هي أوليات المغرب والعشاء، وصلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، والوتر. 3 - قوله في حديث أبي هريرة: "إذا أمَّن الإِمام، فأمنوا"؛ يعني: إذا شرع في التأمين فأمِّنوا؛ ليتوافق تأمين الإِمام والمأموم معًا، فقول جمهور العلماء على استحباب المقارنة؛ استدلالاً بحديث: "فإنَّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له". [متفق عليه]. ***

226 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَسْتَطِيع أنْ آخُذَ مِنَ القُرْآنِ شَيئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئنُي مِنْهُ، فَقَالَ: قُلْ: سُبْحانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لله، وَلاَ إله إلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلاَ قُوَّة إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيْمِ" الحديث، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالدَّارقُطْنِيُّ والحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ على شرط مسلم. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وابن الجارود (2/ 57)، وابن حبان والحاكم، والدارقطني واللفظ له، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وصححه ابن السكن والحاكم، وقال: إنَّه على شرط البخاري، ووافقه ابن الملقن. * مفردات الحديث: - سبحان الله: التسبيح في اللغة: التنزيه، و"سبحان" اسمٌ منصوبٌ عَلَى أنَّه واقع موقع المصدر لفعل محذوفٍ تقديره: سبحت الله تسبيحًا، فالتسبيح مصدر، و"سبحان" واقع موقعه، ومعنى "سبحان الله": تنزيهه من النقائص، المتضمن للمحامد. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 353)، أبو داود (832)، النسائي (924) ابن حبان (1808)، الدارقطني (1/ 313)، الحاكم (1/ 241).

- الحمد لله: الحمد: هو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، ونقيض الحمد الذم، يقال: حمِده -بكسر الميم- يحمَدهُ بفتحها. قال الواحدي: الألف واللام في الحمد هنا للجنس؛ أي: جميع المحامد لله تعالى؛ لأنَّه الموصوف بصفات الكمال، في نعوته وأفعاله الحميدة. - لا إله إلاَّ الله: "لا" نافية لكل معبود بحقٍّ، "إلاَّ الله"، إثبات حصر الألوهية. - الله أكبر: إطلاقه يفيد العموم، فإنَّه أكبر من كل شيء. - لا حول: في إعرابها خمسة أوجه: أفضلها: أنَّ "لا" نافية للجنس، و"حول" اسمها مبني على الفتح، و"إلاَّ باللهِ" هو خبرها. ومعنى الحول: القدرةُ على التصرف، ومنه: لا تحول عن معصية الله إلى طاعته إلاَّ به. - لا قوَّة: إعرابه كسابقه، ومعنا القوة: الطاقة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ركنٌ، لا تصح الصلاة بدونه؛ لحديث المسيء في صلاته، إلاَّ أنَّ القاعدة الشرعية أنَّ الواجبات تسقط بالعجز عنها، إما إلى بدل، أو غير بدل، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم". [رواه البخاري (6858)]. 2 - الحديث يدل على أنَّ الذي لا يحسن الفاتحة ولا بعضها، فإنه يأتي بالذكر الوارد في الحديث، ويكفي عنها؛ تيسيرًا وتسهيلاً على العباد. 3 - قال في "شرح الإقناع": فإن لم يقدر على تعلم الفاتحة، أو ضاق الوقت عنه -سقط، ولزمه قراءة غيرها من القرآن، كأن يحسن آية من الفاتحة، أو من غيرها كرر الآية بقدرها، فإن لم يحسن شيئًا من القرآن، لزمه أن يقول:

"سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم" لحديث عبد الله بن أبي أوفى. 4 - هذه الجمل الكريمة تشتمل على تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب، وإثبات نقيضها من المحامد والكمال المطلق، ونفي الشريك له في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وألوهيته، وربوبيته، وإثبات الكبرياء له، والجلال، والمجد، والعظمة، والاطراح بين يديه بنفي الحول والقوة من العبد، وحصرها فيه تبارك وتعالى، فهو صاحب الحول، والطول، والقوة، والعظمة، والجلال، والكمال، المطلق. 5 - فضل هذا الذكر الجليل؛ حيث قام مقام فاتحة الكتاب، التي هي أعظم سورة في القرآن، فقد قدِّم على سائر الأذكار في هذا المقام العظيم. 6 - يسر الشريعة وسماحتها، فالمسلم لا يكلف أكثر مما لا يقدر عليه، وإذا عجز عن باب خير فتح الله تعالى له بابًا آخر؛ ليكمل ثوابه، ويصل إلى ما قدر الله له من منزلة. ***

227 - وَعَنْ أَبِي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَينِ الأُوليَيْنِ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، ويُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، ويُطوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُوْلى، ويَقْرَأُ فِي الأُخرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الكرماني: مثل هذا التركيب يفيد الاستمرار. أما العيني فقال: أكثر العلماء على أن "كان" لا تقتضي المداومة، والدليل على ذلك: ما رواه مسلم (878): "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العيدين وفي الجمعة يقرأ بـ {سبح} و {الغاشية} "، وروى مسلم: (877) من حديث أبي هريرة: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يقرأ يوم الجمعة بـ {الجمعة} و {المنافقون} ". - أحيانًا: جمع "حين"، مصدر، قال البخاري في "صحيحه": العين عند العرب: من ساعة إلى ما لا يحصى عدده وقال في "المصباح": العين: الزمان، قلَّ أو كثر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب قراءة الفاتحة في ركعات الصلاة كلها، وتقدم أنَّه الصواب. 2 - استحباب قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة، في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، ومثله المغرب والعشاء وصلاة الفجر، وقد أجمع عليه العلماء؛ حيث نقل نقلًا متواترًا. قال في "الروض المربع وحاشيته": ويكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة؛ فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأَنَّه خلاف السنة. ¬

_ (¬1) البخاري (759)، مسلم (451).

3 - استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، في الظهر والعصر. قال شيخ الإِسلام: ويستحب أن يمد الأوليين، ويحذف في الأخريين؛ لهذا الخبر، وعامة فقهاء الحديث على هذا. 4 - كون قراءة الظهر والعصر سرية، هو الأفضل. 5 - أنَّه لا بأس من الجهر ببعض القراءة في السرية، لاسيَّما إذا تعلَّق بذلك مصلحة من تعليم أو تذكير؛ ذلك أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يجهر في بعض الآيات، ولعل الغرض من ذلك بيان الجواز. 6 - استحباب الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأُخريين من صلاة العصر والظهر والعشاء، وثالثة المغرب، وسيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى. 7 - أنَّ ما ذكر في الحديث هو سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 8 - ظنَّ الصحابة أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- طوَّل الأولى من الصلاة، يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى؛ لما جاء عن راوي الحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أنه قال: "كنَّا نرى أنَّه يفعل ذلك؛ ليتدارك الناس". [رواه ابن خزيمة وابن حبان]. 9 - القراءة بعد الفاتحة ليست واجبة، فلو اقتصر على الفاتحة أجزأت الصلاة؛ باتفاق العلماء، ولكن يكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة، فرضًا كانت أو نفلاً؛ لأنَّه خلاف السنة. 10 - جاء في مسند الإِمام أحمد (11393)، وصحيح مسلم (452): "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يجعل الركعتين الأخريين أقصر من الأوليين قدر النصف". قال الألباني: ففيه دليل على أنَّ الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين سُنَّة، وعليه جمعٌ من الصحابة، منهم أبو بكر -رضي الله عنه- وهو قولٌ للإمام الشافعي. قُلْتُ: ولعلَّ قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة يكون في بعض الأحوال.

228 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الظُّهْرِ والعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةِ، وفِي الأُخرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ، وَفِي الأولَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ عَلَى قَدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَالأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نَحْزُر: بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي، من باب نصر؛ بمعنى: نخرص ونقدر ونقيس. قال في "المصباح": حرزت الشيء: قدرته، وحزرت النخل: إذا خرصته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان قدر قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأوليين من الظهر بقدر سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك. 2 - قوله: "فحرزنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم (1) تَنْزِيلُ} " يقتضي أنَّ الركعة الأولى والثانية من الظهر كانتا سواء، بخلاف حديث أبي قتادة السابق، وإما أن يحمل ذلك؛ إما على اختلاف الأوقات وتعدد الواقعة، أو يقال: إنَّ الأولى طالت بدعاء الاستفتاح والتعوذ. والأولى في تخريج تعارض الحديثين -حديث أبي قتادة وحديث أبي ¬

_ (¬1) مسلم (452).

سعيد-: أن يقال: إنَّ حديث أبي قتادة على القاعدة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنَّه يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية، وأما حديث أبي سعيد الخدري فجاء على مخالفة القاعدة في بعض الأحيان، فيكون جواز الأمرين، والعمل بالحديثين، إلاَّ أنَّ الأصل هو ما في حديث أبي قتادة، من تطويل الأولى على الثانية. كما أنَّ السنة الغالبة هي تطويل صلاة الظهر على العصر، في القراءة والأفعال. 3 - استحباب تطويل صلاة الظهر وقراءتها، على صلاة العصر وقراءتها. 4 - لعلَّ تطويل الظهر عن العصر راجع إلى الوقت، فالظهر وقتها يمتد، أما العصر فيقع بعده وقت الاصفرار، وهذا وقت الضرورة. 5 - قال شيخ الإِسلام: يستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاةٍ على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، وعامة الفقهاء على هذا الحديث. 6 - هذا الحديث يُؤيد ما جاء من أنَّه قد لا يقتصر المصلي على الفاتحة، في الأخريين من الظهر والعصر؛ حيث كانت الأخريان في الظهر على النصف من الأوليين منهما، مع أنه يقرأ بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وقد دلت الروايات الصحيحة على الاقتصار على قراءة الفاتحة في الأخريين من الظهر والعصر، فيجمع بينهما بأنَّه -صلى الله عليه وسلم- صنع هذا تارة، وذاك أخرى، فالكل جائز، وهذا كله يدل على أنَّه يقرأ فيهما غير الفاتحة، وقراءة شيء بعد الفاتحة في الأوليين من الظهر، والأوليين من العصر -معلومٌ، ومتفقٌ عليه. ***

229 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ فُلاَنٌ يُطِيلَ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ العَصْرَ، وَيَقْرَأُ في المَغْرِبِ بقِصَارِ المُفَصَّلِ، وفِي العِشَاءِ بوَسَطِهِ، وَفِي الصُّبح بِطِوَالِهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أحَدٍ أَشْبَهَ صَلاةٍ بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ هَذَا". أَخرجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: أخرجه النسائي بإسنادٍ صحيح، وقال في "الفتح": صححه ابن خزيمة (1/ 761) وغيره، قال في "المحرر": إسناده صحيح. * مفردات الحديث: - المفصل: هو من الحجرات إلى آخر القرآن، سمي مفصلًا؛ لكثرة فواصله، ولقصر سوره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان أحد أئمة المسجد النبوي وهو عمر بن سلمة يطيل الأوليين من الظهر عن الأخريين منهما، وكان يخفف صلاة العصر، وكان يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسطه، وفي صلاة الصبح بطواله، فقال أبوهريرة: "ما صليتُ وراء أحد أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا". ففي هذا دليلٌ عليها مشروعية، واستحباب هذه الصفة، من التطويل فيما ¬

_ (¬1) النسائي (982).

يطول، والتخفيف فيما يخفف، وفي تجزئة القرآن، والصلاة بهذه التجزئة. 2 - هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عدم الاقتصار على قصار المفصل في صلاة المغرب، فالمداومة عليه خلاف السنة، والحق أنَّ القراءة في المغرب تكون بطوال المفصل وقصاره، وسائر السور سنة. قال ابن عبد البر: روي أنه قرأ بالأعراف، والصافات، والدخان، والطور، وسبح، والتين، والمرسلات، وكان يقرأ فيها بقصار المفصل، وكلها آثار صحاح مشهورة. 3 - المفصل على الراجح يبتدىء من سورة الحجرات، وينتهي بآخر القرآن، فطوال المفصل من الحجرات إلى سورة النبأ، ووسطه من النبأ إلى الضحى، والقصار من الضحى إلى آخر القرآن، وسمي مفصلاً؛ لكثرة فواصله. 4 - الحكمة في التطويل في صلاة الصبح: أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يحضرونها؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء]، ولأنَّه يقع في وقت غفلة بالنوم، فاحتاج إلى التطويل؛ ليدرك الناس الصلاة، وأما تقصير المغرب فلقصر وقتها، وبقي الظهر والعصر والعشاء على الأصل، في أنَّ الصلاة تكون وسطًا، فلا تخفف عن مستحبات الصلاة، ولا تثقل على العاجزين. وقصة معاذٍ، وإرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- له كيف يصلي ويقرأ -هي الأصل في هذا الباب. وهذا بالنسبة للإمام الذي يؤم الناس، ويرتبط المصلون بصلاته، أما المنفرد فليصل ما شاء، وكيف شاء، ما دام لم يخرج عن العرف. ***

230 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقْرأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الطور: -بضم الطاء-: هو كل جبل ممتد، والمراد هنا: جبل سيناء، الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغالب في القراءة في صلاة المغرب أنَّها من قصار المفصل، لضيق وقتها، ولكن قد تُصلى بطواله، فلا تختص بالقصار، فقد قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بسورة {الطور}، وهي من طوال المفصل. 2 - ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بسورة {الأعراف}، وقرأ بسورة {الصافات}، وقر أبسورة {الدخان}، وقر أبسورة {المرسلات}، وقر أبسورة {التين}، وقرأ بسورتي {المعوذتين}؛ وكل هذه أحاديث صحيحة. وهذه قراءات متنوعة، فقرأ مرَّة {الأعراف}، وهي من الحزب الأول، وقرأ بـ {الصافات} و {الدخان}، وهما من الحزب الثاني عشر، وقرأ بـ {الطور} {والمرسلات}، وهما من طوال المفصل، وقرأ بـ {الأعلى} وهي من الوسط، والباقي من قصاره، فَعَلَ هذا صلوات الله وسلامه عليه؛ لبيان الجواز في الكل. 3 - قال العلماء: يجب كتابة المصحف على هذا الترتيب الموجود الآن، في ترتيب السورة لأنَّه جاء عن إجماع الصحابة، وإجماعهم حجة. ¬

_ (¬1) البخاري (765)، مسلم (463).

وأما في القراءة فقال النووي: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف؛ سواء قرأ في الصلاة، أو في غيرها، فإذا قرأ سورة قرأ التي تليها؛ ذلك أنَّ هذا الترتيب بين السور إنَّما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها، إلاَّ فيما ورد الشرع باستثنائه؛ كصلاة الصبح يوم الجمعة، فيقرأ في الأولى سورة {الم السجدة}، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}، وركعتي الفجر يقرأ في الأولى {الكافرون}، والثانية {الإخلاص}، ولو خالف هذه الموالاة، أو خالف هذا الترتيب جاز، فقد قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسورة {البقرة} ثم {النساء} ثم {آل عمران}. 4 - جبير بن مطعم حينما سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة {الطور} كان كافرًا، وبلَّغها وهو مسلم، وقد قال العلماء: العبرة بأداء الشهادة لا بتحملها، فمن تحمَّلها وهو كافر أو فاسق، ثم أداها مسلمًا أو عدلاً -قُبِلَتْ شهادته، والرواية مثل الشهادة. *خلاف العلماء: المشهور من مذهب الحنابلة: أنَّ الذي يحرم هو تنكيس كلمات القرآن، وأما تنكيس السوره والآيات فيكره. والرواية الأخرى، عن أحمد: أنَّه لا يكره تنكيس السورة لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ {النساء} قبل {آل عمران}، واحتجَّ الإِمام أحمد: بأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تعلَّمه على ذلك، ولأنَّ ترتيبها بالاجتهاد في قول جمهور العلماء. واختار شيخ الإِسلام وغيره تحريم تنكيس الآيات؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- وضعها هكذا, ولما فيه من مخالفة النص وتغيير المعنى، وقال: ترتيبها واجب؛ لأنَّ ترتيبها بالنص إجماعًا. والاحتجاج بتعليمه فيه نظر، فإنَّه كان للحاجة؛ لأنَّ القرآن نزل حسب الوقائع.

وقال القاضي عياض: إنَّ ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصاحف، وأنَّه لم يكن من ترتيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قول مالك وجمهور العلماء، وهو أصح القولين. وأما ترتيب الآيات فلا خلاف أنَّ ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى، على ما هي عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها -صلى الله عليه وسلم-. اهـ من كلام القاضي عياض، رحمه الله. ***

231 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} " مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "يُدِيمُ ذلِكَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث ابن مسعود رواه الطبراني بإسنادٍ ضعيفٍ، ورجَّح أبو حاتم في "العلل" (1/ 204) إرساله. * مفردات الحديث: - كان: تفيد الداوم والاستمرار غالبًا، فإنَّه قد يتخلف، فقد قال العيني: إنَّها لا تقتضي المداومة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قراءة سورة {الم (1) السجدة} في الركعة الأولى، من صلاة الفجر يوم الجمعة، وسورة {الإنسان} في الركعة الثانية منها، فقراءتها في هذه الصلاة من سنته -صلى الله عليه وسلم- الثابتة. 2 - قوله: "كان"، ورواية الطبراني "يديم ذلك" -دليلٌ على أنه كان مديمًا على قراءة هاتين السورتين، في صلاة صبح الجمعة، وأنه لا يدعهما. 3 - قال ابن القيم في "زاد المعاد": كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في فجر الجمعة بسورتي {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}، وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنَّما كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة؛ لأنَّهما تضمنتا ما ¬

_ (¬1) البخاري (891)، مسلم (880)، الطبراني في الصغير (2/ 178).

كان ويكون في يومها، فإنَّهما اشتملتا على خلق آدم عليه السلام، وعلى ذكر المعاد والحشر للعباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكأن في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرًا للأمة بما كان فيه ويكون؛ ليعتبروا بما كان، ويستعدوا لما يكون، والسجدة جاءت تبعًا ليست مقصودة، حتى يقصد المصلي قراءتها، حيث اتَّفقت. ثم قال -رحمه الله تعالى-: ويظن كثير -ممن لا علم عنده- أنَّ المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، ولذاكره بعض الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة؛ دفعًا لتوهم الجاهلين. 4 - بعض أئمة المساجد يأتون -في صلاة فجر يوم الجمعة- بما يخالف السنة، ويظنون أنَّه بهذا يحسنون: (أ) فبعضهم يقرأ جزءًا من سورة {السجدة} في الركعة الأولى، وجزءًا من سورة {الإنسان} في الركعة الثانية. (ب) وبعضهم يقرأ السجدة في صلاة فجر الجمعة، وفي صلاة فجر الجمعة الثانية يقرأ سورة {الإنسان}. (ج) وبعضهم يقرأ سورة {الجمعة} و {المنافقين}، تذكيرًا للناس بيوم الجمعة. (د) وبعضهم يقرأ في فجر الجمعة شيئًا من سورة {الكهف}، يذكر الناس بقراءتها ذلك اليوم. وهذا كله من تلقاء أنفسهم، والواجب الاتباع، وترك ما عداه. 5 - يُؤخذ من هذا أنه على الخطيب، والواعظ، والمرشد، ونحوهم أن يتحرَّوا المناسبات في تذكير الناس ووعظهم وتوجيههم، فكل وقت له مناسبته، وكل حالة لها ظرفها، كذلك المخاطبون يلقى عليهم ما يناسب حالهم، ويتفق مع مداركهم، ويحرص على الأشياء التي هم واقعون فيها، فتعالج بالحكمة والموعظة الحسنة، ويكون هذا أدعى للقبول، وأقبل للعقول، وأحرى أن يستجاب لهم.

232 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إلاَّ وَقَفَ عِنْدَها يَسْأَلُ، وَلاَ آيَةُ عَذَابٍ إلاَّ تَعَوَّذَ مِنْهَا" أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن؛ فَطرقُ إسناده جيدة، ورواه مسلم (772)، بلفظ آخر عن حذيفة، وأخرجه الخمسة، وحسَّنه الترمذي. وقال في "التلخيص": وروى نحوه البيهقي (2/ 310) من حديث عائشة. * مفردات الحديث: - آية رحمة: مما فيه وعد وبشارة بالجنة، ونعيمها، ورضوان الله فيها. - آية عذاب: مما فيه وعيد، وتخويف من عذاب الله، وغضبه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تدبر القرآن وتفهم معانيه؛ سواء كان قارئًا أو مستمعًا، فهذه هي القراءة المفيدة النافعة؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص] سواء كان في الصلاة أو في غيرها. 2 - استحباب التعوذ بالله تعالى حينما يمر بآية عذاب، أو وعيد، أو نحو ذلك، وسؤال الرحمة حينما يمر بآية رحمة، فهو دعاء مناسب للموضوع. 3 - بعض العلماء قصر هذا الاستحباب على صلاة النافلة، ولكن لا مانع أن ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 328)، أبو داود (871)، الترمذي (262)، النسائي (1008) ابن ماجه (1351).

يشمل الفريضة، فما ثبت لصلاة ثبت لأخرى. ومما ورد فيه: ما رواه أحمد (18576)، وابن ماجه (1352)، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في صلاةٍ ليست بفريضة، فمرَّ بذكر الجنة والنار، فقال: أعوذ بالله من النار وويل لأهل النار"؛ وابن أبي ليلى متكلمٌ فيه. وما رواه أحمد (24088)، عن عائشة قالت: "قمتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة القيام، فكان يقرأ بالبقرة والنساء وآل عمران، ولا يمر بآية فيها استبشار، إلاَّ دعا الله عزَّ وجل ورغب إليه". فهذا كله في النافلة، ولكن لا مانع من شمول ذلك للفريضة، فإنَّ ما ثبت لصلاة ثبت لأخرى، هذا هو الضابط عند الفقهاء، وهو ضابط جيد، ينطبق على أحكام الصلاة بنوعيها, ولا يخرج عن عموم النصوص إلاَّ ما خصص. 4 - قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الفوائد": إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فأجمع عند تلاوته وسماعه قلبك، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطب به من تكلَّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، فهذا هو المحل القابل، والمراد به: القلب الحي الذي يعقل عن الله، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي وجَّه سمعه، وأصغى بحاسة سمعه، {وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق] أي: شاهد القلب، ليس بغافل ولا ساهٍ، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل الحي، ووجد الشرط، وهو إصغاءٌ، وانتفى المانع -حصل الانتفاع. ***

233 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألاَ وَإنِّي نُهِيْتُ أنْ أقْرَأ القُرْآنَ رَاكِعًا أوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فعظِّموا فيه الرَّب: العظيم: وَصْفُهُ تعالى بصفات العظمة، والإجلال، والكبرياء، والمراد هنا قول: "سبحان ربي العظيم". - فاجتهدوا: الجهد بالضم والفتح: الوسع والطاقة، وهو مصدر من: جهد في الأمر جهدًا، من باب نفع، إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب. - فقَمِنٌ: بفتح القاف المثناة، وكسر الميم بعدها نون. قال ابن رسلان: هو بفتح الميم مصدر، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وأما بالكسر فهو وصف شيء، يجمع، ويثنى، ويؤنث. أي: حقيق، وجدير، وخليق، أن يستجاب لكم دعاؤكم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن قراءة القرآن في حالة الركوع والسجود، في الصلاة الفريضة والنافلة، والنهي من الرب تبارك وتعالى، فإنَّ المنهي هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما نهي عنه فالأصل أنَّ أمَّته منهية عنه أيضًا. 2 - الحديث يقتضي تحريم المنهي عنه، فتكون قراءة القرآن محرَّمة في الركوع والسجود، إلاَّ أنَّ أكثر العلماء حملوا النَّهي على الكراهة فقط، دون ¬

_ (¬1) مسلم (479).

التحريم، فقد وجدوا المقام لا يقتضيه. قال في "شرح الإقناع": وتكره القراءة في الركوع والسجودة لنهيه -صلى الله عليه وسلم-، ولأنَّها حال ذلٍّ وانخفاضٍ، والقرآن أشرف الكلام. 3 - وجوب تعظيم الرب جلَّ وعلا في حالة الركوع، ويكون التعظيم بالصيغة الواردة، فقد جاء في مسند أحمد (16961)، وسنن أبي داود (869) من حديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوها في ركوعكم". 4 - وجوب تنزيه الرب جلَّ وعلا في حالة السجود، ويكون بالصيغة الواردة، فقد روى الإِمام أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى]، قال: "اجعلوها في سجودكم". 5 - تسبيحات الركوع والسجود الواجب منها مرَّة واحدة "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، وأدنى الكمال ثلاث مرات، وأعلاه للإمام عشر تسبيحات، والاقتصار عليها أفضل من الإتيان بذكر معها، ما لم يطل السجود. 6 - "سبحان ربي العظيم" واجبة في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" واجبة في السجود، والواجب يسقط بالسهو، ويجبره سجود السهو، كما سيأتي إن شاء الله. 7 - الأفضل الإطالة والاجتهاد في الدعاء، فهو حريٌّ أن يستجاب للداعي، وقد جاء في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [رواه مسلم (482)]، وهذه الإطالة ما لم يكن فيها إثقال على المصلين، فمنهم العاجز وصاحب الحاجة. 8 - قال شيخ الإِسلام: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون

في حقه أفضل. 9 - ذهب الإِمام أحمد إلى: أنَّ التسبيح في الركوع والسجود من واجبات الصلاة، والواجب تسبيحة واحدة، وما زاد فهو سنة، ودليل الوجوب ما رواه مسلم (772) عن حذيفة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى"، وما رواه أحمد (16961) وأبو داود (869)، عن عقبة بن عامر قال: "لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}، قال اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، قال: اجعلوها في سجودكم". أما الأئمة الثلاثة: فيرون أنَّ ذلك مستحبٌّ، ليس بواجب. قال النووي: تسبيح الركوع والسجود، وسؤال المغفرة سنة، وليس بواجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي. والراجح الوجوب للأمر به. ***

234 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سبحانكَ اللَّهمَّ وبِحمدك: الباء في "بحمدك" متعلقة بـ"سبحانك" أي: وبحمدك سبحتك، ومعناه: بتوفيقك، وهدايتك، وفضلك، لا بحولي وبقوتي. - وبحمدك: الجار والمجرور؛ إما حال من فاعل الفعل، الذي أنيب المصدر منابه، وتكون "اللَّهمَّ ربَّنا" معترضة، وإما أن يكون من باب عطف جملة على جملة، وعلى هذا ما جاء في الذكر المشهور: "سبحان الله وبحمده". - اللَّهم: هي بمعنى "يا الله" فالميم عوض عن ياء النداء. * ما يؤخذ من هذ الحديث: 1 - روى الإِمام أحمد (3674) بسنده إلى ابن مسعود قال: "لما نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر]، كان يكثر أن يقول إذا ركع: سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللَّهمَّ اغفر لي" ثلاثًا. 2 - هذا الذكر مستحب أن يقال في الركوع والسجود، مع "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود. وهذا الذكر يقوله -صلى الله عليه وسلم- متأولًا للآية الكريمة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]، ولذا فإنَّ عائشة -رضي الله عنها- تقول: "إنَّه يتأول القرآن". متفق عليه. ¬

_ (¬1) البخاري (717)، مسلم (484).

3 - الذكر في غاية المناسبة، لما فيه من التذلل، والتضرع لله تعالى، وتنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب، وإثبات المحامد له، ثم بعد هذا كله سؤاله المغفرة، هذا والعبد في غاية الذل والخضوع لله تعالى راكعًا وساجدًا. 4 - الذكر المذكور مندوب إليه، وليس بواجب، وإنَّما المشروع بالإجماع هو "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، لما في مسلم والسنن من حديث حذيفة قال: "إنَّه صلَّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى". 5 - وهذا الخبر يعود إلى صفات الله تعالى ذي القوَّة والملك والعظمة، وهذه الصفات من شأنها أن ترجع العبد إلى كمال التوكل، والاعتماد عليه، فلا يلتجىء إلى غيره، ولا يلتفت إلى سواه، ولا يعظم غيره، بل يهون عليه كل أمر، لأَنَّه ينظر إلى قدرة قادر عظيم، يستمد منه العون والتوفيق، ويعتمد عليه في تحقيق ما يرجوه، من خير، وقوَّة، وسعادة. ***

235 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ إِلى الصَّلاَةِ، يُكَبِّرُ حِيْنَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْكعُ، ثمَّ يَقُولُ: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حِيْنَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِيْنَ يَرْفَعُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذلِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا، وَيُكَبِّرُ حِيْنَ يَقُومُ مِنَ اثْنينِ بَعْدَ الجُلُوسِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سمع الله: أي: أجاب الله من حمده، متعرضًا لثوابه، والدليل على صحة هذا المعنى: الإتيان باللام في قوله: "لِمَن حمده"، ولو كان السماع على بابه، لقَالَ: "سمع الله من حمده". - صُلبه: الصلب فيه أربع لغات: إحداها: ضم الصاد وسكون اللام، والمراد به: الظهر. قال في "المصباح": الصلب: كل ظهر له فقار. - ربَّنا ولك الحمد: بهذه الصيغة اجتمع معنيان: الدعاء والاعتراف، ربَّنا استجيب لنا, ولك الحمد على هدايتك. - يهوي: قال في "المصباح": هوى -بالفتح يهوي- من باب ضرب -هُوِيًّا- بضم الهاء وفتحها: -إذا هبط وانحط من أعلى إلى أسفل. ¬

_ (¬1) البخاري (789)، مسلم (392).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية تكبيرات الانتقالات بين الأركان، في هذه المواضع كلها، عدا التسميع عند الرفع من الركوع. 2 - قوله: "سمع الله لمن حمده" معناه: استجاب الله لمن حمده، وهذه الجملة خاصة بالإمام والمنفرد دون المأموم، فليست مناسبة لحقه، لما جاء في البخاري (796)، ومسلم (409)؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد"، والاقتصار على التحميد للمأموم هو قول جمهور العلماء. 3 - قوله: "كان" يدل على أنَّ هذه سنته المستمرة في الصلاة؛ لما روى أحمد (4212)، والترمذي (251)، والنسائي (1142) من حديث ابن مسعود قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكبر في كل رفع، وخفض، وقيام، وقعود". وعليه عامَّة الصحابة والتابعين. قال البغوي: اتَّفقت الأمة على هذه التكبيرات، وهذا عدا الرفع من الركوع. 4 - قوله: "حين" دليل على أنَّ وقت التكبير مع الانتقال من ركن إلى ركن، فلا يتقدم عن البدء بالحركة ولا يتأخر؛ بحيث يصل الركن الثاني وهو لم ينته من التكبير، بل يكون موضعُ التكبير؛ الحركةَ التي بين الركنين. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه اللهُ-: تكبيرات الانتقال محلها بين ابتداء الانتقال والانتهاء؛ لأنَّها الذكر المشروع بين الأركان، ونفس الأركان مختصة بأذكارها المشروعة فيها، فهذا مأخذ الفقهاء لهذا التحديد. وهذا كما ذكر المجد وغيره: أنَّه هو الأولى، ولكنه لا يجب؛ لعسر التحرز من ذلك، فمأخذ هذا القول الصحيح هو دفع المشقة والعسرة.

ولذا يُنَبَّهُ هنا إلى خطأ يفعله كثير من الأئمة في الصلاة؛ حيث لا يأتون بتكبيرات الانتقال إلاَّ بعد الانتهاء من الانتقال، فيأتون مثلًا بتكبيرة الانتقال من السجود إلى القيام، وهم قيام، فَلْيُنتبَهْ إلى ترك هذا، وفعل ما هو الأولى. 5 - مشروعية التكبير في هذه الانتقالات، إلاَّ في الرفع من الركوع؛ فإنَّه يقول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد، وأما المأموم فيقول: "ربَّنا ولك الحمد". 6 - التكبير هو شعار الصلاة، فمعنى "الله أكبر"؛ أي: من كل شيء. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية تكبيرات الانتقال بين الأركان في الصلاة، فرضها ونفلها؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر ويداوم عليها، ويقول: "إذا كبر، فكبروا". واختلفوا في وجوبها، فذهب الإِمام أحمد وجمهور أهل الحديث إلى وجوب التكبير للأمر بها: ولمداومته -صلى الله عليه وسلم- عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي": [رواه البخاري (605)]. وذهب الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى: أنَّها سنة، وليست بواجبة؛ لحديث المسيء في صلاته. قال النووي وغيره: التكبير غير تكبيرة الإحرام سنة، وليس بواجب، فلو تركه صحت صلاته، لكن يكره تركه عمدًا. قلتُ: والأحاديث الواردة محمولة على الاستحباب، جمعًا بين الأخبار، فهذا القول هو قول عامة العلماء، والقول الأوَّل أحوط. ***

236 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: "كَانَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذا رَفَعَ رَأسَهُ منَ الرُّكُوعِ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا شِئتَ مِنْ شَيءٍ بعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ -وَكلُّنا لَكَ عَبْدٌ-: اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ربَّنا لك الحمد: قال الكرماني: بدون الواو، وفي بعض الروايات بالواو، والأمران جائزان، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر في المختار. - ملء السموات والأرض: "ملءَ" منصوب على المصدرية، أو مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف. قال الخطابي: هو تمثيل وتقريب، فالكلام لا يقدر بالمكاييل، ولا تسعه الأوعية، والمراد: تكثير العدد، لو قدر ذلك أجسامًا، ملأ ذلك كله. - بعد: ظَرْفٌ قُطِعَ عن الإضافة، مع إرادة المضاف إليه، فيكون مبنيًّا على الضم. - من شيء: بيان لقوله: "ما شئت". - أهل الثناء: بالنصب على الاختصاص، أو منادى حُذِفَ منه حرف النداء ويجوز رفعه على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنت أهل الثناء. ¬

_ (¬1) مسلم (477).

والثناء: هو المدح بالأوصاف الكاملة. - المجد: المجد: هو غاية الشرف وكثرته، والرفعة. - أحق ما قال العبد: "أحق" مبتدأ، وهو مضاف إلى "ما" المصدرية، وخبره قوله: "لا مانع لما أعطيت"، وما بينهما اعتراض، والألف واللام في "العبد" للتعريف، لا للعهد. - وكلنا لك عبد: جملة معترضة بين المبتدأ والخبر. - لا مانع لما أعطيت: "لا" نافية للجنس، و"مانع" اسمها مبني على الفتح؛ أي أردت إعطاءه. - منك: أي: من مؤاخذتك. - اللَّهمَّ ربَّنا: هكذا في أكثر الروايات، وبعضها بحذف "اللهمَّ"، والأُولى أوْلى؛ لأنَّ فيها تكرير النداء، فكأنَّه يقول: يا الله يا ربنا. - ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ: "الجد" الثانية فاعل "ينفع"، بفتح الجيم، وهو الغنى؛ أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، ولا حظه وبخته، وقيل: بكسر الجيم، ومعناه: لا ينفع صاحب الاجتهاد منك اجتهاده، إنَّما ينفعه رحمتك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية هذا الذكر في هذا الركن بعد الرفع من الركوع والتسميع، والواجب منه: "ربَّنا ولك الحمد"، وكلما زاد منه فهو أفضل حتى نهايته، وهو مشروع للإمام والمأموم والمنفرد، في الفرض والنفل، وهو إجابة للإمام حينما قال: "سمع الله لمن حمده"، فناسب حمد الله تعالى بهذا الذكر. 2 - أما معاني الذكر فهي في الفقرات الآتيات: (أ) "ربَّنا لك الحمد" قال في "شرح المهذب": ربَّنا أطعْنَا وحمدنا، ذلك الحمد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة: "ربَّنا ولك

الحمد" بالواو. (ب) "ملء السموات والأرض" يراد بذلك تعظيم قدرها، وكثرة عددها، والمعنى: أنَّك يا ربَّنا مستحقٌّ لهذا الحمد، الذي لو كان أجسامًا، لملأ ذلك كله. (ج) "وملء ما شئت من شيء" مما لا نعلمه من ملكوتك الواسع. (د) "أهل الثناء والمجد" أي: أنت أهل الثناء، الذي تثني عليك جميع المخلوقات، والمجد: هو غاية الشرف وكثرته. (هـ) "أحق ما قال العبد" أي: أنت أحق بما قال لك العبد، من المدح والثناء. (و) "وكلنا لك عبد" معناه ما في الآية الكريمة: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم] يعني: أنَّ كل المخلوقات في السموات والأرض مقرة بالعبودية لله تعالى، آتية إليه خاضعة منقادة يوم القيامة. (ز) "لا مانع لما أعطيت" أي: لا مانع لما أردت إعطاءه. (ح) "ولا معطي لما منعت" أي: لا معطي من أردت حرمانه من العطاء بحكمتك وعدلك. (ط) "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" الجد هو الحظُّ والبخت؛ أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه وحظه، فلا يعيذه من العذاب، ولا يفيده شيئًا من الثواب، وإنَّما النافع ما تعلَّقت به إرادتك فحسب. قال النووي: فيه كمال التفويض إلى الله تعالى، والاعتراف بكمال قدرته وعظمته، وقهره وسلطانه، وانفراده بالوحدانية، وتدبير مخلوقاته. ***

237 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قالَ: قَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ: علَى الجَبْهَةِ -وَأشَارَ بيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- واليَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأطْرَافِ القَدَمَيْنِ". متَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أمرت: على صيغة المجهول، والآمر هو الله، وجاء في بعض روايات الصحيح: "أمرْنَا"؛ لتدل على صيغة العموم. - اليدين: أي: الكفَّين، كما هو المراد عند الإطلاق، ولئلا يعارض حديث النهي عن الافتراش كافتراش السبع. - وأشار بيده إلى أنفه: جملة معترضة بين المعطوف عليه، وهو "الجبهة"، والمعطوف، وهو "اليدان"، والغرض منها بيان أنَّهما عضو واحد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - "أمرت"، وفي رواية "أُمرنا"، وفي رواية: "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ والثلاث الروايات كلها للبخاري، والقاعدة الشرعية أنَّ ما أُمِرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أمرٌ عامٌّ له ولأمته؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال تعالي: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولا يخرج من هذا العموم إلاَّ ما جاء النص بتخصيصه به -صلى الله عليه وسلم-؛ كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. 2 - فيه وجوب السجود في الصلاة على هذه الأعضاء السبعة: وهي الجبهة ¬

_ (¬1) البخاري (812)، مسلم (490).

ومعها الأنف، والكفان، والركبتان، والقدمان. 3 - قوله: "وأشار بيده إلى أنفه" معناه: أنَّ الجبهة والأنف عضو واحد، وإلاَّ لكانت الأعضاء ثمانية. 4 - السجود: هو الخضوع والتذلل لله تبارك وتعالى، وهو فرض في الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقال الوزير: أجمع العلماء على مشروعيته. 5 - الحديث ظاهر الدلالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة؛ إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء. 6 - ذهب جمهور العلماء إلى: أنَّه يجب أن يجمع بين الأنف والجبهة، وحكى ابن المنذر الإجماع على أنَّه لا يجزىء على الأنف وحده. 7 - اليد إذا أطلقت فالمراد بها الكف فقط، ولما روى البخاري تعليقًا، ووصله ابن أبي شيبة (1/ 238)، والبيهقي (2/ 106) عن الحسن قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسجدون وأيديهم في ثيابهم". 8 - يجزىء من كل عضو بعضه، جبهةً كانت أو غيرها؛ قال في "شرح الإقناع": ويجزىء في السجود بعض كل عضو من الأعضاء المذكورة، إذا سجد عليه؛ لأنَّه لم يقيد في الحديث. 9 - ولو سجد على حائل متصل به من غير أعضاء سجوده، أجزأ. قال في "شرح الإقناع": "ولا يجب على الساجد مباشرة المصلى بشيء من أعضاء السجود حتى الجبهة، فلو سجد على متصل به غير أعضاء السجود، ككور عمامته، وكُمِّه وذيله ونحوه، صحت صلاته، لكن يكره ترك المباشرة باليدين والجبهة، بلا عذر من حر وبرد، فلو سجد على متصل به ككور عمامته، لم يكره لعذر.

قال في "الحاشية": وحكمته: أنَّ القصد من السجود مباشرة أشرف الأعضاء؛ ليتم الخضوع والتواضع. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: ومن الفروق الصحيحة الفرق بين الحائل في السجود، وهي ثلاثة: (أ) إن كان من أعضاء السجود، فلا يجزىء. (ب) إن كان حائلاً منفصلاً، فلا بأس به. (ج) إن كان على حائل مما يتصل بالمصلي، فيكره إلاَّ لعذر من حرٍّ وشوكٍ ونحوهما. 10 - يشرع أن يسجد على ركبتيه، فيضعهما على الأرض قبل يديه. 11 - السجود على هذه الأعضاء جاء بأمر الله تعالى، فهو دليل على أنَّه محبوب إلى الله تعالى، وما كان محبوبًا إلى الله تعالى فهو من أجل العبادات؛ ذلك أنَّ الإنسان يضع أشرف أعضائه على الأرض، ومِن كمال هذا السجود مباشرة المصلي لأديم الأرض بجبهته استكانةً وتواضعًا، والاعتماد على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه. قال ابن القيم: كان -صلى الله عليه وسلم- يسجد على جبهته وأنفه، دون كور عمامته، ولم يثبت عنه السجود على كور عمامته، في حديث صحيحٍ ولا حسنٍ. 12 - ثبت من طرق عدة: "ما من عبدٍ سجد للهِ سجدة، إلاَّ كتب الله له بها حسنةً، وحط عنه بها خطيئته"، وشرع تكرير السجود في كل ركعة؛ لأنَّه أبلغ ما يكون في التواضع. 13 - الحث على السجود وذكر فضله، وأما عظيم أجره فمعلوم من الدين بالضرورة، وهو سر الصلاة، وركنها الأعظم، والمصلي أقرب ما يكون إلى الله في حال سجوده. 14 - قال في "حاشية الروض": ولا يكره السجود على الصوف، واللبود،

والبسط، وجميع الأمتعة. قال النووي: وهو قول جماهير العلماء. 15 - وقال شيخ الإِسلام: دلَّت الأحاديث والآثار على أنَّهم في حال الاختيار يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة -كالحر ونحوه- يتَّقون بما يتَّصل بهم من طرف ثوب وعمامة؛ ولهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة أنَّه يكره ذلك، إلاَّ عند الحاجة. ***

238 - وَعَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى وَسَجَدَ فرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يبْدُوَ بيَاضُ إبْطَيْهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فرَّج: بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم؛ أي: باعد بينهما، فنحَّى كل يَدٍ عن الجانب الذي يليها. - الإبط: فيه لغات، أفضلها كسر الباء، جمعه: آباط، يذكر ويؤنث، وهو باطن المنكب والجناح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في السجود أن يفرج بين يديه تفريجًا بليغًا؛ بحيث يظهر بياض إبطيه. 2 - استحباب السجود على هذه الكيفية؛ لأنَّها دليل النشاط والقوَّة، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]. 3 - قال في: "الروض المربع وحاشيته": ويجافي الساجد عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وهما عن ساقيه، ما لم يؤذ جاره؛ ليستقل كل عضو منه بالعبودية، مع مغايرته لهيئة الكسلان. 4 - قال الأستاذ طبارة: الصلاة رياضة دينية إجبارية لكل مسلم، يؤديها خمس مرات بدون إجهاد ولا إرهاق، وإذا تأمَّلنا حركات الصلاة وجدنا شبهًا بينها وبين النظام السويدي في الرياضة، بل إنَّك ترى أنَّ حركة الجسم في أثناء الصلاة، أحكم وأصلح لكل سن وجنس. ¬

_ (¬1) البخاري (807)، مسلم (495).

5 - فيه دليل على أنَّ الإبط ليس من العورة في الصلاة، وأنَّ ظهوره لا يخالف الآداب العامة بين الناس. 6 - وفيه أنَّ كل عضو في الصلاة يأخذ نصيبه من العبادة، إذ لو اعتمد كل عضو على الآخر، لم يحصل هذا التوزيع بين الأعضاء، ولم تأخذ نصيبها من العبادة. 7 - وقد ورد هذ المعنى صريحًا فيما أخرجه الطبراني وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تفترش افتراش السبع، واعتمد على راحتيك، وأبْدِ ضبعيك، فإذَا فعلتَ ذلك، سجد لك كل عضو منك". 8 - هذه الكيفية تكون ما لم يؤذ المصلي من بجَانِبه في الصلاة، فإن آذاه واستولى على مكانه وزَحَمه، فلا ينبغى؛ فدرء المفاسد -بإشغال المصلين- أولى من جلب المصالح بهذه الصفة. ***

239 - وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 240 - وَعَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إذَا رَكعَ فَرَّجَ بَيْنَ أصَابِعِهِ، وَإِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ" رَوَاهُ الحَاكِمُ (¬2). ¬

_ * درجة الحديث: حديث وائل بن حجر حديثٌ حسنٌ. قال في "التلخيص": وله شاهد من حديث أبي حميد عند أبي داود (731): "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان في الركوع يفرج بين أصابعه"، وكذلك له شاهد عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديث أبي مسعود الأنصاري. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة (1/ 301)، وابن حبان (5/ 247). * مفردات الحديثين: - مرفقيك: تثنية "مرفق"، بفتح الميم وكسر الفاء، ويجوز العكس، وهو موصل. الذراع بالعضد. - فرج بين أصابعه: باعد بين أصابع يديه، حين قبضه بهما على ركبتيه. - ضم أصابعه: جَمَعَ أَصَابعَ يديه إذا وضعهما على الأرض، حال السجود. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل حديث البراء على أنَّ الواجب على المصلي أن يضع كفَّيه على

الأرض، والكفان هما عضوان من أعضاء السجود السبعة، المذكورة في حديث ابن عباس المتقدم. 2 - هذا الحديث أيَّد الأصل، من أنَّ المراد باليدين هما: الكفان. 3 - تقدَّم أنَّه يجزىء وضع أي جزء من اليدين على الأرض، وأما الأفضل فهو تمكين باطنهما منها، واستقبال القبلة بأصابعهما. 4 - يدل الحديث على استحباب رفع الذراعين عن الأرض، وكراهة افتراشهما كما يفترش السبع ذراعيه. 5 - أنَّ هذا فيه بُعدٌ عن مشابهة هذا الحيوان النجس لحالة الصلاة، التي هي مناجاة ودخول على الله تبارك وتعالى، مع ما في رفعهما من دليل على النشاط والقوَّة، والرَّغبة في العبادة. 6 - أما حديث وائل: ففيه دليلٌ على استحباب تمكين الراحتين من الركبتين، أثناء الركوع. 7 - كما أنَّه يدل على استحباب تفريج أصابعه فوق الركبة؛ فإنَّ ذلك أمكَن من الركوع، وأثبت لحصول تسوية ظهره برأسه. 8 - ويدل على ضم أصابع اليدين أثناء السجود؛ ليحصل بذلك كمال استقبال القبلة بها، وهو أعون على تحملها أثناء السجود. 9 - ما تقدم من تفريج اليدين، وتجافي المرفقين عن الجنبين، والبطن عن الفخذين أثناء السجود -خاصٌّ بالرجل. أما المرأة فقال الفقهاء: "والمرأة تضم نفسها في ركوع وسجود وغيرهما، فلا تتجافى، وتسدل رجليها في جانب يمينها في جلوسها؛ لأنَّ ذلك أستر لها؛ وذلك لما أخرجه أبو داود في "مراسيله" (ص 118) عن يزيد ابن أبي حبيب: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على امرأتين تصليان، فقال: إذا سجدتما، فَضُمَّا بعض اللَّحم إلى الأرض؛ فإنَّ المرأة في ذلك ليست كالرجل".

قال البيهقي (2/ 223): هذا المرسل أحب إليَّ من موصولين فيه. 10 - قال -صلى الله عليه وسلم-: "وأما السجود، فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقَمِن أن يستجاب لكم" [رواه مسلم (479)]؛ والأمر بإكثار الدعاء في السجود، يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، ويشمل التكرار للسؤال الواحد، كيف وقد خضع لربه، ووضع أشرف أعضائه على التراب. 11 - هل طول السجود أفضل، أم طول القيام؟ صوَّب شيخ الإِسلام أنَّهما سواء؛ فإنَّ القيام أفضل بذكره وهو القراءة، والسجود أفضل بهيئته، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفَّف القيام خفَّف الركوع والسجود. ***

241 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُتَرَبِّعًا". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ رَواه النسائي وابن خزيمة من: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس متربعاً"، فأعله النسائي بتفرد أبي داود الحفري، وقال: لا أحسبه إلاَّ خطأ، لكن تابعه محمَّد بن سعيد ابن الأصبهاني عند البيهقي، وهو ثقة ثبت، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (1/ 41)، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان (6/ 257)، والبيهقي (2/ 305)، وله شاهد عن عبد الله بن الزبير رواه البيهقي، وعن أنس رواه البيهقي أيضًا. * مفردات الحديث: - متربِّعًا: التربع هو أن يجلس قابضًا ساقيه، مخالفًا بين قدميه، جاعلاً ساقيه إحداهما فوق الأخرى، ويكون القدم اليمنى في مقبض فخذه اليسرى، والقدم اليسرى في مقبض فخذه اليمنى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التربع: هو أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت الفخذ اليمنى، وقد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا لما سقط من فرسه، وانفكت قدمه. 2 - الحديث دليل على كيفيَّة قعود العليل إذا صلى جالسًا. 3 - التربع خاص بالجلسة التي هي مقابل قيام الصحيح، وليست في كل ¬

_ (¬1) النسائي (661)، ابن خزيمة (2/ 89).

جلسات الصلاة. 4 - قال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العَجْز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه؛ لأنَّ الخشوع مقصود الصلاة. 5 - قال النووي: أجمعت الأمة أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعدًا, ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه؛ للخبر. قال شيخ الإِسلام: من نوى الخير، وفعل ما قدر عليه، كان له كأجر الفاعل. ***

242 - وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النبَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي" رَوَاهُ الأرْبَعَةُ إلاَّ النَّسَائِيَّ، واللَّفْظُ لأِبي دَاودَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ؛ وله طرق متعددة، فقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (1/ 393)، والبيهقي (2/ 122)، واللفظ لأبي داود، وليس فيه "واجبرني"، وهي عند الترمذي، ولم يقل: "وعافني"، وجمع ابن ماجه بين "ارحمني واجبرني"، وزاد: "وارفعني"، وليس عنده "اهدني، وعافني"، والحاكم جمع بين هذه الألفاظ كلها، إلاَّ لفظ "وعافني". وطرق هذا الحديث فيها كلها كامل بن العلاء التميمي، طعن فيه بعض الأئمة، ووثَّقه بعضهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية الطمأنينة في الجلسة التي بين السجدتين، كما ثبت ذلك. 2 - فيه مشروعية الدعاء المذكور فيه في هذه الجلسة، ومذاهب الأئمة فيه الآتي: (أ) الحنفية: لا يرون سنية الدعاء بين السجدتين، وإنَّما هو جائز عندهم. وما ورد فيه يحملونه على صلاة النفل، أو صلاة الوتر. ¬

_ (¬1) أبو داود (850)، الترمذي (284)، ابن ماجه (898)، الحاكم (1/ 262).

(ب) هذا الذكر مستحب عند بقية الأئمة الثلاثة. (ج) وذهب الحنابلة إلى: أنَّ "رب اغفر لي" واجبة مرَّة واحدة، وأدنى الكمال فيها ثلاث، وما زاد عنها من الكلمات فهو سنة. صيغة الدعاء عند المالكية والشافعية والحنابلة هو: "رب اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارزقني، واهدني، وعافني". 3 - قال ابن القيم: لما فصل بركن بين السجدتين، شرع فيه من دعاء ما يليق به ويناسبه، وهو سؤال المغفرة، والرحمة، والهداية، والعافية، والرزق. 4 - قال الشيخ تقي الدين: الأفضل الدعاء بما ورد. وقال الموفق: الكمال فيه كالكمال في تسبيح الركوع والسجود. وقال شيخ الإِسلام: لا دليل على تقييده بعدد معلوم، وكان عليه الصلاة والسلام يطيل فيه بمقدار السجود. 5 - في صحيح مسلم (2697): "أنَّ رجلًا أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كيف أقول حين أسأل ربِّي؟ فقال: اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني؛ فإنَّ هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك". * معاني الكلمات الخمس: - اغفر لي: أي: استرني، مع التجاوز عن المؤاخذة. - ارحمني: أي: هات لي من لدنك رحمة تشتمل على ستر الذنب وعدم المؤاخذة، مع الإفضال عليَّ من خيري الدنيا والآخرة. - اهدني: الرحمة تشمل الهداية، فعُطِفَ عليه، من باب عطف الخاص على العام، والهداية نوعان: أحدهما: التوفيق إلى العلم النافع، والعمل الصالح، والإيمان الثابت، وهي الهداية القلبية، وهذه لا يملكها إلاَّ الله. الثاني: بمعنى الدلالة والإرشاد إلى طريق الحق والصواب.

- عافني: اعطني سلامة وعافية، في ديني من السيئات والشبهات، وفي بدني من الأمراض والأسقام، وفي عقلي من العته والجنون، وأعظم الأمراض هي أمراض القلب، إما بالشبهات المضلَّة، وإما بالشهوات المهلكة، فهذا النوع من المرض هو سبب الشقاوة الأبدية، والعياذ بالله. ومع هذا، فالناس بغفلة يتزاحمون على المستشفيات والعيادات؛ لعلاج أمراض البدن، ولا يأتون العلماء، ومجالس الذكر، وأبواب المساجد؛ لعلاج أمراض القلوب. وهذا مما يدل على ضعف في العقل، وضعف في اليقين، وانتكاس في التفكير، وعدم تمييز الحقائق. - ارزقني: أي: اعطني رزقًا، يغنيني في هذه الحياة الدنيا عن الحاجة إلى خلقك، وأعطني رزقًا واسعًا في الآخرة، مثل ما أعددته لعبادك الذين أنعمت عليهم. والرزق: عند أهل السنة والجماعة يشمل الحلال والحرام، ولكن موضع الدعاء هو طلب الرزق الحلال في الدنيا. ***

243 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ، لَم يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوَي قَاعِدًا". رواه البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وِتْر من صلاَتِهِ: هي عند النهوض إلى القيام إلى الثانية، وعند النهوض من الثالثة إلى الرابعة في الرباعية، وتسمى جِلسة الاستراحة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على استحباب هذه الجِلسة، وهو أنَّ المصلي إذا قام في وتر من صلاته؛ بأن يقوم من الركعة الأولى، أو يقوم من الركعة الثالثة، فإنَّه يستوي جالسًا، فيما بين السجدة الأخيرة والقيام، ثم ينهض لأداء الركعة الثانية، أو الركعة الرابعة. 2 - هذه الجلسة يسميها العلماء "جلسة الاستراحة"، والاستراحة: طلب الراحة؛ فكأنَّ المصلي حصل له إعياء، فيجلس ليزول عنه. 3 - وهي جلسة خفيفة لطيفة عند من يرى استحبابها، قال النووي: جلسة الاستراحة جلسة لطيفة؛ بحيث تسكن حركتها سكونًا بينًا. * خلاف العلماء: ذهب الإِمام الشافعي في القول المشهور من مذهبه إلى: استحباب جلسة الاستراحة، وذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم استحبابها. ودليل الشافعي: هو حديث الباب الذي رواه البخاري وغيره من حديث ¬

_ (¬1) البخاري (823).

مالك بن الحويرث: "أنَّه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعدًا". أما دليل الثلاثة في تركها فما روى الترمذي (288) من حديث أبي هريرة: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان ينهض على صدور قدميه". قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم. وقال أبو الزناد: تلك السنة. وقال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجلس. قال الإِمام أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، وممن روي عنهم تركها: عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس. قال ابن القيم: اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة؛ هل هي من سنن الصلاة، أو ليست من السنن؟ وإنَّما يفعلها من يحتاج إليها؟ على قولين: ففي حديثي أبي أمامة وابن عجلان ما يدل على: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- نهض على صدور قدميه"، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسائر من وصف صلاته لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد، ومالك بن الحويرث، ولو كان هديه -صلى الله عليه وسلم- دائمًا لذكرها كل واصف لصلاته، ووجود فعلها لا يدل على أنَّها من سنن الصلاة، إلاَّ إذا عُلم أنه فعلها سنة، فيقتدى به فيها، وأما إذا قدر أنَّه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة، فهذا من تحقيق المناط في المسألة. واختار الشيخ تقي الدين: أنه -صلى الله عليه وسلم- جلس في آخر عمره عند كِبَره، جمعًا بين الأخبار. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: المشهور من المذهب أنَّها ليست مشروعة، وإنَّما هي من الأسباب العارضة، لا الراتبة، فيكون فعلها من

السنة العارضة، لا الراتبة، وبهذا تجتمع الأدلة. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أصح الأقوال الثلاثة في جلسة الاستراحة: استحبابها, للحاجة إليها، واستحباب تركها، عند عدم الحاجة إليها. اهـ. وهذا القول هو الراجح؛ ذلك أنَّ هذه الجلسة ليست مقصودة لذاتها، حتى تكون سنة راتبة، وليس لها ذكر يقال فيها، فعلم أنَّها مرادة عند الحاجة إليها، من عجز، ومرض، وشيخوخة، ونحو ذلك، فتفعل حينئذٍ. قال في "المغني": وبهذا القول تجتمع الأدلة. والله أعلم. ومسائل الخلاف في الفروع لا ينبغي أن تكون مثار فتنة، وشقاق، وتنازع، والأفضل بحث المسائل في جو ودّي علمي، فما وصل فيه أهل العلم إلى اتفاق فذاك، وما اختلفوا فيه فلا ينكِرُ بعضُهم على بعض، ويعادي بعضهم بعضًا، وإنَّما الواجب أن يعذر بعضهم بعضًا بما وصل إليه المخالف من الاجتهاد؛ فإنَّ العداوة والبغضاء هو سبب تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت أمرهم، وضعف شأنهم، حتى أصبحوا ممزقين متفرقين، قد تسلط عليهم أعداؤهم، فاستباحوا بلادَهم، وأضعفوا كيانهم، وصار المسلمون لهم أتباعًا، وفيما بينهم أحزابًا، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. ***

244 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكوعِ، يَدْعُو عَلَى أحْيَاءٍ مِنْ أحْيَاءِ العَرَبِ، ثمَّ ترَكَهُ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. ولأحمدَ والدَّارقطنِيِّ، نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخرَ، وَزَادَ: "وَأَمَّا فِي الصُّبْحِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة أحمد والدارقطني صححها الحاكم، ومال ابن دقيق العيد إلى تصحيحها, ولكن في سندها عيسى بن ماهان؛ وهو سيء الحفظ، والربيع بن أنس؛ وله أوهام، والمعول في الجمع بين أحاديث القنوت هو ما سيأتي عن ابن القيم، رحمه الله. * مفردات الحديث: - قنت: ذكر العلماء أنَّ للقنوت عشرة معانٍ، والمراد هنا: هو الدعاء في الصلاة بعد الرفع من الركوع الأخير من الوتر، وبعد الرفع من الركوع في الثانية من صلاة الفجر، عند من يرى ذلك. - على: تكون للضرر، فيقال: دعا عليه. - أحياء من العرب: جمع "حيٍّ"، قال في "المصباح": الحي القبيلة من العرب، والمراد بهم هنا: رِعِل، وَعُصَيَّة، وَذَكْوَان، وبنو لِحْيَان. ... ¬

_ (¬1) البخاري (4089)، مسلم (677)، أحمد (12246)، الدارقطني (2/ 39).

245 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يَقْنُتُ إِلاَّ إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ" صحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن القيم في "زاد المعاد": أحاديث أنس في القنوت كلها صحاح، يصدق بعضها بعضًا، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقَّته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، ففعله شهرًا يدعو لقوم، ثم استمرَّ تطويل هذا الركن للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، والذي تركه هو الدعاء على أقوام من العرب، وكان بعد الركوع. ... ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1/ 314).

246 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الأَشْجَعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: "قُلْتُ لأَبي: يَا أبَتِ، إِنَّك قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعلِيٍّ؛ أفَكَانُوا يَقْنتُونَ فِي الفَجْرِ؟ قَالَ: أيْ بُنَيَّ؛ مُحْدَثٌ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ أَبَا دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه الترمذي، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشجعى عن أبيه، وإسناده حسن. قلتُ: وصححه أيضًا ابن حبان. * مفردات الحديث: - مُحْدَث: أي: أمر مخترعٌ ومبتدعٌ في الدين، لم يرد في الشرع. - أي -بفتح الهمزة وسكون الياء-: أداة نداء للقريب. - قنوت الوتر: القنوت ورد لمعانٍ كثيرة، والمراد هناك: الدعاء؛ إما مطلقًا، أو مقيدًا بالأذكار المشهورة الواردة. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - القنوت هنا: هو الدعاء بعد الركوع من الركعة الأخيرة في الصلوات الخمس، والوتر. 2 - أجمع العلماء على أنَّ فعله، أو تركه لا يبطل الصلاة، وإنَّما الخلاف في استحباب تركه، أو التفصيل في ذلك. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 472)، الترمذي (402)، النسائي (1080)، ابن ماجه (1241).

3 - حديث أنس: (244) "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ في الصَّلَوات الخمس كلها شهرًا، يدعو على أحياء من العرب" -ورد تعيينهم بأنَّهم: رِعِل وعُصَيَّة وبَنُو لِحْيَان؛ هذه الرواية في الصحيحين. 4 - زيادة الدارقطني: "أنَّه ما زال يقنت، حتى فارق الحياة الدنيا" -معارِضة لرواية الصحيحين. 5 - حديث أنس (245): "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقنت إلاَّ إذا دعا لقوم , أو دعا على قوم"؛ كأن يدعو للمستضعفين، كما يدعو على القبائل التي مرَّ ذكرهم، وعلى غيرهم من صناديد قريش الذين آذوا المستضعفين. 6 - حديث طارق الأشجعي (246): "أنَّه صلَّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين الأربعة، وما كانوا يقنتون في صلاة الفجر، بل هو محدث". * خلاف العلماء: أجمع العلماء على استحباب القنوت في الجملة، ولكن اختلفوا في تحديد الصلاة التي يقنت فيها على مذاهب: ذهب الحنفية إلى: وجوب القنوت في صلاة الوتر. وذهب الحنابلة إلى استحباب القنوت في صلاة الوتر. وذهب المالكية والشافعية إلى استحبابه في صلاة الصبح. وذهب الشافعية والحنفية والحنابلة إلى استحبابه في الفرائض إذا نزل بالمسلمين نازلة، لكن خصَّه الحنفية بالصلاة الجهرية. أما دليل الحنفية والحنابلة في قنوت الوتر: فما رواه الخمسة عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "علَّمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهنَّ في صلاة الوتر"، وسياتي الحديث قريبًا إن شاء الله تعالى. وأما دليل المالكية والشافعية: فما رواه الدارقطني عن أنس: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يزل يقنت في الصبح، حتى فارق الحياة".

وأما دليل الحنفية والشافعية والحنابلة على استحبابه عند النوازل: فما رواه ابن خزيمة (1/ 314)، عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان لا يقنت إلاَّ إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". قال الشيخ تقي الدين: للعلماء في القنوت ثلاثة أقوال: أصحها: أنه يسن عند الحاجة. قال الشيخ المباركفوري: هذا القنوت يسمى بقنوت النوازل، ولم يرد في الصلاة المكتوبة قنوت غيره، هذا وهو مخصوص بأيام المهام والوقائع والنوازل؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقنت إلاَّ إذا دعا لقوم مسلمين، أو دعا على الكافرين، وهذا القنوت لا يختص بصلاة دون صلاة، بل ينبغي الإتيان به في جميع الصلوات. وأما الزيادة التي تدل على مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على القنوت في صلاة الفجر -فهي لا تصلح للاحتجاج، ومع ذلك تعارض حديث أنس. وقال ابن القيم في "زاد المعاد": أحاديث أنس في القنوت كلها صحاح، يصدق بعضها بعضًا، ولا تناقض فيها، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير الذي ذكره بعده، والذي وقَّته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء، فعله شهرًا، يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمر تطويل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، أما الذي تركه فهو الدعاء على أقوام من العرب، وكان بعد الركوع، فزاد أنس القنوت قبل الركوع وبعده، الذي أخبر أنَّه ما زال عليه هو إطالة القيام في هذين المحلين، بقراءة القرآن وبالدعاء. وقال شيخ الإسلام: لا يقنت في غير الوتر، الاَّ أن تنزل بالمسلمين نازلة، فيقنت كل مصلٍّ في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة، ومن تدبر السنة، علم علمًا قطعيًّا أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يقنت دائمًا في شيء من الصلوات.

247 - وَعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيتَ، وَعَافِنِي فِيْمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِيْ فِيْمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِيْ فِيْمَا أعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ". روَاهُ الخَمْسَةُ. وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ: "وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ". وزَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخرَ فِي آخِرِهِ: "وَصَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ" (¬1). ولِلْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ فِي القُنُوتِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبحِ". وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ قَال النَّووي في "المجموع" و"كتاب الأذكار": رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح. وصححه الحاكم وابن الملقن، وقال الألباني: إسناده صحيح، وأما زيادة الطبراني والبيهقي: "لا يعز من عاديت" -فضعفها النووي، لكن قواها ابن حجر، وابن الملقن. وأما زيادة النسائي: "وصلى الله تعالى على النَّبي" -فإسنادها حسن، كما ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 200)، أبو داود (1425)، النسائي (3/ 248)، الترمذي (464)، ابن ماجه (1178)، الطبراني في الكبير (3/ 73)، والبيهقي (2/ 209). (¬2) البيهقي (2/ 210).

قال النووي في الأذكار، وحسنها ابن الملقن، لكن ابن حجر أعلها بالانقطاع بين عبد الله بن علي وبين الحسن بن علي. وأما رواية البيهقي عن ابن عباس: "في القنوت من صلاة الصبح" -فقال الحافظ: سندها ضعيف. * مفردات الحديث: - فيمن هديت: من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، قيل: "في" في هذه الفقرة والتي بعدها بمعنى "مع". - عافني: عن كل نقص ظاهر، أو باطن في الدنيا والآخرة، واجعلني مندرجًا فيمن عافيت. - تولني: بحفظك عن كل مخالفة، ونظر إلى غيرك، واجعلني مندرجًا فيمن توليت، والموالاة ضد المعاداة. - بارك لي: أَنْزِل عَليَّ بركتك العظمى، من التشريف والكرامة، وزدني من فضلك. - فيما أعطيت: "في" للظرفية متعلقة بالفعل المذكور قبلها. - قني: اجعل لي وقايةً من عندك، تقيني شر ما خلقته ودبرته. - ما قضيت: "ما" اسم موصول، بمعنى "الذي". - إنَّك تقضي: تعليل لما قبله؛ إذ لا يعطي تلك الأمور المهمة العظام إلاَّ من كملت قدرته وقضاؤه، ولم يوجد منها شيء في غيره. - لا يذِل: بفتح الياء وكسر الذال المعجمة؛ أي: لا يضعف ولا يهون من واليت، والذل ضد العز. - لا يَعِز: بفتح الياء وكسر العين؛ أي: لا ينتصر من عاديت، فهو ضد الذل. قال السيوطي: لا خلاف بين علماء الحديث واللغة والصرف أن "يعز" بكسر العين وفتح الياء.

- تباركت: تعاظمت وتزايد برك وإحسانك، وكثر خيرك. - تعاليت: تنزهًا عما لا يليق بك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية القنوت في صلاة الوتر، واستحبابه فيها. 2 - استحباب هذا الدعاء الجامع لخيري الدنيا والآخرة، والمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فيكون من أفضل الأدعية. 3 - ليس في الحديث بيان محل هذا الدعاء، ولكن الحاكم في "المستدرك" (3/ 188) زاد، فقال: "علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وتري إذا رفعت رأسي، ولم يبق إلاَّ السجود". 4 - قال العراقي: جاء قنوت الوتر من طرق تدل على مشروعيته، منها ما هو حسن، ومنها ما هو صحيح، وجاءت السنة بالقنوت قبل الركوع وبعده، وأكثر الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث؛ كأحمد وغيره، يختارون القنوت بعد الركوع. قال الشيخ تقي الدين: لأنَّه أكثر وأقيس. 5 - استحب الجمهور رفع اليدين حال الدعاء، وفي الحديث: "إنَّ الله يستحي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرًا، فيردهما خائبتين" [رواه الترمذي (3571) وابن ماجه (3867)]. والأحاديث في هذا كثيرة. * معاني الكلمات الواردة في دعاء القنوت بتوسع: - اللَّهمَّ اهدني فيمن هديت: الهداية من الله تعالى، هي: التوفيق والإلهام إلى ما يوصل إلى المطلوب، وهذه الهداية لا تكون إلاَّ من الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] والهداية الأخرى هداية الدلالة والإرشاد، وهذه هي وظيفة الرسل؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى] ومثل الرسل دعاة الخير.

- وعافني فيمن عافيت: أي: عافني من الأسقام والبلايا في جملة من عافيته منها، وعافني أيضًا في ديني من أمراض الشبهات والشهوات. - وتولني فيمن توليت: فتولَّ أمري كله، ولاية عامَّة، في ضمن خلقك، وتولَّني ولاية خاصَّةً، لأكون من أوليائك وحزبك المفلحين، فتولَّ أمري كله، ولا تكلني إلى نفسي، ولا أحدٍ غيرك. - وبارك لي فيما أعطيت: البركة هي الخير الكثير، فهي النماء والزيادة؛ أي: وضع لي البركة فيما وهبت لي من العمر، والمال، والولد، والعلم، والعمل. - وقني شرَّ ما قضيت: تقدَّم أنَّ "ما" اسم موصول بمعنى "الذي"، والمعنى: وقني الشر الذي في مخلوقاتك؛ فإنَّ الشر لا يكون في فعل الله تعالى، وإنَّما يكون فيما خلق؛ ولذا جاء في الحديث: "الخير بيديك، والشر ليس إليك"، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق]، فمخلوقات الله تعالى قد يكون فيها شرٌّ وضرر، والشر -الذي جعله الله في مخلوقاته- ما هو إلاَّ لحكمة ومصلحة عظيمة. - إنَّك تقضي: تحكم، وتقدر ما تريد. - لا يُقضى عليك: لا يقع حكم عليك، ولا معقب لحكمك، تفعل ماتشاء، وتحكم ما تريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء] والله جلَّ وعلا يقضي على نفسه ويحكم، قال تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] , وفي الحديث القدسي: "إني حرَّمت الظلم على نفسي". - إنَّه لا يذل من واليت: أي: لا يصير ذليلاً مَنْ كنتَ وليه وناصره؛ فلا يلحقه ذلٌّ، ولا هزيمة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة]. - تباركت ربَّنا: كثر خيرك، واتَّسع لخلقك، وعم فضلك جميع خلقك،

"ربنا" يعني: يا ربنا. - تعاليت: علو الله تعالى صفةٌ أزليةٌ ثابتةٌ بالنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، فله العلو، هو وصفٌ ثابتٌ لله أزليٌّ أبديٌّ، وهو علو ذاته، فهو عال على جميع خلقه، بائنٌ منهم، وعلو صفاته، فلا يشبهه ولا يماثله أحد في صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]، وعلو على خلقه بقهره، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، أما استواؤه جل وعلا على عرشه فهو وصفٌ فعليٌّ يتعلق بمشيئته تعالى، فالعرش خلق من مخلوقات الله تعالى، وهو تعالى غنيٌّ عن جميع المخلوقات. واستواؤه على عرشه حقٌّ ثابتٌ، ولكنه استواءٌ يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذين بَعدوا عن التعطيل، وتنزَّهوا عن التشبيه والتمثيل. قال في "شرح الإقناع": ولا بأس أن يدعو في قنوت وتر بما شاء، والمأموم يؤمن على الدعاء بلا قنوت إن سمع، وإن لم يسمع دعا، وإذا كان واحدًا أفرد الضمير، فيقول: "اللهم اهدني"، وإذا سلم من الوتر، سُنَّ أن يقول: "سبحان الملك القدوس ثلاثًا، ويرفع صوته في الثالثة" [رواه أحمد (33/ 149) والنسائي (2/ 173)]. - أقولهن في قنوت الوتر: هذا يدل على أنَّه يجوز أن يزيد الإنسان في دعاء قنوت الوتر على هذه الكلمات. وهو -أيضًا- لم يقل -صلى الله عليه وسلم- للحسن: لا تقل غيرهن، وإنَّما علَّمه إياهن؛ ليكن مما يقول. قال شيخ الإسلام: يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه، ويفضل أن يختمه بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما روى الترمذي (486) عن عمر -رضي الله عنه-: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي

على نبيك". وشرعت الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الدعاء وأوسطه وآخره. وقال بعضهم: ينبغي أن يمسح وجهه بيديه بعد الفراغ منه. قال الشيخ: جاء في ذلك أحاديث لا تقوم بها حجة. ***

248 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا سَجَدَ أحَدُكْم، فَلا يَبْرُكْ كمَا يَبْرُكُ البَعِيْرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ". أخْرَجَهُ الثَّلاَثَةُ (¬1). وَهُوَ أَقْوَى من حَدِيْثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَجَدَ، وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَة (¬2). فَإِنَّ لِلأَوَّلِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَوْقُوفًا. (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 381)، وأبو داود (840)، والترمذي (269)، والنسائي (1091)، والبخاري في "التاريخ الكبير" من حديث محمَّد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، قال البخاري عن محمَّد بن عبد الله بن الحسن: لايتابع عليه، ولا أدري سمع عن أبي الزناد أم لا. وقال حمزة الكناني: هذا حديث منكر. وقال ابن سيِّد الناس: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلاً في الحسن على رسم الترمذي؛ لسلامة رواته من الجرح. ¬

_ (¬1) أبو داود (840)، الترمذي (269)، النسائي (1091). (¬2) أبو داود (838)، الترمذي (268)، النسائي (1089)، ابن ماجه (882). (¬3) ابن خزيمة (1/ 318).

وقد رواه السرقسطي في "غريب الحديث" (2/ 70) عن أبى هريرة موقوفًا؛ بلفظ: "لا يبرك أحدكم بروك البعير الشارد". وأما حديث وائل بن حجر: فأخرجه أبو داود (726)، والترمذي (268)، والنسائي (1089)، وابن ماجه (882)، من حديث شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه مثل هذا غير شريك، وقال الدارقطني: تفرد به شريك، وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به. وقال البيهقي: إسناده ضعيف، وله طرق أخرى، ولذا قال الخطابي: حديث وائل أصح من حديث أبي هريرة. وأمَّا حديث ابن عمر: فعلَّقه البخاري (2/ 290 فتح)، ووصله ابن خزيمة (1/ 318)، وأبو داود والطحاوي والدارقطني من طريق الدَّرَاوَردي عن عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر. وقد تكلَّم الإمامان: أحمد والنسائي في رواية الدراوردي عن عبيد الله، وخالفه أيوب السختياني، فرواه عن نافع عن ابن عمر يرفعه قال: "إنَّ اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما". قال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. وصحَّ عن عمر -رضي الله عنه- موقوفًا: "أنَّه كان يقع على ركبتيه". رواه ابن أبي شيبة. * مفردات الحديث: - فلا يبرك: يقال: برك البعير بركًا: وقع على بركه، والبَرَك: ما يلي الأرض من صدر البعير.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - لدينا ثلاثة أحاديث في صفة الهوي إلى السجود: (أ) حديث أبي هريرة: "إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" مرفوعًا. (ب) حديث ابن عمر: قال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه". رواه البخاري معلقًا موقوفًا. (ج) حديث وائل بن حجر: "إذَا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه" مرفوعًا. 2 - فأما "حديث أبي هريرة"، و"حديث ابن عمر" -فمتفقان على أنَّ الأفضل هو وصول اليدين قبل الركبتين إلى الأرض، وحديث وائل بن حجر مخالف لهما ففيه أنَّ الأفضل هو وصول الركبتين قبل اليدين. 3 - بعض العلماء رجحوا حديثي أبي هريرة وابن عمر، على حديث وائل بن حجر، وقالوا: إنَّ ركبتي البعير في يديه، وهما أول ما ينزل إلى الأرض، والإنسان ركبتاه في رجليه، فلا ينبغي أن تصلا قبل يديه، فالنهي منصب على الركبتين، بألا يتقدما في النزول إلى الأرض، وإن اختلف مكانهما من الإنسان ومن البعير، فما دام أنَّ أول ما يصل إلا الأرض هما ركبتا البعير اللتان في يديه، فينبغي أنَّ أوَّل ما يصل إلى الأرض من الإنسان يداه، على ظاهر حديث أبي هريرة وابن عمر. 4 - أما ابن القيم: فإنَّه يقول: إنَّ في حديث أبي هريرة قلبًا من الراوي؛ حيث قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، وأنَّ أصله: "وليضع ركبتيه قبل يديه"، ويدل عليه أوَّل الحديث، وهو قوله: "فلا يبرك كما يبرك البعير"؛ فإنَّ المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، فينهى الإنسان أن يكون أول ما يصل إلى الأرض هو مقدم جسمه، كما هو الحال في البعير، وعليه أن يخالف البعير؛ وذلك بأن ينزل أول ما ينزل من جسمه ركبتاه اللتان

في رجليه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه؛ هذا هو الصحيح مما يفهم من الأحاديث، ويزول ما يوهم من التعارض بينها. وكما أنَّ هذا هو مقتضى الأثر، فإنَّه مقتضى الطبيعة، وخلقة الإنسان؛ فإنَّ المصلي ينزِّل جسمه من العلو تنزيلاً، فيكون أول ما يصل إلى الأرض من جسمه أقربها إلى الأرض، وهما ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته مع أنفه. 5 - قال محرره عفا الله عنه: لا شكَّ أنَّ ركبتي البعير في يديه لا في رجليه، وإنَّما الذي في الرجلين عرقوباه، ولا شكَّ أنَّ أوَّل ما يصل إلى الأرض من البعير -عند البروك- ركبتاه اللتان في يديه، والحديث ينهى عن مشابهة بروك البعير في الهيئة التي ينحط بها إلى الأرض من وصول مقدم البعير الذي فيه يداه، عن وصول آخره الذي فيه ركبتاه، ويكون في حديث أبي هريرة قلبٌ، كما قال ذلك ابن القيم -رحمه الله- وإنَّما الذي وهم فيه ابن القيم ظنه أنَّ ركبتي البعير في رجليه لا في يديه، فركبتا البعير لغة وعرفًا في يديه، كما قال المثل العربي: "فلان وفلان في الشرف كركبتي البعير". وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ الأفضل للساجد أن يضع ركبتيه، ثم يديه؛ لحديث وائل بن حجر. ***

249 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَعَدَ للتَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ اليُسْرَى عَلَى رُكْبتَهِ اليُسْرَى، وَاليُمْنَى عَلَى اليُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلاَثًا وَخَمْسِيْنَ، وأشَارَ بِأَصْبُعِهِ السَّبَّابَهِ". رواهُ مُسْلِمٌ. وفي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وأَشَارَ بِالَّتي تَلِي الإبْهَام" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - للتشهد: أي في زمنه، وسمي الذكر المخصوص: تشهدًا؛ لاشتماله على كلمتي الشهادة، كما أنَّ فيه دعاء يدعوه؛ فإنَّ قوله: "السلام عليك، السلام علينا"، دعاء عبر عنه بلفظ الإخبار، لمزيد التأكيد. - عقد ثلاثًا وخمسين: إشارة إلى طريقة حسابية كانت معروفة عند العرب، وصورتها: أنَّ الثلاثة لها حلقة بين الإبهام والوسطى، وللخمسين يقبض الخنصر والبنصر، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى. - السبابة: مؤنثة، يقال: سَبَّهُ سبًّا فهو سبَّاب، بمعنى: شتمه، وسميت الأصبع التي تلي الإبهام: سبابة؛ لأنَّه يشار بها عند السب. -قبض: يقبض قبضًا، من باب ضرب: ضمَّ أصابعه، فقبض اليد خلاف بسطها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية القعود للتشهد في الصلاة الثنائية التي ليس فيها إلاَّ تشهد واحد، وأما الصلاة الثلاثية والرباعية ففيهما تشهدان. 2 - استحباب وضع اليدين أثناء التشهد على الفخذين. 3 - أما صفة اليدين أثناء التشهد: فاليسرى يبسطها على فخذه اليسرى، وأما اليد ¬

_ (¬1) مسلم (580).

اليمنى فيقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الوسط مع الإبهام، ويدع السبابة على وضعها، مستعدةً للإشارة بالتوحيد والعلو، وهذه الصفة تسمى اصْطلاحًا حسابيًّا قديمًا: "ثلاثًا وخمسين". 4 - الرواية الأخرى في الحديث: أنَّ المستحب هو قبض الأصابع الأربعة كلها لليد اليمنى، والإشارة بالسبابة. فهاتان صفتان مشروعتان لوضع الكفين أثناء التشهدين، كما جاء في هذا الحديث. 5 - جاء في بعض روايات حديث ابن عمر في مسلم (580) قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس في الصلاة، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام". ولكن هذه الرواية المطلقة تحمل على الروايات المقيدة حسب القاعدة الأصولية؛ لما يلي: أولاً: أنَّها خالفت العديد من الروايات من قبض اليد اليمنى حال التشهد، ففي حديث ابن عمر: "إذا قعد للتشهد، وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثًا وخمسين". وحديث مقسم مولى عبدالله الحارثي: "إنَّما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك، يوحد بها ربَّه عزَّ وجل" [رواه البيهقي (2/ 133)]، والتوحيد في التشهد. وحديث عبد الله بن الزبير: "إذا جلس في التشهد، وضع يده اليمنى، وأشار بالسبابة"؛ وغير ذلك من الروايات المقيدة. ثانيًا: جلوس الصلاة يراد به الجلوس للتشهد، أما الجلسة التي بين السجدتين، فهي تعرف وتقيد بهذا اللفظ: الجلسة بين السجدتين. ثالثًا: أنَّ الرواية المطلقة تدل على أنَّ ذلك في التشهد؛ فقد روى مسلم (585)

وغيره عن علي المعادي قال: "رآني ابن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة. . ." الحديث. والعبث في الحصى لا يكون إلاَّ في الجلسة الطويلة؛ وهي التشهد. رابعًا: إنَّني لا أعلم أحدًا قال بهذا القول، والسنة المحمَّدية اتباع سبيل المؤمنين وجمهورهم، وعدم الخروج عنهم في الأقوال والأعمال. * خلاف العلماء: ذهب الحنفية إلى: أنَّ المستحب هو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، جاعلاً أطراف أصابعه عند حرف ركبته الأعلى، باسطًا أصابعه كلها، فلا يقبض شيئًا منها؛ وذلك لما روى مسلم (519) من حديث عبدالله بن الزبير بلفظ: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبتيه". وهناك صفاتٌ أخرى عند الحنفية في قبض الأصابع الثلاثة، مذكورة في الكتب المبسوطة عندهم. وذهب المالكية إلى: بسط اليسرى على الفخذ اليسرى، وتحليق الأصابع الثلاثة من اليمنى، وهي الخنصر والبنصر والوسطى، فيحلق هذه الثلاثة مع حرف اليد إلى الجانب الذي يلي البنصر، ويمد أصبعه السبابة كالمشير بها، ويترك الإبهام على طبيعته، وهذه الصفة تشبه اصطلاحًا حسابيًّا قديمًا: "تسعة وعشرين". وذهب الشافعية والحنابلة إلى: أنَّ المستحب وضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطةَ الأصابع مضمومة، وتكون أطرافها دون الركبة، مستقبلاً بجميع أطرافها القبلة، أمَّا اليمنى فيضعها علي فخذه اليمنى، قابضًا منها الخنصر والبنصر والوسطى عند الشافعية، ومحلِّقًا بين الوسطى والإبهام عند

الحنابلة، ومد السبابة للإشارة بها، وهذه الصفة تشير في المصطلح الحسابي القديم إلى عدد: "ثلاث وخمسين". ودليلهم: حديث ابن عمر (حديث الباب). واختلاف العلماء في قبض الأصابع وبسطها، راجعٌ إلى اختلاف الروايات في ذلك. وأشار ابن القيم -رحمه الله تعالى- إلى وجه الجمع بينها؛ فقال: الروايات المذكورة كلها واحدة، فمن قال: "قبض أصابعه الثلاثة"، أراد: أنَّ الوسطى مضمومة، ولم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال: "قبض اثنتين" أراد: أنَّ الوسطى لم تكن مضمومة مع البنصر والخنصر، والبنصر والخنصر متساويتان في القبض دون الوسطى. واختلف الأئمة وأتباعهم في الحال: التي يستحب فيها الإشارة بالإصبع السبابة. فذهب الحنفية إلى: أنَّه يشير بها عند قوله في التشهد: "لا إله إلاَّ الله"؛ وذلك عند إثبات الإلهية لله تعالى، ونفيها عمن سواه. ودليلهم: حديث ابن الزبير في مسلم الذي اقتصر على الإشارة بالسبابة. وذهب المالكية إلا: أنَّ المستحب أن يديم تحريك السبابة تحريكًا وسطًا، ويكون من أول التشهد إلى آخره. ودليلهم: حديث وائل بن حجر قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض اثنين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها" [رواه أحمد (18391) والنسائي (889)]. وعقب على هذا القول البيهقي، فقال: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك: الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، حتى لا يتعارض مع حديث عبدالله بن الزبير عند أبي داود (989) بلفظ: "يشير بالسبابة، ولا

يحركها" قال الحافظ: وأصله في مسلم. وذهب الشافعية إلى: أنَّ المستحب أن يشير بالسبَّابة عند الهمزة من قوله: "إلاَّ الله"؛ لأنَّ هذا هو موطن الإشارة إلى التوحيد، فيجمع في ذلك بين القول والفعل، ولا يحركها؛ لعدم وروده. ودليلهم: ما جاء في حديث ابن عمر عند مسلم (580): "وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام". وذهب الحنابلة إلى: استحباب الإشارة بالسبَّابة في التشهد في كل مرَّة عند ذكر لفظ "الله"، منبِّهًا على التوحيد، ولا يحركها. قال في "شرح الإقناع": "ويشير بسبَّابته اليمنى في التشهد مرارًا، كل مرة عند ذكر لفظ "الله"؛ تنبيهًا على التوحيد، ولا يحركها، ويشير بها أيضًا عند دعائه في صلاة وغيرها"؛ وذلك لما روى النسائي (1270) من حديث عبد الله ابن الزبير قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشير بأصبعه إذا دعا، ويحركها" واختلف الفقهاء في هيئة الجلوس: فذهب مالك وأتباعه إلى: أنَّ المستحب أن يجلس متوركًا؛ وذلك بأن يفضي بمقعدته إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، وَيَثْنِي اليسرى، وذلك في كل جلسات الصلاة، والرجل والمرأة في هذا سواء. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى: أنَّ المستحب هو أن ينصب رجله اليمنى ويقعد على اليسرى، وهذا في كل جلسات الصلاة، فهذان القولان متقابلان. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ المستحب: أن يتورك في جلوس التشهد الأخير في الصلاة ذات التشهدين، وما عداه يكون ناصبًا اليمنى جالسًا على اليسرى. وذهب الإمام الشافعي إلى: أنَّه يتورك في كل تشهد أخير مطلقًا؛ سواء

كانت الصلاة ثنائية، أو أكثر، وينصب اليمنى ويجلس على اليسرى فيما عداه. قال ابن رشد: وسبب الاختلاف تعارض الآثار. ولذا ذهب ابن جرير إلى: أنَّ السنة وردت بهذا كله، فعلى أي جلسة جلس، متوركًا، أو ناصبًا اليمنى وجالسًا على اليسرى، فقد أصاب السنة، والأمر فيه سعة، والله أعلم. * فوائد: الأولى: الإصبع التي تلي الإبهام تسمى "السباحة"؛ للإشارة بها إلى تسبيح الله تعالى، وتنزيه عن الشريك. وتسمى "السبابة"؛ لأنَّه يشار بها عند السب إلى الرجل الذي يعاب. الثانية: للإشارة بالسبَّاحة عند ذكر الله تعالى معانٍ كريمة، فهي تشير إلى وحدانية الله تعالى، وتفرده في الإلهية وعبادته. كما تشير إلى علوه تعالى على خلقه ذاتًا وصفة، وقدرًا وقهرًا؛ فقد روي عن ابن عباس أنَّه قال في الإشارة: "هو الإخلاص"، فالحكمة في ذلك أن يجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد. الثالثة: عرض الروايات والجمع بينها: الإصبع السبَّاحة ورد في حكمها عدة روايات؛ فحديث وائل بن حجر في النسائي (889): "وأشار بالسباحة ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها". وحديث ابن عمر عند أحمد (5964): "وأشار باصبعه، وقال: لهي أشد على الشيطان من الحديد". وحديث ابن الزبير عند مسلم (579): "وأشار بالسبابة". وحديث ابن عمر عند مسلم (580): "وأشار باصبعه السبابة". وحديث ابن عمر عند البيهقي (2/ 132): "تحريك الإصبع مذعرة للشيطان" وليس بالقوي. قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك

الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، فيكون موافقًا لرواية ابن الزبير. قلت: والجمع بين هذه الروايات أن يكون المراد بتحريكها هو: الإشارة بها، وأن تكون الإشارة بلا تكرير للتحريك. قال في "الروض وحاشيته": لا يوالي حركتين عند الإشارة؛ لأنه يشبه العبث، ولحديث ابن الزبير: "ويشير بسبابته، ولا يحركها". قال ابن القيم: كان لا ينصبها نصبًا ولا يرخيها، بل يحنيها شيئًا قليلاً. الرابعة: ما ورد من اختلاف الأئمة في صفة وضع اليدين على الفخذين، والإشارة بالسباحة هي مسائل فرعية، كل واحد من الأئمة قال حسبما وصل إليه اجتهاده من فهم النصوص، والمجتهد له أجران، أو أجر واحد، وهم كلهم -رحمهم الله تعالى- مجمعون على أنَّها من فضائل الصلاة، إن تركها المصلي أو فعلها، لاتبطل الصلاة، ولا يوجب الاختلاف. لذا فإني أنصح أبناءنا الشباب الراغبين في الخير، ألا تكون هذه الخلافات الفرعية مثار جدل لهم، وعداوة بينهم، وأن يبحثوها، للوصول إلى الصواب منها، أما أن يخطىء بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، فهذا مباين للإسلام، والله الهادي إلى سواء السبيل. ***

250 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ للهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ علَيكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرْحْمَةُ الله وَبرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُعَاءِ أعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيدْعُو". مُتَّفَقٌ علَيْهِ. وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ. ولِلْنَّسَائِيِّ: "كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ. . . ". ولِأَحْمَدَ: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- علَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَأمَرَهُ أنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله. . . إِلَى آخرِهِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - التَّحيَّات لله: جمع "تحيَّة"، جمعت؛ لتشمل معاني التعظيم كلها لله تعالى، ففيها الثناء المطلق لله تعالى، وأنواع التعظيم له جلَّ وعلا. و"التَّحيَّاتُ" مبتدأ، ولفظ الجلالة "الله" خبره. - الصلوات: هي جنس الصلاة، وأَوَّل ما يدخل فيه الصلوات المكتوبات الخمس. ¬

_ (¬1) البخاري (831)، مسلم (452)، النسائي في الكبرى (1/ 378)، أحمد (3562). (¬2) مسلم (403).

- الطيبات: تعميمٌ بعد تخصيص، فجميع الأقوال، والأفعال، والأوصاف الطيبة هي مستحقة لله تعالى. - السلام: قال النووي: يجوز في "السلام" في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين. والأصل: سلمت عليك، ثم حذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء؛ للدلالة على ثبوت المعنى. أما التعريف في الموضعين، فهو إمَّا للتعريف التقديري الموجَّه إلى عباد الله الصالحين السابقين علينا، وعلى إخواننا، وإما للجنس، والمعنى: أنَّ حقيقة السلام المعروف هو عليك. - السلام عليك أيُّها النبي: أي: السلام من النقص والعيب، وأي آفة أو فساد، فهو دعاء من المصلي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال النووي: السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني: السالم من النقائص، والسالم من المكاره، والآفات والعيوب وغيرها، فمبدأ السلام منه تعالى. - عليك: لم يقصد بهذه الكاف المخاطب الحاضر، وإنَّما قصد بها مجرد السلام، سواء كان حاضرًا أو غائبًا، بعيدًا أو قريبًا، حيًّا أو ميتًا؛ ولذا فإنَّها تقال سرًّا، وانَّما اختصَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخطاب؛ لقوَّة استحضار المرء هذا السلام، الذي كان صاحبه حاضرًا، واختص -صلى الله عليه وسلم- بكاف الخطاب بالصلاة، وكل هذا من علو شأنه، ومن رفع ذكره واسمه. - النبي: إما مشتق من "الإنباء": وهو الإخبار، وإما من "النبوَّة"، وهي الرفعة، وهو إما بمعنى -مفعل- اسم فاعل، فهو منبىء عن الله، وإما بمعنى "مفعل" اسم مفعول فهو مَنَبَّأ من الله، وكلا المعنيين صالح. -رحمة الله: صفة حقيقية لله تعالى، تليق بجلاله، بها يرحم عباده، ويُنْعِم عليهم.

- وبركاته: جمع "بركة"، وهو الخير الكثير من كل شيء، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50]، تنبيهًا على ما تفيض عنه الخيرات الإلهية. - السلام علينا: أراد به: الحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة. - أشهد. . . إلخ: أي: أقطع بالإخبار، فالشهادة هي العلم القاطع. قال الراغب: الشهادة قولٌ صادرٌ عن علمٍ حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر. - الرسول: أصل الإرسال: الابتعاث، ومنه: الرسول المبتعث، ويطلق على الواحد والجمع، وجمع الرسول رسل، ورسول الله من البشر: رجل أوحي إليه وأمر بالتبليغ، والرسول: له جهتان: جهة من أرسله، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر] وجهة من أُرسل إليهم؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 83]. - مُحمَّدًا: قال علماء اللغة: محمَّد ومحمود اسم مفعول، من: "حمَّد" بالتشديد، لخصاله الحميدة. قال ابن فارس: وبذلك سمي نبينا: محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ لعلم الله تعالى بكثرة خصاله المحمودة. وللنبي -صلى الله عليه وسلم- أسماء متعددة هي أسماء من حيث دلالتها على الذات، وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى. ولا شبهة للنصارى في أنَّ اسمه في الإنجيل: "أحمد"، فأحمد اسم تفضيل من اسم الفاعل، ومحمد اسم مفعول، فهو أحمد الناس لربه، وهو محمَّد لخصال الخير فيه، وهما متصرفان من مادة واحدة. - أيُّها النَّبي: فيه عدول عن الغيبة إلى الخطاب، مع أنَّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق بهما، على أنَّهم لم ينالوا هذا الخير إلاَّ بواسطته، فوجهوا إليه الخطاب تصريحًا، لا عمومًا فقط، وعُدِلَ عن الرسالة إلى النبوة، مع أنَّ الرسالة أفضل؛ ليُجْمَع له الوصفان.

- الصالحين: هم القائمون بحقوق الله وحقوق خلقه، ودرجاتهم متفاوتة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الذكر يسمى "التشهد" مأخوذٌ من لفظ الشهادتين فيه، فهما أهم ما فيه. 2 - يقال هذا التشهد في الصلاة الثنائية مرَّة واحدةً، أما الصلاة الثلاثية والرباعية ففيها تشهدان: الأول: بعد الركعة الثانية. والأخير: الذي يعقبه السلام، وسيأتي قريبًا. 3 - التشهد الأول: واجب عند الحنفية والحنابلة، مستحب عند غيرهم، وسيأتي تفصيل الخلاف فيه. 4 - التشهد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أربعة وعشرين صحابيًّا بألفاظ مختلفة، وكلها جائزة. قال شيخ الإسلام: كلها سائغة باتِّفاق المسلمين، وأصل الإمام أحمد استحسان كل ما يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا فقد قال العلماء: أثبتُها تشهد ابن مسعود، وهو الوارد في هذا الباب. 5 - قال البزار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود، يروى عنه -صلى الله عليه وسلم- بنيف وعشرين طريْقًا، ولا يعلم فيما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد أثبت منه، ولا أصح إسنادًا، ولا أثبت رجالاً، ولا أشد تضافرًا بكثرة الأسانيد والطرق. وقال مسلم: إنَّما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأنَّ أصحابه لا يخالف بعضهم بعضًا، وغيره قد اختلف فيه عن أصحابه. وقال الذهلي: هو أصح ما روي في التشهد. وقال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين. وقال مسلم: اتَّفق عليه الناس.

وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء: تشهد ابن مسعود أفضل، له مرجحات كثيرة، منها الاتفاق على صحته وتواتره، وهو أصح التشهدات وأشهرها، ولأمره -صلى الله عليه وسلم- أن يعلمه الناس، وكونه محفوظ الألفاظ. 6 - شرح ألفاظ التشهد بأوسع من شرحه في المفردات؛ لأجل أن يلاحظ المصلي معانيه: - التحيات لله: جمع "تحية"، والتحية هي: التعظيم، فهي تعظيمات مستحقة ومملوكة لله تعالى، ومختصة به، وهي تشمل كل التحايا، التي قدمها المسلمون المصلون لله تعالى، في هذه الجلسة الخاشعة. - الصلوات: هي الصلوات الفرائض والنوافل، وسائر العبادات التي يراد بها تعظيم الله، كلها لله تعالى، فهو المستحق لها، المعبود بها، ولا تليق لأحدٍ سواه. - الطيبات: هي جميع الأعمال والأقوال الصالحة، فهي كلها لله تعالى، فجميع ما صدر منه تعالى من فعل وقول فهو طيب، وجميع ما صدر من خلقه من أفعال، وأقوال طيبة، فهو المستحق لها؛ فإنَّه طيِّبٌ لا يقبل إلاَّ طيبًا. ولا يكون العمل والقول طيبًا حتى يتحقق فيه أمران: الإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. - السلام: اسمٌ من أسماء الله الحسنى، فهو السالم من النقائص والعيوب، المسلم خلقه من المصائب والآفات، فهذا الاسم الكريم الجامع للخيرات يكون: "عليك أيُّها النبي"، فهو دعاء له -صلى الله عليه وسلم- بالسلام من كل نقص وآفة، وخوطب بالنبوة التي هي مأخوذة، إما من إخباره وإنبائه عن الله تعالى، وإما أن تكون من رفعته ومقامه، وهما متلازمان. - ورحمة الله وبركلاته: جمع "بركة"، وهي الزيادة والنماء؛ لما خصَّه الله تعالى به، وحباه إياه، وخصَّ بذلك عليه الصلاة والسلام.

- والبركة: كثرة الخير وزيادته، وسعة الإحسان والإفضال، واستمرار ذلك وثبوته لعظيم حقه عليهم، فأعظم خير وصل إليهم من ربهم كان بواسطة دعوته المباركة، فصلوات الله وسلامه عليه. - السلام علينا: نحن المصلين، والملائكة. - عباد الله الصالحين: هم من صلح باطنه وظاهره، وهم القائمون بما أوجب عليهم من حقوقه، وحقوق عباده. قال الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدًا صالحًا، وإلاَّ حُرمَ هذا الفضل العظيم، وقد جاء في الحديث: "فإنَّكم إذا فعلتم ذلك، فقد سَلَّمتم على كلِّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض". [رواه البخاري (831) ومسلم (402)]. فعلى المصلي أن يلاحظ هذا المعنى العام. - أشهد أن لا إله الاَّ الله: أي: أجزم وأقطع أن لا معبود بحق إلاَّ الله، فالشهادة خبر قاطع، والقطع من فعل القلب، واللسان مخبِرٌ بنالك، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد، وهي كلمة التقوى والصراط المستقيم، والمراد معرفتها والعمل بها، لا مجرد نطقها. - أشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله: بصدق ويقين ومحبة ومتابعة، فهو عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسيأتي عن هذه الشهادة كلمة أوسع من هذا. - عبده ورسوله: فهو عبد لله تعالى، أكمل الخلق عبادةً لربه، بلَّغ الرسالة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده. وكلمتا "عبد , ورسول" فيهما الرد على طائفتين ضالتين: إحداهما: طائفة الغلاة ممن أعطوا النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من عبادة الله، وبعضهم أعطاه حقًّا من الربوبية والتصرف في الكون، فقالوا: إنَّه يعلم

الغيب، والله جلَّ وعلا يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وأمره تعالى أن يتلو على الناس قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188]، وجعلوا له قدرة على الضر والنفع، والله يامره أن يبلغ قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} [الجن]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)} [الجن]. الطائفة الثانية: ملاحدة، كذبوه في بعض ما أتى به، وكذبت رسولَنا اليهودُ؛ بأنَّ الرسول الذي يأتي في آخر الزمان المذكور في التوارة، لا يأتي الاَّ بعد عيسى، وعيسى حتى الآن لم يأتِ، فهم كذبوا عيسى، ومحمَّدًا عليهما الصلاة والسلام. والنصارى: كذبوا رسولَنا، وقالوا: إنَّ الذي بشَّر به عيسى لم يأت. وفي هذه العصور الأخيرة ظهرت طوائف تكيد لرسالة محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وتكيد للإسلام بالطعن فيه، منها "الماسونية" التي تقول: إنَّ محمَّدًا نبيٌّ مزعوم، وإنَّه لم يأت بجديد، وإنَّ القرآن فرعٌ من التوراة، أخَذ من أحكامها وتعاليمها. و"الماسونية" مذهب خبيثٌ ماكرٌ، له أساليب -في الدهاء والخداع والمكر- يضل بها بسطاء العقول. ومن ذلك النِّحلة الكاذبة المنحرفة "القاديانية"، وما تفرغ عنها من "البابية" و"البهائية"، فكل نِحلة من هذه النِّحل تدعي أنَّها طائفة إسلامية، وأنَّ الرسالة لم تختم بمحمَّد، وأنَّ زعيمها المسمى "غلام أحمد القادياني" نبيٌّ يوحى إليه. والقصد أنَّ هاتين الكلمتين الطيبتين "عبد الله، ورسوله" هما ردٌّ وإنكارٌ لمثل هذه الطوائف من الغلاة والجفاة، وإنَّهما نور وسعادة لمن دان بهما

عقيدة، وسلوكًا، وقولاً، وعملاً. فنسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يثبِّت قلوبنا على دينه، وألا يزيغ قلوبنا عن الحق، إنَّه سميع مجيب. 7 - قوله: "ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو": لا شكَّ أنَّ المراد بالدعاء هو الدعاء في الصلاة، بعد التشهد وقبل السلام، وهو المكان الذي يشرع فيه، بعد حمد الله وتمجيده في التشهد، وبعد الصلاة على نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وفي حال مناجاة المصلي ربه قبل انصرافه عنه، فالدعاء المشروع يكون في سجوده، وبعد التشهد وقبل السلام منها، وغير ذلك من مواطنه فيها، فالمشروع بعد السلام هو الذكر لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. أما رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة النافلة؛ سواء كانت قبل الفريضة أو بعدها -فإنَّه لم يرد فيه شيء، فإن فعل أحيانًا فلا باس، أما أن يتخذ عبادةً راتبةً فلا ينبغي؛ لأنَّ الواجب في العبادات كلها الاتباع، وألا يتعبد الإنسان إلاَّ بما شرعه الله ورسوله. وقد اعتاد كثير من الناس هذا الفعل، فكلما سلموا من نافلة رفعوا أيديهم، فبعضهم لا يدعو، وإنَّما يمسح وجهه بيديه. ومسح الوجه باليدين بعد الدعاء فيه حديثان ضعيفان، لا تقوم بهما حجة، والله أعلم. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية التشهد الأول، والجلوس له في الصلاة ذات التشهدين، واختلفوا في وجوبهما: فذهب الإمام أحمد، والليث، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، والشافعي في إحدى الروايتين عنه: إلى وجوبهما؛ مستدلين بالأحاديث الواردة في التشهد

والأمر به، من غير تقييد بتشهد آخر، ولأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فعله وداوم عليه، وقال: "صلوا كما رأيتموني أُصلي" [رواه البخاري (608)]، ولأنَّه قال لابن مسعود: "فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله. . . إلخ". والأصل في الأمر الوجوب. وذهب الحنفية إلى: أنَّ القعود الأول والثاني، للتشهد واجب، ويجب بتركه سجود السهو. وذهب مالك والشافعي وأتباعهما إلى: استحبابه دون وجوبه. ودليلهم: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تركهما سهوًا، ولم يرجع لهما، ولم ينكر على الصحابة حين تابعوه على تركها. والجواب عن هذا: أنَّ الرجوع إليهما إنَّما يجب إذا ذكر المصلي تركهما، قبل أن يستتم قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو؛ لما روى أبو داود (1036) عن المغيرة بن شعبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قام أحدكم في ركعتين، فلم يستتم قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو". وهذا الحديث وإن كان في سنده "جابر الجعفي" وهو شيعيٌّ , إلاَّ أنَّ الحديث لا يَمُتُّ إلى التشيع بشيء. وعلى ضعفه بهذا الرجل الذي لم يرو أبو داود عنه إلاَّ هذه المرة، فإنَّه يؤيد الأدلة الأخر، والله أعلم. ***

251 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمعَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاَتِهِ، ولَمْ يَحْمَدِ اللهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: عَجلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ فقد جاء في السنن الثلاث من أربع روايات متفقة المعنى، وفي بعض ألفاظها اختلاف، وكلها روايات جيدة، إلاَّ إحدى روايتي الترمذي، ففيها رِشْدِينَ ابن سعد وهو ضعيف، ولكن ضعفه منغمر بتلك الأسانيد الثلاثة الجيدة. قُلْتُ: رِشْدِين: بكسر الراء وسكون الشين المعجمة، ثم دال مهملة مكسورة، ثم ياء، آخره نون. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً في تشهد صلاته الأخير شرع يدعو ربه، قبل أن يحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلي على نبيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "عجل هذا بدعائه"؛ حيث لم يقدم قبل دعائه هذين الأمرين الهامين. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 18)، أبو داود (1481)، النسائي (3/ 44)، الترمذي (3477)، ابن حبان (1960)، الحاكم (1/ 230).

2 - أرشد -صلى الله عليه وسلم- أمَّته إلى أدب الدعاء، فقال: "إذا صلَّى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة"، ولم يقيده، والأفضل الدعاء بالمأثور. 3 - في الحديث دليلٌ على تقديم الوسائل بين يدي المقاصد، وسورة الفاتحة مثالٌ كريمٌ في ذلك؛ فهي بدأت بتحميد الله وتمجيده، وإثبات الوحدانية والعبادة له، وإثبات ربوبيته بطلب إعانته، وذلك كله متضمن لإثبات رسالة نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ثم الشروع في الدعاء بعد هذا كله؛ لتكون وسيلة أمام الدعاء. 4 - قال ابن القيم -رحمه الله- في "الجواب الكافي": الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، فإذا صادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلاًّ وتفرغًا ورِقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورَفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثَنَّى بالصلاة على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألحَّ في الدعاء عليه في المسألة، ودعاه رغبةً ورهبةً، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة، فإنَّ هذا الدعاء لا يكاد يُردُّ أبدًا، لاسيَّما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّها مظنة الإجابة، ومن الآفات التي تمنع ترتيب أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطيء الإجابة، فيَدَع الدعاء. ***

252 - وَعنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ بَشِيْرُ بْنُ سَعْدٍ: "يَا رَسُولَ الله، أمَرَنَا اللهُ أنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وبَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيْمَ فِي العَالَمِينَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجِيْدٌ. والسَّلاَمُ كَمَا عَلِمْتُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ ابنُ خُزَيْمَةَ فِيه: "فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صلاَتِنَا؟ " (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث؛ - كيف: اسم مبني على الفتح، والغالب فيه أن يكون استفهامًا، كما هو هنا. - نصلي عليك: الصلاة من المؤمنين لنبيهم دعاؤهم له؛ أي: طلب زيادة الثناء والكمال، الموجود أصل له بنص القرآن. - آل: أصله: "أهل"، فأبدلت الهاء همزة، ثم الهمزة ألفًا، ويدل على ذلك تصغيره على "أُهَيْل". - وبارك: أي: أثبت له دوام ما أعطيته من التشريف والكرامة، فهو مأخوذ من: "برك البعير"؛ إذا أناخ في موضعه ولزمه، كما أنَّ البركة تطلق على الزيادة، ولكن الأصل هو الأول. - في العالمين: العالمون جمع "عالَم"، بفتح اللام، ويراد به: جميع الكائنات؛ ¬

_ (¬1) مسلم (405)، ابن خزيمة (1/ 351).

أي: أظهر الصلاة والبركة على محمَّد وآله في العالمين، كما أظهرتها على إبراهيم وآله في العالمين. - حميد: فعيل من: "الحمْد"، يعني: المحمود، وهو أبلغ منه، والحميد: هو من حصل له من صفات الحمد أكملها ذاتًا وصفاتًا. - مجيد: فعيل من: "المَجْدِ"، مبالغة من ماجد، وهو صفة الكمال في الشرف والكرم، يقال: مجُدَ الرجل -بضم الجيم وفتحها- يمجُد -بالضم- مجدًا، واعتبار المبالغة في صفات الله تعالى باعتبارها في نفسها، لا فيمن تعلَّقت به؛ لأنَّ صفات الله تعالى لا تختلف. - إنَّك حميد مجيد: جملة كالتعليل لما قبلها، وحكمة الختم بهذين الاسمين الكريمين: أنَّ المطلوب تكريم الله تعالى لنبيه، وثناؤه عليه، والتنويهُ به، وزيادةُ تقريبه، ففيهما إشارة وتعليل للمطلوب؛ فإنَّ الحميد فاعل ما يستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة المتوالية. والمجيد كثير الإحسان إلى جميع خلقه الصالحين، ومن محامدك، وإمجادك، وإحسانك أن توجه صلواتك، وبركاتك، وترحمك على رسولك، وإلى آله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله تعالى أمرنا أن نصلي عليك، بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} فكيف نصلي عليك؟ فسكت -صلى الله عليه وسلم-، حتى تمنَّوا أنَّ السائل لم يسأله، مخافة أن يكون كره السؤال، وشقَّ عليه. وعند الطبراني: فسكت حتى جاءه الوحي، فقال: "قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد. . ." إلى آخر الصلاة المذكورة في الحديث. 2 - قولهم: "أمرَنَا الله أن نُصَلي عليك" دليل وجوب الصلاة، فإنَّ الأمر-أصوليًّا- يقتضي الوجوب، وقوله عليه الصلاة والسلام: "قولوا" أمر آخر أيضًا،

وسيأتي الخلاف في ذلك. 3 - الحديث يدل على أنَّ المسؤول عنه هو كيفية الصلاة، لا حكمها، فإنَّ حكمها معروف لديهم من الآية الكريمة، وكذلك هم عارفون بلغتهم ولسانهم العربي أنَّ مطلق الأمر يكفي فيه أي صيغة كانت، وإنَّما أرادوا أن يبيِّن لهم الصيغة الكاملة المفصَّلة، ولذا بيَّن لهم عليه الصلاة والسلام الكيفية والصيغة المختارة في الصلاة -صلى الله عليه وسلم-. 4 - استحباب هذه الصفة المذكورة في الصلاة، فرضًا كانت أو نافلة. 5 - أنَّ من حق نبينا علينا أن نُصلي عليه وندعو له، فإنَّ هذا الدين العظيم وهذه المِنَّة الكبرى لم تصلنا من الله تعالى إلاَّ عن طريقه، وعلى يديه، فمن حقه علينا الصلاة، وصلاتنا وصلاة الملائكة عليه هي الدعاء له والثناء عليه، فمن صلَّى عليه مرَّة واحدة، صلَّى الله عليه بها عشرًا، فينبغي الإكثار من الصلاة عليه، لاسيَّما في يوم الجمعة، وأن تكون بالصيغ والألفاظ المشروعة. 6 - أنَّ من أسباب علو شأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورفع منازله ودرجاته دعاء أمته له، وصلاتهم وسلامهم عليه. 7 - وردت الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بألفاظ مختلفة وروايات متنوعة، وقد أجمع العلماء على جواز كل ثابت من الصلاة على نبينا، وجواز الإتيان به، ولكن في غير صلاة واحدة، وإنَّما يأتي في الصلاة بواحدة من تلك الصيغ؛ ليعمل بجميع النصوص، ويحيي روايات السنة كلها، ولكن المختار منها للإتيان به أكثر الأحيان هو الصيغة التي معنا. 8 - شرح بعض الجمل: - اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد: الصلاة من الله: الثناء على عبده في الملأ الأعلى؛ كما رواه البخاري عن أبي العالية.

- آل محمد "آل" بمعنى "أهل"، تأتي بمعنى الأتْبَاع، وبمعنى القرابة، والذي يحدد المعنى، هو السياق، ففي قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر] المراد بهم: الأتباع. وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، المراد بهم: القرابة. - كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم: وهم إسحاق وإسماعيل، ومن ذرية إسماعيل محمَّد، عليهم جميعًا الصلاة والسلام، كما جاء في بعض الروايات: "وآل إبراهيم" ومن أجل هذا صلح تشبيه الصلاة على محمَّد وحده بالصلاة على إبراهيم، ومعه ابنه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وعليهم أجمعين. - إنَّك حميد: كثير المحامد المستحق لها على كل حال. - مجيد: كثير الأمجاد، والمجد هذا كمال الشرف، والكرم، والصفات المحمودة. - بارك على محمَّد: أي: ثبت له، وأدم عليه، وزده مما أعطيته من الشرف والكرامة؛ فإنَّك حميد مجيد. * خلاف العلماء: ذهب الشافعي وأحمد إلى: وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير، سواء كانت الصلاة ذات تشهدين أو تشهد واحد، ولو تركت لم تصح الصلاة، مستدلين بالآية الكريمة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "قُولُوا: اللهمَّ صلِّ. . . " إلخ. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنَّ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير سُنَّةٌ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ساق التشهد: "إذا فعلتَ ذلك فقد قضيت صلاتك". والراجح: هو الأول، وقد بحثَ وجوب الصلاة على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير الإمامُ ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام"، ورد قول الذين لم يروا وجوبه، بما لا مزيد عليه من الاستدلال عليهم.

253 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَشَهَّدَ أحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِالله مِنْ أرْبعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنهِ المَسِيح الدَّجَّالِ". مُتَّفقٌ عليه. وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيْرِ" (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: فليستعذ بِالله: أصل "أعوذ" بسكون العين وضم الواو، فنقلت الضمة إلى العين؛ لاستثقالها على الواو، فسكنت، ويقال: استعذت بالله، وعذت به معاذًا، أو عياذًا: اعتصمت واستجرت به؛ فالاستعاذة في كلام العرب، هي: الاستجارة والاعتصام. - جهنَّم: هي النار، أو طبقة من طبقاتها، سميت بذلك؛ لجهمتها وظلامها، وبُعد قعرها. - فتنة: عبارة عن الامتحان والابتلاء، في حال الحياة وعند الموت، وكثر استعمال الفتنة فيما آخره الاختيار للمكروه، ثم كثر استعماله بمعنى الإثم، والكفر، والقتال، ونحو ذلك. - المحيا والممات: كلاهما مصدران ميميان؛ لأنَّ ما كان معتلاًّ من الثلاثي يأتي منه المصدر، واسما الزمان والمكان بلفظ واحد، والمراد: ما يعرض للإنسان في حال الحياة، وعند الوفاة، وفي القبر، فأمَّا الفتنة حال الحياة فهي ما يخشى من الزيغ والضلال، وما يتعرض له الإنسان من فتنة الدنيا وزينتها. ¬

_ (¬1) البخاري (1377)، مسلم (588).

وأما فتنة الممات: فعند الاحتضار، وفي القبر عند سؤال الملكين، كما جاء في البخاري (86): "إنَّكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال". - المسيح: بفتح الميم وكسر السين المهملة المخففة في آخره حاء مهملة، وسمي الدجال بالمسيح؛ لأنَّ الخير مسح منه، أو لأنَّ عينَه الواحدة ممسوحة، أو لأنَّه يمسح الأرض بمروره عليها. وقد وردت الأخبار الصحيحة بخروجه آخر الزمان، علامة كبرى من علامات الساعة. - الدجال: على وزن فعَّال، من: "الدَّجل" وهو الكذب، والتمويه، وخلط الحق بالباطل، فكل من ظهر على الناس يريد إضلالهم، وإغواءهم عن الحق فهو دجال، وأول من يدخل في ذلك أصحاب المبادىء الهدَّامة، والمذاهب الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، الذين يقدمونها للناس ولشعوبهم باسم الإصلاح، فهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية التشهد الأخير في الصلاة، وتقدم أنَّ الصحيح وجوبه، ووجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه. 2 - استحباب الدعاء بعد التشهد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الجلسة، التي هي دبر الصلاة. قال شيخ الإسلام: الدعاء آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنَّما فعلها عليه السلام فيها، وأمر بها فيها، ما دام مقبلاً على ربه يناجيه، فلا ينبغي أن يترك سؤال مولاه في حال مناجاته، والقرب منه.

3 - يستحب الدعاء بهذا الماثور، والتعوذ بالله تعالى من الشرور الأربع، فإنَّها أساس البلاء والشر؛ فإنَّ الشر نوعان: إما عذاب البرزخ، وإما عذاب في الآخرة، وأسبابه فتنة المحيا، أو فتنة الممات، أو فتنة المسيح الدجال. والدعاء بهذا مندوب إليه بالإجماع، ولم يوجبه إلاَّ طاوس والظاهرية. 4 - عذاب جهنم: هو عذاب في شدَّته، واستمراره لا يتصور ولا يتخيل؛ لأنَّه فوق الطاقة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} [غافر]، وهو مستمر في شدَّته. 5 - أن هذا دعاء خاص بالتشهد الأخير؛ لِما في رواية مسلم: "إذَا فرغ أحدكم من التشهد الأخير. . . "، ولا يقال إلاَّ بعد التشهد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. 6 - القعود الأخير في الصلاة رتِّب فيه الذكر والدعاء أحسن ترتيب، ترتيبًا يوافق آداب الدعاء، فبدىء بالثناء على الله تعالى، وذكر محامده، ثم بالصلاة والسلام على نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ثم الدعاء، والدعاء لا يوصل إلى ثمرته إلاَّ بهذه المقدمات. قال شيخ الإسلام: شرع للعبد استعطاف ربه أمام الدعاء بالتحيات لله، ثم بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم بالصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخيَّر من الدعاء أحبه إليك، وليكن بخشوع وأدب؛ فإنَّه لا يستجاب لدعاء من قلب غافلٍ. 7 - شرح بعض الألفاظ: - أعوذ بالله من عذاب جهنَّم: التعوذ هو: اللجوء، والاعتصام، والاحتماء، وجهنَّم: أحد طبقات النار، سميت بذلك؛ لجهومتها، وظلامها، وبعد قعرها. - ومن عذاب القبر: تواترت الأخبار بثبوت عذاب القبر، ونعيمه، فهو

من عقيدة أهل السنة والجماعة. وقال الشيخ تقي الدين: إنَّه يقع على الأبدان والأرواح جميعًا، وقد ينفرد أحدهما، وقد أخفى الله تعالى عذاب القبر عن الإنس والجن، لِحِكمٍ بالغة، فلو ظهر عذابه، لحصل ما يلي: أولاً: لا يكون الإيمان بالعذاب والنعيم من الإيمان بالغيب، وإنَّما كان مشاهدة، فبطل الاختبار، والامتحان، والفضل بالإيمان بالغيب. ثانيًا: لصار في ذلك فضيحة، وخزي للميت، ولأهله، في حال الحياة الدنيا. ثالثًا: لو اطَّلع الناس على شقاء الميت لما تدافنوا، ولَنَفَر منهم الأحياءُ، ولكنَّ الله تعالى أخفاه حكمةً ورحمةً. أمَّا العذاب؛ فثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع. - ومن فتنة المحيا: الفتنة هي الابتلاء، والامتحان، والاختبار، وفتنة الحياة: هي ما يعرض للإنسان، من مِحنٍ، وفتنٍ، وابتلاءٍ بالشبهات، والشهوات وغيرها، وأعظمها سوء الخاتمة عند الموت. - الممات: إما أن تكون الفتنة عند موته، وخروجه من الدنيا، وإما أن تكون في قبره؛ فقد جاء في البخاري (86): "إنَّكم تفتنون في قبوركم مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال"، ومنه سؤال الملكين. - ومن فتنة المسيح الدجال: سمي مسيحًا؛ إمَّا لأنَّه يجوب الأرض طولاً وعرضًا، وإما لأنَّه أعور بمسح عينه اليمنى، وسمي دجالاً؛ لخداعه وكذبه، وتمويهه على الناس، وتلبيسه عليهم، وتغطيته الحق بباطله. 8 - قال السبكي: ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أُمرنا بها في كل صلاةٍ، وهي حقيقة بذلك؛ لعظم الأمر فيها، وشدَّة البلاء في وقوعها. 9 - استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمور، مع أنَّه معاذٌ منها قطعًا، فائدته إظهار

الخضوع والاستكانة، والعبودية والافتقار، وليقتدي به غيره في ذلك، ويشرع لأمته. 10 - إثبات خروج المسيح الدجال، الذي هو أحد علامات الساعة الكبار، يخرج ويمكث في الأرض، ويفسد فيها، ويخدع الناس، ويغوي من اتَّبعه منهم، حتى ينزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- فيقتله. ***

254 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ-: "أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كثَيِرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي، إِنَّك أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ" مُتَّفقٌ عَلَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أدعو به: جملة فعلية محلها النصب؛ لأنَّها صفة لقوله: "دعاء" الذي هو منصوب على أنَّه مفعول ثانٍ لقوله: "علِّمني". - في صلاتي: ظاهره عموم الصلاة، ولكن المراد به: حالة القعود بعد التشهد، وقبل السلام. - ظلمًا كثيرًا: بالثاء المثلثة، ويروى بالباء الموحدة؛ كما في مسلم: "ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنتَ": جملة معترضة بين قوله: "ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا"، وبين قوله: "فاغفر لي مغفرة من عندك"، ويصلح أن تكون جملة حالية. - مغفرة: إشارة إلى مزيد ذلك التعظيم؛ لأنَّ ما يكون عنده لا يحيط به وصف الواصفين. - إنَّك أنت: ضمير منفصل، وفائدته التوكيد، والحصر، والتمييز بين الخبر والصفة، يقال: "زيدٌ الفاضل" فيُحتمل في "الفاضل": الخبر، والصفة، وأما: "زيد هو الفاضل" فلا يحتمل إلاَّ الخبر، وهذا الضمير لا محلَّ له من الإعراب، ولذا لم يغير صيغة: {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} [الشعراء]. - الغفور الرحيم: لفٌّ ونَشر، مرتب مع: "اغفر لي وارحمني" قبله. ¬

_ (¬1) البخاري (834)، مسلم (2705).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - من فقه الصديق -رضي الله عنه- أنَّه علِمَ أنَّ الصلاة هي أقرب صلة بين العبد وبين ربه، وأنَّها إحدى الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلمه أنفع دعاء، وأنسب دعاء في هذا المقام، فعلَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الدعاء، الذي يرفع صاحبه إلى أعلى الدرجات، وعلَّمه الوسيلة القريبة التي تستوجب قبول هذا الدعاء. 2 - قال في "الشرح": الحديث دليل على شرعية الدعاء في الصلاة على الإطلاق، من غير تعيين محل له، ومن محلاته بعد التشهد والصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله: "فليختر من الدعاء ما شاء". 3 - في الحديث اعتراف العبد بذنبه من تقصيره بالواجبات، أو ارتكابه المنهيات، وفيه التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنَّ الداعي يأتي من صفات الله تعالى بما يناسب المقام؛ فلفظ: "الغفور الرحيم" عند طلب المغفرة والرحمة، وختم الآيات الكريمة بأسماء الله مناسبة غاية المناسبة؛ لما في الآية من معنًى كريمٍ، وكذلك الأدعية النبوية مختومة بأسماء الله تعالى بما يناسبها. 4 - وفي الحديث الترغيب في طلب العلم، وسؤال العلماء، لا سيَّما في المسائل الهامة، والأشياء المطلوبة. 5 - وفيه وجوب نصح العالم المتعلم، وتوجيهه إلى ما هو أنفع له، وإعطاؤه قواعد العلم وأصول الأحكام؛ لتكون الفائدة أتم وأكمل. 6 - وردت أدعية أُخر يستحب الإتيان بها قبيل السلام من الصلاة، منها: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة. . . إلخ" [رواه ابن أبي شيبة (1/ 264) عن ابن مسعود موقوفًا]. ومنها: "اللَّهمَّ اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت. . . " [رواه

أبو داود (760)]. ومنها وصيته عليه السلام لمعاذ: "لا تدعنَّ دبر كل صلاة أن تقول: اللَّهم أعنِّي على ذِكرك، وشكرك، وحسن عبادتك" [رواه أبو داود (1522)]. 7 - ولا يتعيَّن دعاء خاص؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثُمَّ ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه"، ولكن الدعاء الوارد المأثور أفضل من غيره، والله أعلم. 8 - ظلم الإنسان يكون في أحد أمرين: إما تقصير في الواجبات، أو تعدَّ على المحرمات، أو بهما جميعًا. 9 - قوله: "ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنت" استفهام بمعنى الإنكار، ومعناه: أنَّ الخلق جميعًا، لا يستطيعون أن يغفروا زلة واحدة من الزلاَّت، وإنَّما هذا إلى الله تعالى، فلا يطلب إلاَّ منه جلَّ وعلا. 10 - "اغفر لي وارحمني": المغفرة فيها زوال المكروه، والرحمة فيها حصول المطلوب. 11 - قال ابن الملقن: ما أحسن هذا الترتيب؛ فإنَّه قدم اعترافه بالذنب، ثم بالوحدانية، ثم سأل المغفرة؛ لأنَّ الاعتراف أقرب إلى العفو، والثناء على المسؤول أقرب لقبول مسألته. ***

255 - وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِيْنِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبركَاتُهُ، وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ الله [وَبركَاتُهُ] ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإسْنَادٍ صَحيحٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ أخرجه أبو داود بسند صحيح، وقد صحَّحه عبدالحق، والنووي، وابن حجر، وإسناد رجاله ثقات منهم رجال الصحيح. قال الألباني: الأَوْلى عدم المداومة على زيادة "وبركاته"؛ لكونها لم تأت في أحاديث السلام الأُخر. قال الشيخ المباركفوري: اعلم أنَّ أكثر نسخ أبي داود خالية من زيادة "وبركاته" مع التسليمة الثانية، وإنَّما هي مع التسليمة الأولى فقط، حتى توهم البعض أنَّ الحافظ ابن حجر وهم في نقل هذه الزيادة مع التسليمة الثانية، وإنَّما الواهم هو ذلك البعض؛ فإنَّ هذه الزيادة مع التسمليمتين موجودة في بعض النسخ الصحيحة المعتمد عليها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصلاة عرفها العلماء شرعًا: بأنَّها أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وتحليلها التسليم". [رواه أحمد (1009)]. 2 - صيغة التسليم: "السلام عليكم ورحمة الله" مرتان، واحدة عن اليمين، ¬

_ (¬1) أبو داود (997).

والأخرى عن الشمال، وسيأتي بحث "وبركاته" إن شاء الله تعالى. 3 - هذا هو السلام الذي كان يقوله -صلى الله عليه وسلم-، ويخرج به من الصلاة، ولم ينقل عنه خلافه، وقد قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي" [رواه البخاري (605)]، وعلى المصلي أن ينوي به الخروج من الصلاة استحبابًا، وإن لم ينو جاز، والأولى كافية. 4 - الابتداء باليمين بالسلام، والالتفات في التسليمتين، كل ذلك سنة، ليس بواجب. 5 - زيادة "وبركاته" قال في: "شرح الإقناع": وإن زاد "وبركاته" جاز؛ لفعله -صلى الله عليه وسلم-، كما رواه أبو داود. وقال الألباني: وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته" [رواه أبو داود بسند صحيح]، فالأولى الإتيان بهذه الزيادة أحيانًا؛ لأنَّها لم ترد في أحاديث أُخر، فثبت أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها. 6 - السلام. . . إلخ: دعاء بالسلامة من النقائص، والعيوب، والآفات، وسؤال الرحمة للحاضرين من المصلين، والملائكة الكرام الحاضرين، فهو دعاء مناسب، ينبغي للمصلي أن يستحضر هذه المعاني، وأن يستحضر أدب الدعاء. 7 - قال في "الروض وحاشيته": "ويكره للإمام إطالة قعوده بعد السلام مستقبل القبلة، لما روى مسلم (592) عن عائشة قالت: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم، لم يقعد إلاَّ بمقدار ما يقول: اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"؛ لأن في انحرافه إلى المأمومين إعلامًا بأنه قد انتهى من صلاته، فلا ينتظر". وحكى النووي وغيره: أنَّ عادته -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف استقبل المأمومين جميعهم بوجهه.

8 - قال الشيخ تقي الدين: المصافحة بعد السلام من الصلاة لا أصل لها، لا بنص ولا عمل من الشارع، ولا من الصحابة، ولو كانت مشروعة لتواترت، ولكان السابقون أحق بها، أما إذا كانت أحيانًا؛ لكونه لقيه عقب الصلاة، لا لأجل الصلاة فجائز. * خلاف العلماء أجمع العلماء على مشروعية السلام في الصلاة، والخروج منها به، واختلفوا في حكمه: فذهب المالكية والشافعية إلى: وجوب التسليمة الأولى، وأما التسليمة الثانية فسنة ليست بواجبه لديهم. وذهب الحنفية إلى: أنَّه يجب لفظ "السلام" مرتين، في اليمين واليسار، دون "عليكم ورحمة الله" فسنة، وعلى هذا فهو واجب، وليس بفرض، فيجوز الخروج من الصلاة بسلام أو كلام، أو غير ذلك مما ينافي الصلاة، لكن مع الكراهة التحريمية، وإذا جازت الصلاة مع الكراهة التحريمية فتجب إعادتها. والمشهور عند الحنابلة: أنَّ التسليمتين فرضان، فلا تكفي الأولى عن الثانية إلاَّ في صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، فيخرج منها بتسليمة واحدة، لأنَّ هذه العبادات مبنية على التخفيف، فاكتفي بتسليمة، ولو سلم الثانية جاز. قال العقيلي: الأسانيد ثابتة في حديث ابن مسعود في التسليمتين، ولا يصح عنه تسليمة واحدة. ونصَّ الطحاوىُّ وغيره على تواتر التسليمتين عنه -صلى الله عليه وسلم-. وقال البغوي وغيره: التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب قبولها، والواحدة غير ثابتة عن أهل النقل. واستدلَّ الشافعية والمالكية على أنَّ الفرض هو تسليمة واحدة: بعموم

قوله: "وتحليلها التسليم" [رواه أبو داود (61)]. وأقله: "السلام عليكم" قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أنَّ صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. أما دليل الحنفية على أنَّه ليس بفرض: فحديث ابن مسعود: "إذا قضيت هذا، تمت صلاتك" [رواه أبو داود (856)، والترمذي (302)]. أما دليل الحنابلة: فما رواه أبو داود (996)، والنسائي (1319) عن ابن مسعود "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسلم عن يمينه، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت حتى يرى بياض خده". وأجابوا عن حديث ابن مسعود: ". . . تمت صلاتك": بأنَّ هذا التعبير معناه: أنَّك وصلت إلى نهايتها، وهو السلام، الذي به تخرج منها. ***

256 - وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". مُتَّفقُّ عَليْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دُبُر: -بضم الدال المهملة، وضم الباء الموحدة، ويجوز سكونها-: ضد القبل، فالقبل: وجه كل شيء، والدبر: عقبه ومؤخره. - صلاة مكتوبة: أي: فريضة، وجاءت مطلقة في إحدى روايات البخاري: "كان يقولها في دبر كل صلاة"، والمطلق يحمل على المقيد. - لا إله إلاَّ الله: "لا" نافية للجنس، "إله" اسمها، أما خبرها فمحذوف، تقديره "حق"، واسم الجلالة بدل منه، وهي كلمة التوحيد بالإجماع، وهي مشتملة على النفي والإثبات؛ فقوله: "لا إله" نفي للألوهية، و"إلاَّ الله" تأكيد لإثبات الألوهية لله تعالى، وبهاتين الصفتين صارت هذه هي كلمة التوحيد والشهادة. - وحدَه: منصوب على الحال، تقديره: ينفرد وحده، وأوَّلناه هكذا؛ لأنَّ الحال لا تكون إلاَّ نكرة. - لا شريك له: تصلح أن تكون تأكيدًا لـ"وحده"؛ لأنَّه المتَّصف بالوحدانية، وأن تكون توكيدًا لنفي الشريك، فكلمة الإخلاص تضمنت إثباتًا ونفيًا. - له الملك: بضم الميم؛ ليعم، ويكون له جل وعلا مطلقُ الملكوت. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (844)، مسلم (593).

- وله الحمد: جميع أصناف المحامد؛ بناء على أنَّ الألف واللام لاستغراق الجنس. - وهو على كل شيء قدير: من باب التتميم والتكميل؛ لأنَّ الله تعالى لما كانت لى الوحدانية، وله الملك، وله الحمد، فبالضرورة يكون قادرًا على كل شيء، وذكره يكون للتتميم والتكميل. - القدير: اسم من أسماء الله، وصفة من صفاته تعالى، فله القدرة الكاملة الباهرة في السموات والأرض. - لما أعطيت، ولما منعت: أي: الذي أعطيته، والذى منعته بِحِكمتك. - الجَدّ: بالفتح في جميع الروايات، ومعناه: الغنى. - منك: متعلق بقوله: "ينفع"، ولا يصلح أن يكون متعلقًا بـ"الجد"؛ قاله ابن دقيق العيد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب هذا الذكر بعد الصلوات الخمس المكتوبات كلها، ويكون بعد السلام مباشرة؛ فإنَّ دبر الشيء ما يليه، وظاهره يأتي به مرَّة واحدة بعد الصلاة، ويأتي تمام البحث. 2 - شُرِعَ هذا الذكر الجليل بعد الصلوات المكتوبات التي هي أفضل الطاعات؛ لما اشتمل عليه من إثبات الوحدانية لله تعالى، ونفي الشريك له في ذاته وصفاته وعبادته، وإثبات كمال القدرة، وشمولها له وحده، ثم إثبات التصرف له وحده من العطاء والمنع، وأنَّ أي مخلوق لا ينفعه جده، ولا حظه، ولا غناه، عن الله تعالى، فهو صاحب الملكوت والسلطان، فإذا عرف العبد ذلك تعلَّق قلبه بربه تعالى، وصرف نظره عن غيره. 3 - ترتيب هذا الذكر المشروع بعد الصلوات الخمس المكتوبات-: أن يستغفر الله ثلاثًا، ثم يقول: "اللَّهُمَّ أنت السلام ومنك السلام. . . إلخ"، ثم يأتي بذكر

هذا الحديث، وهو أن يقول: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك. . . " مرَّة واحدة، إلاَّ في المغرب والفجر فعشر مرات، ثم يقول: "سبحان الله" و"الحمد لله" و"الله أكبر" ثلاثًا وثلاثين مرة، فتكون تسعة وتسعين، وتكمل المائة: بـ"لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له. . . ". ثم يقرأ آية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين، ثم يقول في المغرب، والفجر خاصة: "اللَّهمَّ أجرني من النار" سبع مرات. فهذا الذكر ورد في فضله نصوص عظيمة معروفة، لا يتسع المقام لنقلها؛ بعد الذكر يدعو مخلصًا في دعائه، لأنَّ الدعاء هو العبادة، والإخلاص ركنها. قال الشيخ تقي الدين: إذا لم يخلص الداعي في الدعاء، ولم يتجنَّب الحرام، تبعد إجابته، إلاَّ مضطرًا مظلومًا. والحاصل أنَّه عقب أذكار الصلاة، يستحب أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو بما شاء؛ فإنَّ الدعاء عقب هذه العبادة من أحرى أوقات الإجابة، لا سيَّما بعد ذكر الله، وحمده، والصلاة على نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. ***

257 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "انَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبر كُلِّ صَلاَةٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يتعوذ: عاذ بالله يعوذ عوذًا وعياذًا: لاذ والتجأ واعتصم، تقول: أَعُوذُ بالله من الشيطان؛ أي: التجأ واعتصم به. - البخل: يقال: بخل الرجل يبخل بخلاً، من بابي كرم وعلم، والاسم: البخل. فالبخل -بضم الخاء وإسكانها-: هو الإمساك والشح، وهو ضد الجود والسخاء والكرم. وقيل: البخل هو نفس المنع، والشح حالة نفسية تقتضي المنع. والبخل في الشرع: منع الواجب. واسم الفاعل: "بخيل"، والجمع: "بخلاء". - الجبن: يقال: جبن الرجل يجبن جبنًا، من بابي نصر وكرم، والجبان جمعه: جبناء، وهو الهيوب للأشياء، فلا يقدم عليها. قال في "المصباح": هو جبان؛ أي: ضعيف القلب. - أُردّ: بالبناء للمجهول، يقال: رددت الشيء: أرجعته، وأعدته إلى ما كان عليه. - أرذل: يقال: رذل رذلاً: كان رذيلاً. والرذيل: الخسيس، أو الرديء من كل شيء، جمعه: أرذال ورذلاء، ¬

_ (¬1) البخارى (2822).

والأرذل: اسم تفضيل من الرذالة؛ بمعنى الأردأ. - الفتنة: جمعها: فتن، يقال: فتنه يفتنه فتنًا وفتونًا، من باب ضرب، استماله، وفُتن في دينه: مال عنه. وأصل الفتنة: الاختبار؛ لتمييز الخبيث من الطيب، وللفتنة معانٍ كثيرة، وهي هنا إغواء المسلم عن دينه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه استحباب الدعاء دبر الصلوات المكتوبات؛ لأنَّ الدعاء فيه مظنة الإجابة، والصلاة عند الإطلاق يراد بها الصلوات الخمس المفروضة. 2 - فيه استحباب الاستعاذة بالله تعالى من هذه الأخلاق الذميمة، وهي البخل، والجُبْن، والخوف، وفتنة الدنيا، وعذاب القبر، فهذه الأمور إما عذاب، وإما أسباب قوية تجلب العذاب. 3 - مساوىء هذه الأخلاق هي: الجُبنْ: يمنع صاحبه من الإقدام في المواطن الشريفة، من بذل النفس في الجهاد في سبيل الله، والتأخر عن القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من المواقف التي فيها عز الإسلام والمسلمين. البخل: يمنع صاحبه من أداء الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة، والمستحبة، وبذل الخير، وصلة الأقارب، والجيران، وأصحاب الحقوق. أرذل العمر: هو أردؤه وأخسه، حينما تضعف قوى الإنسان العقلية، ويكون بمنزلة الطفل والمجنون، من سخف العقل وقلَّة الإدراك. فتنة الدنيا: الانهماك في شهواتها وملذاتها، وجمعها من طرق الحلال والحرام، والافتتان بها؛ بحيث تصده عن ذكر الله تعالى، وتلهيه عما فيه نجاته وسعادته، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]. عذاب القبر: صحت الآثار أنَّ الإنسان إما أن يعذب. في قبره، وإما أن

ينعَّم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حُفرة من حفر النار، وهو أوَّل منازل الآخرة. فهذه دعوات طيبات، واستعاذات مستحبات، يحسن الاستعاذة بها في المواطن التي حري للعبد أن يستجاب له فيها، والله سميع مجيب، وهي لم تذكر في حديث المسيء، ولكن ثبتت بأدلة أخر، والله أعلم. 4 - قوله: "دبر كل صلاة" يحتمل أن يكون بعد التشهد الأخير، وقبل السلام، ويحتمل أن يكون بعد السلام؛ فدبر الشيء ضد قبله وضد آخره. وصنيع المؤلف في ترتيب الأحاديث، يُفهم منه أنَّ مشروعية هذا الدعاء يكون بعد السلام. أما شيخ الإسلام: فذهب إلى أنَّ مشروعية الدعاء وفضيلته تكون بعد التشهد، وقبل السلام، فقد قال: والدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، فقد كان غالب دعائه -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد قبل السلام، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة، فإنَّه فعلها فيها، وأمَرَ بها فيها، وهو اللائق بحالة المصلي، فإنَّه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فلا ينبغي للعبد أن يترك سؤال مولاه في حالة مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، وآكده قرب إنهاء هذه العبادة الجليلة التي فيها شرع له استعطافه بكلمات التحيَّة، ثم تبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يديه، ثم قيل له: تخيَّر من الدعاء أحبه إليك. فهذا الحق الذي عليك، وهذا الحق الذي لك، وليكن بأدبٍ، وخشوعٍ، وحضور قلبٍ، ورغبةٍ، ورهبةٍ؛ فإنَّه لا يستجاب الدعاء من قلب غافل. اهـ. قلتُ: دبر الصلاة يراد به ما بعد السلام، كما سيأتي في حديث أبي هريرة قريبًا برقم (259)، ولكن الراجح أنَّ المراد بالدبر -هنا- هو: ما قبل السلام، والله أعلم.

258 - وَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتهِ اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلاَثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ." روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اللَّهمَّ أنت السلام: السالم من التغيرات والآفات، والسالم من جميع النقائص، ومن كل ما ينافي كماله، أو معطي السلامة لمن يشاء. - ومنك السلام: أي: منك يُرجى السلام، ويستوهب السلام، فمبدؤه منك يا رب. - السلام: يقال: سلم يسلم سلامًا، من باب علم، إذا نجا وبرىء، والسلام: مصدر من "سَلِمَ" بالتخفيف، وهو التحيَّة في الإسلام، فهو دعاء لهم بالسلامة من الآفات في الدين، والعقل، والنفس. - الجلال: يقال: جلَّ يجل جلالاً: عظم قدرًا وشأنًا، وضد صغر ودقّ، فهو جليل وجلال. والجلال: التناهي في عظم القدر والشأن. - يا ذا الجلال والإكرام: فسر بعضهم الجلال بالصفات الجليلة، فهو يجل عن النقص، والعيب، ومشابهة المخلوقين، والإكرام بالصفات الثبوتية، فهو مقابل له. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم بيان الأذكار وترتيبها بعد الصلوات الخمس المفروضات، وهذا ¬

_ (¬1) مسلم (591).

الحديث يؤخذ منه الدلالة على أنَّ المصلي -بعد الفراغ من الصلاة- يقول: "أستغفر الله" ثلاث مرات. ثم يقول: "اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". 2 - المراد بالانصراف منها هنا "السلام"، وبيانه سيأتي إن شاء الله. 3 - قيل لأحد رواة هذا الحديث، وهو الأوزاعي: كيف الاستغفار؟ فقال: يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله". 4 - الاستغفار هو طلب المغفرة، وطلبها لا يكون إلاَّ من شعور بالتقصير، فالاستغفار إشارة منه إلى أنَّه لم يقم بحق عبادة ربِّه، لما يعرض له من الوساوس والخواطر والمنقصات، فشرع له الاستغفار تكميلاً لهذا النقص، واعترافًا بالعجز والتقصير. 5 - فيه إثبات اسم السلام لله تعالى وصفته، فهو السالم من كل نقص وعيب، وهو واهب السلامة لعباده من شرور الدنيا والآخرة. 6 - أما الجلال والإكرام فهما من صفات الغنى المطلق، والفضل التام، الثابتة والمستحقة لله تعالى، وهو جلَّ ذكره وفضله يكرم عباده المتَّقين، وينعِم على عباده المخلصين. وذو الجلال والإكرام اسمان عظيمان، وصفتان كريمتان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام"، ومرَّ -صلى الله عليه وسلم- برجل يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام قال: "استُجيب لَك". 7 - يستحب في حق الإمام أن يبقى بعد السلام متَّجهًا إلى القبلة، حتى يفرغ من هذا الذكر، الذي في هذا الحديث. قال في "شرح الإقناع": ويستحب للإمام ألا يطيل الجلوس مستقبل القبلة؛ لحديث عائشة قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم، لم يقعد إلاَّ مقدار ما

يقول: اللَّهمَّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". [رواه مسلم (592)]. 8 - قال شيخ الإسلام: الإسرار بالذكر، والدعاء، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأفضل مطلقًا، إلاَّ لمعارض راجح. أما مراءاة الناس في العبادات؛ كالصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، والذكر -فمن أعظم الدنوب، ولا يكفي أن يبطل عمله، بل هو مستحق للعذاب. ***

259 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَبَحَّ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِيْنَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِيْنَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِيْنَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائه: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ -غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْر". روَاهُ مُسْلِم (¬1). وفَي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "أَنَّ التَّكْبِيْرَ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دبر كل صلاة: منصوب على الظرفية، وهو -بضم الدال- نقيض القبل، وهو من كل شيء عقبه ومؤخره. - سبحان الله: "سبحان" اسم مصدر منصوب بفعل محذوف، تقديره: سبَّحت الله، ولا يستعمل غالبًا إلاَّ مضافًا، والمصدر هو "التسبيح"، وهو التنزيه، وهو التخلية التي تكون مقدمة على الحمد، الذي هو التحلية. - حمِد الله: الحمد: هو الثناء على الله بصفات الكمال الوجودية، فهي تحلية بكماله، بعد تنزيهه عن صفات النقص السلبية. - لا إله إلاَّ الله: "لا" نافية لكل معبود بحقٍّ، وهذه الجملة هي أفضل الذكر، فالإيمان لا يصح إلاَّ بها، وهي كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص. ¬

_ (¬1) مسلم (597). (¬2) مسلم (596) من حديث كعب بن عجرة.

- له الملك: المطلق الحقيقي الدائم، الذي لا انتهاء لوجوده، ثابت له لا لغيره، كما يدل على ذلك تقديم الجار والمجرور. - له الحمد: فالحمد: هو الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، ثابت له تعالى، وتقديم المعمول يفيد الحصر. - الله أكبر: أي: أجلُّ وأعظم من كل ما عداه، وحُذِفَ المعمول للتعميم. - زبد البحر: بفتحتين آخره دال، وزبد البحر: رغوته عند هيجانه؛ أي: في الكثرة، قال ابن حجر: هو كناية عن المبالغة في الكثرة. - وحده لا شريك له: تأكيد لمعنى "لا إله إلاَّ الله". - وهو على كل شيء قدير: صاحب القدرة العامة الشاملة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب هذا الذكر بعد الصلوات الخمس المكتوبة. قال في "فتح الباري": حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد رفع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم على التقيد بالمكتوبة، وكأنَّهم حملوا المطلقات عليها. 2 - إذن لا يستحب التقيد به في غير الصلوات المكتوبات، ومنها الجمعة، ولو كانت صلاة جامعة؛ كالعيدين، والكسوف، والاستسقاء، والتراويح، وقوفًا عند الوارد. 3 - ورد الإتيان بهذا الذكر بأن يقال: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر". وورد بأن يقال: "سبحان الله" ثلاثًا وثلاثين، ثم يقال: "الحمد لله" كذلك، و"الله أكبر" كذلك، والأفضل فعل هذا مرَّة، وفعل هذا مرَّة؛ ليحصل العمل بالسنة؛ فإنَّ القاعدة أنَّ العبادات الواردة على وجوه متنوعة، ينبغي أن تفعل على كل وجه؛ ليحصل العمل بالسنة كلها. 4 - ترتيب هذه الجمل على هذه الصيغة بغاية المناسبة:

"فسبحان الله" تنزيه عن كل نقص وعيب، "والحمد لله" وصفه تعالى بجميع المحامد، والتنزيه والتخلية تكون قبل التحلية. ثم إذا وصف العبد ربه بالنزاهة عن النقص والعيب، ووصفه بالكمال، جاءت صفات التكبير والتعظيم المستحقة لمن تنزه عن العيوب، ووفى بالمحامد. 5 - قوله: "غفرت خطاياه" ظاهر الحديث العموم، ولكن جمهور العلماء يقولون: إنَّ جميع الأحاديث الواردة بمغفرة الذنوب، أو تكفير السيئات من أجل القيام بالأعمال الصالحة، مقيَّدة باجتناب الكبائر؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ، ما اجتنبت الكبائر". [رواه مسلم (233)]. فإذا كانت هذه الفرائض العظام -ومنها الصلوات الخمس- لا تقوى على تكفير الكبائر، فما دونها من فضائل الأعمال من باب أولى، وقال النووي: إن لم تكن صغائر رجي التخفيف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت له به درجات. أما شيخ الإسلام فقال: إنَّ إطلاق التكفير بالعمرة متناول الكبائر. 6 - يقال هذا الذكر بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة، وكما ورد في الأخبار، والظاهر أنَّ المراد أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه، فالظاهر أنَّه مصيب للسُّنَّة أيضًا؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شُغِلَ عن ذلك ثم تذكره فذكره، فالظاهر حصول أجره الخاص له أيضًا، إذا كان قريبًا لعذر. أما لو تركه عمدًا، ثم استدركه بعد زمن طويل، فالظاهر فوات أجره الخاص، وبقاء أجر الذكر المطلق له. 7 - أنَّ هذا الذكر سببٌ لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، والمراد: تكفير صغائر الذنوب، أما الكبائر فلا يكفرها إلاَّ التوبة منها، قال تعالى: {إِنْ

تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. قال شيخ الإسلام: الذكر من أفضل العبادات، ولذا قالت عائشة: "الذكر بعد الانصراف من الصلاة هو مثل مسح المرآة بعد صقالها؛ فإنَّ الصلاة تصقل القلب". والذكر عقب الصلاة ليس بواجب، فمن أراد أن ينصرف فلا ينكر عليه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة، إلاَّ بمقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول: "اللَّهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام". 8 - عَدُّ التسبيح بالأصابع سُنة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- للنساء: "سبحن، واعقدن بالأصابع؛ فإنَّهنَّ مسؤولات مستنطقات" [رواه أحمد (26549) والترمذي (3583)]. 9 - جاء في بعض روايات الصحيحين: "أنَّ تمام المائة هي: لا إله إلاَّ الله ... " إلخ، وجاء في بعضها: "أنَّ التكبير أربع وثلاثون"، وفي رواية لمسلم من هذا الحديث: "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، إحدى عشرة، وإحدى عشرة، واحدى عشرة؛ فذلك كله ثلاث وثلاثون". وفي رواية للبخاري (6329) من هذا الحديث: "تسبحون دبر كل صلاة عشرًا". وقال في "فتح الباري": جمع البغوي في "شرح السنة" بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون، لك صَدَرَ في أوقات متعددة، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يختلف باختلاف الأحوال. قال محرره عفا الله عنه: وما دام أنَّ الأحاديث صحَّت بهذه الأعداد، فينبغي أن يفعل هذا مرَّة، وهذا مرة أخرى، ولعلَّ العدد القليل يؤتى به في الأزمنة الضيقة، حتى لا يفوت المصلي السنة والفضيلة، والله لطيف بخلقه. أما العمل بالروايات كلها، أو بأكثر من واحدة منها في صلاة واحدة، فلا يستحب.

260 - وَعَنْ مُعَاذِ بْن جَبَل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "أُوْصِيكَ يَا مُعَاذُ: لاَ تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ". رَوَاهُ أَحْمَد وأَبُو دَاودَ والنَّسائي بِسَنَدٍ قَوِيٍّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الإمام النووي في "الأذكار": إسناده صحيح، وقال الشيخ صديق حسن في "نزل الأبرار": رواه أبو داود والنسائي، وابن حبان (5/ 364) وابن خزيمة (1/ 369) في صحيحيهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقد احتج به المنذري. * مفردات الحديث: - لا تدعن: بفتحات ثلاث، من "ودعه": إذا هجره وتركه؛ أي: لا تتركن. - أعِنِّي: -بفتح الهمزة وكسر العين وتشديد النون: صيغة دعاء من: الإعانة، إذا أدغمت نون الفعل في نون الوقاية، فصارت مشددة؛ أي: انصرني ووفقني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب هذا الدعاء بعد الصلوات المكتوبة، وتقييده بعد المكتوبة؛ لأنَّها هي المرادة عند الإطلاق. 2 - قوله: "دبر كل صلاة" اختلف في دبر الصلاة، هل المراد به قبيل السلام، أو المراد بعد السلام؟. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 244)، أبو داود (1522)، النسائي (3/ 53).

أكثر العلماء على الثاني، وطائفة على الأول، ومنهم شيخ الإسلام. أما النصوص: فجاء في حديث معاذ في بعض ألفاظه: "لا تدعن أن تقول في صلاتك" مما يدل على أنَّ المراد بدبر الصلاة: قبل السلام. وجاء في حديث أبي هريرة: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلانين ... ". وجاء فيما رواه النسائي في الكبرى (6/ 30) وغيره: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة"؛ والمراد بهذين الحديثين: بعد السلام. فصار الدبر يراد به: آخر جزء من الصلاة، ويراد به: ما بعد السلام. والأفضل أن يكون الدعاء فيما قبل السلام، وأما الذكر ففيما بعد السلام؛ وتقدم الكلام عليه. 3 - قال في "الشرح": دبر الصلاة يشمل ما بعدها، وبعد التشهد، والظاهر هنا الأول. أما شيخ الإسلام: فيرجح أنَّ الدعاء يكون في الصلاة قبل السلام منها، فقد قال -رحمه الله تعالى:-، والدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها -عليه السلام- فيها، وهو اللائق بحال المصلي المقبل على ربه يناجيه. 4 - فضيلة هذه الكلمات المباركات الطيبات، الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ففيهن طلب الإعانة من الله تعالى على إقامة ذكره، والقيام بشكره، وإحسان عبادته، بأن يعبد المسلم ربه كأنه يراه. فمن قام بذكر الله تعالى على الوجه المطلوب، وأدى شكر الله على نعمه وإحسانه، وأتى بالعبادة محسنًا فيها، متقنًا لها -فقد أدى عبادة ربه بقدر طاقته، ومن الله القبول والثواب. 5 - الحديث فيه فضيلة ومنقبة لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- فقد جاء فيه: "يا

معاذ، إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة. . . " الحديث، ومحبة الرسول للعبد عنوان سعادته في الدنيا والآخرة، وأما الحديث فهو من الأحاديث المسلسلة، بهذه الكلمة اللطيفة الكريمة. 6 - الحديث فيه التأكيد على الإتيان بهذه الدعوات الكريمات، بما جاء فيهنَّ من النهي عن تركهن، مما قد يحمل على القول بالوجوب. قال شيخ الإسلام: الحاصل أنَّه يستحب للعبد إذا فرغ من صلاته، واستغفر الله، وذكره، وهلَّله، وسبَّحه، وحمده، وكبَّره، بالأذكار المشروعة عقب الصلاة -أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو بما شاء؛ فإنَّ الدعاء عقب هذه العبادة أحرى الأوقات بالإجابة، لا سيما بعد ذكر الله وحده، والثناء عليه، والصلاهَ على رسوله، وهو أبلغ الأسباب لجلب المنافع، ودفع المضار، ويستحب إخفاء الدعاء، ففي إخفائه فوائد منها: - الإخلاص لله تعالى، والبعد عن الرياء. - وحضور القلب، وخشوعه عند مناجاة الله تعالى. - والبعد عن القواطع والمشوشات. - وغير ذلك مما تجلبه السرية مع الله تعالى. فالإسرار بالذكر، والدعاء، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأفضل مطلقًا، إلاَّ لعارض راجح. 7 - "وحسن عبادتك": المطلوب من هذه الجملة هو التجرد عما يشغله عن الله، ويلهيه عن ذكره وعبادته؛ ليتفرغ لمناجاته الله، فتكون قرة عينه في الصلاة، ويرتاح بها من همومه وغمومه، وليحقق كمال الإحسان، الذي دلَّ عليه النبى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أن تعبد الله كأنَّك تراه". [رواه مسلم (1)]. 8 - فيه حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما ينفع أمته، ويرفع درجاتهم، ويعلي مراتبهم عند ربهم، فصلوات الله وسلامه عليه، فقد بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة.

9 - فيه الحرص على مجالسة العلماء والصالحين، الذين يزيدون الإنسان من العلم النافع، ويقوون فيه الإيمان، ويقربونه من ربه. 10 - إذا ضعف الإنسان عن العدد الكثير، أو كان له ما يشغله عنه، فيكون القليل من باب الترخيص؛ فإنَّ الشرع جاء بالرفق في حال السفر والعذر، والله أعلم. 11 - ما جاء في هذه النصوص الصحيحة هو الذكر المشروع، أما ما استحدث من أذكار، وما جعل له من هيئات وصفات، فهو من البدع، التي قال عنها -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" [رواه مسلم (1718)]، ومن ذلك الاستغفار جماعة بصوت واحد بعد السلام، وقولهم بعده: "يا أرحم الراحمين، ارحمنا"، وتدوير أصابع اليد اليمن مبسوطة على الرأس، وجمع رؤوس أصابع اليدين، وجعلها على العينين بعد الصلاة، وقراءة ثلاث آيات من سورة آل عمران، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الصبح والمغرب، ونحو ذلك من أذكار لم ترد بها سنة، فلا يجوز، والواجب الاقتصار على الوارد، وعبادة الله تعالى تكون بما شرعه. 12 - يُسْأَل الله الإعانة على هذه المطالب الثلاثة، وهي ذِكْره، وشكره، وحسن عبادته، فهي غايات في بلوغ طاعة الله تعالى، التي هي مراده من إيجاد خلقه، وهي وسائل إلى الحصول على فضله ورحمته. * خلاف العلماء: اختلفت أقوال العلماء فيما إذا زاد الإنسان على العدد المحدود في هذه الأذكار: فقال بعضهم: إذا زاد على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة، وخاصية تفوت لمجاوزة ذلك العدد، وبالغ القرافي في "القواعد" فقال: من البدع المكروهة الزيادة في

المندوبات المحددة شرعًا، ومثَّله بعضهم بالدواء إذا تخلَّف الانتفاع به. وبعض العلماء قال: إذا أتى بالمقدار الذي رتِّب الثواب على الإتيان به -حصل الثواب بعد حصوله. قال الحافظ: وعليه أن تفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة، فلا تكون الزيادة مزيلة للثواب المخصوص، وإن زاد بغير نية فيتجه للقول الأول. ***

261 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إلاَّ المَوْتُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَزَادَ فِيهِ الطَّبَرَانِيُّ: "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} " (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الشيخ صديق حسن في "نزل الأبرار": أخرجه النسائي وابن حبان، وفي إسناده: الحسن بن بشر، قال النسائي: لا بأس به، قال أبو حاتم: وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الطبراني، بإسنادين: أحدهما صحيح. وأما زيادة الطبراني: "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} " فقال المنذري: وإسناده بهلذه الزيادة جيد. وقال في "مجمع الزوائد": لهذه الزيادة إسنادان: أحدهما جيد. * مفردات الحديث: - إلاَّ الموت: هو على حذف مضاف تقديره: "إلاَّ عدم موته"، حذف لدلالة المعنى عليه. - مكتوبة: كتب يكتب كتابًا، مصدر سيال، له عدة معانٍ: منها: فرض، وهي المرادة هنا، فمعنى المكتوبات؛ أي: المفروضات. - آية الكرسي: هيِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ¬

_ (¬1) النسائي في عمل اليوم والليلة (100)، الطبراني في الكبير (8/ 134).

وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة]. أما الكرسي: فقد جاءت الأحاديث أنه موضع القدمين للرب تبارك وتعالى. - آية: أصلها "أوية" قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنسبة إليه: أوي، جمعها: آيات وآي، قال أبو البقاء: الأصل في الآية: العلامة الظاهرة، وتطلق على طائفة حروف من القرآن، علم بالتوقيف انقطاعها عما قبلها، وعما بعدها من الكلام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضل هذه الآية العظيمة؛ لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والوحدانية، والحياة الكاملة، والقيومية الدائمة، والعلم الواسع، والملكوت المحيط، والقدرة العظيمة، والسلطان القويم، والإرادة النافذة. وقد روى الإمام أحمد (20771) ومسلم (810): "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سأل أُبَيَّ ابن كعب: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها عليه مرارًا. قال أبىٌّ: اَية الكرسي، قال: ليهنك العلم، يا أبا المنذر! ". 2 - من معاني الآية العظيمة: {اللَّهُ}: لفظة الجلالة جمعت معاني الألوهية التي لايستحقها إلاَّ هو، فعبادة غير الله باطلة، وهو -جلَّ وعلا- صاحب الحياة الكاملة من السمع والبصر، والقدرة، والإرادة، وغيرها من الصفات الحميدة. {الْقَيُّومُ} الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقامت به جميع الموجودات، فهو الذي أوجدها، وأبقاها، وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها، وبقائها. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} السِّنة: النعاس في العين، وأما النوم: فهو

الاسترخاء والثقل، الذي يصل إلى القلب فيزول معه الذهن، فالسِّنة والنوم إنما يعرضان للمخلوق الناقص، الذي يعتريه الضعف والعجز، ويحتاج للراحة والاستجمام، أما صاحب القوة الكاملة والقيومية التامة فلا يعرضان له. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: فالكل عبيده، والجميع ملكه، لا يخرج أحدٌ منهم عن ذلك. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: فمن تمام ملكه، ومن عظمة سلطانه، ومن جلال أمره-: أنه لا يتجرأ أيُّ مخلوق على أن يشفع لأحد، إلاَّ بإذنه ورضاه عن الشافع والمشفع فيه، وإذن منه في الشفاعة، فكل وجيه، وشفيع من عبيده لا يشفع إلاَّ بإذنه؛ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فعلمه المحيط الواسع، واطلاعه على شؤون خلقه، وعلمه بماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم -لا يحتاج معه إلى الوسطاء والشفعاء في أمر خلقه، إلاَّ في حالة هو يرضاها، فيأذن فيها إكرامًا للشافع، ورحمة للمشفوع له. {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} أما خلقه العلوي والسفلي فلا يحيطون بقليل، أو بكثير من علم الله تعالى، معلوماته، إلاَّ أن تقتضي حكمته تعالى إطلاعهم على شيء مما ينفعهم من معاشهم ومعادهم، من الأمور الشرعية والأمور القدرية، وهي نسبة ضئيلة قليلة في جانب علم الله الواسع، وإحاطته الشاملة؛ ولذا قالت الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وتقول الرسل يوم القيامة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة]. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مما يدل على ملكه الواسع، وجلاله العظيم، وسلطانه القويم، وإحاطته الكاملة، وقدرته التامة، وإرادته

النافذة، وأنَّه الحافظ للسموات ومن فيها، والأرض ومن فيها، بالأسباب القوية، والنظام المحكم، والترتيب العجيب. {وَهُوَ الْعَلِيُّ} بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، والعلي بقهره لمخلوقاته، فقد عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلَّت له الصعاب، ودانت له الموجودات، سبحانه ما أعظم شأنه. {الْعَظِيمُ (255)} الجامع لصفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، فهو المحبوب المعظم، الكريم الممجد. فآية اشتملت على هذه المعاني الجليلة، والصفات الإلهية الحميدة، والمعارف الربانية العظيمة -لهي أعظم آية في كتاب الله، فالكلام يشرف، ويعظم بشرف وعظم معانيها، ومعارف الله تعالى، وصفاته العلى، وأسماؤه الحسنى هي أشرف العلوم، وأجل المعارف. وإنَّ العارفين بالله تعالى أصحاب القلوب الواعية، ليدركون من هذه الآية العظيمة، وأمثالها من كتاب الله تعالى -مما يتعرض لبيان أسماء الله وصفاته- ما لا يدركه غيرهم. 3 - أما سورة الإخلاص: فقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة صحيحة، لا يسع المقام إلاَّ لنقل بعضها، ففي صحيح البخاري (5015) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلة؟ فقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن". وفي صحيح مسلم (811) من حديث أبي الدرداء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من أجزاء القرآن". 4 - قال شيخ الإسلام: وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة، مع الاشتراك في

كون الجميع كلام الله تعالى، فقد قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فأخبر أنَّه يأتي بخير منها، أو مثلها، فدلَّ ذلك على أنَّ الآيات تتماثل تارة، وتتفاضل تارة أخرى. وأيضًا: التوراة والإنجيل والقرآن، جميعها كلام الله، مع علم المسلمين، بأنَّ القرآن أفضل الكتب الثلاثة، فالقول بأنَّ كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، والمثبت لتفاضل كلام الله معتصم بالكتاب والسنة والآثار، ومعه من المعقولات الصريحة التي تبين ما ذهب إليه، وإثبات تفضيل بعض الكلام على بعض، ليس فيه ما يوهم أنَّ المفضول معيب، أو ناقص. فإذا علم ما دلَّ عليه الشرع، مع قول السلف من أنَّ بعض القرآن أفضل من بعض، بقي الكلام في كون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، ما وجه ذلك؟. الجواب: قيل في ذلك وجوه: أحسنها -والله أعلم-: ما قاله ابن سُريج وهو: أنَّ القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثُلُثُ أحكام، وثلثٌ وعدٌ ووعيد، وثلثُ الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات. 5 - أما الإشارة إلى معاني هذه السورة الجليلة، فهي: {قُلْ} انطق جازمًا، معتقدًا عارفًا بما تقول: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فهو صاحب الأحدية، والفردية المطلقة، وهو صاحب الصفات الكاملة، والأسماء الحسنة، والأفعال الحكيمة. {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} الذي تقصده جميع المخلوقات لقضاء حوائجها وأمورها، فلا معطي ولا مانع إلاَّ هو.

{لَمْ يَلِدْ} لكمال غناه عن الولد، والمعين. {وَلَمْ يُولَدْ (3)} لأزليته المطلقة، فهو الأول فليس قبله شيء. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فليس له شبيه، ولا نظير، ولا مثيل، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذه الآية مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. 6 - وفي الحديث استحباب قراءة تلك الآية العظيمة، وهذه السورة الشريفة بعد كل صلاة مفروضة؛ ليكتمل بهما ذكره لربه، ويرفع بهما ما نقص من صلاته، وليجدد إيمانه كل يوم خمس مرات، بتلاوة أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى. 7 - فيه إثبات الجزاء الأخروي، وأنَّ أوله نعيم القبر، أو عذابه، وأنَّ نعيم القبر جزء من نعيم الجنة، كما أنَّ عذاب القبر جزء من عذاب النار؛ لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر]. وفيه انَّ الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة، كما قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]، ولا يعارض ذلك ما جاء في البخاري (5673) ومسلم (2816) أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يُدخل أحدكم الجنة عملُه، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل" وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في النونية بقوله: وتأمَّل الباء التي قد عينت ... سبب الفلاح لحكمة الفرقان وأظن باء النفي قد غرتك في ... ذاك الحديث أتى به الشيخان لن يدخل الجنات أصلاً كادح ... بالسعي منه ولو على الأجفان والله ما بين النصوص تعارضٌ ... والكل مصدرها عن الرحمن لكن "بـ" الإثبات للتسبيب ... و"الباء" التي للنفي بالأثمان

والفرق بينهما ففرقٌ ظاهرٌ ... يدريه ذو حظ من العرفان والفرق بين الباءين معناه: أنَّ الجنَّة إنَّما تنال وتدخل برحمة الله تعالى، والباء في النصوص سبب. ونفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال بقوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" [رواه البخاري (5349) ومسلم (2816)]: على أن الباء ثمنية، فلا تنافي بين الأمرين. ***

262 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أصلين عظيمين: الأصل الأول: دلالة الحديث على أنَّ أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة وأقواله فيها بيان لما أجمل من الأمر بها في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الشريفة. الأصل الثاني: وجوب اقتداء الناس به -صلى الله عليه وسلم-، فيما يفعله من الصلاة، فكل ما حافظ عليه من أفعالها، وأقوالها، وجب على الأمة فعله، أو قوله، إلاَّ لدليل يخص شيئًا من ذلك. هذا الأصل الثاني مستقيم، لو لم يعارضه حديث المسيء في صلاته، الذي قال العلماء فيه: إنَّ ما لم يذكر فيه من أحكام الصلاة فهو غير واجب، إلاَّ بدليل خاص، فحينئذ يقال في حديث مالك بن الحويرث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ما كان الأمر فيه للوجوب يجب، وما كان الأمر فيه للاستحباب يُستحب، وهو يدل على المشروعية المطلقة للرسول -صلى الله عليه وسلم-. 3 - أنَّ صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الصلاة التامة والكاملة، التي من احتذاها، فقد أكمل صلاته، وأتم عبادة ربه، وما دام المسلم مأمورًا بالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، فإنَّه لا يمكن ذلك إلاَّ بتعلمها، فيجب أن يتعلم كيف كانت صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 4 - وجوب الاهتمام والعناية بالصلاة، وإجادتها وإتقانها؛ ذلك أنَّه -صلى الله عليه وسلم- هو ¬

_ (¬1) البخاري (631).

القدوة والأسوة في الأفعال كلها، ولم تخص قدوته في الصلاة هنا، إلاَّ لما لها من الأهمية. 5 - متعلم الصلاة من غيره بالاقتداء لا يضره، ولا يُخِلّ بصلاته أن يلاحظ صلاة من يتعلم منه الصلاة، ويراقبه في ذلك. 6 - أنَّ المصلي إذا أراد أن يُعلِّم بصلاته غيره، فإنَّ هذه النيَّة لا تُنقِصُ من صلاته، ولا تُخِلُّ بها. 7 - أنَّ ثناء الإنسان على عمله، وتزكيته إياه إذا كان لمصلحة، ولي يقصد الرياء، فإنَّه جائز، كما قال يوسف -عليه السلام-: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف]. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله، لرحلتُ إليه. ***

263 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَالَ لِي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَقَاعِدًا، فَإِن لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلَى جَنْب". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جَنْب: الجنب مصدر، ويطلق على عدة معانٍ متعددة، ومنها: شق الإنسان، الذي هو ما تحت إبطه إلى كشحه، وجمعه: جنوب وأجناب، وهو المراد هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على مراتب صلاة المريض المكتوبة، فيجب عليه القيام إن قدر عليه؛ لأَنَّه ركن من أركان الصلاة المكتوبة، ولو معتمدًا، أو مستندًا إلى شيء من عصا، أو جدار، أو نحو ذلك. فإن لم يستطع القيام، أو شقَّ عليه، فتلزمه قاعدًا، ولو مستندًا، أو متكئًا، ويركع ويسجد مع القدرة عليه، فإن لم يستطع القعود، أو شقَّ عليه فيصلي على جنبه، والجنب الأيمن أفضل، فإن صلى مستلقيًا إلى القبلة صحَّ، فإن لم يستطع أومأ إيماء برأسه، ويكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه للركوع، للتمييز بين الركنين، ولأنَّ السجود أخفض من الركوع. 2 - لا ينتقل من حال إلى حال أقل منها إلاَّ عند العجز، أو عند المشقة عن الحالة الأولى، أو في القيام بها؛ لأنَّ الانتقال من حال إلى حال مقيد بعدم الاستطاعة. 3 - حد المشقة التي تبيح الصلاة المفروضة جالسًا، هي المشقة التي يذهب معها ¬

_ (¬1) البخاري (1117).

الخشوع؛ ذلك أنَّ الخشوع هو أكبر مقاصد الصلاة، كما أشار إلى ذلك إمام الحرمين الجويني. 4 - الأعذار التي تبيح الصلاة المكتوبة قاعدًا كثيرة، فليس خاصًّا بالمرض فقط، فقِصر السقف الذي لا يستطيع الخروج منه، والصلاة في السفينة، أو الباخرة، أو السيارة، أو الطيارة عند الحاجة إلى ذلك، وعدم القدرة على القيام، كلها أعذار تبيح ذلك. 5 - مذهب جمهور العلماء أنَّ الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتًا، فالمريض إذا لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بعينيه، فيخفض قليلاً للركوع، ويخفض أكثر منه للسجود، فإن قدر على القراءة بلسانه قرأ، وإلاَّ قرأ بقلبه، فإن لم يستطع الإيماء بعينه صلَّى بقلبه. وأما الشيخ تقي الدين فقال: متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما صلاة المريض بطرفه، أو بقلبه فلم تثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ الصلاة على جنبيه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة. قال محرره: إنَّ مذهب الجمهور بعدم سقوطها مع الوعي وثبات العقل أحوط، والأصل في الصلاة الوجوب على المسلم، فإنَّه مطالب بها بأصل الشرع، فسقوطها عنه هو الذي يحتاج إلى الدليل، والله أعلم. 6 - مقتضى إطلاق الحديث أنَّه يصلي قاعدًا، على أيَّةِ هيئة شاء، وهو إجماع، والخلاف في الأفضل، فعند الجمهور أنَّه يصلي متربعًا في موضع القيام، وبعد الرفع من الركوع، ويصلي مفترشًا في موضع الرفع من السجود؛ لما روى النسائي (1661)، والحاكم (1/ 389) عن عائشة -رضي الله عنها-

قالت: "رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي متربعًا". 7 - فيه الدلالة على أنَّ أوامر الله تعالى يؤتى بها حسب الاستطاعة والقدرة، فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر، فأْتوا منه ما استطعتم". [رواه البخاري (7288)]. 8 - فيه سماحة ويُسر هذه التشريعة المحمدية، وأنَّها كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] , {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء]، فرحمة الله تعالى بعباده واسعة. 9 - ما تقدم هو حكم الصلاة المكتوبة، أما النافلة فتصح قاعدًا، ولو من دون عذر، لكن بعذر أجرها تام، وبدون عذر على النصف من أجر صلاة القائم؛ لما جاء في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال: "من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلت نائمًا فله نصف أجر القاعد". قال في "فتح الباري": حكى ابن التين وغيره، عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وغيرهم؛ أنَّ هذا الحديث محمول على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري. ***

264 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمَرِيْضٍ صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ: صَلِّ علَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلاَّ فَأَوْمِ إِيْمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك اخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوفًا. أخرجه البيهقي من طريق الثوري، قال البزار: لا يعرف أحدٌ رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب أنَّه موقوف، ورفعه خطأ، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر فذكره، وفي إسناده ضعفٌ. وقد صحَّحه الحافظ عبد الواحد في "المختارة"، وقال في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح. قلتُ: والحديث له حكم الرفع؛ لأنَّه تشريع لا مجال للرأي فيه. * مفردات الحديث: - وسادة: بكسر الواو ثم سين مهملة مفتوحة، وقال بعضهم: إنَّ سينها مثلثة، وهي المخدة، وكل ما يوضع تحت الرأس، والجمع: وسد. - فرمى بها: قذف بها منكرًا على صاحبها. - فأومِ: فعل أمر أصله "ومأ" وماضيه "أومأ"، والمصدر "إيماء"، والمراد بالإيماء هنا: الخفض في حالي الركوع والسجود. ¬

_ (¬1) البيهقي (2/ 306)، العلل لابن أبي حاتم (1/ 113).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ للمريض -الذي لا يستطيع القيام- أن يصلي قاعدًا، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. 2 - يدل على أنَّه يوميء إيماء، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ ليميز بين الركنين في أفعاله، ولأنَّ السجود شرعًا أخفض من الركوع. 3 - يدل على أنَّه يكره للمصلي أن يرفع له شيء يسجد عليه، وأنَّ هذا من التكلف، الذي لم يأذن الله به، وإنما يصلي الإنسان حسب استطاعته، وإذا لم يستطع الوصول إلى الأرض أومأ في حالة الركوع، وفي حالة السجود، وقد اتَّقى الله ما استطاع. 4 - في الحديث مشروعية عيادة المريض، وإرشاد إلى ما يصلح دينه. 5 - وفيه كمال خُلقِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعيادته أصحابه، وتفقده أحوالهم، فيكون في هذا قدوة للزعماء والرؤساء، فهذا مما يحبب الناس فيهم، ويجعلهم قدوة في الخير، والتواضع، وحسن الخلق، يزيد الإنسان رفعة وعزَّا. 6 - فيه أنَّ الداعية الموفق لا يدع النصح والإرشاد في كل مكان يحل فيه، على أيَّةِ حال يكون فيها، لكن بحكمة، وحُسْن تصرف. ***

باب سجود السهو وسجود التلاوة والشكر

باب سجود السهو وسجود التلاوة والشكر مقدمة - سها عن الشيء سهوًا: ذهل عنه، وغَفل قلبه عنه إلى غيره، فالسهو: ذهولٌ وغفلة عما كان في الذكر. قال القاضي عياض: السهو في الصلاة: النسيان فيها. يقال: سها عن الشيء سهوًا: ذهل عنه، وغَفَلَ قلبه عن ذكره. قال ابن الأثير: السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عن الشيء: تركه مع العلم به. وقال بعضهم: السهو، والنسيان، والغفلة ألفاظ مترادفة، ومعناها: ذهول القلب عن المعلوم في الحافظة. وقال الحافظ: فرَّق بعضهم بينها، وليس بشيء. وقال ابن القيم: كان سهو النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة من تمام نعمة الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو. قال محرره: ومن حكمة سهوه -صلى الله عليه وسلم- تحقق بشريته؛ لئلا يكون للغلاة مدخل في إعطائه شيئًا من صفات الإلهية، والربوبية باسم التعظيم، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني". [رواه البخاري (451) ومسلم (572)]، أما حكمة سجود السهو فهو إرغام

للشيطان، الذي هو سبب النسيان والسهو، وجبر للنقصان الذي طرأ في الصلاة، وإرضاء للرحمن بإتمام عبادته، وتدارك طاعته، والله أعلم. - سجود التلاوة: سجود التلاوة سنة مؤكدة ليس بواجب عند الجمهور، وهي واجبة عند الحنفية للأمر بها: {فَاسْجُدُوا}. ويسجد القارىء والمستمع، دون السامع الذي لا يقصد الاستماع، ويقول في سجود التلاوة ما يقول في سجود صلب الصلاة، وان زاد فيه فَحسَن. - سجود الشكر: وهو يُستحب عند تجدد النعم، واندفاع النقم؛ سواء أكانت عامة، أم خاصة بالساجد، ولا يسجد لدوام النعم؛ لأنَّ نعم الله لا تنقطع. وصفته وأحكامه كسجود التلاوة، وستأتي إن شاء الله. ***

265 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنُ بُحَيْنَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ سَجْدَتَينِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ". أَخْرَجَهُ السَّبعَةُ وَهَذا لَفْظُ البُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ منَ الجُلُوسِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الأوليين: تثنية "أُولى"، والأولى مؤنث "الأول"، وجمع أولي: أوليات. - ولم يجلس: أي: بين هاتين الركعتين الأوليين، وبين الركعتبين الأخريين، وذلك في صلاة الظهر، كما في مسند السراج. - قضى: يقضي قضاءً، فقضى صلاته، بمعنى: فرغ منها، وأوشك على السلام، والقضاء له عدة معانٍ، منها: الفراغ من الشيء، وهو المراد هنا. - وهو جالس: جملة اسمية وقعت حالاً من الضمير في "سجد". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دليل على أنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- سهى في صلاة الظهر، فقام عن التشهد الأول، ولم يجلس، فتبعه أصحابه على ذلك، ولعلهم هابوا التسبيح به، إذ ظنوا ¬

_ (¬1) البخاري (829)، مسلم (570)، أحمد (5/ 345)، أبو داود (1034)، الترمذي (391)، النسائي (1177)، ابن ماجه (1256).

أنَّ أمرًا قد طرأ في حكم الصلاة. 2 - ذَكر -صلى الله عليه وسلم- تركه لهذه الجلسة، والتشهد فيها وهو في الصلاة، فلما أنهى الدعاء الذي بعد التشهد الأخير، سجد قبل السلام سجدتين، هما سجدتا السهو. 3 - أنَّ سجدتي السهو كسجود صلب الصلاة، من حيث التكبير والهيئة وما يقال فيهما، فهما داخلتان في عموم الأمر بأذكار السجود، ولو كان لهما ذكر خاص لبيَّنه -صلى الله عليه وسلم-، فهذا وقت الحاجة إلى بيانه. 4 - أنَّ سجود السهو يكون قبل السلام، وسياتي له تمام بحث إن شاء الله تعالى. 5 - أنَّ سجود السهو هو مكان ما ذهل عنه، ونسيه في صلاته. 6 - لم يذكر في هذا الحديث أنَّه بعد سجدتي السهو تشهَّد أو دعا، بل يشعر قوله: "قبل أن يسلم" أنَّه سلم بعدها، بلا تشهد ولا فصل. 7 - فيه طروء السهو والنسيان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المحفوف بالعصمة، مما يدل على أنَّ الأمور البشرية الطبيعة لا تُخِلُّ بعصمته، ولا تقدح في رسالته، وإنَّما هو تشريع وتعليم وتوجيه لأمته، وأنه ما دام السهو يطرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّه لا يكون نقصًا في دين غيره، وتقصيرًا في عبادته. 8 - مشروعية سجود السهو لمن نسي التشهد الأول. 9 - أنَّ سجود السهو سجدتان. 10 - وجوب متابعة الإمام في ترك الجلوس للتشهد الأول، وإن لم يكن المأموم ناسيًا. 11 - أنَّ التَّشهد الأول ليس من أركان الصلاة؛ إذ لو كان منها لتعين الإتيان به. 12 - أنَّ التكبير في سجود السهو هو تكبير انتقال، حتى في الأولى منها. 13 - كونه -صلى الله عليه وسلم- سجد سجدتين فقط دليلٌ على أنه إذا سها سهوًا واحدًا، أو أكثر أنه تكفيه سجدتان فقط.

* فوائد: الأولى: اتَّفق العلماء على مشروعية سجود السهو، لكن عند الشافعي سنة وليس بواجب، وعند أبي حنيفة ومالك واجب في النقصان، وعند أحمد واجب في الزيادة، والنقصان، والشك. الثانية: قال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم في السهو هذه الأحاديث الخمسة: حديثا ابن مسعود، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وحديث عبد الله بن بحينة. الثالثة: أجمع العلماء على أنَّ الصلاة لا تبطل بعمل القلب ولو طال، نقل الإجماع النووي وغيره؛ وذلك لما في البخاري (6287)، ومسلم (127): "إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به نفسها، ما لم تعمل أو تتكلم". قال شيخ الإسلام: إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة لا يبطلها. الرابعة: قال شيخ الإسلام: أجمع العلماء على بطلان الصلاة بالقهقهة؛ لأنَّ فيها أصواتًا عالية تنافي حال الصلاة، وفيها أيضًا من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، لا لكونه كلامًا. وحكى ابن المنذر والوزير الإجماع على بطلان الصلاة بالضحك. ***

266 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِحْدَى صَلاَتَيِ العَشِيِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبهٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ علَيْهَا، وَفِي القَوْمِ أبُو بكرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَهَابَا أنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فقَالُوا: أقَصُرَتِ الصَّلاَةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَا اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ؟ فَقَالَ: لَمْ أنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ؟ قَالَ: بلَى، قَدْ نَسِيْتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأسَهُ فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَكبَّرَ". مُتَّفَقٌ عليهِ، وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ. وَفي رِوَايَةٍ لمُسْلِمٍ: "صَلاَةَ العَصْرِ". ولأبي داوُدَ، فقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟ فَأَوْمَؤُوا: أَيْ نَعَمْ". وَهِيَ فِي الصَّحِيْحَينِ، لكِنْ بِلَفْظِ: "فَقَالُوا". وفي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَلَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَقَّنَهُ الله تَعَالَى ذلِكَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - العَشِي: -بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد المثناة التحتية- قال الأزهري: هي ما بين زوال الشمس وغروبها، وقال الراغب: العشي من زوال الشمس إلى الصباح، والصلاة التي وقع فيها السهو، قيل: ¬

_ (¬1) البخاري (1229)، مسلم (573)، أبو داود (1008، 1012).

الظهر، وقيل: العصر، لكن جاء في الصحيحين أنَّها الظهر من غير شكٍّ. - هابا أن يكلماه: هابه يهابه من باب تعب يتعب، قال ابن فارس: الهيبة: الإجلال، فهابا أن يكلماه: أجلاَّه وأعظماه، قال الصنعاني: "ووجهه أنَّ هذا أمر مهم ليس من الأمور العادية". - سَرَعَان الناس: -بفتح السين المهملة وفتح الراء-: وهم أوائل الناس المسرعون إلى الخروج، ويلزم الإعراب نونه في كل وجه من ضبطه. - قصرت الصلاة: روي بضم القاف مبني للمجهول، وبفتحها وضم الصاد. - ذا اليدين: صاحب يدين فيهما طول، فلقب بذلك، واسمه: الخرباق بن عمرو، قيل: من بني سليم، وقيل: من خزاعة. - أنسيتَ أم قصرت الصلاة؟: الاستفهام هنا على بابه، ولم يخرج عن موضوعه؛ لأنَّ الزمان زمان نسخ. - لم أَنْسَ، ولم تقصر: أي في ظنه -صلى الله عليه وسلم-. - لم أَنْسَ، ولم تقصر: هذا مثل قوله: "كل ذلك لم يكن"، والمعنى: كلٌّ من القصر والنسيان لم يكن، على شمول النفي وعمومه؛ لوجهين: أحدهما: أنَّ السؤال عن أحد الأمرين بـ "أَمْ"؛ وذلك لطلب التعيين، بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم. الثاني: أنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الروايات: "كل ذلك لم يكن" أشمل من لو قيل: "لم يكن كل ذلك"؛ لأنَّه من باب تقوي الحكم، فيفيد التأكيد في المسند، والمسند إليه، بخلاف الثاني؛ إذ ليس فيه تأكيدٌ أصلاً، فإنَّه يصح أن يقال: لم يكن كل ذلك، بل كان بعضه، ولا يصح أن يقال: كل ذلك لم يكن، بل كان بعضه، ولذا قال المتكلم: "قد كان بعض ذلك"، ومعلوم أنَّ الثبوت للبعض إنَّما ينافي عن كل فردٍ، لا النفي عن المجموع. - بلى: حرف جواب، يختص وقوعه بعد النفي، فتجعله إثباتًا؛ فإنَّه لما قال:

"لم أنس ولم تقصر"، أجابه: بلى نسيت. - نعم: حرف جواب، يتبع ما قبله في إثباته ونفيه، فقوله: "أصدق ذو اليدين؟ "، أثبتوا صدقه بجوابهم بـ"نعم". - حتى يقَّنَهُ: بتشديد القاف؛ يعني: حتى علم عن سهوه علم اليقين، بالتحقيق وإخبار الثقات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز السهو على الأنبياء في أفعالهم البلاغية؛ لأنَّهم بشرٌ يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر، إلاَّ أنَّهم لا يقرون عليه، أما الأقوال البلاغية فالسهو ممتنع على الأنبياء بالإجماع. 2 - الحِكَمُ والأسرار التي تترتب على سهوه -صلى الله عليه وسلم-، بيان التشريع، والتخفيف عن الأمة، وما يعتريها مما يقع فيها من السهو. 3 - أنَّ الخروج من الصلاة قبل إتمامها -مع ظن أنَّها تمت- لا يبطلها، فيبني بعضها على بعض، إن قرب الزمن عرفًا، فإن طال الفصل عُرْفًا، أو أحدث، أو خرج من المسجد -فقال العلماء: يعيد الصلاة. 4 - أنَّ الكلام في صلب الصلاة من الناسي، والجاهل لا يبطلها، على الصحيح من قولي العلماء. 5 - أنَّ الحركة الكثيرة سهوًا لا تبطلها، ولو كانت من غير جنس الصلاة. 6 - وجوب سجدتي السهو لمن سها، وسلَّم عن نقص فيها؛ ليجبر خلل الصلاة، ويرغم به الشيطان. 7 - أنَّ سجود السهو يكون بعد السلام إذا سلم عن نقص، كهذا الحديث، ويكون قبل السلام فيما عدا هذه الصورة، وهذا التفصيل هو الذي يجمع الأدلة، وهو مذهب الحنابلة. أما الحنفية: فيرون أنه كله بعد السلام.

وأما الشافعية: فيرون أنه كله قبل السلام. 8 - أنَّ سهو الإمام لاحقٌ بالمأمومين؛ لتمام المتابعة والاقتداء، ولأنَّ ما طرأ من نقص على صلاة الإمام يلحق بالمأمومين معه. 9 - قال القاضي عياض: لا خلاف بين العلماء أنه لو سجد بعد السلام، أو قبله للزيادة، أو للنقص -أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل. 10 - قال شيخ الإسلام: التشهد بعد سجدتي السهو لم يرد فيه أي شيء من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أفعاله، وعمدة من يراه حديث غريب ليس له متابع، وهذا يوهي الحديث ويضعفه، والله أعلم. 11 - النفس الكبيرة تشعر بالنقص الذي يعتريها؛ لأنَّها ألفت الكمال، فلا تقف دونه. 12 - إجلال الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإعظامهم إياه، وهيبتهم منه، حيث لم يجرؤوا على مخاطبته. 13 - أنَّ سجود السهو كسجود صلب الصلاة في أحكامه؛ إذ لو اختلف عنه، لبيَّنه، والله أعلم. ***

267 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ". رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديثٌ شاذٌّ. رواه أبو داود -وسكت عنه- والترمذي وقال: حسن غريب صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحَّحه الحازمي في "الاعتبار". أما لفظ "ثُمَّ تشهد": فقال ابن سيرين: لم أسمع بالتشهد شيئًا، وضعَّفها البيهقي، وابن عبد البر، وقال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، وقال كثير من المحققين: إنَّه ليس فيه ذكر التشهد، وإنما انفرد به أشعث بن عبد الملك الحمراني، وقد خالف غيره من الحفاظ، فهو شاذٌّ. * مفردات الحديث: - فسها: يقال: سها عن الشيء يسهو سهوًا: غفل عنه، قال في "المصباح": وفرَّقوا بين الساهي والناسي؛ بأنَّ الناسي إذا ذكرته تذكر، والساهي بخلافه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث هو إحدى روايات الحديث السابق المسمى بـ"حديث ذي اليدين" وهذه الرواية ساقها أصحاب السنن، فإنَّ الراوي عن محمد بن سيرين قال له: أسلم في السَّهو؟ فقال: لم أحفظه من أبي هريرة، ولكن ¬

_ (¬1) أبو داود (1039)، الترمذي (395)، الحاكم (1/ 323).

ثبت أنَّ عمران بن حصين قال: ثم سلم. قال محرره: وهذا السجود وقع بعد السلام، كما هو صريح من أصله، وهو حديث ذي اليدين. 2 - الحديث صريح بأنَّه أتى بالتشهد بعد سجدتي السهو، وهو مذهب طائفة من أهل العلم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة والمالكية. ودليلهم هذا الحديث. قال في "شرح الزاد": وإن أتى بسجود السهو بعد السلام جلس بعده، وتشهد -وجوبًا- التشهد الأخير، ثم سلَّم؛ لأنَّه في حكم المستقل في نفسه. والقول الثاني: يسلم ولا يتشهد، اختاره الشيخ تقي الدين، ومال إليه الموفق والشارح؛ لأنَّ التشهد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة، بل إنَّها على خلافه. ***

268 - وَعَنْ أَبيْ سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، أثَلاَثًا أمْ أرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَح الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ، فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لهُ صَلاَتَهُ، وإنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا للشَّيطَانِ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشك: يقال: شك في الأمر يشك شكًّا: ارتاب، فالشك خلاف اليقين، جمعه: شكوك، قال في "التعريفات": هو التردد بين النقيضين، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكّ، وهو ما اختاره الأصوليون، وأما الفقهاء: فالشك عندهم: تردد الفعل بين الوقوع وعدمه، ولو ترجح أحدهما على الآخر. - فليطرح: فَلْيُلْقِ ما شك فيه، ويبعده عنه، وَلْيَبْنِ صلاته على ما تيقنه. - ترغيمًا للشيطان: بفتح التاء وسكون الراء؛ أي: إلصاقًا لأنفه في الرغام، وهو التراب، والمراد: إذلاله. - وَلْيَبْنِ على ما استيقن: يقال: بنى يبني بناءً، والجمع: أبنية، والبناء حقيقةٌ في الأجسام، تقول: بني الدار والجدار، ومجازٌ في المعاني، كمثل هذا الحديث: "ولْيَبْنِ على ما استيقن"، يعني: يعتمد ما تيقن أنَّه أتى به من الصلاة، بخلاف المشكوك فيه فلا يعتبره. ¬

_ (¬1) مسلم (571).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - أحد أسباب سجود السهو الشك في الصلاة، وهذا الحديث في حكم سجود السهو للشك فيها، هذا ما لم يكن الشك وسواسًا يلازم الإنسان، يعمل العمل، ويقول في نفسه: إنَّه لم يعمله، قال ابن قدامة: ما كان في الصحابة موسوس، ولو أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- الموسوسين لقتلهم. 2 - دلَّ الحديث على أنَّ الشاك في صلاته؛ إذا كان لا يدري هل ما صلاَّه -مثلاً- ركعتان، أو ثلاثٌ، أنه يطرح الشك ويبني على اليقين، وهو الأقل، وقبل السلام يسجد سجدتي السهو. قال النووي: من شكَّ ولم يترجح له أحد الطرفين، بنا على الأقل بالإجماع، بخلاف من غلب على ظنه أنَّه صلَّى أربعًا مثلاً. قال الشيخ: المشهور عن أحمد: يبني على غلبة ظنه، وعلى هذا غالب أمور الشرع. 3 - الحديث صريح في صحة الصلاة، وأنَّه لم يطرأ عليها ما يبطلها، هذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأحمد، والشافعي. وقال في "الشرح": ذهب جماعة من التابعين إلى وجوب الإعادة عليه، ولكن حديث الباب مع الأوَّلين، الذين يرون صحتها مع إصلاحها. قال القرافي في "الذخيرة": التقرب إلى الله تعالى بالصلاة المرقعة المجبورة -إذا عرض فيها الشك- أولى من الإعراض عن ترقيعها، والشروع في غيرها، والاقتصار عليها بعد الترقيع أولى من إعادتها، فإنَّه منهاجه -صلى الله عليه وسلم-. 4 - الشك -هنا- عند الفقهاء هو ما دون اليقين، فيشمل الظن الذي هو تجويز أمرين: أحدهما أضعف من الآخر، ويشمل الشك الذي هو مستوي الطرفين، فهذا كله شك عند الفقهاء، يجب فيه البناء على اليقين؛ لأنَّ الذمة مشغولة باداء الواجب، فلا تبرأ إلاَّ بيقين.

فهنا في باب السهو يجب على المصلي أن يبني على اليقين عنده، ويطرح ما شكَّ فيه، ويسجد سجدتي السهو ترغيمًا للشيطان، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: البناء على غلبة الظن، قال الشيخ تقي الدين في "الاختيارات": من شكَّ في الركعات، بنى على غالب ظنه، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود، وعلى هذا عامة أمور الشرع، ويقال مثله في الطواف، والسعي، ورمي الجمار، وغير ذلك. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وأصح الأقوال في شك المصلي في عدد الركعات أنَّه يبني على اليقين، وهو الأقل إن كان الشك مساويًا، أو الأقل أرجح، وأنه يبني على غلبة الظن إذا كان له ظن راجح. وعلى هذا تتنزل الأحاديث الصحيحة، فحديث أبي سعيد يدل على رجوعه إلى الأقل مع الشك، وحديث ابن مسعود يدل على رجوعه إلى ظنه، وهو الصريح في ذلك؛ لقوله: "فليتحرَّ الصواب". ***

269 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيْلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبلَ القِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَال: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَهِ شَيْءٌ أَنْبَأُتُكُمْ بِهِ، وَلكِنْ إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيْتُ فَذَكِّرُونِي، وَإذَا شَكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَتَحرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثَمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ". مُتَّفقٌ عَليه. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَلْيُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ". ولِمُسْلِمٍ: "أَنَّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ وَالكَلاَمِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيءٌ؟: الهمزة فيه للاستفهام، و"حَدَثَ" بفتح الدال، ومعناه: السؤال عن حدوث شيء من الوحي، يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة. - وما ذاك؟: سؤال من لم يشعر بما وقع منه، ولا يقين عنده، ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم. - أنبأتكم: يقال: أنبأ ينبيء إنباء، بمعنى: أخبر، فالنبأ: الخبر، وجمع النبأ: أنباء. ¬

_ (¬1) البخاري (401)، مسلم (572).

قال في "الكليات": "النبأ والإنباء لم يرد في القرآن إلاَّ لما له وقع وشأن عظيم" - أنا بشر: تطرأ عليَّ، وتلحقني الحالة البشرية. - بشر: بفتحتين، يطلق على عدة معانٍ، والمراد هنا: الإنسان: ذكرًا كان، أو أنثى، مفردًا أو جمعًا. - أنسى: النسيان في اللغة: خلاف الذكر والحفظ، وفي الاصطلاح: النسيان غفلة القلب عن الشيء، فهو جهل طارىء يزول به العلم عن الشيء، مع ذكره لغيره، ليخرج النوم ونحوه. ويأتي النسيان بمعنى الترك؛ كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة، الآية: 67]. - إذا شكَّ أحدكم: الشك في اللغة: خلاف اليقين، وفي الاصطلاح: الشك ما يستوي فيه طرفا العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين؛ بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما، وترجح على الآخر، فهو الظن. - فليتحرَّ الصواب: التحري: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. - فَلْيُتِمّ عليه: أي: فَلْيُتِمّ بانيًا عليه، ولولا تضمين "الإتمام" معنى "البناء"، لما جاز استعماله مع كلمة الاستعلاء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلى إحدى الصلوات الرباعية خمسًا، ولم ينبهه الصحابة؛ لظنهم أنَّ تغييرًا طرأ على الصلاة بالزيادة، فلما سلَّم سألوه: أحَدَثَ في الصلاة شيء؟ فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ خمسًا، "فثنى رجليه، واستقبلَ القِبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم". 2 - في الحديث دلالة على سجود السهو للزيادة سهوًا في الصلاة، وأنَّها لا تعاد، بل يسجد سجود السهو، ويجبر بهما خلل صلاته.

3 - فيه دليل على أنَّ سجدتي السهو يُؤتى بهما من جلوس، فلا يشرع أن يقوم حينما يريد أن يسجدهما. 4 - فيه دليلٌ على أنَّ المتابعة خطأَ لا تبطل الصلاة، ولكن إذا علم بخطأ إمامه فلا يتابعه إلاَّ في التشهد الأول، فإنه يقوم معه حينما لم يعلم الإمام بالخطأ إلاَّ بعد أن استتمَّ قائمًا. 5 - فيه دليل على أنَّ سجدتي السهو، كسجود صلب الصلاة في الأحكام. 6 - فيه دليل على أنَّ الانصراف عن القِبلة سهوًا، أو خطأ -لا يبطل الصلاة. 7 - فيه دليل على أنَّ الكلام مع ظن إتمام الصلاة لا يبطلها، ولو طال. 8 - فيه دليل على أنَّ محل سجود السهو يكون بعد السلام في مثل هذه الصورة. 9 - حديث أبي سعيد فيه: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلْيطرح الشكَّ، وليبنِ على ما استيقن"، وحديث ابن مسعود: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه". أحسن جمع بينهما: أنَّ الحديث الأول: هو في الشاك الذي لم يغلب على ظنه أحد الطرفين، والحديث الثاني: فيمن ترجح عنده أحد الطرفين، فهو يبني على ما وقع عليه تحريه، وقد تقدم تحقيق العمل بغلبة الظن. 10 - قوله: "فإذا نسيتُ فذكروني" -دليل على أنَّه يجب على المأمومين أن ينبهوا الإمام إذا سها في الصلاة. قال في "الروض المربع وحاشيته": ويلزم المأمومين تنبيه الإمام على ما يوجب سجود السَّهو؛ لارتباط صلاتهم بصلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بتذكيره. 11 - أما الإمام فإذا سبح به ثقتان، فإنه يلزم الرجوع إليهما؛ سواء نبَّهاه عن زيادة أو نقصان؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبِلَ قولَ أبي بكرٍ وعمر في قصة ذي

اليدين، وأمر بتذكيره، وهذا ما لم يتيقن صواب نفسه، فإن تيقن صواب نفسه، فلا يجوز له الرجوع إليهما؛ لأنَّ قول الثقتين يفيد الظن، واليقين مقدم عليه، والدليل على لك قصة ذي اليدين، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما كان جازمًا بصواب نفسه، لم يرجع إلى كلام ذي اليدين، فلما طرأ عليه الشك، وتحقق عنده النسيان من إخبار أبي بكر وعمر، رجع إلى قولهما؛ فالحديث دليل لحال جزمه بصواب نفسه، ورجوعه إلى التيقن مع عدم الجزم بصوابه. 12 - تقدم لنا أنَّ المذهب عند أحمد: أنَّ ما لم يصل إلى درجة اليقين فإنه يعتبر شكًّا، يجب طرده والبناء على اليقين، والقول الآخر: أنَّ الواجب هو العمل بغلبة الظن، فإذا ترجح للإنسان شيء، وَجبَ أن يصير إليه؛ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ويقول: إنَّ جميع أمور الشرع مبناها على غلبة الظن لا على اليقين. وهذه القاعدة في كثير من أبواب العلم. ومن أدلتها: قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: "وإذا شكَّ أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، وليتم عليه". * خلاف العلماء: اختلف الأئمة في محل سجود السهو: فذهب الحنفية: إلى أنَّ محله بعد السلام؛ لرواية البخاري في هذا الحديث: "فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد"، ولما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن المغيرة أنَّه أتمَّ الصلاة وسلم، وسجد سجدتي السهو، وقال: "هكذا رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع". وذهب الشافعية: إلى أنَّ محله قبل السلام، ودليلهم: ما رواه مسلم (571) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يسجد سجدتين قبل أن

يسلم"، وما جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن بحينة: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كبَّر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم". وذهب المالكية: إلى اختيار السجود قبل السلام إن كان سببه النقصان، أو النقصان مع الزيادة معًا، وإلى اختياره بعد السلام إن كان سببه الزيادة فقط. ودليلهم على السجود قبل السلام في حال النقصان: حديث أبي هريرة في البخاري (1232)، ومسلم (389)؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أحدكم إذا قام يصلي، فجاءه الشيطان فلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلَّى -فليسجد سجدتين وهو جالس". وأما دليل الزيادة تكون قبل السلام: فحديث عبدالله بن بحينة الذي معنا. وأما مذهب الحنابلة: فلا خلاف عندهم في جواز السجود قبل السلام أو بعده، وإنما التفصيل عندهم في الأفضل، فإن كان السجود بسبب السلام قبل إتمام الصلاة، بان سلم عن نقص ركعة فأكثر -فأفضلية هذا السجود أن يكون بعد السلام؛ لأنَّه من تمام الصلاة، ولحديث أبي سعيد في مسلم، ولما في الصحيحين من حديث عبدالله بن بحينة، وما عداه فأفضليته قبل السلام، والله أعلم. قال في "فتح العلام" لصديق حسن: ولما وردت أحاديث محل سجود السهو وتعارضت، اختلفت آراء العلماء في الأخذ بها: فقال داود: في مواضعها على ما جاءت به، ولا يقاس عليها، ومثله قال أحمد. وقال آخرون: هو مخير في كل سهو، إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبله في الزيادة والنقص. وقال في "سبل السلام": وطريق الإنصاف أنَّ الأحاديث الواردة في ذلك قولاً وفعلاً فيها نوع من تعارض، فالأولى الحمل على التوسيع في جواز الأمرين.

وقال القاضي عياض: لا خلاف بين العلماء أنَّه لو سجد بعد السلام، أو قبله للزيادة أو للنقص أنَّه يجزئه، ولا تَفْسُدُ صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل. قال محرره: وهذا قول سديد يجوز العمل بجميع هذه السنن الصحيحة، والله أعلم. ***

270 - وَلأِحْمَدَ وَأَبِي دَاودَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعدَمَا يُسَلِّمُ." وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، قال الحافظ في "الفتح": في إسناده ضعف؛ لأنَّه من رواية مصعب بن شيبة، وفيه مقال. قال أحمد: يروي المناكير، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، ولا بالحافظ. فقال المنذري: وأما الذين قبلوا الحديث في "تهذيب سنن أبي داود": مصعب بن شيبة احتج به مسلم في صحيحه، وقال يحيى بن سعيد: ثقة. ولذا صحَّحه الشيخ أحمد شاكر في "شرح المسند". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الشك في الصلاة بالزيادة فيها، أو النقص منها من أسباب سجود السهو. 2 - فمن شكَّ في صلاته، فلا يدري أصلى -مثلاً- ثلاثًا أو اثنتين؟ أو شكَّ هل أتى بالركن، أو لم يأت به؟ فليطرح الشك وليبن على اليقين، وليأت بما شكَّ فيه، وليسجد سجدتي السهو بعد السلام. 3 - تقدم أنَّ غلبة الظن أرفع من الشك، وأنَّه إذا كان عنده غلبة ظن فليعمل به، وليكن عنده بمنزلة اليقين، وهذا القول هو الراجح، وإلاَّ فالمذهب أنَّ غلبة ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 205)، أبو داود (1033)، النسائي (1248)، ابن خزبمة (2/ 159).

الظن من جملة الشكوك التي تطرح، ويبني معها على اليقين. 4 - تقدم كلام الموفق بن قدامة: أنَّ الشكوك إذا كثرت لا تعتبر، ولا يلتفت إليها، وأنَّ طريق الخلاص منها قوَّة الإرادة والعزيمة. ***

271 - وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا شَكَّ أحَدُكمْ، فَقَامَ فِي الرَّكعَتَينِ، فَاسْتَتمَّ قَائِمًا، فَلْيَمْضِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَلاَ سَهْوَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ ضَعِيْفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، وله ثلاث طرق: الأولى: رواها الترمذي من طريق المسعودي، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة. قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. الثانية: رواها الترمذي من طرق محمد بن أبي ليلى، عن الشعبي، عن المغيرة. قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى. الثالثة: أخرجها أبو داود وابن ماجه والدارقطني من طريق جابر الجعفي، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة. وجابر الجعفي ضعيف جدًّا؛ قال الترمذي: تركه يحيى بن سعد، وعبد الرحمن بن مهدي. لكن تابعه قيس بن الربيع وإبراهيم بن طهمان، عن ابن شبيل، وإسناده صحيح. قال الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث بهذه الطرق والمتابعات ¬

_ (¬1) أبو داود (1036)، ابن ماجه (1208)، الدارقطني (1/ 378).

صحيح، لاسيَّما وبعض طرقه صحيحة عند الطحاوي. * مفردات الحديث: - استتم: يقال: استتم يستتم؛ أي: تمَّ قيامه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم القول أنَّ الأرجح هو أنَّ القعود للتشهد الأول، والتشهد فيه واجبان من واجبات الصلاة، وأنَّ من تركهما عمدًا بطلت صلاته، ومن تركهمما سهوًا جبره بسجود السهو. 2 - الحديث الذي معنا يدل على أنَّ من سها عن القعود للتشهد الأول، فقام فإن استتم قائمًا قبل أن يذكرهره، فإنه لا يعود، لكنَّه يسجد سجدتين قبل السلام. 3 - وأما إن ذكره قبل أن ينتصب قائمًا، فإنه يجب عليه الرجوع، والجلوس، والإتيان به. 4 - ظاهر الحديث: أنَّه لا سجود عليه إذا رجع؛ لأنه استدرك الواجب، فأتى به، وأخذ بهذا جماعة من أهل العلم، فلم يوجبوا عليه سجود السهو. ودليلهم أيضًا: الحديث الصحيح: "لا سهو في وثبة من الصلاة، إلاَّ قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام" [رواه الدارقطني (1/ 377) والحاكم (1/ 471) وضعفه الحافظ في "التلخيص" (2/ 3)]. وذهب الحنفية إلى: أنَّه لو استتم قائمًا، فإن عاد، وهو إلى القيام أقرب، سجد للسهو، وان كان إلى القعود أقرب لا سجود عليه في الأصح. وذهب الحنابلة إلى: أنَّه يجب عليه سجود السهو لحركته هذه؛ وذلك لما روي البيهقي (2/ 343) وغيره عن أنس؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر، فسبحوا به، فقعد ثم سجد للسهو". قال الحافظ: رجاله ثقات، ولحديث الباب؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يسشتم قائمًا فليجلس، ويسجد سجدتي السهو".

272 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الإِمَامُ، فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ". رَوَاهُ البَزَّارُ وَالبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. وقال البيهقي: ضعيف، قال الشوكاني: فيه خارجة بن مصعب، وهو ضعيف، وأبو الحسين المديني، وهو مجهول. تنبيه: وقع في المطبوع من "بلوغ المرام" وشرحه "سبل السلام" عزو الحديث للترمذي وهو خطأ، وإنما عزاه إلى البزار كما في النسخة المقابلة على أصل المؤلف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الإمام يتحمل عن المأموم السهو، فإذا سها المأموم دون إمامه، فليس على المأموم سجود السهو، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا، وأصول الشريعة تؤيد هذا الحكم؛ ذلك أنَّ المأموم يتابع إمامه، حتى إنَّ المتابعة تقدم على الإتيان بالتشهد الأول، وجلسته إذا تركهما الإمام. 2 - يدل على أنَّ سهو الإمام يوجب السجود على المأموم، ولو لم يَسْه المأموم، أو كان سهو الإمام فيما لم يدركه المأموم، فيسجدة لعموم قوله: "فإذا سجد، فاسجدوا"، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ ذلك أنَّ الائتمام يوجب على المأموم متابعة الإمام والاقتداء به، ولأنَّ النقص الذي طرأ على صلاة ¬

_ (¬1) البيهقي (2/ 352)، الدارقطني (1/ 377).

الإمام يلحق صلاة المأموم. 3 - ظاهر الحديث أنَّ الإمام يتحمل سهو المأموم مطلقًا؛ سواء دخل المأموم معه من أول الصلاة، أو فاته شيء منها. والمشهور في مذهب الإمام أحمد: أنَّ المأموم إذا لم يدرك الصلاة كلها مع الإمام، فإنَّ إمامه لا يتحمل عنه سجود سهوه مع إمامه، أو سهوه فيما انفرد به من بقية الصلاة؛ لأنَّه يعتبر منفردًا في صلاته عن الإمام فيما يقضيه، ولأنَّ سجود السهو قبل السلام، وهو في ذلك الوقت يصلي منفردًا. 4 - هذه الصورة من فوائد إدراك الجماعة مع الإمام، ومن تلك الفوائد أنَّ صلاة بعضهم تحمل صلاة البعض الآخر، بالدعاء وشمول المغفرة، والقبول، وغير ذلك. 5 - وفيه بيان أهمية مقام الإمام ومرتبته، وأنَّها لا تجوز مخالفته والاختلاف عليه، ولذا فإنَّ كثيرًا من الأعمال الواجبة يتركها المأموم؛ مراعاة لإمامه والاقتداء، فلينتبه الذين أولعوا بمسابقة الإمام، وعدم التقيد بمتابعته؛ فإنَّهم لا وحدهم صلوا، ولا بإمامهم اقتدوا، والله الهادي إلى سواء السبيل. 6 - في هذا تنبيه من الإمامة الصغرى على الإمامة الكبرى، وهي الولاية العامة من تحريم الاختلاف على ولاة الأمور وعصيانهم وشقاقهم، والخروج عليهم، ومخالفة أوامرهم بالمعروف، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59] وقد جاء في البخاري (7053) ومسلم (1849) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كرِهَ من أميرهِ شيئًا، فليصبر؛ فإنَّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا، فمات عليه، إلاَّ ماتَ ميتة جاهلية". والأحاديث في الباب كثيرة. ***

273 - وَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ سهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدمَا يُسَلِّمُ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ، ومنهم من ضعَّفه؛ لأنَّ في إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقالٌ، قال البيهقي: إسماعيل ابن عياش ليس بالقوي، وقال العراقي: مضطرب، وقال الحافظ: في إسناده اختلاف، قال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده الشاميين فصحيح، فتضعيف الحديث به فيه نظر؛ لأنَّه رواه عن شامي، وهو عبدالله الكلاعي، لكن فيه زهير ابن سالم العنسي، وهو لين الحديث، ولذا تجد أنَّ المنذري سكت عنه، كأنه لا يرى ضعفه، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يحتمل معنيين: الأول: أنَّ كلَّ سهو يقع في الصلاة، فله سجدتا سهو، ويتعدد سجود السهو بتعدد السهو الواقع في الصلاة، هذا هو أظهر المعنيين من الحديث، وهذا خلاف ما ذهب إليه جمهور العلماء من إجزاء سجدتي سهو، ولو تعدد السهو. الثاني: أنَّ المراد بذلك: عموم أنواعه الوارد منها وغير الوارد، وأنَّ السهو اسم جنس، فأي سهو يقع في الصلاة بزيادة فعل من جنسها، أو نقص مما يجب فيها، أو شك في الجملة؛ سواء ورد بمثله حديث أو لم يرد -فإنَّه ¬

_ (¬1) أبو داود (1308)، ابن ماجه (1219).

يوجب سجود السهو، وهذا المعنى -ولو مع عدم ظهوره- فهو أولى الاحتمالين لموافقته النصو السابقة، ولأنَّه مذهب جمهور العلماء. 2 - الحديث من أدلة من يرى أنَّ سجود السهو بعد السلام؛ وهم الحنفية. ***

274 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". رواهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث في سجود التلاوة، وقد أجمع العلماء على أنَّه مشروع. قال النووي: أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة، فقد شرعه الله تعالى ورسوله، عبودية وقُربة إليه، وخضوعًا لعظمته، وتذلُّلاً بين يديه عند تلاوة آيات السجود واستماعها. 2 - جمهور العلماء يرون أنَّه سنة، ويرى أبو حنيفة وجوبه دون فرضيته، واستدلوا على وجوبه بقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق] فذمَّهم على ترك السجود، وإنما استحق الذم بترك الواجب، كما استدلوا بمطلق أمر: {فاسجدوا}. 3 - قال ابن القيم: سجدات القرآن إخبار من الله تعالى عن سجود مخلوقاته، فسُنَّ للتالي، والمستمع أن يتشبه بها عند تلاوة آية السجدة أو سماعها، وبعض السجدات أوامر، فيسجد عند تلاوتها بطريق الأولى. 4 - سجود التلاوة بحق القارىء، والمستمع -وهو قاصد الاستماع- لاشتراكهما في الثواب، دون السامع الذي لم يقصد الاستماع، فلا يشرع بحقه، وعند الحنفية تجب على كل سامع. 5 - قال شيخ الإسلام: ومذهب طائفة من العلماء أنَّه لا يشرع فيه تكبيرة ¬

_ (¬1) مسلم (578).

الإحرام، ولا التحليل، هذا هو السنة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليها عامة السلف، فلا يشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة. قال في "سبل السلام": الأصل أنَّه لا تشترط الطهارة إلاَّ بدليل، وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة، والسجدة لا تسمى صلاة، فالدليل مطلوب ممن اشترط ذلك. 6 - الحديث دلَّ على سجدتي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و {اقْرَأْ} في سجدات التلاوة، وهذا يُرَدُّ به على الشافعية، الذين لا يرون سجدات المفصَّل. قال الطحاوي: تواترت الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالسجود بالمفصَّل، وأحاديث أبي هريرة مقدمة على خبر ابن عباس. 7 - أرجح الأقوال في سجود التلاوة أنَّه سنَّة، وليس بواجب؛ لأنَّ عمر سجد مرَّة، وتركه أخرى، ونبَّه الناس على عدم وجوبه. 8 - يقال في سجود التلاوة ما يقال في سجود الصلاة: "سبحان ربي الأعلى"؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوها في سجودكم"، ولا بأس من زيادة بعض الأدعية، لاسيما المأثورة. 9 - أنَّه يكبر إذا سجد وإذا رفع، إذا كان السجود في الصلاة؛ لحديث: "يكبر كلما خفض، وكلما رفع"، أما ترك التكبير فلم يُبْنَ على أصلٍ صحيح، هذا إذا كان السجود في الصلاة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في عدد سجدات القرآن: فقال الحنفية: هي أربعة عشر محلاًّ، فتُعتبر سجدة (ص)، ولا يرون في سورة الحج إلاَّ سجدة واحدة. وذهب الشافعية إلى: أنها أحد عشر موضعًا، فهم لا يعتبرون سجدات المفصل.

وذهب الحنابلة إلى: أنَّها أربع عشرة سجدة، ولا يعتبرون سجدة (ص) من عزائم السجود. قال الحافظ: المجمع عليه عشرة مواضع، وهي متوالية، إلاَّ الثانية في الحج، وسجدة (ص). واختلف العلماء في أحكام سجود التلاوة، من حيث التكبير والسلام، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكبر للسجود، ويكبر عند الرفع منه، ويسلم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ولكن لا دليل عليه، والعبادات توقيفية، لا تثبت إلاَّ بدليل. الثاني: أنَّه لا يكبر في السجود، ولا في الرفع منه، ولا يسلم منها؛ لأنَّه لم يرد في ذلك شيء، وأما حديث ابن عمر: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة، كبَّر وسجد وسجدنا معه" [رواه أبو داود (1413)]-فضعَّفه أصحاب هذا القول. الثالث: أنَّه يكبر إذا سجد، ولا يكبر إذا قام، ولا يسلم؛ لأنَّ تكبير السجود ورد فيه هذا الحديث، وأما تكبير الرفع والتسليم، فإنَّه لم يرد فيه شيء فيما نعلم، وهذا القول الوسط هو أعدل الأقوال، وقد اختاره ابن القيم في "زاد المعاد". ***

275 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: " {ص} لَيْسَتْ مِن عَزَائِم السُّجُودِ، وَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ فِيهَا". رواه البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ص: قال المفسرون: اختلف أهل التأويل في الحروف المُقَطَّعة التي في أوائل السور: فقال بعضهم: هي سر الله في القرآن، فالله أعلم بمراده منها. وقال بعضهم: إنَّها أسماء للسور. وقال بعضهم: إنَّ الله تحدى بها العرب؛ كأنَّه يقول: إنَّ القرآن مؤلف من هذه الأحرف التي تعرفونها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة]. وفي قراءة (ص)، وإعرابها، والنطق بها -أقوال كثيرة، والمشهور في قراءتها على السكون. - ليست من عزام السجود: العزائم جمع "عزيمة"، وهي التي أُكِّد على فعلها، فسجدة (ص) ليست مما ورد في السجود فيها أمر موجب، وإنما ورد بصيغة الإخبار بأنَّ داود -عليه السلام- فعلها شكرًا لله تعالى، فسجدها نبينا -صلى الله عليه وسلم- اقتداءً به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ أي: ليست مما ورد أمر في السجود فيها، أو حث عليها كغيرها من سجدات القرآن، ¬

_ (¬1) البخاري (1069).

وإنما وردت بصفة الإخبار عن داود -عليه السلام- بأنَّه سجدها شكرًا لله، وسجدها نبينا -صلى الله عليه وسلم- اقتداءً به، وعند النسائي (957) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا"، فينبغي أن نقتصر في سجودها على خارج الصلاة، وسجدة الشكر محلها خارج الصلاة. 2 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ السجود لأجل سجدة (ص) يبطل الصلاة، وقيل: لا تبطل بها الصلاة؛ لأنَّها تتعلق بالتلاوة، فهي كسائر سجدات التلاوة. قال الشيخ عبدالرحمن السعدي: الصحيح أنَّ سجدة (ص) لا تبطل الصلاة؛ لأنَّ سببها القراءة المتعلقة بالصلاة. وعدم السجود بها في الصلاة هو الراجح من مذهب الإمام الشافعي، قال في "فتح الباري": استدل الشافعي بقوله "شكرًا" على أنه لا يسجد فيها في الصلاة؛ لأنَّ سجود الشكر لا يشرع في داخل الصلاة. وقد صح الحديث بسجود النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها خارج الصلاة. 4 - قال مجاهد: سألتُ ابن عباس عن سجدة (ص)، فقال: أُمِرَ نبيكم أن يقتدي بالأنبياء في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] قال الرازي: أوجب أن تجتمع به جميع خصائص الأنبياء، وأخلاقهم المتفرقة. 5 - قال الشيخ عبد الله بن محمد السوداني في تفسيره: "كفاية أهل الإيمان": اعلم: أنَّ الله لم يحك لنا ما فعل داود مفصلاً، بل ستره عليه، فيجب على كل مسلم ألا يخوض فيه، إلاَّ على أحسن المخارج. ***

276 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- "أنَّ النِّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَ بِالنَّجْمِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه مشروعية سجود التلاوة للقارىء. 2 - وفيه دليل على اعتبار سجدات المفصل من سجدات التلاوة، خلافًا للشافعي في عدم اعتبار سجدات المفصل من سجود التلاوة، فقد روى البخاري: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ {والنجم} فسجد، وسجد معه المسلمون والمشركون". قال الطحاوي: تواترت الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالسجود في المفصل، وتقدم. 3 - سبب سجود المشركين معه في مكة -عند سماع سورة {النجم} - ما سمعوه في آخر السورة من إهلاك الأمم المكذبين لرسلهم، قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم] فهذه القوارع هي التي أخافتهم، فسجدوا. ولهم مواقف مثلها عند سماع القرآن؛ فإنَّ عتبة بن ربيعة لما سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- {حم} فصلت، وواصل -صلى الله عليه وسلم- تلاوته عليه إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت] أمسك بفم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وعاد إلى قريش بغير الوجه الذي ذهب به منهم، ونصحهم، ولكن لم يقبلوا النصيحة. وحكيم بن حزام لما سمع قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور] أرجف منها، وهو في حال كفره. ¬

_ (¬1) البخاري (1071).

فهذا هو ما دعا المشركين إلى السجود في هذه السورة، لا ما تفوه به الزنادقة، والمخدوعون من قصة الغرانيق الباطلة، فهي واهية المعنى، ساقطة الدلالة، بعيدة عن مقام النبوة، ولكن أعداء الإسلام يولعون بمثل هذه الافتراءات، ويجدون من يتابعهم: إما من تلاميذهم في الكفر، وإما من السذج، وإلاَّ فإنَّه قد وصف رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أول السورة بأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}، ثم جاء باداة الاستفهام الإنكاري من هذه الأصنام، وتسميتهم لها، وعبادتهم إياها، وقد أبطلها، وردّ هذه الرواية أئمة الإسلام، ولكن المقام لا يتسع لنقل كلامهم، فلا تغتر بمحاولة بعض العلماء لتصحيح أسانيد روايتها، فإنَّ كل ما خالف القرآن، أو صادم الدين -مرفوض. ***

277 - وعَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَرَأْتُ علَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- {النَّجْمَ}، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا". مُتَّفقٌ عَلَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دليل على أنَّ القارىء إذا لم يسجد، فإنه لا يسجد المستمع. 2 - فيه دليل أنَّ سجود التلاوة مندوب، وليس بواجب؛ إذ لو كان واجبًا، لأنكر على زيد عدم سجوده. ويحتمل أنه ترك السجود لعذر، ولكن تقدم أنَّ مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: أنَّه سنة. وأبو حنيفة يرى: أنَّه واجب، وليس بفرض، والواجب عندهم أقل من الفرض، فإنَّه ما ثبت بدليل ظني، أما الفرض فما ثبت بدليل قطعي. 3 - الحديث لا يصلح دليلاً للشافعية في قولهم: إنَّه منذ هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لم يسجد في شيء من المفصل؛ فإنَّ حديث أبي هريرة؛ أنه سجد في {الانشقاق} و {العلق} يرد هذا، فإنَّ أبا هريرة الذي لم يسلم إلاَّ بعد الهجرة بست سنين، حيث أسلم بعد غزوة خيبر -يقول: "سجدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بـ {الانشقاق} و {العلق} ". فترك السجود في هذا لا يصلح دليلاً على نسخه، فيحتمل أنَّه تركه لبيان الحكم من حيث عدم الوجوب، أو أنَّ القارىء لم يسجد، فلا يسجد المستمع، أو من باب تركه -عليه السلام- العمل وهو يُحِبُّ أن يفعله، خشية فرضه، فالمحامل كثيرة. ¬

_ (¬1) البخاري (1073)، مسلم (577).

278 - وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "فُضِّلَتْ سُورَةُ الحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ فِي "المَرَاسِيلِ" (¬1). وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْصُولاً مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَزَادَ: "فَمَنْ لَمْ يَسْجدْهُمَا، فَلاَ يقْرَأْهَا". وسَنَدُهُ ضَعيفٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسلٌ، وله شواهد يشد بعضها بعضًا، كما قال ابن كثير. وأما حديث عقبة: فقال ابن كثير: رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة، قال الترمذي: وليس بالقوي. قال في "التلخيص": وأكده الحاكم بأنَّ الرواية صحت فيه من قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وعمار. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على ميزة سورة الحج على غيرها من سورة القران؛ بأنَّ فيها سجدتين، ولكنه لا يدل على تفضيلها على غيرها من السور مطلقًا، وإنَّما يفضل الشيء على الشيء بحسب ما قيِّد به. 2 - يدل على أنَّ سجدة الحج الأخيرة من سجدات القرآن المعتبرة، ففيه رد على أبي حنيفة وأتباعه، من عدم اعتبارها من سجدات القرآن. 3 - يدل على وجوب السجود في هذه السورة به. بسجدتيها؛ فإنَّ النَّهي عن قراءتها إلاَّ لمن أراد أن يسجد فيهما -دليل على وجوبه؛ لأنَّ النَّهي لا يكون إلاَّ لترك ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل ص (113). (¬2) أحمد (4/ 151)، الترمذي (578).

الواجب، ولكن يحمل على تأكيد السجود فيها، من غير وجوب، كما هو مذهب الجمهور، وهو عدم وجوب سجود التلاوة، وقد وردت نصوص كثيرة بترك السجود، منها الأثر الآتي عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه قال: "إنَّ الله تعالى لم يفرض علينا السجود، إلاَّ أن نشاء". [رواه البخاري]. 4 - أن وجه النهي عن قراءتها لمن لم يسجدهما، هو أنَّ السجدة شرعت في حق التالي بتلاوته، والإتيان بالسجدة من حق التلاوة، وهي لا تخلو إما أن تكون واجبة فيأثم بتركها، أو سنة فيستضر بالتهاون بها. ***

279 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "يَا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَد فَقَدْ أصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَفِيهِ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى لَم يَفْرِضِ السُّجُودَ، إلاَّ أنْ نَشَاءَ". وَهِوَ فِي "المُوَطَّأِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الأثر من أمير المؤمنين قاله في خطبة الجمعة، أمام الصحابة كلهم، فلم ينكر عليه أحد منهم؛ فدلَّ على عدم المعارضة، فحينئذٍ يكون قول الصحابي حجة، لاسيما الخليفة الراشد، الذي هو أولى باتباع السنة، وبحضور جميع الصحابة، فيكون إجماعًا، كما أنَّه جاء في بعض ألفاظ الأثر: "يا أيُّها الناس، إنا لم نؤمر بالسجود" وهذا حديث له حكم الرفع، والمؤلف ما ساقه هنا إلاَّ للاستدلال به، على أنَّه ليس بواجب، وإنما هو مستحب. 2 - إذا كان هذا الأثر ينفي وجوب سجود التلاوة، فإنَّه يدل على استحبابه، وأنه ليس مندوبًا إليه. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: ولم يأت بإيجابه قرآنٌ، ولا سنةٌ، ولا إجماعٌ، ولا قياسٌ. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1077)، الموطأ (482).

280 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرأُ عَلَيْنَا القُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بالسَّجْدَةِ كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ فِيهِ لِيْنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث فيه ضعفٌ، لكن أصله في الصحيحين. قال في "التلخيص": رواه أبو داود، وفيه عبدالله العمري، المكبر، وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم (1/ 421) من رواية عبيد الله العمري، المصغر، وهو ثقة، وقال: إنَّه على شرط الشيخين. قلتُ: وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية سجود التلاوة. 2 - يدل على أنَّ المستمع يسجد إذا سجد القارىء. 3 - يدل على أنَّ القارىء إمام للمستمعين في تلك السجدة. 4 - يدل على أنَّ القارىء إذا لم يسجد، فإنَّ المستمع لا يسجد. 5 - يدل على أنَّه يكبر إذا سجد، والظاهر أنَّه يكتفي بتكبيرة واحدة، تجزىء عن تكبيرة الانتقال، ويكون الأصل فيها للإحرام، ولم يذكر في الحديث تكبيرة للرفع من السجود، مما يدل على أنه لم يشرع. 6 - أما شيخ الإسلام فيقول: ولا يشرع في سجود التلاوة تحريم، ولا تحليل، وهذا هو السنة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليها عامة السلف، وعلى هذا ¬

_ (¬1) أبو داود (1413).

فليس هو صلاة، فلا يشترط له شروط الصلاة، بل يجوز على غير طهارة، وإلى غير القبلة كسائر الذكر، وكان ابن عمر يسجد على غير طهارة، واختارها البخاري، للكن السجود بشروط الصلاة أفضل. وقال ابن القيم: لم يذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يكبر للرفع من هذا السجود. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: سجود التلاوة إذا فعل خارج الصلاة، فالصحيح أنَّه لا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا يشترط فيه الطهارة، ولا استقبال القبلة، ولكنه بشروط الصلاة أكمل، وإن كان في نفس الصلاة، فحكمه حكم سجود الصلاة؛ وهو اختيار الشيخ تقي الدين. 7 - أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فقال عنه في "شرح الزاد": وإذا أراد السجود فإئَه يكبر تكبيرتين: تكبيرة إذا سجد، وتكبيرة إذا رفع؛ سواء كان في الصلاة أو خارجها، ويجلس إن لم يكن في صلاة، ولا يتشهد، ويسلم وجوبًا، وتجزىء تسليمةٌ واحدة، ويرفع يديه ندبًا إذا سجد، ولو في الصلاة، وسجود من قيام أفضل، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، كما يقول في صلب الصلاة، كان زاد غيره مما ورد فحسن. 8 - قال الشيخ تقي الدين: وأحاديث الوضوء مختصة بالصلاة، لكن السجود بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلاَّ لعذر، فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به. ***

281 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ إِذَا جَاءَهُ أمرٌ يَسُرُّهُ، خَرَّ سَاجِدًا للهِ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائيَّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وقال الترمذي: حسن غريب. وفي إسناده: بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة الثقفي، وهو ضعيف عند العقيلي وغيره، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به، وهو من الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وذكره العقيلي في "الضعفاء". وللحديث شواهد من حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود، وفي الباب عن جابر وابن عمر وأنس، وقد سجد أبو بكر لما قُتل مسيلمة، وسجد كعب بن مالك لما بُشِّرَ بالتوبة، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث يدل على سجدة يقال لها: "سجدة الشكر"، وهي مستحبة عند تجدد نعمة، أو اندفاع نقمة؛ سواء أكانت النقمة، أو النعمة خاصة بالساجد، أم عامة للمسلمين. 2 - حكمها حكم سجود التلاوة، فمن اعتبر الأولى صلاة اعتبر هذه صلاة، لها أحكام الصلاة من اشتراط الطهارة، والاستقبال، والتكبير، والتسليم، وغير ذلك من أحكام الصلاة، ومن لم ير سجود التلاوة صلاة -كابن تيمية ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 45)، أبو داود (2774)، الترمذي (1578)، ابن ماجه (1394).

وغيره- اعتبر هذه مثلها. ولذلك قال الشيخ في "الاختيارات": وسجود الشكر لا يفتقر إلى طهارة؛ كسجود التلاوة. 3 - ذهب إلى استحباب سجود الشكر الشافعية والحنابلة: قال ابن القيم: لو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم، لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة. أما الحنفية والمالكية: فلم يستحب عندهم سجود الشكر. 4 - يختلف سجود الشكر عن سجود التلاوة؛ بأنَّ سجود التلاوة يجوز في الصلاة، حينما يمر القارىء في صلاته بقراءة آية سجدة، أما سجود الشكر فتبطل به الصلاة عند الحنابلة. قال في: "شرح الزاد": يستحب في غير صلاة سجود الشكر، عند تجدد النعم، واندفاع النقم، وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ، والله أعلم. ***

282 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَجَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتانِي فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدْتُّ للهِ شُكْرًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال في "التلخيص": رواه أحمد والبزار والعقيلي والحاكم، كلهم من طريق محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الرحمن بن عوف، وهو لم يسمع منه، ورواه الإمام أحمد من طريق عبد الواحد بن محمَّد بن عبد الرحمن بن عوف، ولم يوثق عبد الواحد إلاَّ ابن حبان، وسيأتي في الحديث الآتي ما يؤيده. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة. 2 - استحباب إطالة السجود، شكرًا لله تعالى، واعترافًا بنعمه، وثناءً عليه، وسؤاله المزيد من فضله وجوده. 3 - البشارة التي جاء بها جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، هو أنَّه أخبره أنَّ من صلَّى عليه -صلى الله عليه وسلم- صلاة واحدةً، فإنَّ الله تعالى يصلي عليه بها عشر مرات، واستبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الفضل لأمرين: الأول: أنَّ الله تعالى أعلى درجته، ورفع ذكره، وكثَّر أجره بكون المسلمين يصلون عليه -صلى الله عليه وسلم-، ويدعون له. الثاني: هذا الثواب العظيم لأمته حينما يصلون على نبيهم؛ فإنَّ الله ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 191)، الحاكم (1/ 550).

تعالى من فضله وكرمه يصلي عشر مرات، على من صلَّى صلاة واحدة على نبيه -صلى الله عليه وسلم-. 4 - الفضل العظيم، والشرف الكبير لنبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- عند ربه، وعِظم هذه المنزلة عنده. 5 - فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستحباب الإكثار منها؛ ليحصل للعبد هذا الأجر، وليقوم بشيء من حق نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. 6 - الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- المشروعة هي الصيغة المعروفة بالأحاديث الصحيحة، والتي تؤدى كما كانت تؤدى زمن الصحابة وصدر الإسلام، أما صيغ الصلوات المبتدعة، والاجتماعات التي ما كانت معروفة، ولا أصل لها في الشريعة، فهذه لا تعتبر صلاة شرعية، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ" وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ". ***

283 - وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَلِيًّا إلىَ اليَمَنِ -فَذَكَرَ الحَدِيثَ- قال: فَكَتَبَ عَلِيٌّ بِإسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الكِتَابَ، خَرَّ سَاجِدًا". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث أصله في البخاري، وهو مؤيد للحديث الذي قبله، وسجود الشُّكر في تمام الحديث صحيح على شرط البخاري، وأيَّد ذلك ابن عبد الهادي في "المحرر". * مفردات الحديث: - خَرَّ: يَخِرّ خَرًّا وَخُرُورًا، من باب ضرب، والمراد هنا: انْكَبَّ؛ على الأرض ساجدًا لله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المسلمين، هو عزّ الإسلام، وإعلاء كلمة الله، ونصر دينه؛ فإنَّ حياة المسلمين الحقيقة، وسعادتهم الأبدية هي في عز دينهم ونصرته، فإسلامُ طوائفَ كبيرةٍ، ودخولهم في الإسلام، عزٌّ للمسلمين، وتكثير لسوادهم. 2 - حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية الخلق، وإنقاذهم من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فهو يبعث البعوث إليهم؛ ليدعوهم إلى دين الله تعالى، ويفرح الفرح العظيم بهدايتهم؛ لأنَّ في هذا أمورًا كثيرة: ¬

_ (¬1) البيهقي (2/ 369).

أولاً: إنقاذ هذا الجمع البشري من النار، والتسبب في دخولهم الجنة. الثاني: له الأجر الكبير في هدايتهم، ودلالتهم على الخير، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ منْ حُمُرِ النَّعَم". أرواه البخاري (2942)]. الثالث: إنَّ في هذا نجاحًا لدعوته، وامتثالاً لأمر ربه، وأداءً لرسالته. 3 - في الحديث دليل على أنَّ سجود الشكر يكون من قيام، أفضل من كونه من قعودٍ؛ لقوله: "وخرَّ ساجدً"؛ فإنَّ الخرور لا يكون إلاَّ من قيام، ويحتمل أنَّ البشارة جاءته وهو قائم، فحينئذٍ لا يكون في الحديث دليل على استحباب سجود الشكر من قيام. 4 - مشروعية هذا السجود عند وجود نعم الله تعالى وفضله، وكمال نعمته وتجددها، والله أعلم. ***

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع مقدمة التطوع: تفعل، من: طاع يطوع، إذا انقاد. والتطوع لغة: فعل الطاعة. وشرعًا واصطلاحًا: طاعة غير واجبة، من صلاة، وصدقة، وصوم، وحج، وجهاد، والمراد هنا بصلاة التطوع: الصلوات التي ليست واجبة. قال شيخ الإسلام: التطوع تكمل به الفرائض يوم القيامة، إن لم يكن المصلي أتمها. وقال الإمام الغزالي في "الإحياء": أمرُ الله فرائض، ونوافل؛ فالفرائض رأس المال، وهو أصل التجارة، وبه تحصل النجاة، والنوافل هي الربح، وبها الفوز في الدرجات. وفي هذا الباب يبحث الفقهاء في الأعمال الصالحة أيها أفضل. قال في "شرح الإقناع": أفضل التطوع الجهاد في سبيل الله، فقد قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئًا بعد الفرائض أفضل من الجهاد. ومن الجهاد النفقة، والإعانة عليه. ثم يلي الجهاد العلم، تعلُّمه وتعليمه من تفسير، وحديث، وتوحيد.، وفقه، ونحوها.

قال أبو الدرداء: العالم والمتعلم سواء في الأجر. ونقل مُهَنَّا عن الإمام أحمد: طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته، بأن ينوي به نفي الجهل عن نفسه، وإفادة غيره. ونقل منصور عن الإمام أحمد: أن تذاكر بعض ليلة أفضل من إحيائها. والمراد بالعلم: الذي ينتفع به الناس في أمور دينهم. وقال الإمامان: أبو حنيفة ومالك: أفضل ما تُطُوِّعَ به العلم: تعلمه، وتعليمه. وقال الشيخ تقي الدين: تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد، والعلم خير ما أنفقت فيه الأنفاس، وبذلت فيه المُهج. وقال الإمام النووي: اتَّفق السلف على أنَّ الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة، والصيام، والتسبيح، ونحو ذلك، فهو نور القلب، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، فهو أفضل الأعمال، وأقربها إلى الله، وأفضل العلوم أصول الدين، ثم التفسير، ثم الحديث، ثم أصول الفقه ثم الفقه. وقال الغزالي: أيها المقبل على اقتباس العلم، إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة، والمباهاة، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا، فصفقتك خاسرة، وإن كانت نيتك وقصدك من طلب العلم الهداية، دون مجرد الرواية -فأبشر؛ فإنَّ الملائكة تبسط لك أجنحتها -إذا مشيتَ- رضًا بما تطلب. ***

284 - وَعَنْ رَبِيْعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَالَ لِي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: سَلْ، فَقُلْتُ: أسْألكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ، فَقَالَ: أوَغَيْرَ ذلِكَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي علَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سَلْ: من السؤال، بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين، لم يحتج لهمزة الوصل. - أوَغَير ذلك: الواو بالسكون والفتح، وهمزة الاستفهام تستدعي فعلاً، فيكون المعنى على الأول: سل غير ذلك، لكنه أجاب: هو ذاك، أي: مسؤولي ذاك، لا أريد غيره، وعلى الثاني فالتقدير: أتسأل هذا وهو شاق، وتترك ما هو أهون منه، فأجاب: مسؤولي ذلك، لا أتجاوز عنه. - ذلك: هذه الإشارة للبعيد؛ لينتهي السائل عن سؤاله امتحانًا منه -صلى الله عليه وسلم-. - ذاك: هذه الإشارة جاء بها السائل؛ ليفيد أنَّ ما مسالة غير مستبعد. - أعنِّي على نفسك: أعني على بلوغ مرادك. - السجود: يراد به: الصلاة، فعبر عن كلها ببعضها؛ لكون هذا البعض هو أهم أفعالها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ربيعة بن كعب الأسلمي أحد المتشرفين بخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يبيت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه بوضوئه، فاراد -صلى الله عليه وسلم- أن يكافئه على عمله وخدمته، فقال له: ¬

_ (¬1) مسلم (489).

سل واطلب مني حاجة أقضيها لك، وإذا بنفسى الرجل كبيرة عالية، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك، من حاجة أخرى غير هذه؟ فقال: هو ذاك، يعني: ليس لي حاجة إلاَّ هذه الحاجة، فأجابه -صلى الله عليه وسلم- إلى ما طلب، ولكنه قال: أعنِّي على نفسك؛ أي: ساعدني على قضاء هذه الحاجة الكبيرة، ونيل هذا المرام العظيم بكثرة الصلاة، فإنَّها سبب لعلو الدرجات في الجنة، فإنَّ الله تعالى لما ذكر المحافظين على الصلاة، قال: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون]. 2 - المراد من السجود: هو الصلاة؛ فإنَّ الشيء يسمى ببعضه، لاسيما إذا كان بعض الشيء أهم ما فيه، فالسجود أهم ما في الصلاة؛ لما فيه من كمال الخضوع، والاستكانة لله تعالى، والقُرب منه. 3 - المراد بالصلاة هنا: نوافلها؛ لأنَّها التي يمكن تكثيرها، فدلَّ على أنَّ نوافل الصلوات من أعظم الطاعات، وأنها سبب قوي لنيل أعلى درجات الجنان. 4 - التطوع في الصلاة على أربعة أقسام: (أ) تطوع مطلق لا يتقيد بسبب، ولا بوقت، ولا بفرض. (ب) تطوع مقيد بالوقت؛ كالوتر، وصلاة الضحى. (ج) تطوع مقيد بفرض؛ كرواتب الصلوات الخمس. (د) تطوع مقيد بسبب؛ كتحية المسجد، وركعتي الوضوء. 5 - فيه دليل على سمو نفس ربيعة -رضي الله عنه- وإلى شرف مطلبه، وعلو همته على الدنيا وشهواتها؛ فإنَّ نفسه توَّاقة إلى أعلى المراتب. 6 - فيه دليل على هذا الخُلقُ العظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ خدمته شرف، وإنها لأجر عظيم يعود على الخادم بالخير والبركة، ومع هذا فإنه أحب أن يكافىء من يخدمه، ولم يقل: إنَّ حقًّا عليكم أن تخدموني. 7 - فيه بيان أنَّ السجود في الصلاة هو أفضل أفعالها، وهو موطن خلاف بين

العلماء، فهل القيام أفضل أو السجود؟ فالمذهب عندنا، كما قال في "شرح الزاد": "وكثرة ركوع وسجود أفضل من طول قيام"، فيما لم يرد تطويله، واستدلوا بحديث الباب. وقال الشيخ تقي الدين: التحقيق أنَّ ذكر القيام -وهو القراءة- أفضل من ذكر الركوع والسجود، وأما نفس الركوع والسجود فأفضل من نفس القيام، فاعتدلا، ولهذا كانت صلاته -صلى الله عليه وسلم- معتدلة. ***

285 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، ورَكعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكعَتَيْن بَعْدَ المَغْرِبِ فِي بيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ فِي بيْتِهِ، ورَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "وَرَكعَتَيْنِ بعدَ الجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ" (¬1). ولِمسْلِمٍ: "كانَ إذَا طَلَعَ الفَجْرُ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ" (¬2). 286 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يَدَعُ أرْبَعًا قَبْل الظُّهْرِ، ورَكعَتَيْنِ قَبل الغَدَاةِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث (286): - يدَع: يقال: ودعته أدعه ودعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثم حذفت الواو، ثم فتح لمكان حرف الحلق، ويندر استعمال ماضيه، ومصدره، واسم فاعله، حتى قال بعضهم: إن العرب أماتت ذلك، إلاَّ أنَّه وجد في بعض الجمل. ... ¬

_ (¬1) البخاري (937، 1180)، مسلم (729). (¬2) مسلم (723). (¬3) البخاري (1182).

287 - وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوافِلِ أشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَى الفَجْرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "رَكعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تعاهدًا: يقال: تعاهد تعاهدًا، وحقيقة التعهد: تجديد العهد به، والمراد هنا: المحافظة عليها. - النوافل: جمع "نافلة"، قال في "النهاية": سميت النوافل في العبادات؛ لأنَّها زائدة على الفرائض. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1169)، مسلم (724). (¬2) مسلم (725).

288 - وَعَنْ أُمِّ حَبِيْبَةَ أُمِّ المُومِنِيْنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بنُيَ لَهُ بِهِنَّ بيْتٌ فِي الجَنَّةِ". رَوَاهُ مُسْلمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: "تَطَوُّعًا". وللتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ: وَزَادَ: "أرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَركعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَينِ بَعْدَ العِشَاءِ، ورَكعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ (¬1) ". ولِلْخَمْسَةِ عَنْهَا: "مَنْ حَافَظَ عَلَى أرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبعٍ بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّار" (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، أصله في مسلم، وأما زيادة الخمسة فهي صحيحة أيضًا، ورجالها رجال الصحيحين، وأما زيادة الترمذي التفسيرية: فقد جاءت عن أم حبيبة بنحو ما رواه مسلم عنه، وقال الترمذي عنها: إنه حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم (1/ 456). * ما يؤخذ من الأحاديث السابقة: (285، 286، 287، 288): 1 - في مجموع هذه الأحاديث الأربعة حكم السنن المعروفة برواتب الصلوات الخمس، عدا صلاة العصر، تلك الرواتب التي كان -صلى الله عليه وسلم- يواظب عليها، ¬

_ (¬1) مسلم (728)، الترمذي (415). (¬2) أحمد (6/ 326)، أبو داود (1269)، الترمذي (427)، النسائي (1816)، ابن ماجه (1160).

ويحض على فعلها. 2 - من مجموع الأحاديث والأخذ بجميع الروايات، يتحصل لنا من الرواتب ست عشرة ركعة، أربع منها قبل الظهر، وأربع بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الصبح، وركعتان بعد الجمعة. 3 - في الأحاديث تأكيد المحافظة على هذه الرواتب، وعدم الإخلال بها، وإن من فضلها وفوائدها وأحكامها ما يأتي: (أ) الأفضل أن تكون رواتب المغرب، والعشاء، والصبح، والجمعة، في البيت، ففي صحيح مسلم (730) عن عائشة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي قبل الظهر أربعًا في البيت، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلن البيت ليصلي ركعتين"، ففيه أنَّ الصلاةَ الراتبة في البيتِ أفضل منها في المسجد، مع شرف مسجده -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها لمزيد الإخلاص. (ب) إنَّ ركعتي الفجر خفيفتان، حتى إنَّ عائشة تقول: "أقرأ -صلى الله عليه وسلم- بأم القرآن أم لا؟ ". (ج) إنَّ ركعتي الفجر هي أفضل الرواتب، فإنَّهما خير من الدنيا وما فيها، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يدعهما حضرًا، ولا سفرًا. (د) أما نوافل الصلوات عدا الرواتب، فكان يصليها في السفر، فكان يصلي الوتر، ويقوم الليل، ويصلي الضحى، ويصلي صلاة الاستخارة، ويصلي النفل المطلق حتى على الراحلة، وإنما الذي لم ينقل عنه صلاتها فيه الرواتب التابعة للصلاة المقصورة المخففة، التي يقول عنها عبد الله بن عمر: "لو كنتُ مسبِّحًا، لأتممت". 4 - قوله: "أربعًا قبل الظهر" هذا لا ينافي حديث ابن عمر، الذي فيه: "ركعتين قبل الظهر"، ووجه الجمع بينهما أنه تارةً يصلي ركعتين، وتارةً أربعًا، فأخبر كل منهما عن أحد الأمرين، وهذا موجود في كثير من نوافل العبادات

وأذكارها. وكان -والله أعلم- يأتي بالعبادة كاملة في حال الفراغ والرغبة والإقبال، ويقللها في أحوال العذر، فضلاً من الله تعالى على العباد أن يأتوا بالعبادة على السنة، والوجه المشروع في كلا الحالين. 5 - قال الإمام ابن القيم: إنَّ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنَّه صلَّى سنة الصلاة قبلها، ولا بعدها إلاَّ ما كان من الوتر، وسنة الفجر، فإنَّه لم يكن ليدعهما حضرًا ولا سفرًا. أما إذا كان التنفل نفلاً مطلقًا، فقد سئل الإمام أحمد، فقال: أرجو ألا يكون بالتطوع بأس. 6 - فضل الأربع قبل الظهر والأربع بعدها، فمن حافظ عليها، حرَّمه الله تعالى على النار. 7 - أنَّ من حافظ على هذه الرواتب عمومًا، بنى الله له قصرًا في الجنة. 8 - أنَّ صلاة العصر ليس لها راتبة لا قبلها، ولا بعدها، وسيأتي أنَّه نُدب لصلاة أربع قبلها. 9 - استحباب هذه الرواتب المذكورة، وتأكد المحافظة عليها. 10 - بعض هذه الرواتب تكون قبل الفريضة؛ لتهيئة نفعس المصلي للعبادة قبل الدخول في الفريضة، وبعض الرواتب بعدها. ولعل من حكمة الله تعالى: كون راتبتي الصبح والظهر قبلها؛ لبُعد العهد، فالصلاة قبل وقتهما؛ لتهيئة النفس، وتكييفها للصلاة المفروضة، التي هي أجل شعيرة، بخلاف المغرب والعشاء، فالمصلي حديث عهد بالصلاة. 11 - للرواتب فوائد عظيمة، وعوائد جسيمة، من زيادة الحسنات، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وترقيع خلل الفرائض، وجَبْر نقصها؛ لذا

ينبغي العناية بها، والمحافظة عليها. 12 - فيه دليل على أنَّ هذه الرواتب ليست واجبة، وإنما هي مستحبة؛ ذلك أنَّه ذكر ثواب المحافظة عليها، ولم يذكر عقاب تاركها. ***

289 - وَعَنِ ابْنِ عُمرَ -رَضِي اللهُ عَنْهُمَا- قالَ: قَالَ -رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللهُ امْرَءًا صَلَّى ارْبَعًا قَبْلَ العَصْرِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَهَ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، وقد حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وَابن حبان، وأعلَّه ابن القطان، ولكنه حسن بالشواهد الآتية: 1 - حديث عليٍّ: أخرجه أحمد، وأبو داود، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان. 2 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط". 3 - حديث أبي هريرة: عند أبي نعيم. 4 - حديث أم سلمة: عند الطبراني في "الكبير". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه الركعات الأربع -قبل العصر- ليست من الرواتب، وإنما هي من السنن النوافل، التي ليس لها مرتبة الرواتب في الفضل والمحافظة. 2 - قال ابن القيم: وأما الأربع قبل العصر، فلم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- في نقلها شيء من الأحاديث، على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في النَّهار ست عشرة ركعة، وسمعت شيخ الإسلام ينكر هذا الحديث، ويدفعه جدًّا، ويقول: إنَّه موضوع، ثم ساق حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله امرأً صلَّى أربعًا قبل العصر"، وقال: قد اختلف في هذا، فصححه ابن حبان وأعلَّه غيره. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 117)، أبو داود (1271)، الترمذي (430)، ابن خزيمة (2/ 206).

3 - الحديث صالح للعمل به بشواهد، وعلى فرض قبول الطعن فيه، فإنَّ الحديث إذا لم يشتد ضعفه، وكان داخلاً تحت قاعدة عامة -فإنه يجوز العمل به في فضائل الأعمال. 4 - فيه الترغيب في صلاة أربع ركعات تطوعًا قبل صلاة العصر، وأنَّ هذه الصلاة من أسباب حصول رحمة الله تعالى. ***

290 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ"، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ"، كَرَاهِيَةَ أَنْ يتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَواهُ البُخَارِيُّ. وفِي رِوَايَةٍ لابنِ حِبَّانَ: "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى قَبْلَ المَغْرِبِ رَكعَتَيْنِ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَرَانَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - صلوا قبل المغرب: الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى، وهذا هو التوكيد اللفظي، الذي هو تكرير لفظ، يراد به تثبيت أمر في نفس السامع. - كراهية: منصوب على أنَّه مفعول من أجله، والمفعول من أجله: مصدر قلبي، يذكر علة لحدث شاركه في الزمان، والفاعل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب صلاة ركعتين بعد الغروب، وقبل الصلاة، ولكنهما ليستا من السنن الرواتب المؤكدة. ¬

_ (¬1) البخاري (1183)، ابن حبان (4/ 457). (¬2) مسلم (836).

2 - يستحب عدم المداومة عليها؛ خشية أن يُظَنَّ أنَّها سنة راتبة، فتأخذ حكم الرواتب من التزامها، وعدم التخلف عنها، فالكراهة ليست في فعلها؛ إذ لا يجتمع استحباب وكراهة في فعل واحد، وإنما الكراهة في المداومة واتخاذها سنة دائمة، وقد فرَّق العلماء بين الشيء الراتب، الذي يتَّخذ سنة راتبة، وبين الشيء العارض الذي يؤتى به في بعض الأحيان والأحوال، ولكنه لا يأخذ حكم السنة الراتبة التي لا ينبغي الإخلال بها. 3 - أنَّ صلاتهما لا تؤخر صلاة المغرب عن أول وقتها، فقد قال النووي: إنَّ قول من قال: "فعلهما": "يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها" -خيال فاسد، منابذ للسنة، ومع ذلك فزمانهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. 4 - صلاة هاتين الركعتين ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأقسام السنة الثلاثة، فقد أمر بها بقوله: "صَلُّوا قبل المغرب"، وفعَلَهُما كما في رواية ابن حبان، ورأى الصحابة يصلونها فأقرَّهم عليها. 5 - قال ابن القيم -رحمه الله-: ثبت أنَّه كان يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة: سبع عشرة الفرائض، واثنتي عشرة راتبة في حديث أم حبيبة، وإحدى عشر صلاة الليل، فكانت أربعين ركعة. 6 - قال شيخ الإسلام: ما ليس براتب لا يلحق بالراتب، ولا تستحق المواظبة عليه؛ لئلا يضاهي السنن الراتبة، فما قبل العصر، والمغرب، والعشاء، من شاء أن يصلي تطوعًا فهو حسن، لكن لا يتَّخذ ذلك سنة راتبة.

291 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أقْرَأ بِأُمِّ الكِتَابِ؟ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إني: بكسر الهمزة. - أم الكتاب: سميت الفاتحة بـ"أم الكتاب"؛ لأنَّ أم الشيء: أصله، وهي مشتملة على كليات معاني القرآن. - أقرَأَ: قال القرطبي: ليس هذا شكًّا من عائشة، وإنما كانت عادته -صلى الله عليه وسلم- إطالة النوافل، فلما خفَّف في ركعتي الفجر، صار كأنَّه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1171)، مسلم (724).

292 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ فِي رَكعَتَي الفَجْرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. رواه مسلم (¬1). 293 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ". رَوَاه البُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث (293): - اضطجع: ضجع من باب نفع، يقال: ضجعت جنبي وأضجعته، والأصل: افتعل، لكن بعض العرب يقلب التاء طاء، ويظهرها عند الضاد، فيقول: اضطجع، وبعضهم يقلب التاء ضادًا، ويدغمهما في الضاد تغليبًا للحرف الأصلي، وهو الضاد، فيقول: اضجع. - شِقّه الأيْمَن: بكسر الشين وتشديد القاف المثناة؛ أي: جنبه، وهو ما تحت إبطه إلى كشحه. وحكمة تخصيص الأيمن -والله أعلم، كما قال الكرماني-: لئلا يستغرق في النوم؛ لأنَّ القلب من جهة اليسار، متعلق حينئذ غير مستقر، وإذا نام على اليسار كان في دَعَة واستراحة، فيستغرق. ... ¬

_ (¬1) مسلم (726). (¬2) البخاري (1160).

294 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ". رواهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمذِيُّ وَصَحَّحهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، وسنده جيد. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال النووي في "شرح مسلم": إسناده على شرط الشيخين. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. أما شيخ الإسلام: فلم يصحح الأمر وأنكره، وإنما قال: الصحيح أنَّ هذا ثابت من فعله -صلى الله عليه وسلم-، لا من قوله. * ما يؤخذ من الأحاديث: (291، 292، 293، 294): 1 - هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بأحكام راتبة صلاة الفجر. 2 - حديث عائشة يدل على استحباب تخفيف ركعتي الفجر، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصليها أمام عائشة، فتقول: "أقرأ بأم القران (الفاتحة)؟ " كل هذا من شدة تخفيفهما؛ فإنَّه يخفف القراءة، وإذا خفف القراءة، فإنه يخفف بقية الأقوال والأفعال. 3 - يدل أيضًا على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يصليهما أمام عائشة في البيت، فعائشة هي التي تحزر صلاته. 4 - حديث أبي هريرة يدل على أنَّه يستحب قراءة هاتين السورتين بعد الفاتحة: ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 415)، أبو داود (261)، الترمذي (420).

{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} في الركعة الأولى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في الركعة الثانية. 5 - قال ابن القيم: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي سنة الفجر بسورتي "الإخلاص"، و"الكافرون" وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، فسورة "الإخلاص" متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة، والصمدية المثبتة لجميع صفات الكمال، ونفي الولد والوالد، ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير، فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه. وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي، فأخلصت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي. أما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}: فأخلصت قارئها من الشرك العملي، الإرادي القصدي، ولما كان العلم قبل العمل، كانت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، والأحاديث في ذلك تبلغ حد التواتر، ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس؛ لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه؛ لما لها فيه من حظ في نيل أغراضها، جاء في التأكيد والتكرار في سورة "الكافرون"، المتضمنة لإزالة الشرك العملي مما لم يجيء مثله في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. 6 - لما كان لهاتين السورتين العظيمتين من الأهمية، وما جمعتاه من العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة -كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بهما في ركعتي الفجر، وفي الوتر، اللَّتين هما فاتحة العمل وخاتمته؛ ليكون مبتدأ النهار توحيدًا، وخاتمة الليل توحيدًا. 7 - جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ الآيتين في

ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ...} [البقرة: 136] إلخ الآية عوضًا عن: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا ...} [آل عمران: 64]، وهاتان الآيتان من أصول الإيمان، وأصول التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة، ونفي كل شريكٍ عنه. 8 - أما حديث عائشة رقم (293): فيدل على استحباب الاضطجاع على الشق الأيمن، بعد راتبة الفجر، وقبل فريضتها. 9 - قال ابن القيم: وفي اضطجاعه على الشق الأيمن سرٌّ، هو أنَّ القلب معلق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر، استثقل نومًا؛ لأنَّه يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن، فإنَّه يقلق ولا يستغرق في النوم؛ لقلق القلب. قلت: وفي هذه الاستراحة اليسيرة راحة واستجمام لصلاة الفجر، والله أعلم. 10 - أما حديث أبي هريرة، رقم (294): فيدل على استحباب الضجعة على الجانب الأيمن، قبيل صلاة الصبح. لكن قال ابن القيم عن هذا الحديث في "زاد المعاد": سمعت ابن تيمية يقول: هذا باطلٌ، وليس بصحيحٍ، وإنما الصحيح العمل لا الأمر بهما، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد، وغلط فيه. ولكن قال الحافظ في "فتح الباري" (3/ 29): الحق أنَّه تقوم به الحجة، ويحمل الأمر على الندب. وقال النووي: إسناده على شرط الشيخين. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. ***

295 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أحَدُكُمُ الصُّبحَ، صلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى". مُتَّفقٌ عليه. وللخَمسَةِ، وَصَحَّحهُ ابنُ حِبَّانَ بلَفْظِ: "صَلاَةُ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى". وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذا خَطَأٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، بدون ذكر "النهار". رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، وأصله في الصحيحين بدون ذكر "النهار". قال الترمذي: الصحيح ما رواه الثقات عن ابن عمر، فلم يذكروا فيه "صلاة النهار". وقال الدارقطني: ذكر "النهار" فيه وَهمٌ. وقال النسائي والحاكم: خطأ. وممن ضعف زيادة "النهار" ابن سعيد، والترمذي، والنسائي، وشيخ الإسلام ابن تيمية. * مفردات الحديث: - صلاة الليل: أي: عددها، وهو مبتدأ، خبره "مثنى". - مثنى مثنى: مرفوع بانه خبر المبتدإ، وبلا تنوين؛ لأنَّه غير منصرف؛ للوصف والعدل؛ فإنَّه معدول عن "اثنين اثنين"، وفائدة التكرار التأكيد، ¬

_ (¬1) البخاري (990)، مسلم (749)، أبو داود (1295)، الترمذي (597)، النسائي (1666)، ابن ماجه (1322)، أحمد (2/ 26)، ابن حبان (6/ 206)، ابن خزيمة (2/ 214).

ومعناه: أن يسلِّم من كل ركعتين. - فإذا خشي أحدكم الصبح: أي: فوات الليل بطلوع الصبح. - توْتِر له: على صيغة المجهول، والمعنى: تُصيِّر تلك الركعة صلاته وترًا. والوتر -بكسر الواو-: الفرد، وهو ضد الشفع. ***

296 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حديث ابن عمر برواية الصحيحين، يدل على مشروعية صلاة الليل اثنتين اثنتين، فيسلم من كل ركعتين. قال شيخ الإسلام: وحمله الجمهور على أنَّه لبيان الأفضلية، وممن ذهب إلى استحباب التثنية في صلاة الليل الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد. أما الإمام مالك: فيرى عدم الزيادة على اثنتين؛ لأنَّ مفهوم الحديث فيه الحصر، وقد عارض هذا الحديث ثبوت إيتاره -صلى الله عليه وسلم- بخمس، كما فى الصحيحين، والفعل دليل على عدم إرادة الحصر. 2 - أما رواية الخمسة بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"-: فقد اختلف المحدثون في صحة لفظ "النهار"؛ فقد أنكرها الإمام أحمد، وقال النسائي: هذا الحديث خطأ، وكذا قال الحاكم، وقال الدارقطني: ذكر النهار فيه وهمٌ، وقال الترمذي: الثقات لم يذكروا النهار. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقال البارقي: احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة. قال في "سبل السلام": لعلَّ الأمرين جائزان. وقال أبو حنيفة: يخير في النهار بين أن يصلي ركعتين ركعتين، أو أربعًا أربعًا، ولا يزيد على ذلك. والمشهور من مذهب الحنابلة: أنَّ صلاة الليل والنهار تكون مثنى مثنى، ¬

_ (¬1) مسلم (1163).

قال في "شرح الإقناع": وصلاة الليل والنهار مثنى مثنى؛ أي: يسلم فيها كل ركعتين؛ لحديث ابن عمر مرفوعًا: "وصلاة الليل والنهار مثنى مثنى" [رواه الخمسة]، وليس بناقضٍ للحديث الذي خصَّ فيه الليل بذلك، وهو قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" [متفق عليه]؛ لأنَّه وقع عن سؤال عيَّنه السائل، والنصوص بمطلق الأربع لا تنفي فضل الفصل بالسلام. 3 - أما حديث أبي هريرة: ففيه أنَّ أفضل الصلوات النوافل هي صلاة الليل، للبعد عن الرياء، ولما ورد فيها من صفاء المناجاة، ولأنَّها وقت الراحة والسكون في الفراشِ، فإتيان طاعة الله تعالى في هلذا الوقت فيه أجرٌ كبير، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وفيه ساعة الإجابة. قال شيخ الإسلام: أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل؛ لما روى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". ولما روى الترمذي (3594)، والنسائي (572)، والحاكم (1/ 395) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكُنْ". ولمسلم (757) أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ من الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا، إلاَّ أعطاه إياه". ***

297 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "الوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أحَبَّ أنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيفْعَلْ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يُؤْترَ بِثَلاَثٍ فَليْفَعَلْ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يُوْترَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيفْعَلْ". رَوَاهُ الأرْبَعَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحهُ ابْنُ حبَّانَ، وَرجَّحَ النَّسَائِيُّ وقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوف؛ قال في "التلخيص": رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني (2/ 23)، والحاكم (1/ 302) من طريق أبي أيوب، وله ألفاظ، وصحح أبو حاتم، والذهلي، والدارقطني، والبيهقي، وغير واحد وقفه، وهو الصواب. قال الصنعاني في "سبل السلام": وله حكم الرفع؛ إذ لا مسرح للاجتهاد فيه، وضعَّف الحديث ابن الجوزي؛ لوجود محمَّد بن حسان في سنده، ولكن خطَّأه الحافظ في ذلك، وقال: إنَّه ثقة. * مفردات الحديث: - الوتر: بكسر الواو: الفرد، وهو ضد الشفع. - حق: يقال: حق يحق حقًّا، من بابي ضرب ونصر، بمعنى: وجب وثبت بلا شك، وله معانٍ عدة، والمراد هنا: تأكد مشروعيته. ¬

_ (¬1) أبو داود (1422)، النسائي (1710)، ابن ماجه (1190)، ابن حبان (6/ 167).

298 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَيْسَ الوِتْرُ بِحَتْمٍ كهَيئَةِ المَكْتُوبةِ، وَلكِنْ سُنَّةٌ سَنَّها رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-". روَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحسَّنَهُ، والنَّسَائِيُّ، والحَاكِم وصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجَةُ الحديث: الحديث حسنٌ، قال في "التلخيص": رواه النسائي والترمذي من طريق عاصم بن ضمرة عن عليٍّ، وحسَّنه، وصححه الحاكم وابن خُزَيْمَةَ. * مفردات الحديث: - ليس: فعل جامد لا ينصرف، ومعناه: نفي الخبر، وهي من أخوات "كان" ترفع الاسم وتنصب الخبر، والشائع في خبرها جره بالباء. - بحتم: جار ومجرور، وهو خبر "ليس". وحتم يحتم حتمًا، من باب ضرب: أوجب الشيء جزمًا - كهيئة: الهيئة بالفتح والكسر: حال الشيء وكيفيته، وشكله وصورته، جمعها: هيئات. - سنة: السنة: الطريقة، حسنة كانت أو قبيحة، ومن الله حكمه وأمره ونهيه، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المحدثين هو قوله، وفعله، وتقريره، وعند الفقهاء ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه، وجمع السنة -في جميع معانيها-: سنن. * ما يؤخذ من الحديثين: (297، 298): 1 - الوتر: اسم الركعة المنفصلة عما قبلها، وللثلاث، والخمس، والسبع، والتسع، والإحدى عشرة إذا جمعن، فإذا انفصلت الثلاث بسلامين، أو ¬

_ (¬1) الترمذي (453)، النسائي (1676)، الحاكم (1/ 300).

الخمس، أو السبع، أو التسع، أو الإحدى عشرة- كان الوتر اسمًا للركعة المفصولة وحدها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة، توتر لك ما قد صليت". 2 - حديث أبي أيوب يدل على أنَّ الوتر واجب، ويدل على جواز الإتيان بخمس، أو ثلاث، أو واحدة. 3 - من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، يعني: لا يقعد إلاَّ في آخرها. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين -منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد- إلى عدم وجوب الوتر؛ لحديث الأعرابي الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عما فرض الله عليه قال: "خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلاَّ أن تطوَّع". [رواه البخاري (46) ومسلم (11)]. وذهب إلى وجوبه "أبو حنيفة" وطائفة من أصحاب الإمام أحمد؛ لحديث: "الوتر حقٌّ على كل مسلمٍ" [رواه أبو داود (1422)]. ولما روى أبو داود (1419) بإسناده عن بريدة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يوتر، فليس منَّا". وما ذهب إليه الجمهور أرجح من أنَّ الوتر سنة مؤكدة، لا واجب، وحملوا حديث: "الوتر حق" على تأكيد استحبابه، وقد قال علي -رضى الله عنه-: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقال شيخ الإسلام: أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، وآكد ذلك الوتر وركعتا الفجر، ولا ينبغي لأحد تركه، فمن تركه فإنَّه تُرد شهادته. وقال: الوتر أفضل من جميع الصلوات النوافل. واختار الشيخ وجوب الوتر على من له ورد من الليل، واستدل بقوله

-صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" [رواه البخاري (998)]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أوتروا يا أهل القرآن" [رواه أبو داود (1416)]. وأهل القرآن هم أهل التهجد وصلاة الليل، لكن قول الجمهور بعدم الوجوب أرجح، وما ورد في الوتر من حثٍّ وحضٍّ، فإنَّما يحمل على التأكيد فيه؛ فإنَّ حديث المعراج صريح في عدم وجوب شيء من الصلوات غير الخمس، وقد سئل -صلى الله عليه وسلم- هل علينا غيرها؟ فقال للسائل: "لا، إلاَّ أن تتطوَّع". قال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد: قد وقع التفاضل بين ركعتي الفجر، والوتر، وصلاة الليل، ففي صلاة الليل ورد هذا الحديث: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"، وفي ركعتي الفجر ورد هذا الحديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، ولا تعارض فيه بين الحديثين؛ فإنَّ حديث ركعتي الفجر لم يرد بلفظ الأفضلية. ***

299 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ القَابِلَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الوِتْرُ". رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وأصله في البخاري (1129)، ومسلم (761) عن عائشة: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة، أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح قال: رأيتُ الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم، إلاَّ أني خشيتُ أن يُفرض عليكم، وذلك في شهر رمضان". وفي سند هذا الحديث: يعقوب القمي، ضعَّفه بعض أئمة الحديث، وقواه بعضهم، ولكن المدار فيه على أصله، فإنَّه صحيحٌ بلا شك. *مفردات الحديث: - القابلة: يقال: أقبل الليل، وأقبل عليه: نقيض أدبر عنه. والقابلة: مؤنث القابل، والمراد بها: الليلة القادمة، وهي الليلة المقبلة. - خشيت: خشيته بمعنى: خفته، فهو خاشٍ، وهي خاشية، وجمعه: خشايا. قال في "الكليات": الخشية أشد من الخوف؛ لأنَّ الخشية تكون من عظمة المخشي، والخوف يكون من ضعف الخائف. - يكتب: يقال: كتب يكتب كتبًا، وله عدة معانٍ، والمعنى هنا: يفرض عليكم ¬

_ (¬1) ابن حبان (6/ 169).

ويوجب، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي: فُرِضَ. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث بتمامه -كما تقدم في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- يدل على أنَّ صلاةَ الليل والوتر ليست مفروضة، وإنما هي سنة. 2 - فيه دليل على مشروعية صلاة الليل في رمضان جماعة. 3 - فيه شفقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ورأفته بهم، وخوفه عليهم من أن يُكلَّفوا من العبادات ما يشق عليهم، أو ما لا يقومون به فيأثموا. 4 - فيه دليل على القاعدة الشرعية التي هي: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ***

300 - وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله -أمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: الوِتْرُ مَا بَيْنَ صَلاَةِ العِشَاءِ إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ". روَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). وَرَوَى أَحْمَدُ عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوَهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ قال في "التلخيص" ما خلاصته: أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني (2/ 30) والحاكم من حديث خارجة ابن حذافة، وضعفه البخاري، أما شواهده فهي: 1 - عن معاذ: عند أحمد (21590)، وفيه ضعف وانقطاع. 2 - حديث عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر: في الطبراني (8/ 65)، وفيه ضعف. 3 - حديث أبي بصرة: رواه أحمد (26687)، والحاكم (3/ 687)، والطحاوي، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. 4 - حديث ابن عباس: رواه الدارقطني (2/ 30)، وفيه أبو عمر الخزاز، وهو ضعيف متروك. 5 - حديث ابن عمر: رواه ابن حبان في "الضعفاء"، وادَّعى أنَّه موضوع. 6 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: رواه أحمد (6880)، والدارقطني ¬

_ (¬1) أبو داود (1418)، الترمذي (452)، ابن ماجه (1168)، الحاكم (1/ 306). (¬2) أحمد (2/ 208).

(2/ 30) وإسناده ضعيف. قال الشيخ الألباني: للحديث شواهد كثيرة يقطع الواقف عليها بصحته. *مفردات الحديث: - أمدكم: يقال: مدَّ يمد مدًّا، والمد: الزيادة في العطاء. - حُمر: بضم الحاء وسكون الميم آخره راء، مفرده: حمراء، ومذكره: أحمر، وهو ما لونه الأحمر. - النعم: بفتحتين، جمع لا واحد له من لفظه، وهو يشمل: الإبل، والبقر، والغنم، ولكنه أكثر ما يطلق على الإبل، وحمر النعم: أشرف الأموال عند العرب. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضل صلاة الوتر، وأنَّها تعدل في قيمتها وغلائها أفضل أموال العرب، وهي الإبل الحمر، وما هو إلاَّ مثال تقريبي من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه فيما يعرفون من نفائس الحياة، وفيما هو أغلى في النفس من المال، وإلاَّ فإنَّ متاع الدنيا كلها قليل بجانب الآخرة. 2 - أنَّ وقت الوتر هو ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر؛ لأنَّه ختم صلاة الليل، فلو أوتر قبل العشاء فقد أوتر قبل دخول وقته، ولو أوتر بعد طلوع الفجر، لأوتر بعد خروج وقته. 3 - عمومه أنَّه يدخل بعد صلاة العشاء، ولو جمعت مع المغرب جمع تقديم، وهذا ما صرح به العلماء. قال في "شرح الإقناع": ووقت الوتر بعد صلاة العشاء، ولو كانت صلاة العشاء في جمع تقديم؛ بأن جمعها مع المغرب في وقت صلاة المغرب. 4 - فيه دليل على أنَّ الله تعالى يَمُنُّ على عباده بطاعته وعبادته زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم، وقربًا لهم عند ربهم، فالله تعالى غنيٌّ عنهم

وعن عباداتهم، وإنَّما نَفْعُ ذلك عائدٌ عليهم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]. قال ابن الجوزي: من علم أنَّ الدنيا دار سباق وتحصيل فضائل، وأنَّه كلما عَلَتْ مرتبته في علم وعمل، زادت مرتبته في دار الجزاء، انتهب الزمان، ولم يترك فضيلة تمكِّنه إلاَّ حصلها. ***

301 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الِوْتُرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوْتِرْ، فَلَيْسَ مِنَّا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وصَحَّحَهُ الحَاكِم (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- عِنْدَ أَحْمَدَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ، كما ذهب إلى هذا الكمال بن الهمام، وممن صححه الامام السيوطي في "الجامع الصغير"، قال المنذري في "تهذيب السنن": في إسناده عبيد الله بن عبد الله أبو منيب المروزي، وثَّقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث، وتكلَّم فيه البخاري والنسائي وغيرهما، لكن كلام النسائي فيه مضطرب، فمرَّة قال عنه: ثقة، ومرَّة ضعَّفه، وتقدم توثيق ابن معين له، ولهذا ذهب ابن الهمام إلى أنَّ الحديث حسن. وأما الشاهد من حديث أبي هريرة: ففيه الخليل بن مرة ضعفه البخاري، وقال الحافظ: منكر الحديث، وفي الإسناد انقطاع بين معاوية بن مرة وأبي هريرة، قاله أحمد، وله شاهد عن أبي أيوب رواه الدارقطني، وقال: ليس بمحفوظ. * مفردات الحديث: - الوتر: -بكسر الواو على الأشهر- هو الفرد والفذّ، ومن العدد: ما ليس ¬

_ (¬1) أبو داود (1419)، الحاكم (1/ 305). (¬2) أحمد (2/ 443).

بشفعٍ، ومنه صلاة الوتر. - حق: مصدر معناه: الشيء الثابت، جمعه: حقوق. فليس منَّا: أي: ليس على هدينا الكامل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث من أدلة القائلين بوجوب الوتر، وتقدم أنَّه من الأحاديث التي اختُلف في حجيتها، وبناء على تحسينه، فإنَّه محمول على تأكيد سنية الوتر لا على وجوبه، كما هو مذهب جمهور العلماء. 2 - ساق ابن المنذر هذا الحديث بلفظ: "الوتر حقٌّ، وليس بواجب" وهذا صريح أنَّ معنى "حق" يعني: ثابت في الشرع، لا بمعنى الواجب، وبهذا فلا دلالة فيه على وجوب الوتر. 3 - مما يستدل به على عدم وجوب الوتر، وأنَّه نافلة مؤكدة ما يأتي: (1) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يخبر وفود العرب، وأفراد القبائل عن فرائض العبادات التي منها الصلاة، فما كان يخبرهم بما يجب عليهم إلاَّ الصلوات الخمس المفروضة. (ب) ما جاء في البخاري (1458)، ومسلم (19) من بعثه -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل إلى اليمن، وقوله له: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة". (ج) ما جاء في خطبته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع من ذكر عدد الصلوات المفروضات الخمس، لا أكثر من ذلك، وفي ذلك اليوم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. (د) ثبت أنَّ أبا بكر وعليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أخبرا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة، ولكنه سنة"، فهل يجهلان هذا؟. (هـ) صحت السنة بأنَّ الوتر يكون بركعة واحدة، وثلاث، وخمس،

وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وكل ذلك جائز، وقد أخذ به جمهور العلماء؛ لثبوت أخباره. ولو كان الوتر فرضًا، لكان محددًا معروفًا عدده، لا تجوز الزيادة فيه، ولا النقص منه؛ كالصلوات الخمس المكتوبة. أما الإمام أبو حنيفة الذي يرى وجوبه فيقول: إنَّ الوتر ثلاث ركعات، فلا يجوز بواحدة ولا أكثر من ثلاث، ولا يجوز للمسافر عنده أن يوتر على راحلته؛ لأنَّه عنده واجب يشبه الفرض. ولكن أصحابه الأقدمين خالفوه في وجوب الوتر، ولم يرض مذهبه في وجوبه إلاَّ بعض المتأخرين، والأدلة المتقدمة وغيرها تنصر القول بعدم وجوبه. ***

302 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ، عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنهِنَّ وَطُولِهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا، قالَتْ عَائشِةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوْتِر؟ قَالَ: يَا عَائشِةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنامَانِ، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي". مُتَّفَقٌ علِيْه. وفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا: "كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوْتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فَلا تَسْألْ عَنْ حُسْنهِنَّ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ فِي نِهَايَةِ الحسن والطول، فيقصر عن وصف حسنهنَّ وطولهن. - أتَنَام؟: الهمزة للاستفهام، على سبيل الاستخبار والاستعلام. - عينيَّ: بفتح النون وتشديد الياء المفتوحة، تثنية "عين"، مضافة إلى ياء المتكلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عائشة -رَضِيَ الله عنها- تصف صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل؛ سواء كان ذلك في رمضان أو غيره؛ بأنه لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، يظهر أنَّها متصلات، فيحسنهن بإطالة القراءة والركوع والسجود، ثم يصلي ¬

_ (¬1) البخاري (1140، 1147)، مسلم (738).

أربعًا مثلهنَّ بالطول والحسن، ثم ثلاثًا، لم تصفهنَّ بما وصفت به الصلاة التي قبلها، فهذه إحدى عشرة ركعة، والوتر هو الثلاث الأخيرات. 2 - يحتمل أنَّ الأربع منفصلات، وأنه يصليها ركعتين ركعتين، ويوافقه حديث: "صلاة الليل مثنى"، ويؤيده أيضًا الأحاديث التي تشتمل على تفصيل صلاته -صلى الله عليه وسلم- بالليل، بأنَّها كانت ركعتين ركعتين، فلعلها ذكرت أربع ركعات مجموعة، ثم الأربع الأُخر مجموعة؛ لأنَّه كان لا يمكث بعد التسليم من الركعتين الأوليين، بل كان يقوم للركعتين الأُخريين، فإذا أتمَّ أربع ركعات مكث طويلاً، وفصل بينها، وبين الأربع الآتية فصلاً طويلاً. 3 - ذكرت أنَّه ينام، فتسأله هل ينام قبل الوتر؟ مما يدل على أنَّ نومه بعد الركعات الثمانية، وأنَّه يصلي الثلاثة بعد النوم، فأجابها بأنَّ الذي ينام هو عيناه، أما قلبه فإنَّه لا يستغرق بالنوم لتعلقه بالله، وطاعته له، وقد قال البخاري: إنَّ الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم. وقد رُوي عن عائشة -رضي الله عنها- في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَدْرِها عدة روايات، منها ما تقدم، ومنها: (أ) رواية الصحيحين؛ أنَّه يصلي من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، وتلك ثلاث عشرة ركعة. (ب) وجاء عنها في الصحيحين: قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلاَّ في آخرهن". (ج) وجاء عنها: "سبع ركعات". (د) وجاء عنها: "تسع ركعات". (هـ) وجاء عنها في البخاري: "أنَّه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين".

وجاء عنها غير هذه الروايات، مما حكم به بعضهم؛ بأنَّها روايات مضطربة، ولكن يمكن حملها على تعدد الأوقات، واختلاف الحالات، فلا موجب للحكم بالاضطراب. (و) حديث ابن عباس أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "صلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، فقام فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح" [رواه البخاري (731) ومسلم (781)]. (ز) وقد جاء من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلَّى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضي الفجر أقبل على الناس، فتشهد ثم قال: أما بعد، فإنَّه لم يَخْفَ علي مكانكم، لكني خشيتُ أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها". 4 - الظاهر أنَّه لم يحفظ عدد الركعات التي صلى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلتين، أو الثلاث، وإنما الثابت ما أمره الله به وامتثله: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)} [المزمل]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، وقال تعالى عن المؤمنين الصالحين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه" [مُتفق عليه]. 5 - مضى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، فلما جاءت خلافة عمر -رضي الله عنه- دخل المسجد النبوي، ومعه عبدٌ القارىء، فوجد أهل المسجد أوزاعًا متفرقين، يصلي الرجل بنفسه، ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فأمر أُبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان.

وقد جاءت الروايات المتكاثرة أنَّ عمر -رضي الله عنه- جمع الناس على أُبيِّ بن كعب، فكان يصلي بالناس عشرين ركعة، ويوتر بثلاث ركعات، وكان هذا بمشهد، وعمل من الصحابة -رضي الله عنهم- كلهم جميعًا؛ فكان إجماعًا على صفة وعددِ هذه الصلاة المروية الثابتة. قال في "المغني": التراويح هي سنة سنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليست محدثة في عهد عمر، وهي من أعلام الدين، وهي عشرون ركعة في قول أكثر العلماء، والمختار عند أحمد وأبي حنيفة والشافعي: أنَّها عشرون ركعة، وقال مالك: ست وثلاثون، وتعلق بعمل أهل المدينة، ولنا أنَّ عمر لما جمع الناس على أُبيِّ بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة. وعن عليِّ-رضي الله عنه-: أنَّه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة، وهذا كالإجماع. قال في "سبل السلام": وروى البيهقي أنَّ عليًّا كان يؤمهم بعشرين ركعة، ويوتر بثلاث، وفيه قوة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ نفس قيام رمضان لم يؤقت فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان لا يزيد على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر -رضي الله عنه- على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأنَّ ذلك كان أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث ركعات، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث. وهذا كله شائع، فكيفما قام بهم في رمضان من واحدة من هذه فقد أحسن، ومن ظنَّ أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزاد فيه، ولا ينقص -فقد أخطأ.

وقال الإمام أحمد: إنَّه لا يتوقف في قيام رمضان عدد، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يؤقت فيه عددًا، وحينئذٍ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ذهب أكثر أهل العلم -كالأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد- إلى أنَّ صلاة التراويح عشرون ركعة؛ لأنَّ عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي عشرين ركعة، وكان هذا بحضور الصحابة، فكان كالإجماع، وعليه عمل الناس. قال في "طرح التثريب": لم يبين في الحديث عدد الركعات التي صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليالي في المسجد، وقد قالت عائشة: "ما زاد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة"، لكن عمر لما جمع الناس على صلاة التراويح في شهر رمضان مقتدين بأبي بن كعب، صلَّى بهم عشرين ركعة غير الوتر ثلاث ركعات، وعدوا ما وقع في زمن عمر -رضي الله عنه- كالإجماع. وقال العيني: اختلفت الأحاديث الواردة في عدد صلاته: ففي حديث زيد بن خالد وابن عباس وجابر وأم سلمة ثلاث عشرة ركعة، وفي حديث الفضل وصفوان بن المعطل ومعاوية بن الحكم وابن عمر إحدى عشرة، وفي حديث أنس ثماني ركعات، وفي حديث حذيفة سبع ركعات، وفي حديث أيوب أربع ركعات، وأكثر ما فيها حديث عليٍّ ست عشرة ركعة. والجواب: أنَّ ذلك بحسب ما شاهد الرواة، كذلك ربما زاد، وربما نقص، وربما أذن بقيام الليل مرتين أو ثلاثًا. ولهم أجوبة كثيرة عفا ذكرته عائشة -رضي الله عنها- عن عدد صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتسع المقام لنقلها، والإطالة في ذكرها. والذي نقوله ما قاله جمهور العلماء من أنَّ صلاة الليل، ومنها التراويح

في رمضان، لم تقيد بعدد معيَّن، فلا يُنْكر على من زاد، ولا على من نقص فيها، فالكل سنة واتباع، والغرض ألا يكون مثار جدل وفتنة بين المسلمين، لاسيما أهل الدين والصلاح منهم، الذين هم القدوة في الخير، فما دام الأئمة أجمعوا على مشروعية القيام، واختلفوا في الأفضل في عدد الركعات، وهي مسألة اجتهادية، فكلٌّ يعمل بما وصل إليه اجتهاده، أما التضليل والتجهيل فليس خُلُقَ العلماء، والله أعلم. 6 - قال شيخ الإسلام: تسن التراويح في رمضان باتفاق السلف، وأئمة المسلمين، وتسمى قيام رمضان، وكونها أول الليل؛ لأنَّ الناس كانوا يقومون أوله على عهد عمر، ولا تصح قبل صلاة العشاء، ومن صلاها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفة للسنة، وإذا طلع الفجر فات وقتها إجماعًا. 7 - روى الإمام أحمد (20910) والترمذي، (802) وصححه؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة". وهذا ترغيب في قيامها مع الإمام، وروى الإمام مالك (253)؛ أنَّ عمر ابن الخطاب أمر أُبي بن كعب وتميمًا الداري -رضي الله عنهم-، أن يقوما للناس، قال الراوي: وما كنَّا ننصرف إلاَّ في فروع الفجر. 8 - استحب الشيخ تقي الدين: إحياء الليالي العشر الأخيرة، فقد جاء في البخاري (2024) ومسلم (1174): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر أَحْيَا ليله، وأيقظ أهله، وشدَّ المئزر"، وكان الصحابة والتابعون يمدون الصلاة في العشر الأواخر إلى قرب طلوع الفجر، كما جاء ذلك من غير وجه. قال المجد: ولو تنفلوا جماعة بعد رقدة، أو من آخر الليل -لم يكره، نصَّ عليه الإمام أحمد. 9 - قال شيخ الإسلام: قراءة القرآن في التراويح سنة باتفاق المسلمين، فهي جل

المقصود، وليسمع المسلمون كلام الله؛ فإنَّ شهر رمضان أنزل فيه القرآن. قال النووي: يحسن صوته بالقرآن ما استطاع، ولا يخرج مناجي ربه عن حد القراءة إلى حد التمطيط، ويستحب البكاء عند القراءة، وهي صفة العارفين، وشعار الصالحين، وطريقة التأمل في القرآن عند التهديد، والوعيد، والمواثيق، والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها. قال الشيخ: أهل القرآن هم العالمون به، العاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن قلب، وقال: يستحب استماع القرآن، ويكره التحدث عنده بما لا فائدة فيه. 10 - قال أوس: سألت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد. قال الشيخ: تحزيبهم بالسور معلوم متواتر، واستحسنه على التحزيبات المحدثة بالأجزاء. ***

303 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ ثَلاَثَ عشْرَةَ رَكْعَةً، يُؤْتِرُ مِنْ ذلِكَ بِخَمْسٍ، لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ فِي آخِرِهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه إحدى روايات عائشة -رضي الله عنها- في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل، بأنَّه صلَّى ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ركعات، يسردها، فلا يجلس إلاَّ في آخرها. 2 - إعمال ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه العموم، فالأفضل العمل بجميع الروايات الثابتة، فهو أفضل وأكمل، وهذه طريقة رجال الفقه والحديث، أنَّهم يعملون بكل ما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- من العبادات والأذكار؛ ليحصل العمل بالسنة كلها، وليحصل الاقتداء الكامل به -صلى الله عليه وسلم-، وما ثبت على غير وجه العموم والشمول مما يحتمل الخصوصية، لاسيَّما إذا عارضته نصوص صحيحة؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-:"صلاة الليل مثنى مثنى"- فهذا حكم عام أجاب به السائل عن صلاة الليل، ولو اقتصر على ما ثبت من فعله، وهو الحكم العام، لبيَّنه للسائل، وهدذا يدلك على ما قاله الجمهور، من أنَّ صلاة التراويح لا تحد بهذا العدد. 3 - فيه أنَّ الوتر إذا كان بخمس ركعات؛ أنَّ الأفضل أن يكون بسلام واحد، لا يجلس في شيء من الركعات إلاَّ في آخرها، فيتشهد ويسلم، ويكون الوتر حينئذٍ اسمًا للخمس كلها، ما دامت الركعات متصلات بسلام واحد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (737)، وعزوه للبخاري وهمٌ.

4 - لما ذكر الشيخ شيبة الحمد الروايات المتعددة في صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوتر -قال: وجملة هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تشعر بأنَّ الأمر في عدد ركعات الوتر على السعة، وأنَّ الوتر داخل في صلاة الليل، وأنَّه لا بأس على من صلى الوتر خمسًا، لا يجلس إلاَّ في آخرهن، ولا بأس على من صلَّى الوتر سبعًا، لا يجلس إلاَّ في السابعة، وأنَّ من صلى الوتر تسعًا لا يجلس إلاَّ في التاسعة، وأنَّ من صلَّى الوتر ثلاثًا أن يسلم على رأس الركعتين، وله أن يجعل التشهد والسلام في الثالثة، فالأمر في ذلك كله على السعة، والله أعلم. 5 - جاء في صحيح مسلم (736) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة"، وفي لفظٍ: "يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة". قال في "شرح الزاد": هذا هو الأفضل. قال في "الحاشية" لابن القاسم: لأمره -صلى الله عليه وسلم-، ولاستمرار فعله له، ولأنَّه أكثر عملاً، وفي ذلك دلالة على أنَّ أقلَّ الوتر ركعة، وهو مذهب الجمهور. قال في "كشاف القناع": ويسن فعل الركعة عقب الشفع بلا تأخير. قال في "شرح الزاد": وأدنى الكمال في الوتر ثلاث ركعات بسلامين، ويجوز أن يسردها بسلام واحد. قال أحمد: إن أوتر بثلاث لم يسلم فيهن، لم يُضَيَّق عليه عندي. وقال الشيخ تقي الدين: يخيَّر بين فصله ووصله، وصحح أنَّ كليهما جائز، ومفهوم كلام أحمد لا يجوز كالمغرب، ولكن جوَّزه في "الإقناع".

304 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أوْتَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَانتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - انتهى وتره: وصل نهايته في صلاة الوتر إلى وقت السحر -صلى الله عليه وسلم-. - السَّحرَ: بفتحتين، جمعه "أسحار"، وهو الجزء الأخير من الليل الذي قبيل طلوع الفجر الثاني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ وقت الوتر يدخل إذا صليت العشاء، ولو قدمت مع المغرب جمعًا، وأنَّه يمتد إلى طلوع الفجر الثاني، فأي وقت أوتر المصلي من هذا الوقت جاز. 2 - في هذا الحديث دليل على أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أوتر أوَّل الليل، وأنَّه أوتر نصف الليل، وأنه أوتر في آخر الليل وقت السحر، وقد انتهى وتره إلى هذا الوقت، الذي داوم عليه آخر حياته. 3 - جاء في مسند الإمام أحمد (21836) عن أبي مسعود قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يوتر من أول الليل، وأوسطه، وآخره". قال عتيبة بن عمرو: ليكون في ذلك سعة للمسلمين، فأي ذلك أخذوا به كان صوابًا. 4 - الترغيب في تأخير الوتر إلى وقت السحر لمن يثق من نفسه بالانتباه؛ لأنَّه آخر الأمور من فعله -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) البخاري (996)، مسلم (745).

* فوائد: الأولى: الوتر لا تشرع له الجماعة، إلاَّ إذا كان بعد التراويح. الثانية: قال شيخ الإسلام: الوتر أفضل من جميع تطوعات النهار، فأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، وأوكد صلاة بعد الوتر ركعتا الفجر. الثالثة: أجمع العلماء على أنَّ وقت الوتر لا يدخل إلاَّ بعد صلاة العشاء، ويصح قبل سنة العشاء، لكن خلاف الأولى، ولكن لو جمعت العشاء تقديمًا مع المغرب فقد خالف أبو حنيفة في دخول وقت الوتر؛ لأنَّه يرى أنَّ دخوله بعد غيوب الشفق الأحمر. والجمهور على خلافه؛ فيرون دخول وقت الوتر بعد صلاة العشاء، ولو جمعت تقديمًا مع المغرب. ***

305 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدِ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْل فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فترَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مثل فلان: لم يدر من هو، والظاهر أنَّ الإبهام من أحد الرواة؛ لقصد الستر عليه، والقصد هو تنفير عبد الله من الغفلة، وترغيبه بقيام الليل. - من الليل: قال العيني: وليس في رواية الأكثرين لفظ "من" موجود، بل اللفظ: "كان يقوم الليل"؛ والمراد: في جزء من أجزائه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضيلة قيام الليل، وأنَّه لا ينبغي تركه؛ لما فيه من الفضل العظيم، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لما فيها من السرية، والبُعد عن الرياء، ولما فيها من صفاء المناجاة مع الله تعالى، وحضور القلب، ولما فيها من إيثار طاعة الله تعالى على الراحة والفراش والمنام، ولما جاء في فضلها من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي لا تخفى. 2 - صلاة الليل: قال السَّفَّارِينِي في "شرح منظومة الأداب": مطلب في التهجد وما ورد في فضله: التهجد لا يكون إلاَّ بعد النوم، والناشئة لا تكون إلاَّ بعد رقدة، وصلاة الليل بعد ذلك، وصلاة الليل سنة مرغَّبٌ فيها، وأفضل من صلاة النهار، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا ¬

_ (¬1) البخاري (1152)، مسلم (1159).

مَحْمُودًا (79)} [الإسراء]. وروى مسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". وجاء في الترمذي (1858)، وابن ماجه (1334) من حديث عبد الله بن سلام قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيُّهَا النَّاسُ، أفْشُوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". والأحاديث والآثار كثيرة، وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار؛ لأنَّه أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص، فكان السلف يجتهدون في الدعاء، ولا يُسْمع لهم صوت. ولأنَّ صلاة الليل أشق على النفوس، وأفضل الأعمال ما أوثرت فيه طاعة الله على محاب النفوس، ولأنَّ القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر؛ لقطع الشواغل عن القلب، وليتواطأ القلب واللسان، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل: 6]، وقد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته؛ فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]. 3 - قال الإمام أحمد: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر، فالنافلة بين العشاءين من قيامِ الليل، أما الناشئة فلا تكون إلاَّ بعد النوم، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل]. وأفضل صلاة الليل ثلث الليل بعد نصفه، فهو قيام داود الذي حث النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه. وقال شيخ الإسلام: النصف الأخير أفضل من الأول، ومن الثلث

الأوسط. 4 - ويتأكد الإكثار من الدعاء والاستغفار آخر الليل للآيات والأخبار، وعمل السر أفضل من عمل العلانية، والإخلاص ركن العبادة الأعظم. 5 - قال شيخ الإسلام: الصلاة إذا قام من الليل أفضل من القراءة في غير صلاة، نص على ذلك أئمة الإسلام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"اعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة" [رواهُ ابن ماجه (277)]، لكن إن حصل له نشاط، وتدبر، وتفهم للقراءة دون الصلاة- فالأفضل في حقه ما كان أنفع له. هناك صلوات مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، منها: أولاً: الاجتماع ليلة النصف من شعبان، وصلاتها جماعة، وإحياء تلك الليلة بدعة في الدين، فلا دليل على إحيائها، وصلاة خاصة لها. ثانيًا: قال الشيخ تقي الدين: وإنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة، في وقت معيَّن، تصلى جماعة راتبة -عمل غير مشروع، باتفاق علماء المسلمين، ولا ينشىء هذا إلاَّ جاهل مبتدع. ثالثاً: صلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة في أول ليلة جمعة من شهر رجب، فهي بدعة محدثة، فلا تستحب لا جماعة، ولا فرادى. رابعًا: صلاة الألفية بدعة ضلالة، قال النووي: صلاة الرغائب، وصلاة الألفية، هاتان الصلاتان بدعتان مذمومتان ومنكرتان، فلا تغتروا بذكرهما في الحديث المذكور فيهما؛ فإنَّ ذلك باطل. خامسًا: صلاة التسبيح: قال شيخ الإسلام: نص أحمد وأئمة الصحابة على كراهتها، ولم يستحبها إمام، وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوا بها بالكلية. سادسًا: قال شيخ الإسلام: قاعدة الإسلام أنَّ الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله.

وقال ابن القيم وغيره: الأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر؛ فإنَّ الله لا يُعْبَدُ إلاَّ بما شرعه على ألسنة رسله. وقال شيخ الإسلام -أيضًا-: العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع؛ فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: 1 - ألا نعبد إلاَّ الله وحده. 2 - وألا نعبده إلاَّ بما شرعه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: اعلم أنَّ العبادات توقيفية، وترك الشارع الفعل مع قيام مقتضيه دليل على الترك، كما أنَّ فعله دليل لطلب الفعل، وهذه القواعد الهامة عن هؤلاء الأئمة الأعلام مستقاة من قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وأمثالها من الآيات، ومما ثبت في مسلم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد". ***

306 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوتِرُوا يَا أَهلَ القُرْآنِ؛ فإنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد رواه أصحاب السنن الأربع، وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم وابن خزيمة، ورجاله ثقات. * مفردات الحديث: - فإنَّ الله وتر: بكسر الواو وفتحها، هو الفرد، فالله تعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، فلا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله، فلا شريك له ولا معين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الوتر والإتيان به، وعدم التهاون به؛ لأنَّه من الصلوات المؤكدات. 2 - نُدِبَ المسْلِمُونَ كلهم إلى الإتيانِ بالوتر، ولكن يتأكَّد على حملة القرآن وحفَّاظه، وأهل العلم أكثر مما يتأكد في حق غيرهم. 3 - أنَّ صلاة الوتر محبوبة إلى الله تعالى، فهي أفضل الصلوات بعد الصلوات المكتوبات. 4 - إثبات صفة المحبة لله تعالى، إثباتًا حقيقيًّا يليق بجلاله، بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، فكما نثبت أنَّ له تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، فنثبتُ ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 148)، أبو داود (1416)، الترمذي (453)، النسائي (1675)، ابن ماجه (1169)، ابن خزيمة (2/ 136).

-أيضًا- أنَّ له صفات لا تشبه الصفات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]. 5 - قال شيخ الإسلام: الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين، ومنهم من أوجبه، ولا ينبغي لأحد تركه، ومن أصرَّ على تركه ردت شهادته. 6 - ليس المراد بقوله: "إنَّ الله وِتر يُحب الوتر"؛ أنَّه يقصد الإيتار في كل شيءٍ، فلا يأكل إلاَّ وترًا، ولا يشرب إلاَّ وترًا، ولا يلبس إلاَّ وترًا؛ لأنَّ الإيتار من أمور العبادة، والعبادة تتوقف على ورود شرع بها، فما ورد من العادات وقصد الشارع أن يقطعه على وتر، فهذا القصد داخل في مسمى العبادة، كأكله تمرات وترًا عند ذهابه لصلاة عيد الفطر، أما أن يتخذ الوتر في جميع العادات عبادة، فهذا يتوقف على ورود الشرع به، والشرع مبني على التوقيف، فلا يشرع منه إلاَّ ما شرعه الله ورسوله. ***

307 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الوتر هو الذي تختم به صلاة الليل؛ سواء كان في أول الليل، أو وسطه، أو آخره، فكما أنَّ صلاة المغرب وتر، ويختم بها صلاة النهار، فكذلك الوتر يكون آخر صلاة الليل. 2 - لو وقع بعد الوتر صلاة نفل، ما نُقض الوتر، لاسيَّما الصلوات ذوات الأسباب من سنة مسجد، أو ركعتي طواف، أو ركعتي وضوء، أو نحو ذلك؛ فالوتر باق بحاله ختمت به صلوات الليل. فقد جاء في صحيح مسلم (738) عن عائشة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُصَلِّي من الليل ركعتين بعد الوتر، وهو جالسٌ". وقد حمله النووي على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك؛ لبيان جواز النفل بعد الوتر. 3 - قال الفقهاء -واللفظ لـ"شرح الزاد وحاشيته"-: ولا يكره التعقيب وهو الصلاة بعد التراويح، والوتر في جماعة. لقول أنس: لا ترجعوا إلاَّ إلى خير ترجونه. قال المجد وغيره: ولو تنفلوا جماعةً، أو بعد رقدة، أو من آخر الليل، لم يكره. نص عليه، واختاره جمع. ... ¬

_ (¬1) البخاري (998)، مسلم (751).

308 - وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ". رَواهُ أَحْمَدُ والثَّلاَثَةُ، وَصحَّحهُ ابنُ حِبَانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ؛ رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وعبد الحق وغيرهم، وحسَّنه الترمذي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على كراهية الإيتار في الليلة الواحدة مرتين فأكثرة لأنَّ تكرير الوتر في ليلة واحدة عبادة لم تُشرع، ولا يعبد الله تعالى إلاَّ بما شرع. 2 - من أوتر ثم أراد الصلاة بعد الوتر، فقد تقدم جوازه، وأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أوتر صلى ركعتين، وأنَّ الشفع بعد الوتر لا ينقضه. 3 - من أراد أن يصلي مع الإمام حتى تنتهي صلاته؛ تحصيلاً لفضيلة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، فكأنما قام ليله"، وأراد أن يحصل على فضيلة الوتر آخر الليل، فإنَّه إذا سلم الإمام قام وأتى بركعة، تشفع له صلاته مع الإمام. قال في "شرح الزاد وحاشيته": فإن تبع إمامه فأوتر معه، أو أوتر منفردًا، ثم أراد التهجد، فلا يُنْقَض وتره، ويصلي ما شاء إلى طلوع الفجر الثاني، ولا يوتر مرَّة أخرى؛ لأَنَّه ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يصلي بعد الوتر ركعتين، ولايوتر بعدها. وإن شفعه بركعة جاز، وتحصل له فضيلة متابعة إمامه وجعل وتره آخر صلاته. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 23)، أبو داود (1439)، الترمذي (470)، النسائي (1679)، ابن حبان (6/ 201).

309 - وَعَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُوْتِرُ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَزَادَ: "ولاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ" (¬1). وَلأبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَفِيْهِ: "كُلُّ سُورَةٍ فِي رَكعَةٍ، وَفِي الأَخِيْرَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} وَالمُعَوِّذَتَيْنِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث عائشة فيه ضعف، وله شاهد، وقال العقيلي: إسناده صالح، قال ابن حجر: حديثُ أُبَي أصح من حديث عائشة. وقد ساق المؤلف حديثين فيما يقرأ في الوتر. أحدهما: عن أبي بن كعب؛ أنَّه يقرأ {سبح} و {الكافرون}، و {الإخلاص} الثاني: عن عائشة: بزيادة المعوذتين. فأما حديث أُبي بن كعب؛ فقال عنه في "التلخيص": حديث أُبَي بن كعب بإسقاط -المعوذتين- أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين، وحديث أُبَي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 406)، أبو داود (1423)، النسائي (1730). (¬2) أبو داود (1424)، الترمذي (463).

قال الشوكاني: حديث أُبَي رجاله ثقات إلاَّ عبد العزيز بن خالد، وهو مقبول أيضًا. وأما حديث عائشة: فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عنها، وفيه ضعف، وقد تفرَّد به يحيى بن أيوب، وفيه مقال، ولكنه صدوق. وقال الترمذي: فيه انقطاع، كما أنَّ فيه خصيفًا، وهو بين الحديث، وكأنَّه لشواهده، قال الترمذي: حديث حسن غريب *مفردات الحديث: - المعوذتين: بكسر الواو وتشديدها، ومن فتحها فقد أخطأ. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قراءة هذه السور الثلاثة في الركعات الثلاثة من الوتر وهي: (1) سورة الأعلى؛ لما تضمنته من حث على الآخرة، وتزهيد في الدنيا، ولأنَّها تضمنت مواعظ ذُكرت في الصحف الأولى، وُعِظَ بها الأوَّلونَ والآخرون. (ب) سورة الكافرون؛ لكونها تعدل ربع القرآن، وتضمنها البراءة التامة من الكفار ودينهم، ولاشتمالها على التوحيد العملي الإرادي. (ج) سورة الإخلاص؛ لكونها تعدل ثلث القرآن الكريم، وتضمنها صفات الله، وتوحيده التوحيد الخبري العلمي. 2 - الأفضل عدم المداومة على هذه السور؛ لئلا يظن العامة وجوبها، فترك الفاضل أحيانًا لبيان الحكم، أفضل من المداومة عليه؛ لأنَّ تعليم الناس أمرَ دينهم من أفضل الأعمال. 3 - قراءة المعوذتين جاءت في رواية ضعيفة، ولكن لم يشتد ضعفها، وفقهاء أهل الحديث إذا جاءهم الحكم الشرعي برواية لم يشتد ضعفها، وكانت تندرج تحت قاعدة شرعية، وكانت -أيضًا- في فضائل الأعمال -فإنَّهم يعملون بها، ومنه هذا الحديث.

310 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَوْتِرُوا قَبْلَ أنْ تُصْبِحُوا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلابنِ حِبَّانَ: "مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ، فَلاَ وِتْرَ لَهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية ابن حبان إسنادها صحيح، وصححها -أيضًا- ابن خزيمة والحاكم (1/ 443)، ووافقه الذَّهبي، وذكر له الحاكم شاهدًا من حديث ابن عمر وصححه، ووافقه الذهبي. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - الوتر من صلاة الليل، ولكنه يختم به صلاتها؛ ليوترها، كما تختم صلاة النهار بصلاة المغرب؛ لتوترها. 2 - أنَّ آخر وقت الوتر هو طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر، فقد فات وقت الوتر، فمن أوتر بعد طلوع الصبح فلا وتر له، قال ابن المنذر: أجمعوا على على أنَّ ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر. أما أول وقته فتقدم أنَّه بعد صلاة العشاء، ولو كانت مجموعة تقديمًا مع المغرب. 3 - وذكر ابن المنذر عن جماعة من السلف: أنَّ للوتر وقتين: اختياري واضطراري، فالاختياري ينتهي بطلوع الفجر الثاني، والاضطراري لا ينتهي إلاَّ بصلاة الصبح. 4 - ظاهر الحديث: أنَّ الوتر الذي فات وقته إذا كان تركه من عمد، فإنَّ تاركه فوَّت أجره، أما النائم أو الناسي فهما موضوع الحديث الآتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) مسلم (754)، ابن حبان (2408).

311 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ، أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُصَلِّ إِذَا أصْبَحَ، أوْ ذَكَرَ". روَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني (2/ 22)، والحاكم (1/ 443)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال العراقي: إنَّ الحديث جاء من طريقين: من طريق أبي داود، وهي صحيحة. والأخرى: من طريق الترمذي وابن ماجه، وهي ضعيفة. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أن من نام عن الوتر فلم يستيقط حتى طلع الصبح الثاني، أو نسيه فلم يذكره حتى طلع الفجر -أنه يصليه، ولو بعد طلوع الصبح الثاني. 2 - الحديث صحيح، فقد قال الحاكم والذهبي: إنه على شرط الشيخين، وأيدهما الشيخ الألباني؛ فيكون حجة في هذا الحكم. ومع هذا فإنه مشمولٌ بالحديث الذي في البخاري (597)، ومسلم (682) عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاَّ ذلك". ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 44)، أبو داود (1431)، الترمذي (465)، ابن ماجه (1188).

3 - لا تعارض بين هذا الحديث والحديث الذي قبله: "من أدرك الصبح ولم يوتر، فلا وتر له"، فهذا في حق الذاكر والمستيقظ، فإن وقت الوتر عنده ينتهي بطلوع الفجر الثاني؛ بخلاف حديث الباب، فهو في حقِّ النائم والغافل، فإن هذا هو وقت الصلاة في حقه. 4 - ظاهر الحديث، ومعه حديث الصحيحين أيضًا: أن من نام عن وتره حتى أصبح، أو نسيه -أنه يصليه بعد طلوع الفجر، وأن هذا هو وقته الشرعي، أداءً لا قضاءً، والله أعلم. 5 - قال في "الإقناع": ويقضيه مع شفعه إذا فات وقته؛ لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نام عن الوتر أو نسيه، فليصله إذا أصبح أو ذكره" [رواه أبو داود]، قال في "الحاشية": المذهب يقضيه على هيئته. قال شيخ الإسلام: صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها"، وهذا يعم الفرض وقيام الليل والسنن الرواتب. 6 - هناك طائفة من العلماء يرون عدم قضاء الوتر على صفته، وأن من طلع عليه الصبح ولم يوتر، فقد فاته الوتر، ولا وتر له؛ كما جاء ذلك في رواية ابن حبان. ويستدلون على ذلك -أيضًا- بما رواه مسلم (746) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلَّى من النهار اثنتي عشرة ركعة". وذلك أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة، فيصليها بالنهار شفعًا بزيادة ركعة، فمن كان عادته أن يوتر بثلاث، ونسي، فالأفضل أن يصليها أربعًا، ومن كان عادته خمسا فليصل ستًّا، ومن كان عادته سبعًا فليصل ثمانياً، ومن كان عادته تسعًا فيصل عشرًا، ومن كان عادته إحدى عشرة فليصل اثنتي عشرة. ويعتبر هذا كالقضاء للوتر، إلاَّ أنه يصليها شفعًا.

وقال الشيخ في موضعٍ آخر: لا يقضي الوتر، ومراده على صفته؛ لأن المقصود به أن يكون آخر الليل، على أن وتر النهار المغرب. والراجح قضاء الوتر نهارًا شفعًا، كما اختاره الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى. ***

312 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ ألاَّ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلْيُوتِرْ أوَّلَهُ، وَمَنْ طَمعَ أنْ يَقُومَ آخِرَهُ، فَليُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل؛ فَإنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذلِكَ أَفْضَلُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - طمع: في الشيء طمعًا وطماعة، فهو طامع، والطمع: الأمل والرجاء، وأكثر ما يستعمل فيما يقرب حصوله، جمعه: أطماع. - مشهودة: يقال: شهد يشهد شهودًا، بمعنى: حضر واطلع على الشيء، فهو شاهد بمعنى: حاضر، وشاهد ذلك أنَّ الله تعالى ينزل آخر الليل، فينادي خلقه ويجيب أسئلتهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الوتر يجوز في أول الليل وفي آخره، فوقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني، ومن كل الليل أوتر النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - أنَّ تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن قوي على القيام، وطمع في أن يستيقظ قبل الفجر؛ لقول عائشة: "وانتهى وتره إلى السحر" [رواه مسلم (745)]، ولأنَّ صلاة آخر الليل تشهدها الملائكة، وهذه ميزة كبرى، ولأنَّ هذا هو وقت المناجاة، حينما ينزل الرب جلَّ وعلا إلى السماء الدنيا، كما جاء في البخاري (1145) ومسلم (758)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني ¬

_ (¬1) مسلم (755).

فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، ولأنَّ الوتر آخر الليل هو التهجد الذي ذكره الله فى كتابه العزيزة فإنَّ التهجد لا يكون إلاَّ بعد نوم، وهو وقت الناشئة التي قال تعالى فيها: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل] فإنَّ النَّاشئة لا تكون إلاَّ بعد رقدة. 3 - أما من يخشى ألا يقوم آخر الليل؛ فيلوتر قبل أن ينام؛ لحديث أبي هريرة: "أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: وذكر منهنَّ: وأن أوتر قبل أن أنام" فأبو هريرة كان يشتغل أول الليل بدراسة الأحاديث وحفظها، فكان ممن لا يستيقظ إلاَّ بعد أن يصبح، فأوصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يوتر قبل أن ينام، وتكون لأبي هريرة، ولمن هو على مثل حاله. ***

313 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ، فَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ كُلِّ صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالوِتْرِ، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، صححه ابن خزيمة والحاكم، ووافقه الذهبي. فأما صدره: فلا ينافي حديث أبي سعيد المتقدم (311)، فالذي معنا في حق المستيقظ الذاكر، والذي قبله في حق النائم، أو الناسي. وأما آخره: -وهو قوله: "فأَوترُوا قبل طلوع الفجر"- فقد جاء في صحيح مسلم (754) من حديث جابر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أوترُوا قبل أن تصبحوا"، وقد صححه النووي في "الخلاصة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث تقدم معناه في عدة أحاديث، وهو أنَّ وقت الوتر من صلاة العشاء، ويمتد حتى طلوع الفجر الثاني، وأنَّ من ترك الوتر متعمدًا حتى طلع عليه الفجر -فقد فاته الوتر، الذي هو من صلاة الليل، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بالوتر قبل طلوع الفجر؛ لئلا يفوت وقته. 2 - وتقدم أنَّ الصحيح أنَّ فوات الوتر في حق تاركه عمدًا حتى طلع الفجر، أما من نام عنه أو نسيه، فإنَّ وقته أداء إذا استيقظ أو ذكر؛ فيكون هذا الحديث مخصوصًا بالحديث المتقدم: "من نام عن الوتر، أو نسيه، فليصل إذا أصبح أو ذكر". ¬

_ (¬1) الترمذي (469).

وهذا القول يجمع الأحاديث المتعارضة في فوات الوتر، في حق النائم والناسي، وأدائه في وقته. 3 - روى مسلم (746) عن عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يصل من الليل، منعه من ذلك النوم، أو غلبته عيناه- صَلَّى من النهار اثنتي عشرة ركعة". ***

314 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى أرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 315 - ولَهُ عَنْهَا: "أنَّهَا سُئِلَتْ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لاَ، إلاَّ أنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيْبِهِ" (¬2). 316 - وَلَهُ عَنْهَا: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيْ قَطُّ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الأحاديث: - مغيبه: يقال: غاب يغيب غيبًا، فهو غائب، بمعنى: سافر وبعد، والمغيب اسم زمان ومكان. - قطُّ: بفتح القاف وضم الطاء مشددة، قال في "المعجم الوسيط": قطّ ظرف زمان لاستغراق الماضي، والعامة تقول: لا أفعل قط، وهو غلط، قلتُ: لأنها مختصة بالزمن الماضي. - سُبْحَة الضحى: بضم السين المهملة وسكون الباء التحتية الموحدة؛ أي: صلاة النافلة، فالتسبيح يكون بمعنى الذكر والصلاة، يقال: يسبح فلان؛ أي: يصلي السبحة، فريضةً كانت أو نافلةً. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بأحكام صلاة الضحى، وهي سنة جاء فيها ما ¬

_ (¬1) مسلم (719). (¬2) مسلم (717). (¬3) مسلم (718).

رواه الإمامان: البخاري (1880)، ومسلم (721) عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام". 2 - الحديث رقم (314) يدل على مشروعية صلاة الضحى، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصليها أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله. 3 - حديث رقم (315) يدل على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يصليها، إلاَّ أن يأتي من سفر، فكأنَّها قيَّدت الحديث الأول بهذا الحديث، فصارت صلاته لها حينما يقدم من السفر. 4 - حديث رقم (316) يدل على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يصليها أبدًا، وهذا يحمل على تقييد الحديث رقم (315) بالقدوم من السفر أيضا، وأنَّه ما كان يأتي بها، وإنما كان عند القدوم من المغيب. ومن أجل هذا الاختلاف في الإتيان بها من عدمه، أطال عليها الكلام ابن القيم في "زاد المعاد"، وبيَّن وجه الجمع بين هذه الأحاديث التي فيها نوع تعارض، فقال: اختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق: (أ) منهم من رجَّح الفعل على الترك؛ بأنَّها تتضمَّن زيادة علم خفيت على الثاني، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ. (ب) وطائفة ثانية ذهبت إلى: أحاديث الترك، ورجحتها من جهة صحة إسنادها، وعمل الصحابة بموجبها، فروى البخاري: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصليها، ولا أبو بكر، ولا عمر". (ج) وذهبت طائفة ثالثة إلى: استحباب فعلها غبًّا، فتصلى في بعض الأيام دون بعض، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه الطبري عن جماعة، واحتجوا بحديث رقم (315). (د) وذهب ابن جرير إلى: أنَّه لا تعارض في الأحاديث، فقال: وليس في

هذه الأحاديث حديث يدفع صاحبه؛ وذلك أنَّ من حكى أنَّه صلَّى الضحى أربعًا جائزٌ أن يكون رآه في حال فعله ذلك، ورآه غيره في حالة أخرى صلَّى ركعتين، وراه آخر في حال أخرى صلاها ثمانيًا، وسمعه آخر يحث على أن تصلي ستًّا، وآخر يحث على أن تصلى ركعتين، وآخر يحث على عشر، وآخر على اثنتي عشرة، فأخبر كل واحد منهم عمَّا رأى، أو سمع. (هـ) وذهبت طائفة خامسة إلى: أنَّها تفعل بسبب، قالوا: وصلاته يوم الفتح إنَّما كانت من أجل الفتح، وصلاته في بيت عتبان بن مالك بسبب عذره من إتيان المسجد، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه في بيته؛ ليصلى له في مكان منه يكون مصلى له، ففعل لأجل هذا السبب. ومن تأمل الأحاديث المرفوعة، وآثار الصحابة، وجدها لا تدل إلاَّ على هذا القول، وأما أحاديث الترغيب فيها: فالصحيح منها لا يدل على أنَّها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى بها أبا هريرة؛ لأنَّه قد روي أنَّ أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل، وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال. اهـ ملخصًا من "زاد المعاد". واختار شيخ الإسلام المداومة على الركعتين المذكورتين في حديث أبي هريرة: "وركعتي الضحى"؛ اختار ذلك لمن لم يقم في الليل. 5 - قال النووي: وكون سنة الضحى سنة هو مذهب جمهور السلف، وقول الفقهاء المتأخرين. 6 - قال في "الحاشية": وصلاة الضحى والترغيب فيها بلغت حد التواتر، وتستحب المداومة عليها لمن لم يقم في ليله؛ لخبر أبي هريرة ونحوه، ولشيخ الإسلام قاعدة: أنَّ ما ليس من الرواتب لا يداوم عليه، حتى لا يلحق بالرواتب، واختار المداومة عليها لمن لم يقم من الليل؛ لتأكدها في حقه. 7 - قال الشيخ محمد بن محمد بن بدير:

أحببت ألاَّ أترك المقام حتى أبين أمرًا، عسى الله أن ينفع به من شاء من عباده، لقد ثبتت صلاة الضحى من قوله -صلى الله عليه وسلم-، وحثه أصحابه، وإقرارهم عليها بما لا يدع مجالاً للشك. منها أحاديث الباب، ومنها ما ثبت في صحيح مسلم (722)؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- وصى بها أبا الدرداء، كما وصى بها أبا هريرة. وفي صحيح مسلم (720) عن أبي ذر في حديث التسبيح والتهليل والتحميد، لأداء صدقات المفاصل قال: "ويجزىء عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى". وفي البخاري (1128)، ومسلم (718) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالتْ: "إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل -وهو يحب أن يعمل به- خشية أن يعمل به الناس، فيكتب عليهم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط يسبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها". ومعلوم أنَّه مما لا يَرِدُ على العقل أن تحافظ أم المؤمنين على صلاة الضحى، ولم يطلع عليها -صلى الله عليه وسلم-، كما لا يظن بها أن تداوم على عبادة لم تُشرع، وهي الراوية عنه -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" والحديث في الصحيحين، ولكنها اعتذرت عن عدم صلاة الضحى بما ذكرت؛ أنَّه خشية أن يثقل على أمته، بل قررت أنَّ بعض ما كان يدع للتخفيف، كان يحب أن يعمل به، والسياق في مقام صلاة الضحى. والعجب ممن يستدل على عدم سنيتها: بأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها، ولا أبو بكر، ولا عمر، بعد اتفاق أهل العلم أنَّ السنة ما ثبت من قوله -صلى الله عليه وسلم-، أو فعله، أو تقريره، فبعد ثبوت الأمر بها لا يمتري في سنيتها عالم بالسنة وأقسامها، وإلاَّ فعليه أن يئكر فضيلة صوم داود؛ لأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعمل به، مع أنه مدحه، وأمر به عبد الله بن عمر، لما أراد أن يصوم أفضل

الصيام. هذا على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قد فعلها مرات كثيرة، فالذي أدين الله به أنَّ صلاة الضحى قربة عظيمة، لا يجحدها منصف، وقد ورد فيها من الأدلة، ما لا مجال معه لذي بصيرة أن يتردد في كونها من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد أنصف شيخ الإسلام إذ يقول: إنَّ أدلتها بلغت التواتر -يعني: التواتر المعنوي- وبالله التوفيق. ***

317 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "صَلاةُ الأوَّابِينَ حِيْنَ تَرْمَضُ الفِصَالُ". روَاهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: فهو في صحيح مسلم (748) من حديث زيد بن أرقم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الأوَّابين إذا رَمَضْت الفصال من الضحى" والمؤلف -رحمه الله- لم يعزه إليه، ولعله وقع منه سهوًا. كما أنَّ أحدًا من العلماء لم يعزه إلى الترمذي غير الحافظ، وتبعه الصنعاني والشوكاني. * مفردات الحديث: - الأوابين: جمع "أوَّاب"، والأوَّاب: الرجاع إلى الله تبارك وتعالى، بترك الذنوب، وفعل الطاعات والخير. - ترْمَض: بفتح التاء وسكون الراء وفتح الميم؛ أي: تحترق أخفافها من الرمضاء، وهي شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل، عند ارتفاع الشمس. - الفِصال: بكسر الفاء، جمع "فصيل"، وهو ولد الناقة، سمي بذلك؛ لفصله عن أمه، فهو فعيل بمعنى مفعول، والجمع: "فُصلان" بضم الفاء وكسرها، وأما جمعه على "فِصال"، فكأنَّهم توهَّموا فيه الصفة، قاله في "المصباح". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وقت صلاة الضحى من ارتفاع الشمس قيد رمح -بعد طلوعها- إلى قبيل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (748)، ولم يروه الترمذي.

الزوال. 2 - الحديث الذي معنا يدل على أن أفضل وقت لها، هو ارتفاع الضحى، وارتفاع حر الأرض وقوة الشمس؛ وذلك هو احتراق الفِصَال (أولاد الإبل) من شدَّة الرمضاء. 3 - سميت تلك الصلاة صلاة الأوابين؛ لأنَّهم آبوا ورحلوا إلى طاعة الله وعبادته، حينما اشتغل الناس بتجارتهم ومتاعهم وزراعاتهم، ومال بعضهم إلى الراحة، فيأتي الأوابون بذكر الله تعالى، وينقطعون عن كل مطلوب سواه، والله الموفق. ***

318 - وَعنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكعَةً، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الجَنَّة". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، لكنه قوي بشواهده. قال الترمذي: غريب، وقال الحافظ: إسناده ضعيف، وقال في "الفتح": له شواهد إذا ضمت إلى حديث أنس تقوَّى بها، وصلح للاحتجاج به. وله شاهد من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صَلَّى الضحى ركعتين، لم يكتب من الغافلين، ومن صلَّى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له بيتًا في الجنة ... ". قال المنذري: رواه الطبراني في "الكبير" ورواته ثقات، وفي موسى بن يعقوب الزمعي خلاف، وقد روي عن جماعة من الصحابة ومن طرق. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (473).

319 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بيْتِي، فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ". روَاهُ ابنُ حِبَانَ فِي "صَحِيْحِهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال محقق كتاب "صحيح ابن حبان": سنده على شرط مسلم، إلاَّ أنَّ فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب، وثَّقه أبو زرعة والدارقطني، إلاَّ أنَّهم اختلفوا في سماعه من عائشة. * ما يؤخذ من الحديثين (318، 319): 1 - يدل الحديث رقم (318) على أنَّ صلاة الضحى تصلى اثنتي عشرة ركعة، وهي لا تنافي الأعداد الأخر؛ فإنَّ أقلها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة. أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فأكثرها ثمان؛ لما جاء في البخاري (1176) ومسلم (336) عن أم هانىء: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في عام الفتح صلَّى ثماني ركعات، سُبحَة الضحى". 2 - أما الحديث رقم (319): فيفيد أنَّ صلاة الضحى ثماني ركعات. قال محرره: أرى أنه لا تعارض بين الأحاديث الواردة في عدد صلاة الضحى، والجمع بينها متيسر، كما قال ابن جرير فيما تقدم، فكل واحد من الصحابة حدث بما رأى وما سمع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- تارةً يصليها ركعتين، وتارةً يصليها أربعًا، وتارةً يصليها ستًّا، وتارةً يصليها ثمانيًا، وأخرى يصليها اثنتي عشرة ركعة، ولا منافاة ولا تعارض، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ابن حبان (3/ 459).

3 - الخلاصة مما تقدم: أنَّ سنة الضحى استفاضت أخبارها، وأنَّه يستحب المداومة عليها، لمن لم يصل بالليل؛ لئلا تفوته عبادة النهار والليل معًا، وأما من له صلاة الليل فإنَّه من الأفضل أن يغب فيها، وأنَّ أقلَّها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة، وأنَّ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال. * فائدة: اختلفت الأحاديث عن عائشة في صلاة الضحى، فمرويٌّ عنها: 1 - صلاها من غير تحديد عدد: "يصلي الضحى أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله". [رواه مسلم (719)]. 2 - قالت "دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيتي، وصلَّى الضحى ثماني ركعات". [روه ابن حبان (3/ 459)]. 3 - قالت: "ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى، إلاَّ أن يجىء من مغيبه". [أخرجه مسلم (717)]. 4 - قالت: "ما رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي سبحة الضحى، وإني لأسبحها". [رواه البخاري (1128)، ومسلم (718)]. وقد جمع القاضي عياض بين إثبات الصلاة ونفيها: بأنَّها في الإثبات نقلت أخبار من رآه من الصحابة، فروت عنه دون أن تنسب إليه، وأما روايات النفي فإنَّها لم تشاهده يصليها. وهذا جمع لا بأس به، وإذا أمكن الجمع يصار إليه، والله أعلم. ***

باب صلاة الجماعة والإمامة

باب صلاة الجماعة والإمامة مقدِّمة سميت: "جماعة"؛ لاجتماع المصلين في فعلها زمانًا ومكانًا، فإذا أخلَّوا بهما، أو بإحداهما، لم تسم جماعة، ومن هذا يُعلم أنَّ الصلاة خلاف الإمام بواسطة المذياع، أو التلفاز، لا تصح؛ لأنَّها ليست صلاة مع جماعة. اتَّفق العلماء على مشروعية صلاة الجماعة، واختلفوا في حكمها. فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى: أنَّها سنة غير واجبة؛ لما في الصحيحين: "تفضل صلاة الجماعة صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة"، ففيها فضل، ولأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُنْكر على الرجلين اللذين قالا: صلينا في رحالنا. وذهب الإمام أحمد إلى: وجوبها للصلوات الخمس على الرجال المكلفين، وقال به طائفة من السلف من الصحابة والتابعين. ودليلهم: ما في البخاري (644) ومسلم (651) عن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "والَّذي نفسي بيده، لقد هممتُ أن آمر بحطب ... إلى آخر الحديث". وجاء رجل أعمى يستأذنه في الصلاة في بيته لبُعْدِ مكانه، فقال: "لا أجدُ لك رخصة" [روَاهُ أبو داود (553)]، وبأنَّه أمر بها حال الخوف والقتال، مع ما في ذلك من خلل في أركانها وشروطها وواجباتها. وشط شيخ الإسلام، فقال: إنَّ الجماعة شرط لصحة الصلاة، فلا تصح

بدونها، وقد قال الموفق بن قدامة: لا نعلم أحدًا أوجب الإعادة على من صلَّى وحده. والمشهور من المذهب: أنَّ له فعل الجماعة في بيته، والمسجد أفضل. ولكن ابن القيم ردَّ ذلك، واستدل على وجوبها في المسجد، فقال: ومن تأمل السنة حق التأمل، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض على الأعيان، إلاَّ لعارض يجوز معه ترك الجماعة، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار. وقال الشيخ تقي الدين: الصلاة في المساجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته، ففي تركها محو لآثار الصلاة. ومن أدلة الشيخين على وجوبها في المسجد: ما جاء في صحيح مسلم (654) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليصلِّ هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهن، فالله شرع سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنَّكم لو صلَّيتم في بيوتكم، كما صلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة فبيكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلاَّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف". * حكمةُ الجماعة في المساجد: شرَع الله عزَّ وجل لهذه الأمة المحمدية الاجتماعات المباركة في أوقات، منها: ما هو في اليوم والليلة، وهو الصلوات المكتوبة، حينما يجتمع أهل الحي في مسجد واحد، يتعارفون فيه ويتآلفون. ومنها: ما هو في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، حينما يجتمع أهل البلد، أو أهل الحي الكبير في مسجد جامع، لنفس الأغراض الكريمة. ومنها: ما هو في العام؛ كصلاة العيدين، الذي يجمع أهل المصر الواحد في صعيد واحد، أو يجمع وفود المسلمين من أقطار الدنيا كلها في عرفة، وفي

مشاعر الحج؛ ليشهدوا منافع لهم من التعاون والتآلف والتشاور، وتبادل الأفكار والآراء، فيما يعود على المسلمين بالخير والبركة. ومن فوائد صلاة الجماعة الائتلاف والتعارف، وتعلم الجاهل من العالم، والتنافس في أعمال الخير، وعطف القوي على الضعيف، والغني على الفقير، وغير ذلك مما يفوت الحصر ... والله الموفق. ***

320 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ أفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةً". مُتَّفقٌ علَيْهِ (¬1). وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "بِخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ جُزْءًا" (¬2). وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وقَالَ: "دَرَجَةً" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - الفَذ: -بفتح الفاء والذال المعجمة المشددة-، أي: الفرد، جمعه: فذوذ، يقال: فذ الرجل من أصحابه إذا بقي وحده. - أفضل: أفعل تفضيل، وهو مصاغ على وزن أفعل؛ للدلالة على أنَّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها. قال العيني: عامة نسخ البخاري بلفظ: "تفضيل صلاة الفذ"، والذي في مسلم: "أفضل" التي هي للتفضيل، والتكثير في المعنى المشترك، وهي أبلغ من "تفضيل". - درجة: تمييز للعدد المذكور، والمراد: أنَّه يحصل من صلاة الجماعة، مثل أجر صلاة المنفرد سبعًا وعشرين جزءًا؛ كما في الرواية الأخرى، فالجزء مؤول بالدرجة. ¬

_ (¬1) البخاري (625)، مسلم (650). (¬2) البخاري (648)، مسلم (649). (¬3) البخاري (646).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث بيان فضل صلاة الجماعة، وأنَّها تفضل على صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة، والمراد: أنَّه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر المنفرد سبعًا وعشرين مرة. 2 - لا يقنع بالدرجة الواحدة من الدرجات الكثيرة إلاَّ أحد رجلين: إما غير مصدق لتلك النعمة العظيمة، أو سفيه لا يهتدي لطريق الرشد والتجارة المربحة. 3 - المراد بالمنفرد: الذي صلَّى وحده في بيته بدون عذر، أما المعذور فأجره تام، وهذا الحديث مبيَّن بأحاديث أخر؛ مثل حديث: "إذَا مرض العبد، أو سافرة كُتبَ لَهُ ما كان يعمل، صحيحًا مُقيمًا" [رواه البخاري (2996)]. 4 - أنَّ الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة؛ فإنَّها تصح صلاة المنفرد، مع الإثم الذي يلحقه، إذا لم يكن عذر في ترك الجماعة. والدليل على صحتها وإجازتها: أنَّ فيها أجرًا أو فضلاً، فإنَّ قوله: "أفضل" أفعل تفضيل، وهي صيغة تدل على أنَّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد واحد على الآخر فيها، فقد اشترك المنفرد والمصلي في جماعة، وزاد المصلي مع الجماعة على المنفرد بالأجر والدرجات. قال الموفق: لا نعلم أحدًا أوجب الإعادة على من صلَّى وحده. 5 - تفاضل الأعمال الصالحة بحسب تأديتها. قال الطيبي: في حديث أبي هريرة: "بخمس وعشرين"، وفي حديث ابن عمر: "بسبع وعشرين"؛ ووجه التوفيق؛ أنَّ الزائد متأخر عن الناقص؛ لأنَّ الله يزيد عباده من فضله، ولا ينقصهم عن الموعود شيئًا؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- بشر المؤمنين أولاً بمقدار فضلها، ثم رأى -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله تعالى يمن عليه، وعلى أمته، فبشرهم به، وحثَّهم على الجماعة، وهذا الذي ذكرنا هو الضابط في

التوفيق بين الأحاديث المختلفة من هذا النوع. 6 - التفاوت هنا خاص بالصلاة جماعة، أو منفردًا بلا عذر، وهناك تفاوت كبير في الأجر أيضًا من حيث الخشوع، والحضور في الصلاة، وأدائها بإحسان، أو أقل من ذلك إلى آخر درجة في الثواب. 7 - وجه قصر أبواب الفضيلة في خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين تارة أخرى، يرجع إلى علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك حلها، وتفاصيلها. ولعل اختلاف ذلك يرجع إلى حال المصلي والصلوات، بحسب كمال الصلاة والمحافظة على هيئتها وخشوعها، وكثرة جماعتها، وحال الإمام، وشرف البقعة، وهناك تفاوت من حيث نوعية المسجد بالقرب والبعد، وقدم الطاعة فيه من عدمها، وهناك اعتبارات أخر لفضل صلاة على صلاة أخرى، ترجع إلى تكميلها وتقويمها، فإنَّ المصلي قد لا يرجع من صلاته إلاَّ بنصفها، أو بثلثها، أو رُبعها، أو سدسها، أو بِعشرها، وكل هذا التفاوت راجع إلى تكميلها وعدمه. 8 - الحديث لا يدل على وجوب صلاة الجماعة، كما أنَّه لا يدل على عدم الوجوب، فليس فيه دليل للطرفين؛ ذلك أنَّ فضل العمل، وترتب الثواب عليه، يكون في الأعمال الواجبة، الأعمال المستحبة؛ فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10، 11]،، فالإيمان بالله ورسوله من أوجب العبادات. وجاء في "جامع الترمذي" (1857) من حديث عبد الله بن سلام؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال؛ "أيُّهَا النَّاسُ"، أفْشُوا السلام، وأطْعِمُوا الطَّعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والنَّاس نيام، تدخلوا الجنة بِسلام" فهذه طائفة بعضها مستحب، وبعضها واجب.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في الجمع بين حديث: "السبع والعشرين" و"الخمس والعشرين" وأقربها إلى الصواب أن يقال: إنَّ العدد القليل لا ينافي العدد الكثير؛ لأنَّ مفهوم العدد غير وارد، على الصحيح من أقوال الأصوليين، فهو داخل ضمنه. ***

321 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤذِّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلى رِجَالٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بيهوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، لَوْ يَعْلَمُ أحَدُهُمْ أنَّه يَجِدُ عَرْقًا سَمِيْنًا، أوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ -لَشَهِدَ العِشَاءَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - والذي نفسي بيده: أي: والله الذي نفسي بيده، وهو قسمٌ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقسمُ به. - لقد هممت: "اللام" واقعة في جواب القسم، والجملة جواب القسم أكَّده باللام، وكلمة: "قد هممت بالأمر"؛ الهَمُّ: هو العزم على القيام به، ولم يفعله. - فيحتطبَ: بالنصب؛ أي: يجمع الحطب. - فأحرِّق: بالتشديد، من: التحريق، والمراد به: التكثير، يقال: حرَّقه إذا بالغ في تحريقه. - آمر بالصلاة: الألف واللام إن كانت للجنس فهو عامٌّ، وإن كانت للعهد ففي رواية: "أنَّها العشاء"، وفي أخرى: "أنَّها الفجر"، وفي ثالثة: مطلقة، ولا تشاح بينها؛ لجواز تعدد الواقعة. - فَيَؤُمَّ الناس: الفعل منصوب؛ لأنَّه معطوف على "آمر" و"الناس" منصوب؛ ¬

_ (¬1) البخاري (644)، مسلم (651).

لأنَّه مفعول، والجملة في محل نصب على أنَّها صفة لقوله: "رجلًا". - أخالف: قال في "الصحاح": خالف إلى فلان: أتاه إذا غاب عنه، والمعنى: خالفت ما أظهرت من إقامة الصلاة، واشتغال بعض الناس بها. - بيوتهم: جمع "بيت"، قال صاحب "المُغرب": البيت اسم للسقف، سمي به؛ لأنَّه يُبات فيه. - عرْقًا: بفتح المهملة وسكون الراء ثم قاف، جمعه: "عراق"، هو العظم إذا أخذ أكثر ما عليه من الهبر، وعليه لحوم رقيقة طيبة، وقد جمع بين السمن في العرق، والحُسن في المرماتين، ليوجد الباعث النفساني في تحصيلهما. - وَمرْماتَيْنِ: تثنية -مرماة- بكسر الميم فَراء ساكنة فميم مفتوحة فألف فتاء التأنيث، هي ما بين أضلاع الشاة من اللحم، وقيل: ما بين ضلعي الشاة من اللحم. ثم جاء حرف العطف في هذا الحديث ثلاث مرات، مترقيًا من الأهون إلى ما هو أشد منه، ثم إلا أغلظها، فكل مرتبة أعلى مما قبلها؛ وذلك لتفاوت ما بين مدخولاتها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ صلاة الجماعة في المساجد فرض عين على الرجال البالغين؛ على الصحيح من أقوال العلماء. 2 - أنَّ من ترك صلاة الجماعة -بلا عذر- استحق العقوبة الرادعة. 3 - فضل صلاتي العشاء والفجر؛ لما في الإتيان إليهما من المشقة، ولما فيهما من الأجر. 4 - أنَّما ثقلت صلاتا العشاء والفجر على أرباب البطالة والكسل؛ لضعف الداعي الإيماني في قلوبهم، فيغلب عليهم جانب الراحة والدعة والنوم، ولأنَّهم لا يُرَوْنَ في هاتين الصلاتين، فلا يُفْتقَدُون.

5 - الحديث دليل على القاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح"، فالمصلحة التي تحصل من إقامة العقوبة على المتخلفين عن الجماعة- تسبب مفسدة تعذيب من لايستحق العقوبة من النساء والذرية، فامتنع هذا لهذا. 6 - جواز القسم على الأمر المهم حيًّا أو منعًا، أو إثباتًا أو نفيًا. 7 - جواز مخادعة الفساق في أماكن فسقهم؛ للقبض عليهم متلبسين بجريمتهم، لتقوم الحجة عليهم، ويسقط اعتذارهم. 8 - أنَّ ضعيف الإيمان يقدم خسيس الدنيا، ويفضله على ما عند الله من حسن الجزاء، وعظيم الثواب، فينبغي للمؤمن أن ينتبه ويفطن لها، ويسأل الله العافية. 9 - قال في "الفتح": ولا منافاة بين الاستدلالين على وجوب الجماعة بهذا الحديث، وبين الحديث المتقدم عن ابن عمر: "صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ .. إلخ"؛ فإنَّ حديث ابن عمر يدل على صحة صلاة الفذ، وحديث أبي هريرة هذا يدل على إثم من تخلف عن الجماعة، غير أنَّه ليس بشرط في صحة الصلاة، فتصح صلاة الفذ ويأثم، إلاَّ أن يكون تخلفه عن عذر. فثبوت عذر التخلف لمرض، أو مطر، أو خوف، أو نحو ذلك لا شكَّ فيه عند أهل العلم؛ لحديث الإذن بالصلاة في الرحال في الليلة المطيرة، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر المنادي، فينادي بالصلاة: صلوا في رحالكم" في الليلة الباردة، وفي الليلة المطيرة، وكما جاء ذلك أيضًا في الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما. 10 - فيه دليل على جواز استخلاف الإمام من يصلي بالناس، إذا عرض له

شغل، ولكنه لا يعطى عذرًا لمن ينصب نفسه إمامًا بالمسجد، ثم يهمله إلى نائب ببعض ما جعل له في أرزاق وجُعُل. * خلاف العلماء: أجمع المسلمون على مشروعية صلاة الجماعة، وأنَّها من أفضل الطاعات، وإنما اختلف الأئمة في حكمها، فقد تقدم أنَّ الأئمة الثلاثة يرون أنَّ صلاة الجماعة سنة مؤكدة، لا واجبة. وأنَّ الظاهرية يرونها شرطًا لصحة الصلاة، وتبعهم ابن عقيل، وتقي الدين بن تيمية. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّها واجبة على الأعيان، ولو لم تكن في مسجد. قال ابن القيم: من تأمل السنة، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض عين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- للرجل الأعمى: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب. ولولا ما في بيوت المتخلفين عن الجماعة من النساء، لحرَّق عليهم بيوتهم بالنار، وإذا كان المنفرد لا تصح صلاته خلاف الصف، فكيف من صلَّى منفردًا في بيته؟!. وقال ابن مسعود: من سرَّه أن يلقى الله مسلمًا، فليصلِّ هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهن، فما يتخلَّف عنها إلاَّ منافق معلوم النفاق. وقال ابن عباس عن رجل لا يحضر الجماعة، هو في النار. وقال شيخ الإسلام: وجوبها على الأعيان هو إجماع الصحابة وأئمة السلف، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة. ***

322 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "أثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى المُنَافِقِيْنَ: صَلاَةُ العِشَاءِ، وصَلاَةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأتَوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا". مُتَّفقٌ علَيْهِ (¬1). وَعَنْهُ قَالَ: "أتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ أَعْمَى، فَقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلى المَسْجِدِ، فَرخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بالصَّلاَةِ؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَأَجبْ". رَوَاهُ مُسْلمٌ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - ما فيهِمَا: أي: صلاتي الفجر والعشاء من الثواب والفضل. - حبوًا: بفتح المهملة وسكون الباء وآخره واو؛ أي: مشيًا على اليدين والركبتين؛ كحبو الصبي. - حبوًا: منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: لأتوهما، ولو كان إتيانًا حبوًا. - النداء بالصلاة: المراد به: الأذان. - رجل أعمى: هو عبد الله بن أم مكتوم، كما جاء في رواية أبي داود، وغيره من أصحاب السنن. ¬

_ (¬1) البخاري (657)، مسلم (651). (¬2) مسلم (653).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - لما كان المنافقون يراؤون الناس بعبادتهم، ولا يريدون بها وجه الله تعالى، صارت الصلاة عليهم ثقيلة، وأثقلها عليهم هما الصلاتان اللتان لا يراهم فيهما الناس-: العشاء والفجر؛ فإنَّ الناس يؤدونهما في ظلام، قبل إسراج المساجد. 2 - كما أنَّ هاتين الصلاتين تقعان في وقت الراحة، والدعة، والنوم، فلا ينشط لهما إلاَّ من في قلبه وازع من إيمان بالله تعالى، يزعجه ويقلقه حتى يؤديهما، أما الذي قلبه خال من الإيمان -وأول من يوصف بذلك هم المنافقون- فلا ينشطون لهاتين الصلاتين. 3 - هاتان الصلاتان عظيمتا الأجر، كبيرتا الأمر، فلو علم هؤلاء المتخلفون عنهما، ما أعدَّ الله من الثواب لِمَنْ أداهما جماعة -لأتوهما ولو حبوًا على رُكبهم كحبو الطفل. 4 - في الحديث دليلٌ على وجوب صلاة الجماعة في المسجد؛ ذلك أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يجد رخصة لرجل أعمى، ليس له قائد يأتي به إلى المسجد، فكيف بالبصير القادر؟! 5 - فيه بيان نعمة الإيمان بالله تعالى، ورجاء ثوابه؛ فإنَّ ذلك يخفف الطاعة على صاحبها ويحببها إليه، ويسهلها له، وييسرها عليه، كما أنَّ نقمة النفاق -والعياذ بالله- تكون ظلامًا على صاحبها فيظلم قلبه، وتعمي بصيرته، وينسى نفسه، حتى تثقل عليه الطاعات، ويكره العبادات، فينزل به هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وهو على حاله من الغفلة والضلال. 6 - قال شيخ الإسلام: حديث الأعمى نصٌّ في إيجاب الجماعة، والرجل الأعمى هو ابن أم مكتوم؛ كما جاء ذلك صريحًا في بعض الروايات. وقال ابن عباس عن رجل يصلي بالليل، ولا يحضر الجماعة، فقال: هو

في النار. وقال الشافعي: أما الجماعة، فلا رخصة فيها إلاَّ من عذر. وقال النووي: الجماعة مأمور بها؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة، وإجماع المسلمين. وقال شيخ الإسلام: من أصرَّ على ترك الجماعة فهو آثم مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة. وقد مرَّ أنَّه -رحمه الله- يرى أنَّ الجماعة، شرط لصحة الصلاة في حق غير المعذور. وقال ابن كثير: وما أحسن ما يستدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة بصلاة الخوف؛ حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنَّها واجبة ما ساغ ذلك. 7 - ظاهر حديث الأعمى تقييد وجوب الإتيان إلى النداء بسماع النداء سماعًا مجردًا؛ لأنَّه قد يسمع غير مجرد، والمسألة عرفية. 8 - ترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الأعمى بترك الجماعة، ثم رده -يحتمل أنَّه كان بوحي نزل في الحال، ويحتمل أنَّه قد تغيَّر اجتهاده -صلى الله عليه وسلم-. ***

323 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ، فَلاَ صَلاَةَ لَهُ إِلاَّ مِنْ عُذُرِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ. وإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضيعيف؛ قال في "التلخيص": رواه أبو داود والدارقطني، وفيه: أبو جناب ضعيف ومدلس، وقد ضعفه الحافظ ابن الملقن من هذا الوجه، وقد رواه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق أخرى مرفوعًا: "من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلاَّ من عذر"، لكن قال الحاكم: وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة. وله شواهد منها: حديث أبي موسى، رواه الحاكم والبيهقي، وقال: الموقوف أصح، ورواه العقيلي عن جابر وضعفه، ورواه ابن عدي عن أبي هريرة وضعفه. * مفردات الحديث: - عذر: بضم الذال للاتباع، وتسكن، وجمعه: "أعذار"، والعذر: الحجة التي يعتذر بها، وما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه، فيقال: معذور؛ أي: غير ملوم فيما صنع. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (793)، الدارقطني (1/ 420)، ابن حبان (5/ 450)، الحاكم (1/ 245).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث حجة قوية لمن يقول: إنَّ صلاة الجماعة فرضُ عينٍ، وأنَّه يجب أداؤها بالمسجد. 2 - قوله: "من سمع النداء" مفهوم الحديث أنَّ الذي لا يسمع النداء؛ لبعده عن مكان النداء -فإنه لا يجب عليه الحضور، فأما من كان بمكان بحيث يسمعه، فإنَّه يجب عليه الحضور. 3 - أما سماع النداء من مكان بعيد يشق الوصول إليه بواسطة مكبر الصوت-: فهذا سماع لا يتعلق به حكم، فلا يجب على سامعه الحضور؛ فإنَّ العبرة بالمعاني المرادة في هذه الفقرة، وفي التي قبلها، ومراد الشارع معروف من الأمر. 4 - أما قوله: "فلا صلاة له"، فإنَّ النفي في الأصل يكون نفيًا لذات الشيء، فإن لم يمكن نفي الذات كان نفيًا لحقيقته الشرعية، وهذا معناه نفي الصحة، فإن لم يمكن فهو نفي لكمال الشيء. وفي هذا الحديث نفي الذات متعذر؛ لأنَّ سورة الصلاة موجودة، ونفي الصحة ممكن، لو لم يعارضه أحاديث تنافيه، وتصحح صلاة المنفرد، ولو بدون عذر، ومنها: حديث يزيد بن الأسود الآتي. فيكون الجمع بين هذا الحديث، وبين ما عارضه من الأحاديث-: هو أنَّ النفي يكون لنفي الكمال، وتكون صلاة المنفرد بلا عذر صلاة ناقصة، قليلة الثواب، إلاَّ أنَّها مجزئة للذمة، مع الإثم الذي حمله المتخلف عن الجماعة بلا عذر. قال الطيبي: اتَّفقوا على أنَّه لا رخصة في ترك الجماعة لأحدٍ، إلاَّ من عذرٍ؛ لحديث ابن عباس، وحديث الأعمى. قال عطاء: ليس لأحد رخصة أن يدع الجماعة إذا سمع النداء، لا في

الحضر، ولا في السفر. 5 - قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنَّ الله شرع لنبيه سنن الهدى، وأداء هذه الصلوات الخمس في المساجد من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلاَّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" [رواه مسلم (654)]. 6 - قال ابن القيم: ومن تأمَّل السنة، تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرض عين، إلاَّ لعارض يجوز معه ترك الجماعة، وقد علم من الدين بالضرورة أنَّ الله شرع الصلوات الخمس في المساجد، كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]. والنصوص من الكتاب والسنة كثيرة. 7 - قال جمهور العلماء: صلاة الفرض إذا أتى بها المصلي على وجهها الكامل ترتَّب عليه شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإن أداها على غير وجهها الكامل، حصل سقوط الفرض عنه دون حصول الثواب. ***

324 - وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الأسْوَدِ -رَضِيَ الله عَنْهُ-: "أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِيَا، فَدَعَا بهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا مَنَعَكُمَا أنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالاَ: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنا، قَالَ: فَلاَ تَفْعَلاَ، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أدْرَكتُمَا الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَصَلِّيَا معَهُ، فَإنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلاَثَةُ، وَصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّان (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيح؛ قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني (1/ 413) وابن حبان والحاكم كلهم من طريق: يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، ويعلى بن عطاء من رجال مسلم، وجابر وثَّقه النسائي وغيره، فسند الحديث صحيح. *مفردات الحديث: - إذا: فجائية، بعلامة دخولها على الجملة الاسمية. - تَرْعُد: -بفتح التاء وسكون الراء المهملة وضم العين المهملة فدال مهملة- أي: ترجف من الخوف. - فرائصهما: الفريصة هي: اللحمة بين الجنب والكتف. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 160)، أبو داود (575)، الترمذي (219)، النسائي (858)، ابن حبان (6/ 155).

- رحالنا: مسكن الإنسان وما يتبعه من أثاث، وفي الحديث: "إذا ابتلت النعال، فالصلاة في الرحال". - فلا تفعلا: "لا" ناهية، والفعل بعدها جزم بها بحذف النون، والألف فاعل. - أدركتما: يقال: أدركت الشيء: إذا طلبته فلحقته. - نافلة: يعني: الصلاة الأولى لهما فريضة، وهذه المُعَادَةُ تطوع، والنافلة للزيادة في الأجر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على استحباب إعادة الجماعة لمن صلَّى، ثمَّ جاء المسجد، فوجد الناس يصلون، أو أقيمت الصلاة، وهو في المسجد. 2 - يدل على صحة الصلاة في البيت، ولو من دون عذر، ولكنه يأثم بترك الجماعة في المسجد بدون عذر، كما تقدم في حديث أبي هريرة وغيره. 3 - يدل على أنَّ صلاة الفريضة هي الأولى؛ سواء كانت في جماعة أو صلاها وحده، وأنَّ المعادة هي النافلة. 4 - فيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون بالحكمة والموعظة الحسنة. 5 - فيه حُسْن خُلقِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحُسن تعليمه؛ فإنَّه سأل في بادىء الأمر عن سبب عدم دخولهما في الصلاة، فلما علم أنَّه لا عذر لهما، أرشدهما إلى ما ينبغي لهما فعله، كل ذلك بلطف وتوجيه حسن. 6 - حضور الجماعة، وعدم الدخول مع الإمام فيها مما يسيء الظن؛ بأنَّ المتخلف يكره الإمام، أو بأنَّه لا يصلي، أو غير ذلك من الظنون، والإنسان يطلب منه دفع سوء الظن عن نفسه، ولا يعتبر هذا رياء. 7 - أنَّ العبادة إذا انتهت لا يجوز إلغاؤها، وإنما قد وقعت موقعها، ولو صلح إلغاؤها لأَمرَ هذين الرجلين بإلغاء الصلاة التي وقعت في البيت، وجعل الفريضة هي التي مع الجماعة، والأولى نافلة.

325 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبَّرَ فَكبِّروا، وَلاَ تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكبرِّ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكعُوا، وَلاَ تَرْكعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبنَّا لَكَ الحَمْدُ، وَإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَلاَ تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وإِذَا صلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أجْمَعِيْنَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيْحَيْنِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ وورد عن جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، منهم: أنس، وعائشة، وجابر، وأبو هريرة. فأما حديث أبي هريرة، وهو حديث الباب، فله عدة طرق: الأولى: الأعرج عنه، أخرجه البخاري (701)، ومسلم (414)، وأحمد (7104). الثانية: أبو علقمة عنه، رواه مسلم (416). الثالثة: أبو يونس مولى أبي هريرة عنه، أخرجه مسلم (414). الرابعة؛ أبو صالح عنه، رواه أبو داود (603) والنسائي (921)، وزاد: "وإذا قرأ فأنصتوا"، قال أبو داود: هذه الزيادة ليست بمحفوظة، وقد صحَّت هذه الزيادة عند مسلم، وأخرجها في صحيحه (404)، ومما يقوي هذه ¬

_ (¬1) أبو داود (603)، البخاري (734)، مسلم (417).

الزيادة أنَّ لها شاهدًا من حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (404) وغيره. * مفردات الحديث: - إنَّما: للحصر، وهو إثبات الحكم في المحصور فيه؛ كوجوب الاقتداء في هذا الحديث، ونفيه عمَّا عداه. - جُعِلَ الإمام: مبني للمجهول، والجعل يأتي لمعنيين: أحدهما: قدري، والآخر: شرعي، فإن كان بمعنى الخلق فهو قدري؛ كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} [الحجر]، وإن كان أمرًا، أو نهيًا، فهو شرعي؛ لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] والفرق بين الجعلين: أنَّ القدري لا يتخلف، بخلاف الشرعي فقد يتخلف. - ليؤتَمَّ به: أي: لِيُقْتَدى به في الصلاة، ويتابع. - فإذا كبر: "إذا" ظرف زمان للمستقبل، متضمن معنما الشرط، مضاف إلى الجملة بعده. - فكبروا: الفاء رابطة لجواب الشرط، وهي عاطفة، وتفيد الترتيب مع التعقيب؛ فتكون أفعال المأموم عقب أفعال الإمام، بلا تراخ. - ولا تكبروا حتى يكبر: جاءت لتأكيد ما قبلها، بإبراز المفهوم بصورة المنطوق. - ربنا ولك الحمد: جاء في بعض روايات الحديث بحذف الواو، وبعضها بإثباتها؛ أي: "ربنا ولك الحمد"، فمن أثبتها قال: إنَّ فيها معنى زائدًا، ومن حذفها قال: الأصل عدم التقدير. قال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح. - فصلوا قعودًا: أي: قاعدين وهو الحال. - أجمعين: توكيد معنوي لواو الجماعة في "فصلوا".

وأما "قعودًا" فهي حال من واو الجماعة أيضا، نصب على الحال، وأكثر الروايات "أجمعون" بالرفع تأكيدًا لضمير الجمع قي "فصلوا". * ما يؤخذ من الحديث: الحديث يدل على الآتي من الأحكام: 1 - وجوب متابعة الإمام، وأنَّه القدوة في تنقلات الصلاة، وسائر أعمالها وأقوالها؛ فلا يجوز الاختلاف عليه. 2 - أنَّ الأفضل أن تأتي تنقلات المأموم بعد تنقلات الإمام، فتكون عقبه، فلا تخلف في الانتقال من ركن إلى ركن؛ ذلك أنَّه عطف بين تنقلات الإمام وتنقلات المأموم بالفاء، الدالة على الترتيب والتعقيب. 3 - أنَّ مسابقة الإمام محرَّمة، وإذا وقعت عمدًا بطلت صلاته، وسيأتي بيان ذلك وتفصيله إن شاء الله تعالى. 4 - أنَّ التخلف عنه كمسابقته، لا تجوز. 5 - أنَّ المشروع في حق الإمام والمنفرد هو قول: "سمع الله لمن حمده" عند الرفع من الركوع، وأنَّ ذلك لا يشرع في حق المأموم. 6 - يستفاد من الحديث أنَّ حالة المأموم تنقسم إلى أربع حالات: إحداها: أن يسبقه، فهذا محرم مع العمد، ومبطل للصلاة على القول الراجح، كان كان السبق في تكبيرة الإحرام، فإنَّ الصلاة لم تنعقد. الثانية: أن يوافق المأموم في أقواله وتنقلاته، فهذا مكروه، وبعضهم حرَّمه، ولا يبطل الصلاة إلاَّ في تكبيرة الإحرام، فإنَّ الصلاة لم تنعقد معه. الثالثة: أن يتخلف عنه، والتخلف كالسبق في أحكامه. الرابعة: أن يتابعه في أقواله وأفعاله، وهذا هو المشروع الذي يدل عليه الحديث، المرتِّب فعل الماموم بعد الإمام بـ"الفاء" المفيدة للترتيب والتعقيب.

7 - قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" الائتمام: هو الاقتداء والاتباع، ومن شأن التابع ألا يسابق متبوعه ولا يوافقه، بل يأتي على أثره. 8 - أنَّ المشروع في كل من الإمام والمأموم والمنفرد بعد الرفع من الركوع -قول "ربنا ولك الحمد ... إلخ"؛ فـ"سمع الله لمن حمده" هو الذكر المناسب من الإمام، وأما "ربنا ولك الحمد" فهي مناسبة من الكل. 9 - أنَّ الإمام الراتب إذا صلَّى قاعدًا لعذر، فإنَّ من تمام الاقتداء والمتابعة أن يصلي المأمومون قعودًا، ولو من دون عذر. 10 - قال شيخ الإسلام: إنَّ الحديث يدل على أنَّ المأموم إذا كان يرى مشروعية جلسة الاستراحة مطلقًا، والإمام لا يراها أنه يتابع إمامه، ولا يجلس لها، وبالعكس إذا كان الإمام يراها، والمأموم لا يراها، فإنه يجلس، وهذا كله تحقيق للمتابعة. 11 - مذهب الإمام أحمد: أنَّها لا تصح إمامة العاجز عن القيام إلاَّ بمثله، إلاَّ الإمام الراتب، فإذا عجز عن القيام لمرض يرجى زواله، صحَّت خلفه، ويصلون وراءه جلوسًا ندبًا، ولو مع قدرتهم على القيام، إن ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، وعجز عن القيام أثناءها فجلس، صلُّوا خلفه قيامًا وجوبًا. 12 - اتَّفق العلماء على تحريم مسابقة المأموم لإمامه، واختلفوا في بطلان صلاته: فذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تبطل. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ من سبق إمامه بركن كركوع وسجود، فعليه أن يرجع ليأتي به بعد الإمام، فإن لم يفعل عمدًا حتى لحقه الإمام فيه، بطلت صلاته. 13 - قال الشيخ تقي الدين أيضًا: اتَّفق الأئمة على تحريم مسابقة الإمام عمدًا، وهل تبطل الصلاة بمجرده؟ قولان في مذهب أحمد وغيره، وقد

استفاضت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما أجمعوا على أنَّها لا تبطل إذا سبقه سهوًا، إلاَّ أنَّه لا يعتد بما سبق به إمامه؛ لأنَّه فعله في غير محله، ووجه عدم بطلانها بالسبق سهوًا: أنَّها زيادة من جنس الصلاة وقعت سهوًا لا عمدًا. وقال الشيخ تقي الدين: الصحيح ما ذكره الإمام أحمد في رسالته من أنَّ مجرد السبق عمدًا يبطل الصلاة؛ لأنَّ الوعيد للنهي، والنهي يقتضي الفساد. 14 - الحديث حجة في أنَّ المأموم لا يجمع بين التسميع والتحميد عند الرفع من الركوع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وإنما الذي يجمع بينهما هو الإمام والمنفرد. بخلاف الشافعية: فإنَّهم يرون الجميع بينهما؛ لما في مسلم (476) من "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع، قال: سمع الله لمن حمده، اللهمَّ ربنَّا ولك الحمد" وقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي". قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا في أن المنفرد يقول: سمع الله لمن حمده، ربَّنا ولك الحمد. وقال ابن حجر: فأما الإمام فيسمع ويحمد، يجمع بينهما؛ لما ثبت في البخاري أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بينهما. 15 - "سمع الله لمن حمده" محلها عند رفع رأسه من الركوع، وأما "ربَّنا ولك الحمد" فمحلها بعد الاعتدال من الركوع. 16 - أنَّ تكبيرة المأموم تأتي بعد تكبيرة الإمام بلا تخلف؛ سواء في تكبيرة الإحرام، أو في تكبيرات الانتقال، فإن وافقه في التكبير، فإن كبَّر الإمام والمأمومون معًا، ففي تكبيرة الإحرام، لا تنعقد صلاة المأموم، وفي سائر التكبيرات يُكره ذلك.

17 - يقاس ما لم يذكر من أعمال الصلاة على ما ذكر منها هنا، فيستحب المتابعة والاقتداء؛ فإنَّ قوله: "إنَّما جُعل الإِمام؛ ليُوْتَمَّ به" أداة حصر، تشمل جميع أعمال الصلاة. 18 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يصح ائتمام مفترض بمتنفل، ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ولا عكسه، ولا كل مفترض خلاف مفترض لفرض آخر، مخالف له وقتًا أو اسمًا؛ لحديث: "فلا تختلفوا" والرواية الأخرى عن الإمام صحة ذلك كله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنَّه -رحمه الله- يجيز أن يصلي شخص خلف شخص آخر، يخالفه في النية والأفعال، فمن صلَّى العشاء خلف من يصلي المغرب، إذا سلم إمامه قام وأتى بالركعة الرابعة، ومن صلَّى المغرب خلف إمام يصلي العشاء فهو مخيَّر، فإما أن ينتظر حتى يلحقه الإمام في التشهد فيسلم بعده، وإما أن ينوي الانفراد، ويسلم قبله. ومثله لو صلَّى العشاء خلف من يصلي التراويح، فإذا سلم الإمام من الركعتين، قام وأتي بالركعتين الباقيتين. 19 - عموم الحديث بمنع مخالفة المأموم للإمام يشمل النية؛ فلا يجوز أن يصلي الإمام فريضة بمن يصلي نافلة، وبالعكس، لكن حديث معاذ مخصص لهذا الحديث في مسألة اختلاف النية؛ فإنَّ معاذًا يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الفريضة، ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، هي له نافلة ولهم فريضة. 20 - قال شيخ الإسلام: مسابقة الإمام عمدًا حرامٌ باتفاق الأئمة، فلا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله، وقد استفاضت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ لأنَّ المؤتم تابع لإمامه، فلا يتقدم على متبوعه، وفي بطلان صلاته قولان معروفان للعلماء.

* خلاف العلماء: أجمع الأئمة على وجوب القيام في صلاة الفرض، وأجمعوا على أنَّ إمامة العاجز عن القيام بالقادر عليه، لا تصح إذا كان الإمام ليس إمامًا راتبًا. واختلفوا في صحة إمامة الإمام الراتب المرجو زوال علته، إذا صلَّى قاعدًا بالمأمومين القادرين على القيام: فذهب إلى جوازها الإمام أحمد؛ عملاً بهذا الحديث، ولصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه قاعدًا حين انفكت قدمه، وصلاته -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته. وذهب الحنفية إلى: أنه يصح اقتداء قائمٍ بقاعدٍ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلَّى في مرض موته جالسًا، والناس خلفه قيامًا، وهي آخر صلاة صلاَّها إمامًا. وذهب مالك والشافعي إلى: أنَّها لا تصح إمامة العاجز عن القيام بالقادر عليه مطلقًا، سواء كان هو الإمام الراتب، أو لا؛ وسواء رُجي زوال علته، أو لا. ودليلهم: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تختلفوا على إمامكم" [رواه مسلم (414)]. ***

326 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رأى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ: "تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأُتمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تأخرًا: أي: تخلفًا، وبُعْدًا في صفوف الصلاة. - ليأتم: بلام الأمر الساكنة، أو المكسورة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الدنو من الإمام، فأوائل الصفوف خير للرجال من أواخرها؛ لحديث: "خير صفوف الرجال أولها"، ولحديث: "لو يعلم الناس ما في الصف الأول، لاستهموا عليه". 2 - أنَّ الإمام هو القدوة في الصلاة في جميع أعمالها وأقوالها، فلا يُخْتَلَف عليه فيها. 3 - في الصلاة الانضباط والنظام الإسلامي؛ ليتعود المسلمون على حسن التنظيم، وجمال الترتيب، والامتثال والطاعة بالمعروف، فهو من جملة أسرار صلاة الجماعة. 4 - أنَّ المامومين الذين لا يرون الإمام، ولا يسمعونه، يقتدون بمن أمامهم من المأمومين المتقدمين. 5 - قوله: "وليأتم بكم من بعدكم" يحتمل أن يراد به الاقتداء في الصلاة، فيليه العلماء ثم العقلاء، والصف الثاني يقتدون بالصف الأول. ¬

_ (¬1) مسلم (438).

ويحتمل حمل العلم عنه، فليتعلم منه -صلى الله عليه وسلم- الصحابة، وليتعلم منهم التابعون، وهكذا. 6 - المشهور من مذهب الإمام أحمد ما قاله صاحب "شرح العمدة": يصح اقتداء مأموم بإمام، وهما في مسجد مطلقًا؛ سواء رأى إمامه أو رأى من خلفه، أو لا؛ لأنَّ المسجد معد للتجمع بهم في موضع الجماعة، وكذا يصح اقتداء مأموم خارج المسجد إن رأى الإمام، أو بعض المأمومين. ولا يصح إن كان بين الإمام والمأموم طريق، أو نهر جارٍ، ولو سمع التكبير. 7 - قال شيخ الإسلام: صلاة الجماعة سميت بذلك؛ لاجتماع المصلين بالفعل مكانًا وزمانًا، فإن أخلُّوا بذلك، كان منهيًّا عنه باتفاق الأئمة. 8 - بهذا النقل عن شيخ الإسلام الذي حكى فيه اتفاق الأئمة، نعلم أنَّها لا تصح الصلاة خلاف المذياع، والتلفاز، إذا كان المقتدي ليس مع الجماعة، وإنما يفصل عنه مسافة بعيدة؛ لأنَّه ليس مع الجماعة في مكان التجمع. 9 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ المأموم إذا أمكنه الاقتداء بإمامه بالرؤية، أو السماع -أنَّه يصح اقتداؤه؛ سواء كان في المسجد، أو خارج المسجد، ولو حال بينهما طريق؛ لأنَّه لا دليل على المنع. وقال الإمام النووي: يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام؛ سواء صلاها في المسجد، أو غيره بالإجماع، ويحصل العلم له بذلك بسماع الإمام، أو من خلفه، أو جواز اعتماد واحد من هذه الأمور، واشترط النووي -رحمه الله- ألا تطول المسافة في غير مسجد، وهو قول جمهور العلماء. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: متى يستحب أن يقام إلى الصلاة؟

فذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه يقوم عند قول المقيم: "حيَّ على الصلاة"؛ وبه قال سويد بن غفلة والنخعي، واحتجوا يقول بلال: "لا تسبقني بآمين". وذهب مالك وأحمد إلى: أنَّه يقوم عند قول المقيم: "قد قامت الصلاة" قال ابن المنذر: على هذا أهل الحرمين. وذهب الشافعي إلى: أنه يقوم إذا فرغ المقيم من الإقامة. وبه قال عمر بن عبد العزيز ومحمَّد بن كعب، وسالم، وأبو قلابة، والزهري، وعطاء. قال في "المغني": وإنما قلنا: إنَّه يقوم عند قوله: لاقد قامت الصلاة"؛ لأنَّ هذا خبر بمعنى الأمر، ومقصوده الإعلام ليقوموا، فيستحب المبادرة إلى القيام؛ امتثالاً للأمر، وتحصيلاً للمقصود. وذكر ابن رشد قولاً للإمام مالك آخر، وهو أنَّه لم يحد في ذلك حدًّا، فإنَّه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس، وليس في هذا شرع مسموع، إلاَّ حديث أبي قتادة أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني" [رواه البخاري (637)] فإن صحَّ وجب العمل به. قلْتُ: الحديث في الصحيحين، وهذا لفظ البخاري في "باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام؟ ". والمستحب عند جمهور العلماء -ومنهم الحنابلة:- أن يكبر الإمام والمقتدون إذا فرغ من الإقامة. قال في "المغني": وعليه جُل الأئمة في الأمصار. ***

327 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: "احْتَجَرَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ، فَصَلَّى فيها، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءوا يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ ... " الحَديث. وفيه: "أفْضَلُ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بيتِهِ إلاَّ المَكْتُوبة" مُتَّفقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - احتجر حجرة: بالراء؛ أي: اتَّخذ شيئًا كالحجرة. - بخصفة: أي: من حصير، فهي منسوجة من سعف النخل. - فتتبع إليه رجال: فتتطلبه رجال؛ ليقتدوا به في صلاته. - المكتوبة: المفروضة، وهي الصلوات الخمس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز اقتداء المأموم ولو كان الإمام في حجرة لا يراه المأموم، أو كان أحدهما في السطح، والآخر في المكان الأسفل، فالعبرة بإمكان الاقتداء إذا كانا جميعًا بالمسجد، فجواز هذا محل اتفاق بين الأئمة. 2 - جواز حجز مكان في المسجد، والاختصاص به للعبادة والراحة، إذا كان هناك حاجة، وكان لا يضيق بالمصلين. 3 - أنَّ صلاة النافلة بالبيت أفضل؛ لتنوير البيت بالصلاة، والبُعد عن الرياء والسمعة، أما المكتوبة فالواجب الإتيان بها في المسجد، إلاَّ من عذر، هذا في حق الرجال المكلفين. 4 - جواز تعيين نية الجماعة في الصلاة من الإمام والمأموم، ولو لم يحصل ذلك ¬

_ (¬1) البخاري (731)، مسلم (781).

إلاَّ في أثناء الصلاة، فتنتقل نية المنفرد إلى نية الإمام، وهذا لا يجوز في مشهور مذهب أحمد، ما لم يكن يظن حضور مأموم يأتي معه، ويأخذونها من صلاة ابن عباس مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. 5 - جواز اقتداء المتنفل بالمفترض، فإنَّ صلاة التهجد في حقه -صلى الله عليه وسلم- واجبة، وفي حق أمته سنة، لا واجبة، وهذا هو المشهور من المذهب، أما اقتداء المفترض بالمتنفل ففيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا تجوز، وهي المشهور من المذهب. والأخرى: تجوز، وهي الصحيحة دليلاً؛ لقصة في الصحيحين. 6 - فيه دليل على أنَّ الحائل بين الإمام والمأمومين غير مانع من صحة الصلاة والاقتداء، وقال النووي: يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقال الإمام؛ سواء صليا في المسجد، أو في غيره، أو أحدهما فيه، والآخر في غيره بالإجماع. اهـ. وإن كان أحدهما خارج المسجد، ورأى الإمام أو المأمومين، ولو لم تتصل الصفوف صحت؛ لانتفاء المفسد، ووجود المقتضي للصحة، وهو الرؤية، وإمكان الاقتداء. وفي "الإنصاف": المرجع في اتصال الصفوف إلى العرف، على الصحيح من المذهب. قال في "المغني": فلا يتقدر بشيء، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأنَّه لا حدَّ في ذلك، ولأنَّه لا يمنع الاقتداء، فإنَّ المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية، أو سماع الصوت، واشترط النووي ألا تطول المسافة في غير المسجد، وهو قول جمهور العلماء. ***

328 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ العِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَتُرِيدُ أنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّانًا، إذَا أمَمْتَ النَّاسَ، فَاقْرَأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفظُ لمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فتَّانًا: الفتَّان بفتح الفاء، جاء على صيغة المبالغة، والمراد: أتريد أن تفتن الناس عن دينهم، بتثقيل العبادة عليهم. - أتريد: بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، ومعناه: أأنتَ منفِّر؟!. - إذا أممت الناس: إذا صليت إمامًا بهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز إمامة المتنفل بالمفترض؛ فإنَّ صلاة معاذ الأولى فريضة، وصلاته بقومه هي النافلة. 2 - أنَّ الإمامة ينبغي أن تكون في أصحاب الفضل والصلاح والتقى والعلم، فهذا معاذ يخرج ليؤم قومه من المدينة إلى ضاحيتهم، وهم مغتبطون بذلك؛ لما يعلمون عنه من الخير -رضي الله عنه- والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّهم على ذلك. 3 - أنَّه لا ينبغي للإمام أن يشق على المأمومين بتطويل الصلاة، ففيهم من لا يتحمل التطويل من الكبر، أو الضعف، أو ذوي الحاجات. 4 - قال الحافظ: من سلك طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيجاز والإتمام لا يُشتكى منه ¬

_ (¬1) البخاري (705)، مسلم (465).

تطويل، وصفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- معلومة، وعليه فالتخفيف المأمور به أمر نسبي، يرجع إلى ما فعله -صلى الله عليه وسلم-، وواظب عليه، وأمر به، لا إلى شهوة المأمومين؛ ففي البخاري (708)، ومسلم (469) عن أنس قال: "ما صليتُ خلف إمام قط أخف صلاة، ولا أتمَّ صلاة من النبي -صلى الله عليه وسلم-". قال في "المبدع": وقد حزروا صلاته -صلى الله عليه وسلم- فكان سجوده قدر ما يقول: "سبحان ربي الأعلى" عشر مرات، وركوعه كذلك، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" [رواه البخاري]، قال شيخ الإسلام: ليس له أن يزيد على قدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالبًا ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله غالبًا، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزيد وينقص للمصلحة. قال ابن عبد البر: التخفيف للأئمة أمرٌ مجمع عليه، لا خلاف في استحبابه، على ما اشترط من الإتمام. 5 - أنَّ الفتنة تكون حتى في أعمال الخير، إذا خرج بها الإنسان عن حدها، فإضجار الناس في العبادة، وتثقيلها على نفوسهم -من الفتنة. 6 - أنَّ القراءة بهذه السور المذكورة وأمثالها في القدر من الوسط في الصلاة، والمشروع أن يكون الركوع والسجود مناسبًا للقراءة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في صحة إمامة المتنفل للمفترض: فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى: عدم الصحة، مستدلين بحديث: "إنما جعل الإمام؛ ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، واختلاف نيتهما اختلاف عليه. وذهب الشافعي والأوزاعي والطبري إلى صحة ائتمام المفترض بالإمام المتنفل، وهي رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام وابن القيم، مستدلين: بحديث معاذ في الصحيحين، ولصلاته -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الخوف صلاتين، كل طائفة بصلاة يسلم بينهما. [رواه أبو داود].

329 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي قِصَّةِ صَلاَةِ رَسُولِ الله بِالنَّاسِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، قَالَتْ: "فَجَاءَ حَتَّى جَلسَ عَنْ يَسَارِ أبِي بكْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأبُو بكرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أبُو بكرٍ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلاَةِ أبِي بكرٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حينما كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. مريضًا قَال: "مُرُوا أبا بكرٍ، فَليصل بالناس"، فصار أبو بكر -رضي الله عنه- يصلي بالناس، فأحس النبي -صلى الله عليه وسلم- نشاطًا، فجاء والناس في الصلاة، فجلس عن يسار أبي بكر، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإمام، يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر يصلي قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر؛ هكذا في الصحيحين. 2 - جواز إمامة العاجز عن القيام بالقادرين عليه، وخصت الحنابلة هذا بالإمام الراتب؛ قصرًا للحديث على أضيق مدلولاته. 3 - جواز المبلِّغ عن الإمام في الصلاة، إذا كان هناك حاجة من سعة في المكان وكثرة المصلين، ففي رواية مسلم: "أنَّ أبا بكر كان يُسْمِعُهم التكبير". 4 - أنَّ المأموم يكون عن يمين الإمام؛ حيث جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يسار أبي بكر، رضي الله عنه. 5 - جواز نية الإمامة في الصلاة ولو في أثنائها، كما يجوز أن ينتقل الإمام مأمومًا أثناء الصلاة، كفعل أبي بكر. 6 - وقع اختلاف بين العلماء في هذه القصة: هل أبو بكر بعد أن جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) البخاري (713)، مسلم (418).

استمرَّ إمامًا، أم أنَّه مأموم والإمام هو النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ الراجح أنَّه صار مأمومًا، لا إمامًا؛ لأمور كثيرة، منها: (أ) قول عائشة: "يقتدي أبو بكر بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر". (ب) أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لا يرضى أن يكون إمامًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما حدث في ذهابه -عليه الصلاة والسلام- للإصلاح في بني عمرو بن عوف في قباء. (ج) جاء في رواية البخاري: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جلس عن يسار أبي بكر"، وهذا هو مجلس الإمام من المأموم. وهناك أدلة أخر. ***

330 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإنَّ فِيهمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ والضَّعِيْفَ وَذَا الحَاجَةِ، فَإذَا صَلَّى وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كيْفَ شَاءَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذا أمَّ أحدكم: "إذا" شرطية، و"أمَّ" شرطها. - فليخفف: هو الجواب؛ فلذا دخلت الفاء. - فإنَّ فيهم: تعليل. - الصغير: نصب على أنَّه اسم "إنَّ"، وما بعده عطف عليه، وأما خبر "إنَّ" فهو "فيهم". - الضعيف: المراد به: ضعيف الخلقة؛ من مرضٍ، أو كبرٍ، أو نحافةٍ، وغيرها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تخفيف الصلاة، إذا أمَّ الناس في صلاة فريضة أو نافلة، والحكمة في ذلك وجود الصغير والكبير والضعيف، ممن لا يطيقون إطالة الصلاة؛ لضعفهم وعجزهم. وكذلك صاحب الحاجة، الذي فكره عند حاجته، ويخاف فواتها، أو فسادها، أو نحو ذلك. 2 - يؤخذ منه أنَّه لو كان العدد محدودًا، وآثروا التطويل، أنَّه جائز؛ لأنَّهم أصحاب الحق في ذلك، وقد جاءت الرغبة منهم، فلا بأس إذن بالتطويل. ¬

_ (¬1) البخاري (703)، مسلم (467).

3 - أما إذا صلَّى وحده، فليصل ما شاء؛ لأنَّ ذلك راجع إلا رغبته ونشاطه، وينبغي تقييده بما لا ينشغل به عن الواجبات. 4 - فيه مراعاة الضعفاء والعجزة في جميع الأمور، التي يشاركهم فيها الأقوياء؛ سواء في الأمور الدينية، أو الاجتماعية؛ لأنَّه الذي يجب مراعاته والعمل به. 5 - قال في "تهذيب العمدة": ويسن للإمام تخفيف الصلاة معه الائتمام، ومحل التخفيف ما لم يُؤْثِر مأمومٌ التطويل، وتكره سُرعة تمنع مأمومًا فعل ما يسن. ***

331 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ أَبِي: "جِئْتكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَقًّا؛ قَالَ: فَإذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْثَرُكُمْ قُرآنًا، قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أكْثَرَ مِنِّي قُرآنًا، فَقَدَّمُونِي، وَأنَا ابْنُ سِتِّ أو سَبْعِ سِنِيْنَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاودَ وَالنَّسَائيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه أنَّ الأذان فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين. 2 - فيه أنَّ الأحق بالإمامة في الصلاة من هو أكثر حفظًا للقرآن الكريم. 3 - فيه جواز إمامة من لم يبلغ من المميزين حتى في الفرض، فإن قيل: لعلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم عن إمامته قومه؟ فالجواب: أنَّ الله قد علم ذلك بلا شك، وكون الله تعالى أقرَّه، ولم يَنْزِل على نبيه وحيٌ على بطلان إمامته -دليلٌ على أنَّ ما فعله حق، وليس ببَاطل. 4 - فيه أنَّ التمييز يكون بالسادسة أو السابعة، حسب قوة إدراك الأطفال، وكونها سبعًا، عند بعض الفقهاء، إنَّما هي أمرٌ أغلبيٌّ، علق به الحكم. 5 - فيه أنَّ القران سبب لرفعة الإنسان، وعلو مقامه في الدنيا والآخرة. 6 - وفيه أنَّ الإمامة أفضل من الأذان؛ لأنَّ الإمامة أناطها بالعالم، أما الأذان فأجازه من أي أحد، ولأنَّ الإمامة يتعلَّق بها -من أحكام الصلاة- ما لا يتعلق بالأذان. 7 - روى البخاري أنَّ سبب كثرة حفظ عمرو بن سلمة للقرآن، أنَّه كان وهو ببلده ¬

_ (¬1) البخاري (4302)، أبو داود (585)، النسائي (2/ 80).

يتلقى الركبان القادمين من المدينة، فيأخذ منهم ما حفظوه، فحصل له من حفظ كتاب الله الشىء الكثير، فالعلم بالجِد والاجتهاد. * خلاف العلماء: ذهب الحنفية إلى: عدم صحة إمامة الصبي، الذي دون البلوغ في فرض الصلاة ونفلها. وذهب المالكية والحنابلة إلى عدم صحة إمامته في الفرض دون النفل. وذهب الشافعية إلى: صحة إمامته في الفرض والنفل. ودليل الأئمة الثلاثة: ما روي عن ابن عباس: "لا يؤم الغلام، حتى يحتلم"، ولأنَّ صلاة الصبي نافلة في حقه، فصلاته بالمفترضين اختلاف في النية بين الإمام والمأمومين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-. "فلا تختلفوا عليه"، وأيضًا لا يؤمَن على الصبي، ولا يستوثق من إتيانه بشروط الصلاة. أما دليل الشافعية: فالحديث الذي معنا، وأنَّ من صحَّت صلاته لنفسه صحَّت لغيره، وهو رواية عن الإمام أحمد، ويشهد لها عموم قوله: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" [رواه مسلم (673)]، ومن جازت إمامته في النفل، جازت في الفرض، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السمعدي، رحمَهُ اللهُ تعالى. ***

332 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تعَالَى، فَإِنْ كانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإنْ كانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا- ولاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَقْعُدْ فِي بيْتِهِ عَلَى تَكْرمَتِهِ إِلاَّ بإذْنهِ". رَوَاه مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ مفردات الحديث: - يؤم القوم أقرؤهم: إخبار بمعنى الأمر؛ كما في قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} [النور: 3]. - هِجْرَة: بكسر الهاء وسكون الجيم المعجمة التحتية ثم راء فتاء التأنيث، والهجرة: هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ولا يزال حكمها باقِيًّا. - سِلْمًا: بِكسر السين المهملة، وسكون اللام، ثم ميم؛ أي: إسلامًا. - سُلطانه: المراد به: ولايته؛ سواء كانت ولاية عامة، أو ولاية خاصة. - تكرمته: بفتح المثناة الفوقية وسكون الكاف وكسر الراء، المراد به: الفراش، ونحوه مما يبسط، ويفرش لصاحب المنزل، ويختص به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب ولاية الإمامة للأفضل فالأفضل، والفضل هو بالعلم الشرعي ¬

_ (¬1) مسلم (673).

والعمل به. 2 - الواجب أن يكون هذا درسًا للمسلمين في عموم الولايات، فلا يُقدَّم فيها ويولى عليها؛ إلاَّ من هو أهل لها، واجتمع فيه الشرطان العظيمان: الأمانة فيه، والقوة عليه؛ كما قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26]، وما ذلَّ المسلمون وفقدوا عزهم، وعمَّهم الفساد، إلاَّ بترك هذه الأمانة وإضاعتها، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة، فقال أعرابي: كيف يا رسول الله! إضاعتها؟ قال: إذا أُسْنِدَ الأَمْر إلى غير أهله". 3 - تكون الإمامة لمن هو أكثر حفظًا لكتاب الله تعالى؛ لأنَّ كتاب الله تعالى أساس العلوم النافعة، فمن كان فيه أعلم كان من غيره أفضل، فالعبرة بمن هو أعلم بكتاب الله وفقهه، وفقه الصلاة، ولذا يُقدم الأفقه على من هو أكثر منه حفظًا، ولكن ليس في فقه الصلاة كذلك. 4 - المراد بقوله: "أقرؤهم لكتاب الله" هو أكثرهم حفظًا للقرآن، والذي يوضحه الحديث الذي قبله: "وليؤمكم أكثركم قرآنًا" [رواه البخاري (4302)]، وما رواه النسائي (2011) والترمذي (1715)، وصححه من حديث هشام بن عامر ابن أمية الأنصاري قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتلى أحد: "قدِّموا أكثرهم قرآنًا". 5 - فإن استويا في القراءة، فأعلمهم بسنة نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّ السنة المطهرة هي الوحي الثاني، وهي المصدر الثاني للتشريع. 6 - فإن استويا في العلم بالقرآن وحفظه، والعلم بالسنة وحفظها -فأقدمهم هجرةً من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فإن لم تكن هجرةٌ فأقدمهم توبةً وهجرةً عمَّا نهى الله عنه، وأقربهم امتثالاً لما أمر الله تعالى به. 7 - وفي رواية: "فأقدمهم سنًّا"؛ ذلك أنَّ من قدم سنه قدُم إسلامه، وكثرت أعماله الصالحة.

8 - هذا الترتيب ينبغي ملاحظته عندما يحضر جماعة ليصلوا، أو عند إرادة تولية الإمامة لأحد المساجد، أما إذا كان للمسجد إمام راتب فهو المقدَّم، ولو حضر أفضل منه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يؤمَّنَّ الرجل في سلطانه". 9 - هنا يوجد أمكنة صاحب المحل الصالح للإمامة يكون أحق بها، وأولى من غيره. (أ) إمام المسلمين، والوالى عليهم أحق بمكان ولايته من غيره. (ب) صاحب البيت، أو صاحب الدائرة أولى بالإمامة من الزائر. ولذا فإنَّه لا يجوز الجلوس على فراشه إلاَّ بإذن صاحب الحق، فهذا ترتيب ولاية إمامة الصلاة، تكون للأفضل فالأفضل، ولذا استدلَّ بها الصحابة على الأحقية في الخلافة الكبرى، فقوموا أبا بكر خليفة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا مستدلين على ذلك: "رضيَكَ رَسُولُ الله لِدِيننَا، أفلا نرضَاكَ لِدُنيَانَا؟! ". والشَّرع نتعلم منه بهذا الترتيب وجوب ولاية الأفضل فالأفضل، حتى تستقيم أمورنا، وتصلح أحوالنا؛ فإنَّ من إضاعة الأمانة إسناد الأمر إلى غير أهله. 10 - قال في "الغاية": وما بناه أهل الشوارع، والقبائل من المساجد، فالحقُّ في الإمامة لمن رضوا به، وليس لهم عزله ما لم تتغيَّر حاله. قال الإمام أحمد في "رسالته": ومن الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارَهم، وأهل الدين، والأفضل منهم أهل العلم بالله تعالى، الذين يخافون الله، ويراقبونه. وقال الحارثي: يجب أن يولَّى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعًا. وقال الماوردي: يحرم على الإمام نصب فاسق إمامًا للصلاة، لأنَّه مأمور بمراعاة المصالح.

333 - وَلاِبْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "وَلاَ تَؤُمُّنَّ امْرأةٌ رَجُلاً، وَلاَ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلاَ فاجِرٌ مؤْمِنًا". وإسْنَادُهُ وَاهٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: إسناده واهٍ؛ لأنَّ فيه عبد الله بن محمَّد العدوي عن علي بن جدعان، متهم بوضع الحديث، وشيخه ضعيف، وله طريق آخر فيها عبد الملك ابن حبيب، وهو متَّهم بسرقة الحديث، وخلط الأسانيد. * مفردات الحديث: - أعرابي: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة فراء مفتوحة فألف ثم باء وياء مشددة، نسبة إلى الأعراب سكان البادية، وأصحاب الرحلة والظعن. - مهاجرًا: بضم الميم فهاء مفتوحة فألف فجيم معجمة مكسورة فراء، وهو مَن انتقل فارًّا بدينه، من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام. - فاجرًا: جمعه: "فجَّار"، يقال: فجر يفجر فجورًا، والفجر موضوع في الأصل لشق الشيء شقًّا واسعًا، وباقي معانيه متفرعة عن هذا، التي منها: انبعث الرجل في المعاصي، وَفَسَقَ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - لا تصح إمامة المرأة للرجل، فليست من أهل الإمامة، ويكاد ينعقد الإجماع على عدم صحة إمامة المرأة للرجل، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفلح قوم ولَّوا أمرهُم امرأة" [رواه البخاري (4425)]. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (1081).

2 - كراهة إمامة الأعرابي ساكن البادية للقروي؛ لغلبة الجهل والجفاء على سكان البادية، قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه} [التوبة: 97]. 3 - كراهة إمامة الفاجر للمؤمن الصالح؛ لنقص دينه، وتساهله بما يجب، وما يستحب للصلاة من الأحكام. 4 - استحباب أن تكون الإمامة لأهل العلم من سكان الحاضرة، ومن المستقيمين وأهل الصلاح، الذين يؤتون الصلاة حقها بما يكملها. 5 - قال شيخ الإسلام: الصلاة خلف الفاسق منهي عنها بإجماع المسلمين، ومع هذا فإنَّه تصح خلفه، ولكن لا منافاة بين تحريم التقديم، وصحة الصلاة. قال -رحمه الله تعالى-: الأصل أنَّ من صحت صلاته صحت إمامته، وصلاة الفاسق صحيحة بلا نزاع، فقد أخرج البخاري في "تاريخه" عن عبدالكريم الجزري أنَّه قال: "أدركتُ عشرةً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلون خلاف أئمة الجَوْر"، ولما جاء في صحيح البخاري (694) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أئمتكم يصلون لكم ولهم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم"، وكذا عموم أحاديث الجماعة، وفي الصحيح أحاديث كثيرة تدل على صحة الصلاة خلف الفساق. وقال رحمه الله: ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس، والجمعة، وغير ذلك خلاف من لم يعلم منه بدعةً، ولا فسقًا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، بل يصلي خلف مستور الحال. * خلاف العلماء: ذهب الحنفية والشافعية إلى: صحة إمامة الفاسق، مع أنَّ الأفضل تقديم التقي.

وذهب الإمام أحمد وأتباعه في المشهور من مذهبه إلى: عدم صحة إمامته. ودليل المصحِّحين: أحاديث كثيرة تدل على صحة إمامته، ولكنها أحاديث لا تقوم بها حجة، وهي تدل على صحة الصلاة خلاف كل برٍّ وفاجرٍ، ولو صحَّت، فقد عارضها أحاديث أخر، منها: "لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه"، وهي أيضًا أحاديث ضعيفة. قال العلماء: فلما ضعفت أحاديث الجانبين، رجعنا إلى الأصل وهو أنَّ من صحَّت صلاته صحت إمامته، ويؤيده فعل الصحابة. قال البخاري في "تاريخه" (6/ 90) عن عبد الكريم بن مالك الجزري: "أدركتُ عشرة من أصحاب محمَّد -صلى الله عليه وسلم- يصلون خلاف أئمة الجور". وكان ابن مسعود يصلي خلف الوليد بن عقبة، وهو متَّهم بالشرب. وكان عبد الله بن عمر يصلي خلاف الحجَّاج، وهو من هو في سفك الدماء، والتطاول على العلماء. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ إمامة الفاسق صحيحة؛ سواء كان فسقه من جهة الأقوال كالبدع، أو من جهة الأفعال؛ لأنَّ صلاة الفاسق لنفسه صحيحة، فصلاة غيره خلفه كذلك. وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: تصح الصلاة خلاف المبتدع، وخلف المسبل إزاره، وغيره من العصاة: في أصح قولي العلماء. فهذا القول هو الراجح، ولو قلنا: إنَّ الصلاة لا تصح من الفاسق -وهو من أتى كبيرة من الكبائر، ولم يتب، أو أدمن على صغيرة- لعَسُر علينا العثور على الإمام الصالح. ***

334 - وَعنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ فقد رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة (3/ 22) وابن حبان، ومع صحة إسناده، فله شواهد في الصحيحين وغيرهما، منها: حديث أنس في البخاري (690) ومسلم (433) وحديث النعمان في البخاري (685)، ومسلم (436)، وحديث أبي أمامة في "المسند" (21760) وغيرها. * مفردات الحديث: - رُصُّوا: بضم الراء والصاد المهملة، من رصَّ يرصُّ رصًّا -من باب قتل-: انضم بعضه إلى بعض وتقارب، ومنه: رصَّ البناءَ، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [الصف: 4]. - حاذوا: تساووا؛ ليكون عنق أحدكم محاذيًا، ومساويًا لعنق من بجانبه. - الأعناق: جمع "عنق" وهو الرقبة. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (667)، النسائي (815)، ابن حبان (14/ 51).

335 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أوَّلُهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خير - شر: أفعل تفضيل، إلاَّ أنَّ الهمزة حذفت من أولهما تسهيلاً؛ لكثرة استعمالهما، فهما بمعنى: أخير، وأشر. * ما يؤخذ من الحديثين: (334، 335) 1 - في الحديث رقم: (334) استحباب رصّ الصفوف وتسويتها، وتقارب المصلين بعضهم من بعض؛ بألا يدعوا خللاً في الصفوف، ففي صحيح مسلم (430) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! قال: يتمَّون الصف الأول فالأول، ويرصون الصفوف" فلا نزل في أنَّ تسوية الصف سنة مؤكدة، والتراص وإلزاق الكعوب سنة مؤكدة، وشريعة مستقرة. فقد أخرج البخاري (717) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيموا صفوفكم -ثلاثًا- قال: فرأيتُ الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه" ومن قوله: "فرأيت الرجل ... إلخ" مدرج من كلام النعمان. 2 - قوله: "وكعبه بكعبه" المراد به المبالغة في تسوية الصفوف؛ كما قال الحافظ ابن حجر. 3 - أما الحديث (335): فيدل على استحباب الصف الأول، وأنَّه أفضل ¬

_ (¬1) مسلم (440).

الأمكنة، وأنَّ شر الصفوف المؤخرة؛ لبُعد المصلي عن سماع القراءة، وبُعده من حرَم الإمام، والدلالة على قلة رغبة المتأخر في الخير والأجر، هذا بالنسبة لصفوف الرجال، كما أنَّ الأفضل هو تقدم ذوي الأحلام والنُّهَى، من أهل العلم والصلاح؛ ليكونوا خلاف الإمام، وليكونوا قدوة للمصلين مِنْ خلفهم في أقوالهم، وأفعالهم. 4 - أما النساء: فالمستحب في حقهنَّ الستر، والبعد عن نظر الرجال، فتكون الصفوف المتأخرة في حقهن أفضل وأستر. وأما الصفوف المتقدمة فهي شرها؛ لقربها من الفتنة، أو التعرض لها، هذا إذا صلَّين مع الرجال، أما إذا صلين وحدهن فحكم صفوفهن حكم صفوف الرجال. قال النووي: لو صلت النساء بجماعة لا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال -فإنَّه حينئذ يكون خير صفوف النساء أولها، وشرها آخرها. 5 - فيه دليل على أنَّ للنساء صفوفًا كصفوف الرجال، وهو المشروع في حقهن؛ سواء صلين وحدهن، أو مع الرجال. 6 - الأحق بالصف الأول، والقرب من الإمام هم أولو الأحلام والنُّهى؛ لما روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى". * فائدة: جاء في صحيح مسلم (432) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى". واختلف السلف في تأخير الصبيان السابقين إلى الصف الأول، والأمكنة الفاضلة: فبعضهم قال: يؤخرون لِيَلُوا ذوي الأحلام؛ فإنَّ الأحاديث دلَّت على تقديم أهل العلم والفضل، فكان عمر إذا رأى غلامًا في الصف أخرجه.

وكره أحمد أن يقوم مع الناس في المسجد خلاف الإمام؛ لِمَا روى أبو داود (677) من حديث أبي موسى: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقام الصف، فصفَّ الرجال، وصفَّ الغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان". وقال بعض الأصحاب: الأفضل تأخير المفضول والصبي، واختاره الشيخ، وقطع به ابن رجب. وذهب بعضهم إلى: أنَّ من سبق إلى مكان فهو أحق به. قال في "الفروع": ليس له تأخير الصبيان السابقين، وهو مذهب الشافعية، وصوَّبه في "الإنصاف"، فإنَّ الصبيَّ إذا عقل القُرَبَ، كالبالغ في الجملة، والحديثان: "من سبق إلى مكان، فهو أحق به" [رواه البيهقي (6/ 150)]، "ولا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه" [رواه البخاري (5914) ومسلم (2177)]، عامَّان، ولو كان تأخيرهم أمرًا مشهورًا لاستمرَّ العمل عليه، ولنُقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف. وقال الحافظ: إنَّ الصبيان مع الرجال، وإنَّهم يصفون معهم، ولا يتأخرون عنهم. ***

336 - وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قالَ: "صلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَأْسِي مِنْ وَرَائي، فَجَعَلنِي عَنْ يَمِيْنِهِ". مُتَّفقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يساره: بفتح الياء وكسرها. قال ابن دريد: زعموا أنَّ الكسر أفصح، واليد اليسار: ضد اليمين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- من شباب الصحابة الحريصين على الخير، وعلى تحصيل العلم، وبلغ به الحرص على أنَّه بات عند خالته ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليطَّلع بنفسه على صفة تهجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم-، قام ابن عباس؛ ليصلي بصلاته، فصفَّ معه عن يساره، فأداره النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه. وجاء في بعض روايات الصحيحين: "أنَّ أباه العباس أرسله؛ ليرمق صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الليل". 2 - فيه دليل على جواز إمامة مصلي الفرض بالمتنفل؛ لأنَّ صلاة الليل بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة. 3 - فيه دليل على صحة إمامة البالغ بالصبي، ولو كان وحده. 4 - فيه صحة مصافة الصبي وحده مع البالغ. 5 - فيه أنَّ الأفضل للمأموم أن يقف عن يمين الإِمام إذا كان وحده. ¬

_ (¬1) البخاري (726)، مسلم (763).

6 - صحة وقوف المأموم عن يسار الإِمام مع خلو يمينه، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبطل صلاة ابن عباس، وإنما أداره إلى الموقف الأفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة. وإذا كان هذا الاستدلال ليس قويًّا لعذر ابن عباس بالجهل، والجاهل لا تقوم عليه حجة إلاَّ بعد علمه -فإنَّ الذي يؤيد مذهب الجمهور في صحة المصافة عن اليسار مع خلو اليمين، أنَّ العبادة -ومنها الصلاة- إذا كملت أركانها وشروطها، الأصل فيها الصحة، ولا تبطل إلاَّ بدليل، وإن تُرِك وصفٌ خارج عنها لا يبطلها إلاَّ بنص، ولا نص. 7 - فيه أنَّ المأموم إذا استدار جاء من خلف الإِمام، كما ورد في بعض ألفاظ البخاري. 8 - فيه استحباب صلاة الليل وفضلها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- داوم عليها، وحثَّ عليها، ورغَّب فيها، وأمر بها، وأقرَّ عليها، فاجتمع فيها السنن الثلاثة. 9 - فيه أنه لا يشترط لصحة الإمامة أن ينوي قبل الدخول في الصلاة أنَّه إمام. 10 - حرص ابن عباس واجتهاده في الخير وطلب العلم وتحقيقه، وهو في ذلك الوقت عمره في الحادية عشرة تقريبًا، مما يكون قدوة طيبة، وأسوة حسنة لشباب المسلمين في الاجتهاد، والمثابرة على طلب العلم، والقيام بالأعمال الصالحة. 11 - أنَّ العمل المشروع لمصلحة الصلاة إذا وقع فيها لا يبطلها. 12 - قال عطاء: الرجل يصلي مع الرجل يحاذيه حتى يصف معه، فلا يتأخر عنه. وقد روي عن عمر، وابنه، وابن مسعود، كما في "الموطأ"، وهذا هو المذهب، إلاَّ أنَّه قال في "المبدع": ويندب تخلف المأموم عن الإِمام قليلاً، مراعاةً للرتبة، وخوفًا من التقدم. 13 - فيه جواز صلاة النافلة جماعة، ما لم يتخذ ذلك شعارًا مستمرًّا.

14 - فيه عدم جواز تقدم المأموم على إمامه؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أدار ابن عباس من خلفه، وكانت إدارته من بين يديه أيسر، ولكنه أداره من خلفه لئلا يمر أمامه، ولئلا يتقدم عليه، وهو مأموم. * خلاف العلماء: المشهور من مذهب الإِمام أحمد: فساد صلاة المأموم، إذا كان واقفًا عن يسار الإِمام مع خلو يمينه. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: صحة صلاته، ولو مع خلو يمينه، وهي الرواية الثانية عن الإِمام أحمد، واختارها بعض كبار أصحابه، مستدلين بهذا الحديث؛ فإنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يبطل صلاة ابن عباس، وإنما صرفه للموقف الأفضل. قال ابن هبيرة: أجمعوا على أنَّ المصلي إذا وقف عن يسار الإِمام، وليس عن يمينه أحد -أنَّ صلاته صحيحة، إلاَّ أحمد فقال: تبطل. قال في "المغني" و"الشرح الكبير": القياس أنَّه يصح، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أدار ابن عباس يدل على الأفضلية، لا على عدم الصحة. قال الشيخ منصور البهوتي في "شرح المفردات": وما قاله في "المغني" من أنَّه القياس، هو قول أكثر أهل العلم. ***

337 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صلَّى رَسُولُ الله فَقُمْتُ أَنا وَيَتِيْمٌ خَلْفَهُ، وَأَمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا". مُتَّفقٌ علَيهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اليتيم: هو من مات أبوه، وهو دون بلوغ، يقال: يَتِمَ الصبي بالكسر يتمًا، واليتيم من البهائم: من فقد أمه، والمراد باليتيم هنا: ضميرة بن أبي ضمرة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. - فقمتُ أنا ويتيم: اليتيم معطوف على الفاعل، فهو مرفوع، وفي رواية البخاري: "وصففت واليتيم" وفي هذه الرواية دليل للكوفيين على جواز العطف على المرفوع المتصل بدون التأكيد، أما مذهب البصريين فيجب نصب المعطوف على أنَّه مفعول معه. - أم سليم: هي: الغيمصاء بنت ملحان الأنصارية، والدة أنس بن مالك. - أم سليم خلفنا: قال البخاري: باب المرأة وحدها تكون صفًّا". واعترض الإسماعيلي؛ بأنَّ الواحد والواحدة لا تسمى صفًّا إذا انفرد -وإن جازت صلاته منفردًا- فأقل الجمع الاثنين، ورُدَّ بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] فإنَّ الروح وحده صف، والملاَئِكَة صف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أم سليم والدة أنس بن مالك دعت النبي -صلى الله عليه وسلم- لطعام صنعته له، فأجاب دعوتها، وجاء إلى بيتها, ولما فرغوا من الطعام، قال -صلى الله عليه وسلم-: قوموا فلأصلي لكم، فقام أنس ويتيم معهم في البيت، فكانا صفًّا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصفَّت ¬

_ (¬1) البخاري (727)، مسلم (658).

أم سليم خلفهم. 2 - فيه صحة مصافة الصبي الذي لم يبلغ الحلم. لأن اليتيم لا يكون إلاَّ صبيًّا، ومصافة الصغير هو مذهب الجمهور. 3 - أنَّ الأفضل في موقف المأمومين أن يكونوا خلف الإِمام، إذا كانوا اثنين فأكثر. 4 - أنَّ موقف المرأة خلف الرجال، ولو كانت وحدها، فتصح صلاتها خلف الرجال. قال الشيخ: باتفاق العلماء، إذا لم يكن معها غيرها، وإن وقفت بصف الرجال لم تبطل صلاتها, ولا صلاة من خلفها، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. 5 - النساء لا تجب عليهن الجماعة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة" [رواه البخاري (644)]، ولأنَّ الشارع لم يأمرهن بذلك، وإنما الجماعة ثبتت قولًا وفعلًا وتقريرًا للرجال قال في "الإقناع وشرحه": وتستحب الجماعة للنساء، إذا اجتمعن منفردات عن الرجال؛ سواء كان إمامهن منهن أو لا، لفعل عائشة وأم سلمة، ذكره الدارقطني، ولما روى أبو داود (592) وغيره "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أذِنَ لأمِّ ورقة أن تتخذ في دارها مؤذنًا، وأمرَهَا أن تؤم أهل دارها". قال شيخ الإِسلام: ولا نزاع أنَّ للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، ولكن هل يستحب؟ الأشهر أنَّه يستحب؛ لحديث أم ورقة وغيره. فعمل المدرسات في المدارس من صلاتهن جماعة عمل حسن، يقره الشرع، وفيه فوائد كثيرة. 6 - جواز صلاة النافلة جماعة، إذا لم يتخذ ذلك شعارًا دائمًا، ونهجًا مستمرًّا. 7 - جواز الصلاة لأجل تعليم الجاهل، أو لغير ذلك من المقاصد المفيدة.

8 - تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكرم خلقه، ولطفه مع الكبير والصغير. 9 - استحباب إجابة الداعي، لاسيَّما إذا كان يحصل بإجابته فائدة، من إزالة ضغينة، أو جبر خاطر، وتطمين قلب، ما لم تكن عُرسًا، فتجب الإجابة. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء إلى: صحة مصافة الصبي في الصلاة؛ فرضًا أكانت الصلاة أو نفلاً، مستدلين بهذا الحديث. والمشهور من مذهب الحنابلة: صحة مصافته في النفل؛ عملًا بهذا الحديث دون الفرض، ولا دليل عليه، والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل، وما ثبت دليلاً لصلاة فإنَّه شامل فرضها ونفلها، ومن خصَّ إحداهما دون الأخرى فعليه الدليل، واختار هذا القول ابن عقيل وابن رجب. قال في "الفروع": هذا هو الظاهر. قال شيخ الإِسلام: وهو قول قوي. ***

338 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّه انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ رَاكعٌ، فَرَكعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إِلى الصَّفِّ، فذَكرَ لِلنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: زَادَكَ اللهُ حِرْصًا ولاَ تَعْدُ"، روَاهُ البُخَارِيُّ. وَزَادَ أَبُو دِاودَ فيهِ: "فرَكعَ دُونَ الصَّفِّ، ثمَّ مشَى إلى الصَّفِّ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حرصًا: بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وفتح الصاد المهملة، ومعناه: الرغبة الشديدة في الخير، والمسارعة إليه. - ولا تعد: الأصح في رواياتها الثلاث: "ولا تَعْدُ" بفتح التاء وسكون العين وضم الدال، آخره واو هي لام الكلمة، حذفت لجزم الفعل المعتل بـ "لا" الناهية، من "العدْو"، وهو الجري الشديد، المخالف للسكينة والوقار، والرواية الأخرى ضبطت: "تَعُدْ" بفتح التاء وضم العين؛ أي: إلى السرعة، لإدارك الركعة، والركوع دون الصف. * ما يؤخد من الحديث: 1 - أنَّ من أدرك الإمام راكعاً، فركع دون الصف، ثم دخل فيه، أو وقف معه آخر -فركوعه صحيح، وقد أدرك الركعة. 2 - أنَّ المشي اليسير في الصلاة لمصلحتها لا يضر الصلاة، ولا يُخِلُّ بها. 3 - أنَّ الركعة تدرك بإدراك الركوع مع الإِمام؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز له ركعته، ولو كانت غير جزئة لأمره بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة، وإنما يعذر المخل في عبادته بما فات وقته من الأعمال التي عملها -جهلًا- على ¬

_ (¬1) البخاري (783)، أبو داود (684)،

وجه غير صحيح. ولِمَا روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة". قال الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا أدرك المأموم الإِمام راكعًا فدخل معه، فهو مدرك الركعة. وهذا هو المروي عن السلف، وعليه عامة الأمة من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم، فلا يعرف عن السلف خلاف ذلك. وقد حكى الإجماع على ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى. 4 - نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكرة عن العَدْو؛ لأنَّه مناف للسكينة والوقار، ولِما في البخاري (636)، ومسلم (602): "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاقضوا". قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكرة: "لا تَعدُ" نهي عن شدة السعي. 5 - المستحب لمن أتى إلى الصلاة أن يأتي إليها بسكينة ووقار، فهذا هو أدبها، وَلْيُصَلِّ ما أدركه، وليقض ما فاته منها, وليمتثل نهي النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّ الحكم عام، ولما روى البيهقي في "سننه" (2/ 90) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تأتون الصلاة تسعون". 6 - هذه المنقبة الكبرى لأبي بكرة -رضي الله عنه- من رضاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودعائه له، وتأييد أنَّ ما فعله هو من دواعي الحرص على العبادة، وطاعة الله. 7 - اشتراط المصافة في الصلاة؛ فإنَّ من صلَّى خلف الصف بدون عذر، فلا تصح صلاته؛ لحديث: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" [رواه أبو داود (682)] وهذا ما عليه أبو بكرة حينما دخل في الصف، وهو في الركوع، وأقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي بحث هذه المسألة. 8 - المستحب الدخول في الصلاة مع الإِمام على آية حال وجده عليها.

339 - وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:- "أنَّ رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رَأى رَجُلاً يُصَلِّيِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوَد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والطحاوي، والبيهقي (3/ 205)، والترمذي وقال: حديث حسن. ورجاله ثقات. كما حسَّنه كلٌّ من أحمد وإسحاق وأبو حاتم، وقال ابن عبد البر: في إسناده اضطراب، لكن قال ابن سيد الناس: الاضطراب الذي فيه مما لا يضره. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (682)، أحمد (17541)، الترمذي (230)، ابن حبان (5/ 576).

340 - وَلَهُ عَنْ طَلْقٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لا صَلاَةَ لِلْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ" (¬1). وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ في حديث وابِصَة: "أَلاَ دَخَلْتَ مَعَهُمْ، أوِ اجْتَررْتَ رَجُلًا؟! " (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث فيه فقرتان: إحداهما: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، وهذه جملة صحيحة، ورجالها ثقات. الثانية: "ألا دخلت معهم، أو اجتررت رجلًا؟! "، فهذه لا تصح؛ لضعفها, ولأنَّه قد تفرد بها المسري بن إسماعيل، وهو متروك. تنبيه: وَهِمَ الحافظ في قوله: "عن طلق"، وإنما هو عن علي بن شيبان، رضي الله عنه. * مفردات الحديث: - لا صَلاَة: تقدم كلام ابن دقيق العيد من أنَّ الأولى حمل النفي على الفعل الشرعي؛ فيكون "لا صلاة" نفيًا للصلاة الشرعية. - اجتررت: من جررت الحبل ونحوه جرًّا: لسحبته فانجر، والمراد: جذب الرجل من الصف بلطف وإقامته معك ليصافك. - ألا دخلت: بهمزة الاستفهام مع النفي، والوجه الثاني: فتح الهمزة وتشديد ¬

_ (¬1) أحمد (15862)، ابن حبان (2202) عن علي بن شيبان -رضي الله عنه-. (¬2) الطبراني في الكبير (22/ 145).

اللام، على أنَّها للتحضيض. * ما يؤخذ من الحديثين: (339، 340): 1 - الحديث رقم: (339) يدل على وجوب الصلاة في الصف، فمن صلَّى منفردًا، لم تصح صلاته، وعليه إعادة الصلاة. 2 - الحديث قال به الإِمام أحمد، فلم يُجِز صلاة المنفرد خلف الصف، أما الشافعي فيقول: لو ثبت هذا الحديث لقلت به، قال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك؛ لثبوت الخبر المذكور، وهذا الحديث لا ينافي حديث أبي بكرة في مذهب الإِمام أحمد، فإنَّه يصحح صلاة من ركع دون الصف، ثم دخل فيه، أو وقف معه آخر قبل سجود الإِمام. 3 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اختار تقي الدين، وابن القيم وغيرهما من المحققين؛ أنَّ من وجد في الصف محلاًّ يقف فيه، فلا يحل له أن يقف وحده خلف الصف، وإن لم يجد محلاً يقف فيه، وَجَبَ عليه أن يصف وحده، ولا يترك الجماعة. وهذا هو الصواب الموافق لأصول الشريعة، وقواعدها. 4 - أما الحديث رقم: (340) فيدل أيضًا على عدم صحة صلاة المنفرد خلف الصف، والأفضل حمله على من وجد محلاًّ في الصف، فلم يقف فيه، وإنما وقف وحده منفردًا، أما مع عدم وجود فرجة في الصف، فالأحسن هو القول بصحة صلاته؛ بناءً على قاعدة: "سقوط الواجبات عند عدم القدرة عليها"؛ فهذه هي قاعدة الشرع في كل الواجبات الشرعية. قال شيخ الإِسلام: ومن الأصول الكلية أنَّ المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، فلم يوجب الله تعالى ما يعجز عنه العبد، كما أنَّه لم يحرم عليه ما اضطر إليه. 5 - أما قوله: "أو اجتررت رجلًا": فقال الألباني في "الأحاديث الضعيفة"

(922): هو ضعيف جدًّا، لا تقوم به حجة، وإذا لم يثبت الحديث، فلا يصح القول بمشروعية الجذب؛ لأنَّه تشريع بدون نص صحيح، بل الواجب أن ينضم إلى الصف إذا أمكن، وإلاَّ صلَّى وحده، وصلاته صحيحة. اهـ. قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية ينكر الجذب، ويقول: يصلي خلف الصف فذًّا؛ ولا يجذب غيره، وتصح صلاته في هذه الحالة فذًّا؛ لأنَّ غاية المصافة أن تكون واجبة، فتسقط بالعذر. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: وليس له جذب أحد من الصف؛ لأنَّ الحديث الوارد في ذلك ضعيف. 6 - قلتُ: والجذب مع ضعف حديثه، فإنه يترتب عليه مفاسد كثيرةٌ، منها: - تأخير المجذوب عن المكان الفاضل، إلى المكان المفضول. - فتح فرجة في الصف، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تراصوا، وسدوا الخلل" [رواه البيهقي (3/ 101)]. - حركة كثيرة في الصلاة، لغير مصلحة صلاة المتحرك. - التشويش على المصلي، وعلى من بجانبيه وإشغال بالهم. - عمل في العبادة لم يشرع، والشرع مبنيٌّ في عباداته على التوقيف، وما زاد على ما لم يشرعه الله ولا رسوله، فهو داخل في باب البدعة. ***

341 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سمِعْتُمُ الإِقَامةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ وَالْوَقَارُ، وَلا تُسْرِعُوا، فمَا أَدْرَكتُمْ فصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - السَّكينة: -بفتح السين وكسر الكاف ثم ياء مثناة تحتية فنون فتاء التأنيث- هي التأنِّي والهدوء في الحركات، والطمأنينة، والاستقرار، و"السكينة" مرفوع على أنَّه مبتدأ، و"عليكم" خبره. - الوقار: بفتح الواو والقاف ثم ألف وآخره راء، وهو يكون في الهيئة من غض البصر، وخفض الصوت، والرزانة، ومعنى "السكينة والوقار" متقارب، فالثاني منهما مؤكد للأول، فكلتاهما تفيد حسن السمت. - وما فاتكم فأتموا: هكذا في رواية البخاري، وقال العيني: وكذا هو في أكثر روايات مسلم. - ولا تسرعوا: فيه زيادة، وتأكيد، لقوله: "فامشوا", ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وإن كان معناه يشعر بالإسراع، إلاَّ أنَّ المراد بالسعي: مطلق المشي والذهاب، يقال: سعيت إلى كذا؛ أي: ذهبت إليه، ويؤيد هذا المعنى: قراءة عبد الله بن عمر: {فامضوا إلى ذكر الله}. - أدركتم: أدركت الشيء: إذا طلبته فلحقته، والمراد: ما لحقتموه، وأدركتموه ¬

_ (¬1) البخاري (636)، مسلم (602).

مع الإِمام. - فاتكم: الفوات: مصدر فات يفوت فواتًا وفوتًا، وهو سبق لا يدرك. - فأتموا: أكملوا ما فاتكم من الصلاة على ما أدركتم منها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب الصلاة مع الجماعة، والأحاديث المقتضية للوجوب كثيرة. 2 - استحباب الإتيان إلى الصلاة بحالة سكينة ووقار؛ لأنَّ هذه الحال هي المناسبة للإتيان إلى هذه العبادة الجليلة، وهي الحال اللائقة بالإقبال لمناجاة الله تعالى، وهي المقتضية للدخول في بيت من بيوت الله تعالى، كرَّمه الله ورفعه وطهَّره، وجعله مثابة لصالحي عباده، ولأنَّ المُقبل إلى الصلاة هو في صلاة، فلتكن حاله قبل الدخول كحاله وهو داخل فيها، من الخشوع والخضوع والسكينة. 3 - المشهور من مذهب الإِمام أحمد: أنَّ الجماعة تُدرَك بتكبيرة الإحرام قبل سلام الإِمام التسليمة الأولى، وحكى المجد إجماع أهل العلم. 4 - إن لحق المسبوقُ الإمامَ في الركوع أدرك الركعة، ولا يضره سبقه بالقراءة؛ لما جاء في أبي داود؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك الركوع، فقد أدرك الركعة"، حكاه الشيخ وغيره إجماعًا، وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين، ولا يُعرفُ عن السلف خلاف ذلك، ولما في الصحيح من حديث أبي بكرة، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بالإعادة. 5 - قوله: "إذا سمعتم الإقامة" يدل على أنَّ الإقامة مشروعة، وهي فرض كفاية كالأذان، وهي حق لمن أذَّن؛ لما روى الترمذي (199)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن أذن فهو يقيم". 6 - "إذا سمعتم" يفهم منه مشروعية إسماعها الحاضرين في المسجد؛ ليقوموا إلى الصلاة، لاسيما مع سعة المسجد، وإسماعها من في خارجه ليمشوا

إلى الصلاة؛ لقوله: "فامشوا إلى الصلاة". 7 - قوله: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا" يدل على أنه إذا شرع المقيم بالإقامة، فلا يشتغل مريد الصلاة بغير الصلاة المكتوبة، التي أقيمت لها الصلاة، وأصرح منه ما في صحيح مسلم (710) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلاَّ المكتوبة"، وكان عمر يضرب الناس بعد الإقامة. قال النووي: والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإِمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بما دونها. قال في "الروض المربع": ولا تنعقد نافلة بعد إقامة الفريضة، التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإِمام، الذي أقيمت له. 8 - دلَّ الحديث على أنَّ ما أدركه المسبوق هو أول صلاته، وما فاته هو آخرها، فيتمه بعد انقضاء الصلاة. وأما قوله في الرواية الأخرى: "وما فاتكم فاقضوا" فلا ينافي "فأتموا"؛ فالقضاء يراد به: الفعل، لا القضاء المعروف في الاصطلاح؛ لأنَّه اصطلاح متأخري الفقهاء، وإلاَّ فالعرب تطلق القضاء على الفعل، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103]، أي: أديتموها وفرغتم منها. قال الحافظ وغيره: إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واخْتُلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى، ويحمل: "فاقضوا" على معنى: الأداء والفراغ، فلا حجة لمن تمسك بلفظة: "فاقضوا". وللبيهقي (2/ 298) عن علي: "ما أدركت مع الإِمام هو أول صلاتك"، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وروي ذلك عن مالك. قال الشافعي: وهو أولها حكمًا ومشاهدةً.

وقال الموفق والمجد وشيخ الإِسلام وابن القيم: إنَّ ما يدركه مع الإِمام أولها، وما يقضيه آخرها، وهو مقتضى الأمر بالإتمام، ومقتضا الشرع والقياس، وهو قول طوائف من الصحابة. قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الصحيح من قول العلماء أنَّ ما أدركه المسبوق من الصلاة يعتبر أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيتم الصلاة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاتموا" [رواه البخاري (609) ومسلم (603)]. أما المشهور من مذاهب الأئمة الثلانة: أبي حنيفة ومالك وأحمد-: أن ما أدركه المسبوق مع الإِمام هو آخر صلاته، وما يقضيه أولها، والقول الأول هو الراجح، والله أعلم. ***

342 - وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَهُّ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزْكى مِنْ صَلاَتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاَتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أزكَى مِنْ صَلاَتِهِ مَع الرَّجُلِ، وَمَا كانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجلَّ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أُبي بن كعب، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم. قال النووي: أشار ابن المديني إلى صحته. وفي إسناده: عبد الله بن أبي بصير، قيل: لا يُعرف، لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار عنه، فارتفعت جهالة عينه، كما وثَّقه ابنُ حِبَّان. * مفردات الحديث: - أَزْكَى: بفتح الهمزة فسكون الزاي المعجمة فألَّف مقصورة، والزكاء له معانٍ منها: النمو والزيادة، وهو المراد هنا، فالمعنى: أنَّ صلاة الرجل مع الجماعة أكثر أجرًا من صلاته وحده. ويحتمل أنَّ المعنى -هنا- هو: الطهارة، فيكون المعنى: أنَّ المصلي سلِمَ من رجس الشيطان ووساوسه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الجماعة تنعقد باثنين: إمام ومأموم، وأنه يصدق ¬

_ (¬1) أبو داود (554)، النسائي (843)، ابن حبان (5/ 405).

عليهما اسم جماعة، وقد روى ابن ماجه (972) من حديث أبي موسى؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "اثنان فما فوق جماعة"، واستدل بحديث مالك بن الحُويرث: "إذا حضرت الصلاة فأذِّنا، ثم ليؤمكما أكبركما" [رواه البخاري (658) ومسلم (674)]. 2 - يدل الحديث على فضل كثرة الجماعة، فإنه كما أكثر الجمع، كان الأجر أكثرة لما يحصل في ذلك من تكثير سواد المسلمين، في بيوت الله ومواطن العبادة، ولِمَا يحصل من دعاء بعضهم لبعض، ولِما يحصل في كثرة الجمع من تحقيق مقاصد الاجتماع للصلاة في المساجد، من تعلم الجاهل من العالم، وعطف الغني على الفقير، والتآلف والتعارف بين أفراد المسلمين، لاسيَّما أهل الحي الواحد، والجيران. 3 - فيه أنَّ كثرة الجماعة محبوبة لله تعالى؛ لما يحصل منها من المباهاة، ولما يحصل في ذلك من إرغام الشيطان، ودحره في اجتماع المسلمين على طاعة الله تعالى، ومن أجل هذه الفوائد العظيمة في الجماعة، حَرُم أن يُبنى مسجد بجانب مسجد إلاَّ لحاجة. قال في "كشاف القناع": ويحرم أن يبنى مسجد بجانب مسجد إلاَّ لحاجة؛ كضيق الأول، وخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد. 4 - إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتًا حقيقيًا يليق بجلاله وعظمته، فنثبت حقيقتها, ولا نكيفها ولا نمثلها, ولا نشبهه تعالى بأحد من خلقه، ولا نعطله من صفاته الثابتة. وهذا هو مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى، لا يعطلون الله من صفاته، ولا يشبهونه تعالى بأحد من خلقه، وهو المذهب الحكيم، نسأل الله تعالى الفقه فيه، والثبات عليه. 5 - أن الأعمال الصالحة بعضها أزكى من بعض وأفضل، وهذا راجع إلى ما

تتصف به العبادة من اتباعٍ للسنةِ، وتحقيقٍ لها, ولِما تحققه العبادة نفسها من المقاصد والأسرار والحِكم، التي شرعها الله تعالى من أجلها. 6 - أنَّ مشروعية الجماعة خاصة بالرجال، فهم أهل الاجتماع للصلاة، وهم الذين عليهم أداؤها في المساجد: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36، 37]. ***

343 - وَعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ؛ رواه أحمد (26739)، وأبو داود، وابن الجارود، (2/ 91)، والدراقطني (1/ 403)، والحاكم (1/ 320)، والبيهقي (3/ 130) وإسناده حسن، وقد أعلَّه المنذري بالوليد بن عبد الله، ولكن مسلمًا احتجَّ به، ووثقه جماعة كابن معين. وقال العيني: حديث صحيح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أم ورقة بنت نوفل الأنصارية من فُضْلَيَاتِ نساء الصحابة، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها، وقد جمعت القرآن، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تؤم أهل دارها، فكانت تؤمهم في الصلاة في بيتها. 2 - الحديث دليل على صحة صلاة النساء جماعةً في البيت. 3 - إذا أمَّت المرأة النساء، فصلاتهن جماعة لها من الأحكام ما لصلاة الرجال جماعة، إلاَّ ما خصه الدليل؛ كاستحباب وقوف الإمامة بينهنَّ في صفهن. 4 - يدل الحديث على صحة إمامة المرأة بالنساء، اللاتي ليس معهن الرجال. 5 - صلاة الجماعة -وجوبًا- منوطة بالرجال بالمساجد؛ ذلك أنَّ الأهداف الكريمة، والمقاصد النبيلة الحسنة، المترتبة على إقامة الجماعة -هي أعمال مطلوبة من الرجال، وليست مطلوبة من النساء، فالمشاورة، وتبادل ¬

_ (¬1) أبو داود (592)، ابن خزيمة (3/ 89).

الآراء، والتناصر، والتعاون ضد أعداء الإِسلام، وإبرام الأمور وحلها، كلها أشياءٌ تتعلق بالرجال، لِبُعْدِ نظرهم، وسداد رأيهم، وجَلَدِهم، وتحملهم صعاب الأمور، فكانت الاجتماعات للعبادة في المساجد مفروضة عليهم للعبادة، وتحقيقًا لهذه المقاصد الطيبة. أما جانب العبادة المحض، فالبيوت أقرب إلى الإخلاص، وسرية العمل، والبُعد عن الرياء، ففضل في حق النساء الحصول على هذه الفضيلة في البيوت؛ كما جاء في حديث أم ورقة هذا، مع ما يَنْكَفُّ من المفاسد عند عدم حضور المرأة إلى المسجد، وما يُخشى من فتنة الرجال بهنَّ، وفتنتهن بهم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وبيوتهنَّ خير لهن" [رواه أبو داود (567)]. 6 - إذا طلبت المرأة من زوجها، أو من محرمها حضور المساجد، فلا ينبغي منعها, ولكن بشرطه. قال في "الروض المربع وحاشيته": وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد، كره منعها؛ لأنَّ الصلاة المكتوبة في جماعة فيها فضل كبير، وكذلك المشي إلى المساجد، ولما روى أحمد (9362)، وأبو داود (565) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرُجْنَ تَفِلات". ولما في البخاري (5238)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد، فأذنوا لهن". وكل صلاة وجب حضورها للرجال، استُحب للنساء حضورها. 7 - وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وليخرجن تفِلات" أي غير متطيبات، ويلحق بالطيب ما هو في معناه، من المحرِّكات لداعي الشهوة؛ كحُسْنِ الملبس، والتحلي، والتجمل؛ فإنَّ رائحتها، وزينتها، وصورتها، وإبداء محاسنها -فتنة لها، وفتنة للرجل فيها، فإن فعلت ذلك، أو شيئًا منه، حرُم عليها الخروج؛ لما روى مسلم (444) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيما

امرأة أصابت بخورًا، فلا تشهدنَّ معنا العشاء الآخرة". ولِمَا في البخاري (869)، ومسلم (445)، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لو أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى من النساء ما رأينا، لمَنعَهُنَّ مِنَ المسَاجِدِ". قال القاضي عياض: شرط العلماء في خروج النساء أن يكون بليلٍ، غير متزينات، ولا متطيبات، ولا مزاحمات للرجال، وفي معنى الطيب إظهار الزينة، وجنس الحلي، فإن كان شيء من ذلك، وَجَبَ منعهن خوف الفتنة. وقال ابن القيم: يجب على ولي الأمر أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق، والمتنزهات، ومجامع الرجال، وهو مسؤول عن ذلك. ***

344 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَخلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، وَهُوَ أَعْمَى". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ (¬1). وَنَحْوُهُ لابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ أخرجه أبو داود وأخرجه البيهقي (3/ 88) بإسناد حسن، رجاله كلهم ثقات، كما صححه ابن حبان، وحسَّنه ابن الملقن والصنعاني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - صحة إمامة الأعمى حتى بالمبصرين، ويقدم عليهم ما دام أنَّه أعلم الحاضرين بالقرآن والسنة، وأفضلهم بالتقى والصلاح. 2 - أنَّ ما يُخشَى من عدم توقيه النجاسات أمور مشكوك فيها، وهي في هذه الحال معفو عنها، فتكون مغمورة بجانب كفاءته، وصلاحيته لهذا العمل. 3 - قدَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن أم مكتوم للإمامة؛ لسابقته في الإِسلام، فهو من المهاجرين الأولين، وهو من القراء والعلماء، فاستحق الإمامة بهذه الفضائل. 4 - أنَّ القوَّة على العمل، والأمانة عليه تكون بحسب العمل الذي يقام به، فإنَّ عاهة ابن أم مكتوم لا تُنقصُ من قوَّتهِ فِيه، وأَمَانَتِهِ عَلَيْهٍ شَيئًا. 5 - الظاهر أنَّ ولاية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن أم مكتوم، ولاية عامة في الصلاة وغيرها، ¬

_ (¬1) أحمد (12588)، أبو داود (595). (¬2) ابن حبان (5/ 507).

فله أن يفتي، وله أن يقضي بين الناس، ويدير أحوال المقيمين، في المدينة؛ وبهذا تصح ولاية الأعمى على القضاء والفُتْيَا وغير ذلك. 6 - أنَّ المقامات الدينية، والقيادات الإِسلامية لا تُنال إلاَّ بهذه المؤهلات، من العلم النافع، والاستقامة، والتقوى. 7 - هذه الميزة العظيمة، والثقة الكبيرة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الصحابي الجليل، تعتبر من مناقبه الكبار، فهي ثقة مؤيدة بالعصمة النبوية، فهي كالشهادة النبوية على صلاحه، والله أعلم. ***

345 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلُّوا عَلَى منْ قَالَ: لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إلاَّ الله". رَوَاهُ الدَّارقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال في "التلخيص": له طرق: 1 - رواه البيهقي من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عمر، وعثمان كذبه يحيى بن معين. 2 - ورواه من طريق نافع عن ابن عمر، وفيه خالد بن إسماعيل متروك. 3 - ورواه من طريق أبي الوليد المخزومي، وتابعه أبو البختري، وهو كذاب. 4 - ورواه من طريق مجاهد عن ابن عمر، وفيه محمَّد بن الفضل، وهو متروك. 5 - ورواه من طريق عثمان بن عبد الله عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وعثمان رماه ابن عدي بالوضع. وقال البيهقي (4/ 19): أحاديثها كلها ضعيفة، غاية الضعف. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال ابن الملقن: هذا الحديث من جميع طرقه لا يثبت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على صحة إمامة من قال: "لا إله إلاَّ الله"؛ فإنَّ هذه الكلمة دليل إسلامه. 2 - كما يدل على وجوب الصلاة على جنازة من مات، وهو يقول: "لا إله إلاَّ ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 56).

الله"؛ لأنَّها تدل على أنَّه مات مسلمًا. 3 - استثنى بعض العلماء -ومنهم الحنابلة- الصلاة على الغالِّ، وعلى قاتل نفسه؛ فإنَّه يستحب للإمام الأعظم، أو نائبه ألا يصلي عليهما؛ تنكيلاً وتنفيرًا من حالهما، ليرتدع غيرُهما. 4 - يدل الحديث على صحة إمامة الفاسق؛ لأنَّ كلمة الإخلاص تدل على إسلامه، ولا تدل على عدالته، ولو كانت العدالة شرطًا للزم البحث عنها، والتحقيق في وجودها. 5 - قال شيخ الإِسلام: اتَّفق الأئمة على كراهة الصلاة خلف الفاسق. وقال الماوردي: يحرم على الإِمام تنصيب الفاسق إمامًا في الصلوات؛ لأنَّه مأمور بمراعاة المصالح. 6 - يدل الحديث على أن الإنسان يجوز أن يصلي خلف من لا يعلم حاله، من فسقٍ أو عدالةٍ، فلا يشترط العلم بحاله. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل تصح الصلاة خلف الفاسق، أو لا؟ فذهب مالك وأحمد في المشهور من الروايتين عنه إلى: أنَّها لا تصح. وذهب أبو حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد إلى: صحتها. واختار هذا القول شيخ الإِسلام وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم من محققي العلماء؛ فقد صلَّى ابن عمر خلف الحجَّاج، وهو يسفك الدماء، والمختار بن أبي عُبيد، وكان يتهم بالسحر والشعوذة. والأصل أنَّ من صحَّت صلاته لنفسه، صحَّت إمامته، وصلاة الفاسق لنفسه صحيحة بلا نزاع. قال الشيخ: ليس من شرط الائتمام أن يعلمَ المأموم اعتقادَ إمامه.

346 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنعُ الإِمَامُ". رَوَاهُ التِّرْمذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، ولكنه تقوى بشاهد، قال في "التلخيص": رواه الترمذي من حديث علي ومعاذ، وفيه ضعف وانقطاع، وقال: لا نعلم أحدًا أسنده إلاَّ من هذا الوجه. قال الشوكاني في "النيل": والحديث وإن كان فيه ضعف، لكن يشهد له ما عند أحمد (2618) وأبي داود (507) من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ، وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ، فقد رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحابنا؛ أنَّ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- ... فذكر الحديث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على استحباب الدخول مع الإِمام في صلاته في الحال التي يجده اللاحق عليها مطلقًا؛ سواء كانت قيامًا، أو ركوعًا، أو سجودًا، أو غيرها. 2 - فإن أدركه قائمًا أو راكعًا، اعتدَّ بتلك الركعة، وإن كان قعودًا أو سجودًا، لم يعتد به. والدليل على الحالة الأولى: ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "من ¬

_ (¬1) الترمذي (591).

أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة"، وما أخرجه ابن خزيمة (3/ 45) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الصلاة، قبل أن يقيم الإِمام صُلبَه -فقد أدركها". والدليل على الحالة الثانية: ما رواه ابن خزيمة (3/ 57) مرفوعًا: "إذا جئتَ ونحن سجود، فلا تعتدها شيئًا". 3 - الداخل مع الإِمام في حال القعود والسجود، وإن لم يدرك الركعة -فقد أدرك فضيلة هذا العمل، الذي يعتبر عبادة في نفسه، وأدرك متابعة الإِمام، وأدرك فضيلة المبادرة من حين دخول المسجد. 4 - ذكر العلماء أحكامًا للداخل مع الإِمام على آية حال وجد فيها، وهي: إن كان في حال السجود أو القعود، فإنه يكتفي بتكبيرة الإحرام، وينحط معه بلا تكبير، ولا يسن له استفتاح، بل يبادر إلى اللحاق بالإمام على الحال التي هو عليها. وإن أدركه قائمًا، عمل ما يستحب للداخل في الصلاة من الاستفتاح والتعوذ والقراءة، وإن كان راكعًا، أتى بتكبيرة الإحرام، وتكفي عن تكبيرة الركوع، وإن أتى بالثانية مع التحريمة كان أفضل. ***

باب صلاة المسافر والمريض

باب صلاة المسافر والمريض مقدِّمة قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": خصَّ تبارك وتعالى المسافر في سفره بالترفه، فخصَّه بالفطر والقصر، وهذا من حِكْمة الشارع؛ فإنَّ السفر في نفسه قطعة من العذاب، وهو في نفسه مشقة وجهد، ولو كان المسافر من أرفه الناس، فإنَّه في مشقة وجهد بجسمه، فكان من رحمة الله بعباده وبِرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة، واكتفى منهم بالشطر. فلم يفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة، ولم يُلزم بها في السفر كإلزامه بها في الحضر، وأما الإقامة فلا موجب لإساقط الواجب فيها, ولا تأخيره، وما يعرض فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا ينحصر، فلو جوِّز لكل مشغول، وكل مشقوق عليه، الترخيص -ضاع واضمحل بالكلية، وإن جوِّز للبعض لم ينضبط، فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة، وما لا تجوز، بخلاف السفر. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: من قواعد الشريعة: "أنَّ المشقة تجلب التيسير", ولما كان السفر قطعة من العذاب، يمنع العبد نومه، وراحته وقراره، رتَّب الشارع عليه ما رتَّب من الرخص، وحتى لو فرض خلوه عن المشقات؛ لأنَّ الأحكام تتعلَّق بعللها التامة، وإن تخلفت في بعض الصور والأفراد.

فالحكم الفرد يلحق بالأعم، ولا يفرد بالحكم، وهذا هو معنى قول الفقهاء: "النادر لا حكم له"، يعني: لا ينقض القاعدة، ولا يخالف حكمها، فهذا أصل يجب اعتباره. وجاء التخفيف في أداء الواجبات عن المريض، في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة؛ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقال تعالي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وجاء في البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطيع فعلى جنب" قال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أنَّ للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض. وقال النووي: أجمعت الأمة أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعدًا, ولا إعادة عليه، ولا ينْقُصُ من ثوابه للخبر. قال في "الروض والحاشية": ولا ينقص أجر المريض إذا صلَّى، عن أجر الصحيح المصلي؛ لحديث أبي موسى: "إذا مرض العبد أو سافر، كُتبَ له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" [رواه البخاري (2996)]. وقال الشيخ تقي الدين: من نوى الخير وفعل ما قدر عليه، كان له كأجر الفاعل. واحتج بحديث أبي كبشة وغيره. واختلف العلماء: متى تسقط الصلاة عن المريض؟ فمذهب أحمد كما قال عنه في "الروض": لا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتًا؛ لقدرته على الإيماء بطَرْفه مع النيَّة بقلبه؛ لعموم أدلة وجوبها. والرواية الأخرى عن الإِمام سقوطها. قال الشيخ في "الاختيارات": متى عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه، وهو مذهب أبي حنيفة.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما صلاة المريض بطرْفه وقلبه، فلم تثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ صلاته على جنبه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة، والمذهب أحوط. * قرار مجمع الفقه الإِسلامي بشأن الأخذ بالرخصة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. قرار رقم (74/ 1/ د 8)؛ بشأن: الأخذ بالرخصة وحكمه إنَّ مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من (1 - 7 محرم 1414 هـ، الموافق: 21 - 27 يونيو 1993 م). بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "الأخذ بالرخصة وحكمه". وبعد استماعه إلا المناقشات التي دارت حوله -قرر ما يلي: 1 - الرخصة الشرعية هي ما شرع من الأحكام لعذر، تخفيفًا عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي. ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها. 2 - المراد بالرخص الفقهية ما جاء من الاجتهادات المذهبية، مبيحًا لأمرٍ، في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره، والأخذ برخص الفقهاء، بمعنى: اتباع ما هو أخف من أقوالهم، جائز شرعًا بالضوابط الآتية في "البند 4". 3 - الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية، إذا كانت

محققة لمصلحةٍ معتبرةٍ شرعًا، وصادرةً عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية. 4 - لا يجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية: (1) أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعًا, ولم توصف بأنَّها من شواذِّ الأقوال. (ب) أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة؛ دفعًا للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع، أم خاصة، أم فردية. (ج) أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك. (د) ألاَّ يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع، الآتي بيانه في "البند 6". (هـ) ألاَّ يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع. (و) أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة. 5 - حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب، هي أن يأتي المقلد في مسألةٍ واحدةٍ، ذات فرعين مترابطين فأكثر، بكيفية لا يقول بها مجتهد، ممن قلدهم في تلك المسألة. 6 - يكون التلفيق ممنوعًا في الأحوال التالية: (أ) إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص. (ب) إذا أدى إلى نقض حكم القضاء. (ج) إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة. (د) إذا أدى إلى مخالفة الإجماع، أو ما يستلزمه. (هـ) إذا أدى إلى حالة مركبة، لا يُقِرَّها أحد من المجتهدين، والله أعلم.

347 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أوَّلُ مَا فرِضَتِ الصَّلاَهُّ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَة السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاَة الحَضَرِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وللبُخَارِيِّ: "ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلاَة السَّفَرِ عَلَى الأَوَّلِ". وزاد أحمد: "إلاَّ المَغْرِبَ؛ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وإلاَّ الصُّبْحَ؛ فَإِنَّهَا تُطَوَّلُ فِيْهَا القِرَاءَة" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فرضت: الفرض في اللغة: الواجب، والمعنى: أوجبها الله على المكلفين من عباده. - الصلاة: أي: الصلاة الرباعية. - أُتِمَّت صلاة الحضر: أي: زيد فيها حتى صارت أربعًا، فالزيادة في عدد الركعات. - أُقرَّت: قال ابن فارس: "قرَّ" أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تمكن، وهو المراد هنا. يقال: قرَّ واستقرَّ، وقال في "المحيط": أقرَّه في المكان: ثبته. قلتُ: ومنه: أقرَّت صلاة السفر، بإبقائها ركعتين. - أول: مرفوع على أنَّه مبتدأ، وخبره "ركعتان" على إحدى الروايتين في ¬

_ (¬1) البخاري (1090، 3935)، مسلم (685)، أحمد (25511).

الحديث، ويجوز نصب "ركعتين" على أنَّها حالٌ، سدَّ مسد الخبر. - أُتِمَّت: بالبناء للمجهول، وفي بعض الروايات: "وزيد في صلاة الحضر"، وهو أوضح من "أتمت"؛ والمعنى: زيد فيها حتى صارت أربعًا، فالزيادة في عدد الركعات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - من عظم هذه الصلوات الخمس أنَّ الله تعالى فرضها على نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم- في السماء، وأنَّ فرضها من الله تعالى مشافهة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بلا واسطة، وذلك ليلة الإسراء والمعراج حينما عُرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السموات وما فوقهن، وأنَّها فرضت خمسين في اليوم والليلة، فخففت إلى خمس، ولكن بقي ثواب الخمسين في الخمس، فلم ينقص إلاَّ العدد. 2 - أوَّل ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، واستمرَّت مدة بقائه عليه الصلاة والسلام بمكة، فلما هاجر زِيدَ في صلاة الظهر، والعصر، والعشاء، ركعتين ركعتين، حتى صِرن رباعيات، أما المغرب فقد فرضت ثلاثًا، وبقيت على ما فرضت عليه؛ لتكون وتر النهار، وأمَّا الفجر فبقيت ركعتين، وذلك لطول القراءة فيها، فكان من الأولى ألا يزاد فيها ركعتين، هذا في الحضر، وعلى هذا فتسميته قصرًا هو أمر نسبي، لا حقيقي؛ لأنَّه لم يحصل قصر في الصلاة وإنما حصل زيادة في صلاة الحضر، وإبقاء لصلاة السفر على حالها، كما فرضت. 3 - قوله: "أول ما فرضت" الفرض في الشرع: هو ما أُمر به على وجه الإلزام به، وهو والواجبُ مترادفان، وهو مذهب الإِمام أحمد وغيره، وذهب الحنفية إلى أنَّ الفرض: ما وجب بدليل قطعي، وأما الواجب: فهو ما ثبت بدليل ظني، فهو أخف إلزامًا من الفرض، والصحيح هو القول الأول؛ من أنَّ الواجب والفرض بمعنًى واحدٍ، والله أعلم.

4 - أما في السفر فإنَّ الرباعيات الثلاث أبقين على عددهن الأول: ركعتين ركعتين، فهن المقصورات من أربع ركعات إلى ركعتين، أما المغرب فأُبقيت ثلاثًا, ولم تقصر؛ لأنَّها وتر النهار، فإذا سقط منها ركعة بطل كونها وترًا، وإن سقط منها ركعتان بقيت ركعة واحدة، ولا نظير له، وأما الصبح فهي ركعتان، ولو قصرت على واحدة بقيت ركعة واحدة، ولا نظير له، فالمغرب والصبح لا يقصران إجماعًا. 5 - القصر رحمة من الله تعالى بعباده؛ فإنَّ المسافر يلحقه مشقةٌ وتعبٌ، ونصبٌ، فمن لطف الله تعالى بعبده أن خفَّف عنه شطر الصلاة، واكتفى منه بالشطر الثاني؛ لئلا تفوت عليه مصلحة العبادة، فينقطع عن ربه ومناجاته. 6 - أنَّ الحديث يدل على أنَّ الركعتين هما فرض السفر، ما دام أنَّ صلاة السفر باقية، وأما الحضر فطرأ عليها الزيادة، فهذا يؤكِّد على المسافر ألا يصلي في السفر إلاَّ قصرًا؛ خشيةَ من بطلان صلاته بالزيادة ما دامت الزيادة ليست أصلية في الصلاة، ولعلَّ هذا من حجة الذين أوجبوا القصر في السفر، ومنهم الظاهرية والحنفية، ونقل عن الإِمام أحمد أنَّه توقف في صحة صلاة من صلَّى أربعًا، وبهذا يكون القصر مؤكَّد الاستحباب، وإذا تأكد استحبابه كُرِهَ تركه، ولكن الراجح أنَّها تسمى مقصورة؛ لتوافق قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101] وتوافق الأحاديث الواردة في الموضوع. قال شيخ الإِسلام: الأصح أن الآية أفادت قصر الصلاة في العدد، والعمل جميعًا. قال شيخ الإِسلام: قصر الصلاة المكتوبة الرباعية إلى ركعتين: مشروع بالكتاب، والسنة، وجائز بإجماع أهل العلم، منقولٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتواتر، وأظهر الأقوال قول من يقول: إنَّ القصر سنة، وإنَّ الإتمام مكروه. وقال ابن القيم: لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أتمَّ الرباعية في السفر البتة.

وقال الموفق: القصر أفضل من الإتمام، في قول جمهور العلماء. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في القصر؛ أهو عزيمة، أم رخصة؟ ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه يستحب قصرها؛ لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101] فنفي الجُناح يفيد أنَّه رخصة، وليس عزيمة، والأصل الإتمام. وذهب أبو حنيفة إلى: أنه واجب، ونصره ابن حزم، فقال: إنَّ فرض المسافر ركعتان؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- داوم عليه، ولما في الصحيحين عن عائشة: "فُرضت الصلاة ركعتين، فأقرَّت صلاة السفر، وأُتِمَّت صلاة الحضر". وأجاب الجمهور عن الحديث بأجوبة: أحسنها: أنَّ هذا من كلام عائشة، ولم يرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال محرره: الأولى للمسافر ألا يدع القصر؛ اتباعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وخروجًا من خلاف من أوجبه بحجة قوية، ولأنَّ القصر أفضل إجماعًا. ***

348 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، وَيُتِمُّ، وَيَصُومُ، وَيُفْطِرُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُواتهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، وَالمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ: "إِنَّهُ لاَ يَشُقُّ عَلَيَّ". أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، قال ابن القيم: هذا الحديث لا يصح، وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنكره الإِمام أحمد. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": فيه اختلاف في اتصاله، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه. وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك، وينظر "نصب الراية" (2/ 192). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر الصلاة الرباعية، ويتمها أربعًا، وأنه كان يصوم رمضان وهو مسافر، وكان يفطر، فهما رخصتان، تارةً يأخذ بهما، وتارةً لا يأخذ بهما. 2 - الرواية الثانية في الحديث: أنَّ عائشة هي التي كانت تفعل ذلك، فهي تترخص تارةً، وتتوك الرخصة تارةً أخرى، وأنَّها تعلل ذلك؛ بأنَّه لا يشق عليها الصيام، ولا الصلاة أربعًا؛ حيث إنَّ سبب الرخص السفرية، هو المشقة غالبًا. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 189)، البيهقي (3/ 141، 143).

3 - الحديث هذا ضعيفٌ جدًّا، قال ابن القيم: سمعت شيخ الإِسلام يقول: هو كذبٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وزاد ما روي عن عائشة أنَّها اعتمرت معه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، ثم قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أتممتُ وقصَرْتُ، وأفطرتُ وصمت، فقال: "أحسنت يا عائشة". وقال شيخنا ابن تيمية: هذا باطل، فما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم. 4 - قال شيخ الإِسلام: المسلمون نقلوا بالتواتر، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يصل في السفر إلاَّ ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنَّه صلَّى أربعًا قط. وقال ابن القيم: لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أتمَّ الرباعية في السفر ألبتة، وجاء في البخاري (1102)، ومسلم (689) من حديث ابن عمر، أنَّه قال: "صحبتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر، كذلك". قال الخطابي: مذاهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار على أنَّ القصر هو المشروع في السفر، ولهذا كان المسلمون على جواز القصر في السفر، مختلفين في جواز الإتمام؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- داوم عليه، ولم ينقل عنه أحد أنه صلَّى أربعًا قط. ***

349 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كمَا يَكْرَهُ أنْ تُؤْتَى مَعْصِيتهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ. وَفِي رِوَايَةٍ: "كمَا يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ فسنده على شرط مسلم، وله شواهد من حديث ابن عباسٍ، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي الدرداء، وأبي أمامة. 1 - حديث ابن عباس أخرجه ابن حبان وأبو نعيم (6/ 276) والشيرازي بلفظ: "إنَّ الله يحب أن تؤتى رُخصه، كما يحب أن تُؤتى عزائمه". 2 - حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 84). 3 - حديث أبي هريرة أخرجه أبو نعيم. 4 - حديث أنس أخرجه الطبراني في "الكبير" (8/ 153)، والدولابي بإسناد ضعيف، وله طريق آخر. 5 - حديث أبي الدرداء أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/ 155)، قال الشيخ الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث صحيح بلَفْظَيه: "كما يكره أن تؤتى معصيته"، و"كما يحب أن تؤتى عزائمه". * مفردات الحديث: -تعالى: وصف من النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه بالعلو، ومعناه: اتصافه جلَّ وعلا بالعلو، فهو عليٌّ بذاته، وَعَلِيٌّ بصفاته، عَلِيٌّ بقدْره، فالعلو ثابثٌ لله بالكتاب، ¬

_ (¬1) أحمد (5832)، ابن خزيمة (3/ 259)، ابن حبان (2/ 69).

والسُّنَّة، والإجماع، والعقل، والفطرة، فله العلو بالذات، وله العلو بالصفات، وله العلو بالقدر، فهو الكبير المتعال، سبحانه. - أن تُؤْتَى: بالبناء للمجهول. - رُخَصُهُ: الرخصة لغة: اليسر والسهولة، وشرعًا: ما يثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ، و"رُخَصُه" مرفوعٌ؛ لنيابته عن الفاعل، وهو بضم الراء وفتح الخاء، جمع "رخصة". - عزائمه: جمع: "عزيمة". والعزيمة لغة: القصد المؤكد، وشرعًا: حكم ثابت بدليل شرعيٍّ خال عن معارضٍ راجحٍ، والرخصة والعزيمة وصفان للحكم الوضعي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرخصة شرعًا: هي ما ثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارض راجح، وهي تيسيرٌ وتسهيلٌ من الله تعالى على عباده، وسهَّل بعضهم تعريف الرخصة بأنها: إسقاط الواجبب؛ كالصوم في السفر، أو إباحة المحرم؛ كأكل الميتة للمضطر. 2 - في الحديث إثبات الرخصة في الشريعة الإِسلامية، ولكن الرخصة لا يمكن أن ترِد إلاَّ بسبب، وإلاَّ كان الشرع متناقضًا. 3 - الله تعالى من كرمه يحب من عباده أن يترخصوا فيما سهَّله عليهم، ويسَّره لهم، فيتمتعوا به، ويفعلوه لمِنَّتِهِ عليهم، ورحمته بهم. 4 - من تلك الرخص الإلهية، والسنن الربانية رُخص السفر في عبادته، فقد أباح لهم قصر الصلاة، وأباح لهم جمع الصلاتين في وقت إحداهما، وأباح لهم الفطر في نهار رمضان، وأباح المسح على الخفين ثلاثة أيام، كل ذلك ترخيصٌ وتسهيلٌ من الله تعالى على عباده.

5 - فيه إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتاً حقيقيًا، يليق بجلاله وعظمته، لا تكييف، ولا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وإنما هي صفة من صفاته العُلَيا، تليق بكماله وجماله، أما المُؤَوِّلةُ من الأشاعرة والماتريدية، فهم يفسرون المحبة بأنَّها إرادة الإنعام والثواب، ولا يثبتون لله صفة محبةٍ حقيقيةٍ؛ لأنَّهم يفسرون المحبة: بأنَّها ميل إلى ما فيه جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ، والله منزَّه عن هذا، وهذا تفسيرٌ للمحبة بلازمها عند المخلوق، أما الله عَزَّ وَجَلَّ فإنه يحب الشيء لكمال وجوده، لا لأن ينتفع بهذا الشيء، ومُؤَوِّلة صفات الله جمعوا بين التشبيه والتعطيل، فهم تصوروا صفات الله بصفات المخلوق، وهذا تشبيهٌ منهم، ثم هربوا من هذا التشبيه إلى تعطيل صفات الله تعالى. أما أهل السنة: فوفقهم الله فأثبتوا لله حقيقة الصفة، ووكلوا علم كيفيتها إليه تعالى، فَسَلِمُوا من التشبيه والتعطيل ولله الحمد. 6 - أما العزيمة فهي؛ الحكم الثابت بدليل شرعيٍّ خالي من معارضي راجعٍ، وهذه هي أحكام الله تعالى التي كلف بها عباده؛ ليعبدوه بفعلها، ويتقرَّبوا إليه بالإخلاص فيها، والعزائم واجبات ومحرمات، فالواجبات: عزائم من الله تعالى لفعلها، والمحرمات: عزائم من الله تعالى لتركها. 7 - القيام بأحكام الله تعالى؛ سواء كانت رخصة أو عزيمةً، أجرها وفضلها متساويان، الجميع طاعةٌ لله تعالى، وامتثالٌ لشرعه. ولمّا عظمت المنة في الرخصة، ساوت العزيمة في المحبة عند الله تعالى. ***

350 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا خَرَجَ مَسِيْرَةَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ فَرَاسِخَ صلَّى رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أميال أو فراسخ: شكٌّ من الراوي "شعبة بن الحجاج"، وليس بيانًا لمختلف الأحوال. - أميال: واحد "ميل"، والميل: هو "1600 متر" تقريباً. - فراسخ: واحده "فرسخ "، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل والفرسخ فارسيٌّ مُعَرَّبٌ. - صلى ركعتين: يعني قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وهنَّ صلوات الظهر، والعصر، والعشاء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بلد إقامته -المدينة المنورة- مسيرة ثلاثةِ أميالٍ، أو فراسخ قصر الصلاة الرباعية، فصلاها ركعتين. 2 - اعتبار أنَّ هذه المسافة تباح فيها رُخص السفر، من الجمع والقصر وغيرها، ولكنه لا يفهم من الحديث أنَّها أقل مسافة للقصر، وإنما يرجع هذا لأدلة أخر. 3 - قوله: "إذا خرج" يعني: إذا قصد بخروجه هذه المسافة، لا أنَّه لا يقصر في سفره حتى يبلغ هذه المسافة. 4 - الفرسخ ثلاثة أميال، والميل "1600 متر"، وقول الراوي: "أميال أو ¬

_ (¬1) مسلم (691).

فراسخ" شكٌّ من الراوي وليس التخيير في أصل الحديث. 5 - قال في "الروض وحاشيته": إذا فارق عامر قريته قصر؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة، وجماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم، وحكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لأنَّ الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وقبْلَ المفارقة لا يكون ضاربًا فيها، ولا مسافرًا, ولأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يقصر إذا ارتحل. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في تقدير المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ويباح فيها الرخص السفرية: فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ أقلَّ مسافة تقصر فيها الصلاة هي مسيرة ثلاثة أيام، وتقدر بثلاث مراحل لسير الإبل المحمَّلة، ولا يصح بأقل من هذه المسافة. وذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ أقلَّ مسافة للقصر، هي مرحلتان لسير الإبل المحملة أيضًا. وتقدر المسافة بأربعة بُرد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فتكون على وجه التقريب حوالي (77) كيلومتر، وتباح رخص السفر، ولو قطع هذه المسافة في ساعةٍ واحدةٍ، كما لو قطعها بسيارةٍ أو طيارةٍ، أو غير ذلك. وذهب كثير من محققي العلماء إلى: أنَّه لا يوجد دليلٌ صريحٌ صحيحٌ على تحديد مسافة القصر، بل المشرع العظيم أباح رخص السفر، ولم يحدده، لا بمدة، ولا بمسافة، فكل ما عُدَّ سفرًا، أبيحتْ فيه الرخص. قال في "المغني": تواترت الأخبار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر في أسفاره، حاجًّا، أو معتمرًا، أو غازيًا، وكان لا يزيد على ركعتين، وأجمع أهل العلم على أنَّ من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة، أنَّ له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين.

وذهب أبو عبد الله: إلى أنَّ القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً، وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد روي عن ابن عباسٍ، وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا، وإذا لم تثبت أقوالهم، امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكره؛ لوجهين: أحدهما: أنَّه مخالفٌ للسُّنَّة، ولظاهر القرآن، الذي أباح القصر لمن ضرب في الأرض، فظاهر الآية متناول لكل ضرب في الأرض. الثاني: أنَّ التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر. وقال شيخ الإِسلام: الفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها مطلقًا، فالمرجع في السفر إلى العُرف، فما كان سفرًا في عُرف الناس فهو السفر، الذي علَّق به الشارع الحكيم. وقال ابن القيم في "الهدي": لم يحدَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم في مطلق السفر، والضرب في الأرض. وهذا ما اختاره كثير من محققي علماء السلفية في "نجد". أما الشيخ محمد بن بدير فقال: إنَّ الحكم إذا خلا من ضابطٍ يضبطه، كان عرضةً للتلاعب، والخضوع للهوى، وإن الفقهاء نظروا فوجدوا أنه ليست كل مسافةٍ معتبرة لاستباحة الرخص، فوجب وصف السفر الذي تستباح به الرخص، حتى لا يتعرض المكلفون لإشكالاتٍ، أو تهاونٍ بسبب سحب الرخص على غير ما أبيحت له. فقد ورد في الصحيح: أنَّ بعض الصحابة كان يحافظ على الصلاة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم من أقصى العوالي، وهي على أربعة أميال، وطبعًا لم تكن لهم رخصة القصر، ولا الفطر.

وورد في الصحيح أنَّ أهل الصفة كانوا يحتطبون فيبيعون الحطب؛ ليطعموا به الفقراء، ومسافة الاحتطاب قد تزيد على الوارد في حديث أنس هذا. والذي يمكن حمله على بداية القصر لا غاية أو نهاية السفر، وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف السفر وقدَّره بحدٍّ في موضعٍ آخر، وهو وجوب المحرم للمرأة، والذي يدل بمفهومه على أنَّ ما كان أقل منه فهو معتبر، فالسفر الذي تعلق بآراء متباينة لا تجتمع على ماهية معلوم، كما قيَّد العلماء كل رقبة في الكفارات بالمؤمنة، التي وردت في قتل الخطأ، فهذه مثلها، ومهما أمكن اتباع علمائنا وأئمتنا فهو العصمة، وإنَّ جمهورهم على هذا، وإنهم قد استفرغوا وُسعَهم في تحري رضا الله تعالى. وإنه من الخطر أن نعوِّد الطلاب التجرؤ على مخالفة الأئمة، فإنه من جراء ذلك شردت جماعات بأسرها عن العبادة، لمَّا لم يُعَدّ لفقه الأئمة عندهم وزنٌ، والخير -والله- في أتباع أئمتنا، وهم بيَّنوا النصوص التي بنوا عليها هذه الأحكام، فليس اتباعهم في ذلك من اتباع الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، وللكن يجب أن نربي أبناءنا وإخواننا على استعظام مخالفة السلف فيما اتَّفقوا عليه، وتحري أصح الأمور، وأسعدها بالدليل فيما لو اختلفوا فيه؛ بحيث لا نخرج عن اتفاقهم ولا عن خلافهم، فإذا اخترنا لا نختار إلاَّ من فقههم الذي وضحت حجته ولاح دليله، وليس كل خلافٍ معتبرًا حتى لا يقال: إنَّ فلانًا وفلانًا يقولون بعدم التحديد، والأولى الرجوع إلى أقوال الأئمة الجامعة المبنية على الاحتياط فيها والسداد، والله تعالى أعلم وأحكم. ***

351 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- منَ المَدِيْنَةِ إِلى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنا إِلَى المَدِيْنَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). 352 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ". وَفِي لَفْظٍ: "بمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لأِبَي دَوُادَ: "سَبْعَ عَشْرَةَ". وفِي أُخْرَى: "خَمْسَ عَشْرَةَ" (¬2). وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: "ثَمَانِيَ عَشْرَةَ" (¬3). 353 - وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِيْنَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ". ورُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّه اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أما روايات حديث ابن عباس: فقال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري. وأما حديث عمران: ففي سنده: علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) البخاري (1081)، مسلم (693). (¬2) البخاري (1080)، أبو داود (1230، 1231). (¬3) أبو داود (1229). (¬4) أبو داود (1235).

وأما حديث جابر: فقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود، وصححه ابن حزم. وقال النووي: هو حديث صحيح الإسناد، على شرط البخاري ومسلم. * مفردات الحديث: - تبُوك: -بالفتح ثم الضم ثم واو ساكنة آخره كاف-: واقعة قرب الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، بينها وبين المدينة المنورة (680) كيلو، مع طريق مسفلت يربط المملكة بالأردن، وهي الآن مدينة كبيرة فيها الدوائر الحكومية، والمرافق المختلفة، والأسواق العامرة، والمزارع المثمرة، فهي منطقة هامة من مناطق البلاد السعودية، أما غزوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لتبوك ففي السنة التاسعة من الهجرة، ولم يلق حربًا. * ما يؤخذ من الأحاديث: (351، 352، 353): 1 - يدل الحديث رقم: (351) على استحباب قصر الصلاة الرباعية في السفر ركعتين ركعتين، وأنَّ هذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - يدل على أنَّ الإنسان ولو مرَّ في بلد قد تزوج فيه، فإنه يعتبر نفسه مسافرًا، وهذا خلاف القول المشهور في مذهب الحنابلة، الذين قالوا: إنَّ من مرَّ مسافرًا ببلدٍ قد تزوج فيه أَتمَّ. 3 - يدل على أنَّ المسافر يترخص من حين يخرج من بلده، ولو لم يجاوز ميلاً. 4 - يدل على أنه يقصر حتى يعود إليها، ويدخل البلد. 5 - ويدل على أنه يترخص ولو لم يجد به السير، فقد استقرَّ -صلى الله عليه وسلم- عشرة أيام، ومع هذا يقصر، فإنَّ الجدّ في السير ليس بموجب معتبر في السفر، حتى تناط به الأحكام. 6 - أما الحديث رقم (352): فيدل على أنَّ الإقامة لا تحدد بأربعة أيام، بل يقصر ويترخص، ولو أقام تسعة عشر يوماً، وهذا خلاف المشهور من مذهب الحنابلة، الذين قالوا: لو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتمَّ، ولم يقصر. 7 - لا تعارض ولا منافاة بين اختلاف العدد في الروايات، فكل من الرواة حكى

ما حفظ، ولكن البيهقي رجح رواية الإِمام البخاري وهي تسعة عشر يومًا. 8 - أما الحديث رقم (353): فيدل على أنَّ الإقامة في مكان -ولو بلغت عشرين يومًا- لا تمنع القصر، ولا رُخص السفر، ما دام أنَّه لم ينوِ الإقامة، وإنما ينوي العودة حين تنتهي مهمته. 9 - القول الراجح أنَّ المسافر يقصر ويجمع ما دام أنه لم ينوِ الإقامة، ولو طالت مدته، ما دام لم ينو الإقامة، وقطع السفر. قال شيخ الإِسلام: للمسافر القصر والفطر، ما لم يُجمع على الإقامة والاستيطان، والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها, ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرعٍ ولا عرفٍ. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الإقامة العارضة للمسافر دون قصدِ مُكث بل أيام معيَّنة، وإنما الإقامة مرهونة بحاجته، ولا علم عنده متى تنقضي، فإذا انقضت سافر، ففي مثل هذا الحال يجوز له الترخص بقصر الصلاة، وغيرها من رخص السفر مدة إقامته، طالت، أو قصُرت. 10 - هذا القصر في حجة الوداع التي منها أيام مني، فقد كان يقصر الصلاة فيها، وقصر أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- وقَصَر بعدهم عثمان -رضي الله عنه- ست سنين من خلافته أو ثماني، ثم صار يتم الصلاة، فلامه الصحابة على الإتمام، ومخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- والشيخين بعده، وأشدُّهم لومًا ابنُ مسعود -رضي الله عنه- ولكنهم تابعوه وأتموا معه، وقال ابن مسعود: "إنَّ الخلاف شرٌّ"، فإتمام الصحابة -رضي الله عنهم- مع عثمان دليلٌ على أنَّ القصر غير واجب، ولو كان واجبًا ما أقروه، أما الأعذار التي قالها العلماء لإتمام عثمان فكثيرة، ولعلَّ من أوجهها -وليس بوجيه أيضًا-: أنَّ الحجَّ يجمع عددًا كبيرًا من المسلمين من أقصى البلاد، يجهلون أحكام الصلاة، فإذا صلوها مقصورة ظنوا أن هذه هي الصلاة، فخشيةً من هذا الفهم، الذي يترتب عليه خطأٌ كبيرٌ، أتمَّ، اجتهادًا منه رضي الله عنه.

354 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أخَّر الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَفِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ في "الأَرْبَعِيْنَ" بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ: "صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ، ثُمَّ رَكِبَ". وَلأبِي نُعَيْمٍ في "مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ": "كَانَ إذَا كَانَ في سَفَرٍ، فَزَالَتِ الشَّمْسُ، صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث أصله في الصحيحين؛ أما زيادة الحاكم: فقال الحافظ في "الفتح" (2/ 583): هي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي. وأما رواية أبي نعيم: فقد صححها النووي، كما في "التلخيص" (2/ 49). * مفردات الحديث: - تزيغ الشمس: بفتح التاء فزاي معجمة مكسورة آخره غين معجمة؛ أي: مالت نحو الغرب، بعد أن توسطت السماء. - فزالت الشمس: مالت نحو الغرب، بعد أن توسطت كبد السماء. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1111)، مسلم (704).

355 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "خَرَجْنا معَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيْعًا". روَاهُ مُسْلِمٍ (¬1). 356 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "لاَ تَقْصُرُوا الصَّلاَةَ فِي أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَة بُرْدٍ؛ مِنْ مَكَّةَ إِلى عُسْفَانَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضعِيْفٍ. والصَّحِيْحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬2). ¬

_ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، والصحيح أنه موقوفٌ. فهو ضعيف؛ لأنَّ فيه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وعبد الوهاب بن مجاهد متروك، والصحيح: أنَّ ذلك من قول ابن عباس، كما قال البيهقي (3/ 137)، وضعَّفه ابن الملقن مرفوعاً، وصححه موقوفًا. * مفردات الحديث: - أربعة بُرُد: بضم الباء والراء، جمع "بريد"، والبريد: قال البخاري: ستة عشر فرسخًا، قال العيني: والفرسخ ثلاثة أميال. قال محرره: والميل (1600) متر.

- عُسْفَانَ: بضم أوله وسكون ثانيه، ثم فاء وآخره نون، على وزن "عثمان"، هي قرية عامرة تقع شمال مكة على بعد (80) كيلو، يمر بها الطريق السريع الذاهب والآيب من مكة إلي المدينة، وفيها إمارةٌ، وشرطةٌ، ومدارس، ومستوصف، وغير ذلك من المرافق والخدمات، ويحيط بها حِرَارٌ سودٌ، وسكانها -الآن- بنو بشر، من بني عمرو، من قبيلة حرب، ولها ذكر في السيرة النبوية. * ما يؤخذ من الأحاديث: (354، 355، 356): 1 - يدل الحديث رقم (354) على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت واحد، وذلك في السفر. 2 - يدل على جواز الجمع بين هاتين الصلاتين جمع تقديم، وجمع تأخير، فكل من الجمعين جائز. 3 - قال الشيخ: الجمع رخصة عارضة للحاجة إليه؛ فإنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله إلاَّ مرات قليلة؛ لذلك فإنَّ فقهاء الحديث كأحمد وغيره يستحبون تركه، إلاَّ عند الحاجة إليه؛ اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد، فإنَّه نص على أنَّه يجوز للحاجة والشغل، وصوَّب الشيخ أنَّه يجوز في السفر القصير، وقال: إنَّ علة الجمع الحاجة، لا السفر، فليس معلقاً به، وإنما يجوز للحاجة، بخلاف القصر. وقال الشيخ -أيضاً-: الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجمع بعرفة ومزدلفة لمجرد السفر، بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول، ولاشتغاله بالسير إلى مزدلفة، وهكذا يستحب الجمع عند الحاجة. 4 - قال الشيخ: الجمع جائز في الوقت المشترك، فتارةً في أول الوقت، وتارةً في آخره، وتارةً يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معاً في آخر

وقت الأولى، وقد تقع هذه في هذا، وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأنَّ أصل هذه المسألة: أنَّ الوقت عند الحاجة مشتركٌ، والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة. 5 - يدل على أنَّ الأفضل في حق الجامع المعذور أن يفعل الأرفق به، من جمع التقديم أو التأخير؛ لأنَّ الجمع لم يُبح إلاَّ لرفع المشقة، فيرى الأرفق به فيفعله. 6 - يدل على أنَّ سبب الجمع صيرورة وقت إحدى الصلاتين وقتاً للأخرى؛ فليست إحداهما أداءً، والأخرى قضاءٍ في جمع التأخير، والأولى صليت في وقتها، والثانية قبل وقتها في جمع التقديم، فالصلاة قبل وقتها لا تصح. 7 - يدل على أنَّ السفر هو أحد الأعذار المبيحة لجواز الجمع. 8 - يدل على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت واحد، وعلى جواز صلاتي المغرب والعشاء في وقت واحد. وأطلق الراوي الجمع، مما يدل على عمومه في جواز جمع التقديم والتأخير، فيما بين الظهر والعصر، وفيما بين المغرب والعشاء، وجاءت رواية الترمذي (550) تفصّله وتبينه؛ بلفظ: "كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، عجَّل العصر إلى الظهر، وصلَّى الظهر والعصر جميعاً". 9 - حديث رقم (355) يدل على جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، ولو كان الجامع نازلاً غير مُجِدٍّ في السفر. 10 - أما الحديث رقم (356): فيدل على أنَّ الصلاة لا تقصر في مسافة تقل عن أربعة بُرُد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل "1600" متر، فتكون مسافة القصر على التقريب حوالي (77 كيلو)، وتقدم تحقيق ذلك.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في جواز الجمع إلى ثلاثة أقوال: فذهب الجمهور -ومنهم الإمامان: الشافعي وأحمد- إلى: جواز جمع التقديم والتأخير، بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. وذهب مالك في إحدى الروايتين عنه، وابن حزم إلى: جواز جمع التأخير دون التقديم. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى عدم: جوازه مطلقاً، إلاَّ أن يكون جمعاً صوريّاً، بمعنى أن تؤخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقدم الثانية في أول وقتها، فتصليان جميعاً هذه في آخر الوقت، والأخرى في أول الوقت. وذهب الجمهور إلى: جواز الجمع مطلقاً؛ سواء كان المسافر نازلاً في سفره، أو جادّاً به السير. واستدلوا: بما جاء في "الموطأ" (330) عن معاذ: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أخَّر الصلاة يوماً في غزوة تبوك، ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جمعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلَّى المغرب والعشاء". قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت الإسناد. وذكر الشافعي في "الأم"، والباجي في "شرح الموطأ": أنَّ دخوله وخروجه لا يكون إلاَّ وهو نازل غير جاد في السفر، وفي هذا ردٌّ قاطعٌ على من قال: لا يجمع إلاَّ إذا جدَّ به السفر. وذهب ابن القيم وجماعة إلى: اختصاص جواز الجمع لوقت الحاجة، وهي إذا جدَّ به السفر. ودليلهم: حديث ابن عمر: "أنَّه كان إذا جدَّ به السير، جمع بين المغرب والعشاء، ويقول: إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا جدَّ به السير، جمع بينهما"، رواه البخاري (1711)، ومسلم (703)، ولكن عند الجمهور زيادة دلالة في

أحاديثها، والزيادة من الثقة مقبولة، ولأنَّ السفر موطن المشقة؛ سواء كان نازلاً أو سائراً؛ لأنَّ الرخصة تعم، وما جعلت إلاَّ للتسهيل والتيسير. وأما مذهب أبي حنيفة في الجمع الصوري: فلا تنصره السنن الصحيحة. * فوائد: الفائدة الأولى: ما ذكره المؤلف في الجمع هو عذر السفر، وهناك أعذار أخر تبيح الجمع منها: المطر؛ فقد روى البخاري (543): "أنَّ النبَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- جمع بين المغرب والعشاء، في ليلة مطيرة". وَخُصَّ الجمع هنا بين المغرب والعشاء، دون الظهر والعصر، وجوزه جماعة من العلماء. ومنها: المرض؛ فقد روى مسلم (705): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر ولا سفر". وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة، وهو نوع مرض. وقد جوز الجمع -لهذه الأعذار وأمثالها- مالكٌ وأحمد، وإسحاق، والحسن، وقال به جماعة من الشافعية؛ منهم الخطابي والنووي. الفائدة الثانية: اختلف العلماء في السفر الذي يباح فيه الجمع: فمذهب الشافعي وأحمد: يومان قاصدان، يعني: ستة عشر فرسخاً، وذلك يقارب (77) كيلو متر. أما مذهب الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والموفق في "المغني"-: فقد ذهبوا إلى أنَّ كل ما يعد سفراً يباح فيه الجمع، ولا يقدر بمسافة معينة، وأنَّ ما يروى من التحديدات ليس بثابت. الفائدة الثالثة: جمهور العلماء يَرَوْنَ أَنَّ ترك الجمع أفضل من الجمع، إلاَّ في جمعي عرفة ومزدلفة؛ لما في ذلك من المصلحة فيهما، بخلاف القصر، فإنَّه سنة، وفعله أفضل من تركه.

الفائدة الرابعة: قال في "الروض وحاشيته": وإن كان المسافر ملاَّحاً ونحوه، وأهله معه، ولا ينوي الإقامة ببلد -لزمه أن يتم أشبه المقيم؛ لأنَّ سفره غير منقطع، والرواية الأخرى: يترخص، اختارها الموفق والشيخ وغيرهما، وقالا: سواء كان معه أهل أو لا؛ لأنَّه أشق، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. الفائدة الخامسة: قال شيخ الإسلام: الجمع رخصة عارضة للحاجة، وفقهاء الحديث -كأحمد وغيره- يستحبون تركه إلاَّ عند الحاجة، وأوسع المذاهب مذهب أحمد؛ فإنَّه ينص على أنَّه يجوز للحاجة والشغل. ***

357 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ أُمَّتِي الَّذِين إذَا أَسَاءوا اسْتَغْفَرُوا، وَإذَا سَافَرُوا قَصَرُوا، وَأَفْطَرُوا". أَخْرَجَهُ الطَّبرَانِيُّ فِي " الأوْسَطِ" بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَهُوَ فِي مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ مُخْتَصَراً (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": قال الهيثمي: فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف، وأخرجه البيهقي في "المراسيل". * مفردات الحديث: - أساءوا: أذنبوا، قال الراغب: السيئة: الفعلة القبيحة، وهي ضد الحسنة. - استغفروا: الاستغفار: طلب المغفرة بالمقال، والغفران من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ أفضل الخطائين التوابون، ممن إذا أذنبوا ذنباً، ذكروا وعيدَ الله وعذابه، واستغفروا وتابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، بشروطها الثلاثة: الندم على ما فعلوه، والإقلاع عما ارتكبوه، والعزم على ألا يعودوا إليه، وإن كان حقّاً للخلق أَدَّوْهُ. 2 - وإذا سافروا، أتوا رُخص الله تعالى التي أباح لهم، من الفطر في نهار رمضان، فليس من البر الصيام في السفر، وقصروا الصلاة الرباعية، إلى ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط (6/ 332)، الشافعي (1/ 512).

اثنتين؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء، الآية: 101]. 3 - الحديث من أدلة الذين يرون أنَّ القصر، والفطر في السفر -أفضل من الصيام والإتمام، وأدلة هذا القول كثيرة. فأما القصر: فتقدم كلام المحققين، ومنهم: شيخ الإسلام، الذي قال: قصر الصلاة مشروع في الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، منقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نقلاً متواتراً. وقال ابن القيم: لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أتم الرباعية في السفر ألبتة. ***

358 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلاَةِ، فقَالَ: صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطعْ فَعَلَى جَنْبٍ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بواسير: جمع: "باسور"، وهو ورم في المقعد، وعند الأطباء: نفاطات يحدث فيها تمدد وريدي، وتكون في الشرج تحت الغشاء المخاطي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث تقدم برقم (263)، ويدل على صفة صلاة المريض، وهو أن يصلي قائماً، ولو محنيّاً، أو معتمداً إلى نحو جدار، أو عصا ونحوها. فإن عجز، أو شق عليه، صلَّى قاعداً، والأفضل أن يكون في الجلوس الذي في موضع القيام متربعاً، وفي غيره مفترشاً، فإن عجز، أو شق عليه، صلَّى على جنبه، والأفضل أن يكون على الجنب الأيمن مستقبل القبلة. 2 - فإن لم يستطع الصلاة على جنبه، أومأ برأسه إيماء، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع. 3 - الحديث مؤيد بآيات كريمات، هي روح السهولة، واليسر في الشريعة، الإسلامية؛ مثل قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومثل قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. قال النووي: أجمعت الأمة على أنَّ من عجز عن القيام في الفريضة، صلاها قاعداً، ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه؛ للخبر. ¬

_ (¬1) البخاري (1117).

4 - العجز الذي يبيح القعود في الصلاة المكتوبة قدَّره العلماء: فقال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تُذهب خشوعه؛ لأنَّ الخشوع مقصود الصلاة، وقد صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- جالساً حين خمش شقه، والظاهر أنَّه لم يكن لعجزه عن القيام، بل لمشقة فعله، أو لوجود ضرر، وكلاهما حجة، ويعمل بقول طبيب عارف ثقة -ولو امرأة- أن القيام يضره، أو يزيد في علته. 5 - جاء من حديث أبي موسى؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا مرض العبد أو سافر، كتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" [رواه البخاري (2996)]. قال الشيخ تقي الدين: من نوى الخير، وفعل ما يقدر عليه، كان له كأجر الفاعل. * خلاف العلماء: مذهب جمهور العلماء: أنَّ الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتاً، وأنَّه إن لم يستطع الإيماء برأسه، أومأ بطرفه، وإن لم يستطع القراءة بلسانه، قرأ بقلبه. وذهب الشيخ تقي الدين إلى أنَّه إذا عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة. وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: أما صلاة المريض بطرفه أو بقلبه، فلم نثبت، ومفهوم الحديث يدل على أنَّ الصلاة على جنبه مع الإيماء هي آخر المراتب الواجبة، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله. ومذهب الجمهور أحوط؛ لأنَّ أصل وجوب الصلاة موجودٌ، والذمة مشغولةٌ به، والعقل المخاطب بوجوب الأداء حاضرٌ، والله أعلم. ***

359 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "عَادَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرِيْضاً، فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمى بِهَا، وَقَالَ: صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلاَّ فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ". روَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف؛ رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحَّحَ أبو حاتم وقفه، وأخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري. وقال البزار: لا يُعْرَفُ أحد رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي. وقال أبو حاتم: الصواب أنَّه موقوف على جابر، ورفعه خطأ. * مفردات الحديث: - عاد: قال في "المصباح": عدت المريض عيادة: زرته، فالرجل عائد، وجمعه: عوَّاد، والمرأة عائدة، وجمعها: عُوَّد، بغير ألف. قال الأزهري: هكذا كلام العرب. - وِسَادة: -بكسر الواو-: كل ما يوضع تحت الرأس. - إيماء: أصل الإيماء: الحركة، وقد يستعمل بالحاجبين، والعينين، واليدين، والرأس، ومنه: إيماء المريض ببدنه للركوع والسجود. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كراهة سجود العاجز على وسادة ونحوها، تُرفع له عن الأرض، ويكون سجوده على الأرض مباشرةً، إن قدر، وإلاَّ أومأ إيماء. ¬

_ (¬1) البيهقي (2/ 306).

2 - وجوب الإيماء في السجود والركوع على المريض، إذا لم يستطع الركوع والسجود. 3 - فإن كان قادراً على القيام، فإيماؤه في الركوع يكون من قيام، وإيماؤه في السجود يكون من قعود، فالركن الذي يقدر عليه لا يسقطه العجز عن الركن الآخر. 4 - سماحة الشريعة وعدم التكلف فيها، فالذي لا يستطيع السجود لا يتكلف له ما يسجد عليه، وإنما يعبد الله ما استطاع، فالتنطع ليس من الدين في شيء. 5 - يدل على استحباب عيادة المريض، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه، وفي الأحوال كلها، فالدين النصيحة. 6 - أن يكون السجود أخفض من الركوع في حال الإيماء، تمييزاً لكل ركن عن الآخر، ولأنَّ السجود أخفض في حال القدرة من الركوع، فكل واحد يُعطى ما يناسبه. ***

360 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "رَأَيْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مُتَرَبِّعاً". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح؛ صححه الحاكم، وابن حبان (6/ 257)، وابن خزيمة (2/ 236)، وأخرجه الدارقطني (1/ 397)، والنسائي وقال: ما أعلم أحداً رواه غير أبي داود الحفري وهو ثقة، ولا أحسبه إلاَّ أخطأ. قال الحافظ ابن حجر: قد رواه ابن خزيمة والبيهقي من طريق محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني متابعة لأبي داود، فظهر أنَّه لا خطأ فيه. وقال ابن عبد الهادي: قد تابع الحفري محمد بن سعيد الأصبهاني، وهو ثقة. وله شواهد من حديث أنس وعبد الله بن الزبير رواها البيهقي. * مفردات الحديث: - متربعاً: هي جلسة الإنسان ثانياً قدميه تحت فخذيه، مخالفاً لهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز الصلاة قاعداً، فإن كان ذلك في فرض، فلا يكون إلاَّ عند العجز عن القيام، أو المشقة منه، وإن كان في نفلٍ، فجائز حتى مع القدرة على القيام، إلاَّ أنَّه إذا كان بدون عذر، فأجره على النصف من صلاة القائم، وإن كان من عذر، فأجره تام، إن شاء الله تعالى. 2 - يجوز الجلوس في الصلاة على أية جلسة كانت من الجلسات المشروعة، ¬

_ (¬1) النسائي (1661)، الحاكم (3891).

لكن الأفضل أن يكون متربعاً في موضع القيام، ومفترشاً في موضع الجلوس، والصلاة متربعاً هي التي ذكرت عائشة؛ أنَّها رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصليها. ***

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة مقدِّمة الجمعة فيها لغتان: التحريك مع الضم، اسم فاعل فهي سبب لاجتماع الناس، والثانية ساكنة الميم فهي اسم مفعول، فهي محل لاجتماع الناس. والأصل في مشروعيتها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، والأدلة من السنة في مشروعيتها كثيرةٌ، قولاً وفعلاً. قال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنَّها فرض عين، بل صلاة الجمعة من أوكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وصلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر بلا نزاع. وهي صلاة مستقلة، ليست بدلاً من الظهر، وإنما الظهر بدل عنها إذا فاتت، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد خصَّ الله به المسلمين، وأضل عنه من قبلهم من الأمم كرماً منه، وفضلاً على هذه الأمة؛ فقد جاء أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" [رواه مسلم]. قال العراقي: اتَّفق الأئمة على أنَّ الجمعة أكبر فروض الإسلام، وهي أعظم مجامع المسلمين، سوى مجمع عرفة. ولهذا اليوم خصائص من العبادات: أعظمها هذه الصلاة التي هي آكد الفروض، واستحباب قراءة سورة السجدة، وسورة الإنسان في صلاة فجرها، وقراءة سورة الكهف في يومها،

وكثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاغتسال، والتطيب، ولبس أحسن الثياب، والذهاب إليها مبكراً، والاشتغال بالذكر والدعاء، إلى حضور الخطيب. وفيها ساعة إجابة الدعاء، التي اختلف العلماء في وقتها، وأرجح الأقوال أنَّها من جلوس الخطيب على المنبر إلى فراغ الصلاة، أو بعد العصر. وقد أفرد لها الإمام ابن القيم فصلاً مطولاً في "زاد المعاد" وصنَّف فيها كثير من أهل العلم مصنفاتٍ مستقلةً. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الشارع من حكمته، ومحاسن شرعه، أنه شرَعَ للمسلمين الاجتماعات لأنواع العبادات من الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، ومصلى العيد، ومشهد الحج في البقاع المقدسة، ففي هذه الاجتماعات مِن الحِكم والأسرار ما يفوت الحصر، فمنها: 1 - إظهار دين الله تعالى، وإعلاء كلمته. 2 - إظهار شعائر الإسلام، وبيان جمالها. 3 - إظهار محاسن الإسلام، وجمال تشريعاته. 4 - تعارف المسلمين، وتآلفهم. 5 - التعرف على بلدانهم، وأحوالهم، وآمالهم، وآلامهم. 6 - التشاور وتبادل الآراء النافعة. 7 - التعاون على الحق، والتآزر على الدين. 8 - اجتماع كلمة المسلمين ووحدة صفهم، وتوحيد هدفهم نحو الخير. وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الكريمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، فاجتماع المسلمين في عباداتهم خير وبركة وإصلاح وفلاح، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. أسال الله تعالى أن يوحد كلمة المسلمين، وأن يجمع قلوبهم على الحق، وأن يعزهم بدينه، فهو القادر على ذلك، وهو نعم المولى ونعم النصير.

361 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرهِ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهُمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهُم، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِيْنَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مِنْبَره: بكسر الميم وسكون النون وفتح الباء ثم راء وهاء، وكان منبره -صلى الله عليه وسلم- من أعواد الطرفاء؛ وهي نوع من الإثل ينبت في السباخ. - لينتهين أقوام: "اللام" للابتداء، وتصلح أن تكون موطئة للقسم، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، ومحله الرفع؛ لتجرده من الناصب والجازم. - ودْعِهِم: بفتح الواو وسكون الدال المهملة، فكسر العين المهملة، من ودع الشيء إذا تركه. ولفظ الحديث يدل على أن ودع لها مصدر، خلاف ما قرره أكثر النحاة، من أنَّه ليس لها مصدر، ولا ماضٍ. - الجمعات: جمع جمعة، وهو جمع مؤنث سالم، والجمعات بتثليث الميم، والضم أفصح. قال العيني: التاء ليست للتأنيث، وإنما هي للمبالغة. - ليختمن الله على قلوبهم: الختم هو الطبع حتى تصير مغلقة، لا يصل إليها الخير والهدى، وذلك: بأن يمنعهم الله لطفه وفضله، وهذا أكبر الخذلان. ¬

_ (¬1) مسلم (865).

- من الغافلين: الغافل: هو الذاهل عما يفيده وينفعه، فهو معدود من جملة الغافلين، المشهود عليهم بالغفلة والشقاء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي الشديد عن ترك صلاة الجمعة، والوعيد الأكيد لمن تركها، بأنَّ الله يطبع على قلبه عقوبة الغفلة، ونقمة نسيانه نفسه، فيصبح من الغافلين عمَّا ينفعه في سعادته، حتى تنزل به مصيبة الموت، فيخسر الحياة الأبدية السعيدة، وذلك هو الخسران المبين. 2 - أمرَ الله تعالى كل رجل مؤمن مكلف بإتيان الجمعة إذا أُذِّن لها؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] والمراد بالسعي؛ الاهتمام بها، وسرعة التهيؤ بإعداد البدن، وجاءت أحاديث صحيحة صريحة؛ في أنَّها حقٌّ واجبٌ على كل مكلف، وبأن غسلها واجبٌ على كل محتلم، وبإحراق منزل المتخلف عنها، كل هذه لا تدع مجالاً للشك في أنَّ صلاة الجمعة واجبة على الأعيان، وليست فرض كفاية. 3 - قال القاضي عياض: أحد الأمرين كائن لا محالة، إما الانتهاء عن ترك الجمعات، وإما ختم الله على قلوب المتخلفين. والختم على القلب: هو ما يمنعهم من لطفه وفضله، أو خلق الكفر والنفاق في صدورهم، حتى يصبحوا من جملة الغافلين، المختوم عليهم بالغفلة والشقاء. 4 - قال في "شرح الإقناع": ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أو قبل فراغها -لم يصح ظهره؛ لأنَّه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به؛ فلم تصح. 5 - فيه دليل على أنَّ المعاصي بفعل المحرمات، أو ترك الواجبات -تسبب

ارتكاب غيرها عقوبة من الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ولأنَّ المذنب مرة أخرى لمَّا جَسُرَ على الذنب في المرة الأولى، درب عليه في الثانية، فصار عادة له. 6 - فيه دليل على أنَّ أعظم العقوبات هو إصابة الإنسان بالخذلان، والغفلة عن آخرته، حتى يموت فينتبه، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} فلا رجعة، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون]. 7 - في الحديث دليل على أنَّ صلاة الجمعة أهم الفروض، حيث لم يشدد في ترك شيء من الواجبات بمثل ما شدد فيها، فالجمعة أفضل من الظهر، بلا نزاع. 8 - الجمعة واجبة بإجماع المسلمين، وواجبة على الأعيان عند الجمهور، قال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنَّها فرض عين، لكن هناك شروط يشترطها أهل كل مذهب. 9 - قوله: "أو ليختمن الله على قلوبهم" فيه إثبات أفعال الله الاختيارية، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فإنَّهم ينسبون لله تعالى أفعاله الاختيارية، المتعلقة بمشيئته وإرادته. أما المعطلة: فيؤلونها بحجة أنَّ الفعل الحادث لا يقوم إلاَّ بحادث، والله سبحانه وتعالى ليس بحادث، وإنما هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو قول مردود بالنقل الصحيح، والعقل السليم. فأما النقل: فالنصوص كثيرة جدّاً؛ مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الأنبياء]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} [الأنبياء]، ومن حيث العقل: فإنَّ الذي يفعل أفضل وأكمل من الذي لا يفعل، والله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى. وأما من حيث المتعلق: فإنَّ صفات الله قديمة النوع، متجددة الآحاد.

362 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي معَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيْطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظلُّ بِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَهُ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الفَيْءَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الحيطان: جمع "حائط"، قال في "المصباح" -بتصرف-: الحائط: الجدار، والجمع جدر؛ مثل: كتاب وكُتُب، وسكون الدال في الجَدْر لغة، وجمعه: جدران. - نُجمِّع: -بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم ثم عين مهملة-: نصلي الجمعة. - نتتبع: من التتبع؛ أي: نطلب. - فيء: بفتح الفاء آخره همزة-: هو الظل بعد الزوال، فيكون أخص من الظل. ... ¬

_ (¬1) البخاري (4168)، مسلم (860).

363 - وَعَنْ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: "مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الجُمُعَةِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: "فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نقيل: من القيلولة أو القائلة، و"قال" من باب ضرب، وهي استراحة نصف النهار، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان]. قال ابن جزيء: هو مفعل من: النوم في القائلة، وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة. - نتغدَّى: بالغين المعجمة والدال المهملة من "الغداء"، وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار أو وسطه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (362) صريح في أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يصلي بأصحابه صلاة الجمعة تارةً إذا زالت الشمس، وتارةً ينصرفون من الخطبتين والصلاة، وما لها من السنن، وليس للحيطان ظل يُسْتَظَلُّ بها. وهذا التقسيم من الراوي لوقت صلاة الجمعة، يدل على أنَّهم تارةً يصلونها قبل الزوال، وتارةً يصلونها بعده. 2 - أما الحديث رقم (363): فصريح في أنَّهم ما كانوا يقيلون، ويتغدون إلاَّ بعد صلاة الجمعة، مما يدل على أنَّهم يصلونها قبل الزوال؛ لأنَّ القيلولة ¬

_ (¬1) البخاري (939)، مسلم (859).

والراحة لا تكون إلا بعد الظهر. قال ابن قتيبة: لا يسمى غداءً، ولا قائلةً إلاَّ بعد الزوال، فكانوا يبدؤون بصلاة الجمعة قبل القيلولة. * خلاف العلماء: اتَّفق العلماء على أنَّ آخر وقت صلاة الجمعة يخرج بانتهاء وقت صلاة الظهر؛ وذلك بدخول وقت صلاة العصر. واختلفوا في أول وقتها: فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ وقتها يبتدىء بزوال الشمس كالظهر، واستدلوا على ذلك: بما رواه البخاري (904) عن أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعة حين تميل الشمس". وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه إلى: أنَّ دخول وقتها يبتدىء بدخول وقت صلاة العيد، واستدل على ذلك: بما رواه مسلم (858) عن جابر: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا، فنريحها حين تزول الشمس". وللجمهور تأويلات بعيدة متعسفة على هذا الحديث وأمثاله. وحديث أنس في البخاري لا ينافي حديث جابر في مسلم؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- تارةً يصليها قبل الزوال، وتارةً بعده. والأفضل أن تكون الصلاة بعد الزوال، لأنَّه الغالب من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأنَّه الوقت المجمع عليه بين المسلمين، والاجتماع وعدم التفرق أولى وأحسن، والله الموفق. ***

364 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِماً، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّام، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلاَّ اثْنَا عَشْرَ رَجُلاً". رَوَاهُ مُسلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عِيْر: بِكسر العين المهملة ثم ياء تحتية مثناة ساكنة فراء، قال في "النهاية": هي الإبَل بأحمالها، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. - فَانْفَتَلَ الناس: بالنون الساكنة وفتح الفاء فمثناة فوقية، أي: انصرف الناس عن سماع الخطبة، وخرجوا من المسجد إلى لقاء العير. - إلاَّ اثنا عشر رجلاً: الكلام تام منفي، فيجوز في المستثنى منه الرفع عل البدلية من فاعل "يبقى"، ويجوز نصبه على الاستثناء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب خطبتي الجمعة؛ لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال أكثر المفسرين: إنَّها الخطبة، وحكى النووي الإجماع على وجوبها. 2 - استحباب كون الخطيب حال الخطبة قائماً، قال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] واستفاض ذلك من غير وجهٍ، وحكى ابن عبد البر: إجماع علماء المسلمين على أنَّ الخطبة لا تكون إلاَّ قائماً ممن أطاقه، ولا يجب ذلك؛ لأنَّه ليس من شروطها. 3 - انصراف الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، واكتفاؤه منهم باثني عشر رجلاً، دليل على صحة الجمعة بمثل هذا العدد. ¬

_ (¬1) مسلم (863).

4 - كان هذا في أول الإسلام قبل أن تثبت حرمة الشعائر في قلوبهم، وكان بالناس حاجةٌ ماسةٌ إلى الطعام، ومع هذا فإنَّ الله تعالى عاب فعلهم، فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] الآية. 5 - هذا الحديث من أدلة الإمام مالك في أنَّ العدد المعتبر لصحة صلاة الجمعة هو اثنا عشر رجلاً، ولكن الاستدلال غير وجيه. وسيأتي ذكر الخلاف في الحديث رقم (380) إن شاء الله. ***

365 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلاَةِ الجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ مَاجَهُ وَالدَّارقُطْنِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، لَكن قَوَّى أبو حاتمٍ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه البيهقي بسند صحيح على شرط الشيخين، ورواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني واللفظ له، ولكن قوى أبو حاتم إرساله. وقد أخرج الحديث من ثلاثة عشر طريقاً عن أبي هريرة، ومن ثلاثة طرق عن ابن عمر، وفي جميعها مقال. قال الألباني: وجملة القول: أنَّ الحديث بذكر "الجمعة" صحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً، وموقوفاً. * مفردات الحديث: - فليضف: أضاف الشيء إلى الشيء إضافة: ضمَّه إليه؛ أي: فليضف إلى الركعة التي أدرك مع الإمام ركعةً أخري؛ لتتم صلاته، و"اللام" لام الأمر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أن من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة مع الإمام، فليضف إليها ركعة أخرى، وقد تمت صلاة جمعته. 2 - مفهوم الحديث أنَّه إن لم يدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، وذلك بأن رفع ¬

_ (¬1) النسائي (757)، ابن ماجه (1123)، الدارقطني (2/ 12).

الإمام من الركعة الثانية، قبل أن يركع معه فإنه قد فاتته الجمعة، وعليه أن يصليها ظهراً. قال في "شرح الزاد وحاشيته": ومن أدرك مع الإمام من الجمعة ركعةً، أتمها جمعةً إجماعاً، وإن أدرك أقل من ذلك، بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية، ثم دخل معه، أتمها ظهراً، إن نوى الظهر ودخل وقته؛ لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من أدرك ركعة من الجمعة، فقد أدرك الصلاة" [رواه البيهقي (3/ 202)، وأصله في البخاري (580)، ومسلم (607)]. 3 - قال المحدثون: إنَّ حديث الباب صحيح مرفوعاً وموقوفاً بذكر الجمعة فيه، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضاً، قال الصنعاني: كثرة طرقه يقوي بعضها بعضاً. 4 - قوله: "وغيرها" أي: غير الجمعة من الصلوات كالجمعة؛ في أنَّها لا تدرك إلاَّ بإدراك ركعة؛ لما روى أبو هريرة مرفوعاً: "من أدرك ركعة من الصلاة أدركها" [أخرجه البخاي (580) ومسلم (607)]. قال شيخ الإسلام: مضت السنة؛ أنَّه من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاة. ***

366 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِماً، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِماً، فَمَنْ أنْبَأك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِساً، فقَدْ كَذَبَ". رَوَاهُ مُسلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أنبأك: فعل ماضٍ، من: الإنباء، من باب الإفعال، والمعنى: من أخبرك؟. - كذب: يكذب كذباً، والكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قيام الخطيب أثناء أداء الخطبتين يوم الجمعة؛ كما قال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] وحكى ابن المنذر إجماع علماء الأمصار على هذا. 2 - للقيام في الخطبة فوائد كثيرةٌ، من إظهار القوة والنشاط، ومن الحماس في الإلقاء، ومن إسماع الحاضرين وإبلاغهم، ومن اتباع السنة، وامتثال القرآن. 3 - يستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسةً خفيفةً ليفصل بها بين الخطبتين، وليستريح، وليتبع السنة. قال جماعة من العلماء: الجلسة تكون بقدر قراءة سورة الإخلاص. 4 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ما كان يخطب جالساً أبداً، فالصحابي الجليل جابر بن سمرة ¬

_ (¬1) مسلم (862).

الملازم للجُمَعِ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكَذِّبُ من أخبر أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يخطب جالساً. 5 - القيام في الخطبة سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والحنابلة، وذهب مالك إلى وجوبه، وأما الشافعي فقال: إنَّه شرط من شروط صحة الخطبة؛ للآية، ومواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ولما جاء من الأخبار. قال في "سبل السلام": وأما الوجوب وكونه شرطاً في صحتها، فلا دلالة عليه من اللفظ، إلاَّ أن ينضم إليه دليل التأسي به -صلى الله عليه وسلم-. 6 - قال ابن القيم: لم يُحفظ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعد اتخاذه المنبر أنَّه كان يرقاه بسيفٍ، ولا قوسٍ، وكثيرٌ من الجهلة يظن أنَّه يحمل السيف على المنبر، إشارةً إلى أنَّ الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهلٌ قبيحٌ من وجهين: أحدهما: أنَّ المحفوظ أنَّه إنما كان للاتكاء على العصا، أو القوس. الثاني: أنَّ الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلحق أهل العناد والشرك، والدين لم يُكْرَهْ عليه أحد، ولا خير في إسلام من أكره عليه. ***

367 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: أَمَّا بعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلاَلَةٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الجُمُعَةِ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إثر ذلِكَ، وَقَد عَلاَ صَوْتُهُ". وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: "مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ". وَلِلْنَّسَائِيِّ: "وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: القسم الأول في مسلم، أما زيادة: "وكل ضلالة في النار" من زيادة النسائي، ففي سندها: جعفر بن محمد الهاشمي، وهو ضعيف، وأخذ الحديث وجادة، ولهذا نفى الشيخ ابن تيمية هذه الزيادة، فقال في "مجموع الفتاوى" (19/ 191)، ولم يقل -صلى الله عليه وسلم-: "وكل ضلالة في النار". * مفردات الحديث: - خطب: يخطُب -من باب قتل- خُطبةً، بضم الخاء، جمعها: خطب، وهي ¬

_ (¬1) مسلم (867)، النسائي (1578).

فعلة بمعنى مفعولة؛ كنسخة بمعنى منسوخة، وهي الكلام المؤلَّف المتضمن وعظاً وإبلاغاً. - احمرَّت عيناه: هذه حالات تعتري الخطيب الناصح المتحمِّس. - علا صوته: ارتفع؛ ليكون لكلامه وقعٌ، وتأثيرٌ، بالمستمعين. - اشتد غضبه: قوي وزاد، والغضب استجابة للانفعال. - كأنه منذر: الإنذار: الإخبار مع التخويف، فالمنذر: هو المخبر بتحذير. - صبَّحكم: من باب التفعيل؛ أي: نزل بكم العدو صباحاً ومساءً. - أما بعد: "أما" بفتح الهمزة أداة تفصيل، و"بعد" ظرف مبهم مقطوع عن الإضافة، مبني على الضم، ويؤتى بـ"أما بعد" للفصل والانتقال من موضوع إلى آخر، وبعضهم جعلها هي فصل الخطاب التي في الآية: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} [ص] واختلفوا في أول من قالها، فقيل: النبي داود، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان. - هُدَى محمد: ضبط بضم الهاء وفتح الدال، فيكون معناه: الدلالة والإرشاد، وضبط بفتح الهاء وسكون الدال، فيكون معناه: أحسن الطرق طريق محمد. - محدثاتها: أي: مخترعاتها، مما لم يكن ثابتاً بشرع من الله، ولا من رسوله، والمراد به البدع في الدين. - بدعة: قال الشاطبي: أصل مادة بدع للاختراع، على غير مثال سابق، ومن هذا سمي العمل الذي لا دليل عليه من الشرع بدعةً، وسيأتي البحث عنها بأتم من هذا، إن شاء الله تعالى. - ضلالة: الضلالة هي ضد الهداية؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [الرعد]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه مشروعية خطبتي الجمعة.

قال في "الحاشية": ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين؛ وفاقاً لمالك والشافعي وجماهير العلماء. وحكاه النووي إجماعاً، ومشروعيتهما مما استفاضت به السنة. 2 - الحديث فيه صفة الخطيب، وما ينبغي أن يكون عليه عند إلقاء الخطبة من أحوالٍ وصفاتٍ، ترجع إلى إثارة الحماس والانفعال، الذي يسري من نفس الخطيب إلى نفوس السامعين، فينبههم ويوقظ ضمائرهم، ويلهب شعورهم، ويحرك قلوبهم نحو الإقبال على الله تعالى بالطاعات، والابتعاد عما نهى الله عنه من المعاصي. فمن ذلك أن: تحمر عيناه؛ وذلك إشارة إلى الغضب والانفعال. يعلو صوته؛ ليصل إلى مسامعهم، وليهز قلوبهم. يشتد غضبه، ليوقظ حماسهم ويثير شعورهم بحماسه، وثورته، وهيجانه، وانفعاله، حتى كأنه منذر جيش أحاط بالبلاد، ويوشك أن يصبحهم، أو يمسيهم؛ ليستولي على بلادهم، فيفتك بهم، ويسْبي نساءَهم، ويسترق ذراريهم، ويسلب أموالهم. 3 - وكان مما يحث عليه في الخطبة هو العمل بكتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحث على سنة وهدْي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذي هو صنو الكتاب في الهداية، والدلالة على الخير. قال ابن القيم: مقصود الخطبة هو الثناء على الله تعالى، وتمجيده بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته، ونهيهم عمَّا يقربهم من سخطه وناره. وزاد ابن القيم بقوله: إنما كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تقريراً لأصول الإيمان

بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه، وأهل معصيته. 4 - كان ينهى عن الابتداع في الدين ومحدثات الأمور، فقد أكمل الله الدين وأتم نعمته على عباده المسلمين، ويذكر أنَّ أية بدعة فهي ضلالة، وأنَّ كل ضلالة سبب في دخول النار، ذلك أنَّ الضال الذي يرى أنه مهتدٍ أصعب أمراً من العاصي، الذي يعلم أنَّه يعصي الله تعالى، فالأول يبْعُدُ رجوعه عن ضلالته وبدعته، أما الثاني فهناك أمل كبير أن يرجع إلى الله تعالى بالتوبة عما هو عليه من المعاصي. 5 - وقوله: "وكل بدعة ضلالة" دليل على أنَّ تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة، وبدعة سيئة، لا يصح، بل البدعة كلها ضلالة، أيّاً كانت. 6 - وذكر في الرواية الأخرى: أنَّ من أدب الخطبة افتتاحها بحمد الله تعالى والثناء عليه؛ لأنَّ الكلام الذي لا يبدأ بحمد الله فهو منزوع البركة، وإنَّ الهداية والتوفيق بيد الله تعالى، وإنَّ ضلال العبد بتدبيره، فلا يخرج شيء عن قدرته وإرادته، فكله راجع إلى تدبير الحكيم، والإرادة العالية. 7 - قال البغوي: يستحب ختم الخطبة بقوله: "أستغفر الله لي ولكم"، وعمل الأكثر عليه. قال في "الروض": ويباح الدعاء لمعيَّن كسلطان، فقد دعا أبو موسى لعمر، رضي الله عنهما قال الإمام أحمد: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان؛ لأنَّ في صلاحه صلاح المسلمين. قال النووي: الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق ونحو ذلك -مستحبٌّ بالاتفاق. 8 - ينبغي للخطيب وغيره من الداعين لولاة أمور المسلمين ألا يخص بقلبه

السلطة العليا فيهم فقط، وإنما يعم الدعاء لكل من ولي أمراً من أمور المسلمين؛ سواء منهم المقامات العالية، أو من تحتهم: من وزراء، ومديرين، ورؤساء أقسام، وأهم من ذلك الدعاء لعلماء المسلمين وقضاتهم؛ فإنَّ صلاح الرعية هو بصلاح ملوكها وعلمائها، وفسادها بضد ذلك. 9 - ينبغي للخطيب والإمام ونحوهما أن لا يلازما الأحكام المستحبة في كل صلاة، أو في كل خطبة، لأنَّ العامة يعتقدون أنَّ هذا العمل واجبٌ، لا يجوز الإخلال به، ولكن الأفضل هو تركه في بعض الأحيان؛ ليكون ذلك تعليماً. 10 - هذا الوصف البليغ من جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- لحالة النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء إلقاء خطبته -نفهم منه آداب الخطيب، التي ينبغي أن يتَّصف بها، عندما يقوم في الناس خطيباً. 11 - أن يكون عنده القدرة على إقناع السامعين بالرأي الذي يدعو إليه بما يُبديه من الحجج والبينات. 12 - أن يكون عنده الموهبة التامة لاستمالة السامعين إلى الإصغاء إليه، والقناعة بما يدعو إليه. 13 - أن يدور محور خطبته على إثارة المشاعر، لفعل الخير، وتجنب الشر، وتوجيه النفوس نحو الله تعالى، فيحاول رفع نفوس السامعين، ويسمو بها من حقارة الدنيا، فيربطها بما أعدَّ الله تعالى لعباده من الثواب، فنفوس السامعين في أماكن العبادة أكثر استعداداً لقبول ما يلقيه الخطيب، وأكثر تأثراً بما تسمعه منه. 14 - أن يوحِّد موضوع الخطبة، فلا يشغل أفكار السامعين بالانتقال من موضوع لآخر، بما يفتر حماسهم ويخمد نفوسهم. 15 - أن تكون الخطب فيما يهتم به السامعون، من المواضيع التي تشغل بالهم،

وتثير اهتمامهم، وترددها ألسنتهم؛ فإنَّهم لها أسمع، وإليها أقبل، وبها أعرف. 16 - أن يكون في إلقائه متحمساً، ثائراً، منذراً، ومحذّراً، ومبشراً، وأن يلقي خطبته بفقرات جزلة، يظهر فيها التكرار، واستعمال المترادفات، وضرب الأمثال، وتضمين الآيات والأحاديث، ويكون تارةً مستفهماً، وأخرى منكراً، وثالثة متعجباً. فالأسلوب الخطابي له أداؤه الخاص، والخطيب له موقفه المثير، حتى يسري ذلك في السامعين، ويؤثِّر فيهم، ويصدرون وهم أكثر قناعةً وقبولاً لما سمعوا. * فائدة: قال الشاطبي: أصل مادة "بدع" للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة] أي مُحْدِثهما من غير مثال سابق. فمن هذا المعنى، سمي العمل الذي لا دليل عليه من الشرع "بدعة"، والفاعل له "مبتدعاً"، فالبدعة إذن هي عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. والبدعة: حقيقية، وإضافية. فالبدعة الحقيقية هي التي لا يدل عليها دليل شرعيٌّ، وإن زعم المبتدع أنَّ ما ابتدعه داخلٌ تحت مقتضى الأدلة، لكنها دعوى غير صحيحة، من ذلك: 1 - تحكيم العقل، ورفض النصوص في دين الله تعالى. 2 - قول الكفار: إنَّما البيع مثل الربا. 3 - صلاة بركوعين، وسجود واحد. 4 - صلاة مبدوءة بالتسليم، مختومة بالتكبير. 5 - صلاة يتشهد في قيامها، ويقرأ في سجودها وركوعها.

6 - السعي بين جبلين غير الصفا والمروة بَدَلهما. وأما البدعة الإضافية: فهي التي لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة تعلق؛ إذ إنَّ دليلها من جهة الأصل قائم. الثانية: ليس لها تعلق، إذ أنَّها من جهة الكيفيات والأحوال لم يقم عليها دليل، مع أنَّها محتاجة إليه؛ لأنَّ وقوعها في التعبدات، لا في العادات المحضة، ولها أمثلة كثيرة منها: 1 - صلاة الرغائب: وهي اثنتا عشرة ركعة في أول ليلة جمعة من رجب، قال العلماء: إنَّها بدعة منكرة. 2 - صلاة ليلة النصف من شعبان، ووجه كونها بدعة إضافية أنَّها مشروعة باعتبار مشروعية الصلاة، وغير مشروعة باعتبار ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص، والكيفية المخصوصة، فهي مشروعةٌ باعتبار ذاتها، مبتدعةٌ باعتبار ما عرض لها. قال النووي: صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقال في "شرح الإحياء": بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب "القوت"، وكتاب "الإحياء" وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة خير موضوع"؛ فإنَّ ذاك يختص لصلاة لا تخالف الشرع بوجه. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن خطبة الجمعة والعيدين بغير العربية: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في السؤال المحال إليه، حول الخلاف القائم بين بعض المسلمين في الهند؛ بشأن جواز خطبة الجمعة باللغة المحلية غير العربية، أو عدم جوازها؛ لأنَّ هناك من يرى عدم الجواز،

بحجة أنَّ خطبة الجمعة تقوم مقام ركعتين من صلاة الفرض، ويسأل السائل أيضاً: هل يجوز استخدام مكبر الصوت في أداء الخطبة، أو لا يجوز، وأنَّ بعض طلبة العلم يعلن عدم جواز استخدامه، بمزاعم وحججٍ واهيةٍ، وقد قرر مجلس المجمع بعد اطِّلاعه على آراء فقهاء المذاهب: 1 - أنَّ الرأي الأعدل الذي يختاره هو أنَّ اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والعيدين -في غير البلاد الناطقة بالعربية- ليست شرطاً لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة، وما تتضمنه من آيات قرآنية باللغة العربية، لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن، مما يسهل عليهم تعلمها، وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم، وينورهم به بلغتهم التي يفهمونها. 2 - أنَّ استخدام مكبر الصوت في أداء خطبة الجمعة والعيدين، وكذا القراءة في الصلاة، وتكبيرات الانتقال -لا مانع منه شرعاً، بل إنَّه ينبغي استعماله في المساجد الكبيرة المتباعدة الأطراف؛ لما يترتب عليه من المصالح الشرعية. فكل أداة حديثة وصل إليها الإنسان بما علمه الله، وسخر له من وسائل، إذا كانت تخدم غرضًا شرعيّاً، أو واجبات الإسلام، وتحقق فيه من النجاح ما لم يتحقق دونها -تصبح مطلوبة بقدر درجة الأمر الذي تخدمه، وتحققه من المطالب الشرعية؛ وفقاً للقاعدة الأصولية المعروفة، وهي أنَّ ما يتوقف عليه تحقيق الواجب فهو واجب، والله سبحانه هو الموفق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ***

368 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قِصر: بكسر القاف وفتح الصاد؛ أي: تقصيرها. - مَئِنَّة: بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة، أي: علامة ودلالة. - من فقهه: الفقه لغة: الفهم، وشرعاً: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية العملية بأدلتها التفصيلية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قصر خطبة الجمعة وإيجازها، مع الإتيان بالمعنى المراد منها. 2 - قال في "شرح الإقناع": ولا تصح الخطبة بغير العربية مع القدرة عليها، وتصح مع العجز عنها؛ لأنَّ المقصود الوعظ والتذكير، وحمد الله، والصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يجزىء بغير العربية. 3 - استحباب إطالة صلاة الجمعة الطول الشرعي، الذي لا يشق على العاجز الضعيف، والمريض، وذوي الحاجة. 4 - أنَّ قِصر الخطبة، وإطالة الصلاة دليل على فقه الخطيب والإمام؛ فإنَّه استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة بألفاظ قليلة، وبوقفة قصيرة، أما تشقيق الكلام وتطويله، فهو دليل على العي والعجز عن الإبانة، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ. ¬

_ (¬1) مسلم (869).

أما إطالة الصلاة، فلأنَّ الإمام عرف مقام هذه الفريضة الجليلة، التي هي أفضل فرض من فروض الصلاة، فأعطاها حقها من الطمأنينة، واستيعاب الواجبات والمستحبات فيها. 5 - أنَّ تصرفات الإمام في الصلاة، من ترتيب القراءة في الصلاة، وترتيب السور، وإطالة الأولى، وقصر الثانية، وقراءة كل صلاة بما يناسبها، واختيار السور النظائر في صلاة واحدة، وغير ذلك مما ينبغي للإمام الإتيان به في الصلاة -دليل على علمه، ومعرفته بكلام الله تعالى، وفقهه في دينه. ***

369 - وَعَنُ أَمِّ هِشَامٍ بنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مَا أَخَذْتُ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إِلاَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى المِنْبَرِ، إذَا خَطَبَ النَّاسَ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قراءة سورة {ق} أو بعضها في خطبة الجمعة؛ فإنَّ ذلك من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- الغالبة. 2 - سبب اختياره -صلى الله عليه وسلم- هذه السورة، هو ما اشتملت عليه من ذكر إحصاء ما يلفظ به الإنسان من خير وشر، وما جاء فيها من ذكر الموت والبعث، وذكر الجنة والنار، وما جاء فيها من المواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، فهي خير ما يُوعظ به السامعون. 3 - فيه مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وهي واجبة عند بعض العلماء، ومنهم الحنابلة، فلابد من قراءة آية من كتاب الله. 4 - فيه استحباب ترديد المواعظ؛ تذكير الناس في الخطبة. 5 - فيه أنفع ما يوعظ به العامة والعصاة هو ذكر الموت، والبعث، والجزاء؛ فإنَّ من ذكر ذلك وتحقَّقه، ارتدع وخاف، إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. ... ¬

_ (¬1) مسلم (873).

370 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الجُمُعَةِ -وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ". روَاهُ أَحمَدُ بإسْنَادٍ لا بأسَ بِهِ (¬1). وَهُوَ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ مَرْفُوعاً: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الجُمُعَةِ -وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقدْ لَغَوْتَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث فيه فقرتان: إحداهما: "إذا قلتَ لصاحبك: أنصت يوم الجمعة -والإمام يخطب- فقد لغوت"؛ هذا حديث مرفوع في الصحيحين، وهذه الفقرة هي الأصل في الحديث. الثانية: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ... إلخ"؛ فهذه مفسرة للجملة الأخرى. قال المؤلف: رواه أحمد بإسنادٍ لا بأس به. قال الصنعاني: وله شاهد قوي مرسل في "جامع حماد". * مفردات الحديث: - أسفاراً: جمع "سِفر" بكسر السين، والسِّفر: الكتاب الكبير، جمعه: ¬

_ (¬1) أحمد (2034). (¬2) البخاري (934)، مسلم (851).

"أسفار"، وسمي الكتاب الكبير: سفراً؛ لأنَّه يسفر عن المعنى إذا قرىء، وإنما شُبِّه القارىء الذي لا يستفيد ولا يعمل، بالحمار يحمل أسفاراً؛ لأنَّه فاته الانتفاع من سماع الذكر، مع تكلفة مشقة التهيؤ للجمعة، والحضور إليها. - أَنْصِتْ: فعل أمر، من: أنصت ينصت إنصاتاً، والإنصات: هو السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة، يقال: أنصته، وأنصت له. - والإمام يخطب: "الواو" واو الحال، والجملة جملة حالية، من فاعل "أنصت". - لغوت: لغا الشيء لغواً، من باب قال؛ أي: بطل، واللغو: هو الكلام الذي لا يعتد به، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع، وهو الساقط من الكلام، ومن تكلم يوم الجمعة، سقط نصيبه من أجر الجمعة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث دلالة على تحريم الكلام، والإمام يخطب يوم الجمعة. 2 - فيه دلالة على أنَّ النَّهي عن الكلام مختص بحال الخطبة، وهو رد على قول من يقول: إنَّ النَّهي عن الكلام من خروج الإمام. 3 - فيه دليل على إباحة الكلام بين الخطبتين؛ لأنَّ المنع هو حال خطبة الإمام. 4 - فيه دلالة على تحريم تسكيت المتكلم أثناء الخطبة، وأنَّ من سكت المتكلم فقد لغا؛ حيث أتى بكلام في حالٍ، هو مأمور فيها بالإنصات والاستماع. 5 - قوله: "ليست له جمعة" الأصل في النفي أنَّه لنفي الحقيقة الشرعية، بمعنى: أنَّه لم تصح له جمعة، ولكن صرفها إلى نفي الكمال أرجح؛ ذلك أنَّ الخلل هنا ليس في نفس الصلاة، وإنما هو خارجها، وإذا لم يتعد الخلل إلى العبادة يحمل على نفي الكمال. 6 - إذا كان لابد من تسكيت المتكلم، فليكن بالإشارة، فهي أخف وأبعد عن الانشغال بالكلام والمحاورة.

7 - مُثِّل المتكلم أثناء الخطبة بالحمار، الذي يحمل على ظهره أسفار الكتب، ومراجع العلم؛ ذلك أنَّ المتكلم قد تكلف لحضور الجمعة، وسماع الخطبة، والاستعداد لها، والمجيء إليها، والمشقة في حضورها، ثم لم ينتفع بأهم ما في صلاة الجمعة، وهي الخطبة التي قال الله عنها: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فهو مثل الحمار الذي حمل على ظهره أسفار الكتب، وذخائر العلم، ومع ذلك لا يستفيد منها، فهذا لم يستفد من جمعته، التي بذل المشقة في الوصول إليها، فبين هذا اللاغي وبين الحمار الموصوف بالبلادة شبَه؛ من حيث عدم الانتفاع والاستفادة مما حمل. 8 - وجوب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب ذلك. 9 - تحريم الكلام حال سماع الخطبة، وأنَّه منافٍ للمقام. 10 - استثني من هذا من يخاطبه الإمام، أو يخاطب الإمام؛ كما جاء في قصة الرجل الذي شكا إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- القحط، والرجل الذي دخل المسجد، ولم يصلِّ تحية المسجد، فأمره بالقيام والصلاة. 11 - الخطبتان من أعظم شعائر الجمعة، فيجب الإنصات لهما، ولذا فإنَّ أقلَّ كلمة والإمام يخطب، تعتبر لغواً؛ لمنافاتها سماع الذكر والخطبة. 12 - أجمع الأئمة الأربعة على وجوب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، لكن اختلفوا في حكم رد السلام؛ ونحوه: فبعضهم أجاز تشميت العاطس، ورد السلام، ومنهم الثوري والأوزاعي وأحمد وأتباعه. وبعضهم: لم يجز التشميت ورد السلام، فهو مقابل للقول الذي قبله؛ ويروى عن الشعبي، وسعيد بين جبير، وإبراهيم النخعي. وبعضهم: فرَّق بين من يسمع الخطبة فلا يجوز، ومن لا يسمعها فيجوز؛ وهو رواية عن أحمد، ومروي عن عطاء وجماعة.

والجمهور على أنَّ صلاته لا تفسد إذا تكلم. 13 - قال القاضي عياض: اختلف العلماء فيمن لا يسمع الخطبة، هل يجب عليه السكوت كما لو كان يسمع، وقال الجمهور: نعم؛ لأنَّه إذا تكلم يشوش على السامعين، ويشغلهم عن الاستماع. وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه، ولكن يستحب له. قال محرره: استثنى بعض العلماء من لايسمع لصممه؛ أنه لا ينبغي له السكوت، بل يشتغل بالقراءة والذكر؛ وهو قول وجيه. ***

371 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَقَالَ: صلَّيْتَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلْيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية خطبة الجمعة، وَأنَّها من شعائر الصلاة التي يلزم الإتيان بها. 2 - استحباب ركعتي تحية المسجد وتأكدها؛ حيثُ قُدِّمَت على سماع الخطبة، وأمر بها -صلى الله عليه وسلم- وهو مشغول بالخطبة. 3 - الحديث وإن كان أمراً بتحية المسجد، والأمر يقتضي الوجوب، إلاَّ أنَّ هناك أدلةً أخرى صحيحةً، صارفة الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب. ومن تلك الأحاديث: "أنَّ سائلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل عليَّ غير الصلوات المكتوبة؟ فقال: لا"، وحديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد، فجلس منهم رجلان يسمعان العلم بدون الصلاة، ودخول كعب بن مالك المسجد بعد التوبة عليه، ولم يصل، وكل هذا على مرأى من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأمرهم بتحية المسجد. 4 - أنَّ الجلوس القليل لا يفوت وقت الركعتين؛ فإنَّ الرجل جلس ثم قام، فصلَّى. 5 - جواز الكلام حال الخطبة من الخطيب ومن يخاطبه، لأنَّه في هذه الحال لا يوجد انشغال عن سماع الخطبة. 6 - أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يقر خطأ يراه، وإنما ينبه عليه في وقته، فهو وقت البيان. ¬

_ (¬1) البخاري (931)، مسلم (875).

7 - أنَّه لا يزيد في تحية المسجد حال الخطبة على ركعتين؛ لأنَّه لابد من الإنصات للخطبة، كما أنه في غير هذه الحال فإنَّ تحيَّة المسجد ركعتان، وما زاد فهو تطوع مطلق. 8 - قوله: "قم فصل ركعتين" الخطاب خاص مع هذا الرجل الداخل، لكن الحكم عام فيه وفي غيره؛ فقد قال شيخ الإسلام: إنَّه ليس في النصوص نصٌّ يخص شخصاً بعينه لعينه، ولكنه يخصه لوصفه؛ لأنَّ الناس عند الله تعالى سواء. هذا فيما عدا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ له أحكاماً تخصه لنبوته ورسالته، وإن كان الأصل العموم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن دخل المسجد والخطيب يخطب: هل يصلي تحية المسجد، أو يجلس وينصت للخطيب؟ فذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث إلى: أنَّ المستحب له الصلاة، مستدلين بهذا الحديث. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أنَّه يجلس ولا يصلي؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف، الآية: 204] وحديث: "إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت". وأجابوا عن حديث الباب بأجوبةٍ واهيةٍ. ولذا قال النووي عند هذا الحديث في شرح مسلم: هذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ، ويعتقده صحيحاً يخالفه. أما الآية فالخطبة ليست قرآناً، ومع هذا فهي مخصصة، وأما الحديث: "فقد لغوت"، فهو أمر الشارع، فلا تعارض بين أمرين، بل القاعد ينصت، وأما الداخل فيصلي تحية المسجد.

372 - وَعَنِ ابْنِ عَبَاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الجُمُعَةِ سُورَةَ الجُمُعَةِ وَالمُنَافِقِينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 373 - وَلَهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ يَقْرَأُ فِي العِيدَيْنِ، وَفِي الجُمُعَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} " (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سَبِّح: فعل أمر من "التسبيح"، وهو تنزيه الله تعالى عن النقص والعيب، وهو تنزيه يثبت ضده من الكمال والجلال. - اسم: اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: إنَّه زائد؛ لأنَّ الذي يُسَبَّح هو الرب، والتقدير: "سبح ربك"، فالتسبيح وارد على المسمى. وقال بعضهم: إنَّ الاسم هو المسمى، والراجح الأول، ولكن زيادات القرآن تكون لفائدة، ومنها: التوكيد. - الأعلى: مجرور على أنَّه صفة لـ"رب"، والكسرة لا تظهر على آخره للتعذر، وهو اسم تفضيل محلى بـ "أل"؛ ليفيد العلو المطلق للذات والصفات. - هل: استفهام يراد به التحقيق؛ لأنَّها متضمنة معنى التقدير. - أتاك: الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وما خوطب به، فهو خطاب لأمته. - حديث: النبأ، وحديثها: ما جاء في نفس السورة من أخبار الفريقين، وما جاء من وصف الجزاءين. ¬

_ (¬1) مسلم (879). (¬2) مسلم (878).

- الغاشية: الغشي هو: الإغماء، وما يصيب من فتور الأعضاء، وتعطل لقوى الإرادة والحركة من أثر شدة الصدمة، والمراد هنا: "يوم القيامة" الذي يصيب الناس بأهواله، فيفقدون وعيهم وإحساسهم، فتراهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - استحباب الجهر في صلاة الجمعة، ولو كانت صلاة نهارية؛ وذلك لجمعها الخلق الكثير، فينبغي أن يسمعوا القرآن ممن يحسن القراءة. 2 - استحباب قراءة سورة {الجمعة} في الركعة الأولى، وسورة {المنافقين} في الركعة الثانية، كل ذلك بعد الفاتحة. 3 - أما الحديث رقم (373): فيدل على الجهر في صلاة الجمعة، وصلاة العيد. 4 - يدل على استحباب قراءة سورة الأعلى، في الركعة الأولى من الجمعة والعيدين، وسورة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} في الركعة الثانية، بعد الفاتحة فيهما. 5 - قوله: "كان يقرأ الجمعة والمنافقين"، وقوله: "كان يقرأ سبح والغاشية" -دليلٌ على أن "كان" لا يراد بها الدوام، وإلاَّ لتعارض الحديثان، وإنما المراد أنَّ أكثر قراءته في هذه السور الأربع، تارةً هاتين السورتين، وتارةً السورتين الأخيرتين. 6 - مناسبة سورة الجمعة في صلاة الجمعة ظاهرة؛ ففيها الحث على هذه الشعيرة الكبيرة، والحض على الإتيان إليها، وإلى ذكر الله فيها، وترك ما يشغل عنها من أعمال الدنيا ولهوها، ولو كان مباحاً نافعاً، فكيف إذا كان ما يشغل ضارّاً محرَّماً؟! كما أنَّ فيها تمثيلَ من عنده أسفار العلم النافعة، ولا يستفيد منه فمثله كمثل الحمار، الذي يحمل تلك الأسفار، ولا ينتفع بها، وهو مَثَل يُضربُ لمن يأتي إلى الجمعة، ولكنه يشتغل عن سماع الذكر بالكلام، والانشغال بما لا فائدة فيه.

7 - أما سورة المنافقين: فقال بعض العلماء: إنَّ مناسبتها إسماعها المنافقين الذين لا يحضرون إلاَّ لهذه الصلاة فقط، ولكني أرى فيها شيئاً من سورة الجمعة، حينما انفض المسلمون: وأعرضوا عن سماع الذكر، حينما قدمت العير، ففيها ما ينبه على هذه الغلطة منهم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون]. 8 - في سورة المنافقين أيضاً التحذير من هذا الخلُق الذميم وهو النفاق سواء كان هذا النفاق اعتقادياً وهو النفاق الأكبر المخرج من الملة، أو كان نفاقاً عمليّاً، وهو النفاق الأصغر، الذي صاحبه على خطر كبير، إلاَّ أنَّه لم يخرج من الملة. 9 - أما مناسبة سورة {الأعلى}: فالأعلى هو صاحب العلو المطلق في الذات والصفات، فعلو الذات هو أنَّه سبحانه وتعالى عالٍ بذاته، فوق جميع مخلوقاته، فله العلو المطلق فليس فوقه شيء، ولا يحيط به شيء، بل هو المحيط بكل شيء، العالي على كل شيء، ولو أحاط به شيء، أو كان فوقه أو ساواه شيءٌ، لانتفى عنه العلو المطلق، ومن وصف الله بغير ذلك من العلو، فقد نقصه، ورضي له بأدنى الأمكنة، وعلو الله تعالى شهد به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع أهل السنة، والعقل الكامل، والفطرة السليمة. كما بينت هذه السورة أحوال يوم القيامة والجزاء فيها، وعدم الاغترار بالحياة الدنيا، وبيَّنتها سورة الغاشية، فقد احتوت على حالي الآخرة بالنعيم والجحيم، فهذا وجه جمع هاتين السورتين في المواضع العامة، لمناسبة مخاطبة الجمهور، وتذكيرهم بسرعة، وإيجاز عن معادهم.

374 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- العِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الجُمُعَةِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، وقَوِيَ بشواهده؛ قال الشوكاني: حديث زيد بن أرقم أخرجه النسائي والحاكم، وصححه ابن المديني وابن خزيمة، وفي إسناده: إياس بن أبي رملة، وهو مجهول. قال محرره: الحديث له شواهد، منها: 1 - حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم (1/ 425)، وفي إسناده: بقية بن الوليد. قال المنذري: فيه مقال. 2 - حديث ابن عمر: أخرجه ابن ماجه (1312)، وإسناده ضعيف. 3 - حديث عطاء بن أبي الزبير: "صلَّى في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدنا، فذكرنا ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة" [رواه أبو داود (1071)]. قال محرره: والحديث بهذه الشواهد قد قوي. * مفردات الحديث: - رخص في الجمعة: الرخصة لغة: السهولة واليسر، واصطلاحاً: ما يثبت على خلاف دليلٍ شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ. ¬

_ (¬1) أحمد (18831)، أبو داود (1070)، النسائي (1591)، ابن ماجه (1310)، ابن خزيمة (2/ 359).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث دلالة على أنَّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، فإنَّه يجوز لمن صلَّى صلاة العيد، ألا يصلي صلاة الجمعة، ويكتفي بصلاة الظهر. 2 - ذلك أنَّه اجتمع عيدان في يوم واحد، فدخل أحدهما في الآخر، فاكتفي بحضور صلاةٍ واحدةٍ منها. 3 - ومن أسباب اكتفاء إحداهما بالأخرى قوة الشبه بين الصلاتين؛ من حيث إنَّ كلاًّ منهما ركعتان يُجهر فيهما بالقراءة، وفي كل منهما خطبتان، وفيهما الجمع الكبير، والاحتفال العظيم، لكنه لا تسقط صلاة الظهر عمن لم يحضر الجمعة. 4 - أما من لم يحضر العيد أو فاتته، فلا يجوز له التخلف عن صلاة الجمعة؛ لئلا تفوته الفريضتان، ولئلا يتأخر عن المشهدين الكبيرين. 5 - قوله: "رخَّص" يدل على أنَّ المستحب هو الحضور؛ فإنَّ الرخصة إنما تفيد التخفيف والتسهيل فقط، بل إنَّ جمهور الفقهاء لا يرون سقوط صلاة الجمعة بصلاة العيد إذا اجتمعا في يوم واحد. 6 - أما الإمام فلا يتخلف، وإنما يجب عليه الحضور لإقامة الجمعة للناس الذين سيحضرون؛ فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مجمعون"، فهو المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، ولأنَّ صلاة الظهر هي فرض الوقت، فتغني عن الجمعة فى الأحوال التي لا تصلى فيها. 7 - قال بعض الناس: إنَّ الجمعة والظهر يسقطان عمن صلى العيد، وهذا قول ضعيف جدًّا.

قال شيخ الإسلام: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أصحها: أنَّ من شهد العيد، سقطت عنه الجمعة، فقد اجتمع عبادتان من جنس واحد، فدخلت إحداهما في الأخرى، ولأنَّ في إيجابهما على الناس تضييقاً لمقصود عيدهم، وما سُنَّ لهم فيه من السرور والانبساط، فحينئذ تسقط الجمعة. 8 - يدل على أنَّه ينبغي أن ينبه الناس إلى الأحكام التي تخفى عليهم، ويكون التنبيه وقتها؛ لأنَّه وقت الحاجة إلى معرفتها. ***

375 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَلَّى أحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيُصَلَّ بَعْدَهَا أرْبَعًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دلالة على أنَّ للجمعة سنة بعدها، وأنَّها أربع ركعات تصلى ركعتين ركعتين. 2 - جاء في البخاري (937)؛ ومسلم (882) عن ابن عمر: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد الجمعة ركعتين"، وجاء في سنن أبي داود: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ستًّا". قال الإمام أحمد: إن شاء صلَّى ركعتين، وإن شاء صلَّى أربعًا، وإن شاء صلَّى ستًّا، فأيها فعل فحسن، والكل كان يفعله -صلى الله عليه وسلم-. 3 - ولا سنة راتبة للجمعة قبلها، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج من بيته، ويصعد المنبر، ثم يأخذ بلال في الأذان، فإذا انتهى منه كمله أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة من غير فصل. قال شيخ الإسلام، وابن القيم: لا سنة للجمعة قبلها، وهو أصح قولي العلماء، وعليه تدل السنة. قال الشيخ: وهو مذهب الشافعي، وعليه جماهير الأئمة، وعدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رواتب الصلوات، ولمَّا لم يذكر لها راتبة إلاَّ للَّتي بعدها، عُلِمَ أَنَّهُ لا راتبَة لها قبلها. وهذا مما انعقد سبب فعله في عهده -صلى الله عليه وسلم-، فإذا لم يفعله، ولم يشرعه، كان تركه هو السنة. ¬

_ (¬1) مسلم (881).

قال أبو شامة: وما وقع من بعض الصحابة أنَّهم كانوا يصلون قبل الجمعة، فمن باب التطوع المطلق، وليس بمنكر، وإنما المنكر اعتقاد العامة وبعض المتفقهة أنَّ ذلك سنة للجمعة قبلها. قال الشيخ: الأولى لمن جاء الجمعة أنَّ يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام؛ لما في الصحيح "ثم يصلي ماكتب له". ***

376 - وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: "إِذَا صَلَّيْتَ الجُمُعَةَ، فَلاَ تَصِلْهَا بصَلاَةٍ، حتَّى تَتَكَلَّمَ أوْ تَخرُجَ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَنَا بِذلِكَ: ألاَّ نُوصِلَ صَلاَةً بِصَلاَةٍ، حَتَّى نَتكلَّمَ، أَوْ نَخْرُجَ". رَوَاهُ مُسلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فلا تصِلْها: من "الوصل"، من باب ضرب. - أو تخرج: أي: من المسجد، أو من موضع الصلاة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كراهة وصل صلاة النافلة -ولو راتبة- بصلاة الفرض، حتى يخرج، فيصليها بالبيت، كما هو الأفضل، أو يفصل ذلك بأذكار الصلاة المكتوبة؛ فإنَّ للشارع الحكيم نظرًا للتمييز بين الفرض والنفل، وبين العبادات بعضها عن بعض؛ لئلا يُشَبَّه الفرض بغيره، فربما -مع الجهل، وتطاول الأمر- زيد في الفرائض ما ليس فيها. 2 - الحكمة في ذلك -والله أعلم-: تمييز العبادات بعضها عن بعض، فتميز النافلة عن الفريضة: لذا نهى عن الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين، وله نظائر كثيرة في الشرع. 3 - المستحب أنَّ مصلي الجمعة يصلي سنتها، أو سننها في المسجد، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، ولكنه لا يصِلُ الراتبة بها، وإنما يصليها بعد كلامٍ، ومنه أذكار الصلاة المشروعة بعدها. ¬

_ (¬1) مسلم (883).

قال العلماء: الأولى التحول لصلاة النافلة عن مكان صلاة الفريضة، ففيه تكثير لمواضع الصلاة والسجود؛ ليشهد له المكانان، فقد أخرج أبو داود (1006) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أيعجز أحدكم أن يتقدم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو شماله في الصلاة؟ يعني: السبحة"، وسكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو عنده صالح، وقال البخاري في صحيحه: يُذْكر عن أبي هريرة يرفعه: "لا يتطوع الإمام في مكانه". 5 - قال شيخ الإسلام: والسنة: أنَّ يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها، كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يفعل ما يفعله كثير من الناس ممن يصل السلام بركعتي السنة؛ فإنَّ هذا ركوب لنهيه -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض والنفل، كما يميز بين العبادة وغيرها. 6 - صلاة النافلة في البيت لها مزايا جيدة، من تنوير البيت بالصلاة وذكر الله، ومن امتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء به، ومن البعد عن الرياء، ومن تعويد الأولاد والأتباع على الصلاة؛ ليكون المصلي لهم قدوةً صالحةً.

377 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اغتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدَّرَ لَهُ، ثُمَّ أنْصَتَ، حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبتَهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ -غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَنْ: -بفتح الميم وسكون النون-: اسم شرط جازم يجزم فعلين، الأول: فعل الشرط، وهو " اغتسل"، والثاني: جوابه، وهو "غفر". - ما قُدِّر له: بالبناء للمجهول من التقدير؛ أي: فصلى حسب ما وفقه الله، وقدره له. - أنصَت: ينصت إنصاتًا، بمعنى: أستمع وهو ساكتٌ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أن من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلَّى ما قُدِّر لهُ وقت انتظار الخطيب، ثم أنصت للخطبة، حتى يفرغ الخطيب منها، ثم صلَّى معه صلاة الجمعة -غُفِرتْ له ذنوبه، من هذه الجمعة إلى الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام. 2 - الغفران المذكور مرتب على هذه الأعمال الحميدة لصلاة الجمعة: اغتسالٍ لها، فذهابٍ إلى مسجده، فصلاة ما تيسر في مكانها، فإنصاتٍ للخطيب، فصلاة الجمعة، فحصول الغفران مرتب على هذا كله. 3 - استحباب الغسل للجمعة، وتقدم الخلاف في وجوبه، والصحيح أنَّه مستحب، إلاَّ في حق من فيه رائحة كريهة يؤذي بها المصلين؛ فيتعيَّن عليه الغسل. ¬

_ (¬1) مسلم (857).

قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين -قديمًا وحديثًا- على أنَّ غسل يوم الجمعة ليس بفرض؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن اغتسل، فالغسل أفضل" [رواه الترمذي (496)]، وليس شرطًا إجماعًا، وأوجبه الشيخ على من له عرقٌ، أو ريحٌ. وقال ابن القيم: وجوبه أقوى من وجوب الوتر. ومن قال بوجوبه، صحح الصلاة بدونه. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "واجب" محمول على تأكد الاستحباب، وهو آكد الأغسال المستحبة مطلقًا، وأحاديثه مستفيضة، والغُسل عن جِماع أفضل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "غسَّل، واغتسل". 4 - استحباب شَغْلَ وقت انتظار الخطيب بالصلاة، وتقدم أن هذه الصلاة ليست سنة راتبة للجمعة، وإنما هي نفل مطلق، 5 - وجوب الإنصات للخطيب، والدليل على وجوبه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال لصاحبه: أنصت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له". 6 - أنَّ الإنصات الواجب هو وقت الخطبة فقط، لا قبلها ولا بعدها؛ فإنَّ لفظ "حتى" للغاية، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها. 7 - فضل هذا العمل الذي يسبب غفران الذنوب، وتكفير السيئات. 8 - المراد هنا بالسيئات التي تُكَفَّر في هذا العمل: صغائر الذنوب، أما كبائر الذنوب فلا يكفرها إلاَّ التوبة النصوح، وهذا عام في جميع الأعمال الصالحة التي وردت أنَّها تكفر الذنوب؛ كصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج المبرور، وغير ذلك مما أتت به النصوص، وهذا قول جمهور العلماء. * فوائد: الفائدة الأولى: المشهور من مذهب الحنابلة: الكراهة في الإيثار بالقُرب

من المكان الفاضل، لا قبول الإيثار. وقال ابن القيم: لا يكره، فقد طلب أبو بكر من المغيرة أن يبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلام وفد ثقيف، وقد آثرتْ عائشة عمرَ بدفنه في بيتها، بجوار النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره في مقامه في الصف الأول -لم يكره له السؤال، ولا ذلك البذل. الفائدة الثانية: قال الشيخ تقي الدين: وما يفعله كثير من الناس، من تقديم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم، فهذا منهيٌّ عنه، بل محرَّمٌ باتفاق المسلمين، وهل تصح الصلاة في ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنَّه غَصَبَ بقعةً في المسجد. الفائدة الثالثة: الحديث يشير إلى مسألةٍ هامةٍ، افترق فيها طائفتان ضالتان، وهدى الله تعالى إليها الفرقة الناجية: "أهل السنة والجماعة". الطائفة الأولى: هي "القدرية" وهم نفاة القدر، فقد نفوا القدر من عموم خلق الله تعالى، ومشيئته وإرادته؛ زاعمين أن إثبات ذلك لله تعالى يبطل مسؤولية العبد عن فعله، ويلغي التكاليف التي حُمِّل بها، وأُنيطت به، ويخصصون النصوص الدالة على عموم الخلق، والمشيئة بما عدا أفعال العباد، وأثبتوا أنَّ العبد خالق فعله بقدرته وإرادته، وبهذا أثبتوا خالقَيْن، فاستحقوا أن يسموا: مجوس هذه الأمة: لأنَّ المجوس يزعمون أنَّ الشيطان يخلق الشر، وأن خالق الخير هو الله. الطائفة الثانية: "الجبرية"، وهؤلاء غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعلٌ حقيقةً، وإنما الأفعال تُسْند إليه مجازًا، فيقال: صلى، وصام، وزنى، وسرق، مجازًا لا حقيقةً، وإنما هو كالريشة في مهب الريح. وهذا -في زعمهم- تحقيق أنه لا مقدر في الحقيقة إلاَّ الله وحده، وأنَّ الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز.

وهؤلاء اتَّهموا ربَّهم بالظلم؛ لأنَّه يعذب الناس على أفعالٍ وأعمالٍ لا تنسب إليهم، ولم تقع بإرادتهم ولا قدرتهم، وإنما هي بفعل من عذَّبهم، واتَّهموا ربَّهم؛ بأنه كلف عباده بأعمالٍ لا قدرة لهم عليها، ونهاهم عن أعمالٍ لا يستطيعون الامتناع منها، فهم مُجبرون عليها. واتَّهموا ربهم بالعبث في تكليف عباده بما لا قدرة لهم عليه. وعطَّلوا أوامر الله تعالى ونواهيه؛ لأنَّها وُجِّهتْ إلى من ليس له قدرةٌ على القيام بها، ولا عن الامتناع منها. وهدى الله تعالى الفرقة الناجية: "أهل السنة والجماعة" إلى الحق، فيما اختلفت فيه هاتان الطائفتان الضالتان. فقرَّروا أنه لا منافاة بين عموم خلق الله تعالى لجميع الأشياء، وبين كون العبد هو فاعل فعله، حقيقةً لا مجازًا. فقالوا: إنَّ العبد هو المصلي والصائم، وهو الزاني والسارق حقيقةً، فأي عملٍ: خيرٍ أو شرٍّ هو الذي فعله بإرادته، واختياره إياه، فهو غير مُجْبر على الفعل أو الترك، فإنه لو شاء فعل، ولو شاء ترك، وبهذا فهو مستحقٌّ للجزاء على ما قدم، من فعلٍ طيبٍ أوسيءٍ. وإنَّ هذه الحقيقة ثايتة شرعًا وحسًّا وعقلاً. ومع إثبات ذلك للإنسان، فإنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي خلق قدرتهم، وإرادتهم، ومشيئتهم، التي بها يريدون ويفعلون، وأعطاهم هذه الإرادة والاختيار، فهو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها أعمالهم. وبهذا القول الوسط السليم الحكيم، تجتمع النصوص النقلية، والبراهين العقلية. أولاً: قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير].

وجاء في البخاري (4945) من حديث علي بن أبي طالب؛ أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له"، كما جاء في حديث الباب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلَّى". فهذه أفعال مسندةٌ حقيقةً إلى العبد، فهو الفاعل لذلك بقدرته واختياره، فقوله: "صلَّى ما قدر له" هذا تقدير الله تعالى ومشيئته في فعل عبده، فالحديث أثبت فعل العبد، المربوط بتقدير الله وتدبيره وإرادته. ثانيًا: المعنى اللغوي؛ فإنَّ العمل ينسب إلى فاعله حقيقة، أما لمجاز فلا يُعدل إليه، إلاَّ إذا لم تمكن الحقيقة، وهنا ممكنة وصالحة. ثالثًا: العقل؛ فإنه لا يُعْرَفُ مصدرٌ للفعل إلاَّ ممن وقع منه الفعل. رابعًا: الحسّ ومن الحس؛ المشاهدة، فإننا نرى أن الأفعال تصدر من المخلوقين، وتنسب إليهم، ويعترفون بوقوعها، ويعترفون بمسؤوليتها. خامسًا: يوجد عند كل عاقل علم ضروري؛ بأنَّ كل ما صدر من الإنسان من عمل، فهو صادر منه باختياره، وإرادته ومشيئته، وهذ العلم الضروري لا يمكن دفعه، ولا تصور سواه، والله الهادي إلى سواء السبيل. ***

378 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ -وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي- يَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وجلَّ- شيئًا، إلاَّ أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا". مُتَّفَقٌ علَيهِ. وفِي رِوَاية لِمسْلِمٍ: "وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يوافقها: أي: لا يصادفها، وهذه اللفظة أعم من أن يقصد لها، أو يتفق وقوع الدعاء فيها. - وهو قائم: جملة اسمية محلها النصب؛ لأنَّها حال من الفاعل، وهذا خرج مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهوم المخالفة هنا. - يصلي ويسأل: جملتان حاليتان من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، ولا يصح أن تكونا صفتين لـ"مسلم"؛ لأنَّ "مسلمًا" صفة لـ"العبد"، والصفة والموصوف في حكم شيءٍ واحدٍ، والنكرة إذا اتصفت يكون حكمها حكم المعرفة، فلا يجوز وقوع الجُمل بعدها صفات لها؛ لأنَّ الجُمل لا تقع صفة للمعرفة، بل إذا وقعت بعدها تكون حالاً. - شيئًا: مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل الله تعالى به. - يقللها: جملة وقعت حالاً، والتقليل خلاف التكثير، فهو يشير إلى أنَّ وقتها قليل، والساعة اسم لجزء مخصوص من الزمن، ويردُ على أنحاء منها أو يراد به جزء غير مقدر. ¬

_ (¬1) البخاري (935)، مسلم (852).

379 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ، إِلَى أنْ تُقْضَى الصَّلاَة". روَاهُ مُسْلمٌ، وَرَجَّح الدَّارَقْطنِيُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ (¬1). وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ عِنْدَ ابنِ مَاجَه (¬2)، وَعَن جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِي: "أنَّهَاَ مَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمسِ" (¬3) وقَدْ اخْتُلفَ فِيهَا علَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قولاً أَمْلَيْتُهَا في شَرْحِ البُخَاريِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ما بين صلاة العصر وغروب الشمس: "بين" ظرفٌ، وأصل الكلام: ما بين صلاة العصر وبين غروب الشمس؛ ليقترن الظرف بطرفي الزمان. - أمليتها: من "الإملاء"، وهو أن تملي العبارة وتنشئها ويكتبها غيرك؛ أي: كتب تلك الأقوال في "شرح البخاري"، وهو "فتح الباري"، الشرح الشهير. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - من فضائل يوم الجمعة أنَّ فيها ساعة شريفة، هي نفحة من نفحات الله تعالى، يستجيب فيها تعالى دعاء الداعي. 2 - لا يوافق هذه الساعة الفاضلة عبدٌ مسلمٌ، وهو قائمٌ يصلي، فيسأل الله -عزَّ وجل- شيئًا من أمر الدين، أو الدنيا، إلاَّ أعطاه إياه، ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ. ¬

_ (¬1) مسلم (853). (¬2) ابن ماجه (1139). (¬3) أبو داود (1048)، النسائي (3/ 99).

3 - الساعة المرادة هي القطعة من الزمن، قد تطول وقد تقصر، إلاَّ أنَّ ساعة الجمعة هذه ساعة خفيفة ليست بالطويلة. 4 - أخفى تعالى وقت هذه الساعة، فلا يُعلم هل هي في أول النَّهار، أو آخره، أو وسطه؟ وإخفاؤها عين الحكمة والرحمة؛ ذلك أنَّه لو عُلمَ وقتها، لما التمسها المسلمون بالعبادة والدعاء إلاَّ تلك الساعة، ولكن إخفاءها يجعلهم يلتمسون كل يوم الجمعة، عَلَّهُم يقعون عليها، فتكثر أعمالهم الصالحة، وإخفاؤها كإخفاء ليلة القدر، وإخفاء اسم الله الأعظم، ونحو ذلك من الأشياء المفضلة. 5 - أرجى ساعة لساعة الإجابة ساعتان: إحداهما: حين يصعد الخطيب حتى تُقضى الصلاة؛ كما جاء ذلك في حديث أبي بردة، وهذا الوقت له ميزته باجتماع المصلين، والاجتماع على العبادة له أثره في إجابة الدعاء، كما أنَّ هذه الساعة هي المقصودة من يوم الجمعة، وهي التي نادى الله المؤمنين للسعي إليها. أما الساعة الثانية: ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ كما جاء ذلك في حديثي: عبد الله بن سلام، وجابر. 6 - هذان الوقتان هما أرجى وقت لهذه الساعة الفاضلة؛ ذلك أنَّ وقت صعود الخطيب المنبر للخطبة حتى تنقضي الصلاة، هو ثمرة ذلك اليوم وزبدته، فما فضل هذا إلاَّ لهذه العبادة الجليلة، والذكر الكريم. أما بعد العصر فهو آخر النهار، وهو ختام أعمال النهار، والجوائز توزع وتُعطى في آخر العمل؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "اعطوا الأجير أجره، قبل أن يَجف عرقه" [رواه ابن ماجه (2443)]. 7 - استحباب التفرغ لهذه الساعة المباركة، والاجتهاد في ذلك اليوم، لعله يصادفها، ويقدر أنَّ كل ساعة تمر عليه في هذا اليوم وهي ساعة الإجابة.

8 - الإسلام شرط أساسي لقبول الأعمال، واستجابة الدعاء، فمهما عمل الكافر من عمل فمردود عليه؛ قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]. 9 - العبودية هنا لها معنى خاص، فليست العبودة العامة، وإنما هي عبودية الاتصال بالله تعالى، والالتجاء إليه، والتضرع بين يديه. 10 - جاء في الحديث: "يُسْتَجَابُ للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم" [رواه مسلم (2735)]، فالدعاء المستجاب هو المشروع في لفظه وقصده، والله أعلم. ***

380 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال المؤلف: رواه الدارقطني بإسناد ضعيف؛ وذلك لأنَّه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن بن راجح، قال أحمد: اضرب على أحاديثه؛ فإنَّها كذبٌ، أو موضوعة. قال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يُحتج به. وفي الباب أحاديث لا أصل لها، قال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث. وقال البيهقي: هذا الحديث لا يحتج بمثله، وضعفه ابن الجوزي. * مفردات الحديث: - مضت السنة: أي: جرت ونفذت. - فصاعدًا: يقال: بلغ العدد كذا فصاعدًا، يعني: فما فوقه فصاعدًا، منصوب على الحال، أو بنزع الخافض، فهو معطوف على لفظ "كل". * مايؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أن كل أربعين رجلاً، مقيمين بناءٍ مسماه واحد -فعليهم أن يقيموا صلاة الجمعة. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 3).

2 - مفهوم الحديث: أنَّهم إن نقصوا عن هذا العدد، فلا تقام فيهم الجمعة، بل يصلون ظهرًا. 3 - الحديث ضعيف، ففيه عبدالعزيز بن راجح، وأحاديثه بين موضوعةٍ أو مكذوبةٍ، وقال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به، ثم لو صحَّ، فليس فيه حجة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: هذا ساقط لا يحتج به، ولذا اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في العدد الذي به تنعقد الجمعة وتجب. فذهب الإمامان: الشافعي وأحمد إلى: أنَّها لا تقام إلاَّ باربعين رجلاً فأكثر؛ لما روى البيهقي (3/ 180) عن ابن مسعود: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- جمع بالمدينة، وكانوا أربعين رجلاً"، ولم يثبت أنَّه صلَّى بأقلَّ من أربعين، ولحديث الباب، وكلاهما لا تقوم به حجة. وذهب المالكية: إلى أنَّ العدد المعتبر لإقامة صلاة الجمعة هو اثنا عشر رجلاً؛ لما روى مسلم (863) عن جابر في قصة العير القادمة، فانفضَّ الناس إليها حتى لم يبق معه إلاَّ اثنا عشر رجلاً، وهذه قضية لا تدل على العدد المذكور، وإنما هي اتفاق وصدفة لا تعتبر دليلاً قويًّا، ولكن الحديث يرد على مذهب الشافعية والحنابلة، فليس عندهم عليه جواب صحيح. وذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إلى: أنَّ أقلَّ الجمع في الجمعة ثلاثة رجال، سوى الإمام؛ لأنَّ الثلاثة هم أقل الجمع الصحيح، والجمعة مشقة من التجمع. واختار جماعة منهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وشيخ الإسلام، وابن القيم، إلى-: أنَّها تنعقد بثلاثةٍ: إمام ومستمعين اثنين، وهذا

نص الإمام أحمد. قال علماء الدعوة: هذا القول أقوى، ففي الحديث الصحيح: "إذا كانوا ثلاثة، فيؤمهم أحدهم" [رواه مسلم (672)]، وهو عامٌّ في الصلوات كلها، الجمعة والجماعة. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ما سوى هذا القول يحتاج إلى برهان، ولا برهان يخرجه عن هذا العموم. قال الحافظ ابن حجر: لا يصح في عدد الجمعة شيء، ووردت أحاديث تدل على الاكتفاء بأقل من أربعين. وقال عبد الحق: لا يثبت في العدد حديث. وحكى النووي وغيره إجماع الأمة على اشتراط العدد، وأنَّها لا تصح من منفرد، وأنَّ الجماعة شرط لصحتها. والقول الراجح في العدد: أنَّهم إمام واثنان يستمعان، كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. ***

381 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ". رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ جدًا. قال المؤلف: رواه البزار، ولا نعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ بهذا الإسناد الذي فيه يوسف بن خالد السَّمْتي، وهو ضعيف جدًّا. وقال في"التقريب": تركوه، وكذَّبه ابن معين. ... ¬

_ (¬1) البزار (1/ 307).

382 - وَعَنْ جَابرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي الخُطْبَةِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ، يُذَكِّرُ النَّاسَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وهو في مسلم والسنن عن جابر بن سمرة؛ بلفظ: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائمًا، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات يذكر الناس". * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إنَّ في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله -عزَّ وجل- شيئًا إلاَّ أعطاه"، وتقدم في صحيح مسلم: "أنَّها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة" هذه الساعة هي وقت قيام الإمام لخطبة الجمعة. 2 - يضاف إلى حصول هذه الساعة الفاضلة الجمع الكبير، يدعو بهم الإمام، وهو يؤمِّنون على دعائه، فينبغي اغتنام هذه النفحة المباركة بوجود هذا الجمع العظيم؛ بأن يدعو الإمام بالأمور الهامة، التي منها: الدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات؛ فإنَّ هذه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل جمعة، وعلى المأموم التأمين، فتأمينه كدعائه. 3 - بعض العلماء يرى وجوب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الخطبة، وبعضهم يري استحباب ذلك، لا وجوبه، وهذا هو الصحيح لأمرين: ¬

_ (¬1) أبو داود (1101)، مسلم (866).

الأول: أنَّ الحديث فيه ضعف. الثاني: أنَّ فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الوجوب، وإنما إن كان عبادة، دلَّت على الاستحباب، وإن كان عادة، دلَّت على الإباحة. 4 - أن يدعو للمسلمين بالنصر، والتأييد، والعز، والتمكين، وقهر الأعداء. 5 - أن يدعو لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، وتحكيم كتابه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. 6 - أن يدعو لأئمة المسلمين بالتوفيق والتسديد، وتأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم على الحق، وعلى نصر دين الله، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ويجنبهم بطانة السوء. 7 - أن يحرص على الدعوات العامة الجامعة، وإذا كانت من الأدعية المأثورة، فهي أفضل في ساعات الإجابة، والأوقات الفاضلة، لاسيَّما في الأماكن الفاضلة؛ فإنَّها تغتنم ولا تُفَوَّت، فمن فوَّتها فهو المحروم، رزقنا الله جميعًا الاستعداد. 8 - أما الحديث رقم (382): ففيه استحباب تذكير الناس في الخطبة بآيات من كتاب الله، فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص]، وتقدم أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ سورة {ق}؛ لما فيها من المواعظ والزواجر، والتذكير بالموت، والجزاء بالنعيم المقيم، أو العذاب الأليم، فالقرآن نِعم المعلم المهذب والموجه، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء]. 9 - ينبغي أن تكون الآيات التي يقرؤها الخطيب في الخطبة آيات تناسب موضوع الخطبة، وتكون دليلاً على ما قال وتأييدًا لخطبته، ولتكون خطبته تفسيرًا لها، ومشيرًا إلى معانيها، ولئلا يشتت على المستمعين أذهانهم باختلاف مواضيع الخطبة.

* فائدة: إذا أُفْرِدَ الإسلام في النصوص الشرعية شمل الإيمان، وإذا أُفرد الإيمان شمل الإسلام، أما إذا اجتمعا في نص واحد؛ فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان أعمال القلوب؛ من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر؛ وذلك مصرحٌ به في حديث عمر، حينما جاءهم جبريل، يعلِّمهم دينهم. ***

383 - وَعَنْ طَارِقٍ بنِ شِهَابٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلاَّ أرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ، وَامْرَأَةٌ، وَصَبِيٌّ، وَمَرِيْضٌ". روَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ المَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوَسَى (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال في "التلخيص": رواه أبو داود من حديث طارق بن شهاب، ورواه الحاكم من حديث طارق هذا، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحَّحه غير واحد. قال النووي: قول أبي داود "إنَّ طارقًا رأى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يسمع منه شيئًا" -غير قادح في صحته؛ فإنَّه يكون مرسل صحابي، وهو حجة، والحديث على شرط الشيخين، وله شواهد. * مفردات الحديث: - حقٌ واجبٌ: الحق الواجب هو الثابت فرضه بالكتاب والسنة. - إلاَّ أربعة: "إلاَّ" بمعنى "غير"، ومحلها النصب على الاستثناء، لأنَّ "إلاَّ" قائمة مقام المستثنى، وهو كلام تام مثبت، واجب النصب، وما بعده مجرور بالإضافة. - مملوك: المراد به: الرقيق. - الصبي: مَنْ دون البلوغ من الذكور. ¬

_ (¬1) أبو داود (1067)، الحاكم (1/ 288).

384 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ" رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، تقوَّى بشواهده، قال المؤلَّف: رواه الطبراني بإسناد ضعيفٍ؛ لأن في إسناده: عبد الله بن نافع، ضعَّفه جماعة. وقال الألباني: وفي الباب أحاديث أُخر، يقوى بها الحديث. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل على أن الجمعة لا تجب على أربعة أصناف، هم: (أ) العبد المملوك: قالوا: الحكمة في عدم وجوبها عليه؛ أنَّه محبوس على أعمال سيده، وهو تعليل غير جيد؛ لأنَّ حق الله تعالى أولى، وهو داخل تحت النداء في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]، وحق الله أوجب من حق سيده عليه؛ فتكون الصلاة عليه واجبة، كما اختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي. (ب) المريض: سقطت عنه؛ لعذر المرض، لأنَّه معذور بعدم استطاعته عليها، ولا يُكلِّفُ الله نفسًا إلاَّ وسعها. (ج) المرأة: لأنَّ المرأة ليست من أهل حضور مجامع الرجال، قال ابن المنذر وغيره: أجمعوا على أنَّه لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنَّهنَّ إذا حضرن فصلين الجمعة، أنَّ ذلك يجزىء عنهن. (د) الصبي: لأنَّه غير مكلَّف. ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط (1/ 249).

أما الحديث رقم: (384): فيدل على أن صلاة الجمعة لا تجب على المسافر، ولا تشرع في حقه؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يسافرون في الحج والجهاد، فلم يصلِّ أحد منهم الجمعة في السفر، مع اجتماع الخلق الكثير. وإذا سمع المسافر النداء لصلاة الجمعة، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه إن كان يجب عليه إتمام الصلاة، ولا يصح منه القصر -وذلك حينما لا يرون سفره سفر قصر- فإنَّها تلزمه الجمعة بغيره وإلاَّ فإنَّها لا تلزمه لا بنفسه ولا بغيره. قال في "الإقناع" وغيره: ولا جمعة بمنى وعرفة، نص عليه الإمام أحمد؛ لأنَّه لم ينقل فعلها فيهما. هؤلاء الخمسة الذين لا تجب عليهم الجمعة، بعضهم سقطت عنه؛ لفقد شرط الوجوب، وهما المرأة والصبي، فإنَّها لا تجب على امرأة؛ لأنَّها ليست. من أهل الجُمَع والجماعات، وبعضهم سقطت عنه؛ لوجود المانع في وجوبها، وهم العبد المحبوس على عمل سيده، والمريض الذي يشق عليه الذهاب إليها، والمسافر الذي هو مظنة المشقة، إلاَّ أنَّهم جميعًا إذا صلوا الجمعة صحَّت منهم، وأجزأت عنهم، لأنَّ سقوطها تخفيفًا. 2 - قال في "شرح المنتهى": وحرم سفر من تلزمه الجمعة في يومها بعد الزوال، حتى يصلي؛ لاستقرارها في ذمته بدخول وقتها، ويكره السفر قبل الزوال، ولا يحرم؛ لأنَّها لا تجب إلاَّ بالزوال وما قبله وقت رخصة، هذا إن لم يأت بالصلاة في طريقه، فإن أتى بها في طريقه، فلا يحرم بعد الزوال، ولا يكره قبله. 3 - لا تجب الجمعة، إلاَّ على مستوطنين ببناء معتاد -ولو من قصب- لا يرحلون عنه شتاءً ولا صيفًا، فأما البادية أهل الظعن والحِل، الذين يسكنون

بالخيام، أو بيوت الشعر، ونحوها فلا تجب عليهم؛ لأنَّ العرب كانوا حول المدينة، وكانوا لا يصلون الجمعة، ولم يأمرهم -صلى الله عليه وسلم- بها؛ لأنَّهم على هيئة المسافرين. 4 - الأجير: تجب عليه الجمعة حتى عند من لا يوجبونها على العبد، ويقولون: إنَّ وقت الصلاة مستثنى من زمن الأجرة، ما لم يكن في حراسة ونحوها ويخشى على حراسته من الضياع، أو الاعتداء، أو الذهاب، فهذا عذر في ترك الجمعة والجماعة. ***

385 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا اسْتَوى عَلَى المِنْبَرِ، استَقْبَلنَاهُ بِوُجُوهِنَا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1)، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَديثِ البَرَاءِ عِنْدَ ابنِ خُزَيْمَةَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال المؤلف: رواه الترمذي بإسناد ضعيف؛ لأنَّ فيه: محمد بن الفضل ابن عطية، وهو ضعيف، بل قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب، وقد ضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما. وقال المؤلف: وللحديث شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة، ولم نجده في المطبوع، ورواه البيهقي (3/ 198). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية الخطبة على منجرٍ أو مِنْ وَضْعٍ عالٍ، ليكون أبلغ في إسماع الحاضرين. 2 - يستحب للحاضرين الاتجاه إلى الخطيب بوجوههم؛ وذلك بأن ينحرفوا إليه إذا شرع في الخطبة؛ لفعل الصحابة؛ لأنَّ هذا هو الذي تقتضيه آداب الاستماع، وهو أبلغ في الوعظ، قال النووي: وهو مجمع عليه. وقال إمام الحرمين في سبب استقبالهم إياهم: إنَّه يخاطبهم، فلو ¬

_ (¬1) الترمذي (509). (¬2) البيهقي (3/ 198).

استدبرهم، كان قبيحًا. 3 - من فوائد استقبال الخطيب ونحوه، وإعطاؤه الوجه من المستمع-: أن ينشط الخطيب والواعظ ونحوهما على الكلام، إذا وجد له مصغيًا ومستفيدًا، كما أنَّه يتطابق النظر والتفكير، فتتساعد العين والقلب على استيعاب الفائدة؛ فيحصل كمال المقصود. ***

386 - وَعَنِ الحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْنَا الجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ". رَوَاهُ أَبُو دَوُادَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه أبو داود من حديث الحكم بن حزن الكُلفِي، وإسناده حسن، وفيه شهاب بن خراش، وقد اختلف فيه، والأكثر وثَّقوه، وقد صحَّحه ابن السكن وابن خزيمة (2/ 352). وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند أبي داود، صححه ابن السكن. وفي الباب عن ابن عباس وابن الزبير رواهما أبو الشيخ وابن حيان. * مفردات الحديث: - متوكئًا: أي: مستندًا، أو معتمدًا على قوسٍ أو عصا. - قوس: -بفتح القاف المثناة فسكون الواو فسين مهملة- هي سلاح قديم على هيئة هلال، تُرمى بها السهام، تذكَّر وتؤنَّث، جمعها: " أقواس وقسي". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّه يندب للخطيب أن يخطب متوكئًا على قوسٍ أو عصًا. 2 - الحكمة في ذلك -والله أعلم-: أن ذلك أربط لقلب الخطيب، وأثبت لقيامه، وأبعد له عن العبث بيديه، وهي عادة عربية عند الخطباء، تُشعر بالقوة والعزة للخطيب، وتُدخل الانقياد والإذعان لسامعيه. ¬

_ (¬1) أبو داود (1096).

3 - قال بعضهم: يستحب للخطيب حمل السيف؛ إشعارًا بأن الإسلام إنَّما فتح به، وردَّ ذلك ابن القيم فقال: لم يُحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد اتخاذ المنبر؛ أنَّه كان يرقاه بسيفٍ ولا قوسٍ ولا غيره، ولو كان ذلك سنة، ما تركه بعد اتخاذه المنبر، كما لم يحفظ عنه أنَّه اتَّخذ سيفًا قبل اتخاذ المنبر، وإنَّما كان يعتمد على قوسٍ أو عصًا، وما يظنه الجهال أنَّه كان يعتمد على السيف إشارة إلى أنَّ الدين قام به، من فرط جهلهم، فالدين إنما قام بالوحي والقرآن. وتقدم مثل هذا الكلام. ***

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الثالث مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف مقدمة الخوف نقيض الأمن، ولصلاة الخوف هيئاتٌ وحالاتٌ خاصةٌ، لا تغتفر في حال الأمن، وتختلف هيئاتها وحالاتها وصفاتها بحال العدو من قُربه أو بُعده، ومن شدَّة الخوف أو خفته، ومن الجهة التي هو فيها. وليس للخوف تأثير في عدد ركعات الصلاة على الراجح. وسرُّ شرعها -والله أعلم- أمران: أحدهما: التيسير على هذه الأمة. والثاني: المحافظة على أداء الصلاة في وقتها. وصلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة، وعند جمهور الفقهاء. فأمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]. وأما السنة: فقد ثبت أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى صلاة الخوف في أربعة مواضع: هي: بطن نخلة، وعسفان، وذي قرد، وذات الرقاع، وسيأتي تحديد أماكنها في شرح الأحاديث، إن شاء الله تعالى. اتفق الفقهاء على أمرين: الأول: أنَّه يجوز للغزاة أن يصلوها بإمامين كل طائفة بإمام. الثاني: إذا اشتد الخوف وتعذرت الجماعة، فلهم صلاتها فرادى، في

خنادقهم ومواقفهم، ومهما حصل منهم من حركةٍ وعدوَّ، واستدبارٍ للقبلة، فهو معفوٌّ عنه، ويركعون ويسجدون إيماءً. أما صلاتها جماعة بإمام واحد فتجوز في كل صفة صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاءت الأخبار بأنَّها ستة عشر نوعًا، والمشهور من ذلك ست، أو سبع صفات، أجازها كلها الإمام أحمد، واختار منها حديث سهل بن أبي حثمة الأنصاري الأوسي الساعدي؛ لأنَّه أشبه بما جاء في الكتاب، ولأنَّه أحوط للصلاة، وأحوط أيضًا في حالة الحرب، وأتقى للعدو، وأقل في الحركة والأفعال. ونستفيد من مشروعية صلاة الخوف -كلها بصفاتها الخفيفة والثقيلة- أمرين: الأول: عظم أمر الصلاة، وشدَّة الاهتمام بها، والحرص على أدائها في وقتها، فإنَّه لم يُعذر المسلمُ في أدائها حتى في هذه الحال، التي يشتد فيها القتال، ويختلط المسلمون فيها بعدوهم، ويشتبكون بالسلاح الأبيض، فإذا بلغ الأمر هذا المبلغ بالاهتمام بالصلاة، فكيف يتساهل بها، ويفوتها الوادعون في بيوتهم وفُرشهم؛ إنَّ هذا شيء عجيب غريب. الثاني: عظم الجهاد في سبيل الله، وأهميته، والقيام به، حتى بلغ أنَّه سومح لأجله بالإخلال بالصلاة المفروضة، وترك الكثير من أركانها، والإتيان بما ينافيها من الكرّ والفرّ، واستدبار القبلة، وترك الركوع والسجود والقعود، وغير ذلك في الصلاة، كل ذلك لأجل القيام بأمر الجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دينه، وبث دعوته. وما أصاب المسلمين من الذل والمهانة والحقارة، إلاَّ بتركهم الجهاد في سبيل الله، وركونهم إلى الدنيا والدَّعة، والإخلاد إلى الأرض، يريدون عَرَض الدنيا، والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم.

387 - عَنْ صَالحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلاَةَ الخَوْفِ: "أَنَّ طَائِفَةً منْ أَصْحابِهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ" مُتَّفَقٌ علَيهِ، وَهَذا لفظ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي "المَعْرِفَةِ" لابنِ مَنْدَهْ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خوَّات: بفتح الخاء وتشديد الواو، هو صالح بن خوات من التابعين المشهورين. - ذات الرقاع: صاحبة الرقاع، بكسر الراء وفتح القاف المخففة ثم ألف وآخره عين مهملة، جمع: الرقعة من الجلد أو نحوها، وهي غزوة من غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- قِبَل نجد إلى غطفان، وسمِّيت: ذات الرقاع؛ لأنَّه يومها أصيب الصحابة - رضي الله عنهم- وهم حفاة من خشُونة الأرض، فلفوا على أقدامهم رقاعًا. - صلاة الخوف: من: خاف يخاف خوفًا، وخيفة ومخافةً، وهو ضد الأمن. والخوف لغة: توقع مكروه عن أمارة مظنونةٍ أو معلومة. والمراد هنا: حكم صلاة الخوف حال كون المصلين رجالاً وركبانًا، حسب حالة العدو وجهته. وأضيفت الصلاة إلى الخوف من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ باعتباره ¬

_ (¬1) البخاري (4129)، مسلم (842).

خاصًّا بها، لا باعتبار أصل المشروعية؛ لأنَّ الصلوات الخمس مشروعة بدون خوف. - طائفة: يقال: طاف بالشيء يطوف طوفًا وطوافًا: استدار به، والطائفة، الجماعة من الناس. قال في "المصباح": وأقلها ثلاثة، وربما أطلقت على الواحد والاثنين. وقال في "المحيط": الطائفة مؤنث: الطائف، أو الواحد فصاعدًا إلى الألف، جمعها: طوائف، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2]، فال ابن عباس: الواحد فما فوقه. وقال في "الكليات": الطائفة إذا أريد بها الجمع، فجمع: طائف، وإذا أريد بها الواحد، فيصح أن تكون جمعًا، وكنى به عن الواحد. - وِجَاه: مثلثة الواو، هو مصدر: واجه؛ أي: تلقاءه وما يواجهه، وقعد وجاهه؛ أي: مستقبلاً له. - العدو: ضد الولي والصديق، للواحد والجمع، والذكر والأنثى، وقد يثنى ويجمع ويؤنث، جمعه: "أعداء". - ثبت: قال في "المصباح": ثبت الشيء ثبوتًا: دام واستقرَّ، فهو ثابت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا هو حديث سهل بن أبي حتمة الأنصاري، الذي اختاره الإمام أحمد -رحمه الله- أشبه بكتاب الله، وأحوط لجند الله، وأسلم للصلاة من الأفعال، وهذه صلاته -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، وهي أحد الأوجه الستة المشهورة. 2 - غزوة ذات الرقاع سميت بنالك؛ لأنَّ أرجل الصحابة نقبت من الحفاء، فَلَفُّوا عليها الخرق والرقاع، وأما مكانها فيقال له: "بطن نخل" اسم موضعٍ شرق شمال المدينة المنورة، بمسافة (150) كيلو متر عند قرية الحناكية، غزا فيها قبيلة غطفان، جماعة عيينة بن حصن الفزاري، ويقال: إنَّهم قبيلة مطير

المعروفة الآن. 3 - مشروعية الصلاة على هذه الكيفية المفصلة في الحديث: ذلك أنَّ العدو في هذه الغزوة في غير جهة القبلة، فهنا يقسم الإمام الجند طائفتين: طائفة تصلي معه، وأخرى تحرس المسلمين عن هجوم العدو، فيصلي بالطائفة الأولى، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون يحرسون، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية في الثنائية، والركعتين الأخريين في الرباعية، والثالثة في المغرب، ويتمُّون صلاتهم، وينتظرهم الإمام في التشهد، ثم يسلم بهم. وفي هذا الوجه حصل العدل بين الطائفتين، فإنَّ الأولى أدركت مع الإمام تكبيرة الإحرام، وأما الطائفة الثانية فأدركت معه التسليم. 4 - صلاة الخوف على هذا الوجه إن كانت: الفجر، أو كان الإمام يقصر الصلاة -فإنَّه يصلي بالطائفة الأولى ركعةً واحدةً، ويبقى الإمام قائمًا في الركعة الثانية، ويتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون للحراسة، وإن كانت المغرب، أو رباعية صلَّى بالأولى ركعتين، ثم أتموا لأنفسهم وسلموا، وذهبوا للحراسة. أما الطائفة الثانية: فإنَّها لما كانت الأولى في الحراسة، جاءت فصلى بهم الإمام ما بقي من الصلاة، ثم جلس للتشهد، وأتموا لأنفسهم حتى يلحقوا في التشهد، فإذا تشهدوا سلم بهم. 5 - جواز الانتظار في صلب الصلاة للمصلحة. 6 - وجوب أخذ الحيطة والحذر من العدو، قال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]. 7 - ما كابده الصحابة -رضي الله عنهم- في سبيل نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله، والجهاد في سبيله، مما صار له أكبر الأثر في انتشار الإسلام، ودخول

الناس فيه أفواجًا، حتى عمَّ الإسلام أقطار المعمورة، وصار الدين كله لله، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ورزق المسلمين الاقتداء بهم، واحتذاء أفعالهم، حتى يعيدوا عزَّ الإسلام وَمَنَعَتهُ وقوته، إنه القادر على ذلك، وصلى الله على نبينا محمد. 8 - مشروعية صلاة الخوف عند سببها، حضرًا أو سفرًا، تخفيفًا على الأمة، ومعونةً لهم على الجهاد، وأداءً للصلاة في جماعة، وفي وقتها المحدد. 9 - أنَّ الحركة الكثيرة لمصلحة الصلاة، أو للغزْو، لا تبطل الصلاة. 10 - الحرص الشديد على الإتيان بالصلاة في وقتها مع الجماعة، فقد سمح بأدائها على هذه الكيفية؛ محافظة على ذلك. 11 - فيه أكبر دليل على أهمية الصلاة في وقتها، والصلاة جماعة، فقد تُرك لأجل المحافظة على الوقت والجماعة كثيرٌ من الأركان والواجبات الهامة، واغتفرت فيها الحركة والذهاب والإياب، فكيف بعد هذا نتساهل بالوقت، أو الجماعة في حالة الأمن والدعة؟! إنَّ هذا لمن العجب، ومن عدم التفقه في الدين. 12 - الصلاة بالغزاة على هذه الكيفية كلها لمأمومين متساوين في الصلاة مع قائدهم، والحرص على العدل بينهم في أداء الصلاة -فيها فائدة كبرى؛ فإنَّها تشعرهم بأنَّهم أمةٌ واحدةٌ، وأنَّهم يد واحدةٌ، مما يجمع كلمتهم، ويوحد صفهم، ويؤلف قلوبهم، ويشعرهم بالوحدة التامة، ولهذا اغتفر فيها كثير من المخالفات في أفعال الصلاة. ***

388 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا العَدُوَّ فصَاففْنَاهُمْ، فقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأقْبلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى العَدُوِّ، وَرَكَعَ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قِبل نَجد: بكسر القاف وفتح الباء؛ أي: جهة نجد. - نجد: بفتح النون وسكون الجيم، وآخره دال مهملة، هي لغةً: كل ما ارتفع من الأرض، وحدُّها: من سفوح جبال السروات الشرقية إلى أطراف العراق. - فوازينا العدو: بالزاي بعدها مثناة تحتية؛ أي: قابلنا العدو وحاذيناه، وقد تبدل الواو همزة، فيقال: إزاء. - العدو: هو للمذكر والمؤنث، والواحد والجمع، ويجمع على: عِدى وأعداء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصفة الثانية من صلاة الخوف أحد الأوجه الستة المشهورة، وحديثها هذا في الصحيحين، وراويها أحد الغزاة عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) البخاري (942)، مسلم (839).

2 - صفة هذه الصلاة أن يجعل الإمام الناس طائفتين: طائفة تحرس تجاه العدو، وطائفة تصلي معه، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة وسجدتين، ثم تمضي إلى جهة العدو للحراسة، بدون إتمام صلاتهم. ثم تأتي الطائفة الثانية، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويتشهد ويسلم وحده لتمام صلاته، ثم تعود هذه الطائفة إلى مكان حراستها بدون سلام، ثم تأتي الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، وتصلي في مكانها تقليلاً للمشي، فتُتِمْ صلاتها وحدها، ثم تأتي الطائفة الثانية فتُتِمَّ صلاتها وحدها، لأنَّهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة. 3 - وهذه الصفة تنقلاتها وحركاتها كثيرة، وليس فيها تمام الاقتداء بالإمام، فالصفة الأولى أفضل منها، وقد اختار هذا الكيفية الحنفية. 4 - صلاة الخوف ليس لها تأثير في إتمام الصلاة أو قصرها، فإن كانوا في الحضر أتموا الصلاة، وإن كانوا في السفر قصروها، وإنما الذي يؤثر فيها شدة الخوف، وذلك بترك بعض شروط الصلاة وأركانها، وكثرة الحركة بالكر والفر، والذهاب والإياب. 5 - هذه الصفة الثانية التي معنا قد قصرت فيها الصلاة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصل بكل طائفة إلاَّ ركعةً واحدةً، وكل طائفة صلت لنفسها ركعةً واحدةً، وصلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه ركعتين. ***

389 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْتُ مَع رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الخَوْفِ فَصَفَفْنَا صَفَّينِ: صَفٌّ خَلفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَليهِ، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى السُّجُودَ، قَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَليهِ ... فَذَكرَ الحَدِيْثَ". وفِي رِوَايَةٍ: "ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَد الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تأَخَّرَ الصَّفُّ الأَوَّلُ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي ... وَذَكرَ مِثْلَهُ". وَفِي آخِرهِ: "ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَلأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مِثْلُهُ، وَزَادَ: "إِنَّهَا كاَنَتْ بِعُسْفَانَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عسفان: تقدم تحديده، وغزوة عسفان سنة ست، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه مُحرمين في عمرة الحديبية، فوجدوا خالد بن الوليد على خيل المشركين بعُسفان في مائتي فارس، ففاتهم الهجوم على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في صلاة ¬

_ (¬1) مسلم (840). (¬2) أبو داود (1236).

الظهر، فاستعدوا للهجوم عليهم إذا دخلوا في صلاة العصر، فأنزل الله صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالدًا، ولله الحمد، فهذه هي أول صلاة خوف، ثمَّ إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بدَّل الطريق، فاتَّجه إلى الحديبية، فوقع الصلح المشهور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الوجه الثالث من صلاة الخوف، وهذه الصفة: العدو بينهم وبين القبلة، وكانت بعسفان، وهي أول صلاة خوفٍ صُلِّيت؛ ذلك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما جاء إلى مكة معتمرًا عمرة الحديبية، وعلم به كفار مكة، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس، فصادفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعسفان، فوقف في نحورهم يتحين الفرصة ليهجم عليهم، وصلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الظهر، وتأسف المشركون أن لو كانوا هجموا عليهم، فانتظروا إلى صلاة العصر، فنزل الوحي بمشروعية صلاة الخوف، فلم يكن للمشركين فرصة، ولله الحمد. 2 - عسفان: قرية عامرة الآن فيها مدارس ومرافق حكومية، وتقع على الطريق المسمى الآن طريق الهجرة، الطريق السريع فيما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتبعد عن مكة شمالاً بـ (80) كيلو متر. 3 - صفة هذه الصلاة هي أن يصفَّ الإمام الناس صفين فأكثر، ويصلي بهم جميعًا ركعةً إلى أن يسجد، فإذا سجد الإمام سجد معه الصف الأول الذي يليه، وبقي الصف الثاني قائمًا يحرس، حتى يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، فإذا قام سجد الصف المتخلف، ثم لحقوه وهو قائم، هو والصف الذي يليه. وفي الركعة الثانية، سجد معه الصف الذي حرس في الركعة الأولى، وبقي الصف الآخر قائمًا يحرس، فإذا جلس الإمام للتشهد سجد الذين حرسوا، وتشهد بالطائفتين، ثم سلَّم بهم جميعًا.

4 - هذه صلاة مقصورة؛ فلم يصلوا الرباعية إلاَّ ركعتين، وقد خلت هذه الصفة من التنقلات؛ لأنَّ العدوَّ أمامهم، فالحراسة هنا هي بقاء كل طائفة مرة قائمة أمام العدو، وأختها تصلي ركعتَها مع الإمام. 5 - يشترط ألا يُخاف كمين للعدو يأتي من خلف المصلين؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]. 6 - فيه أنَّه تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم عند انتهاء كل ركعة للحراسة للمتأخرة، والإتمام للمتقدمة، وهذا فيه عدل بين الطائفتين، وفيه قرب الصف المصلي من الإمام، وعدم الحائل عنه، وليس هذا مخلاًّ بالصلاة؛ لأنَّه لمصلحتها ولمصلحة الحراسة. 7 - فيه ما تقدم أن قلناه من العناية والاهتمام بهذين الركنين العظيمين من أركان الإسلام: الصلاة المكتوبة، والجهاد الذي هو من الإسلام ذرْوَته. ***

390 - وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِطائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخرينَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ" (¬1)، وَمِثْلُهُ لأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث في البخاري (4125)، ومسلم (843) بهذا اللفظ، وزيادة مفسرة. فعن جابر قال: "كنَّا مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بذات بالرقاع، وأقيمت الصلاة، فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين؛ فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع، وللقوم ركعتان". متفق عليه. وأما حديث أبي بكرة: فرواه أبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني، وأعله ابن القطان؛ بأنَّ أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة. قال الحافظ: وهذه ليست بعلة، فإنَّه يكون مرسل صحابي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الوجه الرابع من صلاة الخوف، وقد صلاَّها النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات الرقاع، فأصل الحديث في الصحيحين من حديث جابر، ولكن فيه زيادة مفسرة. فعن جابر قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، ثم ¬

_ (¬1) النسائي (1552). (¬2) أبو داود (1248).

سلم؛ فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات بسلامين، وللقوم ركعتان". 2 - في هذه الصفة: الصلاة مقصورة، ولكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الأولى فرضًا، ثم أعادها نفلاً عدلاً بين أصحابه. 3 - في صلاته بكل طائفتين ركعتين، دلالة على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، كما في قصة صلاة معاذ بقومه. 4 - في الحديث دليل على أنَّ العدل يكون حسب الإمكان والطاقة؛ فإنَّ الذين صلى بهم الفرض أفضل من الطائفة الذين صلَّى بهم، وهي نافلة، ولكن؛ هذا ما يملكه -صلى الله عليه وسلم- من إمكان العدل بينهم. 5 - الحديث بهذا الوجه لا يعارض الحديث الذي قبله، وإن كان في غزوة واحدة؛ فإنَّ الصلاة تعددت في تلك الغزوة، فتحمل هذه على فرض، والأخرى على فرض آخر. ***

391 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلاَةَ الخَوْفِ بِهَؤُلاَءِ رَكْعَةً، وَبِهَؤُلاَءِ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ، صححه ابن حبان، وقال الشوكاني في "النيل": سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في "التلخيص"، ورجال إسناده رجال الصحيح، ويشهد له حديث ابن عباس عند النسائي، وحديث جابر عند النسائي أيضًا، فهذه الأحاديث تدل على أن من صلاة الخوْف الاقْتِصَارَ على ركعة لكل طائفة. ... ¬

_ (¬1) أحمد (22284)، أبو داود (1246)، النسائي (1529)، ابن حبان (7/ 121). (¬2) ابن خزيمة (1344).

392 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الخَوْفِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ". رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضعيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، قال الشافعي: لا يثبت، وضعفه ابن حجر، وقال الهيثمي: فيه: ابن البيلماني وهو ضعيف، لكن تقدم الحديث السابق كشاهد صحيح له. قال في "التلخيص": قال الإمام أحمد: ما أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا. قال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: تقول بالأحاديث كلها -أحاديث صلاة الخوف- أو تختار واحدًا منها؛ فأجاب -رحمه الله-: من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأنا أختاره. قال في "كشاف القناع": وحديث سهل الذي أشار إليه الإمام أحمد هو صلاته -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - صفة الصلاة بهذا الوجه: أنَّه صلَّى بطائفة من أصحابه ركعة، ثم صلَّى بالطائفة الأخرى ركعة أخرى. 2 - الحديث صريح في أنَّهم صلوها ركعة، وأنهم لم يقضوا الركعة الأخرى. 3 - الحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وسكت عنه أبو داود، ولا يسكت ¬

_ (¬1) كشف الأستار (678).

إلاَّ عمَّا هو صالح عنده، وأخرجه الحافظ في "التلخيص"، وقال: رجال إسناده رجال الصحيح، وله شاهد عند مسلم (687) عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة"، وقال بهذا طائفة من السلف، منهم: الحسن البصري وإسحاق وعطاء وطاوس ومجاهد وقتادة والثوري، ومن الصحابة ابن عباس وأبو هريرة وحذيفة. فهذا الوجه من صلاة الخوف صار الاقتصار فيه على ركعة لكل طائفة، وللإمام ركعتان، ولكن جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- لم يجيزوا هذا الوجه، فلا يرون صحة هذه الصفة، وقالوا: إنَّ الخوف ليس له تأثير في نقص عدد الركعات، إلاَّ أنَّ تأويلاتهم لأحاديث هذا الوجه من صلاة الخوف ليست وجيهة وبعيدة. 4 - الحديث رقم (392) يفسر الحديث رقم (391)؛ إذ صرح بأنَّ صلاة الخوف ركعة واحدة، تصلى على أي وجه كان، وهذا لا يكون إلاَّ عند شدة الخوف. وقال الخطابي: صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أيام مختلفة، بأشكال متباينة، يتحرى ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. 5 - وقد رجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمرة لقوة الإسناد، وموافقة الأصول في أنَّ المؤتمة لا تتم قبل الإمام. * فوائد: الأولى: صلاة الخوف مشروعة بالكتاب والسنة، وأجمع الصحابة على فعلها، وأجمع المسلمون على جوازها، فهي مشروعة إلى أبد الدهر، وحكاه الوزير إجماعًا. الثانية: تجوز صلاة الخوف على جميع الأوجه الثابتة، قال الشيخ: هذا قول

عامة السلف، والإمام أحمد يجوِّز جميع الوارد، ومثله فقهاء الحديث، وحكاه الوزير إجماعًا. الثالثة: قال الشيخ: لا شك أنَّ صلاته -صلى الله عليه وسلم- حال الخوف كانت ناقصة عن صلاته حال الأمن في الأفعال الظاهرة الرابعة: قال ابن القيم: صحت صلاة الخوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أربعة مواضع: "ذات الرقاع، وبطن نخل، وعسفان، وذي قرد المعروفة بغزوة الغابة". الخامسة: قال الزركشي: لا تسقط الصلاة حال المسايفة، والتحام الحرب، بلا نزاع ولا يجوز تأخيرها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي: فصلوا رجالاً وركبانًا، يصلون للقبلة وغيرها، يومئون بالركوع والسجود طاقتهم. وقال الشيخ المباركفوي: أما إذا تلاحم الفريقان، وأطلقت البنادق والمدافع، ودبت الدبابات والمدرعات، وقذفت القنابل بالطائرات؛ فليس إذ ذاك صورة مخصوصة لصلاة الخوف، بل يصلوها كيف شاءُوا، جماعات ووحدانًا، قيامًا أو مشاة أو ركبانًا. السادسة: ومثل الخائف الهارب من عدو، أو الذي يريد أن يدرك وقت الوقوف بعرفة. قال الشيخ: إذا لم يبق من وقت الوقوف إلاَّ مقدار ذهابه، فإنَّه يصليها صلاة خائف، وهو ماش، أو راكب. السابعة: قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، اختلف في حكم حمل السلاح في صلاة الخوف: فقال بعضهم: واجب، وقال بعضهم: مستحب. والراجح أن هذا راجع إلى حال الخوف. وأجاز أهل العلم حمله في هذه الحال، وإن كان نجسًا، للضرورة.

393 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا: "لَيْسَ فِي صَلاَةِ الخَوْفِ سَهْوٌ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ؛ ضعَّفه الدارقطني وابن حبان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث وحده لا تقوم به الحجة، فضلاً عن أنَّه يعارض أحاديث ثابتة في سجود السهو. 2 - وعلى فرض صلاحيته للعمل به؛ فإنَّ صلاة الخوف ليست هيئتها كهيئة الصلاة، فقد سومح فيها بترك بعض أركانها وشروطها، فسقوط سجود السهو أخف منها، ولأنَّ سجود السهو يجبر ما ترك من الصلاة، وهنا يترك الركن وغيره محمدًا، ولا يخل بالصلاة، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 58).

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين المقدمة سمي: "عيدًا"؛ لأنَّه يعود ويتكرر بما أنعم الله به على عباده من العبادات والشعائر، وبما تفضل به عليهم من المباحات والطيبات، التي يظهرونها ويتمتعون بها في هذين اليومين، فمنها الفطر بعد المنع من مباح الطعام والشراب، والنكاح والتبسط في المباحات، والتهاني والزيارات، وشكر الله تعالى على صحة الأجسام، وأداء الشعائر العظام، ومنها صدقة الفطر، والتكبير والصلاة، وإتمام المناسك في البقاع المقدسة، وما يقرَّبون من الدماء المشروعة. ولكل أمة أعيادها التي تتكرر بمرور مناسبة من المناسبات الكبيرة عندهم، يحيون بها تلك المناسبة، ويعيدون ذكراها، ويظهرون الفرح والسرور بمرور وقتها، ولكن أمدَّ الله المسلمين بعيدَي: الفطر والنحر، اللذين هما يوما عبادةٍ، وشكرٍ، وسرورٍ، وفرحٍ، فليسا مجرد عبادة، وليسا مجرد عادة، وإنما جمعا خيري الدنيا والآخرة. وهذه الاجتماعات الإسلامية تحقق من المصالح الدينية والدنيوية، ما يدل على أنَّ الإسلام هو المنهج الذي جاء به الله تعالى لإسعاد البشرية، ولا يسوغ تعظيم زمان ولا مكان، لم يأت تعظيمه في الشرع؛ وذلك كتعظيم مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو ذكرى الإسراء والمعراج، ويوم بدر، والفتح، والهجرة.

قال في "تنبيه الغافلين": اعتقاد ذلك قربة من أعظم البدع، وأقبح السيئات، فينبغي للعاجز عن إنكار هذه المنكرات ألا يحضر المسجد الذي تقام فيه، فتكثير سواد أهل البدع منهي عنه، وترك المنهي عنه واجب، والله المستعان. ***

394 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ" رَوَاهُ التِّرمذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ؛ كما قال الترمذي، قال المؤلف في "التلخيص": ورواه الدارقطني (2/ 525) من حديث عائشة مرفوعًا، وصوَّب الدارقطني وقفه، ورواه أبو داود (2324) من حديث محمد بن المنكدر عن أبي هريرة مرفوعًا؛ بلفظ: "الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"، وابن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة، ونقل الترمذي عن البخاري؛ أنَّ ابن المنكدر سمع من عائشة، وإذا ثبت سماعه عنها أمكن سماعه من أبي هريرة؛ لأنَّه مات بعدها. * مفردات الحديث: - يفطر الناس: من "الإفطار" والمراد به: التعييد بعيد الفطر. - يضحي الناس: التضحية في الأصل: ذبح الأضحية، ويطلق هنا ويراد به: التعييد ليوم الأضحى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الفطر من صوم رمضان، وأحكام عيد الأضحى، والأضاحي -تكون مع الجماعة، ومعظم المسلمين، فلا يشذ أحد عنهم بفطر وتضحية، من دون السواد الأعظم؛ فإنَّ هذه الأمة بجملتها معصومة، فلا تجتمع على ضلال. 2 - قال في "شرح الزاد وحاشيته": ومن رأى وحده هلال رمضان ورُدَّ قوله، ¬

_ (¬1) الترمذي (802).

لزمه الصوم؛ لعلمه أنَّه من رمضان، فلزمه حكمه، ونقل حنبل: لا يلزمه الصوم، واختاره الشيخ وغيره: قال: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" [رواه الترمذي (802)]، ومعناه: أنَّ الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس، وأنَّه لو رأى هلال النحر وحده، لم يقف بعرفة، دون سائر الحجاج. 3 - يدل الحديث على أنَّ التَّعبد بعيد الفطر، والتعبد يوم الأضحى بالشعائر، من صلاةٍ وذبحٍ ومناسك -هي يوم يؤديها المسلمون معتقدين صوابها، ولو ظهر لهم بعد ذلك الخطأ في رؤية الهلال، فليس عليهم عتبٌ ولا وزرٌ، وما أتوا به من عبادات فصحيح، واقع موقعه عند الله تعالى، وهذا تخفيف من الله على عباده وتيسير عليهم، واعتبار لما وقع من هذه الأمة المعصومة، التي لا تجتمع على ضلال. قال في "نيل المآرب" وغيره: وإن أخطأ الناس أو أكثرهم؛ بأن وقفوا بعرفة يوم الثامن، أو العاشر -أجزأهم ذلك؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" [رواه الترمذي (802)]. 4 - يؤخذ من ذلك وجوب اتحاد المسلمين، وتوحيد صفهم، وجمع كلمتهم؛ ليكونوا أمةً واحدةً في نصر دينهم، وإعلاء كلمة ربهم، ونشر دينه، وليتحدوا في وجه عدوهم، فها هي ذي أحكام الإسلام لا تعترف إلاَّ بالأحكام العامة، ولا ترى للشاذ عن جماعة المسلمين حكمًا بنفسه، فلا صفة له معتبرة، حتى ولو تيقن صدق نفسه، فيدُ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وإنما تؤكل من الغنم القاصية، فأحكام الإسلام تعلمنا الاتحاد والاجتماع، وعدم الاختلاف والتفرق؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

395 - وَعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ: "أنَّ رَكْبًا جَاءُوا، فَشَهِدُوا أنَّهُمْ رَأوا الهِلاَلَ بِالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا أنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ". رَوَاه أَحمَدُ وأَبُو دَاوُدَ، وهذا لفظهُ، وإسنادهُ صحيح (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: إسناده صحيح، قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والنسائي (1557)، وابن ماجه (1653) من حديث أبي عمير عن عمومةٍ له، وصحَّحه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم وابن حبان والبيهقي والخطابي وابن حجر، قال البيهقي: إسناده صحيح، وقال الدارقطني: إسناده حسنٌ ثابت. * مفردات الحديث: - رَكْبًا: بفتح الراء وسكون الكاف، جمع: "راكب وركوب"، والمراد: الراكبون على رواحلهم، ويكونون من العشرة فما فوق. - الهلال: -بكسر الهاء- هو غرة القمر إلى سبع ليالٍ من الشهر. - بالأمس: هو اليوم الذي قبل اليوم الحاضر، وقد يدل على الماضي مطلقًا، وهو مبني على الكسر، جمعه: "أُموس وأُمس وأماسي"، وإذا نُكِّر، أو أضيف، أو دخلت عليه "أل"- فإنَّه يبنى على الكسر. - يغدوا: بفتح ياء المضارعة؛ أي: يذهبوا في الغداة؛ وهي أول النهار. وغدا يغدو من باب قعد، والغدو: الذهاب غدوةً؛ وهي ما بين صلاة ¬

_ (¬1) أحمد (20061)، أبو داود (1157).

الصبح وطلوع الشمس، وجمع الغدوة: "غدي"؛ مثل مدية ومدي، قال في "المصباح": هذا أصله، ثم أكثر استعماله، حتى استعمل في الذهاب والانطلاق، أيَّ وقت كان. - إلى مصلاهم: بضم الميم-: موضع الصلاة، فهو ظرف مكان. قال مؤرخ المدينة السمهودي: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد في عدة أماكن في الصحراء، ثم استقرَّ على المصلى المعروف اليوم، الذي يبعد عن باب السلام ألف ذراع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ المعول عليه في ثبوت الصيام، والإفطار، والحج، وغيرها -هو رؤية الهلال، فلا تثبت الأحكام بالحساب، وإنما تثبت بالرؤية وحدها. 2 - قال شيخ الإسلام: لا ريب أنَّه ثبت بالسنة الصحيحة، واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمِد عليه، كما أنَّه ضالٌّ في الشريعة، مبتدعٌ في الدين، فهو مخطىء في العقل، وعلم الحساب؛ فإنَّ علماء الهيئة يعرفون أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنَّها تختلف باختلاف المكان وانخفاضه وغير ذلك، وسيأتي الكلام على هذا في باب الصيام بأتم من هذا، إن شاء الله تعالى. 3 - فيه قبول قول الأعراب حتى في الأمور الشرعية. 4 - فيه أنَّ الشاهد لا يعنت، ولا يكشف عيبه عند أداء الشهادة، ما لم يكن هناك ريبة وشكٌّ في شهادته، فعلى الحاكم الشرعي التحري. 5 - أنَّ الأحكام الشرعية لا تثبت أحكامها إلاَّ حين بلوغها، والإنسان قبل أن يبلغه العلم والخبر معذورٌ فيما فعل، وما ترك. 6 - وجوب الفطر من حين يتحقق الخبر؛ بأنَّ اليوم الذي هم صائمون فيه عيد، فصيام يوم العيد حرام، ولا يصح.

7 - فيه أنَّ صلاة العيد لا تفوت بفوات وقتها، وهو زوال الشمس من يوم العيد، وإنما تصلى في نظيره من الغد. 8 - فيه وجوب صلاة العيد، فالأمر بالخروج إليها أمرٌ بها، والأمر للوجوب. 9 - أنَّ الأفضل أن تقام صلاة العيد في الصحراء، حتى في المدينة المنورة، أما في مكة فالأفضل أن تكون في المسجد الحرام، جوار الكعبة المشرفة. * خلاف العلماء: إذا صلى العيد في نظير وقتها من اليوم الثاني؛ هل تكون قضاءً، أو أداءً؟ فيه خلافٌ بين العلماء. قال في "الإنصاف": فإن لم يعلم بالعيد إلاَّ بعد الزوال، خرج من الغد فصلى بهم، هذا بلا نزاع، ولكن تكون قضاءً على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. وقال أبو المعالي: تكون أداءً مع عدم العلم. قال في "الشرح الكبير": قطع به جماعة. قلت: الراجح أنَّها أداءٌ لا قضاءٌ؛ لأنها لو كانت قضاءً، لصليت إذا زال العذر، ولو بعد الزوال. ولما في البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نام عن صلاةٍ، أو نسيَهَا، فلْيُصلِّها إذا ذكرها؛ فإنَّ الله عزَّ وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} ". والحديث هنا ليس فيه ما يدل على أنَّها قضاءٌ. * فائدة: الصلوات إذا فات وقتها، فهي قضاؤها على أربعة أقسام: الأول: تقضى على الفور في أي وقت، وهي الصلوات الخمس، ورواتبها إن قضيت.

الثاني: تقضى في نظير وقتها، وهي صلاة العيد، وهذا على المذهب. الثالث: تقضى بغيرها، وهي صلاة الجمعة، فالظهر بدل عنها. الرابع: لا تقضى، وهي ذوات الأسباب؛ فإنَّها إذا فاتت، فإنها سنة فات محلها؛ كتحية المسجد، وصلاة الكسوف ونحوها. والقضاء يحكي الأداء، إلاَّ على قول من يرى أنَّ من فاته الوتر قضاه شفعًا، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوتر -غالبًا- بإحدى عشرة، فإذا نام عنه، صلَّى من النهار اثنتي عشرة، وكذلك الظهر إذا صلَّيت بدل الجمعة. ***

396 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ، حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكلُهُنَّ وِتْرًا". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ. وفي روايةٍ مُعلَّقةٍ، وَوصَلَهَا أَحْمَدُ: "وَيَأْكُلُهُنَّ أفْرَادًا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أفرادًا: بفتح الهمزة، والفرد: الوتر، وهو الواحد، وهو المذكور في رواية البخاري. ... ¬

_ (¬1) البخاري (953)، أحمد (11859).

397 - وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَاَن رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لا يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ، حَتَّى يَطْعَمَ، وَلا يَطْعَمُ يَوْمَ الأَضْحَى، حتَّى يُصلِّي" روَاهُ أَحْمدُ والتِّرمذِيُّ وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وقد ساقه الإمام أحمد من طريقين كلاهما عن بريدة الأسلمي، قال في "بلوغ الأماني": أحد الطريقين أخرجه الترمذي وابن ماجه، والثاني أخرجه البيهقي (3/ 283)، وابن حبان، والحاكم (1/ 433)، والدارقطني (2/ 45)، وصححه ابن القطان. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - فيه استحباب أكل تمرات في يوم عيد الفطر قبل الذهاب إلى المصلى. قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل في هذا اليوم قبل الصلاة خلافًا. 2 - أنَّ تكون التمرات وترًا، والوتر -هنا- أقله ثلاث. 3 - يستحب أكلهن أفرادًا، واحدةً بعد الأخرى؛ لأنَّه أصح، وألذ، وأمرأ. 4 - إن لم يجد تمرات، أكل غيرهن، والأفضل أن تكون حلوى، ففي ذلك فوائد دينية، وصحية: أما الدينية: فإنَّ في ذلك مبادرة إلى فطر هذا اليوم، الذي أوجب الله فطره، وفيه تمييز لهذا اليوم بالأكل عن الأيام التي قبله، ¬

_ (¬1) أحمد (22474)، الترمذي (542)، ابن حبان (7/ 52).

التي كان المسلم فيها صائمًا، فالشارع الحكيم يتطلع إلى تمييز العادات من العبادات. أما الفوائد الصحية: فإنَّ المعدة بعد الصوم والنوم فارغة من الطعام، والجسم قد تحللت مواد عناصره، ومحتاجٌ إلا سرعة إسعافه بما يرد إليه قوته ونشاطه، وأسرع مفعول لذلك هو التمر. قال الدكتور قباني في كتابه "الغذاء لا الدواء": إنَّ التمر غنيٌّ جدًّا بالمواد الغذائية الضرورية للإنسان، والتمر غنىٌّ بعددٍ من أنواع السكاكر، ونسبتها فيه تبلغ سبعين في المائة، والسكاكر الموجودة في التمر سريعة الامتصاص، سهلة التمثل، تذهب رأسًا إلى الدم فالعضلات؛ لِتَهَبَهَا القوة، وقد أثبت الطبّ الحديث صحة سنة الرسول الأعظم في الصيام، وفي الإفطار، فالصائم يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد؛ لذا كان من الضروري أن نمدَّ أجسامنا بمقدارٍ وافرٍ من السكر ساعة الإفطار، والمعدة تستطيع هضم المواد السكرية في التمر خلال نصف ساعة، فإذا بالدم يتبرع بالوقود السكري، الذي يبعث في خلايا الجسم النشاط. هذا وقد أطال في هذا الموضوع، وسيكون بحثنا أتم من هذا في باب الصيام، إن شاء الله تعالى. 5 - أما الحديث رقم (397): ففيه أنَّ هديه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه يخرج يوم الفطر لصلاة العيد حين يطعم، تمييزًا لهذا اليوم الواجب فطره ومبادرةً بالفطر في هذا اليوم الذي أمرنا الله تعالى بفطره، ففيه امتثال للأمر، وتحقيق للمصلحة، ولعلَّ في ذلك إكمالاً لفضيلة الفطر على تمر؛ فإن هذا فطر من جميع الصيام. 6 - تقدم أنَّ الأفضل أن يكون الفطر على تمرات وترًا، وأقل الجمع الوتري ثلاث، فإن لم يجد تمرًا طعم مما شابهه عنده.

7 - أما يوم عيد الأضحى: فكان لا يطعم؛ لأنَّه لا يوجد قبل هذا اليوم صيام واجب، يحسن تمييزه عن غيره، فهو متميز بنفسه. وهناك حكمة أخرى؛ وهو أنَّ من أفضل أعمال هذا اليوم الأضحية، فهي عبادة لله تعالى، أُمرنا بالأكل منها، فكان الأفضل أن أول ما يأكل من أضحيته، ولذا جاء في رواية البيهقي (3/ 283): "وكان إذا رجع، أكل من كبد أضحيته". 8 - في الحديث دليل على أنَّ الموفق لأمر الله يستطيع أن يجعل من العادات -كالأكل والشرب والنوم وغيرها- عباداتٍ تقربه من الله تعالى، وتزيد في حسناته، فهذا كله راجعٌ إلى النية وحسن القصد. وهي مسألةٌ كبيرةٌ هامةٌ، تحتاج إلى فِطنةٍ، وتوفيقٍ من الله تعالى. ***

398 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ العَوَاتِقَ وَالحُيَّضَ فِي العِيدَيْنِ، يَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، وَتَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى". مُتَّفقٌ علَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُمرنا: بالبناء للمجهول، وهذه الصيغة تُعَدّ من المرفوع. - أنَّ نُخْرجَ: بنون المتكلم، و"أن" مصدرية، والتقدير: بالإخراج. - العواتق: جمع: "عاتق" بالتاء المثناة الفوقية، وهنَّ البنات الأبكار، البالغات والمراهقات. - الحُيَّض: بضم الحاء وتشديد الياء، جمع "حائض"، قال في "المصباح": والمرأة حائض؛ لأنَّه وصفٌ خاصٌّ، وجاء "حائضة" بناء له على حاضت، وجمع الحائضة: حائضات. - يعتزل الحُيَّض المصلى: يعني: أنَّ الحُيَّض يجتنبن مصلى العيد، إذا خرجن لسماع الموعظة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قولها: "أُمرنا" الآمر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا حديث مرفوع. 2 - فيه التأكيد الشديد على الخروج لصلاة العيدين، وعدم التخلف عنها، حتى أُمر بالخروج من كان الأفضل لهن الصلاة في بيوتهن، وهنَّ الشابات من النساء، وأُمر بالخروج من لا تصح منهنَّ الصلاة، وهنَّ الحُيَّض. كل ذلك لسماع الخطبة والموعظة في هذين اليومين الفاضلين، وحضور ¬

_ (¬1) البخاري (324)، مسلم (890).

دعوة المسلمين ربَّهم. 3 - إنَّ يوم العيد يوم اجتماع، وتفرغ لعبادة الله تعالى وشكره، في مشهدها ومصلاها، فلا ينبغي التخلف عن هذا المشهد الكبير، الذي خرج فيه المسلمون في صعيد صحراوي واحد، ضاحين بارزين لربهم، فإنَّ هذا المشهد الرائع قَمِن أن يُسْتَجَابَ فيه الدعاء، فالمتعيَّن حضوره. 4 - أنَّ مصلى العيد كمصلى الصلوات الأُخر من حيث الأحكام، فلهذا أُمر الحُيَّض أنَّ يعتزلن المصلى. 5 - وجوب اجتناب الحائض المسجد. 6 - أنَّ الحائض غير ممنوعة من الدعاء، ومن ذكر الله تعالى. 7 - فضل يوم العيد، وكونه مرجوًّا فيه إجابة الدعاء. 8 - الأصل الوجوب في الأمر بإخراج العواتق والحُيَّض؛ ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ولكن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: (أ) أنَّه واجب؛ للأمر به عليهن. (ب) أنه سنة، وحمل الأمر على الندب؛ لأنَّ الأمر بخروجهن لشهود دعوة المسلمين غير واجب. (ج) أنَّه منسوخ، ففي أول الإسلام كانوا محتاجين لتكثير سواد المسلمين، ولما كثر المسلمون استغني عن هذا. والقول الراجح -من هذه الأقوال الثلاثة- القول الثاني: أنَّه سنة. قال شيخ الإسلام: لا بأس بحضور النساء غير متطيبات، ولا لابسات ثياب زينة، أو شهرة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وليخرجن تَفِلاَت"، ويعتزلن الرجال، ويعتزل الحُيَّض المصلى. اهـ. 9 - أما ابن الملقن فقال في "شرح العمدة": لا يصح أن يستدل بالأمر بإخراج النساء على وجوب صلاة العيد والخروج؛ لأنَّ هذا الأمر إنما وُجِّه إلى

من ليس بمكلف بالصلاة اتفاقًا؛ كالحيض، وإنما مقصود هذا الأمر تدريب الصغار على الصلاة، وشهود دعوة المسلمين، ومشاركتهم في الثواب، وإظهار كمال الدين. اهـ. 10 - فيه حضور مجالس الذكر والخير لكل أحد، حتى الحائض والجنب، ومن في معناهما، إلاَّ في المسجد. * خلاف العلماء: اتَّفق العلماء على مشروعية صلاة العيدين. واختلفوا: هل هي سنة، أو فرض؟ وهل هو فرض كفاية، أو فرض عين؟ على ثلاثة أقوال: ذهب المالكية والشافعية إلى: أنَّها سنة مؤكدة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي السائل عما يجب عليه من الصلاة: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا" [رواه البخاري (46) ومسلم (11)] وكونها سنة مؤكدة؛ لمواظبته عليها. وذهب الحنابلة إلى: أنَّها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقطت عن الباقين؛ فدليل وجوبها قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر]، ومواظبته عليه الصلاة والسلام عليها، ولأنَّها من أعلام الدين الظاهرة، أما أنها لا تجب على الأعيان؛ فلحديث الأعرابي المقتضي نفي وجوب صلاة غير الصلوات الخمس. وذهب الحنفية إلى: أنَّها واجبة، تجب على مَنْ تَجب عليهم الجمعة، سوى الخطبتين فهما سنة عندهم. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنَّها فرض عين؛ للآية، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها حتى النساء، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وهذا القول هو الراجح، أما أدلة فرض الكفاية: فهي أدلة فرض العين،

فهي فيه أوضح وأظهر أما حديث الأعرابي: فليس فيه ما يدل على عدم وجوبها؛ لأنَّ سؤاله للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإجابته إياه، هو بصدد ما يتكرر في اليوم والليلة من الصلوات التي هي مفروضات، فلا يمنع العارض لسبب؛ كصلاتي العيدين، اللتين هما شكر لله تعالى على توالي نعمه الخاصة بصيام رمضان، وقيامه، ونحر البدن، وأداء المناسك. ***

399 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأبُو بكرٍ، وَعُمَرُ يُصَلُّونَ العِيدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبْةِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - كان: قال الكرماني: قالوا: مثل هذا التركيب يفيد الاستمرار. - العيدين: تثنية: "عيد"، وهما عيد الفطر، وعيد الأضحى، وأصل العيد: "العود"؛ لأنَّه مشتق من: عاد يعود عودًا، وهو الرجوع، قلبت واوه ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، ويجمع على: أعياد، وكان من حقه أن يجمع على: أعوادة لأنَّه من: العود كما ذكرنا، ولكن جمع بالياء؛ للزومها في الواحد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - المشروع أن تصلى صلاة العيدين قبل الخطبة، وعلى هذا عامة أهل العلم، قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم أنَّ صلاة العيدين قبل الخطبة. قال الحافظ: وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وعدَّه بعضهم إجماعًا. 2 - فلو قدم الخطبة على الصلاة، لم يعتد بخطبته؛ وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، قال المجد: هو قول أكثر العلماء. وحكمة التأخير هنا -والله أعلم-: أنَّ خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدم على المشروط؛ بخلاف خطبة العيد، فليست بشرطٍ، وإنما هي سنةٌ. ¬

_ (¬1) البخاري (963)، مسلم (888).

3 - ذكر الراوي الشيخين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يقرره من السنة -إنما هو على وجه البيان لتلك السنة، أنَّها ثابتة معمول بها بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم تنسخ، وأنَّ العمل بها من الخليفتين الراشدين بمحضر من مشيخة الصحابة، وليس ذكرهما من باب الاشتراك في التشريع، فمعاذ الله بهم عن ذلك. ***

400 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى يَوْمَ العِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا، وَلاَ بَعْدَهُمَا" أخرجه السَّبعة (¬1). 401 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يُصَلِّي قَبْلَ العِيدِ شَيئًا، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلهِ، صَلَّى رَكعَتَيْنِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بإسْنَادٍ حَسَنٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. الحديث (401) فيه فقرتان: الأولى: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي قبل العيد شيئًا"، وقد جاء هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يتنفل قبل العيد، ولا بعدها". الفقرة الثانية: "فإذا رجع إلى منزله، صلَّى ركعتين". قال في "التلخيص": رواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد، وهو عند الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. قال الألباني: إنَّما هو حسن فقط؛ فإنَّ ابن عقيل فيه كلام من قبل حفظه؛ لذلك قال الحافظ والبوصيري: هذا إسناد حسن. وفي الباب عن ابن عمر، وفيه: "فلم يصلِّ قبلها، ولا بعدها"، صححه الترمذي والحاكم، ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث ابن عمرو، أخرجه ¬

_ (¬1) البخاري (964)، مسلم (884)، أحمد (3143)، أبو داود (1159)، الترمذي (537)، النسائي (1587)، ابن ماجه (1291). (¬2) ابن ماجه (1293).

أحمد وابن ماجه بسند حسن، ومن حديث جابر أخرجه أحمد بسند صحيح. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أجمع المسلمون على أنَّ صلاة العيدين ركعتان، وأنَّ لها كغيرها من الصلوات أركانًا وشروطًا وواجبات وسننًا، نقل ذلك الخلف عن السلف، يستثنى من ذلك أنَّ صلاتي العيدين ليس لهما أذانٌ ولا إقامةٌ، وأنه يستحب فيهما التكبيرات الزوائد. 2 - لا بأس أن يصلي في بيته إذا عاد إليه. 3 - يدل الحديث (400) على أنَّه يكره التنفل قبل الصلاة وبعدها بموضعها قبل مغادرته، ولو كانت صلاة العيد في مسجد. 4 - بعض العلماء أجاز التنفل قبل صلاة العيد في موضعها، وبعضهم أجازها بعدها، وبعضهم قبلها وبعدها. حتى قال النووي: ولا حجة في الحديث لمن كرهه؛ لأنَّه يلزم من ترك الصلاة كراهتها، والأصل أنَّه لا مانع حتى يثبت. اهـ. وقد ردَّ عليه الشيخ صديق في كتابه "السراج الوهاج"، فقال: أقول: لم تثبت هذه الصلاة من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يأمر بها، وهذا القدر يكفي في المنع منها؛ لحديث: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، ولا دليل لمن جوَّزها، وإنما جاءت كراهتها في ذلك؛ لمخالفتها السنة المطهرة. ***

402 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى العِيدَ بِلاَ أذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ، وَأَصْلُهُ في البُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. في معناه ما في البخاري (960)، ومسلم (886) عن ابن عباس: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى العيدين، ثم خطب بلا أذانٍ ولا إقامةٍ"، ورواه مسلم (887) من حديث جابر بن سمرة قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العيد غير مرَّة ولا مرَّتين، بغير أذان ولا إقامة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يكره الأذان والإقامة لصلاة العيدين، ووجه الكراهة أنه لم يَرِدْ، وما لم يَرِدْ فلا يُشرع. 2 - قال النووي: لا يشرع الأذان والإقامة لغير المكتوبات الخمس؛ وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف. وقال الشيخ تقي الدين: لا ينادى لعيد، ولا استسقاء، قال في "شرح الزاد": الأذان والإقامة فرض كفاية للصلوات الخمس المكتوبة، والجمعة من الخمس، وهما ليسا شرطًا للصلاة، فتصح بدونهما، قال الشارح: بلا خلاف نعلمه. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (1147)، البخاري (960).

403 - وَعَنْ أَبِي سَعِيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، وَأوَّلُ شَيءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَتقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، والنَّاسُ علَى صُفُوفِهِمْ، فَيعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُم". مُتَّفقٌ علَيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "يخرج إلى المصلى" فيه مشروعية صلاة العيدين في الصحراء، خارج العمران، ولو كان في المدينة المنورة. 2 - أنَّها لا تصلى في المسجد، إلاَّ لحاجة؛ كمطر ونحوه. 3 - البداءة بالصلاة قبل الخطبة، فإن قدَّم الخطبة على الصلاة، فلا يعتد بها، وتقدم بأوسع من هنا. 4 - كراهة الصلاة في مصلى العيد قبلها، فإنَّ أول شيء بدأ به الصلاة. 5 - أنَّ للعيدين خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام، ويزيد العيدان بالتكبير فيهما، قال غير واحد: اتَّفق الموجبون لصلاة العيد، وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا نعلم قائلاً بوجوبها. 6 - أنَّ الإمام بعد الصلاة ينصرف عن القبلة، ويستقبل الناس، فيعظهم ويرشدهم في كل وقت بما يناسبه. 7 - استحباب بقاء الناس على صفوفهم؛ لاستماع الخطبتين، وكثير من الناس ينفرون بعد الصلاة، ولا يسمعون الموعظة، ولا شك أنَّ هذا عدم اهتمام بالخير، وحرمان من فضل الله في هذا المشهد العظيم. ¬

_ (¬1) البخاري (956)، مسلم (889).

* فائدة: قولهُ: "والناس على صفوفهم" يعني: مستقبلي القبلة، واستقبال القبلة له أربع حالات: الأولى: واجب؛ وذلك في الصلوات فرضها ونفلها. الثاني: مستحب؛ وذلك عند الدعاء. الثالث: يكون مشروعًا، وذلك عند كل عبادةٍ، من ذكرٍ وتلاوةٍ، ووضوءٍ وغيرها، إلاَّ بدليل. قال صاحب "الفروع": وهو متوجه في كل عبادةٍ، إلاَّ بدليل. الرابع: حرام؛ وذلك عند قضاء الحاجة، على خلافٍ: هل هو عامٌّ، أو في الفضاء فقط؟ ***

404 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "التَّكْبِيرُ فِي الفِطْرِ سَبعٌ فِي الأُوْلَى وَخَمْسٌ فِي الأُخْرَى، وَالقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كلْتَيْهِمَا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ البُخَارِيِّ تَصْحِيْحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث قويٌّ بشواهد. قال في "التلخيص" ما خلاصته: رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وصححه أحمد وعلي بن المديني، والبخاري فيما حكاه الترمذي، وللحديث شواهد: 1 - ما رواه الترمذي (536)، وابن ماجه (1277)، والدارقطني (2/ 46)، وابن عدي، والبيهقي (3/ 285)، من حديث: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وكثير ضعيف. 2 - ما رواه الترمذي من حديث عائشة، وفيه ابن لهيعة، ذكر الترمذي أنَّ البخاري ضعفه. 3 - رواه البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف، وصحح الدارقطني إرساله. 4 - رواه البيهقي (3/ 289) عن ابن عباس، وهو ضعيف. وروى العقيلي عن أحمد أنَّه قال: لا يُروى في التكبير في العيدين حديث صحيح مرفوع. وقال الحاكم: الطرق إلى عائشة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي ¬

_ (¬1) أبو داود (1151).

هريرة -فاسدة. وقال الشيخ الألباني: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح، ويؤيده عمل الصحابة به. * ما يؤخد من الحديث: 1 - استحباب التكبير في صلاتي العيدين بقول: "الله أكبر"؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. 2 - قَدْرُهُ ست تكبيرات في الركعة الأولى، غير تكبيرة الإحرام، وخمسٌ في الركعة الثانية، غير تكبيرة الانتقال من السجود إلى القيام. قال البخاري: ليس في الباب أصح من هذا، وقال ابن عبد البر: روي عنه -صلى الله عليه وسلم- من طرق كثيرة حسان: "أنَّه كبر سبعًا في الأولى، وستًّا في الثانية"، ولم يرو عنه خلافه، وهو أولى ما عمل به. 3 - محل الزوائد في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح، وفي الركعة الثانية بعد تكبيرة الانتقال من السجود إلى القيام. 4 - يكون بعد التكبيرة السابعة التعوذ، ثم قراءة الفاتحة، ثم السورة، ولا يفصل بين التكبيرة السابعة والتعوذ بذكر، والتعوذ للقراءة. 5 - يرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لقول وائل بن حجر: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه مع كل تكبيرة"، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الإمامان: أبو حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك. 6 - يقول بين كل تكبيرتين: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلى الله على محمَّدٍ وآله وسلم تسليمًا كثيرًا"، واختاره الشافعي وغيره. 7 - قال شيخ الإسلام: ليس في ذلك شيء معين، فاستحبَّ أن يتخللها ذكر. وقال ابن القيم: كان -صلى الله عليه وسلم- يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يحفظ

عنه ذكر معين بين التكبيرات، وكان يضع يمينه على شماله بين كل تكبيرتين. 8 - التكبيرات الزوائد والذكر الذي بينها مستحب إجماعًا؛ لأنَّه ذكر مشروع بين تكبيرة الإحرام والقراءة، أشبه دعاء الاستفتاح. ***

405 - وعنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الأَضحَى وَالفِطرِ بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ} " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب قراءة سورة {ق} في الركعة الأولى بعد الفاتحة، وسورة {القمر} بعد الفاتحة في الركعة الثانية من صلاة العيدين، فهي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - جاء في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه من حديث سمرة بن جندب: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-كان يقرأ في صلاة العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} " قال ابن عبد البر: تواترت الروايات بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. 3 - الحكمة -والله أعلم- من قراءة {ق} و {القمر} -: أنهما اشتملتا على أخبار ابتداء الخلق، والبعث، والنشور، والمعاد، والقيامة، والحساب، والجنة، والنار، والترغيب، والترهيب، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذِّبين، وتشبيه بروز الناس في العيد، ببروزهم في البعث، وخروجهم من الأجداث، كأنَّهم جراد منتشر، وغير ذلك من الحِكم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (891).

406 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قالَ: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ العِيدِ، خَالَفَ الطَّرِيقَ". أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (¬1). ولأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. أما رواية أبي داود إسنادها: عبد الله بن عمر العمري، وفيه مقال، وله شواهد: - عن أبي هريرة، رواه أحمد والترمذي، قال البخاري: حديث جابر أصح. - عن سعيد القرظي وأبي رافع، رواهما ابن ماجه. - عن عبد الرحمن بن حاطب، رواه ابن قانع وأبو نعيم. * مفردات الحديث: - إذا كان يوم عيد: "كان" -هنا- تامة، و"يوم عيد" فاعل لها، ولا تحتاج إلى خبر؛ فإنَّها إذا كانت تامة، فيكتفى برفع المسند إليه على أنَّه فاعل لها، ولا تحتاج إلى خبر، و"إذا" شرطية. - خالف الطريق: هو جواب الشرط؛ أي: يذهب إلى المصلى من طريق، ويعود من المصلى من طريق أخرى. ¬

_ (¬1) البخاري (986). (¬2) أبو داود (1156).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب مخالفة الطريق في الذهاب والإياب في صلاة العيد؛ بأن يذهب إليها من طريق، ويعود منها من طريق آخر؛ فذلك سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال بذلك أكثر أهل العلم، ويكون مشروعًا في حق الإمام والمأموم. 2 - قال في "المبدع": الظاهر أنَّ مخالفة الطريق في العيد شرعت لمعنى خاص، فلا يلحق به غيره، قالوا: إنَّما ورد مخالفة الطريق في العيد، فيجب الوقوف مع النص لأمرين: أولاً: أنَّ من شرط القياس أن نفهم العلة التي شرع من أجلها المخالفة في صلاة العيد، وهي مجهولة. الثاني: على فرض فهمنا للعلة، فإنَّ القياس لا يصح؛ ذلك أنَّ القاعدة الشرعية أنَّ الشيء، إذا وجد سببه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يَرِد به سنة -فإنَّ السنة في الترك، فالسنة بالترك كالسنة بالفعل سواء بسواء. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الحكمة من مخالفة الطريق، فقيل: 1 - ليسلِّم على أهل الطريقين. 2 - لينال بركة مشيه في الطريقين. 3 - ليُظهر شعائر الإسلام في كل فجاج الطرق. 4 - ليَشهد له الطريقان. 5 - وقيل: للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا. قال ابن القيم: الأصح أنَّه لذلك كله، ولغيره من الحِكم، التي لا يخلو عنها فعله -صلى الله عليه وسلم-. ***

407 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المَدِيْنَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: قَدْ أبْدَلَكُمُ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَومَ الفِطْرِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، وأخرجه الحاكم (1/ 434) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، كما أخرجه الإمام أحمد بعدة أسانيد، بعضها ثلاثيات من السند العالي. * مفردات الحديث: - ولهم يومان يلعبون فيهما: هذان اليومان أحدهما يسمى: "النيروز"؛ أي اليوم الجديد بالفارسية، فهو أول يوم تتحول فيه الشمس إلى برج الحمل. اليوم الثاني: "المهرجان" معرب عن "مهركان" بالفارسية، وهو أول يوم تتحول فيه الشمس إلى برج الميزان، وأما العرب فقلدوهم واتَّبعوهم في ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسلام أبطل كل أعياد الجاهلية؛ لأنَّها أعياد لا تعود إلى معنىً كريمٍ، ولا إلى ذكرى يحسن إحياؤها وتذكرها، وحينما أبطل تلك الأعياد لم يُحْرِم المسلمين من المتع المباحة، وأنواع الفرح والسرور؛ فأبدلهم بأعياد إسلامية كريمة. ¬

_ (¬1) أبو داود (1134)، النسائي (3/ 179).

2 - جواز اللعب والغناء في أيام الأعياد للرجال والنساء؛ بشرط أن يخلو من المحرمات؛ كاختلاط الرجال والنساء، ووجود الأغاني المحرمة، ووجود المعازف. 3 - نأخذ من هذا أنَّه يجب على المسلمين أن يجتنبوا أعياد الوثنيين، والكتابيين: اليهود والنصارى، فلا يحضروها، ولا يعنوا بها، ولا يعينوا عليها، ولا يهنئوا فيها، ولا يتخذوا شيئًا من مراسمها، ولا يتركوا أعمالهم فيها؛ فإنَّهم إن فعلوا ذلك. فقد أحيوا أعياد الجاهلية، فما كفار هذا الزمان إلاَّ شرٌّ من كفار الجاهلية الأولى. قال شيخ الإسلام: دلت الدلائل من الكتاب، والسنة، والإجماع، والآثار، والاعتبار، على أنَّ التشبه بالكفار منهيٌّ عنه. 4 - قال شيخ الإسلام: أعياد الكفار من الكتابيين، وغيرهم، من جنس واحد، لا يختلف حكمها في حق المسلم، فلا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعامٍ، ولا لباسٍ، ولا اغتسالٍ، ولا إيقاد نيرانٍ، ولا تعطيل عادة؛ من معيشةٍ أو غيرها، أو ترك الأعمال الراتبة من الصنائع، أو التجارة، أو اتخاذه يوم راحةٍ، وفرحٍ، ولعبٍ، على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. 5 - هنا نوع آخر من الأعياد وهي أعياد وطنية، اتخذتها الدول والحكومات، وهي إما أعيد استقلال، أو عيد ثورة، أو عيد يعظمون فيه ذكرى من ذكرياتهم، ومثلها أعياد الأسر، والأفراد، مثل عيد ميلاد، أو عيد شم النسيم، أو عيد رأس السنة الميلادية، أو عيد ميلاد زعيمهم، أو عيد الأم، أو غير ذلك؛ فهذه كلها أعياد جاهلية، تحولت علينا يوم تحول علينا الاستعمار السياسي والعسكري والفكري، ولم نستطع التحرر منه. 6 - هناك أعياد اتخذت صبغة دينية، وهي الاحتفال بالميلاد النبوي، وذكرى

الإسراء والمعراج. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الاحتفال بذكرى المعراج ليس بمشروع؛ لدلالة الكتاب والسنة والاستصحاب والعقل. أما الكتاب: فمثل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وأما السنة: ففي الصحيحين من حديث عائشة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رد". وأما العقل: فلو كان هذا مشروعًا، لكان أولى الناس بفعله محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. 7 - يدل الحديث على أنَّ عيدي الفطر والأضحى هما عيدا المسلمين الشرعيين. 8 - قد جاءت الأحاديث والآثار بتوسع المسلمين فيهما بأنواع المباحات، والفرح والسرور، والزينة والتهاني والزيارات، كما أنَّهما عيدا شكر لله تعالى؛ إذ منَّ على المسلمين بصيام رمضان وقيامه، وأداء المناسك والأضاحي بيسر وسهولة، فعلى المسلمين الاتباع، وترك الابتداع، ففي الشرع ما فيه الكفاية؛ وذلك بدون: - أن نشارك الكفار في أعيادهم، ونحتفي بها معهم. - ولا أن نتَّخذ أعيادًا إفرنجية، غرسها الاستعمار عندنا. - ولا أن نتَّخذ أعيادًا لمناسبات إسلامية، بعضها لم يُحقق زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يفعله، ولا أحد من أصحابه، وإنما هي محدثة من القرون المتخلفة، حينما نُسيت السنة، وأحييت البدعة، وتفرق المسلمون، والله نسأل أن يوفق المسلمين لإحياء سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. 9 - حسن الدعوة إلى الله تعالى، وحسن الأسلوب فيها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أبطل يومي عيد أهل المدينة، جاء بأسلوب لطيفٍ مُغْرٍ، فَقارن بين يومي الجاهلية، وبين عيد الفطر وعيد الأضحى، وذكر أنَّ يومي الفطر والأضحى

خير من يوميهما؛ ليكون الإقبال على البديل أسرع وأبلغ. 10 - إنَّه -صلى الله عليه وسلم- يوفِّي النفوس غرائزها، وما جبلت عليه من حبها لتراثها الأول، ومن حاجتها إلى إشباع رغبتها من وجود أيام أُنسٍ، وفرحٍ، وسرورٍ، تعبر فيه عن مشاعرها، وتميل فيه إلى راحتها، وإلى أفراحها وسرورها، فهو -صلى الله عليه وسلم- لم يبطل عيدي الجاهلية حتى أعدَّ البديل بما يغني عنه، ويكفي من أيام فرحٍ، وسرور، هما خير من الأولين؛ لئلا يبقا تشوف النفوس وشوقها إلى عيديهما الأولين، فليت علماء المسلمين إذا عالجوا أمرًا مما وقع فيه المسلمون أنَّهم لا يطالبون بتحريمه وإبطاله، إلاَّ وقد أعدوا بديلاً عنه، ومن ذلك البنوك الربوية، وبعض المعاملات التجارية، حتى إذا حرموا شيئا، وإذا ببديله الشرعي يحل محله، ويقوم مكانه، فتحصل به الكفاية عن الحاجة إلى الأول، والله الموفق. 11 - قال القرطبي: أما الغناء فلا خلاف في تحريمه؛ لأنه من اللهو واللعب المحرم بالاتفاق، وأما غناء الجاريتين فلم يكن إلاَّ وصف الحرب والشجاعة، وما يجري في القتال؛ ولذلك رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه، فالغناء الذي يحرك الساكن، ويهيج الكامن، وفيه وصف محاسن الصبيان والنساء والخمر ونحوها من الأمور المحرمة، فلا يختلف في تحريمه، ولا اعتبار بما ابتدعه الجهلة من الصوفية في ذلك، فإنَّك إذا تحققتَ أقوالهم في ذلك، ورأيت أفعالهم، وقفت على آثار الزندقة منها، والله المستعان. ***

408 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ أنْ يَخْرُجَ إلى العِيدِ مَاشِيًا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسَّنهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن لغيره. قال الترمذي: حديث حسن، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، وللحديث شواهد، وهي وإن كانت مفرداتها ضعيفة، إلاَّ أنَّ مجموعها يدل على أنَّ للحديث أصلاً. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الخروج إلى مصلى العيد يوم العيد ماشيًا، ففيه تكثير الحسنات، وحط السيئات، وفيه التواضع، وعدم أذية المشاة بمركوبه، والمشي رياضة بدنية، قال الأطباء: أنَّها أحسن الرياضات، والإنسان مطالب بما يفيد صحته. 2 - قال الترمذي: يستحب ألا يركب إلاَّ من عذر. والعذر قيدٌ معلوم لجميع العبادات والتكاليف، فلا يجب على المكلف منها إلاَّ قدر استطاعته، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم". ... ¬

_ (¬1) الترمذي (530).

401 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُمْ أَصَابهمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صلاَةَ العِيدِ فِي المَسْجِدِ". روَاهُ أَبُو دَاوُدَ بإِسنَادٍ لَيِّنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. رواه أبو داود بإسناد ليَّنٍ؛ لأنَّ في إسناده رجلاً مجهولاً، هو عيسى بن عبد الأعلى، قال فيه الذهبي: لا يكاد يعرف، وهو منكر الحديث، ورواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد، مع أنَّ فيه: يحيى بن عبيد الله، الذي قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: أحاديثه مناكير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأفضل في صلاة العيد أن تؤدى في الصحراء خارج البنيان، فكانت هذه هي عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته، والحكمة في هذا -والله أعلم-: تمكين المسلمين من الاجتماع الكبير، الذي لا يتخلف عنه، حتى البنات الشابات، والنساء الحُيَّض، فمثل هذا الاحتفال والاجتماع لا يسعه إلاَّ الصحراء، مع ما في خروجهم من البروز لله تعالى، ضاحين له. 2 - إذا كان هناك عذر من مطرٍ، أو خوفٍ -كحصار البلد- فتصلى في المساجد، ولو تعددت، إن لم يكفهم مسجدٌ واحدٌ. وكونها تصلَّى في الصحراء إلاَّ من عذر، فتصلى في المسجد -هو مذهب جمهور العلماء. ¬

_ (¬1) أبو داود (1160).

وذهب الشافعية إلى: أنَّ فعلها في المسجد أفضل إن اتَّسع؛ لأنَّ المسجد أشرف وأنظف من غيره، فإن كان المسجد ضيِّقًا، فالسنة أن تصلى في الصحراء، وما ذهب إليه الجمهور أصح، وعليه عمل المسلمين، ولله الحمد. ***

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف مقدمة قال ثعلب: أجود الكلام أن يقال: كسفت الشمس، وخسف القمر، فالكسوف هو: ذهاب ضوء الشمس، أو بعضه في النهار، والخسوف هو: ذهاب ضوء القمر، أو بعضه ليلاً. سبب الكسوف هو: حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض، وسبب الخسوف هو: حيلولة الأرض بين الشمس وبين القمر. وقد أجرى الله تعالى العادة أنَّه لا يحصل الكسوف إلاَّ في الأسرار، آخر الشهر إذا اقترن النَّيِّرَان. ولا يحصل الخسوف إلاَّ في الأبدار، إذا تقابل النيران. قال علماء الفلك: الكواكب، ومنها الشمس والقمر، لكل منهما مسارٌ خاصٌّ، وبعضها أعلى من بعض، فيكون بعضها أبعد عنَّا من بعضها الآخر، فيمر كوكب منها أمام كوكب أقرب منه إلينا، فيحجب الأدنى منهما الأعلى عن نظرنا، فيحصل كسوف الكوكب الأعلى. فإذا اتَّفق مرور القمر بيننا وبين الشمس، حصل كسوف الشمس، لكن إن حال بيننا وبين الشمس تمامًا، حصل الكسوف الكلي؛ لأنَّه غطى عنَّا وجه الشمس كله، فإن لم تكن مقابلة القمر للشمس كاملة بالنسبة لمركزنا، صار كسوفًا جزئيًّا. أما خسوف القمر: فهو احتجاب ضوئه عندما تلقي عليه الشمس ظلها،

أثناء وجود الأرض بين الشمس والقمر، ولا تكون هذه الظاهرة إلاَّ عندما يكون القمر في مخروط ظل الأرض، ويكون الخسوف جزئيًّا إذا كان جزء من القمر في مخروط ظل الأرض، وكما أنَّ للكسوف والخسوف أسبابه العادية، التي تدرك بعلم هذه الأسباب المادية -فله حكمته الإلهية الربانية، فعندما تقضي الحكمة الإلهية تغيير شيء من آيات الله الكونية؛ كالكسوف والخسوف والزلازل؛ ليوقظ الله عباده من الغفلة بترك الواجبات، وارتكاب المنهيات، تقدر الأسباب الحسية العادية، لتغيير هذا النظام الكوني؛ ليعلم العباد أنَّ وراء هذه الاكوان العظيمة مدبِّرًا قديرًا بيده كل شيء، وهو محيطٌ بكل شيء، فهو قادر على أن يعاقبهم بآية من آياته الكونية، كما أهلك الأمم السابقة بالصواعق والرياح، والطوفان والزلازل والخسوف، كما أنَّه قادر على أن يسلبهم نور الشمس والقمر، فيظلون في أرضهم يعمهون، أو يصيبهم بالقحط فتذوى أشجارهم، وتجف أنهارهم؛ قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة]، ولكننا أصبحنا في زمن المادة وطغيانها، فصار الناس لا يدركون المعاني المعنوية من التحذير من عذاب الله، وتذكير نعمه. وصلاة الكسوف: استنبطها بعض العلماء من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [فصلت]. وأما السنة: فقد تواترت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحكى الإجماع على مشروعيتها جمعٌ من العلماء. ويستحب عندها الدعاء، والاستغفار، والالتجاء إلى الله تعالى، والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، حتى يكشف الله ما بالناس، والله بعباده غفور رحيم.

410 - عَنِ المُغِيْرَةَ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا الله، وَصَلُّوا حتَّى تَنْكشِفَ". مُتَّفقٌ عليْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: "حَتَّى تَنْجَلِيَ" (¬1). ولِلبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: "فَصَلُّوا وَادْعُوا، حَتَّى يَنكشِفَ مَا بِكُمْ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - انكسفت الشمس: يقال: كسفت الشمس بفتح الكاف، وانكسفت بمعنى واحد، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر شوال، في السنة العاشرة من الهجرة، أي: اسودت وذهب ضوؤها. - إبراهيم: ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- من جاريته مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، كان مولده في ذي الحجة سنة ثمانٍ، وعاش ئمانية عشر شهرًا. - آيتان: تثنية: "آية"، وجمعها: "آيات"، ومعنى الآية: العلامة، فهما علامتان من علامات الله تعالى، التي يخوِّفُ الله بها عباده، والتي تدل على كمال قدرة ¬

_ (¬1) البخاري (1043)، مسلم (915). (¬2) البخاري (1040).

الله، وتصرفاته في هذا الكون. - لموت أحد ولا لحياته: السياق هو لموت إبراهيم، وإنما جاء ذكر الحياة لدفع توهم من يقول: لا يلزم من كونه سببًا للفقدان ألا يكون سببًا للإيجاد، فعمم النفي، ولأنَّهم كانوا في الجاهلية يقولون عند الكسوف: ولد اليوم عظيم، أو مات عظيم. - رأيتموهما: في رواية: "فإذا رأيتموها" بتوحيد الضمير، الذي يرجع إلى الآية، والمعنى: إذا رأيتم كسوف أي واحد منهما؛ لاستحالة وقوع ذلك فيهما معًا، في حالةٍ واحدةٍ عادةً. - ينكشف: حتى يرتفع ما حلَّ بكم من الخسوف. - تنجلي: رُوي "تنجلي" بالتذكير والتانيث، ووجههما ظاهرٌ، والمراد صلوا وادعوا، حتى يذهب ظلامهما، ويصحوا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حصول كسوف الشمس زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم. وقال الشيخ المباركفوري: اتَّفق المحققون من أهل التاريخ، وعلم الهيئة والماهية، في الحساب الفلكي على أنَّ الكسوف الذي وقع يوم مات إبراهيم وقع في 28، أو 29 من شهر شوال، سنة 10 من الهجرة، الموافق 27 يناير سنة 632 في الساعة الثامنة والثلاثين دقيقة صباحًا. 2 - إبراهيم بن النبي -صلى الله عليه وسلم- من جاريته مارية القبطية المصرية، عاش ثمانية عشر شهرًا، ولم يولد له -صلى الله عليه وسلم- من غير خديجة ولد إلاَّ منها، ولما توفي حزن عليه -صلى الله عليه وسلم-، ودمعت عيناه، وقال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". 3 - قال شيخ الإسلام: وقد أجرى الله العادة أنَّ القمر لا ينخسف إلاَّ وقت الأبدار، وهي الليالي البيض، وأنَّ الشمس لا تنكسف إلاَّ وقت الاسرار،

ومن قال من الفقهاء: إنَّ الشمس تنخسف في غير وقت الاستسرار، فقد غلط، وقال ما ليس له به علم، فالكسوف له أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر. وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد وخسوف الشمس، فكمن يقدرون مسائل يُعْلَمُ أنَّها لا تقع، ولكن ذكروها لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها. 4 - روى مسلم (901) من حديث عائشة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباد"، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء]. فهذا هو السبب الشرعي الغيبي، الذي لا يعلم إلاَّ من قبل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، في أمر الكسوف والخسوف. أما السبب الحسي له: فهو يعلم عن طريق الحساب الفلكي؛ فإنَّ الكواكب بعضها أبعد عنَّا من بعض، فيمر كوكب منها أمام كوكب أبعد منه، فيحجب الأدنى منها الأعلى عن كوكبنا الأرضي، فإن حال القمر بيننا وبين الشمس، حصل كسوف الشمس، وإن وقعت الأرض بين الشمس والقمر حصل خسوف القمر. ولما كان الكسوف ليس من الأمور العادية لسير الكواكب، وإنما هو شيء خارج عن العادة -كانت صلاته صلاة رهبةٍ وخشيةٍ، فكانت صفتها وهيئتها ليست كالصلوات المعتادة، وبهذا يتناسب الأمر الشرعي مع الأمر الكوني القدري. 5 - وجود عادة جاهلية هي قولهم: إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان إلاَّ لموت عظيمٍ، أو حياة عظيم. قوله: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد،

ولا لحياته"- فيه إبطال لزعم المنجمين، الذين يستدلون بالحوادث الكونية، والأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية، من ولادة عظيم، أو حياة عظيم، أو وجود خصب، أو قحط، أو غير ذلك من الأمور الغيبية. 6 - إبطال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا التقليد الجاهلي، وبيان أنَّ الشمس والقمر آيتان وعلامتان من آيات الله الكونية، يغيِّر الله سيرهما ومجراهما، ويمحو ضوءهما؛ ليخوِّف بذلك عباده؛ لئلا يعصوه بترك الواجبات، وانتهاك الحرمات. 7 - مشروعية الصلاة والدعاء، والتضرع والاستغفار، حين حصول الكسوف. والأصل في الأمر الوجوب، ولكن قال ابن الملقن: صلاة الكسوف سنة مؤكدة بالاتفاق؛ لما يحصل عند ذلك من الخشوع والمراقبة في تلك الحال. 8 - يسن أن يُنَادَى لها: "الصلاة جامعة"؛ لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة". وأجمع المسلمون على أنَّه لا يشرع في حقَّها أذانٌ. 9 - وقت الصلاة يبتدىء من حين يبدأ كسوف الشمس، أو خسوف القمر، ويستمر حتى ينجلي ذلك؛ فإن انتهت الصلاة قبل التجلي لم تُعَدْ، وأكملوا مدة الكسوف، أو الخسوف بالدعاء والاستغفار. 10 - نُصْحُ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، حتى في حال تعظيم الناس أمر وفاة ابنه، فلم يقرَّ بقاء هذه الأسطورة الجاهلية، بل أخبر المسلمين أنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ، ولا لحياته. 11 - أنَّ الأسباب المادية للكسوف والخسوف لا تنافي المقاصد المعنوية، فإنَّ الله تعالى، وإن أجرى للكسوف أسبابًا مادية، إلاَّ أنَّ مقصودها المعنوي قائمٌ مرادٌ لله تعالى.

12 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تأتيه المصائب من الأمراض، وفقد الأحبة، والهزائم في الحروب، وأذية الخلق؛ فالله تعالى يُجري عليه من الأحوال البشرية ما يُجري على غيره من البشر، وكل هذا من ثبات إيمانه، وزيادة حسناته، وتأكيد بشريته. 13 - وقوله: "فإذا رأيتموهما" دليلٌ على أنَّ المعول عليه في الصلاة للكسوف أو الخسوف -هو رؤية ذلك، وليسا لعلم الحساب فلو قال الفلكيون: إنَّ القمر سيخسف الليلة الفلانية، ولكننا لم نره أبدًا لتراكم السحب، فإنَّنا لا نصلي صلاة الكسوف لمجرد قولهم، كما أنه لو حال دون منظر الهلال ليلة الشك غيم، فإننا لا نصوم، ولو قال أهل العلم بالحساب: إنه سيُهِلُّ هذه الليلة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء؛ هل يشرع لصلاة الكسوف خطبة أو لا؟ فذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنه ليس لها خطبة. وذهب الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث إلى: "استحبابها؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خطب ووعظ الناس، وأزال عنهم شبهة سبب انكساف الشمس والقمر لموت أحدٍ، وحياته. ***

411 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جهَرَ فِي صَلاَةِ الكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أرْبَعَ رَكعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأرْبَعَ سَجَدَاتٍ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ، وهَذا لفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الصلاة جامعة: "الصلاة" مبتدأ، و"جامعة" خبر، ويجوز نصب الأول على الإغراء، ونصب الثاني على الحال، والمعنى: أنَّ الصلاة تجمع الناس في المسجد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية صلاة الكسوف، وأنَّها سنة مؤكدة؛ باتفاق العلماء. 2 - أنَّ صلاتها جهرية، ولو كانت نهارية؛ لاجتماع الناس فيها. 3 - يصح أن تصلى جماعة وأفرادًا، إجماعًا، ولكن الجماعة فيها أفضل، إجماعًا؛ لما روى أحمد (6447) عن عبد الله بن عمرو؛ أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبتها: "فافزعوا إلى المساجد"؛ ولأنَّ في ذلك اتباعًا. 4 - أنَّها تصلى أربع ركعات، وأربع سجدات بسلام واحد. 5 - أنه ليس لها أذانٌ ولا إقامةٌ، وإنما تصلى كصلاة العيد، وينادى لها بلفظ: "الصلاة جامعة"، ولم يذكر تكريره، والظاهر أنَّه يقال بقدر الحاجة إلى إسماع الناس؛ لأنَّه المقصود. 6 - قولها: "جهر في صلاة الكسوف"، وقولها: "وبعث مناديًا ينادي: الصلاة ¬

_ (¬1) البخاري (1065)، مسلم (901).

جامعة" -دليل على أنَّ المشروع في صلاة الكسوف هو الاجتماع العام لها، وأن تصلى كما تصلى الأعياد والاستسقاء؛ من حيث الاجتماع، فإنَّه ما جهر بقراءتها، وهي قد تكون نهارية، إلاَّ لأنَّها تضم الجمع الكبير، ولا ينادى لها بالصلاة جامعة إلاَّ لذلك. 7 - المؤلف -رحمه الله- اختصر هذا الحديث: "حديث عائشة"، وإلاَّ ففيه زيادات نورد معناها، إكمالاً للفائدة ما دامت من الحديث الذي معنا: (8) أطال -صلى الله عليه وسلم- القيام في الركعة الأولى، ئم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى، ثم انصرف، فخطب الناس. 9 - استحباب التطويل في قيامها وركوعها وسجودها. 10 - تؤدى كل ركعة أقصر من الركعة التي قبلها. 11 - ابتداء وقت الصلاة من حصول الكسوف، وانتهاؤه بالتجلي. 12 - استحباب الخطبة، إذا دعت إليها الحاجة. 13 - كل هذه الأحكام مذكورة في حديث عائشة، وصريحة فيه، ولم يورد منه المؤلف إلاَّ ما يتعلَّق بأحكام صلاة الكسوف، ولعله اكتفى بحديث ابن عباس الآتي، والله أعلم. ***

412 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ثُمَّ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيْلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمِّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). وفِي روَايَةٍ لِمسْلِمٍ: "صَلَّى حِيْنَ كُسِفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبعَ سَجدَاتٍ" (¬2). وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذلك (¬3). وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ: "صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتِ بِأَرْبعَ سَجَدَاتٍ" (¬4). وَلأَبِي دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "صَلَّى فَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ¬

_ (¬1) البخاري (1052)، مسلم (907). (¬2) مسلم (908). (¬3) أحمد (1/ 143)، وفيه حنش، قال البخاري وأبو حاتم "يتكلمون في حديثه". (¬4) مسلم (904).

وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذلِكَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: اختلفت الأحاديث في عدد الركعات في الركعة الواحدة: فروي: "ركوعان في الركعة"، وروي: "ثلاث ركعات في الركعة"، وروي: "أربع ركعات في الركعة"، وروي: "خمسة ركعات في الركعة"؛ فصلاة الكسوف رويت على هذه الكيفيات المتعددة، مع أنَّ الخسوف لم يقع إلاَّ مرَّة واحدةٍ في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا صحح الأئمة والمحققون حديث عائشة، الذي فيه: "أربع ركعات في ركعتين" على غيره من الروايات، وضعَّفوا ما عداه من الروايات، ومنهم الأئمة: الشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم. * مفردات الحديث: - انخسفت الشمس: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، هذا اصطلاح الفقهاء، واختاره ثعلب، قال في "الفصيح": كسفت الشمس، وخسف القمر أجود الكلامين، وذكر الجوهري أنَّه أفصح. قال العيني: وفي الحقيقة في معناهما فرق، فقيل: الكسوف أن يكسف ببعضهما، والخسوف أن يخسف بكليهما، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]، وقال بعض أهل اللغة: الأفصح إطلاق الكسوف على الشمس، والخسوف على القمر، وإن صحَّ إطلاق أحدهما مكان الآخر. ¬

_ (¬1) أبو داود (1182).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - طول القيام في الركعة الأولى بقدر قراءة سورة البقرة. 2 - تصلى الركعة الأولى بركوعين وسجودين، كل واحدٍ أقصر من الذي قبله، ثم تصلى الركعة الثانية كالركعة الأولى، إلاَّ أنَّها أقصر منها في قيامها وركوعها وسجودها. 3 - قال شيخ الإسلام: الكسوف يطول زمانه تارةً، ويقصر أخرى، بحسب ما يكسف منه، فإذا عظم الكسوف، طولت الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة، وبعد الركوع بدون ذلك، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بما ذكرنا، وشرع تخفيفها لزوال السبب، وكذا إذا علم أنَّ الكسوف لا يطول، وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز، وعليه جماهير أهل العلم؛ لأنَّها صلاة شرعت لعلة، وقد زالت. 4 - انصرف -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة وقد انجلت الشمس، فخطب الناس. وهذه الصفة من حديث ابن عباس متفق عليها، وهي كحديث عائشة السابق. 5 - جاء في رواية مسلم: "صلَّى ثماني ركعات، في أربع سجدات"، ولمسلم عن جابر: "صلَّى ست ركعات، وسجد سجدتين"، ولأبي داود عن أُبي بن كعب: "صلَّى خمس ركعات، وسجد، وفعل في الثانية مثل ذلك"، وللبيهقي عن ابن عباس في زلزلة: "صلَّى ست ركعات، وأربع سجدات". * خلاف العلماء: اختلف العلماء في عدد ركعات صلاة الكسوف: فذهب الحنفية إلى: أنَّها تصلى ركعتين كهيئة الصلوات الأخر؛ لما روى أبو داود: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى ركعتين، فأطال فيهما القيام، وانجلت الشمس". وذهب جمهور العلماء إلى: أنَّها تصلى أربع ركعات في أربع سجدات،

ودليلهم: حديث عائشة، وحديث ابن عباس. قال ابن عبد البر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب، وذهب الحنابلة إلى: جواز كل صفة وردت من الشارع، ولكن الأفضل هو أربع ركعات في كل السجدات الأربع، كما هو رأي الجمهور. قال محرره عفا الله عنه: وردت صفات صلاة الكسوف على كيفيات متعددة: منها: الأمر بالصلاة إجمالاً. - ومنها: أن تصلى أربع ركعات، في أربع سجدات. - ومنها: أن تصلى ست ركعات، في أربع سجدات. - ومنها: أن تصلى ثماني ركعات، في أربع سجدات. - ومنها: أن تصلى عشر ركعات في أربع سجدات، مع أنَّ الخسوف لم يقع إلاَّ مرَّة واحدة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لذا رجح الأئمة والمحققون حديث عائشة على غيره من الروايات، وهو: "أربع ركعات، وأربع سجدات"، وما عداها فقد ضعَّفه الأئمة: أحمد، والبخاري، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم. قال شيخ الإسلام: قد ورد في صلاة الكسوف أنواع، ولكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورواه البخاري ومسلم من غير وجه، وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم، كمالك، والشافعي، وأحمد -رحمهم الله-: "أنَّه صلَّى بهم ركعتين، في كل ركعة ركوعان". وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: الصواب أنَّها ركوعان في كل ركعة، كما في حديث عائشة، وغيرها من الصحابة -رضي الله عنهم- وما سوى ذلك: إما ضعيف، أو شاذ لا يحتج به. وأجمع الفقهاء على أنَّ وقت صلاة الكسوف من بدء الكسوف إلى

التجلي. واختلفوا: هل تصلى في أوقات النهي، أو لا؟ فذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تصلى فيها؛ لعموم أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات. وذهب الشافعية إلى: أنَّها تصلى، وخصوا النهي في هذه الأوقات بالنفل المطلق، أما الصلوات ذوات الأسباب؛ كصلاة الكسوف، وتحية المسجد فلا تدخل في النهي، فهي مخصصة بالأحاديث الآمرة بتلك الصلوات، وجواز فعل الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي. وهو رواية قوية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من أصحابنا، مخصِّصين أحاديث النهي العامة بأحاديث ذوات الأسباب المبيحة، وبهذا تجتمع الأدلة، ويمكن العمل بها جميعًا. واختلف العلماء بالجهر أو الإسرار في صلاة الكسوف: فذهب الأئمة الثلاثة إلى؛ أنَّها صلاة سِرية، لا يجهر فيها؛ لما روى أحمد (3268)، وأبو يعلى (5/ 130) عن ابن عباس قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أسمع منه حرفًا من القراءة"، ولأنَّها صلاة نهارية، والأصل فيها الإخفاء. وذهب الحنابلة إلى: أنَّها صلاة جهرية؛ سواء كانت في الليل أو في النهار، لما في البخاري (1046) ومسلم (901) عن عائشة قالت: "جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الكسوف في قراءته". أما الحديث الذي استدلَّ به الجمهور-: فهو ضعيف، ففيه: عبد الله بن لهيعة، وقد تُكلم فيه، ولا يقاوم حديث الصحيحين، ولأنَّها صلاة جامعة، كصلاة الجمعة والعيدين. وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج به، فيُحمل على أنَّه كان بعيدًا، فلم

يسمع القراءة، وعلى تسليم قُربه، يحتمل أنَّه نسي المقروء بعينه، وكان ذاكرًا للمقدار، فاحتاج إلى الحرز والتخمين، والذي حمل على ارتكاب هذه الاحتمالات-: أنَّ الروايات الدالة على الإسرار، كلها روايات واهيةٌ ضعيفةٌ، لا يصح بمثلها الاحتجاج، والمثبت مقدم على النافي، فالجهر أصح دليلاً، وأقوى وآصل عند التعارض. واختلف العلماء: هل لصلاة الكسوف خطبة مستحبة، أو لا؟ فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه ليس لها خطبة. وذهب الإمام الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث إلى-: استحبابها، ورجح بعض المحققين التفصيل؛ وهو أنَّه إن احتيج إلى موعظة الناس وإرشادهم استُحِبَّتْ، كَما خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم كسوف الشمس؛ لمَّا قال الناس: إنَّها كسفت لموت إبراهيم، فخطب؛ ليزيل عن الناس هذا الاعتقاد الجاهلي الخاطىء، أمَّا إذا لم يكن هناك حاجة، فلا تشرع؛ لأنَّها لم تفعل إلاَّ لسببٍ، فتناط به، والله أعلم. ***

413 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا هَبَّت الرِّيحُ قَطُّ، إِلاَّ جَثَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- علَى رُكْبَتَيْهِ، وقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، وَلاَ تَجْعَلْهَا عَذَابًا". روَاهُ الشَّافِعِيُّ والطَّبَرَانِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ، قال في "التلخيص": رواه الشافعي في "الأم"، وأخرجه الطبراني، وأبو يعلى من طريق حسين بن قيس عن عكرمة. قال في "مجمع الزوائد": فيه: حسين بن قيس الرحبي الواسطي، وهو متروك، وبقية رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - هبت: من "الهبوب"، من باب نصر؛ وهو جريان الريح وفورانها، والهبوب هي الريح المثيرة للغبار. - ريح: قالوا: لأنَّ الريح بالإفراد لا تأتي إلاَّ بالعذاب؛ كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} [الذاريات]، وأما الرياح فتكون بشائر خير، كما قال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]. - قط: -بتشديد الطاء مبنيٌّ على الضم-: ظرف للزمن الماضي على سبيل الاستغراق، بمعنى أنَّه يستغرق كل ما مضى من الزمن، فمعنى: "ما فعلته قط"؛ أي: ما فعلته فيما انقطع من عمري؛ لأنَّه مشتقٌّ من "قططته"؛ أي: قطعته، ويؤتى به بعد النفي والاستفهام؛ لاختصاصه بذلك. - جثا: أي: على ركبتيه، جثوًا، من بابي علا ورمى، فهو جاثٍ، والمراد: ¬

_ (¬1) الشافعي (1/ 175)، وفي الأم (1/ 253)، الطبراني في الكبير (11/ 213).

الجلسة على الركبتين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الريح عُذِّب بها أمم، فهو -صلى الله عليه وسلم- يخشى على أمته عذاب الاستئصال. 2 - الرياح قد تكون رحمة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْتُ بِالصَّبا، وأُهْلِكَت عاد بالدبور"، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، فهي تلقح السحاب، وتلقح الأشجار، بنقل لقاح ذكورها لإناثها، ولله تعالى في خلقه شؤون. ***

414 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبعَ سَجَدَاتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا صَلاَةُ الآيَاتِ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ (¬1)، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مِثْلَهُ دُونَ آخِرِهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. أخرجه البيهقي، وصححه موقوفًا على ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة (2/ 472) من هذا الوجه مختصرًا: "أنَّ ابن عباس صلَّى بهم في زلزلة أربع سجدات، ركع فيها ستًّا"، وظاهر اللفظ أنَّه صلَّى بهم جماعة، وذكر الشافعي بلاغًا عن علي مثله دون آخره، قال الشافعي: لو ثبت عن علي، لقلت به، فهم لا يثبتونه ولا ينفونه، وتقدم في مسلم (904) عن جابر: "صلَّى ست ركعات، بأربع سجدات"، وهذا في الكسوف، وهو آية من الآيات. * مفردات الحديث: - الزلزلة: جمعها: "زلازل"، وهي هزة تنتاب سطح الأرض، نتيجة توتر أجزاء القشور الأرضية، فيحدث انزلاق الصخور بعضها فوق بعض، وهناك أسباب أخر؛ مثل ثوران البراكين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ ابن عبَّاس صلَّى في زلزلة ست ركعات، وأربع سجدات، بمعنى: أنَّ كل ¬

_ (¬1) البيهقي (3/ 343). (¬2) البيهقي (3/ 343).

ركعة فيها ثلاث ركوعات. 2 - أنَّ ابن عبَّاس أرشدهم إلى أنَّ يفعلوا ذلك، فيصلوا هذه الصلاة عند كل آية كونية يجريها الله تعالى في هذا الكون، من زلزالٍ، وفيضانٍ، وريحٍ شديدة، وتساقط كوارث، ونحو ذلك. 3 - قال شيخ الإسلام: يصلى لكل آية كما دلَّت على ذلك السنن والآثار، وقال المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم: وهذه صلاة رهبةٍ وخوفٍ، كما أنَّ صلاة الاستغفار صلاة رغبةٍ ورجاءٍ، وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا. وقال ابن القيم: التخويف إنما يكون بما هو سببٌ للشرِّ والخوف؛ كالزلزلة والريح العاصف، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم آية فاسجدوا"، تدل على أنَّ السجود شرع عند الآيات. وبعض العلماء قال: لا تصلى صلاة الكسوف؛ لحدوث صواعق، أو عواصف شديدة، أو رعود وبروق مخيفة؛ لأنَّ هذه الأمور حدثت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يصلِّ من أجلها، وإنما صلَّى للكسوف، والأفضل الاقتصار على الوارد الثابت، والتخويف لا شكَّ أنَّه علة، ولكن لا قياس مع السنة الظاهرة، والترك عند وجود السبب، وانتفاء المانع -سنةٌ. ***

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء مقدمة الاستسقاء: طلب السقي من الله تعالى، عند حدوث القحط، والجدب، والتضرر من ذلك، وقد يكون الاستسقاء بالدعاء المجرد، ويكون بالدعاء بعد الصلاة. وأفضله: أن يكون بصلاة ركعتين تصلى كصلاة عيد، في زمانها ومكانها، وتكبيرها، وقراءتها، ثم يخطب بعدها خطبة واحدةً؛ خطبة صلاة العيد، بالافتتاح بالتكبير والإكثار من الاستغفار، والدعاء والصلاة على النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدعون بالدعاء المأثور فيها. قال بعضهم: الاستسقاء ثلاثة أضرب: أحدها: صلاتهم جماعة أو فرادى، على الصفة المشروعة المخصوصة، وهذا أكملها. الثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها؛ اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأنَّ هذه هي الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعاء. وهذا الضرب مستحبٌّ إجماعًا، وعليه عمل المسلمين. الثالث: دعاء المسلمين عقب صلواتهم، وفي خُلواتهم، ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة. قال ابن القيم: الأمور مقدرة بأسبابها، ومن الأسباب الدعاء، فمتى أتى

العبد بالسبب وقع المقدور، وإن لم يأت بالسبب انتفى المقدور. والدعاء من أقوى الأسباب، فليس شيء أنفع منه، فمتى أُلهِمَ العبد الدعاء، حصلت الإجابة، وقد دلَّ العقل والنقل وتجارب الأمم على أنَّ التقرب إلى الله، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه -من أعظم الأسباب الجالبة لكل خيرٍ، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شرٌّ. فما استُجْلِبَتْ نِعَم الله تعالى، واستُدْفِعَت نقمه، بمثل طاعته، والإحسان إلى خلقه. والقرآن صريحٌ في ترتيب الجزاء بالخير والشر، ومن فقه هذه المسألة، انتفع بها، وقد يتخلف أثر الدعاء: إما لضعف الدعاء، بألا يكون محبوبًا إلى الله؛ لما فيه من العدوان، وإما لضعف قلب الداعي، وعدم إقباله على الله، وجمعيته عليه وقت الدعاء. وإما لحصول المانع من الإجابة، من أكل الحرام، أو استيلاء الغفلة والشهوة؛ فالله لا يقبله من قلب غافل، والله ولي التوفيق. وصلاة الاستسقاء عند وجود سببها سنة مؤكدة بإجماع العلماء؛ للأحاديث الصحيحة المستفيضة، التي منها ما في البخاري (1012)، ومسلم (894) من حديث عبد الله بن زيد، قال: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة". وأما أبو حنيفة: فلم يرها صلاة مسنونة، وقوله محجوج بالسنة الثابتة.

415 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَواضِعًا، مُتَبذَّلاً مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلاً، مُتَضَرِّعاً، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي العِيْدِ، لَمْ يَخطُبْ خُطْبتَكُمْ هَذِهِ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأصحاب السنن وأبو عوانة وابن حبان، والحاكم والدارقطني والبيهقي كلهم من حديث هشام بن إسحاق بن كنانة عن أبيه عن ابن عباس، يزيد بعضهم على بعض، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. * مفردات الحديث: - متواضعًا: أي: في ظاهره، بالذل والانكسار بين يدي الله تعالى، فالتواضع ضد التكبر. - متبذلاً: بالمثناة الفوقية فذال معجمة، من: "التبذل" وهو: ترك الزينة على جهة التواضع، فيلبس ثَوْبَ البِذلة بكسر الباء، وهي ثياب المهنة والعمل. - متخشِّعًا: مظهرًا للخشوع في باطنه وظاهره، بخفض الصوت، وغض البصر، والخضوع في القلب والبدن. - مترسِّلاً: من الترسل في "المشي"، أي: متأنَّيًا في مشيته، عليه سيما السكينة ¬

_ (¬1) أحمد (3321)، أبو داود (1165)، التر مذي (558)، النسائي (2521)، ابن ماجة (1266)، ابن حبان (7/ 112).

والوقار. - متضرِّعًا: التضرع والتذلل هو: المبالغة في السؤال والرغبة، وإظهار الضراعة، فيلحق بأنواع الذكر والدعاء، متواضعًا إلخ ... كل هذه الألفاظ جاءت بصيغة اسم الفاعل، ومنصوبة على الحالية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الاستسقاء يقصد به الدعاء والتضرع بين يدي الله تعالى، والانكسار والضعف، وإظهار الفاقة والحاجة إليه تبارك وتعالى؛ ولذا فإنَّه يخرج إليها بحالة من التواضع في البدن، والتخشع في القلب، والتضرع باللسان، والتذلل في الثياب والهيئة. فهذه الحال أقرب إلى إجابة الدعاء، وقبول النداء، وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج إليها؛ ليكون أسوة لأمته. 2 - دلت الأحاديث الصحيحة الشهيرة على مشروعية صلاة الاستسقاء، وهو قول جمهور السلف والخلف، عدا أبي حنيفة، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" بسند صحيح، ولأبي حنيفة -رحمه الله- اجتهاده في المسألة؛ لأنَّه وردت أحاديث فيها الاقتصار على الدعاء، لكن مع هذا خالفه صاحباه، وقالا بالأحاديث المثبتة لصلاة الاستسقاء، كقول الجمهور. فتصلى ركعتين؛ كصلاة العيد من حيث وقتها في الضحى، ومكانها في الصحراء، والتكبير في صلاتها وخطبتها، ولكنها خطبة واحدة يكثر فيها الدعاء والاستغفار. 3 - قوله: "لم يخطب كخطبته هذه" يفهم منه أن يخطب، ولكنها خطبة مغايرة للخطبة التي يشير إليها الراوي، من حيث الموضوع. فالأفضل هو التقيد بموضوع الخطبة التي كان يخطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّها أنسب للمقام، وقد جاء في لفظ أبي داود: "ولكن لم يزل في الدعاء

والتضرع والتكبير". فهذا هو المناسب للحال؛ لأنَّ المستسقين خرجوا لطلب الغيث والسقي، وأفضل وسيلة إليه الدعاء والاستغفار. 4 - قال ابن القيم: وليس لها نداء ألبتة، قال الشيخ: وقياسها على الكسوف فاسد الاعتبار. قال محرره: وتخالف صلاة العيد في أنَّه لا وقت لصلاتها، والأولى أن يكون وقت صلاة العيد، ولا خلاف في أنَّها لا تفعل في وقت النهي، إلاَّ أنَّها توافق صلاة العيد من حيث العدد، والتكبيرات الزوائد، والجهر بالقراءة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الخطبة: فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أن صلاة الاستسقاء لها خطبة؛ لما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: يَصِف خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولم يخطب كخطبته هذه". قال في "شرح المفردات": هذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وبه قال عبد الرحمن بن مهدي، وهو من المفردات. وذهب الإمامان: مالك والشافعي، إلى: أنَّ المشروع خطبتان، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره جماعة من الأصحاب منهم الخرقي وابن حامد، والأمر واسع، ولكن الاتباع أولى. ***

416 - وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قُحُوطَ المَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي المُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى المِنْبَرِ، فَكَبَّرُ وَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَقَدْ أمَرَكُمُ اللهُ أنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} لاَ الهَ إلاَّ اللهُ، يَفْعَل مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ انتَ اللهُ، لاَ الَهَ إلاَّ أنْتَ، أنْتَ الغَنِيُّ وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْناَ الغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أنْزَلْتَ عَلَيْنَا قُوَّةٌ وَبلاَغًا إلَى حِيْنٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئيَ بيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّل إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَب رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أقْبلَ عَلَى النَّاسِ، وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللهُ تَعَالَى سَحَابةً، فَرَعَدَتْ، وَبرقَتْ، ثُمَّ أمْطَرَتْ". روَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (¬1). وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عبْدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ: "فَتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ يَدْعُو، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ" (¬2). ¬

_ (¬1) أبو داود (1173). (¬2) البخاري (1012)، مسلم (894).

وَلِلْدَارَقُطْنِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ: "وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ؛ لِيَتَحَوَّلَ القَحْطُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: رواه أبو داود، وقال: غريب، وإسناده جيد، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، قال الذهبي: على شرطهما، ورواية الدارقطني وصلها الحاكم من طريق جعفر بن محمَّد عن ابن جابر، ومحمَّد لقي جابرًا. * مفردات الحديث: - القحط: بضم القاف؛ من: قحط المطر قحطًا قحوطًا، فالقحط: هو إمساك المطر وحبسه، مثل: نهض ينهض نهوضًا. - حاجب: من حجب يحجب حجبًا، من باب قتل. قال في "المحيط": الحاجب من كل شيء: حرفه، وحاجب الشمس: أول ما يبدو منها، مستعار من حاجب العين، والجمع "حواجب"، فهو قرن الشمس الأعلى. - جدب دياركم: هو المَحْلُ وزنًا ومعنى، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض. - بلاغًا إلى حين: أي: زادًا يبلغنا إلى زمن طويل، فالبلاغ ما يتبلغ به إلى المطلوب. - الغيث: هو المطر الذي ينقذ الله به البلاد من الجدْب، ويحيى الله به البلاد الميتة. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 66).

- قلبَ رداءه: بتخفيف اللام، وقلب الرداء هو: أن يحول رداءه؛ بأن يجعل ما يلي بدنه هو الأعلى، ويتوخى أن يجعل ما على شقه الأيمن على الشمال، ويجعل الشمال على اليمين. - رعدت: يقال: رعد السحاب رعدًا -من باب قتل- ورعودًا، والرعد: صوت يُدَوِّي عقب وميض البرق. - برقت: بفتح الراء من: "البروق"؛ وهو: لمعان في السماء على أثر انفجار كهربائي في السحاب. - رداءه: -بكسر الراء وفتح الدال-: هو الثوب الذي يستر أعلى البدن، وجمعه: "أردية"، ويطلق على ما لبس فوق الثياب؛ كالعباء، والجبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ سبب صلاة الاستسقاء هو وجود القحط، والتضرر من انقطاع الغيث؛ ومثله جفاف الأنهار، وغَوْر الآبار. 2 - أنَّ لصلاة الاستسقاء خطبة تكون على مكان عالٍ؛ كالجمعة والعيد؛ ليكون أسمع للخطيب، وأبلغ في الإفهام. 3 - يستحب للإمام أن يَعِدَ الناس وعدًا عامًّا، يخرجون فيه لمصلى العيد. 4 - يستحب أن تصلى في الصحراء؛ كما تصلى العيد. 5 - أنَّ وقت صلاة الاستسقاء كوقت صلاة العيد، حينما ترتفع الشمس قيد رمح، هذا هو الوقت الأفضل في صلاتها، وإلاَّ فإنه يجوز فعلها كل وقت، غير وقت النهي، بلا خلاف بين العلماء. 6 - يستحب للخطيب أن ينبه الحاضرين إلى الحاجة التي خرجوا إليها؛ ليجتهدوا في تحريها وتحقيقها. 7 - أن يأمر الناس بالدعاء هنا وفي غيره؛ لأنَّ الدعاء من أقوى الأسباب لحصول المطلوب، فمتى أُلهِمَ العبد الدعاء، حصلت الإجابة بإذن الله تعالى.

8 - يستحب أن يطمِّعهم في ربهم، ويقوَّي رجاءهم باستجابة دعائهم إيَّاه، حتى ينشطوا، ويجتهدوا فيه. 9 - أول ما يبدأ به الخطيب الصعود على المنبر، واستقباله الناس، ثم يخطب خطبة مناسبة للمقام، من تكبير الله، وحمده، والثناء عليه، واستغفاره، وإظهار العجز والمسكنة، والاطراح بين يديه؛ بإظهار الفاقة والحاجة إلى فضله. 10 - ثم بعد حمد الله، والثناء عليه، ووصفه بالرحمة العامة لخلقه، والخاصة باوليائه، ووصفه بالجود والغنى والعطاء. وبعد وصف العبد نفسه، وعموم الخلق بالفقر والضعف، والحاجة إلى فضل ربهم، وإحسانه إليهم، ورحمته بهم. وبعد هذه الابتهالات والتوسلات -يرفع الخطيب يديه، ويستقبل القبلة، ويدعو الله تعالى؛ بأن يُنزل عليهم الغيث، وأن يجعل ما أنزله قوةً وبلاغًا في هذه الحياة. 11 - وفي هذه الأثناء يحوِّل الخطيب والحاضرون أرديتهم، أو ما يقوم مقامها من الملابس الظاهرة، فيقلبونها تفاؤلاً؛ بأنَّ الله تعالى حوَّل شدَّتهم رخاء، وبؤسهم غنًى. 12 - الحديث الذي معنا صريح في أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قدم الخطبة على الصلاة؛ وبه قال جماعة من العلماء. والمروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين هو البداءة بالصلاة قبل الخطبة؛ وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. قال النووي: وبه قال جماهير العلماء، وليس بإجماعِ. 13 - قال ابن القيم: ما استُجْلِبَتْ نعم الله، واستُدفعت نِقمه، بمثل طاعته، والإحسان إلى خلقه، والقرآن صريحٌ في ترتيب الجزاء بالخير والشر، ومن تفقه في هذه المسألة، انتفع بها.

417 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ رَجُلاً دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُغِيثُنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ... " فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وفِيهِ الدُّعَاءُ بِإِمْسَاكِهَا. مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أنَّ رجُلاً: قال الحافظ في "الفتح": لم أقف على اسمه. - يخطب: جملة فعلية حالية. - الأموال: المراد بها: المواشي؛ كما جاء في بعض الروايات، والمراد بهلاكها: عدم وجود ما تعيش به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. - انقطعت السُّبُل: السُّبُل: الطرق، جمع: "سبيل"، وانقطاعها بسبب الجدب؛ حيث لا تجد المواشي ما تأكله في طريقها، فيتوقف السير فيها. - يُغيثنا: بضم الياء، من: أغاث يغيث إغاثة، من مزيد الثلاثي، والمشهور في كتب اللغة أن يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض يغيثهم، بفتح الياء، فقد جاء على معنى طلب المعونة، وليس من طلب الغيث. - يغيثنا: جاء الفعل مرفوعًا، والأفصح رواية الجزم؛ لأنَّه جواب الطلب. - اللهم أغثنا: يقال: أغاثه الله يغيثه، ويقال: غاثه يغوثه غوثًا، وأغاثه يغيثه إغاثةً، قال الفراء: الغيث والغوث متقاربان في المعنى. ¬

_ (¬1) البخاري (1014)، مسلم (897).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا النوع الثاني من الاستسقاء، وهو طلب السقي في خطبة الجمعة، فيشرع ذلك حينما ينقطع المطر، ويتضرر الناس. 2 - جواز تَعْدَاد النقم التي تحل بالمسلم، إذا لم يقصد بذلك التسخط من تدبير الله تعالى، وإنما بقصد إظهار الحال، لمن إذا طلبه نفعه في حاله هذه، من طبيب يعالجه، أو غني يتصدق عليه، فهذا الرجل الذي شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله تعالى، والدعاء أمر مقدور للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أقرب من يستجيب الله له دعاءه، -أقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على طلبه، ودعا فحصل المطلوب. وقد جاء في بقية هذا الحديث: قال: "فخرجنا نخوض الماء؛ حتى أتينا منازلنا". 3 - ثم طلب منه في الجمعة الأخرى أن يدعو الله أن يمسك السماء، حينما تضرروا باستدامة المطر وقوَّته، فدعا ربَّه، فأمسكت السماء، فصلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه. 4 - فيه جواز الاستصحاء، حينما تطول الأمطار وتكثر، ويحصل بها الضرر. 5 - فيه جواز التكلم مع الخطيب يوم الجمعة، وهي مسألة مستثناة من النهي عن الكلام أثناء الخطبة. 6 - جواز طلب الدعاء من الرجل الصالح الحي؛ فإنَّ هذا من التوسل الجائز، كما في قصة العباس وعمر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ الرجلَ على طلبه في الاستسقاء، والاستصحاء، وأجابه على ما طلبه منه، أما التوسل الممنوع فهو التوسل بجاه المخلوق، أو منزلته، فهذا غير مشروع، وهو من الاعتداء في الدعاء. والفرق بين التوسل بالجاه أو المنزلة، وبين طلب الدعاء من الحي -واضحٌ؛ فالجاه ينفع صاحبه، ولكنه لا يفيد المتوسَّل، وأما الدعاء فإنَّ فائدته عائدة على طالب الدعاء.

7 - في الحديث إثبات الأسباب؛ فإنَّ انقطاع السبل، وهلاك البلاد، والأموال من حيوان، وأشجار -بسبب انقطاع المطر. 8 - في الحديث مشروعية رفع اليدين حال الدعاء، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، حتى جعله العلماء من التواتر المعنوي، وقد ذكر البخاري جملة من الأحاديث في "كتاب رفع اليدين"، ثم قال في آخرها: هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته، وفيما ذكرته كفاية. 9 - وفي الحديث دليل على ضعف الإنسان، وعدم تحمله لزيادة الأمور عليه، ونقصها منه؛ قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء]، فهو ضعيف في بدنه، ضعيف في بنيته، خائر في عزيمته وإرادته، واهن في إيمانه، فرحمه ربه وخفَّف عنه، ولم يجعل عليه حرجًا، ولا ضيقًا فيما كلفه به؛ قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ***

418 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا قَحَطُوا، يَسْتَسْقِي بالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِي إلَيْكَ بِنبَيَّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُسْقَوْنَ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قَحَطُوا: أَمْسِكَ عَنهُم المطر وحبس، وهو من باب نفع، وحكى الفراء أنَّه من باب تعب، فيقال: قحط قحطًا. - اسستقى بالعباس: الاستسقاء: هو استفعال من طلب السقيا؛ أي: إنزال الغيث على البلاد، والعباد، وهنا طلب عمر من العباس أن يدعو الله بطلب السقيا. - نتوسل إليك: نجعل دعاءه وسيله لنا إليك في حصول المطر والسقي. - نتوسل: الوسيلة على وزن: فعيلة، وتجمع على: وسائل ووسل، وهي لغة: ما يتقرب بها إلى الغير، فالوسيلة إلى الله تعالى ما تقرب به عبده إليه بعمل صالح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على استحباب صلاة الاستسقاء، والدعاء في خطبتها، وأنَّها سنة متبعة، فعلها الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا كالإجماع على استمرار مشروعيتها. 2 - أنَّ سبب الاستسقاء بالصلاة والدعاء هو وجود القحط الضار بالمسلمين؛ ¬

_ (¬1) البخاري (1010).

وذلك بانقطاع الأمطار، وقلة المرعى. 3 - أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يأتون إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيطلبون منه الدعاء، ويتوسلون بذاته وجاهه إلى الله تعالى؛ لعلمهم أنَّ دعاءه انقطع بوفاته -عليه الصلاة والسلام- أما التوسل بذاته أو جاهه فإنَّه ليس بمشروع، وما ليس بمشروع فهو بدعة. لذا فإنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه -رضي الله عنهم- طلبوا من العباس بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- أن يدعو الله تبارك وتعالى لهم بالسقي، وهم يؤمنون على دعائه، فهذا أمر جائز مشروع. 4 - قال العباس في دعائه: اللهمَّ إنَّه لم ينزل بلاء إلاَّ بذنب، ولم يُكشف إلاَّ بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأَرْخَتِ السَّماءُ مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس. 5 - هذا الحديث مثار جدل بين المبتدعة الذين يرون جواز التوسل بذات المخلوق، وجاهه من الأحياء والأموات، وبين أهل السنة الذين يرون في هذا الحديث دليلاً صريحًا على أنَّ التوسل هو بالدعاء، وأنَّ التوسل بالذات والجاه غير جائز، ذلك أنه لو كان جائزًا، فإنَّ كرامة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ربه ورفعة مقامه ما نقصت بموته، بل هي باقية، فلماذا عدل الصحابة عن التوسل بذاته إلى طلب الدعاء من العباس؟. والجواب: ما كان إلاَّ لأن طلب الدعاء من الميت -مهما عظمت منزلته- غير ممكن، فطلب ذلك من الحي القادر عليه، فهذا هو التوجيه الصحيح. 6 - وبهذا ظهر ما يردده شيخ الإسلام في كتبه، من أن أي مبطل يحتج على باطله بدليل صحيح، يكون حجة عليه، لا حجة له. 7 - وبهذه المناسبة، فإننا نسوق خلاصة عن أقسام التوسل وأحكامه:

التوسل خمسة أقسام: أحدها: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته العلى، فهو مشروع؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وجاء في البخاري (7392)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة". وما رواه الإمام أحمد (1/ 391) من حديث ابن مسعود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أنَّه قال: "ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال ... أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك -إلاَّ أذهب الله همَّه وحزنه". الثاني: التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح للداعي، فهو أيضًا مشروع، وأقرب مثال لذلك: ما جاء في الصحيحين من قصة أصحاب الغار الثلاثة، الذين انطبقت عليهم الصخرة، ولم ينجهم من محنتهم إلاَّ التوسل بصالح أعمالهم، وحديثهم وقصتهم مشهورة. وقال الصالحون المؤمنون: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران]. الثالث: التوسل بدعاء الرجل الصالح، ومثاله: حديث الباب، فهو صريح في ذلك؛ فإنَّ تقدير الكلام: "اللَّهم، إنا كنَّا نتوسل إليك بدعاء نبينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بدعاء عم نبينا فاسقنا"؛ إذ لو كان المراد: التوسل بالجاه؛ لما قدموا العباس، فإنَّ جاه النبي -صلى الله عليه وسلم- باقٍ، حيًّا وميتًا، وهذه التوسلات الثلاثة جائزة. الرابع: التوسل بالجاه أو بالحق؛ كأن يقول: أتوسل إليك بجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بحق النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بحق فلان، فهذا توسل بدعي، غير شرعي؛ لأنَّه لم يرد في كتاب، ولا سنة، ولم ينقل عن الصحابة، ولا عن أحد من

أصحاب القرون المفضلة، أما ما يقال: "توسلوا بجاهي؛ فإنَّ جاهي عند الله عظيم"، فقال شيخ الإسلام: هذا حديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلمِ، مع العلم بأنَّ جاهه عند الله أعظم من جاه موسى الذي قال الله عنه: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب]. الخامس: التوسل بالذات؛ وهذا ما يفعله المشركون مع أصنامهم، فكانوا يتوسلون بها إلى الله تعالى، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وأما الرابع: فمن وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولكنه لا يُخرجُ صاحبه من الإسلام. ***

419 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ المَطَرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حسر: يقال: حسر الشيء يحسره حسرًا -من بابي نصر وضرب- أي: كشفه، ويقال: حسر كمه عن ذارعه؛ أي: كشفه، والمعنا: كشف عن بعض بدنه. - حديث عهد: من: حدث الشيء يحدث حدوثًا، نقيض "قدُم"، فالحديث الجديد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب التعرض لأول المطر؛ ليصيب البدن والثوب والرحل، فرحًا بنعمة الله تعالى، واغتباطًا بنزوله، ولأنَّه لا يزال على نقاوته، وطهارته الكاملة، فلم تصبه الأرض، ولم يختلط بغيره مما يعكر صفوه، ويغير طعمه. 2 - الله جلَّ وعلا في جهة العلو، والمطر نازلٌ من العلو، فهو وإن لم يبلغ علوَّ الله سبحانه وتعالى، فهو آتٍ من العلو، وفيه بركة صنع الله الحديثة؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9]، وروى الشافعي في " الأم" بسنده مرسلاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اطلبوا استجابة الدعاء عند نزول المطر، وإقامة الصلاة". قال في "شرح الإقناع": روي: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا سال الوادي: "اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورًا، فنتطهر منه" [رواه الشافعي في ¬

_ (¬1) مسلم (898).

"الأم" (1/ 252)]. 3 - قال في "شرح الإقناع": ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج رحله وثيابه؛ ليصيبها المطر، وهو الاستمطار؛ لحديث أنس. 4 - قال في "شرح الإقناع": ويسن أن يقول: مُطرنَا بِفضل الله ورحمته، ويحرم قول: مُطرنا بِنَوْءِ كَذا؛ لِمَا في البخاري (846) ومسلم (71)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ وكافرٌ، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي، وكافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بنَوْءِ كَذَا، فذلك كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكواكب". ذلك أنَّ العرب كانت تزعم أنه مع سقوط نجم وطلوع نظيره، يكون مطر، فينسبونه إليهما، وإضافة المطر إلى النوء دون الله تعالى كفر إجماعًا، ويحرم نسبته إلى النجم، وإن قصد نسبة الفعل إلى الله تعالى، ويباح: مطرنا في نوء كذا، كما يُقال: مُطرنا في شهر كذَا. 5 - قال ابن القيم: ثم يرسل تعالى الرياح، فتحمل الماء من البحر، وتلقحها به، ولذا نجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار، وإذا بعدت عن البحر، قلَّ مطرها، فالمطر معلوم عند السلف والخلف؛ أنَّ الله تعالى يخلقه من الهواء، من البخار المتصاعد، فإنَّه لم يخلق شيئاً إلاَّ من مادة. 6 - قوله: "فحسر ثوبه، حتى أصابه المطر" هل هذا الأمر مشروع، أو مباح؟ يحمل على أحد أمرين: أحدهما: إن كان فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على قصد التعبد، فهو مشروع. الثاني: وإن كان فعله على سبيل العادة، فإنه لا يدل على مشروعية الفعل. والتعليل بإنَّه حديث عهد بربه، يدل على قصد العبادة. 7 - فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المجرد لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب فقط.

8 - الحديث يدل على قاعدةٍ لأهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى؛ هي أنَّ صفات الله قديمة النوع، حادثة الآحاد؛ بمعنى: أنَّ الله تعالى متصف بصفاته الثابتة الفعلية، اتصافًا أزليًّا أبديًّا، وأما آحادها وأفرادها فتحدث حسب إرادته وحكمته؛ كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود]، فالله تعالى -مثلاً- له صفة الخلقِ صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ، أما خلقه لهذا المطر فهو حديث جديد. وهذا بخلاف مذهب الأشاعرة، الذين يؤولون صفة الله بالإرداة؛ لأنَّهم ينكرون أن تقوم بالله تعالى أفعال اختيارية؛ لأنَّه -على زعمهم- فعلٌ حادثٌ، والفعل الحادث لا يقوم إلاَّ بحادث، والله منزهٌ عن الحدوث، فهو الأول ليس قبله شيء، وهذا فهم منهم لصفات الله تعالى خاطىء؛ فإنَّ صفات الله تعالى أزلية بأزلية ذاته، والحادث المتجدد دائمًا هو آحادها ومفرداتها، التي تحدث حسب إرادته وحكمته. ***

420 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأى المَطَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نافعًا". أَخرَجَاهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - صيِّبًا: مفعولٌ لفعل محذوف، والتقدير: اجعله صيبًا، كما في رواية النسائي (1523)، قال في "النهاية": أصله الواو؛ لأنَّه من: صاب يصوب إذا نزل، ومعناه: منهمرًا متدفقًا. - نافعًا: صفة "صيبًا"، واحترز به عن الصيب الضار. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الدعاء عند نزول المطر، والأفضل أن يكون بهذا الدعاء؛ لثبوت أنَّه من الأدعية النبوية في هذا الموطن. 2 - الصيب هو المطر المنصب بغزارة، النافع للعباد والبلاد بالخصب والحياة. 3 - قال الطيبي: هو تتميم في غاية الحسن؛ لأنَّ الصيب مظنة الضرر، و"النافع" احترازٌ من هذا الصيب المخوف. قال في "شرح الأذكار": يجوز أن يكون احترازًا عن مطرٍ لا يترتب عليه نفع، فيكون أعم من أن يترتب عليه ضرر؛ ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهمَّ سُقيا رحمةٍ، لا سُقيا عذابٍ، ولا بلاءٍ، ولا هدمٍ، ولا غرق". [رواه البيهقي (3/ 362)]. 4 - قال الإمام النووي في "الأذكار": روى الشافعي في "الأم" بإسناده حديثًا مرسلاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اطلبوا استجابة الدعاء عند: التقاء الجيوش، ¬

_ (¬1) البخاري (1032)، وعزاه الحافظ إلى مسلم وهو وهمٌ.

وإقامة الصلاة، ونزول الغيث". قال الشافعي وقد حفظت من غير واحدٍ طلب الإجابة عند نزول الغيث، وإقامة الصلاة. ***

421 - وَعَنْ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَعَا فِي الاسْتِسْقَاءِ: اللَّهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَابًا، كَثِيفًا قَصِيْفًا، دَلُوقًا، ضَحُوكًا، تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا، قِطْقِطًا، سَجْلاً، يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرامِ". رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيْحِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ جدًّا، لكن له طرق عديدة بألفاظ مختلفة متقاربة. قال في "التلخيص": أخرجه أبو عوانة بسند واهٍ، ثم ذكر عدة روايات في الباب، ثم قال: فهذه الروايات عن عشرة من الصحابة، يعطي مجموعها أكثر مما في حديث ابن عمر، وهو أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استسقى، قال: "اللهمَّ اسقنا، غيثًا، مغيثًا، هنيئًا، مريئًا، سريعًا، غدقًا، مجللاً، سحًّا، طبقًا، دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين ... إلخ". * مفردات الحديث: - جللنا: بالجيم من: "التجليل"، والمراد: تعميم الأرض. - كثيفًا: -بفتح الكاف فثاء مثلثة فمثناة تحتية ففاء- أي: متكاثفًا متراكمًا بعضه فوق بعض. - قصيفًا: -بالقاف المفتوحة فصاد مهملة فمثناة تحتية ففاء- وهو ما كان رعده شديد الصوت. - دَلُوقًا: بفتح الدال المهملة وضم اللام وسكون الواو فقاف، والدلوق: المنهمر بغزارة، والمندفع بشدة، يقال: دلق؛ أي: اندفع بشدة. ¬

_ (¬1) مستخرج أبي عوانه (514).

- ضَحُوكًا: الضحوك: كثير البرق. - رذَاذًا: -بفتح الراء المهملة فذال معجمة مفتوحة، فذال أخرى- وهو: ما كان مطره دون الطش، والطش: المطر الضعيف. - قِطْقِطًا: بكسر القافين وسكون الطاء الأولى، أصغر، فالقِطْقِطة أصغر المطر، ثم الرَّذاذ، ثم الطش. - سَجْلاً: بفتح السين وسكون الجيم، قال في "النهاية": هي الدلو الملأى ماء، ويجمع على: "سجال". قال في "المحيط": ويستعار السَّجْل للعطاء، وهو المراد هنا. قد يظن أنَّ هذه الصفات للمطر متعارضة، ولكن الأمر بخلاف ذلك؛ فإنَّ الداعي طلب من الله تعالى أنِ ينزل على عباده المطر بهذه الصفات، التي تجمع الغزارة مع الرفق، والإطناب في الدعاء مشروع، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه الأدعية المأثورة هي المناسبة لطلب الغيث؛ فينبغي أن يدعى بها في صلاة الاستسقاء، وفي خطبة الجمعة، وفي أي وقت، وذلك عند وجود السبب من القحط والجدب، والتضرر بذلك. 2 - وصف المطر المطلوب من الله تعالى بأن يجلل الأرض فيعمها، ولا يقصره على بقعة خاصة، وأن يكون كثيف الماء بتراكم سحابه، وأن يكون فيه صوت شديد من قصف رعوده، ولمعان بروقه، وأن يندفع بغزارة، وقوة من شدَّة دفعه، وأن يكون مع غزارته ليِّناً سهلاً، فيكون نزوله من السماء صغارًا، فينساب في الأرض انسيابًا، لئلا يفسد الزروع، ويهدم المباني. والتوسل إليه بجلاله، وكرمه، بصفة الجلال وصفة الكرم، من أنسب الوسيلة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام" [رواه الترمذي (3524)]، لاسيما في هذا المقام.

3 - وصف المطر بهذه الصفات التي يظهر التفاوت بين أوصافها هو عين الفصاحة والبلاغة، والله تعالى قادر على أن يجمع بينها في شيء واحد؛ فقد وصف عصا موسى بأنها ثعبان مبين، ووصفها بأنَّه حيَّة تسعى، وهما صفتان متباينتان، فهي من حيث عظمها وضخامتها ثعبان، وهي من حيث خفتها وسرعة الحركة حيَّة، وهكذا أوصاف السحاب والمطر. 4 - البلاغة في الكلام: ما طابقت مقتضى الحال، وقد تقضي الحال الإطناب؛ كمواقف الدعاء، أو مقام الترغيب في العفو؛ كما في مثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} [التغابن: 14]، والدعاء كمثل هذا الحديث الذي توالت فيه الصفات. ***

422 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَرَجَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يَسْتَسْقِي، فَرَأى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا، رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ، فَقَالَ: ارْجِعُوا، فَقَدْ سُقِيْتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ". رواه أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. أخرجه الدارقطني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، إلاَّ أنَّ فيه: محمد بن عون وأباه، والغَالب في مثلهما الجهالة. * مفردات الحديث: - نملة: -بفتح النون وسكون الميم-: حشرة ضعيفة ضئيلة الجسم، من رتبة غشائيات الأجنحة، تتخذ مسكنها تحت الأرض، جمعها: "نمل ونمال". - مستلقية على ظهرها: أي: منقلبة على قفاها. - قوائمها: جمع: "قائمة" وهي من الدابة والحشرة: يداها ورجلاها، سميت: قوائم؛ لأن الدابة تقوم عليها. - بدعوة غيركم: الباء للسببية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الخلائق كلها قد فطرَت على معرفة الله تبارك وتعالى، وأُلهِمَتْ أنه لا ¬

_ (¬1) الحاكم (4731)، وليس هو في المطبوع من المسند.

ينفعها ولا يضرها إلاَّ ربها، فألقت حوائجها بين يديه، ورفعت فاقَتَها وفقرها إليه. 2 - أنَّ البهائم مفطورةٌ على معرفة الله تعالي، وملهَمةٌ طاعته، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. 3 - هذا التوسل وهذا الدعاء اللذان ألهمه الله تعالى هذه النملة في طلب حاجتها من ربها -يتضمن اعترافها أن لا خالق، ولا رازق إلاَّ الله تعالى، فأظهرت الفاقة والحاجة إليه، وطلبت منه المدد والرزق. 4 - استحباب رفع اليدين حالة الدعاء، لاسيما في الاستسقاء، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين. 5 - أنَّ الخلق كلهم مفطورون على أنَّ الله تبارك وتعالي في السماء، فله العلو المطلق في ذاته، وصفاته، وقدره، وقهره. 6 - أنَّ الاستسقاء شريعة من قبلنا من الأمم، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]. 7 - هذه المعجزة لنبي الله سليمان -عليه السلام- في معرفته منطق الطير، والحيوان والحشرات، ومع أنَّها معجزة، فهي كرامة من الله تعالى له؛ فإنَّه سأل الله تعالى، فقال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]: فأعطاه الله ما سال، وقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا} [ص: 39]، ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} [ص]. 8 - قوله: "رافعة قوائمها إلى السماء" هذا من أدلة علو الله تعالى على خلقه، فصفة العلو ثابتة لله تعالى في: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل والفطرة. أما الكتاب: فمثل قو له تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة].

وأما السنة: فمثل جواب الجارية لما قال لها -عليه الصلاة والسلام-: "أين الله؟ فقالت: في السماء" [رواه مسلم (537)]. وأما الإجماع: فهو مذهب الصحابة، والتابعين، وجميع سلف الأمة على مر العصور. وأما العقل: فإنَّ الله تعالى منزهٌ عن النقص، ثابتٌ له الكمال، فالسفل نقصٌ، والعلو كمالٌ، فهو المستحق له. وأما الفطرة: فإنَّ أي حي يشعر بقرارة نفسه عند الدعاء، وعند ذكر الله أنَّ هناك مناطًا يشده إلى العلو، ومن ذلك هذه الحشرة التي رفعت قوائمها إلى السماء تدعو الله، عندها فطرة غريزية، أن ربها المطلوب منه الرزق في العلو. والذين أنكروا علو الله تعالى طائفتان ضالتان: إحداهما: قالت: إنَّ الله موجود في كل مكان، في البحر والبر والجو، ولم ينزهوه تعالى عن الأمكنة القذرة، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ وهؤلاء حلولية. الطائفة الثانية: أخْلَوا الله تعالى من كل مكان، فلا هو في العلو، ولا في السفل، ولا في اليمين ولا الشمال، ولا داخل العالم ولا خارجه، فلو وصف العدم، لم يوصف بأكثر من هذا؛ فمعنى هذا أنَّه لا يوجد. وهدى الله تعالى، ووفق أهل السنة والجماعة، فكان من أصول الإيمان عندهم إثبات العلو المطلق في ذات الله وصفاته، والأدلة النقلية والعقلية تقرر هذه الحقيقة، ومن حُرِم الإيمان بهذا، فقد فاته الإيمان الصحيح. 9 - الحديث وإن تكلَّم بعض العلماء في صحة سنده، فمعناه صحيح من حيث نطق النملة، وسماع سليمان ذلك منها، ومعرفته كلامها، وقد جاء مثله في القرآن؛ حيث قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ

ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل]، وكذلك معرفة النملة ربها ودعاؤها، فقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وأما طلبها الرزق من الله تعالى، فإنَّ الله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد ألهم الله تعالى كل حي، وفطره إلى طلب رزقه من مصدره، فقال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه]. ***

423 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْقَى، فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الاستسقاء عند الحاجة إليه. 2 - الظاهر أنَّ الاستسقاء هنا بمجرد الدعاء؛ فيكون هذا الحديث هو النوع الثالث في الاستسقاء بالدعاء فتقدم، بخطبة الجمعة، وهذا ثالثهما. 3 - المبالغة في رفع اليدين، حتى تنحرف اليدين؛ بحيث يكون ظهور الكفين نحو السماء. 4 - قال الإمام النووي في "شرح المهذب": فصلٌ في رفع اليدين في الدعاء: فرع: استحباب رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة، وبيان جملة من الأحاديث الواردة فيه: - عن أنس -رضي الله عنه:- "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- استسقى، ورفع يديه" [رواه البخاري (1013) ومسلم (897)]. - عن سلمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله حييٌّ كريمٌ سخيٌّ، إذا رفع الرجل يديه إليه، يستحي أن يردهما صفرًا خائبتين" [رواهُ أبو داود (1488)]. - عن أنسٍ قال: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما صلَّى رفع يديه، يدعو على الذين قتلوا أصحابه" [رواه البيهقي (2072) بإسناد صحيح]. - عن عائشة -رضي الله عنها- في خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل إلى البقيع للدعاء لهم، قالت: "فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انصرف" ¬

_ (¬1) مسلم (896).

[رواه مسلم (174)]. - عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لما نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين يوم بدر، استقبل نبيُّ الله القبلة، ثم مدَّ يديه، وجعل يهتف بربه" [رواه مسلم (1763)]. - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّه كان في الجمرة، ثم استقبل القبلة، يدعو ويرفع يديه، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله" [رواه البخاري (1751)]. - عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- استغفر لأبي عامر الأشعري، فتوضأ، ثم رفع يديه، فقال: اللهمَّ، اغفر لعبدك أبي عامر. ورأيتُ بياض إبطيه" [رواه البخاري (2484) ومسلم (2498)]. ثم ساق -رحمه "لله تعالى- جملة من الأحاديث في مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وقد عدَّ أهل العلم رفع اليدين في الدعاء من التواتر المعنوي، والله أعلم. 5 - فَهِم بعض العلماء من هذا الحديث: أنَّ الدعاء لرفع ضرر يكون بظهر الكف، فقد قال النووي: قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في الدعاء لرفع بلاء -كالقحط، ونحوه- أن يرفع يديه، ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله، جعل بطن كفيه إلى السماء. واحتجوا بهذا الحديث. اهـ كلامه. أما شيخ الإسلام: فيختار أن تكون بطونهما نحو السماء. ***

باب اللباس

باب اللباس مقدِّمة لَبِسَ الثوبَ -من باب تعب- لُبْسًا، بضم اللام، وأما اللَّبس، بكسر اللام، واللِّباس، فهو ما يلبس، وجمع اللباس: لُبس؛ مثل: كتاب وكُتب، وذكر اللباس بعد الصلاة؛ لأن ستر العورة أحد شروط الصلاة، ولذا قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا} [الأعراف: 31]. قال ابن كثير -رحمه الله-: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة، ويوم العيد، والطيب؛ لأنَّه من الزينة، والسواك؛ لأنَّه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض. والأصل في اللباس الحل كغيره من أنواع المباحات؛ كالمآكل والمشارب، والمراكب والمساكن وغيرها. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وروى البيهقي (3/ 271) عن عمران بن حصين؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الله يحب إذا أنعم على عبده، أن يرى أثر نعمته عليه". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الأصل في المعاملات والعادات الإباحة؛ فلا يحرم منها، إلاَّ ما حرمه الله ورسوله. وبهذا، فالشريعة الإسلامية السمحة تعطي المجال الواسع في الاستمتاع بما أباح الله تعالى من زينة الحياة الدنبا، بلا حرج ولا ضيق، أما المحرمات

فهي أشياء محدودة معدودة ترجع إلى ضوابط تحصرها وتحدها، وذلك مثل: أولاً: الذهب والفضة والحرير للرجال، ورد في تحريمها النصوص، وظهرت الحكمة من منعهم منها. ثانيًا: التشبه: إما بالكفار فيما اختصوا به، وصار سيما لهم، فالتشبه بهم محرمٌ، فمن تشبه بقوم فهو منهم، وإما تشبه الرجال بالنساء أو العكس، فإنَّ لكل جنس من الذكور والإناث لباسًا خاصًّا، وهيئةٌ خاصَّةٌ، يحرم على الجنس الآخر التشبه بها، وقد وردت النصوص في هذا، وظهرت آثار حكمة الله تعالى في ذلك. ثالثًا: الإسراف والتبذير وإضاعة المال في ذلك، فهو محرم؛ فإنَّ الله تعالي ذمَّ أولئك؛ فقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. فهذه الضوابط وأمثالها هي التي تُخْرج العادات عن أصلها من الحل إلى الحرمة، ونصوص ما أشرنا إليه موجودة مشهورة، وما علينا إلاَّ الامتثال، والوقوف عند حدود ما أباح الله تعالى. ***

424 - عَنْ أَبِي عَامِرٍ الأشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِر والحَرِيرَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ؛ أخرجه البخاري تعليقًا، قال ابن الصلاح في "علوم الحديث": التعليق في أحاديث البخاري قطع إسنادها، فصورته صور الانقطاع، وليس حكمه حكمه، فما وجد من ذلك فهو من قبيل الصحيح، لا من قبيل الضعيف، فما أخرجه من حديث أبي عامر الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير" -صحيحٌ، معروفُ الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لغير الأسباب التي يصحبها خلل الانقطاع. لذَا فقد صحح هذا الحديث البخاري؛ حيث أورده في صحيحه مجزومًا به، كما صححه ابن القيم، وابن الصلاح، والعراقي، وابن حجر، وابن عبد الهادي، والشوكاني. * مفردات الحديث: - ليكونن: مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد. - أقوام: جمع "قوم"؛ وهم الجماعة من الرجال؛ قال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] وقال زهير: ¬

_ (¬1) أبو داود (4039)، البخاري (5590).

وما أدري ولست إخال أدري ... أَقَوْمٌ آل حصن أم نساءُ؟ قال في "المصباح": القوم جماعة الرجال، ليس فيهم امرأة، والجمع: "أقوام"؛ سُمّوا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات. - يستحلون: مستحلين لباس الحرير والخز. - الحِر: -على الرواية الأخرى وهي الصحيحة- هو قُبُل المرأة. قال في "المصباح": بالكسر وتشديد الراء. قال ابن الأثير في "النهاية" نقلاً عن أبي موسى إنَّه بالتخفيف، قال: ومنهم من يشدد الراء وليس بجيد، والأصل "حرح"، فحذفت الحاء التي هي لام الكلمة، ثم عوض عنها راء، وأدغمت في عين الكلمة، وإنما قيل ذلك؛ لأنَّه يصغر على: "حريح"، ويجمع على: "أحراح"، والتصغير وجمع التكسير يردان الكلمة إلى أصلها، وقد يستعمل استعمالاً يدوم من غير تعويض، وإنما حذفت لامه اعتباطًا، أي: بدون إعلال ولا تعويض. قال الشيخ أحمد محمد شاكر: وهذه الرواية الصحيحة في جميع نسخ البخاري وغيره، ورواه بعض الناقلين "الخز" -بالخاء والزاي المعجمتين-: نوع من الإبريسم، وهو تصحيف؛ كما قال الحافظ أبوبكر بن العربي. [انظر: فتح الباري (15/ 52)]. - الحرير: أي: الأصلي وهو خيط دقيق تفرزه دودة القز، أما الحرير الصناعي فهو ألياف تتخذ من عجينة الخشب، أو نسالة القطن. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سيكون من أمته من يأتون فاحشة الزنا مستحليها. 2 - يخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سيكون من أمته من يلبس الحرير من الرجال مستحلين لبسه، ويبيح الزنا، وقد وقع ما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- فها هي أنظمة الدول التي تَدَّعِي الإسلام، تبيح الزنا، وتجعل له أسواقًا ومحالات خاصة، وتأخذ عليه

المومسات الضرائب، وتقرر لهن الأطباء، وتشملهن بعنايتها الصحية والاجتماعية، وها هم الرجال ممن يدَّعون الإسلام يلبسون الذهب، ويأكلون ويشربون في أواني الفضة في الفنادق الراقية، والحفلات الكبيرة، ويلبسون الحرير مستحلين كل ذلك. 3 - أنَّ استحلال شيء من هذه الأمور التي علم تحريمها من الدين بالضرورة -هو تكذيب للنصوص الواردة في كتاب الله تعالى، والثابتة عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن كذَّب تلك النصوص- فهو كافر خارج عن الملة الإسلامية. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أمتي" يحتمل أحد أمرين: (أ) إما أنه سمي من الأمة؛ باعتبار ما يسبق قبل استحلاله لهذه الأشياء، وهذا جائز لغةً؛ باعتبار ما كان؛ كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]. (ب) وإما أنَّه من أمة الدعوة فقط، وليس من أمة الإجابة. 4 - الحديث فيه بيان معجزة من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون من أمتي،، ولم يوجد إلاَّ في الأزمنة الأخيرة التي طغت فيها أخلاق الفرنج على أخلاق الأمة الإسلامية، فوجدت هذه الأمور في البلاد التي يدعي قادتها الإسلام، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. * فائدة: حكم اللباس يكون على أربعة أنواع: أحدها: التحريم العام؛ وذلك اللباس المصور والمغصوب ونحوه، فهذا تحريمه عام على الذكور والإناث. الثاني: التحريم الخاص؛ وذلك الحرير على الرجال. الثالث: التحريم الطارىء وهو المخيط على الرجل المُحْرِم. الرابع: الحل؛ وهو الأصل في اللباس وغيره من العادات، وهذا هو الكثير،

ولهذا صار المحرَّم معدودًا، والمباح لا حدَّ له، ولا عد. 5 - الخزّ: دودة تفرز خيوطًا تنسجها على بدنها، فإذا غطت نفسها بهذا النسيج ماتت، ونسجها هو حرير الخز، وهو المحرَّم على الذكور. وفي زماننا هذا، وجد خز صناعي يشابه الخز الطبيعي من كل وجه، فهذا لا يدخل في التحريم؛ لأنَّ التحريم مرده إلى الله تعالى ورسوله، فما لم يحرماه ليس حرامًا، والأصل الإباحة، إلاَّ أَنَّه ينبغي اجتنابه لمحاذير أخر: (أ) أنه مشابه للحرير الأصلي؛ فالجاهل باللباس يظنه حريرًا، فيقتدي به، فيفتح باب شر. (ب) أنَّ من رعى حول الحمى، وقع فيه، فقد يستدرج من التقليد إلى الأصلي. (ج) أنه يسبب ليونة، وميوعة في الرجال، والمطلوب في الرجل الصلابة، والرجولة. (د) أنه يسبب غِيبته وتجريحه ممن يظن أنَّ ما عليه حرير طبيعي، فالابتعاد عنه أولى، وأبعد عن الشر. 6 - ما يسمى ذهبًا، وليس بذهب أحمر؛ مثل: البلاتين، والماس -لا يأخذ حكم الذهب في التحريم. ***

425 - وَعنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَشْرَبَ فِي آنيَةِ الذَّهَب وَالفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الديباج: قَالَ في "المصباح": اختلف في الياء، فقيل زائدة، ووزنه: فيعال، ولهذا يجمع بالياء، فيقال: "ديابيج"، وقيل: هي أصل، والأصل: "دبَّاج" بالتضعيف، فأبدل من أحد المضعفين حرف العلة، ولهذا يرد إلى أصله في الجمع فيقال: "دبابيج"، بباء موحدة بعد الدال؛ وهو نوع من الثياب، سداه ولحمته من الحرير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. 2 - النهي يقتضي تحريم ذلك، وتحريمه جاء على الأصل، فهو محرَّم على الرجال والنساء والأطفال، فليس في النساء حاجة إلى إباحة ذلك لهن، كما أبيح لهن لبس حلي الذهب والفضة. 3 - النهي عن الجلوس على الحرير الديباج، والنهي يقتضي التحريم. 4 - نهي الرجال عن لبس الحرير والديباج، والنهي يقتضي تحريم ذلك، أما النساء فمباح لهن لبسه؛ لحاجتهن إلى الزينة، فالإسلام فرَّق بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالزينة والتجمل؛ فأباح للمرأة أن تتحلى بما جرت العادة بلبسه من ذلك، وحرمه على الرجال؛ لأنَّه يخالف طبيعة الرجولة، ¬

_ (¬1) البخاري (5837).

والخشونة المطلوبة في الرجل؛ ولذا جاء في الحديث: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخذ حريرًا، فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا، وجعله في شماله، وقال: إنَّ هذين حرامٌ على ذكور أمتي، حلٌّ لنسائهم" [رواه ابن ماجه (3597)]. 5 - يستثنى من ذلك بعض الأشياء للحاجة إليها ومنها: إصلاح الإناء المنكسر بسلسلة من فضة، واتخاذ الأنف من الذهب أو الفضة، وتركيب الأسنان منهما عند الحاجة. ويباح للرجال خاتم من فضة، وتحلية السلاح، وغيرها من أدوات الحرب، ولبس الحرير في الحرب، أو من أجل حِكَّة وحساسية، فهذه أمور أبيحت؛ لِما ورد فيها من النصوص، ولأنَّها لا تمس المعاني، التي نُهي فيها عن استعمال الذهب والفضة والحرير. 6 - قال شيخ الإسلام: ما حرم لخبث جنسه أشد مما حرم لما فيه من الترف والخيلاء؛ فإنَّ هذا يباح للحاجة كما أبيح للنساء الحلي والحرير، وأبيح للرجال اليسير من الحرير؛ كالعَلم ونحو ذلك. ***

426 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ إلاَّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أو ثَلاَثٍ، أو أرْبعٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). 427 - وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، والزُّبيْرِ فِي قَمِيْصِ الحَرِيرِ فِي سَفَرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - القميص: جمعه: "قمصان، وقمص" بضمتين: ما يفصل على هيئة البدن، ويلبس تحت الدثار. - من حِكة: "من" سببية؛ أي: لأجل حكة حصلت بأبدانهما، فتكون دالة على العلة، والحِكة: -بكسر الحاء وتشديد الكاف- علة في الجلد، توجب الحكاك؛ كالجرب. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5829)، مسلم (2069). (¬2) البخاري (2919)، مسلم (2076).

428 - وَعَنْ عَلِىٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَسَانِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حُلَّةَ سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: كساني: أي: ألبسني، وأعطاني. حُلَّة: -بضم الحاء المهملة وتشديد اللام-: ثوبان: إزارٌ، ورداءٌ. سِيراء: -بكسر السين المهملة ثم ياء تحتية مثناة مفتوحة بالمد:- نوع من البرود فيه خطوط صفر. و"سيراء" منصوبة صفة لـ"الحلة"، أو بالجر، لكونها مضافةٌ إليها "الحلة". فشققتها: أي: قطعتها، ففرقتها وقسمتها. نسائي: أي: النسوة اللاتي في بيته؛ مثل زوجته، وأمه، وبنت عمه حمزة، وامرأة أخيه عقيل، واسم كل واحدة منهن: فاطمة، فقد جاء في بعض الروايات: "فشققتها خُمُرًا بين الفواطم". ... ¬

_ (¬1) البخاري (5840)، مسلم (2071).

429 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهِم". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورجاله ثقات، فمنهم رجال الشيخين، غير أنَّه منقطع؛ لأنَّ سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئًا، كما قال ذلك الدارقطني والحافظ وغيرهما، وله شواهد أسانيدها ضعيفة. قال الشيخ الألباني: وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها، ينجبر بها الضعف. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديث رقم (426): يدل على تحريم لبس الحرير للرجال، جاء هذا القيد من أدلة أُخر، والتحريم وتقييده إجماع العلماء. 2 - يستثنى من التحريم العَلَم البسيط الذي يقدر بإصبعين إلى أربعة أصابع؛ فهذا مباح إجماعًا. 3 - قوله: "موضع أصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربع" ليس هذا شكًّا من أحد الرواة، وإنَّما هو للتشريع، والمراد به التخيير، كما جاء في فديه الأذى قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. 4 - أما الحديث رقم (427): فيدل على تحريم لبس الحرير على الرجال. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 394)، النسائي (5148)، الترمذي (1720).

5 - ويدل على الرخصة في لبسه للحاجة إليه؛ كالعلاج به من مرض الحكة والحساسية. 6 - قال شيخ الإسلام: ما حرم لأجل خبثه، أشد تحريمًا مما حرم للسرف ونحوه. 7 - وأما الحديث رقم (428): فإنَّه يدل على تحريم لبس الحرير على الرجال؛ فإنَّ الحُلَّة المذكورة حرير خالص. 8 - إباحة الحرير للنساء؛ فإنَّ عليًّا -رضي الله عنه- شقها خُمُرًا للفواطم، وهي زوجته: فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمه وهي فاطمة بنت أسد، وابنة عمه فاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة أخيه عقيل بن أبي طالب. 9 - وأما الحديث رقم (429): فيدل على تحريم الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، فهو محرم على الرجال لبسًا، وافتراشًا، واستعمالاً، ومباح للنساء لبسًا فقط؛ للحاجة إلى الزينة، وما عدا ذلك من الاستعمالات، فيبقى على أصل التحريم، والله أعلم. 10 - قوله: "رخص" تقدم لنا أن الرخصة: لغة: الانتقال من صعوبة إلى سهولة، وأنَّها شرعًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. فإن قيل: الشريعة الإسلامية كلها يسرٌ وسهولةٌ، فكيف سميت هذه رخصة؟ الجواب: أن نقول: إنَّ هذه رخصة جاءت لسبب؛ لتخرج بعض الناس من حكم الإيجاب، أو التحريم إلى الإباحة. 11 - تقدم أنَّ حِل الحرير والذهب لعموم النساء، الكبار والصغار، وقلنا: إنَّ العلة هي حاجتهن إلى الزينة. فيرد علينا؛ أنَّ الطفلة ليست بحاجة إلى الزينة. والجواب: أنَّ العلة إذا لم يُنصَّ عليها من الشارع، وإنما استنبطت استنباطًا -فإنَّها لا تخصص العموم؛ فإنَّه من الجائز أن يكون هناك علة أخرى غير معلومة لنا.

430 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إنَّ اللهَ -يُحِبُّ إِذَا أنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً، أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ بشواهده منها: 1 - حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه الترمذي (2819) وحسنه، والحاكم (4/ 15). 2 - حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد (8045) والبيهقي في "الشعب" (5/ 163). 3 - حديث أبي الأحوص عن أبيه، أخرجه أبو داود (4063) والنسائي (5224)؛ فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا، فيصير حسنًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب إظهار نعمة الله على العبد، إذا أعطاه الله، ووسَّع عليه، وليظهر ذلك في لباسه، وطعامه، وشرابه، ومسكنه، وكل مظهر من المظاهر المباحة في الحياة. 2 - أنَّ المراد بإظهار نعمة الله تعالى على العبد: أن يكون بغير قصد الخيلاء والفخر، وكسر قلوب الفقراء واحتقارهم. وهذا هو المراد من الحديث، فهو مقيَّد بنصوص هذه المعاني. 3 - أمَّا الذي ليس عنده سعة من المال، فلا ينبغي أن يظهر بمظهر الكاذبين في أفعالهم، بل يلبس ويطعم ونحوه بقدر ما أعطاه الله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) البيهقي (3/ 271).

رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] 4 - أنَّ إظهار نعمة الله على العبد أمر محبوب إلى الله تعالى؛ لأنَّه من شُكْرِ الله على نعمه؛ قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى]. 5 - إثبات صفة المحبة لله تعالى، إثباتاً حقيقيًّا، يليق بجلالته وعظمته، فلا تعطيل ولا تمثيل، وإنما إثبات لحقيقة الصفة وتفويض لكيفيتها، وهكذا جميع صفات الله تعالى الفعلية والذاتية، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي سَلِمُوا به من نفي المعطلين، وإثبات المشبهين. 6 - قوله: "على عبده" عبودية الله تعالى قسمان: أحدهما: عبودية عامة تشمل جميع خلقه؛ قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم]. الثاني: عبودية خاصة بعباده المؤمنين، الموصوفين بقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ...} [الفرقان: 63]، إلى آخر الآيات. ***

431 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُبْسِ القَسِّيِّ والمُعَصْفَرِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - القسي -بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها ياء-: نسب ثياب مضلعة فيها حريرٌ، تنسب إلى قرية في مصر بالقرب من دمياط، كان ينسج فيها الثياب. قال العيني: والآن خربة. قال أبو عبيد: أصحاب الحديث يقولون "القِسي" بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها. - المعصفر: بصيغة اسم المفعول من الرباعي هو المصبوغ بالعصفر، نبت صيفي من الفصيلة المركبة، وهي أنبوبية الزهر، يخرج منه صبغ أحمر، يصبغ به الحرير ونحوه. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2078).

432 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو -رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثوْبَينِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: أُمُّكَ أمَرَتْكَ بهَذَا"؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * المفردات: - رَأى عليَّ: -بتشديد الياء-: حرف جر مع ياء المتكلم. - أُمُّك أمرتْكَ: استفهام إنكاري بهمزة محذوفة، تقديره: أأمك أمرتك بهذا؟!. قاله تغليظًا، وإظهارًا لشدة كراهته. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2077).

433 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، مَكْفُوفَةَ الجَيْبِ وَالكُمَّيْنِ وَالفَرْجَيْنِ بِالدِّيبَاجِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (¬1). وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَزَادَ: "كَانَتْ عِنْدَ عَائشِةَ حَتَّى قُبِضَتْ، فَقَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يلْبسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا". وَزَادَ البُخَارِيُّ في "الأدَبِ المُفْرد": "وَكَانَ يَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ والجُمُعَةِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. هذا الحديث قطعة منه في صحيح مسلم، فعن أسماء بنت أبي بكر: أنَّها أخرجت جبة طيالسية سروانية، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، وقالت: "هذه جبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يُسْتَشْفَى بها". * مفردات الحديث: - للوفد: -بفتح الواو وسكون الفاء- مفرده: "وافد"، وأما جمع الوفد فهو: وفود وأوفاد، والوفد: جماعة كريمة تذهب إلى أمير أو كريم. - جُبَّة: -بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة-: ثوب سابغ واسع الكمين مشقوق المقدَّم، يلبس فوق الثياب. ¬

_ (¬1) أبو داود (4054). (¬2) مسلم (2080).

- مكفوفة: يكف جوانبها ويعطف عليها، والكف يكون في الذيل والفرجين والكمين. - الجيْب: بفتح فسكون، جمعه: أجياب وجيوب، وجيب القميص: هو ما يشق، ويفتح علي النحر. - الفرجين: بفتح فسكون-: تثنية "فرج"، وهو في الأصل: انفتاح في الشيء، ومنه: شق الثوب الذي يكون على الصدر، يبتدىء من عند النحر، وربما ينتهي إلى القدمين، ثم أطلق الفرجان على حافتي الفتحة. - الديباج: هو الثوب الذي سداه ولحمته حرير، معرب من الفارسية، جمعه: "دبابيج". * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديث رقم (431): نهي عن لبس القَسِّي والمعصفر، والنهي يقتضي التحريم، والحكمة في ذلك: أنَّ القسِّي نوع من الحرير، وأما المعصفر: فالثوب المصبوغ بالعصفر المعروف. 2 - وفيه استحباب التجمل للوفود والحفلات، والاجتماعات العامة، ففيه مظهر حَسن للمسلمين. 3 - النهي عن ذلك خاص بالرجال دون النساء، لأنَّ الحديث مخصص بأحاديث أخر. 4 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّ المعصفر مكروه، وأما جمهور العلماء: فيرون إباحة لبسه؛ لما في البخاري (5851)، ومسلم (1187) من حديث ابن عمر قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة"، وهي الرواية الثانية عن أحمد، اختارها الموفق، قال في "الفروع": وهو أظهر، وكذا في "الإنصاف". 5 - أما الحديث رقم (432): فيدل على تحريم لبس الثوب المعصفر على الرجال، وأنَّه خاصٌّ بالنساء، وتقدم الخلاف في ذلك.

ولا تعارض بين حديث ابن عمر في الصحيحين، وبين هذين الحديثين رقم (431، 432)؛ فإنَّ هذين الحديثين بيَّنا حكم الثياب الحُمر المصبوغة بالعصفر. أما حديث ابن عمر: فهو صبغ لحيته بالصفرة، وهذا مستحب. 6 - أما الحديث رقم (433): فيدل على إباحة لبس ما فيه عرض أربع أصابع، فما دونه من الحرير. 7 - ويدل على جواز التبرك بآثار النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بعد وفاته، ولكنه لا يلحقه أحد في ذلك؛ فلا يجوز التبرك بآثار أحد، مهما سمت منزلته بالعلم والصلاح. 8 - قولها: "جبة النبي-صلى الله عليه وسلم- مكفوفة الكُمِّين والفرجين بالديباج" -فيه دلالة على جواز تحلية هذه الأماكن بالديباج في الجبة والعباءة، ونحو ذلك من ألبسة الرجال. قال شيخ الإسلام: باب الذهب والحرير واحد، فالعباءة التي تعمل بالزري والذهب لا بأس به، لأنَّها تابعة، وليست مستقلة. * فوائد: الأولى: أجمع العلماء على تحريم التشبه بالكفار؛ فإنَّ مخالفتهم أمر مقصود للشارع، وليس من التشبه اتخاذ اللباس الذي يلبسونه ويلبسه المسلمون، وليس خاصًّا بهم؛ فإنَّ هذا لا يعتبر شعارًا خاصًا بهم، ولا يعتبر لابسه مقلدًا، أو متبعًا لهيئاتهم وأزيائهم. الثانية: اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في التصوير والصور، ولو عرضنا أدلتهم، لطال البحث، ولكن نلخص منها ما تيسر في الفقرات الآتية: - أجمع العلماء على تحريم الصور المجسمة لذوات الأرواح؛ للنصوص الصحيحة الصريحة في ذلك. - اختلفوا في الصور الشمسية: فذهب بعضهم إلى دخولها في التحريم؛ مستدلاًّ بعموم النصوص.

وذهب بعضهم إلى: إباحتها؛ وأنها لا تدخل في عموم النصوص، وأنه ليس تصويرًا، وإنما هو إمساك للصورة بمواد خاصة، وأنه أشبه بمقابلة المرآة، وبروز صورة الإنسان أمامه، إلاَّ أنَّ هذه حُبِسَت، والأخرى زالت. وجمهور العلماء يخصصون من عموم النصوص لعب الأطفال؛ لقصة عائشة، وليتدرب الصغيرات بهن على تربية الأطفال، ولكن على ألا يتوسع في هذه اللعب التي صارت الآن كأنها تماثيل لصور مجسَّمة ذات أرواح. الثالثة: الإسبال: (أ) جاء في البخاري (5784)، ومسلم (2085): "من جرَّ ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة". (ب) وجاء في البخاري (5783)، ومسلم: (2085) عن أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطرًا". (ج) وجاء في صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ... " وذكر منهم: "المسبل إزاره". (د) وروى أبو داود (4048) بإسناد حسن عن جابر بن سليم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إيَّاك وإسبال الإزار؛ فإنَّها من المخيلة، وإنَّ الله لا يحب المخيلة". (هـ) وجاء في البخاري (3465) عن ابن عمر: "أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي، إلاَّ أن أتعاهده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنك لست ممن يفعله خيلاء". (و) وجاء في البخاري (5787) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففي النار". هذه غالبية الأحاديث الواردة في الإسبال. وإذا تأملها القارىء وجد أنَّ بعضها مطلقٌ، وبعضها مقيَّدٌ بقصد الخيلاء،

والقاعدة الأصولية هي "حمل المطلق على المقيد"، فيكون الذي لم يُرِد الخيلاء غير داخل في الوعيد، الذي يقتضي تحريم الإسبال، ولذا قال الإمام النووي في "شرح مسلم" ما يأتي: وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسبل إزاره" فمعناه: المرخي له، الجارّ له خيلاء، وهذا يخصص عموم المسبل إزاره، ويدل على أنَّ المراد بالوعيد: من جره خيلاء، وقد رخَّص النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "لستَ منهم"؛ إذ كان جره لغير الخيلاء. وظواهر الأحاديث في تقييده بالجر خيلاء -تدل على أنَّ التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على هذا الفرق كما ذكرنا. وأما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار-: فنصف الساقين، والجائز بلا كراهة إلى الكعبين، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم، وإلاَّ فمنع تنزيه. وأما الأحاديث المطلقة: بأنَّ ما تحت الكعبين ففي النار، فالمراد بها: ما كان للخيلاء، لأَنَّه مطلق فوجب حمله عى المقيد. اهـ كلام النووي، والله أعلم. وبعضهم: لا يرون حمل مطلق أحاديث الإسبال على مقيدها، وإنما جعلوا هذا من باب اختلاف السبب والحكم في الدليلين، وإذن فلا يُحْمل أحدهما على الآخرة؛ ذلك أنَّ الوعيد فيمن جرَّ ثوبه خيلاء، هو أنَّ الله لا ينظر إليه، نظرَ رحمةٍ وعطفٍ. وأما الوعيد فيمن أنزل ثوبه عن كعبيه أنَّ النار لهما وحدهما، فالعقوبة الأولى عامة، والعقوبة الثانية جزئية، وكذلك السبب مختلف فيهما، فأحدهما: جر إزاره خيلاء، والثانى: أنزله إلى أسفل من كعبه بلا خيلاء. وهذا القول أحوط، وأما القول الأول فهو أصح من حيث الدليل، وأجود من حيث التأصيل، والله أعلم.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز مقدِّمة الجنائز: جمع: "جنازة"، بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح -: اسم للنعش عليه الميت، فإن لم يكن عليه ميت فلا يقال: نعش، ولا جنازة، وإنما يقال: سرير، وهي مشتقة من "جَنِز" بكسر النون: إذا ستر؛ قاله ابن فارس. وللميت أحكام ذكر هنا منها الصلاة، وما يسبقها من تغسيل وتكفين، ثم ما بعدها من دفنٍ وتعزيةٍ، وذكرت هنا لمناسبة الصلاة المعروفة. والموتُ ليس فناء، وإنما هو انتقال الروح من عالم إلى عالم آخر، فهو مفارقة الروح للبدن، والروح باقٍ لا يفنى عند أهل السنة؛ قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، أي: عند موت أجساده. قال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يعرض عليه، ويُسر بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا، وجاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم إذا شاء الله، كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم، والقصد أنَّ الأرواح باقية في حياة برزخية، الله أعلم بكيفيتها ونوعها. والمستحب لكل إنسان ذكر الموت، والاستعداد له؛ لما روى الترمذي (2307) والنسائي (1824)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا ذِكرَ هاذم اللذات"، والهاذم: القاطع.

والاستعداد للموت يكون بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والإقبال على الله بالطاعات. وتسن عيادة المريض؛ لما في البخاري (1240) ومسلم (2162) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ:"حق المسلم على المسلم ستٌّ: إذا رأيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتَّبِعْه". وإذا عاده، رقاه، وأفضلها: ما رواه البخاري (5742) عن أنس قال: كانت رقية النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ رب الناس، مذهب الباس، اشفِ أنت الشافي، شفاءً لا يغادر سقمًا"، وسورة الفاتحة قال عنها -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري (2276): "وما يدريك أنَّها رقية"، وينفس له في الأجل، ويُدخل على قلبه السرور، ولا يطيل عنده الجلوس، ولا بأس أن يخبر المريض عن حال مرضه، ولو لغير طبيب، إذا لم تكن شكوى، ويسن الصبر، ويجب منه ما يمنع من محرم. ويستحب للمريض حسن الظن بالله تعالى؛ لما روى مسلم (2877) عن جابر؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يموتن أحدكم، إلاَّ وهو يحسن الظن بالله تعالى". وفي الصحيح: "أنا عند حُسن ظنِّ عبدي بي". ويباح التداوي بمباحٍ؛ لما في صحيح البخاري (5678) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما نزل داءٌ، إلاَّ وأنزل الله له شفاءً" وإذا كان المريض في حالٍ خطرة يُذكَّر بالتوبة، وقضاء الديون، والوصية فيما يجب عليه بيانه، ويكون ذلك بلطف، ولا يشعر معه بالخوف من دنو أجله. فإذا حضره الموت، سُنَّ لمن حضره تلقينه الشهادتين بلطف، وتوجيهه

إلى القبلة، فإذا مات غُمضت عيناه، وليِّنت مفاصله، وَأُسْرِعَ في تجهيزه، ما لم يكن في تأخيره مصلحة. قال ابن القيم: كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنائز أكمل هدي، فهو مشتمل على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان إلى الميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، من عيادة وتلقين وتطهير، وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن أحواله، وأفضلها، فيقفون صفوفًا على جنازته، ويُثْنون عليه، ويصلون على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويسألون للميت المغفرة والرحمة، ثم يقفون على قبره يسألون له التثبيت، ثم الزيارة إلى قبره والدعاء، كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا بالإحسان إلى أهله وغير ذلك. * قرار المجمع الفقهي بشأن حكم التداوي والعلاج الطبي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (67) بشأن العلاج الطبي: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعوية من (7 إلى 12 ذي القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992 م). بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "العلاج الطبي"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: التداوي: الأصل في حكم التداوي أنَّه مشروع؛ لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية، والعملية، ولِما فيه من "حفظ النفس"، الذي هو أحد المقاصد

الكلية من التشريع. وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص: فيكون واجبًا على الشخص؛ إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه، أو أحد أعضائه، أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره؛ كالأمراض المعدية. ويكون مندوبًا؛ إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن، ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى. ويكون مباحًا؛ إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين. ويكون مكروهًا؛ إذا كان في فعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها. ثانيًا: علاج الحالات الميئوس منها: (أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أنَّ المرض والشفاء بيد الله عزَّ وجل، وأنَّ التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون، وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله، وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب على رعايته، وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه. (ب) أنَّ ما يعتبر حالةً ميئوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء، وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان، وتبعاً لظروف المرضى. ثالثاً: إذن المريض: (أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان من أهل الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية، أو ناقصها -اعتبر إذن وليه، حسب ترتيب الولاية الشرعية، ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه، ومصلحته ورفع الأذى عنه، على أنَّه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن، إذا كان واضح

الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء، ثم إلى ولي الأمر. (ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال؛ كالأمراض المعدية، والتحصينات الوقائية. (ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر، لا يتوقف العلاج على الإذن. (د) لابد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين)، أو الإغراء المادي (كالمساكين)، ويجب ألا يترتب على إجراء الأبحاث الطبية على عديمى الأهلية، أو ناقصيها، ولو بموافقة الأولياء. والله أعلم. * قرار المجمع الفقهي الإسلاميى التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت (20 من شعبان 1415 هـ 21/ 1/ 1995 م) قد نظر في هذا الموضوع، وأصدر القرار التالي: 1 - الأصل الشرعي أنَّه لا يجوز كشف عورة المرأة للرجل، ولا العكس، ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل. 2 - يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره رقم: (85/ 12/ 85 في 1 - 7/ 1/ 1414 هـ) وهذا، نصه: "الأصل أنه إذا توفرت طبيبة مسلمة متخصصة، يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك، فتقوم بذلك طبيبة غير

مسلمة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم، يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم، أو زوج، أو امرأة ثقة، خشية الخلوة" انتهى. 3 - وفي جمع الأحوال المذكورة، لا يجوز أن يشترك مع الطبيب إلاَّ من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت. 4 - يجب على المسؤولين في الصحة والمستشفيات حفظ عوارت المسلمين والمسلمات، من خلال وضع لوائح وأنظمة خاصة تحقق هذا الهدف، وتعاقب كل من لا يحترم أخلاق المسلمين، وترتيب ما يلزم لستر العورة، وعدم كشفها أثناء العمليات إلاَّ بقدر الحاجة من خلال اللباس المناسب شرعًا. 5 - ويوصي المجمع بما يلي: (أ) أن يقوم المسؤولون عن الصحة بتعديل السياسة الصحية فكرًا ومنهجاً وتطبيقًا، بما يتَّفق مع ديننا الإسلاميْ الحنيف وقواعده الأخلاقية السامية، وأن يولوا عنايتهم الكاملة لدفع الحرج عن المسلمين، وحفظ كرامتهم وصيانة أعراضهم. (ب) العمل على وجود موجه شرعي في كل مستشفى للإرشاد والتوجيه للمرضى. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ***

434 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّات المَوْتِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه النسائي، والترمذي، وابن ماجه (4258)، وابن حبان، والحاكم (4/ 357)، والضياء المقدسي (5/ 76)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن السكن، وابن طاهر، وأعلَّه الدارقطني بالإرسال. وله شواهد كثيرة منها: 1 - حديث ابن عمر ورجاله موثوقون غير القاسم، فأورده ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. 2 - حديث أنس مرفوعاً، به أخرجه أبو نعيم والخطيب والضياء المقدسي، وسنده صحيح على شرط مسلم. 3 - حديث عمر مرفوعاً به، أخرجه أبو نعيم ورجاله ثقات غير عبد المالك بن يزيد، فقال الذهبي: لا يُدرى من هو. * مفردات الحديث: - هاذم: مجرور؛ لأنَّه مضاف إليه. هاذم: تقرأ بالذال المعجمة؛ فيكون معناها: قاطع اللذات، وتقرأ بالدال المهملة؛ فيكون معناها مزيل اللذات، والمعنيان متقاربان. - الموت: يجوز فيه ثلاثة أوجه: الرفع والنصب والجر. ¬

_ (¬1) الترمذي (2307)، النسائي (1824)، ابن حبان (6/ 261).

فأما الرفع فعلى تقدير: خبر مبتدأ محذوف، وأما النصب فعلى تقدير: أعني: الموت، وأما الجر فهو عطف بيان، ولعلَّ الأخير أقربها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - معناه: أنَّ الموت يزيل لذات الحياة الدنيا، فيقطعها عن الإنسان بسبب الموت. 2 - ذكر الموت أعظم واعظٍ للإنسان، وأكبر مذكِّر له عن طول الأمل، والاغترار بالحياة، والركون إليها. 3 - لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر الموت، الذي هو أعظم واعظ؛ فإن ذكره الموت يحثه على الطاعات، والاستعداد لما بعده. 4 - جاء في بعض الأحاديث: "لا تذكرونه في كثيرٍ إلاَّ قلَّله، ولا قليل إلاَّ كثَّره"، ففي كثرة ذكر الموت قصر الأمل وانتظار الأجل. 5 - الإنسان في هذه الحياة الدنيا: إما أن يكون في ضيق أو سعة، نعمة أو نقمة، فهو محتاج إلى ذكر الموت في كلا الحالتين، فإنَّ ذكره في نعمة لم يغفل، وإن ذكره في نقمة لم يجزع. وسئل ابن مسعود -رضي الله عنه- أي الناس أكيس؟ فقال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس. 6 - قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعِدُ بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، وتنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، ومرتحلة ارتحالاً سريعًا، ولكن الناظر قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها. 7 - قال شيخ الإسلام: لا يستحب للمسلم أن يخط قبره قبل أن يموت؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري متى يموت، ولا أين يموت. وإذا كان مقصود العبد الاستعداد للموت، فهذا يكون بالعمل الصالح، فيسن الإكثار من ذكره، والاستعداد له، والتوبة قبل نزوله.

435 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإنْ كَانَ لاَبُدَّ مُتَمَنِّياً، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوفَّنِي مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يتمنين: "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم. يتمنين: يقال: تمنى الرجل الشيء تمنيًا: أراده برغبة، مأخوذ من: المُنَي، وهو القدر؛ لأنَّ صاحبه يقدر حصوله. فالتمني يطلق في اللغة على: طلب حصول الشيء، على سبيل المحبة. - لِضُرّ: بضم الضاد، ويجوز فتحها، والضر: ما هو كائن من سوء حالٍ، أو فقرٍ، أو شدةٍ في بدن. - لابد: أي: لا فرار ولا محالة متمنيًا، فليفوض الأمر إلى الله، وليقُل الدعاء الوارد. - أحيني: بهمزة قطع؛ أي: أبقني حيًّا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يكره تمني الموت عند الوقوع في محنة دنيوية، أو خوف من عدوٍّ، أو مرض نزل به، أو فاقة حلت به، أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. 2 - الحكمة في هذا: أنَّه منافٍ للصبر الذي أُمرنا به، ووُعدنا عليه الأجر العظيم، ¬

_ (¬1) البخاري (5671)، مسلم (2680).

ولأنَّه يدل على الجزع، وعدم الثبات والاحتساب على قضاء الله تعالى. 3 - إن كان غير صابر، ولابد من الدعاء، فليقل: "اللَّهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي"، هذا هو الرخصة؛ ذلك أنَّ الدنيا دار ممر، والأخرى هي المقر، فلا يعلم المبتلى في بدنه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، أنَّ لك خيرٌ له في أُخْراه، إذا صبر واحتسب. 4 - أما إذا كان الخوف من الفتنة في الدين، فإنَّه لا بأس من تمني الموت، فقد قالت مريم عليها السلام: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم]. فهي قد تمنت الموت، لا جزعًا من وجع الولادة، وإنما تمنت الموت خوفًا من الفضيحة، حينما ينكر قومها أمرها، ويظنون بها الشر، ثم يقعون في ذمها وعرضها. وكذا جاء في الحديث: "وإذا أردتَ بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون" [رواه الترمذي (3247) وصححه]. فتمني الموت في الفتنة في الدين جائز، وليس مما يتناوله الحديث. 5 - مناسبة هذا الدعاء لمن أراد تمني الموت أن يفوض الأمر إلى الله تعالى، فهو جلَّ وعلا الذي يعلم مصالح العبد، وما هو أولى به في الحياة، أو الموت. 6 - يدل الحديث وأمثاله على وجوب الصبر، وحكاه شيخ الإسلام إجماعاً، وقال: إنَّ الثواب على المصائب معلق على الصبر عليها، وأما الرضا فمنزلة فوق الصبر، فإنَّه يوجب رضا الله عزَّ وجل. والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحوها. والشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر، وهي مطلوبة شرعًا، مندوب

إليها إجماعًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 76]. قال ابن كثير: "ابتليناهم بالمصائب والشدائد". وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43]، ومن شكا إلى الناس: وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعًا، وجاز؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"أجدُني مغمومًا"، وقوله: "وارأساه"، وقوله: "أُوْعَكَ كمَا يُوعَك رجلان منكم"، ونحو ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب، وإذا كانت مما يمكن كتمانه، فكتمانه من الأعمال الخفية لله تعالى. 7 - في البخاري (6507)، ومسلم (2683): "مَنْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". قال الإمام أحمد: يكون خوف العبد ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب على صاحبه، هلك. قال الشيخ: هذا هو العدل؛ لأنَّ من غلب عليه الخوف، أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء، أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله، فالرجاء بحسب ترجيحه رحمة الله، وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريطه. 8 - ظهر في هذه العصور الحديثة ظاهرة الانتحار، وهي قتل الإنسان نفسه لنكبة تصيبه من نكبات الحياة، إما من قلَّة ذات يده، وإما رغبة دنيوية فاتته، ومحنة نزلت به، أو طول مرض معه، فيتملكه الجزع ويطير صوابه، فيقتل نفسه بغرقٍ، أو حرقٍ، أو إلقاء نفسه من شاهقٍ، أو يلقي نفسه أمام قطار، أو غير ذلك، إنَّ مضار هذه الظاهرة الشنيعة خطيرة جدًّا من: مخالفة للشرع، ومخالفة للطبع، وهذه بعض محاذيرها: أولاً: إنَّها مخالفة لشريعة الله -تعالى- بأوضح نصوصه الكريمة، قال

تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء]، ولما جاء البخاري (6105)، ومسلم (110) عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل نفسه بشيء، عُذِّب به يوم القيامة". وفي صحيح البخاري (3074): "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن الرجل الذي آلمته الجراح، فقتل نفسه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: هو من أهل النار". ثانيًا: إنَّ من قتل نفسه فليس بمؤمن؛ لأنَّ صفة المؤمن إنَّ أصابته سرَّاء شكر، وإن أصابته ضرَّاء صبر. ثالثًا: إنَّ هذا دليل على- الجُبْن والسلبية، وعدم التحمل، ومجابهة الأمور ومعالجتها، والخروج منها، والتغلب عليها. رابعًا: إنَّ هذا دليل على ضعف العقل، وضعف الإيمان؛ ذلك أنَّه يريد بالموت الراحة مما هو فيه، وهو بقتله نفسه، انتقل من عذاب نفسي إلى عذاب أعظم مما هو في الحياة؛ كالمستجير من الرمضاء بالنار، نسأل الله السلامة. قال الأستاذ أحد عساف في كتابه: "الحلال والحرام": وخلاصة القول: إنَّ الانتحار وَهنٌ في الإرادة، وضررٌ في العزيمة، وضعفٌ في الإيمان؛ لذلك كان جزاء فاعله النار. فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد به؛ فإنَّ مع العسر يسرًا، ولكل شدَّة فرج، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. خامسًا: أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المعنى الذي من أجله ينهى عن تمني الموت، وهو انقطاع الأعمال الصالحة بالموت، ففي الحياة زيادة الأجور بزيادة الأعمال، ولو لم يكن إلاَّ استمرار الإيمان، فأي عمل أعظم منه، ولذا جاء في البخاري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لا يتمنين أحدكم الموت: إما محسناً، فلعله يزداد، وإما مسيئًا، فلعله أن يستعتب".

436 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "المُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الجَبِيْنِ". رَوَاهُ الثَّلاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد (22538)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن بريدة، ورمز له السيوطي بالحُسن. قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأقرَّه الذهبي. وقال البيهقي: رجال أحمد رجال الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، فهم رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - بعَرَق: بفتح العين والراء بعدهما قاف مثناة، والعَرَق: ما رشح من مسام الجلد من غدد خاصة، وفي الحديث أحد معنيين: أنَّه كناية عن الكد في طلب الرزق الحلال، وإما أن يراد به: شدة النزع عند الموت. - الجَبين: -بفتح الجيم وكسر الباء الموحدة-: هو ما فوق الصدغ عن يمين الجبهة أو شمالها، وهما جبينان، وجمعه: أَجْبُن وَأَجْبُنة وجُبُن. * ما يؤخذ من الحديث: الحديث يحتمل أحد معنيين: 1 - مكابدة الإنسان ما في هذه الحياة من الشدائد والمشاق، فالإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها، حتى الموت، والمؤمن يكابدها بطرق ¬

_ (¬1) الترمذي (982)، النسائي (4/ 6)، ابن ماجه (1452).

الحلال والسبل المشروعة، فيتحرى الحلال وصحة العقود، ويحترز عن الشبهات، فيكون غالباً رزقُه مقتدراً عليه بقدر كفايته، فيموت وهو لم ينعم بعيش هنيء، وطعام لين، وإنما يموت وجبينه يتفصد عرقاً من تعب الحياة؛ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد]. 2 - أنَّ المؤمن يكابد من شدة النزع وسياق الموت ما يكفر الله به ما بقي من ذنوبه؛ ولذا جاء في الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته". وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن عائشة قالت: "حضرت موت أبي، فأصابته غشية"، وقال -صلى الله عليه وسلم- وهو في سياق الموت: "إنَّ للموت سَكَرَات" [رواه البخاري (4184)]. فالمؤمن يموت وجبينه يقطر من شدة النزع؛ ليمحص الله ذنوبه عند آخر مرحلة من مراحل الحياة، وأول منزلة من مراحل الآخرة، ليخرج من هذه الحياة نقيًّا خالصاً. ***

437 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأَرْبَعَة (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لقِّنوا: فعل أمر من: التلقين؛ وهو التذكير. قال في "المصباح": لقنته الشيء فتلقنه، إذا أخذه من فيك مشافهة، فمعناه: أنَّ الإنسان يقول الشيء ويتبعه غيره. - موتاكم: يعني: الذي ظهرت عليه علامات الموت؛ وذلك عند الاحتضار، وتسميتهم موتى باعتبار ما سيكون. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تلقين المحتضر كلمة الإخلاص: "لا إله إلاَّ الله"، وبقية الحديث عند ابن حبان: "فمن كان آخر قوله: لا إله إلاَّ الله، دخل الجنة". 2 - قال المُنَاوي عن حديث الباب: إنَّه متواتر، والتلقين المذكور سنة مأثورة؛ لهذا الخبر، والمسلمون أجمعوا عليها. 3 - قال الفقهاء: يلقنه مرة واحدة، ولا يزيد لئلا يضجره، إلاَّ أن يتكلم بعد تلقينه فيعيد عليه التلقين؛ ليكون آخر كلامه: لا إله إلاَّ الله. 4 - عظم هذه الكلمة الجليلة بكبر فائدتها، وأنَّ قولها بإخلاص، والعمل بها سبب للنجاة من النار ودخول الجنة. اللهم أحينا عليها، وأمِتنا عليها. ¬

_ (¬1) مسلم (916)، أبو داود (3117)، النسائي (4/ 5)، الترمذي (976)، ابن ماجه (1445).

5 - قال ابن القيم: يستحب التأذين في أذن المولود اليمنى، والإقامة في اليسرى؛ ليكون أول ما يقع في سَمْع الإنسان كلمات الأذان، كما يلقن عند خروجه من الدنيا، فتكون دعوته إلى الله تعالى، وإلى دينه الإسلام سابقة على دعوة الشيطان. ***

438 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائيُّ، ؤصَحّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أحمد (19790)، وأبو داود، وابن أبي شيبة (2/ 445)، وابن ماجه (1448)، والحاكم (1/ 753)، والبيهقي (3/ 383)، والضياء المقدسي. قال الحاكم: أوقفه يحيى بن سعيد وغيره. وقال النووي في "الأذكار": إسناده ضعيف، ففيه مجهولان، لكن لم يضعِّفه أبو داود، وقال ابن حجر: أعله ابن القطان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، المذكُورَين في إسناده. وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث. * ما يؤخذ من الحديث: الحديث صحَّحه طائفة من العلماء، وضعَّفه طائفة أخرى، ومعناه يحتمل أمرين: الاحتمال الأول: أن يراد به قراءة السورة المذكورة عند المحتضر، ويسمى المحتضر ميتاً باعتبار ما سيكون؛ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر]، فتستحب قراءتها عند المحتضر. ¬

_ (¬1) أبو داود (3121)، النسائي في الكبرى (6/ 265)، ابن حبان (3002).

قال الإمام أحمد (16521) حدثنا: صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الموتى، خُفِّف عنهم بها، وصحَّح إسناده ابن حجر في "الإصابة". وأسند صاحب "الفردوس" عن أبي الدرداء وأبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ميت يموت، فيقرأ عنده يس، إلاَّ هون الله عليه". قال شيخ الإسلام: تستحب قراءة يس، عند المحتضر، وقيل: الحكمة في قراءتها: اشتمالها على تغيير الدنيا وزوالها، والوعد بالبعث والقيامة، ونعيم الجنة وما أعدَّ الله فيها، ويتذكر بقراءتها تلك الأحوال التي توجب زهده في الدنيا المنتقل عنها إلى الآخرة المقبل عليها، فتسهل عند ذلك خروج روحه، ففي السورة طائفة من الأدلة النقلية والعقلية على إمكان البعث والحياة الأخرى. الاحتمال الثاني: أن يراد بقراءتها على الموتى يعني بعد موتهم، ويكون المراد: إهداء ثواب قراءتها إليهم. * خلاف العلماء: القُرب التي تهدى إلى الميت، أو الحي على نوعين: متفق عليه، ومختلف فيه، فمن الأول: 1 - الدعاء والاستغفار: ودليله نحو: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. 2 - الصدقة: لما جاء في البخاري (1388)، ومسلم (1004) عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله، إنَّ أمي افْتُلِتَتْ نفسها، ولم توصِ، فلها أجر، إن تصدَّقت عنها؟ قال: نعم". 3 - الحج والعمرة: لما جاء في البخاري (1852) عن ابن عباس: "أنَّ امرأة من جهينة قالت: يا رسول الله، إنَّ أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت

قاضيته؟! اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء". 4 - الصيام: لما في البخاري (1952)، ومسلم (1147)، عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ماتَ وعليه صيام صام، عنه وليه". فهذا النوع مما اتُّفق على جوازه. قال شيخ الإسلام: اتَّفق أئمة الإسلام على انتفاع الميت بالدعاء له، وما يُعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة، والإجماع، فمن خالف ذلك، كان من أهل البدع، ولم يخالف في هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وإنما اختلفوا في العبادات البدنية المحضة؛ كالصلاة وتلاوة القرآن: الثاني: ذهب الحنفية والحنابلة ومتأخرو الشافعية والمالكية إلى وصول ثوابها من الحي إلى الميت والحي. وذهب متقدمو الشافعية ومتقدمو المالكية إلى عدم وصول ثواب العبادات البدنية المحضة لغير فاعلها. استدلَّ المانعون وهم متقدمو الشافعية بأدلةٍ، منها قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]. قال ابن كثير في تفسيره: أي: كما لا يحمل وزر غيره، كذلك لا يحل له من الأجر إلاَّ ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الشافعي -رحمه الله- ومن تبعه أنَّ القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنَّه ليس من عملهم، ولا كسبهم. كما استدلوا: بما أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: ولدٍ صالح يدعو له، أو صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به من بعده".

وهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وجده وعمله؛ كما جاء في الحديث: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، والصدقة الجارية" [رواه أبو داود (3528)]، كما أنَّ الوقف ونحوه من أثر عمله، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. والعلم الذي نشره في الناس، إذا اهتدى به الناس من بعده هو أيضًا من سعيه وعمله، وجاء في صحيح مسلم (2674) أنَّ النَّيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أفضل العبادات ما وافق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهدي أصحابه. قال ابن مسعود: من كان منكم مستنًّا، فليستن بمن مات، أولئك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والذي كان معروفًا عند لقرون المفضلة أنَّهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، ويدعُون للمؤمنين والمؤمنات -كما أمر الله بذلك- لأحيائهم وأمواتهم. ولم يكن من عادتهم إذا صلوا تطوعًا، أو صاموا تطوعًا، أو حجوا، أو قرأوا القرآن -يُهدون ذلك لموتاهم المسلمين، بل كان عادتهم الدعاء لهم، فلا ينبغي للناس أن يَدَعو طريق السلف؛ فإنَّه أفضل وأكمل. أما الفريق الذين يرون وصول ثواب الأعمال البدنية المحضة، فيقولون، ومنهم: ابن قدامة في "المغني" لما ذكر الأحاديث الدالة على وصول الدعاء، والصدقة، والحج ونحوها -قال: وهذه أحاديث صحاح، فيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القُرب؛ لأنَّ الصوم والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها.

قال في "شرح الزاد" وغيره، من كتب الحنابلة: وأي قُربة من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك فعلها مسلم، وجعل ثوابها لميت مسلمٍ، أو حيٍّ -نفعه ذلك. قال الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه. قال ابن القيم: من صام أو صلَّى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء -جاز ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، ويحصل له الثواب بنيته له، ولكن تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة. وبحثها ابن القيم في كتاب "الروح" بحثًا وافيًا مستفيضًا، وصحَّحَ وصول ثواب جميع القُرب والأعمال الصالحة إلى الميت، ودلل عليها، وردَّ حجج المعارضين، وننقل خلاصة قليلة منها فيما يأتي، تتميمًا للفائدة: اختلف العلماء في العبادات البدنية؛ كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر: فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها. ومذهب مالك والشافعي أنَّ ذلك لا يصل. والدليل على انتفاع عنه بغير ما تسبب به: 1 - حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث ... " إلخ [رواه مسلم (1631)]. حديث: "من سنَّ سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنَّ سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ... " إلخ [رواه مسلم (1017)]. 2 - انتفاعه بغير ما تسبب به في القرآن والسنة والإجماع وقواعد الشرع:

أما القرآن: فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر: 10] إلخ. وفي سنن أبي داود (3199) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء". وفي حديث صحيح مسلم (974): "كان -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم؛ إذا خرجوا إلى المقابر يقولون: السلام عليكم ... " إلخ. 3 - وصول ثواب الصدقة؛ كما في البخاري (1388)، ومسلم (1004) من حديث عائشة -رضي الله عنها- في الرجل الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أمي ماتت ولم توصِ، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم". 4 - وصول ثواب الصوم؛ كما في حديث عائشة عند البخاري (1952) "من مات وعليه صوم، صام عنه وليه". وفي البخاري (1953)، ومسلم (1148)، عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، دين الله أحق أن يقضى". 5 - وأما وصول ثواب الحج: ففي صحيح البخاري (7315) عن ابن عباس: "أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله إنَّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، فالله أحق بالقضاء" قال -رحمه الله تعالى-: هذه نصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت، إذا فعلها الحي عنه، فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما، ويمنع وصول الآخر، فوصول الجميع محض القياس، فإنَّ الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه منه بعد.

أدلة المانعين: 1 - قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. 2 - "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلاَّ من ثلاث". 3 - العبادات نوعان: نوع تدخله النيابة؛ كالصدقة والحج، فهذا يصل ثوابه إلى الميت، ونوع لا تدخله النيابة بحال؛ كالإسلام والصلاة والقراءة والصيام، فهذا النوع يختص بفاعله لا يتعداه، ولا ينتقل عنه، كما أنَّ في الحياة ما لا يفعله أحد عن أحد. 4 - وقد جاء في "سنن النسائي الكبرى" (2/ 174) عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصلين أحد عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن يُطعِمُ عنهُ". 5 - معارَض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة؛ فإنَّ أحدًا لا يفعلها عن أحد. أجاب الذين يرون وصول الثواب بما يلي: قال ابن القيم: ليس فيما ذكرتم ما يعارض الكتاب والسنة، واتفاق السلف، ومقتضى قواعد الشرع. وأما قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]-فيبين مقتضى عدل الرب أنَّه لا يعاقب أحداً بجُرم غيره، وأنَّ الإنسان لا يفلح إلاَّ بعمله وسعيه، فالآية الأولى تؤمن من أخذ العبد بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا، والآية الثانية تقطع طمعه من نجاته، بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حُسن اجتماع هاتين الآيتين. والآية لم تنف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفت ملكه لسعي غيره، وبَينَ الأمرين من الفرق ما لا يخفى، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء

أن يبذله لغيره، وإن شاء يُبْقيه لنفسه، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها. وأما الاستدلال بحديث: "إذا مات ابن آدم"، فاستدلال ساقط؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل: انقطع انتفاعه، فالمنقطع شيء، والواصل إليه شيء آخر. وأما القول بأنه لو نفعه عمل غيره، لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه -فالجواب: أنَّ هذا جمع بين ما فرق الله بينه؛ كما يقاس الربا على البيع، والميتة على المذكى. وأما العبادات فنوعان: نوع تدخله النيابة، ونوع لا تدخلها، فمن أين لكم هذا الفرق؟ وقد شُرع الصوم عن الميت، مع أن الصوم لا تدخله النيابة، وشرع في فرض الكفاية أنه إذا فعله مَن يكفي سقط عن الباقين. وقد أطال البحث والنقاش، وصحح وصول ثواب جميع الأعمال من الحي إلى الميت والحي، رحمه الله تعالى. ***

439 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ. اتَّبَعَهُ البَصَرُ. فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أهْلِهِ، فَقَالَ: لاَ تَدْعُو علَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ علَى مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لأَبِي سلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهدِيِّينَ، وافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شقَّ بَصَرُهُ: -بفتح الشين المعجمة-: رفع وشخص وبصره، وهو فاعل "شق". قال النووي: وضبط بعضهم "بصرَ" بالنصب، وهو صحيح أيضًا، والشين مفتوحة بلا خلاف. - الروح: بضم الراء، جمعه: أرواح، وهو مخلوق، وهو من أمر الله تعالى يكون في وجوده في البدن الحياة، وبفقده الممات، يذكَّر ويؤنَّث، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى. - اتبعه البصر: همزته همزة وصل، ومعناها ما جاء في رواية مسلم "تبعه" بحذف الهمزة، ومعناه: أنَّ الروح إذا خرج من الجسد تبعه البصر، ناظرًا أين يذهب، قاله النووي. - فضجَّ ناسٌ من أهله: يقَال: ضجَّ فُلانٌ يضُج ضجيجًا، بمعنى: صاح، وقال في "النهاية": الضجيج: الصياح عند المكروه والمشقة والجزع، والمعنى: ¬

_ (¬1) مسلم (920).

صاحوا، أو صوَّتوا من شدة المصيبة، والفاء للتعقيب. - إنَّ الروح إذا قبض، اتبعه البصر: للجسد تعلق شديد في الروح في حال الحياة، ثم بعد الموت يظل البصر يتبع الروح؛ لينظر أين ذهبت. - الملائكة تؤمن: تدعو معكم، وتقول: "آمين" على دعائكم، ومعنى "آمين": اللهم استجب. - المهديين: الذين هداهم الله تعالى، ودلَّهم على طريق الرشد، والسداد في حياتهم ومماتهم. - افسح لهُ في قبره: وسِّع له ومدَّ له في قبره؛ بحيث يكون عليه روضة من رياض جنَّتك. - نوِّر له فيه: فدعاء الصالحين من أسباب نور القبرة ففي البخاري (458) ومسلم (956)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ هذه القبور ظلمة علن أهلها، وإنَّ الله ينوِّرها بصلاتي عليهم". - واخلفه في عقبه: واجعل لمن ترك بعده من الأهل والذرية خليفة صالحاً في أحوال دينهم ودنياهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز النظر إلى وجه الميت. 2 - استحباب تغميض عيني الميت بعد وفاته. 3 - أنَّ الوفاة تكون بمفارقة الروح البدن. 4 - النهي عن الضجيج والصراخ ورفع الصوت عند مصيبة الموت أو غيره، ولعلَّ بعض آل أبي سلمة أتَوْا عند وفاته، وفعلوا ما اعتادوا أن يفعلوه في الجاهلية من قولهم: "وا ويلاه وا ثبوراه"، ونحوه؛ فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلاَّ بخير". 5 - استحباب الدعاء بالخير عند الوفاة بالاسترجاع، وسؤال الرحمة للميت،

ونحو ذلك. 6 - من رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل ملائكته يواسون المسلمين عند مصائبهم، فيؤمنون على دعائهم، ويحضرون عندهم. 7 - استحباب الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، ورفع الدرجات في الجنة، وحشره مع أولياء الله تعالى المهديين من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين. 8 - ثبوت نعيم القبر من اتساعه له وتنويره، فيكون فيه روضة من رياض الجنة، فهو أول منازل الآخرة. 9 - استحباب الدعاء لأهل الميت وعقِبه؛ بأن يخلفهم عنه خيرًا، وأن يعوِّضهم عن فقْده أجراً. 10 - الفضيلة العظيمة والمنقبة الكبيرة لأبي سلمة -رضي الله عنه- بهذا الدعاء النبوي المبارك، الذي نعلم أنَّه قبل منه ما كان في الدنيا، حيث صار عقبه في أهله هو أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج امرأته، فصارت من أمهات المؤمنين، وتشرف أولاده، فصاروا ربائب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، رُبوا في بيته، وعاشوا في كنفه، وصاروا في كفالته، ونظن الظن القوي أنَّ الله تعالى استجاب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فغفر له ذنوبه، ورفع درجته في المهديين. وأبو سلمة المخزومي القرشي من السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر الهجرتين: الحبشة والمدينة، وشهد بدراً وأُحُدًا، وجرح فيه واندمل جرحه، ثم انتقض عليه، ومات منه بعد أشهر، رضي الله عنه. وهنا بحثان يتعلقان بهذا الحديث: البحث الأول: ما هي حقيقة الوفاة؟ قال الأطباء: جذع الدماغ هو المتحكم في جهازي التنفس، والقلب، والدورة الدموية، ولذا فإنَّ توقف جذع الدماغ وموته يؤديان لا محالة إلى توقف

القلب، والدورة الدموية، والتنفس، ولو بعد حين. ولذا فإنَّ لجنة "مجمع الفقهي الإسلامي في جدة" المكونة من أعضائها الشرعيين والأطباء، وهم كلٌّ من: 1 - الشيخ مختار السلامي، مفتي تونس. 2 - الشيخ مصطفى الزرقا، من كبار فقهاء حلب. 3 - الطبيب أشرف الكردي، أخصائي الأمراض العصبية. 4 - الطبيب محمد علي البار، أخصائي الأمراض الباطنية. قرروا في "11 صفر عام: 1407 هـ رقم: 17" ما يلي: بحكم النظرين الشرعي والطبي؛ بأنَّ الشخص قد مات، إذا تبينَّ فيه إحدى العلامتين: الأولى: إذا توقف قلبه، وتنفسه، توقفًا تاماً، وحَكَمَ الأطباء بأنَّ هذا التوقف لا رجعة بعده. الثانية: إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وَحَكَمَ الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأنَّ هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ الدماغ في التحلل، ففي هذا الحال يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على المحتضر، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب -مثلاً- لايزال يعمل آليًّا بفعل الأجهزة المذكورة. أما مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، ففي دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة في يوم السبت 24/ 2/ 1408 هـ إلى يوم الأربعاء الموافق 28/ 2/ 1408 هـ فنص قراره ما يلي: وبعد المداولة في الموضوع، نتهى المجلس إلى القرار الآتي: المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أنَّ العطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان

يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعاً إلاَّ، إذا توقف التنفس والقلب توقفاً تامًّا، بعد رفع هذه الأجهزة. وصلَّى الله وسلمَّ على نبينا محمد. قال محرره -عفا الله عنه-: ما دمنا علمنا من الأطباء أنَّ موت الدماغ هو موت حقيقي، لا رجعة بعده، وأنه إذا مَات الدماغ، مات القلب لا محالة، وإن استمرَّ نبضه وضخه بفعل أجهزة الإنعاش، فيعتبر نزع أجهزة الإنعاش عن المحتضر ليس قضاء عليه، وتعجيلاً بموته؛ لأنَّه في عداد الموتا طبيًّا، فيكون نزعها جائزاً شرعاً. البحث الثاني في الروح: قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء]. قال الدكتور الطبيب محمد بن علي البار: الروح أمر مجهول، لا نقول فيه إلاَّ أنَّه من أمر ربنا، وما أُوتي البشر من العلم إلاَّ قليلاً، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يوضح لنا متى تنفخ الروح في الجنين، وأنَّ ذلك بعد مروره في مراحل وأطوار مختلفة، حتى إذا تكونت أعضاؤه، بدأت في الجنين حركات إرادية، وترتسم على وجهه علامات الرضا والضيق، كل ذلك يدل على نفخ الروح. قال الرازي: الروح موجود، وهو مغاير لهذه الأجسام والأعراض، ذلك أنَّ الأجسام أشياء تحدث من العناصر، أما الروح فإنَّه ليس كذلك، بل هو جوهر بسيط، مجرد يحدث بقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة] ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته نفيه؛ إنَّ أكثر حقائق الأشياء وماهيتها مجهولة. وقال ابن القيم: الصحيح أنَّ الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، فالروح جسم نوراني علوي خفيف متحرك، ينفذ في الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في العود، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في

الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكًا بهلذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وخرجت عن قبول تلك الآثار -ارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. وهذه هو الصواب، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دلَّ الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقل والفطرة. فالروح هي مناط التكليف، ومدار الأمر والنهي، والصلاح والفساد، وما الجسم إلاَّ لباس لها، وشكل ظاهر، فهي اللب والجوهر. اهـ كلامه. قال محرره -عفا الله عنه-: وهذا الارتباط بين الروح والجسد، الذي ذكره العلامة الإمام ابن القيم يشير إليه الحديث الشريف الذي معنا. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الروح إذا قبض، اتبعه البصر" فشق بصر الميت، وسبحان المحيط علمه بكل شيء. فقوله: " إذا قبض"، قوله: "اتبعه البصر" -دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الروح جسم، فالقبض لا يكون إلاَّ لجسم، والبصر لا يتبع إلاَّ شيئاً مرئيًّا، هو الجسم. وقال الدكتور حسن الشرقاوي: ويخلط علماء الروح الحديث خلطاً شديداً، فيندفعون في دعاواهم الزائفة، فيستجلبون أجساماً عن طريق الوسطاء، زاعمين أنَّهم أحضروا الروح، ويستخدمون لذلك وسائل مادية. ويمكن القول بأنَّ هذا النوع من الاتصال يتم بين الإنس والجن، وليس للروح أي علاقة بهذه التجارب المادية؛ لأنَّ الروح من اختصاص الله، وليست في مقدور الإنسان، ومهما تقدم العلم، فإنه سيظل عاجزاً عن إدراك كُنْهِ الروح، وأصحاب هذه التجارب خلطوا بين عالم الجن وعالم الروح، فتجاربهم نوع من العبث، والله أعلم. ***

440 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حِيْنَ تُوُفِّيَ، سُجِّي بِبردِ حِبَرَةَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سُجِّيَ: بضم السين -مبني للمجهول- وبعد السين جيم معجمة تحتية، بمعنى: غطي. - بُرد: -بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة ثم دال مهملة-: كساء له أعلام، جمعه: أبراد وبرد. - حِبَرَة: -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث-: ثوب من قطن أو كتان، مخطط يصنع باليمن. يقال: برد حبير، وبرد حِبرة، على الوصف والإضافة، والجمع: حُبُر وحُبرات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تغطية جسد الميت كله، فهو أفضل من بقائه مكشوف الوجه والأطراف، فالإنسان بعد وفاته عورة، يستحب مواراتها قبل الدفن بالتسجية بما يخفى سوأتها؛ قال تعالى حكاية عن ابن آدم: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31]، والسوأة: الجيفة. 2 - قال النووي: إنَّ هذه التسجية مجمع عليها، وحكمة ذلك صيانة الميت عن الانكشاف، وستر صورته -المتغيرة بوفاته- عن الأعين. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5814)، مسلم (942).

441 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أَنَّ أَبَا بكْرٍ الصِّدِّيقَ. -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبَّل النَّبِيَّ بعْدَ مَوْتهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز تقبيل الميت لمن يجوز له تقبيله في حال الحياة، والنظر إلى وجهه. 2 - شدة محبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وثباته عند وفاته، مع أنَّه أشد الصحابة مصيبة بوفاته وفَقْده، قال كثير من المؤرخين: إنَّ سبب وفاة أبي بكر؛ كمدٌ على فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-. 3 - قصة أبي بكر عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وثباته وتهدئته المسلمين في تلك الساعة الصعبة الشديدة، ورباطه جأشه، وخطبته ينعي النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، ويعزِّيهم ويثبتهم -أمرٌ مشهور، وموقفٌ فريدٌ، لا يقفه إلاَّ أولو العزم من الرجال، فرضي الله عنه وأرضاه. ***

442 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَفْسُ المُؤْمنُ مُعَلَّقَةٌ بدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمذِيُّ وَحَسَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال صاحب "المحرر": رواه أحمد وابن ماجه (2415) وأبو يعلى (10/ 418)، والترمذي وحسنه. قال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، إلاَّ عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فهو صدوق يخطىء، وقد تابعه الزهري عن أبي سلمة عن ابن حبان في صحيحه، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، كما صححه ابن حبان وأبو نعيم. * مفردات الحديث: - نفْس المؤمن: قال ابن القيم: مذهب جمهور العلماء: أنَّ النفس والروح مسماهما واحد، وأنَّ الفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات، وأنَّ الروح جسم نوراني خفيف، يسري في الأعضاء سريان الماء في العود، والدهن في الزيتون، فإذا فارقها وانفصل عنها إلى عالم الأرواح، فسدت تلك الأعضاء. - معلقة بدَينه: أي: محبوسة ومرهونة، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر]. - بدَيْنه: بفتح الدال، والدَّين: كل ما يجب على الشخص أداؤه. - حتى يُقضى عنه: "حتى" للغاية، فلا يزال الرهن قائماً، حتى قضاء الدين عن الميت. ¬

_ (¬1) أحمد (10221)، الترمذي (1079).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على التشديد في أمر الدَّيْن، وأنَّ نفس المؤمن مرهونة به حتى يُقضى عنه، ومعنى "رهنها" حبسها عن مقامها الكريم؛ كما جاء في الحديث: "إنَّ صاحبكم محتبس على باب الجنة في دَيْن عليه، حتى يقضيه عنه وارث" ونحوه. 2 - الحكمة في هذا: أنَّ حقوق الآدميين مبنية على الشح، وعدم السماح فيها. 3 - جاء من التشديد فيها: ما رواه الإمام أحمد (13745) وأبو داود (3343) والنسائي (1962) عن جابر قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأُتي بميت، فسأل: أعليه دينٌ؟ قالوا: نعم عليه ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلَّى عليه، فلما فتح الله على رسوله، قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديْناً فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته". 4 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين، فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة. 5 - قال في "الدليل وشرحه": وتكفر الشهادة جميع الذنوب سوى الدين، قال الشيخ تقي الدين: وكذا مظالم العباد. وذلك لما روى مسلم (1886) عن ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يغفر الله للشهيد كل ذنب، إلاَّ الدَّين". 6 - يجب المبادرة بقضاء دين الميت إنَّ وجد له تركة، فإنَّ ذمته لا تزال مشغولة بديْنه بعد موته، حتى يُقْضى عنهُ. 7 - إذا كان الأمر في الدين المأخوذ برضا صاحبه، وعن طريق المعاملة المباحة هكذا -فكيف يكون بما أُخذ غصباً، ونهباً، وسلبًا، ونحوها؟! 8 - تجب المبادرة في قضاء دين الميت، فإن تعذر قضاؤه في الحال، استُحب

لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، ويصح ضمان الدين عنه؛ لقصة أبي قتادة لما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دينه، فصلَّى عليه"، إلاَّ أنَّ ذمة الميت لا تبرأ قبل قضاء دينه؛ لحديث الباب، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- لما قال أبو قتادة: قد قضيتها، قال: "الآن برَّدت عليه جلده". على أن دين الميت إذا كان برهن أو بكفيل، خف حمله عن الميت، فإنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وقد تحمل أبو قتادة دين الميت، فصلَّى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. 9 - الدين الذي يكون الميت مرتهنًا به يشمل ديون الناس الخاصة، من ثمنٍ مبيعٍ، وأجرة، وقرض، وغصب، وعارية، وصداق، ودية، وغيرها، كما يشمل حقوق الله من الزكاة، والحج، والنذر، والكفارة، فقد جاء في صحيح البخاري (1953): "دين الله أحق بالوفاء"، ويقدم الدَّين على الوصيَّة بإجماع العلماء. 10 - فمعنى تعليق النفس بالدين هو مطالبتها بما عليها، وحبسها عن مقامها حتى يُقضى عنه. والمراد بالنفس في هذا الحديث هو: الروح، التي فارقت البدن بعد الحياة، لما روى الإمام أحمد (19616) من حديث سمرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه"، ففيه الحث على الإسراع في قضائه. ***

443 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ في الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بماء وسدرٍ: متعلق بقوله: "اغسلوه". - سِدْرٍ: -بِكسر السين وسكون الدال المهملة آخره راء-: هو شجر النبق، واحده: "سدرة". - ثوبيه: مثنى "ثوب"، والمراد بهما: ثوبي الإحرام اللذين عليه، وهما: الإزار والرداء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بينما رجل من الصحابة واقف بعرفة على راحلته في حجة الوداع محرَّمَاً، فسقط منها، فانكسرت عنقه ومات، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغسلوه، ويكفِّنوه في ثوبيه اللَّذين أحرم بهما، والثوبان هما: الرداء والإزار. 2 - في بعض ألفاظ الحديث: "ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". ومعنى: "لا تحنطوه"؛ أي: لا تطيبوه، ومعنى: "لا تخمروا رأسه"؛ أي: تغطوه؛ لأن الطيب ممنوع على المحرم، وكذا تغطية الرأس للذكر المحرم. 3 - استحباب الإسراع في تجهيز الميت إذا لم يكن الموت فجأة، فلابد من ¬

_ (¬1) البخاري (1265)، مسلم (1206).

التحقق من وفاته، أو يكون في تأخيره مصلحة من كثرة المصلين، أو حضور قريب ونحو ذلك. 4 - وجوب تغسيل الميت بالماء، وأنَّ الغسل فرض كفاية، وليس بفرض عين، والفرق بينهما: انَّ فرض الكفاية المقصود منه حصول ذلك الشيء، أما فرض العين فهو مطلوب من كل شخص، وهو قول جمهور العلماء، ولم تخالف في وجوبه إلاَّ المالكية الذين يرون سنيته. 5 - استحباب العناية بنظافة الميت وتنقيته؛ إذ أمرهم أن يجعلوا مع الماء سدرًا، وذلك بأن يدق السدر ويخلط بالماء، فيغسل برغوته رأسه، وبثُفْله بقية جسده، فهو مادة منقيَّة ومصلّبة للجسم، فلا يسرع إليه الفساد. 6 - إذا تغيَّر الماء بالطاهرات، فلا يخرج عن أصل خلقته من بقاء طهوريته، وأنَّه طاهر بذاته، مطهِّر لغيره. 7 - وجوب تكفين الميت، وأنَّ الكفن ومؤن التجهيز مقدمة على سائر ما يجب في التركة من حقوق، وهي الدين والوصية والإرث، فهي كنفقة الحي، مقدمة على سائر الحقوق أيضًا. 8 - تحريم تغطية رأس الميت المُحرِم إذا كان ذكرًا، وتحريم تغطيه وجه الأنثى الميتة المُحرمة. 9 - قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أنَّ المُحرِم إذا مَاتَ يبقى في حقه حكم الإحرام؛ وهو مذهب الشافعي وأحمد. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك وهو مقتضى القياس؛ لانقطاع العبادة، وزوال محل التكليف، ولكن النص مقدم على القياس. 10 - تحريم الطيب على المحرم، حيًّا كان أو ميتاً، ذكراً أو أنثى؛ لأنَّه ترفُّهٌ منافٍ للإحرام. 11 - أن المحرم لا يحرم عليه مباشرة الأشياء المنقية، التي ليس فيها طيب، من

سدرٍ، وأشنانٍ، وصابونٍ، وغيرها. 12 - جواز الاقتصار في الكفن على الإزار والرداء، وبهذا يُعلمُ أنَّه يكفي للميت لفافةٌ واحدة. 13 - من مات وهو محرم، فعمله لا ينقطع إلى يوم القيامة، حين يبعث عليه. 14 - أنَّ من شرع في عمل صالح من طلب علمٍ، أو جهادٍ، أو غيرهما، ومن نيته أن يكمله، فمات قبل ذلك -بلغت نيته الطيبة، وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة. 15 - يستفاد من ظاهر الحديث أنَّ المُحرم إذا مات لا يكمل عنه نسكه، ولو كانت فريضة، وذلك لأمرين: أولاً؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بإتمام نسكه عنه، ولا قضائه. ثانيًا: أنَّ الميت أبقي على هيئة إحرامه بكشف رأسه، وتجنبه محظورات الإحرام، مما يدل على بقاء إحرامه، ولو كان يُقْضى عنه، لأمكن قضاؤه بعد ساعات من سقوطه، ولأمكن تكفينه وتطييبه، ولكنه أخبر أنَّ هذه الحالة ستكون معه حتى يبعث عليها. 16 - جواز التكفين في الثياب الملبوسة، قال ابن الملقن: وهذا إجماع. 17 - نقل أبو داود عن الإمام أحمد: قال: في هذا الحديث خمس سننٍ: تكفين الميت في ثوبين، وأنَّ الكفن من أصل المال، ولو أتى على جميعه، وغسل الميت بالسدر في الغسلات كلها، ولا يُخمَّر رأسه، ولا يقرب طيباً إذا كان محرماً. ***

444 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "لَمَّا أرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: وَاللهِ مَا نَدْرِي نُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أمْ لاَ؟ .. " الحَديث. رواهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. أخرجه أبو داود، وابن الجارود (1362)، والحاكم (3/ 61)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأخرجه البيهقي، وأحمد بسند صحيح، وله شاهدٌ عن بريدة صححه الحاكم والذهبي. قال ابن عبد الهادي: رواته ثقات، ومنهم ابن إسحاق، وهو الإمام الصدوق، وصححه السندي، وله شواهد. * مفردات الحديث: - نُجَرِّدُ: يقال: جرد جرْدًا من باب قتل، وتجرّد من ثيابه -بالتثقيل-: نزع ثيابه من جسده، وتعريته منها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث عند أبي داود: "فلما اختلفوا، ألقى الله عليهم النوم، ثم كلمهم مكلِّمٌ من ناحية البيت -لا يدرون من هو-: اغسلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه". 2 - فيه دليل على أنَّ المستحب هو تجريد الميت عند غسله، إلاَّ أنَّه يستحب أن يكون في مكان له سقف، ولو من خيمة ونحوها. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 276)، أبو داود (3141).

3 - في الحديث أنَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصية ليست لغيره من الموتى. 4 - غسَّل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: عليُّ بن أبي طالب، وساعده عمُّه العباس، وابناه: الفضل وقثم، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنهم- وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ نساؤه". [رواهُ أَحمد (25774)]. ***

445 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ونَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: اغْسِلْنها ثَلاَثًا، أوْ خَمْسًا، أوْ أكْثَرَ مِنْ ذلِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذلِكَ، بِمَاءِ سِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيْرَةِ كَافُورًا، أوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ، فَلَمَّا فَرَغْنا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أشعِرنَهَا إِيَّاهُ". مُتَّفَقٌ عَليهِ. وَفِي رِوَايَةِ: "ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". وَفِي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ: "فَضَفَّرْنَا شَعَرَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نُغَسِّلُ: -بضم النون وتشديد السين-: من غسَّل يغسل تغسيلاً. - ابنته: هي: زَينب على المشهور، أكبر بناته، زوج أبي العاص بن الربيع، ووفاتها في سنة ثمان من الهجرة. - إنْ رَأيتُنَّ ذلِكَ: أَيْ: إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث، أو خمس غسلات، وهو تخيير مصلحة، والرؤية هنا علمية. - سدر: واحده: "سدرة"، وهو شجر النبق، له خاصيَّة في تصليب الجسم. - كافور: شجر من الفصيلة الغارية، والمراد هنا به: المادة المتخذة من هذه الشجرة بلون البلور الأبيض، لها رائحة عطرية، وطعم، من خواصه أنَّه يطرد الهوام عن الميت. ¬

_ (¬1) البخاري (167، 1253، 1263)، مسلم (939).

- شيئًا من كافور: شكٌّ من الراوي أي اللفظين قال. و"شيئًا" نكرة في سياق الإثبات، فصدق بكل شيء منه. - آذنَّاه: بهمزة ممدودة في أوله، ثم ذال معجمة، ثم نون مشددة؛ أي: أعلمناه. - حقوه: بفتح الحاء وكسرها وسكون القاف والحقو في الأصل: معقد الإزار؛ وأطلق على الإزار مجازًا. - أشعرْنَها: الشعار هو: الثوب الذي يلي الجسد؛ أي: اجعلنه شعارها، الذي يلي جسدها. - ابدأْنَ: بلفظ خطاب جمع المؤنث. - بميامنها: جمع "ميمنة". - فضفَّرنَا: بالضاد المعجمة وتخفيف الفاء من: الضفر، وهو نسج الشعر عريضاً. - ثلاثة قرون: انتصاب "ثلاثة"، يجوز أن يكون بنزع الخافض؛ أي: في ثلاثة قرون. - القرون: جمع: القرن، وهو الضفيرة من الشعر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه المتوفاة هي زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أرشد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غاسلاتها، وفيهن أم عطية إلى صفة الغسل الشرعي الكامل؛ لتُنْقل من هذه الحياة طاهرة نقية. 2 - وجوب غسل الميت، وأنه فرض كفاية عند الجمهور، وعند المالكية سنة، وهو قول مرجوح. وإذا عدم الماء، فعند كثير من الفقهاء أنَّ الميت يُيمم، واختار شيخ الإسلام، أنَّه لا يشرع؛ لأنَّه لا يحصل منه نظافة حسية، وهي المرادة. 3 - الواجب: أنَّه لا يُغسِّل المرأة إلاَّ جنس النساء، وبالعكس، إلاَّ ما استثني من

تغسيل المرأة زوجها، والأمة سيدها والعكس، فلكل منهما غسل صاحبه. 4 - يجوز لرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط، ذكراً أو أنثى؛ لأنَّ عورته لا حكم لها في حياته، فكذا بعد مماته. ولأنَّ إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- غسَّله النساء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أنَّ المرأة تغسل الصبي الصغير من غير سترة، وتمس عورته، وتنظر إليها. 5 - الواجب غسل الميت مرَّة واحدة، ولكنه يكره الاقتصار عليها، إن لم يخرج منه شيء، فإن خرج شيء حرم الاقتصار، ما دام الخارج لم ينقطع إلى سبع غسلات، والمستحب مع عدم الخارج ثلاث غسلات، وهو سنة إجماعاً. 6 - الأفضل أن يقطع الغاسل غسلاته على وتر: ثلاث، أو خمسى، أو سبع. 7 - أن يكون مع الماء سدر؛ لأنَّه ينقِّي الجسد ويصلبه. 8 - أنَّ الماء المتغير بالطاهر باقٍ على طهوريته. 9 - الشارع الحكيم أرجع الأمر بالزيادة إلى نظر الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة، لا التشهي، قال بعض العلماء: الأولى عدم الزيادة على السبع، ولكن الحديث بخلاف ذلك، فالأولى حمل كلامهم على أنَّه لم يبلغهم الخبر. 10 - أن يُطيَّب الميت مع آخر غسلة من غسلاته؛ لئلا يجري الطيب مع الماء. 11 - البداءة بغسل الأعضاء الشريفة، وهي الميامن وأعضاء الوضوء، وهي الوجه واليدان والرأس والرجلان، وليس بين الأمرين تنافٍ وإلاَّ كانت البداءة بمواضع الوضوء، وبالميامن معاً. 12 - ضفر الشعر ضفائر، وجعله خلف الميت، ذكراً أو أنثى، ولا يسرحه؛ لئلا يقطعه، وهذا الضفر ليس بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن فعلنه الضافرات بعلمه وإقراره. 13 - يحرم حلق رأس الميت، وشعر العانة؛ لما فيه من مس عورته، ولا يقص

شاربه، كما يحرم ختن الأقلف، وتقليم أظافره؛ لأنَّ أجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بذلك، ولم يصح عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه في هذا شيء. 14 - التبرك بآثار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أمر خاص به، فلا يتعداه إلى غيره من العلماء والصالحين ونحوهم؛ لأمور كثيرة: أولاً: إنَّ هذا أمر لا يلحقه أحد فيه؛ لما بينه وبين غيره من البَوْن الشاسع. ثانياً: إنَّ هذه الأمور أمور توقيفية، لا تفعل إلاَّ بشرع، ولا يوجد من الأدلة ما يُعَدِّيها إلى غيره -صلى الله عليه وسلم-. ثالثاً: إنَّ الصحابة يعلمون أبا بكر أفضل الأمة، ولم يَرِد أنَّهم فعلوا معه ما كانوا يفعلونه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من التسابق على ماء وضوئه ونحوه. رابعاً: أنَّه فتنة لمن تُبُرِّك به، وطريق إلى تعظيمه نفسه، الذي فيه هلاكه. 15 - يجب على الغاسل ستر ما رآه من الميت، إنَّ لم يكن حسنًا؛ لما رواه الإمام أحمد (24360)، عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غسَّل ميتًا، وأدى فيه الأمانة، ولم ينشر عيبه -خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، ولما روى مسلم (2699) عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة". 16 - جواز العمل برأي المرأة فيما هو متعلق بشؤون النساء؛ لقوله: "إنَّ رأيتنَّ ذلك". 17 - قبول قول أهل الخبرة والمعرفة فيما هو من اختصاص أعمالهم ومهنتهم. 18 - قال ابن الملقن: فيه جواز تكفين المرأة، بثوب الرجل. ***

446 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في ثَلاثَةِ أثْوَابٍ بيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بيض: -بكسر الباء-: جمع "أبيض". - سَحُولية: -بفتح السين المهملة على الأشهر-: هي ثياب بيض نقية، تنسج في بلدة في اليمن تسمى سحول -وزن رسول- وسحولية صفة الأثواب. - كُرسف: -بضم الكاف وسكون الراء وضم السين المهملة آخر فاء موحدة-: هو القطن. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1274)، مسلم (941).

447 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنُهُ فيهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاه". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). 448 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البيَاضَ، فَإنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ". روَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسائِيَّ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، إلاَّ النسائي، وللحديث شواهد: 1 - حديث عمران بن حصين، رواه الطبراني في "الكبير" (18/ 225). 2 - حديث أنس عند ابن أبي حاتم والبزار، "مجمع الزوائد" (5/ 128). 3 - حديث سمرة عند أصحاب السنن غير أبي داود، والحاكم. 4 - حديث أبي الدرداء عند ابن ماجه (1474). وقد صحح الحديث جماعة من الأئمة منهم: أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وابن القطان، والبيهقي، والحاكم، والذهبي، والحافظ ابن حجر. قال ابن الملقن: وله شواهد كثيرة مقبولة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1269)، مسلم (2400). (¬2) أحمد (3027)، أبو داود (4061)، الترمذي (994)، ابن ماجه (3566).

449 - وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا كفَّن أحَدُكُمْ أخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كفَنَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فليُحْسِّن كفَنَه: ضبطه بعض اللغويين بفتح الحاء وإسكانها أي: "فليُحْسِنْ". قَالَ عِياض: والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث، والمراد بإحسان الكفن: نظافته وبياضه، وستره بأن يكون من جنس لباسه في الحياة. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - هذِه الأحاديث الأربعة كلها تتعلَّق بأحكام كفن الميت. 2 - فالحديث رقم (446): يدل على أنَّ الأفضل التكفين في ثلاثة أثواب بيض؛ لأنَّ الله تعالى لم يكن يختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ الأفضل، قال الإمام أحمد: أصح الأحاديث في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث عائشة؛ لأنها أعلم من غيرها، قال الترمذي: القول بأنَّه -صلى الله عليه وسلم- كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض، هو أصح ما ورد في كفنه. وقال الحاكم: تواترت الأحاديث في تكفينه -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، وهو المستحب عند جماهير العلماء. 3 - قال الفقهاء: يجب تكفين الميت من ماله، فإن لم يكن له مال فكفَنُه، على من تلزمه نفقته. 4 - صفة وضع اللفائف الثلاث؛ بأن يوضع بعضها فوق بعض، ويوضع عليها الميت، ثم يرد طرف اللفافة العليا الأيمن ثم الأيسر، ثم الباقيات هكذا ¬

_ (¬1) مسلم (943).

وتُعقد، وتُحل في القبر. 5 - يستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن، وإن كفن في قميص ومئزر ولفاقة، جاز، أما أن تجمع اللفائف الثلاث مع القميص والإزار، فإنَّ الحديث يدل على خلافه. 6 - يستحب تكفين المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن، وهي: إزار وخمار وقميص ولفافتان. 7 - يستحب أن يُكفَّن صبي في ثوب واحد، ويباح في ثلاثة أثواب. 8 - يستحب أن تكفَّن بنت صغيرة في قميص ولفافتين بلا خمار؛ لعدم احتياجها في حياتها إليه، فكذا بعد الموت. 9 - الواجب للميت مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى -ثوبٌ واحدٌ يستر جميع بدن الميت. 10 - وأما الحديث رقم (447): قصته: أن عبد الله بن أُبي ابن سَلول كبير المنافقين في المدينة المنورة، كسا العباس بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما جيء به بعد وقعة بدر أسيرًا، فكساه من ثيابه، وكان زعيمًا وكبيرًا وذا قدر عند قبيلته "الخزرج"، وكان ابنه عبد الله من صالحي الصحابة، واجتهادًا في الأمور السياسية الشرعية التي ينهجها -صلى الله عليه وسلم-، أعطى ابنه عبد الله قميصه -صلى الله عليه وسلم-، ليكفنه فيه، وصلَّى عليه وحضر دفنه، فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. 11 - فعمله -صلى الله عليه وسلم- هذا منسوخ بهذه الآية الكريمة، فقد نهاه الله تعالى أن يصلي صلاة الجنازة على منافق، أو أن يقوم على قبر أحد منهم، بعد الدفن يدعو له، وإنما يخص هذا بالمؤمنين. 12 - الحديث معارض بما جاء أنَّ عبد الله بن أبي أُدخل قبره، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإخراجه، وألبسه قميصه، [رواه البخاري (1285) ومسلم (2773)]،

ووجهه: أنَّه لعله كان قد وعد أولاً، فتأخر عنه بالإعطاء. 13 - عبد الله بن عبد الله بن أُبي من خيار الصحابة -رضي الله عنه- فهل موالاته لأبيه كبير المنافقين، وطلبه قميص النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكفن فيه أباه مَمنوعة بمثل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}؟ [المجادلة: 22]. والجواب: أن عمل عبد الله بأبيه تمليه المحبة الطبعية، والفطرة من أجل القرابة، وليست هذه موالاة؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، كما حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفاة عمه أبي طالب على الكفر؛ لمحبته إياه. 14 - أما الحديث رقم (448): فيدل على: استحباب لبس الثياب البيض في حال الحياة، وعلى تكفين الموتى بالقطن الأبيض. وعلل ذلك بأنَّ الأبيض خير ثيابكم، فعليه تطمين نفس الإنسان أنَّ ما عمله هو خير ما يمكن عمله، وذلك بمعرفته الحكمة من الحُكم، وفيه استحباب الأبيض، وهو مجمع عليه، وهو عمل الصحابة ومَن بعدهم، وما كان الله تعالى يستحب إلاَّ ما فيه المصلحة. 15 - كما يدل الحديث على أنَّ القريب يجب عليه كفن قريبه، فتكفين الميت فرض كفاية، وهو بحق القريب ألزم. 16 - أما الحديث رقم (449) ففيه الأمر بإحسان الكفن؛ وذلك باختيار ما كان أحسن في الذات بأن يكون جديداً، وفي الصفة بأن يكون أبيض، وفي كيفية وضع الكفن، بأن يوضع على الميت وضعاً حسناً، حسب التكفين الشرعي المذكور. ***

450 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يجْمَعُ بَينَ الرَّجُلَيْن مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أيَّهُمْ أكثَرُ أَخْذًا للقُرْآنِ، فَيقدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قتلى: جمع: "قتيل"، بمعنى مقتول. - أُحُد: -بضمتين، مجرور بالإضافة-: جبل معروف شمالي المدينة المنورة، والآن حي من أحيائها، ومعركة أُحُد وقعت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وفيها قتل سبعون رجلاً من الصحابة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يحرم أن يدفن اثنان فأكثر معًا في قبر واحدة؛ لأنَّه-صلى الله عليه وسلم- كان يدفن كل ميت في قبر، وهكذا استمر عمل الصحابة، ومَن بعدهم من السلف والخلف، لا ينازع في ذلك منازع. 2 - جواز دفن الاثنين فأكثر في قبر واحد عند الضرورة، ومن الضرورة كثرة الموتى؛ لوباء عام، أو كثرة قتلى في معركة، ووجود المشقة في جعل كل واحد في قبر وحده، فإذا وجدت الضرورة، جاز ذلك؛ فإنَّ الضرورات تبيح المحظورات؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقد وجدت الضرورة في قتلى أُحد؛ لكثرة القتلى، وصلابة الأرض، ووهن في الصحابة بعد المعركة. ¬

_ (¬1) البخاري (1343).

3 - إذا وجدت الضرورة المبيحة للدفن الجماعي، فليُقدَّم في اللحد أكثرهم أخذًا للقرآن، فهو المستحق للتقديم؛ لأنَّه أفضل وأولى بالإكرام والتشريف. 4 - دلَّ ذلك على أنَّ العلم بكتاب الله يرفع مقام الإنسان، ويُعلى مرتبته إذا قصد بعلمه به وجه الله والدار الآخرة، فالفضل مقاسه العلم النافع، وهو مقياس صحيح، فالآخرة خير وأبقى. 5 - أنَّ الشَّهيد لا يُغَسَّلُ ليبقى دمه عليه، فلا يذهب أثر الجهاد والشهادة عنه، فهي مفخرة يوم القيامة على رؤوس الخلائق، إذا جاء بجروحه التي تثعب مسكاً بلون الدم، ولا يُصلى عليه؛ لأنَّ الصلاة شفاعة له لتكفير ذنوبه، وقد كفرت الشهادة ذنوبه وطهَّرته، فهو في غنى عنها بفضل ربه، ومنَّته عليه. 6 - جاء في صحيح البخاري (1343) من حديث جابر: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر في شهداء أحد بدفنهم بدمائهم، ولم يغسَّلوا، ولم يصل عليهم". قال الشافعي: لعل الحكمة في ترك الغسل والصلاة؛ لأن يلقوا ربهم بكُلومهم، واستغْنَوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم. قال إمام الجرمين: معتمدنا الأحاديث الصحيحة في أنَّهم لم يغسَّلوا، ولم يصل عليهم. 7 - اختلف العلماء في حكم تغسيل مَن قُتل ظلمًا: فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يغسل، ولا يصلى عليه. قال في "شرح الإقناع": "ومن قتل ظلمًا في غير حرب، ألحق بشهيد المعركة، في أنَّه لا يغسل، ولا يصلى عليه". لما روى أبو داود (4772)، والترمذي (1421) من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد"، ولأنَّهم مقتولون بغير حق، أشبهوا قتلى الكفار فلا يغسلون. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: يغسَّل، ويصلى عليه، وهي

مذهب مالك والشافعي؛ لأنَّ مرتبته دون مرتبة الشهيد، فمرتبة المجاهد في سبيل الله لمعرض نفسه للقتل لإعلاء كلمة الله لا -تساويها مرتبة أخرى، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران] فإلحاق غيرهم بهم في الأحكام الظاهرة غير وجيه، والحديث الذي استدل به على إلحاقه لا يدل على هذا. 8 - أباح العلماء الدفن في القبر الواحد بعد بلاء الميت الأول بأن يصير ترابًا، ويكفي الظن في ذلك، ويُرجع إلى أهل الخبرة في تلك الناحية التي فيها المقبرة، أما أن يدفن قبل بلاه فلا يجوز؛ فإنَّ للميت حرمة في قبره كحرمة الحي في بيته؛ قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات] أحياء في الدور، وأمواتًا في القبور. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: القبور رحمة في حقهم، وستر لهم عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: لا يجوز نبش القبور؛ لأنَّ هذا إهانة للموتى، ومعلوم أنَّ لهم حرمة، وقد سبقوا إلى هذا الموضع، وصار لهم دارًا، فالقبور منازلهم. 9 - قال شيخ الإسلام: قد صحَّ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "الغريق، والحريق، والمبطون، والنفساء، وصاحب الهدم -شهداء" [رواه أحمد (23241) وأبوداود (3111)]، وذكر في الإقناع وغيره: أنَّ الشهداء غير شهيد المعركة كثيرون، ذكر منهم: ذات الجنب، والمبطون، والمطعون، واللديغ، وفريس السبع، والمتردي، ومن خرَّ من دابته، ومن طلب الشهادة، والمرابط، ومن قُتل دون نفسه أو أهله أو ماله، فهؤلاء شهداء في ثواب الآخرة، لا في أحكام الغسل والصلاة. قال في "الشرح الكبير": لا نعلم فيه خلافًا. وقال ابن القيم: يغسَّلون، ويصلى عليهم بلا نزاع.

451 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ تَغَالَوا فِي الكَفَنِ؛ فَإنَّهُ يُسْلَبَ سَرِيْعًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفُ الإسناد. قال في "التلخيص": رواه أبو داود وفي الإسناد عمرو بن هاشم الجنبي، مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وبين علي بن أبي طالب؛ لأنَّ الدارقطني قال: إنَّه لم يسمع من علي سوى حديث واحد، وقد حسَّنه المنذري والنووي. وفي صحيح مسلم (143)، عن جابر: "إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه". * مفردات الحديث: - لا تغالوا: من: التغالي، والمغالاة -بحذف إحدى التاءين: الإسراف وزيادة الثمن. - يُسلب: مبني للمجهول، كناية عن بلاه وتلفه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المستحب أن يكون الكفن من الثياب البيض القطن العادية، وألا يكفن الميت مهما كانت منزلته من الثياب الفاخرة، والملابس الغالية، كما أنَّه لا يزاد في الكفن الشرعي، ولكل نوع من الموتى قدر معلوم في الكفن. 2 - الكفن يبلى وتأكله الأرض سريعًا؛ فلا معنى للمغالاة فيه، واختياره من الألبسة الرفيعة الشهيرة؛ فإنَّ هذا يدخل في باب السرف والخيلاء، المنهي عنهما، لاسيما في هذا الموطن، الذي استوى فيه الغني والفقير، والشريف والوضيع، فهذا أول منازل الآخرة وعدلها، والله المستعان. ¬

_ (¬1) أبو داود (3154).

452 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "لَوْ مُتِّ قَبْلِي، لَغَسَّلْتك ... " الحديث. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال في "التلخيص": رواه أحمد، والدارمي (1/ 51)، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني (2/ 74)، والبيهقي (3/ 396) من حديث عائشة، وقد أعله البيهقي بابن إسحاق؛ بأنَّه عنعنه وانفرد به، ولكنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه صالح بن كيسان عند أحمد والنسائي، وسند الحديث على شرط الشيخين. وقد مال ابن الجوزي إلى تصحيحه. ... ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 228)، ابن ماجه (1465)، ابن حبان (14/ 551).

453 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أوْصَتْ أنْ يُغَسِّلَهَا عَلَيٌّ رضِيَ اللهُ عَنْهُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيٌّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: هذا أثر حسنٌ. قال في "التلخيص": رواه البيهقي من جه آخر، وإسناده حسن، وقد احتج به أحمد، وابن المنذر، ورجاله ثقات معروفون، وأخرجه الحاكم، وحسَّنه ابن حجر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يحرم على الرجل أن يغسِّل المرأة، ويحرم على المرأة أن تغسل الرجل؛ ولو كان الرجل مَحْرماً للمرأة، فلا يجوز أن يغسِّل الرجل أُمَّه وابنتَه وغيرهما من محارمه. قال في "المغني": هو قول أكثر أهل العلم، وأجازه مالك والشافعي عند الضرورة، واستعظمه الإمام أحمد وغيره. 2 - يستثنى من ذلك أنَّ للرجل أن يغسل زوجته وأمَته، وبنتاً دون سبع سنين، وأنَّ للمرأة أن تغسِّل زوجها وسيدها وصبيًّا دون سبع سنين. قال ابن المنذر: أجمع كل مَن نحفظ عنه من أهل العلم؛ أنَّ للمرأة أن تغسل الصبي الصغير متجرداً من غير مئزر، وتمس عورته، وتنظر إليها؛ لأنَّ عورته لا حكم لها في حياته، فكذا بعد وفاته. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 79).

3 - والحديث رقم (452): يدل على أنَّ للرجل أن يغسل زوجه. 4 - كما أن الحديث رقم (453): يدل على أن للزوج أن يغسل زوجته، وقد حكاه الإمام أحمد وابن المنذر والوزير إجماعًا. وأما غسل الرجل زوجته: فهو مذهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء، وخالف أبو حنيفة فلم يجز للزوج أن يغسل زوجه، وحجته أنَّ علاقة النكاح انقطعت بالوفاة، والمعتمد القياس على غسلها له، والقياس لا يكفي. ***

454 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فِي قِصَّةِ الغَامِدِيَّةِ الَّتِي أمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- برَجْمِهَا فِي الزِّنَا، قَالَ: ثُمَّ أمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ" رَوَا مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الغامدية: نسبة إلى قبيلة غامد من الأزد، وهي قبيلة تقيم في جنوبي المملكة العربية السعودية، وعاصمة قراها الباحة. - قصة الغامدية: إنَّها جاءت إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- واعترفت على نفسها أنَّها حبلى من الزنا، وبعد أن وضعت، وفطمَتْ ولدها رجمها، والرجم هو الرمي بالحجارة حتى الموت. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1695).

455 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مشاقص: على وزن مفاعل، من صيغ منتهى الجموع، وهو ممنوع من الصرف، والمشاقص -جمع "مِشقص"-: نصلٌ عريضٌ، والنصل: حديدة الرمح والسهم والسكين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذان الحديثان في معناهما خلاف بين العلماء، سنعرض له إن شاء الله تعالى. 2 - الحديث رقم (454): يدل على مشروعية الصلاة على المقتول حدًّا، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالصلاة على الغامدية، ودفنها مع المسلمين، فقد جاء في صحيح مسلم هذا الحديث بأطول من هذا، من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- صلَّى عليها وجاءت الروايات الأخر، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان قد صلَّى عليها بنفسه. 3 - الصلاة على الجنازة فرض كفاية إجماعًا، ويسقط الفرض بالصلاة عليه من مكلف، ذكرًا أو أنثى عند الأئمة الأربعة، وتواتر فعلها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأجمع المسلمون عليها، وهي من أجل العبادات، وفي فعلها الأجر الجزيل، قال الفاكهي: الصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة. 4 - أما الحديث رقم (455): فيدل على أنَّ من قتل نفسه، فقد ارتكب جرماً كبيرًا، فلا يصلي عليه الإمام؛ وذلك زجرًا لغيره. ¬

_ (¬1) مسلم (978).

ولكن يصلي عليه المسلمون؛ لأنَّه بعمله هذا كان من العصاة، الذين هم أحوج وأحق بشفاعة المسلمين بصلاتهم عليهم من غيرهم. 5 - قال العلماء: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتاً أوضح من شمس النهار، فلم يترك الصلاة في أيام النبوة، ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين؛ وقد قال الإمام أحمد: إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ما ترك الصلاة على أحد إلاَّ على الغال، وقاتل نفسه. 6 - قال شيخ الإسلام: من كان مظهراً للإسلام، فإنَّه يجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة: من تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، أما من عُلم منه النفاق والزندقة، فإنَّه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهرًا للإسلام. 7 - مذاهب الأئمة الأربعة: أنَّه يصلى على الفاسق، وإنما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على الغال، وقاتل نفسه؛ زجرًا للناس، وصلَّى عليهما الصحابة. قال النووي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم. قال أحمد: من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، نصلي عليه، وندفنه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا على مَن قال: لا إله إلاَّ الله". * خلاف العلماء: الصلاة على الجنازة فرض كفاية بإجماع العلماء. قال شيخ الإسلام: وفروض الكفايات إذا قام بها رجل، سقط الإثم عن الباقين، ثم إذا فعل الكل ذلك، كان الكل فرضًا، ذكره ابن عقيل محل وفاق. وصلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، زيادةً في أجر المصلين، وشفاعةً في حق الميتين. وقد اختلف العلماء في الصلاة على أصحاب معاصٍ معينةٍ: فذهب الحنفية إلى: أنَّ أربعةً لا يُصلى عليهم، وهم:

1 - البغاة: الذين خرجوا عن طاعة الإمام بغير حق. 2 - قطاع الطرق: الذين يسلبون المارة أموالهم. 3 - العصبة المتعاونة على ظلم العباد بقهرهم وغصبهم. 4 - المكابرون بالمدن والقرى بالسلاح، فهو من الحرابة وقطع الطرق. فهؤلاء يُغسَّلون، ولا يُصلى عليهم، إهانة لهم، وزجرًا لغيرهم. وذهب المالكية إلى: أنَّ الإمام لا يصلي على من قُتل في حدٍّ أو قصاصٍ. ودليلهم: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ على ماعزٍ، ولم ينه عن الصلاة عليه. وذهب الشافعية إلى: الصلاة على كل مسلم، مهما كان عصيانه وفسقه. قال النووي في "شرح المهذب": "المرجوم في الزنا، والمقتول قصاصًا، والصائل، وولد الزنا، والغال من الغنيم -يغسلون ويصلى عليهم، بلا خلاف عندنا". ودليلهم: ما ثبت في مسلم (1695): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلى على المرجوم في الزنا"، وفي البخاري (6434) من رواية جابر: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- صلَّى علن ماعز، بعد أن رجمه". قال البيهقي: القول جواز الصلاة على كل بر وفاجر، وعلى كل من قال: لا إله إلاَّ الله، وكل من خالف ذلك، فأحاديثه ضعيفة. وذهب الحنابلة إلى: الصلاة على كل مسلم عاصٍ، إلاَّ الغال من الغنيمة، وقاتل نفسه، فلا يصلي عليهما الإمام ونائبه؛ عقوبةً لهما، وزجرًا لغيرهما، ويصلي عليهما غير الإمام. أما دليلهم: فقاتل نفسه حديث الباب، وأما الغال فما رواه الإمام أحمد (21167)، وأبو داود (27101)، عن زيد بن خالد أنَّ رجلاً من جهينة قتل يوم خيبر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا على صاحبكم، فإنَّه غلَّ في سبيل الله". قال الإمام أحمد: ما نعلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ترك الصلاة على أحدٍ إلاَّ على

الغالِّ، وعلى قاتل نفسه. قال ابن القيم: وكان هديه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه لا يصلي على من قتل نفسه، ولا على الغال. ومذهب الحنابلة هو أرجح هذه الأقوال، وأحقها دليلاً، فالعصاة -على اختلافهم- هم أحق بالصلاة وشفاعة المسلمين، ولكن خصَّ هذان بالدليل، وما عداهما، فعلى أصل عموم الحكم في صلاة الجنازة، والله أعلم. ***

456 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "فِي قِصَّةِ المَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أمْرَهَا، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا، فَدَلُّوهُ فَصَلَّى علَيْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أهْلِهَا، وإنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاَتِي عَلَيْهِمْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تقُم المسجد: -بفتح حرف المضارعة وتضعيف الميم- أي: تكنس المسجد، وتخرج قمامتته وتنظفه، واسمها: خرقاء، وكنيتها: أم محجن. - أفلا كنتم: "أفلا" للاستفهام، ويحتمل أنَّه للاستيضاح، أو للإنكار، والفاء عاطفة، والمعطوف عليه محذوف، يقدر بما يناسب المقام. - آذنتموني: أعلمتموني، وأخبرتموني بموتها. - صغَّروا أمرها: من التَّصغير؛ أي: احتقروا أمرها بجانب مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-. - ظلمة: منصوب على التمييز، والظلمة: ذهاب النور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت، واستحبابه لا نزاع فيه بين العلماء؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى على هذه المرأة في قبرها. قال الإمام أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر، فهي شريعة ثابتة، لا ¬

_ (¬1) البخاري (458)، مسلم (456).

ينبغي إنكارها. قال في "سبل السلام": ويدل له أحاديث وردت في الباب عن تسعة من الصحابة، وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، فلا تنهض؛ لأنَّ دعوى الخصوصية خلاف الأصل. 2 - استحاب إعلام أقارب الميت، وأصدقائه، ومن له صلة بوفاته، وأنَّ هذا ليس من النعي المنهي عنه. 3 - فيه بيان ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- من التواضع والرفق بأمته، وتفقد أحوالهم، والقيام بحقوقهم، والاهتمام بمصالحهم في دينهم ودنياهم، فليكن قدوة لكل متولِّ أمراً من أمور المسلمين. 4 - فيه إثبات ظلمة القبور وتنويرها، وهو حق ثابت من أدلة أخر. 5 - وفيه إثبات بركته -صلى الله عليه وسلم- ودعائه، وأنَّ الله تعالى يجعله سبباً في تنوير القبور على أهلها، فالمراد بالدعاء هنا: الصلاة؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي على الموتى كلهم. 6 - فيه النهي عن احتقار المسلم مهما كانت منزلته، ووضعه بين المسلمين. 7 - وفيه فضل العناية بالمساجد وتنظيفها، قال تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ}، وجاء في حديث عرض الأعمال: "حتى القذاة يخرجها الإنسان من المسجد"، وجاء في الحديث الذي في سنن أبي داود (455)، "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظَّف وتُطيَّب". 8 - الصلاة على القبر وعلى الجنازة مستثناة من الصلاة في المقبرة، والصلاة إليها. 9 - أنَّ الدعاء ينفع الأموات في الصلاة وخارجها. 10 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع جلب نفع، ولا دفع ضر لأحد، ولو كان يملك شيئًا من الأمر، لنفعهم بلا دعاء، ولكن الله تعالى يكرمه، فيقبل دعاءه لمن أراد إسعاده من خلقه.

11 - إثبات الأسباب، ومن أهم الأسباب الدعاء، لاسيَّما المستكمل لشروط قبوله واستجابة صاحبه. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على استحباب الصلاة على القبر، لمن فاتته الصلاة على الميت، واختلفوا في المدة التي تجوز فيها الصلاة: فذهب الحنفية والمالكية إلى: جواز الصلاة ما لم يتغيَّر الميت ويتفسخ، والمعتبر في معرفة التفسخ أهل الخبرة والمعرفة من غير تقدير بمدة، وذلك لاختلاف الحال والزمان والمكان. وذهب الشافعية إلى: جوازها إذا لم يَبْلَ الميت. وذهب الحنابلة إلى: تقدير المدة بشهر واحد، وتحرم الصلاة بعده. قال الإمام أحمد: أكثر ما سمعت هذا. وقال ابن القيم في "الهدي": صلَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على القبر بعد ليلة، ومرةً بعد ثلاث، ومرةً بعد شهر، ولم يوقت في ذلك وقتاً. والراجح أنَّه يحدد بما إذا كان الميت مات، وأنت أهلٌ للصلاة، ومخاطبٌ بالصلاة عليه، أما إذا مات وأنت لست من أهل الصلاة، فلا تصلِّ عليه، وإلاَّ صحَّ أن يصلي الإنسان على من ماتوا قبله بقرون. ***

457 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرمِذِيُّ وحَسَّنَهُ (¬1). 458 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِم، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعًا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (457): الحديث حسن، بل قال الترمذي: حسن صحيح، وحسَّنه الحافظ في "الفتح". * مفردات الحديث: - نعى: ينعى نعيًا، من باب نفع، فالنعي بتشديد النون، هو الإخبار بموت الشخص والإشهار به، بأن ينادي في الناس: أنَّ فلانًا مات؛ ليشهدوا جنازته. - النجاشي: بفتح النون وكسرها-: كلمة للأحباش تُسمَّى بها ملُوكها، اسمه: أصْحَمة -بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء- ابن أبحر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (457): فيه النَّهي عن النعي الذي كان يفعله أهل الجاهلية، من أنَّه إذا مات فيهم شريف، بعثوا راكبًا ينادي في القبائل، فينعاه إليهم، فهذا هو المنهي عنه المحرم. ¬

_ (¬1) أحمد (22945)، الترمذي (986). (¬2) البخاري (1245)، مسلم (951).

2 - أما الحديث رقم (458): ففيه استحباب إعلام أهل الميت وأقاربه، ومن له به صلة؛ ليشهدوا جنازته، والصلاة عليه ودفنه، فهذا مستحبٌّ، ولا يتناوله النهي عن النعي. 3 - جمع المؤلف هذين الحديثين في موضع واحد في غاية الحسن، وكذلك هو يفعل -رحمه الله تعالى- في كثير من الأحاديث، الذي فيها نوع تعارض؛ ليعلم حكم هذا من هذا. 4 - يدل الحديث رقم (458): على مشروعية الصلاة على الغائب، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. 5 - جواز الصلاة على الجنازة في مصلى العيد، إذا كان الجمع كبيرًا. 6 - التكبير في صلاة الجنازة أربعاً، ويأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى. 7 - فضيلة كثرة المصلين، وكونهم ثلاثة صفوف فأكثر؛ لما روى أحمد (16283)، وأبو داود (3166)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مؤمن يموت، فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف -إلاَّ غفر". 8 - هذه المنقبة والفضيلة للنجاشي -رضي الله عنه- ذلك أنَّ جبريل نزل من عند الله تعالى وبأمره، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوفاته وهو في بلاده، وأمره بنعيه إلى المسلمين والصلاة عليه، والنجاشي له يدٌ كريمةٌ وكبيرة على المسلمين المهاجرين الأولين، حينما هاجروا إليه هربًا من أذية قريش، فآواهم وأنزلهم بلاده، ومنعهم من أذية قريش لهم، ثم قاده حسن نيته، وطلبه الحق أن أسلم، وصار من أنصار دينه، فلإحسانه إلى المسلمين وكِبر مقامه، وكونه بأرض لم يصلَّ عليه فيها- أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بموته، وخرج بهم إلى المصلى، فصلَّى عليه.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في الصلاة على الغائب: فذهب أبو حنيفة ومالك وأتباعهما إلى: أنَّها لا تشرع. وجوابهم على قصة النجاشي والصلاة عليه-: أنَّ هذه من خصوصيات النبي -صلى الله عليه وسلم-. وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما إلى: أنَّها مشروعة؛ لهذين الحديثين الصحيحين، والخصوصية تحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل عليها. وتوسط شيخ الإسلام، فقال: إن كان الغائب لم يصلَّ عليه -مثل النجاشي- صُلِّي عليه، وإن كان قد صلِي عليه، فقد سقط فرض الكفاية من المسلمين. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وصحَّحه ابن القيم في "الهدي"؛ لأنَّه توفي زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أناس من أصحابه غائبين، ولم يثبت أنَّه صلى على أحد منهم صلاة الغائب، فالصلاة هنا واجبة. ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنَّه قال: إذا مات رجلٌ صالحٌ، صلي عليه، واحتج بقصة النجاشي. ورجح هذا التفصيل شيخنا الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- وعليه العمل في نجد؛ فإنَّهم يصلون على من له فضل وسابقه ... على المسلمين، ويتركون من عداه، والصلاة هنا مستحبة. قال ابن القيم: أصح الأقوال هذا التفصيل. ***

459 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَتقُومُ عَلَى جَنَازَتهِ أرْبَعُونَ رَجُلاً -لاَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً- إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ". روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جنازته: -بفتح الجيم-: اسم للميت المحمول وبكسرها: اسم للنعش الذي يُحمل عليه الميت، وقيل عكس ذلك، واشتقاق الجنازة من "جنز"، إذا ستر، قاله ابن فارس وغيره، ومضارعه "يُجنِز" بكسر النون، وجمع الجنازة: جنائز. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصلاة على الجنازة شفاعة من المصلين للميت، فكلما كثر عدد المصلين كان أفضل؛ ليكثر الدعاء والترحم والاستغفار للميت. 2 - فضيلة وجود أربعين رجلاً من المسلمين يصلون على الميت، ويشفعون فيه؛ ليتحقق هذا المطلب الثمين من الله تعالى، فيقبل دعاءهم فيه، ويشفعهم فيه. 3 - فضيلة توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والبُعد عن الشرك ووسائله، التي منها الغلو بالمخلوقين. وإن خالص التوحيد سبب قوي في استجابة الدعاء، فإنَّ إخلاص التوحيد حسنة لا يعدلها حسنة، كما أنَّ الشرك ظلم عظيم، أعاذنا الله منه. 4 - تسن صلاة الجنازة جماعة، بإجماع المسلمين؛ لفعله -صلى الله عليه وسلم-، وفعل صحابته من بعده، واستمرار عمل المسلمين على ذلك. 5 - "لا يشركون بالله" المراد به: الشرك الأكبر والشرك الأصغر؛ لأن المشركين ¬

_ (¬1) مسلم (948).

شركًا أكبر لا تصح صلاتهم، فالمراد: الشرك الأصغرة فإنَّ "شيئًا" نكرة جاءت في سياق النفي، فتعم القليل والكثير، فيشمل الأكبر والأصغر؛ لأنَّ الشافع لابد أن يكون سالمًا من الشوائب التي تخل بعقيدته، وهذا يدل على عظم الشرك: كبيره وصغيره. 6 - يسن ألا تنقص صلاة الجماعة على الميت عن ثلاثة صفوف، ولو كان المأمومون ستة أشخاص؛ لِما روى ابن بطة عن أبي أمامة: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ شهد جنازة وهو سابع سبعة، فأمرهم أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه، فصفَّ ثلاثة واثنان وواحد خلف الصف، فصلَّى على الميت، ثم انصرف". ولما روى الترمذي (1028)، والحاكم (1/ 516)، وصححه عن مالك ابن هبيرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلَّى عليه ثلاثة صفوف من الناس، فقد أوجب". 7 - لابد أن يكون المصلَّى عليه مسلمًا، فالكافر لا تقبل فيه الشفاعة، والدعاء له بالمغفرة اعتداء وظلم في الدعاء، قال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر] أما ذكر الرجل هنا، فهو من باب التغليب في الألفاظ، وإلاَّ فإنَّ الحكم للرجل والمرأة. ***

460 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى امْرَأةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - امرأة: تلك المرأة هي: أم كعب الأنصارية. - ماتت في نِفاسها: "في" يحتمل أن تكون ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، وكون المرأة في نفاسها وصف غير معتبر اتفاقًا، وأما وصف كونها امرأة فهو معتبر عند الأكثر. - وَسَطها: بالتحريك، أي: قام محاذيًا لوسطها، أما بالسكون فهو بمعنى: "بين"؛ نحو: جلست وَسْط القوم؛ أي: بينهم، والمراد الأول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يستحب أن يقف الإمام من المرأة -عند الصلاة عليها- في وسطها أمام عجيزتها، هذا هو المستحب، وإلاَّ فالواجب استقبال جزء من الميت، رجلاً كان أو امرأة، ووصف المرأة هنا بأنها ماتت في نفاسها لا عبرة له في موقف الإمام. 2 - أنَّ المرأة وإن عدت من الشهداء بموتها في نفاسها، فإنَّها تجري عليها الأحكام الظاهرة: من التغسيل والتكفين والصلاة، ولها أجر الشهيد، إن شاء الله تعالى، ولعل هذا المعنى هو الذي حمل الراوي على ذكر موتها في النفاس. ¬

_ (¬1) البخاري (332)، مسلم (964).

3 - علل بعض العلماء حكمة وقوف الإمام وسط المرأة:- بأنَّه أستر لها من الناس، وإلاَّ فالرأس أشرف الأعضاء وأولاها. 4 - وإذا اجتمع جنائز، فيكفيهن صلاة واحدة، فإن كانوا نوعًا واحداً، قدّم إلى الإمام أفضلهم بعلمٍ، أو تقًى، أو سنٍّ، وإن كانوا رجالاً، أو رجلاً ونساء، قدم الرجال، أو الرجل على النساء، والصلاة من المصلين على الميت شفاعة له، فينبغي إخلاص الدعاء، وحضور القلب؛ لعلَّ الله تعالى أن يقبل الدعاء والشفاعة فيه. * فائدة: موقف الإمام من جنازة الرجل أمام رأسه؛ لما روى الترمذي (1032) وحسَّنه: "أنَّ العلاء بن زياد صلَّى على رجل، فقام عند رأسه، ثمَّ صلَّى على امرأة، فقام حيال وسط السرير، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على الجنازة مقامي منها"، وهو مذهب الشافعي وأحمد. قال ابن المنذر: هو قول جماهير العلماء. ***

461 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "وَاللهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- علَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي المَسْجِدِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - والله لقد صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: في الجملة ثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، و"قد"، وإنما احتاجت إلى هذه المؤكدات؛ لأنَّه وجد من يُنكر الصلاة على الجنازة في المسجد؛ خشية تلويثه. - ابني بيضاء: هما: سهل وسهيل، أبناء وهب بن ربيعة، وأمهما: دعد بنت جحدم، من بني فهر، تلقب: البيضاء. - في المسجد: "في" تفيد الظرفية، والمسجد هو الظرف، والصلاة هي المظروف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال ابن القيم في "الهدي": لم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد، وإنما كان خارجه، وربما صلَّى عليها فيه، وكلاهما جائز. 2 - حديث الباب يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد، ولكنه يدل كما قال ابن القيم على أنَّه قليل، وأنَّ هذه الصلاة على ابْنَي بيضاء من القليل. 3 - قال في "شرح الزاد": ولا بأس في الصلاة على الميت في المسجد إن أمن تلويثه، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وقد روى ابن أبي شيبة؛ بلفظ: "إنَّ عمر صلَّى على أبي بكر في المسجد، وإن صهيباً صلَّى ¬

_ (¬1) مسلم (973).

على عمر فى المسجد". قال الخطَّابي: ومعلوم أنَّ عامة المهاجرين والأنصار شهدوا ذلك. 4 - كره الصلاة على الجنازة في المسجد أبو حنيفة ومالك، والكراهة عند الحنفية منهم من جعلها كراهة تحريم، ومنهم من جعلها كراهة تنزيه، وهذا ما رجحه الكمال ابن الهمام، وعند المالكية كراهة تنزيه. ودليلهم: ما رواه أبو داود (3191) وابن ماجه (1517) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من صلَّى على ميتٍ في المسجد، فلا شيء له"، وحسَّنه ابن القيم في "الهدي"، ولأنَّ المسجد جُعِل لأداءِ المكتوبات، ولأنَّه يحتمل تلويث المسجد. والجواب: أنَّ الحديث لا تقوم به حجة، كما نقل ذلك صاحب "نصب الراية" عن النووي وغيره، والمسجد مُعَدٌّ للعبادة، ومنها: الصلاة على الجنازة، أما التلويث فإنَّ تحقق، فالمنع مذهب الجمهور، وإن لم يتحقق فالاحتمال لا يمنع جواز الصلاة، قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يكره شيء مما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ***

462 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كانَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يُكَبِّرُ علَى جَنائزِنَا أرْبَعًا، وأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكَبِّرُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأرْبَعَةُ (¬1). وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ". رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُور، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": روى البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب: "أنَّه كبر على سهل بن حنيف"، زاد البرقاني في مستخرجه "ستًّا"، وكذا رواه البخاري في "تاريخه" وسعيد بن منصور، ووراه ابن أبي خيثمة من وجه آخر عن يزيد بن أبي الزناد عن عبد الله بن معقل: "خمسًا". وروى سعيد بن منصور من طريق الحكم بن عتيبة؛ أنَّه قال: "كانوا يكبرون علن أهل بدر خمسًا، وستًّا، وسبعًا". قال الألباني في كتاب "الجنائز": وأما الست والسبع، ففيها بعض الآثار الموقوفة، ولكنها في حكم الأحاديث المرفوعة؛ لأنَّ بعض كبار الصحابة أتى بها على مشهد من الصحابة، دون أن يعترض عليه أحد منهم: الأول: حديث عبد الله بن معقل: "أنَّ علِيًّا صلى على سهل بن حنيف، فكبَّر عليه ستًّا". ¬

_ (¬1) مسلم (957)، أبو داود (3197)، الترمذي (1023)، النسائي (1982)، ابن ماجه (1505). (¬2) البخاري (4004).

الثاني: عن عبد خير: "كان علي يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمساً، وعلى سائر الناس أربعًا". أخرجه الطحاوي والدارقطني (2/ 73) والبيهقي (4/ 36) وسنده صحيح، ورجاله ثقات كلهم. الثالث: عن موسى بن عبد الله بن يزيد: "أنَّ عليًّا كبَّر على أبي قتادة سبعاً وكان بدريًّا". أخرجه الطحاوي، والبيهقي (4/ 36) بسند صحيح على شرط مسلم. ***

463 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أرْبَعًا، وَيَقْرأُ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فِي التَّكبِيرَةِ الأُوَلَى". رَوَاهُ الشَّافِعيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: رواه الشافعي بإسناد ضعيف؛ ذلك لأنَّ فيه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك. وقال الحافظ في "الفتح": إنَّ الشيخ ابن العربي أفاد في "شرح الترمذي" أنَّ سنده ضعيف. وعلى معنى هذا الحديث عمل المسلمين الآن. ولذا قال ابن عبد البر: انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء، وأهل الفتوى بالأمصار على أربع، على ما جاء في الأحاديث الصحاح. ... ¬

_ (¬1) الشافعي (2/ 358).

464 - وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبدِ الله بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أنَّهَا سُنَّهٌ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لتعلموا: "اللام" لام الأمر، والفعل مجزوم بها، ويجوز أن تكون للتعليل، والفعل منصوب بها. - أنَّها سنة: أي: طريقة مأخوذة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس المراد: أنَّها سنة ما يقابل الفريضة، فهذا اصطلاح حادث للفقهاء. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديث رقم (462): يدل على أنَّ التكبير في صلاة الجنازة أربع تكبيرات، وأنَّ هذا هو المتقرر عند الصحابة، إلاَّ أنَّ زيد بن أرقم زاد في إحدى صلواته تكبيرة واحدة، فلما سألوه عن هذه الزيادة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكبرها". وأما رواية سعيد بن منصور؛ أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- زاد في صلاته على سهل ابن حنيف فكبَّر ستًّا: فكأنَّهم سألوه عن ذلك، فأخبرهم أنَّ الميت من أهل بدر، وأهل بدر لهم مزية فضل على غيرهم. قال النووي: أجمعت الأمة على أنَّ التكبيرات أربع، بلا زيادة ولا نقصان. 2 - أما الحديث رقم (463): فيدل على أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر على الجنائز أربع ¬

_ (¬1) البخاري (1335).

تكبيرات، وأنَّه قد يزيد إلى ثماني تكبيرات، حتى جاء نعي النجاشي، فكبر عليه أربعاً، ثم ثبت على أربعٍ حتى توفاه الله. 3 - في البخاري (1245)، ومسلم (951) عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة وغيرهم: " أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر في صلاة الجنازة أربعًا". وجمع عمر -رضي الله عنه- الناس على أربع تكبيرات. وقال الحنفي: أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ابن مسعود، فأجمعوا على أربع. وهو ما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما سوى ذلك عندهم فشاذ. وقال النووي: قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في التكبير المشروع، ثم انقرض ذلك الخلاف، وأجمعت الأمة الآن على أنَّه أربع تكبيرات، بلا زيادةٍ ولا نقصٍ. وقال ابن القيم: وكان -صلى الله عليه وسلم- يكبر أربع تكبيرات. وحكى الوزير عن الأئمة الأربعة: أنَّ الإمام لا يُتابع على ما زاد على الأربع. وقال الموفق بن قدامة: لا خلاف أنَّه لا يتابع على الزيادة عليها، ولا تستحب إجماعاً. 4 - أما الحديثان رقم (463، 464): فيدلان على أنَّ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، من تكبيرات صلاة الجنازة. قال الحاكم: أجمعوا على أنَّ قول الصحابي: "من السنة" حديث مرفوع. 5 - سورة الفاتحة هي أم القرآن وفاتحته، وقراءتها بعد أول تكبيرة من صلاة الجنازة في غاية المناسبة؛ ذلك أنَّ صلاة الجنازة دعَاءٌ وشفاعةٌ للميت، فأدب الدعاء أن يقدم بين يديه الثناء على الله تعالى، وأحسن الثناء هو مقدمة فاتحة الكتاب. 6 - في الحديث دليلٌ على أنَّه يحسن في الإمام أن يجهر في بعض القراءة، أو

الذكر في الصلاة؛ ليُعلم المأمومين حكم ذلك؛ فإنَّ ابن عباس جهر بالفاتحة؛ ليعلم الناس أنَّ قراءتها في صلاة الجنازة سنة؛ أي: أنَّها سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته، التي قد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، وهي هنا واجبة من أدلة أخر. * خلاف العلماء: جاء في "سنن النسائي" وغيره عن أبي أمامة قال: "السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة". قال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ. وله شواهد دلَّت على وجوب قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، وهي تكبيرة الإحرام، وبعد التعوذ والبسملة. فأما التعوذ والبسملة: فقد أجمعوا على الإتيان بهما، وأما الاستفتاح فالأكثر أنَّه لا يستفتح به، ولا تقرأ السورة بعد الفاتحة، وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمد، وجمهور العلماء من السلف والخلف. قال في "البدر التمام": والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ لأنَّ المراد من السنة؛ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أنَّ المراد بها: ما يقابل الفريضة، فهذا اصطلاح عرفي. وذهب الإمامان: أبو حنيفة ومالك إلى: أنَّها سنة لا واجبة، ومذهب الحنفية أنه يقرأ دعاء الثناء، وجاز قراءة الفاتحة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، قال ابن القيم في "الهدي": قال شيخنا: ولا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هي سنة. والقول الأول أحوط؛ فأدلته قوية. ***

465 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِه: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّع مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءَ وَالثَّلجِ وَالبرَدِ، وَنَقِّهِ منِ الخَطَايَا؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأهْلاً خَيْرًا مِنْ أهْلِهِ، وَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنةٌ القَبْرِ، وَعَذَابَ النَّارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اللهم: أصلها: "يا الله"، فـ"الميم" عوض عن "ياء" النداء؛ ولذا لا يجمع بين العوض والمعوَّض. - اغفر له: المغفرة: ستر الذنب، مع التجاوز عنه. - ارحمه: الرحمة أبلغ من المغفرة؛ لأنَّ فيها حصول المطلوب بعد زوال المكروه. - عافه: من الذنوب، وعافه من عذاب القبر، وعذاب النار. - اعف عنه: تجاوز عنه ما فعل من المحرمات، وما قصر فيه من الواجبات. - أكرم نُزُلَهُ: النُزُل: ما يقدم للضيف؛ أي: اجعل نزله وضيافته عندك كريمة. - ووسع مدخله: أي: مدخله في القبر بأن يفسح له فيه، ويُفْتَحَ له بَابٌ إلى الجنة، وكذلك منازله عندك في الجنة بعد البعث. - واغسله بالماء والثلج والبرَد: فإنَّ هذه المواد تقابل حرارة ذنوبه فتطفىء لهيبها وتبردها. ¬

_ (¬1) مسلم (963).

- نقِّه من الخطايا: يقال: نقي الشيء وينقي نقاوة ونقاءً، فهو نقي، بمعنى: نظف، ونَقَّي الشيء: نظفه، والمعنى: نَظِّفه من دنس الذنوب والخطايا التي دنسته. - الثلج: -بفتح الثاء المثلثة وسكون اللام آخره جيم-: وهو ما جمد من الماء؛ سواء سقط من السماء، أو نبع من الأرض، جمعه: ثلوج. - البرد: بفتحتين، حب الغمام. - كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس: وخُصَّ الأبيض؛ لأنَّ إزالة الأوساخ فيه أظهر من غيره من الألوان. - أبدِلهُ دارًا خيرًا من داره: بأن تبدله دار كرامتك بالجنة عن دار الدنيا، التي رحل عنها. - وأهلاً خيرًا من أهله: هذا التبديل إما بالأعيان؛ بأن يعوضه الله عنهم في دار كرامته، وإما تبديل أوصاف؛ بأن تعود العجوز شابة، وسيئةُ الخُلُق حسنةَ خلق. - أدخله الجنة: الجنة: اسم لكل ما أعدَّ الله لعباده الصالحين من النعيم الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر. - قِهِ فتنة القبر: الفتنة لابد منها، والطلب هو الوقاية من شرها، و"قه" معتل الفاء واللام، وعند صياغة الأمر منه يحذف حرفا العلة، ولم يبق إلاَّ حرف واحد، والهاء ضمير عائد إلى الميت المصلَّى عليه. - عذاب النار: يسأل الله تعالى أن يقيه العذاب الذي لا تتصور شدته، ولا هوله، ولا طوله. ***

466 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكبِيرِنَا، وَذَكرِنَا، وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أحَيَيْتَهُ مِنَّا، فَأَحْيهِ عَلَى الإِسْلاَم، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنا أجْرَهُ، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأرْبعَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لاتحرِمنا: بفتح التاء وكسر الراء من: الحرمان. - أَجْرَه: أي: أجر ما أصابَنَا منْ مَوْتِهِ. - الإسلام: لغة: الاستسلام والانقياد، وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه: الطاعات الظاهرة. - الإيمان لغة: التصديق مع الطمأنينة، وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه أعمال القلوب من الإيمان بالله ... إلى آخره. هذان التفسيران للإسلام والإيمان إذا ذكرا جميعًا، وإن كان أحدهما دون الآخر، فإنَّ الإسلام يشمل الإيمان، والإيمان يشمل الإسلام. - لا تضلنا: ضل الرجل يضل -من باب ضرب- ضلالاً وضلالة: زل فلم يهتدي، فهو ضال، ضد مهتد. قال في "المصباح": هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن الكريم. وقال في "المحيط": الضلال موضوع في الأصل للعدول عن الطريق المستقيم، عمدًا أو سهوًا، قليلاً أو كثيرًا، وباقي معانيه متفرعة منه. ¬

_ (¬1) أبو داود (3201)، التر مذي (1024)، النسائي (1986)، ابن ماجه (1498)، وعزوه لمسلم وهمٌ.

467 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى المَيِّتِ، فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ، رواه أبو داود، وابن ماجه (1497)، والبيهقي (4/ 40) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-. فذكره. قال الألباني: وهذا سندٌ حسنٌ، رجاله كلهم ثقات، لولا أنَّ محمَّد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، لكن قال الحافظ في "التلخيص": أخرجه ابن حبان من طريقٍ أخرى عنه، مصرحاً بالسماع، فاتَّصل السند، وصحَّ الحديث، والحمد لله. * مفردات الحديث: - أخلصوا: قال ابن فارس: أخلص: أصل واحد مطرد، وهو: تنقية الشيء وتهذيبه، وقال الجرجاني: الإخلاص في اللغة: ترك الرياء في الطاعات. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - يستحب أن يكون الدعاء في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة، ويجوز بعد الرابعة، ويكون سرًّا؛ سواء كانت الصلاة في النهار، أو الليل. 2 - قال في "شرح الإقناع": يدعو للميت بعد التكبيرة الثالثة بأحسن ما يحضره، ولا تحديد فيه، قال جابر: "ما قدَّر لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أبو بكر، ولا عمر"، فدلَّ على أنَّه لا يتعيَّن دعاء مخصوص. ¬

_ (¬1) أبو داود (3199)، ابن حبان (7/ 326).

3 - يدل الحديث على وجوب الدعاء للميت، وتخصيصه به هو معنى إخلاص الدعاء له، فلا يكفي الدعاء العام، ولكنه يكفي أي دعاء وأقل دعاء، فلو قيل في الصلاة: "اللهم اغفر له"، لحصل الواجب. 4 - أنَّ كل أحد محتاج إلى الدعاء، ولو استغنى عنه أحد، لاستغنى عنه الصحابة، أصحاب الفضائل العالية، والأعمال الحميدة. 5 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لأحد نفعًا ولا ضراً، ولو كان له شيء من ذلك، لأعطاه لمن يريد نفعه، بدون طلب من الله تعالى. 6 - إثبات الجزاء الأخروي في الجنة والنار. 7 - في حديث عوف إثبات عذاب القبر ونعيمه، من قوله: "أكرم نُزُلَه، ووسِّع مدخلهُ". 8 - إثبات فتنة القبر، وهو سؤال الملكين الميت في قبره، ففي مسند أحمد (18063) وسنن أبي داود (4753) وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيأتيه ملكان ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ ". وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن. 9 - قوله: "وأبدله أهلاً خيرًا من أهله" الإبدال نوعان: إما إبدال أعيان؛ وهذا يكون بالحور العين بدل زوجة الحياة الدنيا. والثاني: إبدال أوصاف؛ وذلك بأن تكون زوجة الدنيا هي زوجة الآخرة، إلاَّ أنَّ الله تعالى أبدل أخلاقها السيئة بأخلاق حسنة، وصفاتها الخَلْقية بالجمال والحسن التام؛ فإنَّ الله تعالى أبدل لزكريا صفات أكمل منها؛ فقال تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]؛ قال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق طويلة اللسان، فأصلحها فجعلها حسنة الخلق. 10 - وأما قوله: "وقِهِ فتنة القبر" فالمراد: منْ شرِّها وأثرها، واستثنى بعضهم

غير المكلفين من الصغار، ومن بلغ مجنوناً، واستمرَّ جنونه حتى مات. 11 - قوله: "اللهمَّ اغفر لحيِّنا وميتنا ... إلخ" فيه الدعاء بالمغفرة لجميع الأحياء والأموات من المسلمين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. 12 - قوله: "فأحيه على الإسلام، فتوفه على الإيمان" إذا أفرد الإسلام شمل الإيمان: وبالعكس، أما إذا اجتمعا -كما في حديث عمر حينما جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيراد بالإسلام: الشرائع العملية الظاهرة، ويراد بالإيمان: الاعتقاد في الأمور الستة، وهنا كل منهما مفرد، فالإسلام في حال الحياة، والإيمان في الممات، وخصَّ الإيمان في حال الوفاة؛ لأنَّه أكمل وأولى عند الختام. 13 - قوله: "ولا تضلنا بعده" فيه الخوف من الفتنة في حال الحياة: إما فتنة شبهة وضلال، وإما فتنة شهوة؛ فالإنسان في حال الحياة معرض لذلك، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك" والإنسان قد يصاب بالفتنة من حيث لا يشعر، وقد يظن أنه على حقٍّ؛ كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} [الأعراف: 30]، فيجب على الإنسان محاسبة نفسه، وطاعة الله تعالى، وإظهار الفقر بين يديه، فهذا من أسباب العصمة. 14 - قوله: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره"؛ أي: الأجر الذي نكسبه من تجهيزه، والصلاة عليه وتشييعه، وكذلك الأجر الذي نحصله من صبرنا على المصيبة فيه، أما أجر عمله فهو له، وليس لنا منه شيء، ولو طلبنا، لكنَّا معتدين في الدعاء. 15 - الأمر المطلق بإخلاص الدعاء للميت يقضي بأن يخلص للمسيء، كما يخلص لغيره؛ فإنَّ مُلابس المعاصي أحوجُ إلى دعاء إخوانه المسلمين.

16 - الأحاديث في الدعاء للميت كثيرة، ولم يرد تعيين أحدها، وإنما الشأن في إخلاص الدعاء للميت؛ لأنَّه الذي شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث: "إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء" [رواه أبو داود (3199)]، لكن يبقى فضل كبير للمأثور عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولما دعا -صلى الله عليه وسلم-، فليتحرَّاه المسلم في دعائه، كما سيأتي. * فوائد: الأولى: قال في "شرح الإقناع": ويسن الدعاء بالوارد في الدعاء للميت، قال في "سبل السلام": "صحَّ في الدعاء الوارد حديثان في هذا الباب". قال العلماء: إنَّ أصح ما ورد من الدعاء على الميت هو ما جاء في هذين الحديثين: حديث عوف بن مالك، وحديث أبي هريرة، وهو من أنفع الأدعية، حتى إنَّ عوف بن مالك لما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، تمنَّى أنَّه هو ذلك الميت، فهو من أجمع الأدعية وأحسنها. فقد اشتمل على الدعاء للميت بالمغفرة والرحمة، وتنقيته من الذنوب، والدعاء له بحسن المنقلب، وإعاذته من شرور الآخرة. وأما حديث أبي هريرة: فدعاء لعموم المسلمين الحاضرين والغائبين، والأحياء والميتين، الكبار والصغار، الذكور والإناث، والدعاء لهم بأحسن مطلوب من الثبات على الإسلام، والوفاة على الإيمان، والاستعاذة من الضلال والفتنة بعده. الثانية: سئل شيخ الإسلام عن مناسبة تنقية الذنوب بالثلج والبرد، مع أنَّ الماء الحار أبلغ منهما في الإزالة، فقال: إنَّ حرارة الذنوب يناسبها شدة برودة الثلج والبرد. الثالثة: إذا كان الميت صغيراً، ذكراً أو أنثى -فقد روى الإمام أحمد (17709) عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً: "السَّقْط يُصلى عليه، ويدعى لوالديه

بالمغفرة والرحمة والعافية"، ومما رواه البيهقي (4/ 9) عن أبي هريرة مرفوعًا: "اللَّهمَّ اجعله لنا سَلَفاً، وفَرطاً، وذُخْرًا، وعظة، واعتبارًا، اللهم اجعله ذُخراً لوالديه بالمغفرة والرحمة والعافية"، ومما رواه البيهقي: (4/ 9) عن أبي هريرة مرفوعًا: "اللَّهمَّ ثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم". قال بعضهم: هذا دعاء لائق بالمحل، مناسب للطفل؛ فإنَّ الدعاء لوالديه أولى من الدعاء له؛ لأنَّه شافع غير مشفوع فيه. الرابعة: قوله: "وقه فتنة القبر" المراد بالقبر هنا برزخ بين موت الإنسان وقيام الساعة؛ سواء كان الميت في حفرته، أو في برٍّ، أو في بحر، أو في بطن الأرض، أو على ظهرها. الخامسة: قال في " الروض والحاشية": ويقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً، ولا يدعو في المشهور عن أحمد، وعنه: يدعو، اختاره المجد، وهو قول جمهور العلماء. قال المجد في "المحرر": فيقول: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". وصحَّ أنَّه كان لا يدعو بدعاء إلاَّ ختمه بهذا الدعاء. ***

468 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالجَنَازَةِ؛ فَإنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وإِنْ تَكُ سِوَى ذلك، فَشرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أسْرِعُوا: أمْر من "الإسراع"، وهو وسط بين المشي المعتاد والسعي. - فإن تَكُ: أصله: "تكن" حذفت النون للتخفيف، والضمير فيه يرجع إلى الجنازة. - صالحة: نصب على الخبرية لـ"تكن". - فخير: مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو خير تقدمونها إليه. - إليه: الضمير فيه يرجع إلى "الخير"؛ باعتبار الثواب. - فشرٌّ: إعرابه مثل إعراب خير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأمر بالإسراع بالجنازة من مكان الصلاة إلى القبر، وصفة الإسراع: مشي سريع الخطا دون الخَبَب. 2 - قال الموفق: هذا الأمر للاستحباب، بلا خلاف بين العلماء، وشذَّ ابن حزم فأوجبه. 3 - ذكر غير واحد من العلماء؛ أنَّ الإسراع لا يصل إلى الإفراط، الذي يمخض مخضًا، فيرجّ الجنازة ويؤذي تابعيها، وإنما تراعى السنة بالإسراع، ويراعى الرفق بالميت والمشيِّعين. ¬

_ (¬1) البخاري (47، 1315)، مسلم (944).

4 - قال ابن القيم: أما دبيب الناس اليوم خطوة، فبدعة مكروهة، مخالفة للسنة للتشبه بأهل الكتاب. 5 - قال شيخ الإسلام: كان الميت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون، ولا يبطئون، بل عليهم السكينة، ولا يرفعون أصواتهم، لا بقراءة ولا بغيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين. 6 - الإسراع بالجنازة هنا يشمل الإسراع في تجهيزها ودفنها، فهو أعم من أن يكون الإسراع في حملها إلى القبر؛ لما روى أبو داود (3159)، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال:"لا ينبغي لجيفة مسلم تبقى بين ظهراني أهله" هذا ما لم يكن في تأخيرها مصلحة من حضور الأقارب ونحوهم، أو يكون مات في حادث جنائي، يتطلب بقاء جثة الميت للتحقيق في أمرها، فإن حقَّق التأخير مصلحة ظاهرة، فلا بأس ببقائها، لاسيَّما مع وجود الأماكن المبردة التي تحفظ الجسد من الفساد. 7 - في الحديث إثبات الجزاء الأخروي من خير أو شر، وهي قضيَّة معروفة من الدين بالضرورة، فهي من العقائد الثابتة، ولله الحمد. 8 - فيه طلب مصاحبة الأخيار، والابتعاد عن الأشرار. 9 - قال شيخ الإسلام: من كان مظهرًا للإسلام، فإنَّها تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، من: المناكحة، والتوارث، والتغسيل، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك. 10 - الإنسان مكوَّن من روح وجسد، والروح هي الأصل في الإنسان، فهي مناط التكليف، ومدار الأمر والنهي، فهي المخاطبة للمطالبة، وما الجسد إلاَّ لباس لها، وشكل ظاهر، وإلاَّ فهي اللب، فإذا فارقت روحه جسده، بقي بلا نفع، ولا فائدة في بقائه بين ظهراني أهله جيفةً، فكلما مكثت، تشوهت وتعفنت؛ لذا أمر الشرع بالإسراع بمواراتها.

11 - في الحديث التعبير العالي عن الشر، والألفاظ المستكرهة، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولتكن سوى ذلك"؛ فينبغي للمتكلم أن يختار من اللفظ أحسنه وأبلغه. 12 - معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فخيرٌ تقدمونه إليه" أي: ما أعده الله لها من النعيم المقيم. وقوله: "فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" معناه: أنَّها تبعدهم من الرحمة، فلا مصلحة لهم في مصاحبتها، قاله ابن الملقن. اهـ. ***

469 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازةَ، حَتَّى يُصَلَّى علَيهَا فَلَهُ قِيراطٌ، ومَنْ شَهِدَهَا، حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: ومَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ". مُتَّفَقٌ علَيه. ولِمُسْلِمٌ: "حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ". ولِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "مَنْ تَبعَ جَنَازَةَ مُسلِمٍ، إيْمَانًا وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهَا، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا -فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيْرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيَراطٍ مِثْلُ جَبلِ أُحُدٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قيراط: أصله: "قرَّاط" بتشديد الراء، بدليل جمعه على: "قراريط"، فأبدل من إحدى الراءين ياء، والقيراط في اللغة: نصف دانق، وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً. قال العيني: "وزن القيراط يختلف باختلاف البلاد". وهو الآن في محاكم المملكة العربية السعودية وعند الفرضيين فيها: جزء من أربعة وعشرين جزءاً، أما قدْره عند الله تعالى فهو أعلم بذلك، لكنه قرَّبه لنا: "بأن كل قيراط مثل أحد". قال العيني: وإنما خصَّ القيراط بالذكر. لأنَّ غالب ما تقع به معاملتهم كان القيراط، وقد ورد لفظ "القيراط" في عدة أحاديث، منها ما يحمل على ¬

_ (¬1) البخاري (1325)، مسلم (945).

القيراط المتعارف، ومنها ما يحمل على الجزء، وإن لم تعرف النسبة. - من تبع: بفتح التاء وتخفيفها وكسر الباء الموحدة، يقال: تبعت الشيء تبعًا وتباعة واحد، وتبعت القوم: إذا مشيت خلفهم. وأكثر روايات الحديث: "اتَّبع" بألف وتشديد التاء. - إيماناً واحتساباً: مفعولان من أجله، ويجوز أن يكونا منصوبين على الحال، على تقدير: مؤمنًا محتسبًا. - حتى يصلى عليها: أكثر الروايات بفتح اللام، وفي بعضها بكسرها، وحملت رواية الفتح على رواية الكسر؛ لأنَّ حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة للذي يشهدها. - حتى: يحتمل أنَّها للتعليل، وأنَّها للغاية، والراجح أنَّها هنا للغاية. - أحد: جبل مشهور في المدينة المنورة، من حدها الشرقي إلى حدها الغربي من جهة الشمال، وامتد إليه عمران المدينة، ويسمى الحي القريب منه بحي سيد الشهداء، يعني: حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- الذي قُتِل في المعركة التي دارت عند ذلك الجبل بين المسلمين بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين قريش بقيادة أبي سفيان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث رواه اثنا عشر صحابيًّا، ولمَّا رواه أبو هريرة لعبد الله بن عمر، سأل ابنُ عُمر عائشَةَ -رضِيَ اللهُ عَنْهَا-: هلْ قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك؟ فقالت: صدَقَ أَبُو هُرَيرة، فقَالَ ابنُ عُمَر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. 2 - قوله: "إيماناً واحتساباً" يعني: أنَّ الذي حمله على شهود الجنازة واتباعها نية الطاعة، وهذا قيد لابد منه في كل عبادة؛ لأنَّ ترتيب الثواب على العمل يستدعي سبق النية؛ لأنَّ تابع الجنازة قد يخرج على سبيل المكافأة المتبادلة، أو على سبيل المحابة.

3 - قال شيخ الإسلام: لو قدر أنَّ الميت لا يستحق التشييع، تبعه لأجل أهله؛ إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، أو مكافأة لهم وغير ذلك، كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن أُبىٍّ. 4 - فيه الفضل لشهود الجنازة بالصلاة، والتشييع، والحمل، والدفن؛ تصديقًا بوعد الله، ورجاء ثوابه، ولا مانع من نية أداء حق المسلم، وجبر خاطر أهله، فكل هذا من العمل الصالح، والله واسع الفضل. 5 - أنَّ جزاء من شهد الجنازة من الصلاة حتى الدفن ولم يفارقها -هو قيراطان من الأجر، والقيراط مثل الجبل، ومُثِّلَ في رواية أخرى: "بأنَّه مثل جبل أحد"، ومن صلَّى عليها فقط، فاته نصف هذا الأجر العظيم. 6 - حث الشارع الحكيم على شهود الجنازة لما في ذلك من الفوائد الجمة: من القيام بحق الميت بالدعاء له، والشفاعة والصلاة، ومن أداء حق أهله وجبر خاطرهم عند مصيبتهم في ميتهم، ومن تحصيل الأجر والثواب للمشيع، ومن حصول العظة والاعتبار بمشاهدة الموت والمقابر، وغير ذلك مما أودعه الله شرائعه. 7 - قال بعضهم: اتباع الجنازة على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصلي عليها. الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن. الثالث: أن يقف بعد الدفن على القبر، ويدعو للميت بالمغفرة والرحمة. 8 - في سؤال الصحابة -رضي الله عنهم- عن معنى القيراطين -رد على الطوائف الضالة التي ترمي أهل السنة والجماعة؛ بأنَّهم "مفوضة" في نصوص الكتاب والسنة، فيما يلحق بأسماء الله تعالى وصفاته، وأنَّ معانيها ليست معلومة لديهم، وإنَّما يمرُّون ألفاظها بدون فهم لحقائقها، فهم يفوضون علم ذلك إلى الله تعالى، ولا شكَّ أنَّ هذا كذبٌ، وافتراءٌ، وبهتانٌ على أهل السنة

والجماعة، فليس هذا مذهبهم، وإنما يفهمون النصوص الواردة في الأسماء والصفات على حقيقتها، والذي يفوِّضون علمه إلى الله تعالى هو كيفية الصفة؛ فهذا مذهب أهل السنة والجماعة في نصوص الكتاب والسنة. ووجه الدلالة على مذهبهم من هذا الحديث-: أنَّ الصحابة -وهم أئمة أهل السنة والجماعة- لما جهلوا "القيراط" سألوا عنه؛ فهل يُعقل أنَّهم يسألون عما جهلوا من معنى "القيراط"، ولا يسألون عما جهلوه من أسمائه وصفاته؟ فهم عالمون بأسماء الله تعالى وصفاته حق العلم، وجاهلون الكيفية التي هي عليها. ***

470 - وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهُمْ يَمْشُونَ أمَامَ الجَنَازَةِ". روَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالإِرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن أبي شيبة (2/ 476)، والطحاوي، والدارقطني (2/ 70)، والبيهقي (4/ 3) من طرقٍ عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه. قال الإمام أحمد: إنَّما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعن ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهمٌ. وقال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح. وقال الألباني: اتَّفق على رواية هذا الحديث مسندًا مرفوعًا جماعةٌ من الثقات: هم سفيان بن عيينة، ومنصور بن المعتمر، وزياد بن سعد، وبكر بن وائل، وابن أخي الزهري، وعقيل بن خالد، هؤلاء كلهم صرحوا بالرفع، وصحَّت الأسانيد بذلك إليهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تشييع الجنازة حتى تدفن، فهذا من حق المسلم على المسلم، وهو سنة باتفاق الأئمة الأربعة، بل هو إجماع المسلمين. ¬

_ (¬1) أحمد (4525)، أبو داود (3179)، الترمذي (1007)، النسائي (1944)، ابن ماجه (1482)، ابن حبان (766).

2 - أنَّه يستحب أن يكون المشاة مع الجنازة أمامها. قال في "شرح الإقناع": لأنَّهم شفعاء، والشفيع يتقدم المشفوع له، ثم قال: ولا يكره كون المشاة خلفها، وحيث شاءوا عن يمينها، أو يسارها؛ بحيث يعدون تابعين لها. 3 - قال في "شرح الإقناع": ويستحب كون الركبان خلفها، وهو مستحب عند الأئمة الأربعة، قال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أنَّ الراكب خلفها. قال في "الإنصاف": بلا نزاع. لما روى المغيرة بن شعبة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة" [رواه الترمذي (1031) وصححه]، فلو ركب وكان أمام الجنازة كُره، قال النخعي: كانوا يكرهونه، رواه سعيد. وكُرِهَ ركوب تابع الجنازة إلاَّ لحاجة، وإلاَّ لعَوْدٍ منها، فلا يكره. ***

471 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "نُهِيْنَا عَنِ اتِّباعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على النهي عن اتباع النساء الجنائز؛ لما عندهن من الضعف والرقة، وعدم التحمل للمصائب، فيخرج منهن أقوال وأفعال محرَّمة، تنافي الصبر الواجب. 2 - يدل الحديث على أنَّ النواهي الشرعية نوعان: أحدهما: نهي عزيمة وتحريم. الثاني: نهي تنزيه وتوجيه دون التحريم. وأم عطية -رضي الله عنها- فهمت من نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء عن اتباع الجنائز، أنَّه ليس نهي عزيمة وتحريم، ولكنه دون ذلك، فلا يصل إلى درجة الحرمة، ولعلَّ لديها قرائن أحوال دلَّتها على عدم التحتيم في النهي. 3 - فقول أم عطية -رضي الله عنها-: لم يعزِم علينا بالنهي. قال بعضهم: إنَّ هذا ظن منها، أنَّه ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي تنزيه، ولكن الحجة قول الشارع، وقد نهى. 4 - الأصل أنَّ الأحكام الشرعية عامة بين الرجال والنساء، ولكنه توجد أحكام كثيرة تخص أحد الجنسين دون الآخر، فالتفريق بين الرجال وبين النساء في بعض الأحكام -له أصل في الشرع. 5 - التفريق بين الرجال وبين النساء في بعض الأحكام -يدل على الحِكم السامية في التشريع الإسلامي، الذي يشرع لكل جنس ما يناسبه من الأحكام، وينزل ¬

_ (¬1) البخاري (1278)، مسلم (938).

كل أحد بما يليق به. * خلاف العلماء: ذهب الجمهور ومنهم: المالكية والشافعية والحنابلة إلى كراهة اتباع النساء الجنائز؛ لهذا الحديث، فقد فهمت أم عطية؛ أنَّ النَّهي ليس عزيمة من قرينة، وقد أخرج النسائي (1859)، وابن ماجه (1587) من طريق رجاله ثقات عن أبي هريرة: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في جنازة، فرأى عمر بن الخطاب امرأةً، فصاح بها، فقال: دَعْهَا يا عمر". وذهب الحنفية إلى: أنَّ النَّهي إنَّما هو للتحريم؛ لما روى ابن ماجه (1578): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج، فإذا نسوة جلوس، فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات". وسنده ضعيف. قال ابن دقيق العيد: وقد ورد أحاديث تدل على التشديد في اتباع الجنائز أكثر مما دلَّ عليه الحديث. والنهي ظاهره التحريم، وأما قول أم عطية -رضي الله عنها-: "ولم يعزم علينا" -فهو رأي لها، ظنت أنه ليس نهي تحريم، والحجة قول الشارع. كما يدل على أنَّ النَّهي للتحريم: ما أخرجه أحمد (2031)، والترمذي (320)، وابن حبان (7/ 453): "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لعن زائرات القبور"؛ وهو حديث صحيح بشواهده، فمتبع الجنازة سيزور القبور، واتباع الجنازة في معنى الزيارة، ولهذا فالأحوط أنَّ النَّهي في الحديث هو للتحريم. ***

472 - وَعَنْ أِبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إِذَا رَأيْتُمُ الجَنَازَةَ، فقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث وجوب القيام للجنازة، إذا مرَّت؛ إعظامًا لأمر الموت، ولذا جاء في صحيح مسلم (960): "إنَّ الموت فزع، فإذا رأيتُم الجنازة فقوموا"؛ ذلك راجع إلى تعظيم أمر الله تعالى، وتعظيم أمر القائمين به من الآدميين، والملائكة المقربين. 2 - أما قوله: "من تبعها، فلا يجلس حتى توضع": قال النووي: مذهب جمهور العلماء استحبابه، وقد صحت الأحاديث باستحباب القيام إلى أن توضع. قال في "شرح الزاد وحاشيته": ويكره جلوس تابع الجنازة، حتى توضع بالأرض للدفن، إلاَّ لمن بَعُد؛ لما في انتظاره قائماً حتى تَصِلَ إليه وتوضع -من المشقة، ولما روى أبو داود، عن البراء قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فانتهينا إلى القبر، ولم يُلْحد، فجلس، وجلسنا معًا". * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- إلى: عدم استحباب القيام للجنازة، وقالوا: إنَّ القيام منسوخ بما رواه الإمام أحمد (624)، وأبو داود (3175) عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقيام للجنازة، ¬

_ (¬1) البخاري (1310)، مسلم (959).

ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس". قال الإمام أحمد: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس. قال النووي: المختار في القيام للجنازة: أنَّه مستحب. واختار استحباب القيام الشيخ تقي الدين. ***

473 - وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ أدْخَلَ المَيِّتَ مِنْ قِبلِ رِجْلِيِ القَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيحٌ. قال البيهقي: إسناده صحيح، وقال الحافظ: رجاله ثقات. قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في "التلخيص"، ورجال إسناده رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - رِجْلي القبر: من جهة المحل الذي يوضع فيه رِجْلا الميت، فهو من إطلاق الحال على المحل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يستحب أن يُدخل الميت في قبره سلاًّ؛ بأن يجعل رأس الميت في الموضع الذي تكون فيه رجلاه إذا دفن، ثم يسل سلاًّ رفيقاً؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- سُلَّ مِن قِبَل رأسه" [رواهُ الشَّافعي (2/ 360) والبيهقي (4/ 54) بإسناد صحيح]، وهو المعروف عند الصحابة، وهو عمل المهاجرين والأنصار. 2 - إذا لم تمكن هذه الصفة، أو شقت، أدخِل الميت قبره من حيث سهل، إذ المقصود الرفق بالميت. 3 - قوله: "هذا من السنة" يراد بذلك: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته، وهي تشمل: الواجب، والمستحب. ¬

_ (¬1) أبو داود (3211).

فيقال: "من السنة" للحكم، وهو واجب، ويقال: من "السنة" للحكم، وهو مستحب، ففي هذا الحديث يراد به: المستحب. وقوله في قراءة ابن عباس سورة الفاتحة في صلاة الجنازة: "ليعلموا أنَّها سنة" يراد به: الواجب. أما السنة باصطلاح الأصوليين فهي خلاف الواجب؛ وهي ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على جواز إدخال الميت القبر على أية صفة تكون، واختلفوا في أفضل صفات الإدخال: فذهب الشافعية والحنابلة إلى: ما جاء في هذا الحديث من إدخال رأس الميت مِن قِبل مكان رجليه إذا دفن، ثم يسل سلاًّ برفق؛ للحديث المتقدم. وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى: عكس ذلك؛ وهو أن يسل من قِبل مكان رأسه إذا دفن. وذهب أبو حنيفة إلى: أنَّه يسل من قبل القبلة معترضاً؛ إذ هو أيسر. ***

474 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي القُبُورِ، فَقُولُوا: بسْمِ اللهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، وَأًعلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالوَقْفِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح في حالة رفعه ووقفه. وقد رواه أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان، والحاكم (1/ 520) وابن أبي شيبة (3/ 19) مرفوعًا، وأخرجه ابن السني (584) من طريق الحجاج عن نافع عن ابن عمر، وبتأمل طرق الحديث تُتبين صحته، ولذا قال الحاكم: إنَّه صحيح على شرط الشيخين، كما رواه ابن حبان عن شعبة عن قتادة مرفوعًا، ورجَّح ابن الملقن رفعه. * مفردات الحديث: - بسم الله: أي: وضعته، أو أدخلته، أو دفنته. - ملة: الملة: أصول الشرائع، ولا تضاف إلى الله، بل إلى رسله، فهو اسم لما شرعه الله على لسان رسله، وقد تطلق على الملة الباطلة؛ كقولهم: الكفر ملة واحدة. ... ¬

_ (¬1) أحمد (4797)، أبو داود (3213)، النسائي في الكبرى (6/ 191)، ابن حبان (7/ 375).

475 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (¬1). وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "فِي الإثْمِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أحمد (23787)، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي (4/ 58) من حديث عائشة، وحسَّنه ابن القطان، وذكر القشيري أنه على شرط مسلم، ورواه الدارقطني (3/ 188) من وجه آخر عنها، وزاد: "في الإثم"، وذكره مالك بلاغًا عن عائشة موقوفًا. وزاد ابن ماجه من حديث أم سلمة: "في الإثم". ولفظ "في الإثم" ضعَّفه أحمد والنسائي، ولكنه تفسير من بعض الرواة. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - رجَّح المحدثون صحَّة هذا الحديث (474) مرفوعًا وموقوفًا، وهو يدل على استحباب هذا الذكر في هذا الموطن. 2 - ملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دينه وشريعته، وهو الإسلام وأحكامه، ويسن أن يؤتى به عند كل أمر ذي بال، ويقدَّر في كل موطن بما يناسبه. والتقدير: وضعناك على اسم الله، وعلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلمناك. 3 - روى الحاكم والبيهقي بسند ضعيف: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لما وُضعت ابنته أم كلثوم ¬

_ (¬1) أبو داود (3207). (¬2) ابن ماجه (1617).

في القبر، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}، بسم الله وعلى ملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". 4 - قال الإمام الشافعي: يقوله الذين يُدخلونه. أما شارح "الأذكار" فقال: إنَّ المقام مقام سؤال، وطلب رحمةٍ وإفضالٍ، فناسب التكرار باعتبار القائلين. 5 - دَفْن الميت من فروض الكفايات، فهو مشروع بالكتاب، قال تعالى ممتنًّا: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عبس]، أكرمه بدفنه، قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. واستفاضت الأحاديث بالدفن، ومنها: ما في أبي داود (3159) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحْبَسَ بين ظهراني أهله". ففي الدفن برٌّ بالميت، وطاعةٌ للرب، وهو عمل المسلمين منذ زمن الصحابة. 6 - أما ما جاء في الحديث (475) من حرمة كسر عظم الميت، فقد قال الشيخ عبدالرحمن السعدي: الأصل أنَّ بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة إلاَّ عند تطبيق قاعدة "تعارض المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار"؛ فإنَّه يباح لمن وقعت فيه الآكلة أن يقطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، ويجوز التمثيل في البدن كشق البطن، للتمكن من علاج المرض، فما كانت منافعه أكثر من مفاسده، فإنَّ الله لا يحرمه، وقد نبَّه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه، ومنه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. 7 - وبهذه الحرمة الإنسانية للأموات أفتى رئيس الفتوى السابق في المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بقوله: لا يجوز نبش القبور، ولا يجوز مرور الطريق عليها؛ لأنَّ هذا امتهان

للأموات، ومعلوم أنَّ لهم حرمة، وهم قد سبقوا إلى هذا الموضع، وصاروا إليه، فالقبور منازلهم، فلا يحل نبشهم من قبورهم إلاَّ لغرضٍ صحيحٍ، وهو ما كان من مصلحة الميت، أو كف الأذى عنه ونحو ذلك، أما إذا كان لمصلحة غيره من الأحياء أو الأموات فلا يجوز. 8 - ومن احترام القبور وأهلها عدم المشي فيها بالنعال؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألق سِبْتِيَّتَيْك" [رواه ابن ماجه (1568)]. قال ابن القيم: إكرام القبور عن وطئها بالنعال من محاسن الشريعة، وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ الجلوس على الجمر خير من الجلوس على القبر"، والقبور هي دار الأموات ومنازلهم، ومحل تزاورهم، وعليها تنزل الرحمة من ربهم، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، يلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تضافرت به الآثار. اهـ كلامه. 9 - أما الحديث فهو نصٌّ في تحريم كسر عظم الميت؛ لأنَّه شبهه بعظم الحي في الحرمة والاحترام، وعدم التعرض له؛ لأنَّه معصوم في حياته وبعد مماته؛ فالموت لا يهدر كرامة المعصوم أبدًا، بل كرامته باقية. ولذا قال في "الإقناع وشرحه": ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإتلاف ذاته؛ لحديث: "كَسْر عظم الميت ككسر عظم الحي" ولبقاء حرمته ولو أوصى به؛ أي: بما ذكر من القطع والإتلاف، فلا نتَّبع وصيَّته؛ لحق الله تعالى، ولوليه -أي: الميت- أن يحامي عنه بأن يدفع من أراد قطع طرفه ونحوه بالأسهل فالأسهل. قال محرره عفا الله عنه: فتوى الشيخ عبد الرحمن السعدي وقرار هيئة كبار العلماء -موافق لقواعد الشريعة وأصولها، وهو لا يخالف ما قاله صاحب "شرح الإقناع".

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن تشريح جثة الميت: (رقم: 47 وتاريخ 20/ 8/ 1396 هـ) الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على من لا نبي بعده، محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام (1396 هـ)، جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم: (3231/ 2 خ) المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم: (34/ 1/ 12/ 13446/ 3، وتاريخ 6/ 8/ 1395 هـ) المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة، المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم، وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية. كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أنَّ الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية؛ لنتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي؛ تعلمًا وتعليمًا. وبعد تداول الرأي والمناقشة، ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليها أعلاه، قرر المجلس ما يلي: بالنسبة للقسمين الأول والثاني: فإنَّ المجلس يرى أنَّ في إجزائهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل، ووقاية للمجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإنَّ المجلس لهذا يقرر بالإجماع

إجازة التشريح لهذين الغرضين؛ سواء أكانت الجثة المشرحة جثة معصوم، أم لا. وأما بالنسبة للقسم الثالث: وهو التشريح للغرض التعليمي، فنظراً إلى أنَّ الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين؛ لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إنَّ في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإنَّ المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلاَّ أنَّه نظراً إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً، كعنايتها بكرامته حيًّا؛ وذلك لِما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَسْر عظم الميت ككسره حيًّا"، ونظراً إلى أنَّ التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إنَّ الضرورة في ذلك منتفية بتيسُّر الحصول على جثث أموات غير معصومين، فإنَّ المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين، والحال ما ذكر، والله الموفق، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ثم جاء في قرار المجلس (رقم: 99، وتاريخ 6/ 11/ 1402 هـ) ما يلي: وبعد المناقشة، وتداول الآراء: قرر المجلس بالإجماع: جواز نقل عضو أو جزئه، من إنسانٍ حيٍّ مسلمٍ، أو ذميٍّ إلى نفسه، إذا دعت الحاجة إليها، وأُمِنَ الخطر في نزعه، وغَلَب على الظن نجاح زرعه، كما قرر بالأكثرية ما يلي: 1 - جواز نقل عضو، أو جزئه من إنسان ميتٍ إلى مسلمٍ، إذا اضطر إلى ذلك، وأُمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلَبَ على الظن نجاح زرعه فيمن

سيزرع فيه. 2 - جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه، أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك، وبالله التوفيق، وصلَّى الله على محمَّد وآله وسلم. هيئة كبار العلماء * قرار المجمع الفقهي الإسلاميى (بشأن: تشريح جثث الموتى): الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة، في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ، الموافق 17 أكتوبر 1987 م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 أكتوبر 1987 م، قد نظر في موضوع "تشريح جثث الموتى"، وبعد مناقشته وتداول الرأي فيه، أصدر القرار الآتي: بناءً على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت، قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي: أولاً: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية: (أ) التحقيق في دعوى جنائية؛ لمعرفة أسباب الموت، أو الجريمة المرتكبة، وذلك عندما يُشْكِل على القاضي معرفة أسباب الوفاة، ويتبيَّن أنَّ التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب. (ب) التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية، والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.

(ج) تعليم الطب وتعلمه؛ كما هو الحال في كليات الطب. ثانيًا: في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية: (أ) إذا كانت الجثة لشخص معلوم يشترط أن يكون قد أَذِنَ هو قبل موته بتشريح جثته، أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلاَّ عند الضرورة. (ب) يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة؛ كَيْلاَ يُعْبث بِجُثث الموتى. (ج) جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات، إلاَّ إذا لم يوجدن. ثالثاً: يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة. وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمدلله ربِّ العالمين. * قرار مجمع الفقه الإسلامي (بشأن: الانتفاع باعضاء الموتى): (رقم: 26) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه: على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حيًّا أو ميتًا". وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أنَّ هذا الموضوع أمر

واقع، فَرَضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة، والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية، الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية، الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التَّعاون والتراحم والإيثار. وبعد حصر: هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث، وتنضبط تقسيماته، وصوره، وحالاته، التي يختلف الحكم تبعًا لها. قرَّر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولاً: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها؛ كقرنية العين؛ سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه. ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد؛ لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم؛ كالبصر ونحوه، على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعًا. ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: 1 - نقل العضو من حي. 2 - نقل العضو من ميت. 3 - النقل من الأجنَّة. الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية: (أ) نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه؛ كنقل الجلد، والغضاريف، والعظام، والأوردة، والدم، ونحوها. (ب) نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر، وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة، وما لا تتوقف عليه.

أما ما تتوقف عليه الحياة: فقد يكون فرديًّا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة: فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم، ومنه ما لا يقوم بها، ومنه ما يتجدد تلقائيًّا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية، والمبيض، وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت. ويلاحظ أنَّ الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائيًّا، لا رجعة فيه طبيًّا. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفاً تامًّا، لاَ رَجْعَةَ فيه طبيًّا. وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: - حالة الأجنة التي تسقط تلقائيًّا. - حالة الأجنة التي تسقط؛ لعامل طبي أو جنائي. - حالة اللقائح المستنبتة خارج الرحم. من حيث الأحكام الشرعية: أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أنَّ النَّفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود، أو لإعادة شكله، أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب، أو إزالة دمامة، تسبب للشخص أذى نفسيًّا أو عضويًّا.

ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًّا؛ كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم؛ لعلَّة مرضية لشخص آخر؛ كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلَّة مرضية. رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة؛ كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها؛ كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك؛ بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية، أو لا ورثة له. سابعاً: وينبغي ملاحظة أنَّ الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تمَّ بيانها -مشروط بألا يتم ذلك بواسطة بيع العضو؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً -فمحل اجتهاد ونظر. ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع -فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم.

* قرار هيئة كبار العلماء (بشأن: بنوك الدم) (قرار رقم: 65 وتاريخ 7/ 2/ 1399 هـ). الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد. ففي الدورة الثالثة الاستثنائية لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من 1/ 2/ 1399 هـ إلى 6 منه، اطَّلع المجلس على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم: 7815 في 28/ 8/ 98 هـ، المبني على ما ورد إليه من المقام السامي لإجراء ما يلزم نحو ما اقترحه المدعو/ فتوح بن سليمان النجار من إنشاء بنك إسلامي لحفظ الدم، للإسعاف السريع لجرحى المسلمين، وقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم، والاحتفاظ بكميات هائلة منه؛ لإسعاف جرحى المسلمين، وبعد دراسة الموضوع ومناقشته، وتداول الرأي فيه -قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: أولاً: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره، عند الحاجة إلى ذلك؛ لإسعاف من يحتاجه من المسلمين. ثانيًا: يجوز إنشاء بنك إسلامي؛ لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم، وحفظ ذلك؛ لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على ألا يأخذ البنك مقابلاً ماليًّا من المرضى، أو أولياء أمورهم عوضًا عما يسعفهم به من الدماء، وألَّا يتَّخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لِما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، والله الموفق، وصلَّى الله على محمَّد. هيئة كبار العلماء ***

476 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِى اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْباً، كمَا صُنعَ بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَحْوُهُ، وَزَادَ: "وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الأَرْضِ قَدْرُ شِبْرٍ". وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث جابر مرسل. أخرجه ابن حبان، والبيهقي ورجح إرساله؛ لمخالفة الفضيل بن سليمان النمري، لمن هو أوثق منه، وصحح الحديث ابن حبان، وابن السكن. وله شاهد مرسل عن صالح بن أبي صالح، رواه أبو داود في "المراسيل". * مفردات الحديث: - لحدًا: قال في "النهاية": اللَّحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لوضع الميت؛ لأنَّه قد أميل عن وسط القبر إلى جانبه، يقال: لحدت وألحدت. - اللَّبن: بفتح اللام وكسر الباء، جمع: "لَبِنَة"، وهو المضروب من الطين، يبنى به دون أن يطبخ. - شِبر: بكسر الشين وسكون الباء؛ وهو ما بين طرفي الأصبع الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد، جمعه "أشبار". ¬

_ (¬1) مسلم (966). (¬2) البيهقي (3/ 407)، ابن حبان (8/ 218).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا بلغ بحفر القبر العمق المناسب، الذي يمنع خروج الرائحة، ويحفظ الميت عن نبش السباع -فإنَّه يستحب أن يحفر للميت بالجانب القبلي من القبر ما يسع بدنه، وهذا هو اللحد. 2 - جاء في سنن الترمذي (1043) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّحد لنا، والشَّق لغيرنا"، ولأحمد (18728): "والشق لأهل الكتاب". وحكى الوزير اتفاق الأئمة الأربعة على أنَّ السنة اللحد، وأنَّ الشق ليس بسنة. وأجمع العلماء على أنَّ الدَّفن في اللحد والشق جائزان، مع كراهة الشق عند أحمد بلا عذر. 3 - ثم يوضع فيه الميت على شقه الأيمن، مستقبل القبلة، وأن يدنى من حائط اللحد؛ لئلا ينكب على وجهه، وأن يسند من ورائه بتراب أو مدر. 4 - ثم يُنْصب اللَّبِن على اللحد نصباً، ويُتَعاهد خلال اللبن بالمدر أو الحجارة؛ ليتحمل ما وضع عليه من طين، ثم يطيَّن فوق اللبن وخلاله؛ لئلا ينهال عليه التراب؛ لما روى الإمام أحمد (21683) عن مجاهد مرفوعاً: "سدُّوا خلل اللبن"، ثم يُهال عليه التراب بمِساح ونحوها إسراعاً بتكميل الدفن، واستحب أهل العلم لمشيع الميت أن يحثو عليه قبضات من تراب؛ ليكون شارك في فرض الكفاية في دفنه. 5 - قوله: "وانصبوا على اللبن"؛ لأنَّه لو أسند اللبن على اللحد مسطحًا، لسقط في اللحد. 6 - ثم يرفع القبر عن مستوى الأرض قدر شبر؛ ليعرف، فيزار، وليحترم عن الامتهان بوطء وغيره؛ فقد روى الشافعي (2/ 360) وغيره: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- رشَّ

على قبر ابنه إبراهيم ماء، ووضع عليه حصباء"، وكذا فعل بقبر سعد بن معاذ، وقبر عثمان بن مظعون؛ لأنَّ هذا أثبت له وأبقى، وأبعد لدروسه من أن تذهب به الرياح والسيول، واستمرَّ على ذلك عمل المسلمين. 7 - جاء في سنن ابن ماجه (1561) وغيره من حديث أنس: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة"، وجاء في أبي داود (3206) وغيره عن المطلب بن ربيعة بن الحارث: "أنَّه أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- لما توفي عثمان بن مظعون أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فحسر -صلى الله عليه وسلم- عن ذراعيه، فحمله، فوضعه عند رأسه، وقال: أُعلِّم بها قبرَ أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". 8 - اتَّفق العلماء على تحريم إسراج المقابر، واتخاذ المساجد عليها؛ قال شيخ الإسلام: يتعيَّن إزالتها بلا خلاف بين العلماء؛ ففي السنن من حديث ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعَن الله زوَّارات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج"، والنَّهي مستفيض عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ***

477 - وَلمُسْلِمٍ عَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أن يُجصَّصَ: الجِص -بكسر الجيم ثم صاد مشددة- مادة بيضاء؛ كالنَّورة، تزخرف بها المباني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النهي عن تجصيص القبر، والبناء عليه، والقعود عليه. 2 - النهي عند الأصوليين يقتضي التحريم؛ فيكون التجصيص والقعود والبناء على القبور من المحرَّمات. 3 - هذه النواحي الثلاثة تفيد النهي عن الجفاء، والنهي عن الغلو في القبور، فالجفاء: أن يهان القبر بالجلوس عليه، وأعظم من ذلك أن يكون القعود للتخلِّي عليه، فالقبور محترمة يجب احترامها احتراماً لسكانها. والغلو: هو تجصيص القبر، وترخيمه، وتزويقه، والبناء عليه؛ فهذا غلو يفضي إلى الفتنة بأصحاب القبور. 4 - النهي عن البناء على القبور مستفيض عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، وأن يُبْنَى علَيه"، وروى مسلم (968) عن فضالة بن عبيد قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يامر بتسويتها"، وروى مسلم (969) من حديث علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا قبراً مشرفًا إلاَّ سوَّيته". ¬

_ (¬1) مسلم (970).

والبناء على القبور من أعظم وسائل الشرك، والمنع منه قطع لتلك الوسائل المفضية إلى أعظم ذنب عُصِي الله به: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان]، وقال الصحابي للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك". وأعظم البناء تلك القباب المشيدة على قبور الملوك، والزعماء، والعلماء، وكثير منها في المساجد، محادة لله تعالى، ولشرعه وتوحيده؛ فيجب إزالتها ومحو آثارها، ولا يجوز إبقاء شيء منها. قال الصنعاني في "تطهير الاعتقاد": فإنَّ هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة للشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام، وخراب بنيانه -غالبُ بل كل من يعمرها هم الملوك، والسلاطين، والرؤساء، والولاة، إما على قريب لهم، أو من يحسنون الظن به، مِن فاضلٍ، أو عالمٍ، أو صوفيٍّ، أو شيخ كبير، ويزور الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل، ولا هتافٍ باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه، فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شُيِّدَ عليه البناء، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الزهور، فيعتقد أنَّ ذلك لنفع، أو دفع ضرر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت؛ بأنَّه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر، وبفلان النفع، حتى تُعْبد من دون الله تعالى. قال شيخ الإسلام: نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن البناء على القبور، وأمر بهدمه، ولقد اتَّفق الأئمة على أنَّ كسوة القبر بالثياب منكر. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: وضع الزهور على قبر الجندي المجهول وغيره بدعة، ويخشى أن يكون ذريعة إلى بناء القباب عليهم، والشرك بهم، ثم اتخاذهم أولياء من دون الله. فالواجب إزالة الأبنية التي على القبور، وأن تسوَّى بالأرض، فلا تُرفع إلاَّ بقدر مسنمة؛ ليعلم أنَّها قبر، فلا تهان ولا تنبش، وكذلك تعليتها.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن البناء على القبور وإسراجها: (رقم: 49 تاريخ 20/ 8/ 1396 هـ) نظراً إلى أنَّ المقابر محل للاعتبار، والاتعاظ، وتذكر الآخرة، كما في صحيح مسلم (976) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زار النبي-صلى الله عليه وسلم- قبرَ أمه، فبكى وأبكى مَن حوله، وقال: استأذنت ربي أن أستغفر، لأمي فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذِنَ لي، فزوروا القبور؛ فإنَّها تذكركم بالموت". وحيث إنَّ تجميلها بفرش الأشجار، وتبليط الممرات، وإنارتها بالكهرباء وغير ذلك من أنواع التجميل -لا يتَّفق مع الحكمة الشرعية في زيارة القبور، وتذكر الآخرة بها؛ حيث إنَّ تجميل المقابر بما ذكر يصرف عن الاتعاظ والاعتبار، ويقوِّي جوانب الاغترار بالحياة ونسيان الآخرة، فضلاً عمَّا في ذلك من تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من إنارة القبور، ولعنه فاعل ذلك؛ فقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّه لعن زائرات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج"، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في تشجير مقابرهم وتزيينها، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بهم، ولِما في ذلك من تعريض القبور للامتهان بابتذالها، والمشي عليها، والجلوس فوقها، ونحو ذلك مما لا يتَّفق مع حرمة الأموات. وعليه فإنَّ المجلس يقرر بالإجماع تحريم التعرض للمقابر، لا بتشجيرها، ولا بإنارتها، ولا بأي شيء من أنواع التجميل؛ للإبقاء على ما كان عليه السلف الصالح، ولتكون المقابر مصدر عظة وعبرة وادكار، وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ***

479 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبيْعَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى عُثمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَتَى القَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ" رَوَاه الدَّرَقُطْنِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. قال في "التلخيص": رواه البزار والدارقطني عن عامر بن ربيعة، قال البيهقي: وله شاهد من حديث جعفر عن أبيه مرسلاً. ورواه الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد عن جعفر، ورواه أبو داود في "المراسيل" من طريق أبي المنذر، قال أبو حاتم: أبو المنذر مجهول. قال الحافظ: إسناده ظاهره الصحة، وصححه ابن أبي داود والشوكاني وصديق بن حسن خان. * مفردات الحديث: - حثا عليه: حثا الرجل التراب، إذا هاله بيده ثم رماه، يحثوه حثواً، ويحثيه حثيًا، فهو بالواو والياء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية الصلاة على الميت، وهي فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقطت عن الباقين. 2 - مشروعية اتباع الجنائز من الصلاة حتى الدفن، ومَن فعل ذلك -إيمانًا واحتسابًا- فله قيراطان من الأجر، والقيراطان مثل الجبلين العظيمين. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 76).

3 - الثلاث الحثيات التي حثاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشريعٌ لأمته، ومشاركة في أجر الدفن. 4 - مَن لم يتول الدفن، يستحب له أن يحثو ثلاث حثيات من تراب على القبر؛ اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومشاركة في أداء الواجب، وفرض الكفاية في الدفن. ***

479 - وَعَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ، وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَال: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيْكُمْ، وَاسْألوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أبو داود والحاكم والبزار، وصحَّحه عن عثمان وقال البزار: لا يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ من هذا الوجه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال النووي: إسناده جيد. وقال الشيخ صديق بن حسن، رواه أبو داود والبيهقي بإسنادٍ حسنٍ. * مفردات الحديث: - التثبيت: اطلبوا من الله أن يثبته على جواب الملكين بقولكم: "اللهمَّ ثبته بالقول الثابت". - الآن: أي: الزمن الذي نحن فيه. قال الواحدي: "الآن": الوقت الذي أنت فيه، وهو حد الزمنين، حده الماضي من آخره، والمستقبل من أوله. قال في "المصباح": "الآن": ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (3221)، الحاكم (1/ 370).

480 - وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيْبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: "كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا سُوِّيَ عَلَى المَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، أنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلاَنُ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلاَنُ، قُلْ: رَبَيّ اللهُ، وَدينِي الإِسْلاَمُ، وَنَبِيِّى مُحَمَّدٌ". رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفاً، وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه الطبراني عن سعيد بن عبد الله الأزدي، وهو مجهول، وقال النووي والعراقي: إسناده ضعيف، وقال ابن القيم: حديثه لا يصح، والذي نرجح أنَّ الحديث مقطوع وموقوف على رواية ضمرة بن حبيب، وهو تابعي. * مفردات الحديث: - سوي: مبني للمجهول، من: التسوية. - فلان: قال في "المحيط" فلان وفلانة بغير ألف ولام، يكنى بها عن العلم الذي مسماه ممن يعقل، وهما يجريان مجرى الأعلام في امتناع دخول الألف واللام عليهما، وامتناع صرف المؤنث منهما، وأما إذا كان العلم لغير من يعقل، تقترن كنايته بـ"أل"؛ للفرق بين العاقل وغيره. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديث رقم (479): على انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار له، ويدل ¬

_ (¬1) الطبراني في الكبير (8/ 249).

عليه قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] وغيرها من الآيات. 2 - وفيه إثبات سؤال الميت في قبره، وقد صحَّت الأحاديث في ذلك، ففي البخاري (1338)، ومسلم (2870) من حديث أنس -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العبد إذَا وُضِعَ في قبره، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: أشهد أنَّه عبد الله ورسوله، فيُرِيانه مقعدَه من الجنة، وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري، فيضرب بِمِطرَقة من حديد". 3 - وقد صحَّت الأخبار وتوالت الآثار؛ على أنَّ الميت يُسأل في قبره، فيقال له: ما كنت تعبد؟ فأما المؤمن فيقول: أعبد الله، فيقاله له: صدقت، ولا يُسأل عن شيء غيره، فينادي منادٍ من السماء: صَدَق عبدي، وافْتَحُوا له بابًا إلى الجنَّة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له مد بصره. وأما الكافر والمنافق: فلا يجيب إلاَّ بقوله: هاه هاه لا أدري، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ويُضرب بمطارق من حديد ضربة واحدة، لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين. 4 - الدعاء للميت عند قبره بعد دفنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] يعني: بالدعاء والاستغفار. قال شيخ الإسلام: لما نهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن القيام على قبور المنافقين، كان دليلاً على أنَّ المؤمن يقام على قبره بعد الدفن، ولما أخرجه أبو داود (3221) عن عثمان؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من الميت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنَّه الآن يُسأل". قال ابن المنذر: قال بمشروعيته جمهور العلماء. قال الترمذي: الوقوف على القبر، والسؤال للميت وقت دفنه، امتداد

للدعاء للميت بعد الصلاة عليه. 5 - قوله: "استغفروا لأخيكم" فيه إثبات الأخوة الإسلامية، وهو أقوى أواصر الأخوة وأوثقها؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وفيه معنًى آخر: تقريب قلوب المشيعين، وتليين قلوبهم للميت؛ ليخلصوا له الدعاء والاستغفار. 6 - وأما الأثر رقم (480): فهو شبيه بحديث أبي أمامة بالتلقين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات أحد منكم، فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وأنَّك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمَّد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا". فهذا حديث لا يصح رفعه، وقد ضعَّف هذا الحديث العلماء، ومنهم: صاحب "أسنى المطالب"، وابن الصلاح، والنووي، والعراقي، وابن حجر، والصنعاني. قال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا الذي يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: "يا فلان بن فلانة ... " قال: ما رأيتُ أحداً يفعله إلاَّ أهل الشام حين مات أبو المغيرة. قال ابن القيم في "المنار": إنَّ حديث التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه. وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم، وقال النووي: هو ضعيف. وقال الصنعاني: يتحصل من كلام أئمة التحقيق أنَّه حديث ضعيف، والعمل به بدعة، ولا يغتر بكثرة من يفعله. فتحصل أنَّ الأثر الذي ساقه المؤلف هنا ضعيف، لا تقوم به حجة، وأنَّه صنو حديث أبي أمامة في معناه، وصنوه في ضعفه، ولذا قال العراقي

والنووي: إسناده ضعيف، وقال ابن القيم: لا يصح. 7 - قال ابن القيم: كان هديه -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت، قام على قبره وأصحابه، وسأل الله له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولا يلقن كما يفعله الناس الآن. ***

481 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْب الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كنْتُ نَهَيْتُكُم عَنْ زِيَارةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا". رَوَاهُ مُسلمٌ. زَادَ التِّرْمذيُّ: "فإنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ" (¬1). زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة ابن ماجه في سندها أيوب بن هانىء، قال الحافظ: فيه لين. وعلى كل حال، فالمعنى صحيح، وتؤيده النصوص، وأما زيادة الترمذي فقد رواها، وصححها. * مفردات الحديث: - فزوروها: أمر من "الزيارة"، وهو إذن بعد نهي. قال بعض الأصوليين: إنَّ الأمر بعد النهي يفيد الإباحة؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقال بعضهم: إنَّ الأمر بعد النهي يعيد الشيء إلى حالته السابقة، والأفضل أن يقال: إنَّ هذا يختلف باختلاف الحال والمقام. - تزهِّد: قال الكسائي: زهدت، بكسر الهاء وفتحها، والزهد: قلة الرغبة في الشيء، فالزاهد في الشيء الراغب عنه، إما شرعًا وإما طبعًا. قال شيخ الإسلام: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. ¬

_ (¬1) مسلم (977)، الترمذي (1054). (¬2) ابن ماجه (1571).

482 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ زَائرَاتِ القُبُورِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بشواهده. رواه أحمد (2/ 356) والترمذي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة، وله شواهد عن جماعة من الصحابة، نذكر منها ما يلي: 1 - حديث حسان: أخرجه أحمد (15230)، وابن أبي شيبة، وابن ماجه (1574)، والحاكم (1/ 530)، والبيهقي (4/ 78)، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح، ورجاله ثقات. 2 - حديث ابن عباس: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 151)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن حبان (7/ 453)، والحاكم (1/ 530)، والبيهقي، وقال الترمذي: حديث حسن. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (481): يدل على أنَّ زيارة القبور أول الإسلام كانت ممنوعة محرَّمة؛ ذلك -والله أعلم- أنَّ كثيرًا من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر، وأنَّه يُخشى أن تجر الزيارة إلى التعلق بالأموات وأضرحتهم. 2 - لما رسخت العقيدة في القلوب، وفقهوا دينهم، وعلموا معنى الزيارة، نسخ تحريمها، ولم ينسخ إلى الإباحة، وإنَّما إلى الاستحباب. وحكى النووي والموفق الإجماع على استحبابها للذكور دون الإناث. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (1571).

وهذا الحديث بلغت طرقه حد التواتر؛ ذلك لأنَّ الأمر بالزيارة قارنها بيان الحكمة منها، وهو تذكر الآخرة، والزهد في الدنيا، وهذان مطلبان أساسيان في الإسلام؛ فإنَّ الاعتبار والاتعاظ والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة -أكبر معين للعبد على تقوى الله تعالى. 3 - زائر القبور لا يخلو من أربع حالات: الأولى: يدعو للأموات، فيسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة، ويخص من زاره منهم بالدعاء والاستغفار، وَيعتبر بحال الموتى، وما آلوا إليه، فيُحْدث له ذلك عبرة وذكرى وموعظة، فهذه زيارة شرعية. الثانية: أن يدعو الله تعالى لنفسه، ولمن أحب عند القبور، أو عند صاحب قبر خاص، معتقداً أنَّ الدعاء في المقابر، أو عند قبر الميت فلان، أنَّه أفضل وأقرب للإجابة من الدعاء في المساجد، فهذه بدعة منكرة. الثالثة: أن يدعو الله تعالى متوسلاً بجاههم أو حقهم، فيقول: أسألك يا ربي أعطني كذا بجاه صاحب هذا القبر، أو بحقه عليك، أو بمقامه عندك، ونحو ذلك، فهذه بدعة محرَّمة؛ لأنَّها وسيلة إلى الشرك بالله تعالى. الرابعة: أن لا يدعو الله تعالى، وإنَّما يدعو أصحاب القبور، أو صاحب هذا القبر، كان يقول: يا ولي الله، يا نبي الله، يا سيِّدي، أغنني، أو أعطني كذا، ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر. 4 - في الحديث إثبات نسخ الأحكام في الشريعة الإسلامية. 5 - أنَّ أحكام الله تعالى تابعة لِحكَمِها وأسرارها؛ لأنَّها جاءت لتحقيق المصالح، فكلما كانت المصلحة، فثمَّ شرع الله تعالى. 6 - الواجب على المسلم إذا ظهر له الصواب في قول أن يأخذ به، ويدع ما سواه. 7 - ينبغي للإنسان أن يفعل ما يذكره بالآخرة، وأن يأخذ بكل سبب يوقظه

ويذكره؛ لأنَّ القلب قد يتَّعظ بشيء دون شيء آخر، فإذا تعرَّض للأسباب كلها أحدثت له عظة وعبرة. 8 - أنَّ القبور والموت من أمور الآخرة، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-:"فإنَّها تذكركم الآخرة". قال شيخ الإسلام: ومن الإيمان بالله، الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت. 9 - قوله: "فإنَّها تذكر بالآخرة" هذا هو العلة فى مشروعية زيارة القبور، والعلَّة إذا نُصَّ عليها، فإنَّها تفيد ثلاث فوائد: الأولى: اطمئنان المسلم إلى أنَّ هذه الشريعة لا تأمر بشيء، ولا تنهى عن شيء إلاَّ لحكمة، فأحكام الله تعالى مبنية على تحقيق المصالح، ودرء المفاسد. الثانية: أنَّ معرفة حكمة الله تعالى في أحكامه تُحْدِث في النفس العاملة راحةً، ونشاطًا، وإقبالاً على الطاعة، واستكمالاً للفضائل. الثالثة: إمكان القياس على الحُكم المنصوص عليه بحُكْم لم ينص عليه، بجامع العلة المشتركة بينهما، وفي هذا إثراء للفقه الإسلامي. 10 - أما الحديث رقم (482): ففيه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن النساء اللائي يزرن القبور، ولَعْن الشارع لا يكون إلاَّ على إتيان كبيرة من كبائر الذنوب، فصارت زيارة النساء القبور من الكبائر. 11 - الحكمة في منع النساء عن زيارة القبور، هو ما لديهن من الضعف، والرقة، وعدم الصبر والاحتمال، فتخشى أن تجرَّ زيارتهن إلى أن يأتين من الأقوال والأفعال ما يُخْرجهن عن الصبر الواجب. 12 - قال ابن القيم في "الهدي": كان من هديه إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها لأمَّته، وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: "السلام عليكم

أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتهم من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت: من الدعاء والترحم والاستغفار، فأبى المشركون إلاَّ دعاء الميت، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّه هو توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك، وإساءة إلى نفوسهم، وإلى الميت؛ لأنَّه لا يخلو من ثلاثة أمور: (أ) إما أن يدعو الميت. (ب) وإما أن يدعو به. (ج) وإما أن يدعو عنده. ويرون أنَّ الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المسجد والأسحار، ومن تأمل هديَ رسوله الله وأصحابه، تبيَّن له الفرق بين الأمرين، وبالله التوفيق. 13 - قال شيخ الأسلام: الزيارة على قسمين: شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، والبدعية أن يكون مقصود الزائر طلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذه بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك. 14 - لا ينبغي أن يكون الإنسان في المقبرة -سواء كان زائرًا أو مشيِّعاً- في حالة فرح وسرور، وكأنَّه في حفل، وإنَّما يتأثَّر، أو يظهر التأثر أمام أهل الميت، وليتذكر حال أصحاب القبور، وأنَّ مصيره إليهم، وليكن له فيهم عبرةٌ وعظةٌ. 15 - جاء في البخاري (1189)، ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تشد الرحال إلاَّ لثلاثة مساجد: المسجد الحرام،

ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". ففي قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سدٌّ للذرائع المفضية إلى الشرك؛ لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر، وألا يصير شد الرحال إلى القبور ذريعة إلى عبادتها، واستثنيت هذه المساجد الثلاثة؛ لما لها من ميزة على غيرها بأمور هامة، منها: - أنَّها المساجد التي بناها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. - أن المسجد الحرام قبلة المسلمين، والأقصى كان قبلتهم الأولى. - أسست على التقوى من أول يوم. - الصلاة فيها مضاعفة على غيرها من المساجد. فلهذه المساجد ميزة مفضلة على غيرها، فشُرع شد الرحل إليها دون غيرها، أما شد الرحال إلى القبور والأضرحة، فهو الغلو فيها المفضي إلى الشرك الأكبر، والشرك حرام، ووسائله حرام، فالوسائل لها أحكام المقاصد. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال، واختلفوا في زيارة النساء: ذهب الحنفية إلى استحباب زيارة النساء للقبور كالرجال، ويستدلون على ذلك بما ورد في عموم الأمر بالزيارة بدون تخصيص، والأصل أنَّ الأوامر عامة ما لم يرِد ما يخصصها. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى كراهتها للنساء، وخصوا الأمر بالزيارة بالرجال دون النساء؛ لأنَّ الضمير للرجال، ولا تدخل النساء فيه. ولما روى مسلم (938) عن أم عطية قالت: "نُهِيْنَا عَن زيارة القبور، ولم يعزم علينا"، ولما روى الترمذي (1056): "لعنَ الله زائرات القبور".

والنساء لديهنَّ من الرقة ما يجدد لهنَّ المصائب والحزن والبكاء، وربَّما جرى منهنَّ ما ينافي الصبر الواجب. ولهذه النصوص والاعتبارات؛ فإنَّ بعض محققي العلماء يرون تحريم زيارتهنَّ للقبور، ولا يقتصرن على مجرَّد الكراهة. قال في "الاختيارات": ظاهر كلام أبي العباس ترجيح التحريم؛ لاحتجاجه بلعن النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور، وتصحيحه إيَّاه. * فائدة: مذهب أهل السنة أنَّ الروح هي النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنَّ الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعَّمة أومعذَّبة، وتتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم أو العذاب. وقال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يُعرضُ عليه، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا. وجاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم فيجتمعون -إذا شاء الله- كما يجتمعون في الدنيا، مع تفاوت منازلهم، وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا، أو متقاربة، ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس. وفي "الغنية": يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد، والله أعلم. ***

483 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّائِحَةَ، وَالمُسْتَمِعَةَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيفٌ. قال في "التلخيص": رواه أحمد (11228) من حديث أبي سعيد، واستنكره أبو حاتم، ورواه الطبراني من حديث ابن عمر، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، وكلها ضعيفة. قُلْتُ: فقد ضعَّفه كل من: أبي حاتم، وابن حجر، وابن الملقن. * مفردات الحديث: - لعن: لعنًا، من باب نفع: طرده وأبعده من الخير، فهو لعين وملعون، والفاعل: لاعن، والمبالغة: لعَّان، قال في "التعريفات": اللَّعن من الله هو إبعاد العبد بسخطه، ومن الإنسان الدعاء بسخطه. - النائحة: ناح على الميت نياحة، والنياحة هي: رفع الصوت بالندب، وتعديد محاسن الميت. قال عياض: النياحة اجتماع النساء للبكاء على الميت. - المستمِعَة: هي القاصدة لسماع النياحة. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (1056)، ابن حبان (7/ 453).

484 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلاَ نَنُوحَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). 485 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬2). وَلَهُمَا نَحْوُهُ عَنِ المُغِيْرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديثين: - أخذ علينا: أي: العهد، وألزمنا ألا ننوح. - بما نيح عليه: الباء للسبية، و"ما" مصدرية؛ أي: بسبب النوح عليه. "نِيْحَ" بِكسر النون وسكون الياء وفتح الحاء، مبني للمجهول. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (3128). (¬2) البخاري (1306)، مسلم (936). (¬3) البخاري (1292)، مسلم (927).

486 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْتُ بِنْتاً لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ عِنْدَ القَبْرِ، فَرَأيْتُ عَيْنيهِ تَدْمَعَانِ". رَوَاه البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من هذه الأحاديث: 1 - الحديثان رقم (483، 484): يدلان على تحريم النياحة: التي هي رفع الصوت، بتعديد شمائل الميت، ومحاسن أفعاله؛ فإنَّ هذه عادة جاهلية قضى عليها الإسلام وحرمها. 2 - دليل تحريم النياحة: لعن النائحة، فإنَّ اللَّعن لا يكون إلاَّ في كبيرة من كبائر الذنوب. 3 - مثل النياحة: شق الثوب، ولطم الخد، ونتف الشعر، ونحو ذلك؛ لِما في البخاري (3519) ومسلم (103) أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَال: "لَيس مِنَّا مَنْ لطَمَ الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" دعوى الجاهلية هي الندب والنياحة. 4 - والحكمة في النهي عن ذلك: ما فيه من إظهار الجزع والتسخط، وعدم الصبر الواجب على قَدَر الله تعالى وقضائه. أما الرضا بقضاء الله تعالى: فلا يجب، وإنَّما يستحب، ومنهم من قال بوجوبه. 5 - يدل الحديث رقم (483): على تحريم الاستماع إلى النائحة، وأنَّ المستمعة شريكة في اللعن، بخلاف السامعة التي لم تقصد الاستماع، فلا ¬

_ (¬1) البخاري (1291)، مسلم (933).

تدخل في الحكم، ولكن الواجب عليها -إذا لم تقدر على تغيير المنكر- أن لا تجلس مع النائحات. قال شيخ الإسلام: الصبر واجب إجماعًا. 6 - قال الشيخ: الثواب في المصائب على الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فإنَّها ليست من كسب ابن آدم. والصبر شرعاً: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخد، وشق الثوب ونحوها، وهو خُلق فاضل يدل على صلاح العبد، وصلابته في دينه، قال تعالى: {يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر]. وجاء مدح الصبر والصابرين في أكثر من ثمانين موضعاً في القرآن الكريم. 7 - وأما الحديث رقم (485) فيدل على أنَّ الميت يعذب بسبب النياحة عليه، والنياحة ليست من فعله، فلذا استشكل العلماء معنى تعذيب الميت بما نيح عليه، والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. وأفضل ما قيل فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الصواب أنَّ الميت يتأذى بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، مثل: "إنَّ الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه" وفي لفظ: "من يُنح عليه يعذب بما نيح عليه"، والشارع لم يقل: يعاقب بما نيح عليه، وأنما قال: يعذب، والعذاب أعم من العقاب، فإنَّ العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له، ولكن ينبغي أن يوصي بترك النياحة عليه، إذا كان من عادة أهله النياحة، لأنَّه متى غلب على ظنه النياحة، وفعلهم لها، ولم يوص بها مع القدرة فقد رضي بها، فيكون كتارك المنكر مع القدرة على إزالته. 8 - قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه الآية الكريمة قاعدة كلية عامة،

لأهميتها وعظمتها وجدت بالشرائع السابقة، ولذا قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]. لكن إنَّ كانت النفس الأخرى هي السبب في الوزر، فإنَّها تعاقب بمثل عقاب المباشر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من دلَّ على خير، فله مثل أجر فاعله" [رواه أبو داود (5129)]، وقوله: "ومن سنَّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" [رواهُ مُسلم (1017)]. 9 - وأما الحديث رقم (486): فيدل على جواز البكاء على الميت بدون رفع صوت، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- عند موت ابنه إبراهيم: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يرضي الرب" [رواه البخاري (1303) ومسلم (2315)]، وكما جاء في البخاري (1304): ومسلم (924) من حديث ابن عمر؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم" فهذا الحزن هو رحمة ينزلها الله على قلوب بعض عباده، وفيه تخفيف من شدَّة المصيبة. 10 - يجب الصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى والاسترجاع، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر]. فأهل الإيمان هم أقل الناس انزعاجًا عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقًا عند النوازل، وهذه الكلمات المباركة الطيبات من كتاب الله تعالى، هي أبلغ علاج عند المصيبة، وأنفعه في العاجلة والآجلة، فإنَّها تضمَّنت أصلين، إذا تحقق العبد معرفتهما: هانت عليه المصيبة: الأول: أنَّ العبد وأهله وما عنده ملك لله تعالى.

الثاني: أنَّ مصير العبد ومرده إلى ربه ومولاه. وَمَنْ هذه حاله لا يفرح بموجودٍ، ولا يحزن على مفقودٍ. وإذا علم المؤمن علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه- هانت عليه المصيبة. قال ابن القيم: كان من هديه السكون والرضا بالقضاء، والحمد لله والاسترجاع. قال شيخ الإسلام: للعلماء في الرضا قولان: هل هو واجب، أو مستحب؟ والصحيح: أنَّه مستحب. 11 - قال في "مختصر كفاية الأخيار" للشافعية: - الشخص إذا ذاق أنَّ لله ما أعطى، وله ما أخذ، لا يشق عليه أية مصيبة؛ لأنَّ الملك لله يتصرَّف فيه كيف شاء. - فإنَّ فاته ذلك، وغلب عليه الوازع الطبيعي، دفعه الوازع الشرعي إلى الصبر والاحتساب. - فإن فاته ذلك تعددت عليه المصيبة، وهذا إنَّما ينشأ من فراغ القلب عن الله تعالى، بخلاف القلب العامر به، فإنَّه يرى الأموال والأولاد فتنةً وقطيعة عن ربه، وبُعْداً عن غايته. 13 - اختلف العلماء في إباحة ترك الزينة، وحسن الثياب، وتجرد المصاب، لمدة ثلاثة أيام غير الزوجة، فأباح ذلك كثير من الفقهاء ومنهم: الحنابلة؛ لما في البخاري (303) ومسلم (938) عن أم عطية قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"لا تحدّ امرأة على ميت فوق ثلاثٍ، إلاَّ على زوجٍ، أربعة أشهر وعشرًا". وأنكر ذلك شيخ الإسلام، وذكر أنَّ السلف لم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، فلا يغيرون شيئًا من زيهم قبل المصيبة، ولا كانوا يتركون ما كانوا يفعلونه قبلها؛ فإنَّ ذلك منافٍ للصبر.

487 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَدْفِنُوا مَوْتَاكمْ بِاللَّيْلِ، إِلاَّ انْ تُضْطَرُّوا". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لكِنْ قَالَ: "زَجَرَ أنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فإنَّ أصله في مسلم بلفظ: "إنَّه -صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ أنْ يُقْبرَ الرَّجل بالليل، حتَّى يُصلى عليه، إلاَّ أنْ يَضْطَرّ الإنْسَانُ إلى ذلك". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث كراهة دفن الميت ليلاً، إلاَّ عند الحاجة إلى ذلك؛ كخشية تغيره، فيدفن ليلاً بلا كراهة. 2 - الحكمة في هذا ما أشار إليه الحديث بلفظ: "حتى يصلى عليه". والمراد من ذلك: أنَّ تجهيز الميت، والصلاة عليه ليلاً مظنة التقصير في ذلك، من عدم إحسان الغسل، وعدم إجادة الكفن والتكفين، ومن قلَّة المصلين عليه، أما النهار فتوافر هذه الأمور يسير. 3 - إذا وجدت هذه الأشياء، وتوافرت تلك الأمور ليلاً، زالت الكراهة المذكورة في هذا الحديث، ورجعنا إلى أصل الحكم، وهو استحباب الإسراع بالجنازة، فتقدم في هذا المعنى حديثان: "أسرعوا بالجنازة، فإنَّ تكن صالحة ... " إلخ، [رواه مسلم (943)]، وحديث: "لا ينبغي لجيفة ¬

_ (¬1) ابن ماجه (1521)، مسلم (943).

مسلم أن تُحْبَس بين ظهراني أهله" [رواه أبو داود (3159)]، وقد أخرج الترمذي (1057)، عن ابن عباس بإسناد حسن؛ أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم-: "دخل قبراً ليلاً، فأسرج له سراج، وأخذه من قبل القبلة". ودفن الصحابة أبا بكر-رضي الله عنه- ليلاً، ودفن علي فاطمة -رضي الله عنها- ليلاً، ولذا فإنَّ جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة لا يرون الكراهة في الدفن ليلاً. قال ابن القيم في "الهدي": كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- لا يدفن الميت عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا حين يقوم قائم الظهيرة. وقد روى مسلم (831) عن عُقْبَة بن عامر قال: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تقرب الشمس من الغروب حتى تغرب". ***

488 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِيْنَ قُتِلَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: اصْنعوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ". أَخرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، والدارقطني (2/ 78)، والحاكم (1/ 527) من حديث عبد الله بن جعفر، وصحَّحه ابن السكن، ورواه أحمد، والطبراني، وابن ماجه من حديث أسماء بنت عُميس، وهي والدة عبد الله بن جعفر. * مفردات الحديث: - نعى: يقال: نعيت الميت نعيًّا، من باب نفع: أخبرت بموته، والنعي الجاهلي: هو النداء بموت الشخص مع ذكر مفاخره، نحو: واجبلاه، واكريماه. - اصنعوا: صنع الشيء: أجاد فعله، والمراد هنا: طبخ الطعام لآل جعفر أهل المصيبة. - آل جعفر: هم زوجة جعفر بن أبي طالب، أسماء بنت عميس، وأولاده. - ما يشغلهم: قال الراغب: الشَّغل والشُّغل: العارض الذي يذهل الإنسان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة ثمانٍ من هجرته جيشًا إلى مؤتة (قرية من مشارق الشام) لقتال الروم، وجعل عليهم أميرًا زيد بن حارثة، فإن قتل، فجعفر بن أبي ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 205)، أبو داود (3132)، الترمذي (998)، ابن ماجه (1610).

طالب، فإن قتل، فعبد الله بن رواحة، فقتل الأمراء الثلاثة كلهم؛ لأنَّ جيش المسلمين ثلاثة آلاف وجيش الروم يقدر بمائة ألف، وجاء خبرهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السماء، فذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت جعفر فواساهم، ودعا لأطفاله، ثم ذهب إلى أهله، وقال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد أتاهم ما شَغَلهُم. 2 - فصارت سنة نبوية أنَّ أصحاب الميت يرسل إليهم بالطعام من أقاربهم أو جيرانهم أو أصدقائهم ونحوهم. ولا شكَّ أنَّ هذا من محاسن الإسلام، ففيه تكافل اجتماعي، وفيه تحقيق لما جاء في الحديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا" [رواه البخاري (2446)]. 3 - قال في "شرح الزاد": ويُسن أن يُصْنَع لأهل الميت طعام، يُبعث به إليهم ثلاثة أيام لقصة جعفر. قال محرره -عفا الله عنه-: الحديث لم تذكر فيه مدة الإطعام، ويظهر أنَّها مرَّة واحدة، ولكن الفقهاء راعوا مدة العزاء ثلاثة أيام، وما دام شرع أصل الإطعام، فالأمر فيه سعة. 4 - أما ما اعتاده الناس الآن من أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام، ويطعمون الناس، فهو بدعة شنيعة؛ لأمور كثيرة: أولاً: أنَّه عمل مخالف للسنة، وما خالف السنة فهو بدعة. ثانيًا: فيه تشبه بأعمال الجاهلية من العقر والنحر عند موت كبارهم. ثالثًا: فيه إنفاق محرَّم، فهي داخلة في باب السرف. رابعًا: قد يكون إنفاق المال الموروث ظلمًا إذا كان لضعافٍ وصغارٍ. خامسًا: إنَّ أهل الميت في شغل عن إعداد الطعام، ودعوة الناس إليه بالانشغال عنه بمصيبتهم.

5 - وهذه بعض المقتطفات من كلام العلماء حول هذه المسألة: قال الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي-رضي الله عنه- "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعهم الطعام من النياحة" [رواه أحمد وابن ماجه ورجال إسناده ثقات]. وقال الإمام أحمد: هو من فعل أهل الجاهلية. وقال الطرطوشي: فأما المأتم فممنوع بإجماع العلماء، والمأتم: هو الاجتماع على مصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل فيه شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني، والثالث، والرابع، والسابع، والشهر، والسنة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: جمْع أهل المصيبة الناس على طعامهم؛ ليقرؤوا له ليس معروفاً عند السلف، قد كرهه طوائف من العلماء من غير وجه، وعدَّه السلف من النياحة. 6 - قال الشيخ أيضًا: إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، ولا يشرع من العبادات عند القبور، لا صدقة ولا غيرها، كالذبح والتضحية عند القبر، ولو نذره، أو شرطه واقف كان، شرطًا فاسدًا يحرم إنفاذه. * فائدة: قال في "المغني" و"الشرح الكبير" وغيرهما: وإن دعت الحالة إلى ذلك -صنعهم الطعام- جاز، فإنَّه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة، ويبيت عندهم، فلا يمكنهم إلاَّ أن يُطْعِمُوهُ. ***

489 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَى أهْلِ الدِّيَارِ: مِنَ المُؤْمنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، نَسْأَلُ الله لَنَا وَلَكُمُ العَافِيةَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أهل الديار: منادى، محذوف منه حرف النداء، والتقدير: يا أهل الديار، والديار -جمع دار-: المنازل محل الإقامة. قال ابن الجزري: يريد بالديار: المقابر، وهو جائز لغة. - من المؤمنين والمسلمين: الجمع بينهما يقتضي المغايرة، والمسلمون هم المستسلمون ظاهرًا بأقوالهم وأفعالهم، وأما المؤمنون فهم الذين جمعوا مع ذلك الاعتقاد الصادق، فالمؤمنون أكمل من المسلمين. وقد عرف الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا. قال ابن رسلان: الإيمان والإسلام وإن اختلفا متحدان في المقاصد. ... ¬

_ (¬1) مسلم (975).

490 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقُبُورِ المَدِيْنةِ، فَأَقْبلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلاَمُ علَيْكُمْ يَا أهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنا وَلَكُمْ، أنْتُم سَلَفُنَا، وَنَحْنُ بِالأَثَرِ". رَوَاهُ التِّرمذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. وجاء في معتاه: 1 - حديث بريدة في مسلم (975) المتقدم؛ من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار: من المؤمنين والمسلمين، إنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". 2 - وحديث أبي هريرة في مسلم (974): "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". 3 - وحديث عائشة عند أحمد (23904) مثله، وزاد: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم". * مفردات الحديث: - سلفنا: هو من تقدم بالموت. - ونحن بالأثر: بفتحتين؛ أي: تابعون لكم، من ورائكم، لاحقون. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديثان على استحباب زيارة القبور: الزيارة الشرعية، وهي التي يراد بها الدعاء للأموات، والاستغفار لهم، كما يراد منها الاعتبار والاتعاظ ¬

_ (¬1) الترمذي (1393).

بمآلهم، وتغيير أحوالهم، فقد جاء في الحديث الصحيح: "كنت نهيتكُم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنَّها تذكر في الآخرة، وتزهد في الدنيا". 2 - أما الزيارة البدعية فمنهيٌّ عنها، وهي التي يراد بها سؤال الميت، والطلب منه كشف الكربات، وقضاء الحاجات، فهذا شرك أكبر. أو يقصد بها التوسل في حق الميت، أو جاهه، أو دعاء الله عند قبره، اعتقادًا أنَّ الدعاء عند القبور مستجاب، فهذه بدعة شنيعة ومنكرة، والعياذ بالله. 3 - يدل الحديثان على السلام على الموتى من المؤمنين والمسلمين، وسؤال الله تعالى لهم العافية من عذاب القبر، وعذاب النار. 4 - استحباب هاذا الدعاء والقول لزائر القبور، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دعا به لأهل البقيع، وعلَّمه عائشة أن تقوله. 5 - إذا ذكر الإسلام والإيمان في مقام واحد، فالأصل تغاير المعنى، فالإسلام غير الإيمان، والعكس، ولا شكَّ أنَّ المقبرة قد جمعت مسلمين ومؤمنين، والدعاء لهما جميعًا، وهذا وجه ذكر الطائفتين بوصفيهما. 6 - قال الشيخ صديق بن حسن في "السراج الوهاج": وحاصل المسألة أنَّ الزيارة للقبور سنة ثابتة قائمة، تذكر الزائر الموت والآخرة، وهذا معظم مقصودها وغاية فعلها. ومن زار قبرًا -أيَّ قبر كان- وفعل عنده ما لم يرد به، من كتابٍ، وسنةٍ صحيحةٍ- فقد خالف السنة المطهرة، وعكس القضية. وقد حدثت -منذ عصور طويلة عريضة في هاذه الأمة في زيارتها- بدع وشرك، لا يدل عليها دليل ضعيف فضلاً عن صحيح، فأفْضَتْ بأصحابها إلى الوقوع في هُوة الكفر، وصَنعُوا بالقبور من الزخرفة، والاستغاثة بأهلها ما جلب عليهم اللعنة من الله سبحانه وتعالى، ورسوله.

7 - وأما قوله: "وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون"-: فأصح ما قيلِ في هاذا الاستثناء أنَّ المراد به اللحاق بهم على الإسلام والإيمان، اللَّذين ماتوا عليهما، وألا يفتنا ويضلنا بعدهم، وإن كان السلام على أهل البقيع، فيدخل فيه اللحاق بهم في البقعة، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل البقيع، فقال: "اللَّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" والدعوة شاملة للأولين والآخرين. والغرض من قوله: "وإنا بكم لاحقون" هو تذكير الإنسان نفسه بأنَّه لاحق بهم، وهذا من أغراض زيارة القبور. 8 - قال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يعرض عليه ويُسرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا، ويعرف الميت زائرَه قبل طلوع الشمس. وفي "الغنية" للشيخ عبد القادر: يعرفه كل الوقت، ويوم الجمعة آكد. قال ابن القيم: الأحاديث والآثار تدل على أنَّ الزائر إذا جاء، علم به المزور، وسمع كلامه، وأنِسَ به وردَّ عليه، وذلك عامٌّ في الشهداء وغيرهم، ولا توقيت في ذلك. 9 - الدعاء هنا مناسب للزائر وللموتى، أما الزائر فهو يسأل الله لنفسه العافية من أمراض الأبدان وأمراض القلوب، التي هي أشد ضررًا من أمراض الأبدان، وأما الموتى فهو يدعو لهم بالسلامة والعافية من العذاب، ويسأل الله تعالى لهم الرحمة والمغفرة. 10 - قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" يدل على أنَّه يستحب للإنسان أن يوطن نفسه على هذا المستقبل، وأنَّه لاحقٌ بهؤلاء الأموات حتى يستعد، فإنَّ في الموت موعظة وذكرى. * فوائد: الأولى: أجمع العلماء على استحباب تعزية المسلم المصاب بالميت، ولو

صغيرًا قبل الدفن وبعده، وحثه على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب؛ لما روى ابن ماجه (1601) من حديث عَمْرو بن حزم أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلاَّ كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة". قال الشيخ: فيقال للمصاب: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك؛ ولاتعيين في ذلك، بل يدعو بما ينفع. قال الموفق: لا أعلم في التعزية شيئًا محددًا. الثانية: الاسترجاع عند المصيبة سنة، إجماعًا؛ لقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة]. قال ابن كثير: تسلوا بقولهم هاذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف فيهم بما يشاء، وعلموا أنَّه لايضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم اعترافهم بأنَّهم عبيده، وراجعون إليه في الدار الآخرة. الثالثة: حكى ابن عقيل وغيره الإجماع على تحريم الرضا بفعل المعصية، منه أو من غيره؛ لوجوب إزالتها حسب الإمكان، فالراضي بها أولى. الرابعة: قال ابن عقيل: يحرم النحيب وتعداد محاسن ومزايا الميت، وإظهار الجزع؛ لأنَّ ذلك يشبه التظلم من ظالم، والله تعالى هو صاحب العدل، له أن يتصرف بخلقه بما شاء، فهم ملكه، وتصرفه فيهم بما يقتضيه حكمته. ***

491 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ؛ فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). وَرَوَى التِّرمذيُّ عَنِ المُغِيرَة نَحْوَهُ، لكِنْ قَالَ: "فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة الترمذي حسنة. حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بزيادته: "فتؤذوا الأحياء" لها عدة طرق عند الطبراني في "الكبير" (8/ 25)، وإن كان فيها ضعف، إلاَّ أنَّه يقوي بعضها بعضًا، ورواها الإمام أحمد في "المسند" (17744)، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، وحسَّنه السيوطي في "الجامع الصغير". * مفردات الحديث: - لا تَسُبُوُّا: السبّ هو: الشَّتم والقطع والطعن، من باب ردَّ يرُد، وبهذا يشمل السب كل كلام، أو حال يراد منه أذية المشتوم والطعن فيه: من سبٍّ، أو لعنٍ، أو انتقاصٍ ونحوه، والله أعلم. - أفْضَوا: أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، يقال: أفضيت إلى الشيء: وصلت إليه، "كما في المصباح المنير". - ما قدِّموا: من التقديم، أي: لأنفسهم من الأعمال، والمراد: جزاؤها. ¬

_ (¬1) البخاري (1393). (¬2) الترمذي (1982).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث يدل على منع وتحريم سب الأموات مطلقًا؛ سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، أو كان مسلمًا فاسقًا أو صالحًا. 2 - لكن هذا العموم مخصوص على أصح ما قيل: بأنَّ أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساوئهم؛ للتحذير منهم، والتنفير عنهم، وعن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم، والضابط في جواز ذكرهم بالسوء إذا كان لمصلحة شرعية للمسلمين. 3 - علَّل -صلى الله عليه وسلم- النهي عن سبهم؛ بأنَّهم أفضوا ووصلوا إلى جزاء ما قدموا وعملوا من خير أو شر، والله هو المجازي، فلا فائدة في سبهم، فيحرم إلاَّ لمصلحة شرعية؛ أو ما خصَّه الدليل من عموم هذا النهي. 4 - العلة الثانية في هذا النهي؛ لئلا يتأذى الأحياء بسبهم، من أولادهم وأقاربهم ومن يلوذ بهم؛ إذ العلة الأولى في النهي عن سبهم أنَّهم أفضوا إلى ما قدموا، وهذا يدل على العموم إلاَّ لمصلحة شرعية، فإن كان في سبهم أذية للأحياء، فيكون محرمًا من جهتين، وإلاَّ كان محرمًا من جهة واحدة. 5 - وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فتؤذوا الأحياء" لا يدل على جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء، كمن لا قرابة له، أو كانوا ولكن لا يبلغهم ذلك؛ لأنَّ النَّهي عام إلاَّ لمصلحة شرعية. 6 - أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياءً وأمواتًا، لابتناء أحكام الشرع على بيان حالهم. 7 - قال الشوكاني -رحمه الله-: المتحري لدينه: في اشتغاله بعيوب نفسه، ما يشغله عن نشر مثالب الأموات، وسب مَنْ لا يدري كيف حاله عند بارىء البريات. ولا ريب أنَّ تمزيق عِرض من قدم وجَثَا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر

أعلم -مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه- أحموقة لا تقع لمتيقظ، ولا يصاب بمثلها متدين، ونسأل الله السلامة بالحسنات، وأن يغفر لنا تفلتات اللسان والقلم، وأن يجنبنا سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة من أعظم المهالك. 8 - ينبه هنا إلى أمر عظيم، وخطير جدًّا، وهو ما يقع من بعض الجاهلين الذين يقعون في أئمة ديننا، ويطعنون فيما سلف من أئمة الإسلام، ويتكلمون في عقيدتهم ويضللونهم ويبدعونهم، ونصبوا أنفسهم حكَّامًا على أولئك الجبال العظام من أئمة الإسلام الذين قيل فيهم: تجاوزوا القنطرة. ومن أنت أيها الجاهل المفضَّل بالنسبة إليهم، فارفق بنفسك، واعرف حرمة أئمة، وعلماء الإسلام، ورحم الله امرءًا عرف قدره فوقف عنده. ***

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة مقدمة الزكاة لغة: النَّماء والزيادة، وسمِّي المُخْرَج زكاة؛ لأنَّه يزيد المخرَج، منه وينمِّيه. قال ابن قتيبة: سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّها تثمر المال، وتنمِّيه. قال الشيخ تقي الدين: لفظ الزكاة في اللغة يدل على النمو، فيقال: زكى إذا نما، فسمِّيت: زكاة؛ للمعنى اللغوي، وسمِّيت: صدقة؛ لأنَّها دليل لصحة إيمان مؤدِّيها، وتصديقه. وشرعًا: حق واجب في مال خاص، لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص. وتجب الزكاة في خمسة أشياء من المال، هي: 1 - سائمة بهيمة الأنعام. 2 - الخارج من الأرض. 3 - العسل. 4 - الأثمان. 5 - عروض التجارة. وفرضت في السنة الثانية من الهجرة.

وشُرعت طهرةً للمال، وطُهرةً للنفس، وعبوديةً للرب، وإحسانًا إلى الخلق. والزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلائل الكتاب والسنة، وقرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعًا. وأجمع المسلمون على أنَّها ركن من أركان الإسلام، ومستند الإجماع نصوص الكتاب والسنة، ومن جحد وجوبها كفر، ومن منعها فسق، وقد قاتل الصحابة مانعي الزكاة، واستحلوا دماءهم وأموالهم؛ لأنَّهم منعوا شعيرة كبيرة من شعائر الإسلام. وهي من محاسن الإسلام، الذي جاء بالمساواة، والتراحم، والتعاطف، والتعاون، وقطع دابر كل شر، يهدد الفضيلة والأمن والرخاء، وغير ذلك من مقوِّمات الحياة السعيده في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، فقد جعلها الله طُهرةً لصاحبها من رذيلة البخل، وتنميةً حسيةً ومعنويةً، ومساواةً بين خلقه، وإعانةً من الأغنياء لإخوانهم المستحقين لها، وجمعًا للكلمة، حينما يجود الأغنياء على أهلها بنصيب من أموالهم. وبمثل هذه الفريضة الكريمة الرشيدة، يُعلم أنَّ الإسلام دين التكافل الاجتماعي، يكفل للفقير العاجز عن العيش ما يعينه على حياته، وأنَّه دين الحرية الذي أعطى الغنيَّ حرية التملك مقابل كده وسعيه، وفرض عليه الزكاة مساواةً لإخوانه المعوزين، فهو الدين الوسط، فلا شيوعية مؤمِّمة حارمة، ولا رأسمالية ممسكةً محتكرةً شاحَّةً، وقد حذَّر الله تبارك وتعالى من منع الزكاة، وتوعد عليها بالعقوبة العاجلة والآجلة، وبالله التوفيق. ***

492 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ -فَذَكَرَ الحَديثَ- وَفِيهِ: إِنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بعث معاذًا إلى اليمن: أي: أرسله قاضيًا، أو واليًا عليها، قيل: في السنة العاشرة، ولم يزل هناك حتى قدم في خلافة أبي بكر، رضي الله عنهما. - افْتَرَض: يعني: أوجب عليهم؛ فإنَّ الفرض يراد به: الواجب. - صدقة: مشتقة من: الصِّدق، فهي تدل على صدق إيمان المزكِّي؛ لأنَّ المال محبوب إلى النفوس، ولا يخرجه إلاَّ صدق الإيمان، فهو دليل على إيمان باذله. وأطلق لفظ الصدقة على الزكاة؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ...} الآية [التوبة: 60]. والمراد بها: الزكاة. - تؤخذ: مبني للمجهول، والجملة محلها النصب، صفةً لـ"صدقة". - تُردّ: مبني للمجهول، معطوف على "تؤخذ". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - معاذ بن جبل الأنصاري من علماء الصحابة -رضي الله عنه- بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن سنة عشر، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم اليه، شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأني رسول الله، فإن هم ¬

_ (¬1) البخاري (1395)، مسلم (19).

أطاعوك لذلك، فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإيَّاك وكرائم أموالهم، واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّه ليس بينها وبين الله حجاب" [متَّفق عليه]. 2 - هذه الوصايا من تعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- للدعاة الذين يبعثهم في أطراف الأرض؛ لينشروا دين الله تعالى، ويبثوا دعوته، ويعلِّموا الناس ما يَخْرجون به من ظلام الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان. 3 - اختار -صلى الله عليه وسلم- للدعوة العلماء الفضلاء، ثم زوَّدهم بالعلوم الجليلة، والنصائح الثمينة، وأمرهم أن يدعو الناس إلى الأهم من أمور الدين. 4 - أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى، والإيمان برسالة محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ هذا أصل الدين وأساسه، الذي لا يقبل الله من عبد عبادة إلاَّ بعد تحقيقه. 5 - ثم تأتي الصلوات الخمس المكتوبات، فهي أعظم فريضة بعد الشهادتين، ثم تأتي فريضة الزكاة، التي يأتي ذكرها مقرونة مع الصلاة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز، والسنة المطهَّرة. 6 - ثم أخبره عن مصرف الزكاة، وأنَّها تُؤخذ من الأغنياء، فتعطى الفقراء، مواساةً وعدلاً بينهم في مال الله الذي آتاهم. 7 - قوله: "صدقة في أموالهم" يدل على آمرين: الأول: أنَّ الزكاة تجب في المال، لا في الذمة، وهذا مأخذ وجوبها، في أموال غير المكلفين: من الصغار والمجانين. لكن العلماء مع وإذا قالوا: إنَّ لها تعلُّقًا بالذمة، فلو تلفت بعد وجوبها لم تسقط، ولو أخرجت من غير عين المال -ولكن من نوعه- أجزأت. الثاني: يدل الحديث على وجوب الزكاة في عموم الأموال، وهو مطلقٌ في كثيره وقليله، ومُجملٌ في قدر ما يُخرج منه، لكن جاءت النصوص الأخر،

فخصَّصت عمومه، وقيَّدت مطلقه، وبيَّنت مجمَله. 8 - ثم حذَّره من أن يستغل نفوذه وسلطته؛ فيظلم أصحاب الأموال، فقال: أحذِّرك أن تأخذ للزكاة كرائم الأموال وجيدها، فإنَّه لا يجب عليهم إلاَّ النَّوع الوسط، الذي لا ظلم فيه على الغني، ولا هضم في حق الفقير. 9 - ثم بيَّن له أنَّ دعاء المظلوم مستجاب؛ لأنَّ الله تعالى ينتصر للمظلوم، وينتقم له من ظالمه. 10 - وقد زوَّده -صلى الله عليه وسلم- بنصيحة غالية، وهي إخباره بانَّه يقدم على أناس علماء من أهل كتاب، فليتَّخذ العُدَّة بالعلم الواسع، حتى إذا ألقَوا عليه المسائل والشُّبه وجادلوه، قابلهم بعلمٍ صحيحٍ، وأدلةٍ مقنعةٍ، وحجةٍ ظاهرةٍ. أما الجاهل الذي لا يعرف دفع الشُّبَه ورد الباطل، فإنَّه يكون نقصًا على دينه، وحجةً عليه، لا له. 11 - وبمثل هذا التوجيه الحكيم ينبغي للمسئولين أن يوجِّهوا الدعاة، ويزودوهم بالعلم النافع، والتوجيه الحسن؛ ليعطوا عن الإسلام صورة حسنةً، وسُمعة طيبة، والله ولي التوفيق. 12 - هذا الحديث لم يذكر فيه من أركان الإسلام الخمسة إلاَّ ثلاثة، مع أنَّها مفروضة وقت بعث معاذ. وأحسن جواب: هو أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- أراد من معاذ أن يتدرج بهم في تعاليم الإسلام، ويأخذهم بها شيئًا فشيئًا، فالثلاثة المذكورة حان وقتها، وقت بعثه إليهم، والاثنان الباقيان لم يأتِ وقت أدائهما، فإنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا في ربيع الآخر من سنة عشر، كما جاء في "فتح الباري" عن ابن مسعود. 13 - مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة، وأنَّ الذمة تبرأ بدفعها للإمام، أو سُعاته. 14 - أنَّ الزكاة مواساة بين الأغنياء والفقراء، فهي تؤخذ من هؤلاء لهؤلاء

على سبيل العدل. 15 - جواز صرف الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية من أهل الزكاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "في فقرائهم" 16 - استدل بالحديث بعضُ العلماء على عدم جواز نقل الزكاة من البلد الذي فيه المال إلى بدلد آخر؛ قصرًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- "في فقرائهم" على فقراء البلد الذي بُعث إليه. والصحيح جواز نقلها للمصلحة، كأن يكون للمزكي أقارب في بلد غير بلده، أو تكون الحاجة في البلد الآخر أشد. وكان -صلى الله عليه وسلم- يبعث السُّعاة لقبض الزكاة، فيأتون بها إلى المدينة، فتُفرَّق فيها، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. والمشهور من مذهبه: أنَّه لا يجوز نقلها، وسياتي للبحث تكملة إن شاء الله تعالى. 17 - أنَّ الداعية والواعظ يتدرَّج في دعوته من أهم الأمور إلى التي دونها، وكذلك جاء التشريع من الله تعالى على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى تمت الدعو, وكَمُل الدين. 18 - فيه أنَّه لا يجب من الصلاة إلاَّ الصلوات الخمس، أما الوتر وغيره فلا يجب. * فوائد: الأولى: والزكاة لوجوبها شروطٌ، أهمها: 1 - الإسلام: فلا تؤخذ من كافرٍ، ولو خوطب بها، وعذِّب على تركها. 2 - ملك النصاب: ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى. 3 - مضي الحول: وحول الخارج من الأرض حصوله. الثانية: الدَّين يمنعُ وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهي التي لا تُرى، وإنما هي مخفية في الصناديق والأحراز.

وهذا القول رواية واحدة في مذهب الإمام أحمد، فيسقط من المال بقدر الدين، فكأنه غير مالكٍ له، ثم يزكي ما بقي إن بلغ نصابًا. وأما الأموال الظاهرة: وهي السائمة والخارج من الأرض-: فهي ظاهرة ترى أمام العيون، فالصحيح أنَّ الدين لايمنع وجوب الزكاة فيها؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعث السعاة إلى أصحابها، ولم يستفصل. الثالثة: المشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ من له دين زكَّاه إذا قبضه مطلقًا؛ سواء كان عند مليء باذل، أو عند معسر، أو مماطل، ومثله المغصوب، والمسروق، والضال. والرواية الأخرى: أنَّ الدَّين لا تجب فيه الزكاة، إلاَّ إذا كان عند مليء باذل، وأما الدين على المعسر، أو المماطل، أو المغصوب، أو المسروق، أو الضال، ونحوها -فلا زكاة فيه، فإذا قبضه ابتدأ به عامًا جديدًا، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. قال الشيخ: هو أقرب الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد، وقدَّمه في "الفروع"، واختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي وكثير من المحققين؛ لأنَّ المال الذي لا يقدر عليه لا زكاة فيه، فالزكاة مواساة، فلا يكلف بها المسلم فيما ليس عنده. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن زكاة الديون: (قرار رقم: 1): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي

في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من (10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ) (22 - 28 ديسمبر 1985 م). بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول "زكاة الديون"، وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة، تبيَّن: 1 - أنَّه لم يرد نص من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يُفصل زكاة الديون. 2 - أنَّه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون. 3 - أنَّه قد اختلفت المذاهب الإسلامية، بناءً على ذلك اختلافًا بيِّنًا. 4 - أنَّ الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: "هل يعطى المال الممكن من الحصول عليه صفة الحاصل؟ " وبناءً على ذلك قرَّر: 1 - أنَّه تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة، إذا كان المدين مليئًا باذلاً. 2 - أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض، إذا كان المدين معسرًا أو مماطلاً. اهـ. والله أعلم. الرابعة: لا تجب الزكاة في الوقف الذي على غير معين، وإنما هو على الجهات العامة؛ كالمساجد والربط والمساكين، وإنما تجب في الوقف على معيَّنين؛ كأولاده إذا بلغت حصة كل واحد منهم نصابًا. الخامسة: * اختلاف العلماء متى فرضت الزكاة؟ أرجح الأقوال أنَّها فرضت تدريجيًّا، على ثلاث مراحل: 1 - الوجوب على الإطلاق بلا تحديد ولا تفصيل، وإنما أمرٌ بالإعطاء، والإطعام والإحسان، وهذا قبل الهجرة، قال تعالى في السورة المكية

الأولى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات]، وقال في سورة فصلت: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]، وقال في المدثر: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر]. 2 - في السنة الثانية من الهجرة بُيِّنت أحكام الزكاة التفصيلية على أنواع الأموال المزكاة، وقدر النصاب، وقدر المخرَج منه. 3 - في السنة التاسعة من الهجرة لما دخل الناس في دين الله أفواجًا، وتوسعت دائرة الإسلام، بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- السُّعاة والجباة إلى الأطراف لجبايتها. السادسة: قرار المجمع الفقهي في الرابطة في زكاة أجور العقار، وهذا نصه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبيِّنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرَّمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ 26 فبراير 1989م، قد نظر في موضوع زكاة أجور العقار، وبعد المناقشة وتداول الرأي، قرَّر بالأكثرية ما يلي: أولًا: العقار المُعَدُّ للسكنى هو من أموال القُنْية، فلا تجب فيه الزكاة إطلاقًا، لا في رقبته، ولا في قدر أجرته. ثانيًا: العقار المُعَدُّ للتجارة هو من عروض التجارة، فتجب الزكاة في رقبته، وتقدر قيمته عند مضي الحول عليه. ثالثًا: العقار المُعَدُّ للإيجار تجب الزكاة في أجرته فقط دون رقبته. رابعًا: قدر زكاة رقبة العقار إن كان للتجارة، وقدر زكاة غلته إن كان للإجارة هو

ربع العشر، إلحاقًا له بالنقدين. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. السابعة: قرار المجمع الفقهي بشأن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية: (قرار رقم:2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما بعد: فإنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني، من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ 22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن استمع المجلس لما أعدَّ من دراسات في موضوع: "زكاة العقارات والأراضي الماجورة غير الزراعية". وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبيَّن: أولًا: أنَّه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات، والأراضي المأجورة. ثانيًا: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات، والأراضي المأجورة غير الزراعية. ولذلك قرر: أولًا: أنَّ الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أنَّ الزكاة تجب في الغلة، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض، مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع. والله أعلم.

الثامنة: قرار المجمع الفقهي بشأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع، بلا تمليك فردي للمستحق. (قرار رقم: 15): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. أما بعد: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دروة مؤتمره الثالث بعَمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/ 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع: "توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي المستحق"، وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه. قرَّر: يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية، تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسَّة الفورية للمستحقين، وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر. والله أعلم. ***

493 - وَعَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَتَبَ لَهُ: "هَذِهِ فَرِيْضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- علَى المُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللهُ بهَا رَسُولَهُ: فِي كُلِّ أرْبعٍ وَعِشْرِيْنَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الغَنَمُ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ، فَفِيْهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، فَإِذَا بلَغَتْ سِتًّا وَثلاَثِيْنَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِيْنَ، فَفِيْهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بلَغَتْ سِتًّا وَأرْبَعِيْنَ إلَى سِتِّينَ فَفِيْهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ، فَإذَا بلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّيْنَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ فَفِيْهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِيْنَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بلغَتْ إِحْدَى وَتسْعِيْنَ إِلَى عِشْرِيْنَ وَمِائَةٍ فَفِيْهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ، فَإِذَا زَادَت عَلَى عِشْرِيْن وَمائَةٍ فَفِي كُلِّ أرْبَعِيْنَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِيْنَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَم يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أرْبعٌ مِنَ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيْهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أرْبَعِيْنَ إلَى عِشْرِيْنَ وَمائَةٍ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلى عِشْرِيْنَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَفِيْهَا شَاتَانَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِيْهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أرْبَعِيْنَ شَاةٍ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيْهَا صَدَقةٌ، إِلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلاَ يُجْمَعُ بيْنَ مُتَفَرِّقٍ، ولا يُفَرَّقُ بمنَ مُجْتَمعٍ؛ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كانَ مِنْ خَلِيْطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا

يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسٌ، إلاَّ أنْ يَشَاءَ المُصَدِّقُ، وفِي الرِّقَةِ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ رُبع العُشْرِ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِيْنَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَمَنْ بلغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةُ الجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ -فَإِنَّهَا تُقْبلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أوْ عِشْرِيْنَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الجَذَعَةُ -فَإِنَّهَا تُقْبلُ مِنْهُ الجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ المُصدِّقُ عِشْرِيْنَ دِرْهَمًا اوْ شَاتَيْنِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فريضة بوزن فضيلة، بمعنى: مفروضة، والفريضة: ما أوجبه الله وفرضه عى عباده من أحكام، والمراد هنا: فريضة الزكاة. - بنت مخاض: بفتحتين آخره ضاد معجمة، والمخاض -بفتح الميم وكسرها-: وجع الولادة، فالمخاض هي الحامل التي دنت ولادتها، وبنت المخاض من النوق هي التي أتمَّت السنة الأولى ودخلت في الثانية، سميت بذلك، لأنَّ أمها غالبًا قد حملت. - فرضها: فَرَضَ أي: بَيَّنَ وفصَّل. - في كل أربع ... إلخ الحديث: استئناف بيان لقوله: "هذه فريضة الصدقة"، فكأنه أشار بهذه إلى ما في الذهن، ثم أتى به بيانًا له. ¬

_ (¬1) البخاري (1448)، (1454).

- ابن لبون -بفتح اللام وضم الباء الموحدة-: وهو ما أتم سنتين، سمي بذلك؛ لأنَّ أمه غالبًا ذات لبن بعد وضع حملها. - حقة -بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف-: وهي ما استكملت السنة الثالثة، ودخلت في الرابعة، سميت بذلك؛ لاستحقاقها أن يحمل عليها ويركبها الفحل، والحقة تُجمع على: حقاق وحقائق وحِقق. - طرُوقَة الجمل: بفتح الطاء بوزن فعولة، بمعنى مفعولة؛ أي: مطروقة الجمل، وأصل الطرق: أن يأتي الرجل أهله ليلاً، والمراد من شأن التي في هذه السن أن تقبل طرق الفحل، وإن لم يحصل ذلك. - جذعة: بفتح الجيم والذال، من: أجذع وجذع، والجمع: جذعات وجذاع، والأنثى جذعة، والجمع: جذعات، وهي التي أتمت السنة الرابعة ودخلت في الخامسة، سمِّيت بذلك؛ لإسقاطها سنها فتجذع عنده. وقال بعض علماء اللغة: الإجذاع ليس بسن ثبت ولا يسقط، وإنَّما هو اسم للزمن، فالمعز تجذع لسنة، والضأن لستة أشهر. - وفي صدقة الغنم .. شاة: "شاة" مبتدأ، و"في صدقة الغنم" خبره. - الغنم: بفتحتين، قال ابن جني في "المخصص": جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمع الغنم: أغنام وغنوم؛ وقال في "الصحاح": موضوع للجنس، يقع على الذكر والأنثى، وعليهما جميعًا. - سائمة الرجل: من سامت تسوم؛ أي: ترعى، فالسائمة هي التي ترعى في المباح، والسوم هو إرسال الماشية في الأرض ترعى فيها، وجمع السائمة: سوائم. - مجتمع: بضم الميم الأولى وكسر الثانية. - متفرِّق: بتقديم التاء على الفاء وتشديد الراء، وفي رواية: بتقديم الفاء من: الافتراق.

- خشية الصدقة: إعرابه أنَّه مفعول لأجله، وقد تنازع فيه قوله: "ولا يجمع ولا يفرق" فإذا نسب إلى الساعي، قيل: خشية أن يقل، وإذا نسب إلى المالك قيل: خشية أن يكثر. - إلاَّ أن يشاء ربها -أو- إلاَّ أن يشاء المصدق: أي: إلاَّ أن يتبرع ويتطوع بها صاحبها، وهذا مبالغة في نفي الوجوب. - خشية الصدقة: الخشية: الخوف، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذا خصَّ بها العلماء في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] , وهنا المتصدق يعلم ما سيترتب على تفريق السائمة وجمعها. - خليطين: الخليطان هم الشريكان في السائمة خاصة، والخلطة -بضم الخاء- هي اجتماع الماشية السائمة حولاً كاملًا في المراح (مكان المبيت)، والمسرح، ومكان الحلب، والفحل، والمرعى، وهي إما شركة أوصاف: بأن يتميَّز شريك عن شريكه بصفة أو صفات، أو شركة أعيان، بأن يملكا نصابًا من الماشية مشاعًا. - يتراجعان بالسوية: بتشديد الياء؛ أي: بالمساواة، ومعنى التراجع: أن المصدق إذا أخذ صدقة الخليطين من مال أحدهما، فإنَّه يرجع على صاحبه، فيأخذ منه القدر الذي كان قد وجب عليه. - هرِمَة: -بفتح الهاء وكسر الراء- وهي المسنة التي سقطت أسنانها من الكبر. - ذات عور: بفتح العين المهملة وضمها، وهي عوراء العين، والمريضة البين مرضها، وقيل: بالفتح العيب، وبالضم: عوراء العين. - تَيْس: هو الذكر من الماعز؛ لنتنه وفساد لحمه، هذا إذا كان رديئًا، أما إذا كان طيبًا فهو فحل لا يجوز أخذه إلاَّ إذا شاء باذل الصدقة. - الرقة: -بكسر المهملة المخففة وفتح القاف المخففة آخرها تاء مربوطة- هي الفضة الخالصة، والهاء عوض عن الواو المحذوفة، كما في "عدة"،

وأصلها: الوَرِق، ويجمع على: رقين؛ مثل: بتة وبتين، وعزة وعزين. - المصدِّق: أصله المتصدق، قلبت التاء صادًا فأدغمت، وقد جاءت هاذه اللفظة في الحديث مرتين: الأولى: "إلاَّ أن يشاء المصدق". والثانية: "ويعطيه المصدق" إلخ. فالمراد به في الأولى: "المعطي"، والمراد به في الثانية "عامل الزكاة"، فإن أريد بلفظ المصدق المعنى الأول لُفظت بكسر الصاد، وإن أريد المعنى الثاني فبفتحها. - درهمًا: قطعة من فضة مضروبة للمعاملة، جمعها: "دراهم"، والدرهم الإسلامي وزنه (2.975 غرامًا). ***

494 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِيْنَ بَقَرَةٍ تبيعًا أوْ تَبيعَةً، وَمنْ كُلِّ أرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمنْ كُلِّ حَالِمٍ دِيْنَارًا، أوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وأَشَار إِلَى اخْتِلاَفٍ فِي وَصْلِهِ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي (1569)، وابن أبي شيبة (9920)، وابن الجارود (1104)، والحاكم، والبيهقي من طريق أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقد أعله بعض المحدثين بأنَّه جاء من طريق مسروق به، وأنَّ مسروقًا لم يسمع من معاذ، فيكو غير متصل، ولكن قال ابن عبد البر: هاذا حديث ثابت متصل، كما أثبت لقاء مسروق لمعاذ، وقال ابن القطان: حكمه الاتصال عند الجمهور. * مفردات الحديث: - بقرة: البقر اسم جنس، والبقرة تقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء على أنَّه واحد من جنس، والجمع: بقرات. وقال علماء الأحياء: البقر جنس من فصيلة البقريات، يشمل الثور والجاموس، ويطلق على الذكر والأنثى، ومنه المستأنس، ومنه الوحشي. ¬

_ (¬1) أحمد (1027)، أبو داود (1576)، الترمذي (623)، النسائي (2450) ابن ماجه (1803) ابن حبان (4886)، الحاكم (1449).

- تبيعًا -بفتح التاء وكسر الباء الموحدة بعده ياء ثم عين مهملة-: هو الذي أتمَّ الحول الأول ودخل في الثاني، والأنثى "تبيعة"، سمي تبيعًا؛ لأنَّه لا يزال يتبع أمه. - مُسِنَّة -بضم الميم وكسر السين المهملة ثم نون مشددة-: وهي التي أتمَّت السنة الثانية، ودخلت في الثالثة. - حالم: اسم فاعل أي: محتلم، وهو الذي قد بلغ سن الاحتلام، والاحتلام هو إنزال المني، ولو لم ينزله. - عدله: بفتح العين المهملة وسكون الدال المهملة؛ أي: قيمته ومقداره من غير النقد. - معافريًا: بفتح الميم والعين وكسر الفاء والراء، نسبة إلى: "معافِر" بوزن "مساجد"، وهو حي من همدان في اليمن، تُنسب إليهم الثياب المعافرية ... وهي بُرد معروفة عندهم. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حديث (493): كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه لم يُخرجه إلى العمال حتى توفي، فلما ولي أبو بكر الخلافة، أخرجه مختومًا بختم النبي -صلى الله عليه وسلم- "محمَّد رسول الله"، ولما وجه أبو بكر أنس بن مالك عاملاً على صدقات البحرين، أعطاه هذا الكتاب الذي بيَّن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فروض الصدقة، التي فرضت على المسلمين. قال الإمام أحمد: "ولا أعلم في الصدقة أحسن منه". وقال ابن حزم: "وإذا كتاب في نهاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء من الصحابة، ولم يُعلم أنَّه خالفه أحد". وقد رواه الإمام البخاري في "صحيحه"، وفرَّقه في عشرة مواضع من "أبواب زكاة الماشية" بسند واحد، وهو أصل عظيم يعتمد عليه.

وقال ابن عبد البر: "إنَّه أشبه بالمتواتر؛ لتلقي الناس له بالقبول". قوله: "فرض رسول الله" معناه: أوجب وقدَّر، فهاذا فرضها في السُّنَّة مع فرضها في القرآن، وهذا تقدير أنصبتها. 2 - في الحديثين وجوب الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم. 3 - فيهما بيان فروض زكاة السائمة، وأنَّ الإبل ابتداءُ نصابها من خمس، وأما الغنم فابتداء نصابها من أربعين، وهذا -والله أعلم- راجع إلى العدل والمواساة في الزكاة؛ ذلك أنَّ الإبل لما كانت غالية، صار نصابها قليلاً، وأما الغنم فإنَّها رخيصة، فصار نصابها كثيرًا، وهذا فيه مراعاة حق الغني، وحق الفقير. 4 - وفيهما أنَّه لابد في وجوب زكاة بهيمة الأنعام من السوم، وهو الرعي في المباح الحول أو أكثره، وأن تتخذ للدر والنسل، فإن لم ترع المباح، أو رعته ولكنها معدة للعمل، فلا زكاة فيها. 5 - أنصبة الإبل والبقر والغنم مبينة في نص الحديثين، كما بيَّن ما فيها من وقص، وهو ما بين الفريضتين. 6 - أول نصاب الإبل خمس، واستقرار النصاب فيها إذا زادت على عشرين ومائة، فحينئذ تكونا في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّة. 7 - أول نصاب الغنم أربعون، وقد أجمع العلماء على هذا، واستقرت فريضتها إذا زادت على ثلاثمائة؛ فحينئذ يكيون في كل مائة شاة شاة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. 8 - الأصل في زكاة البقر السنة والإجماع، وأما نصابها: فقال شيخ الإسلام: قد ثبت عن معاذ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن، أمره أن يأخذ صدقة البقر من ثلاثين تبيعًا، ومن أربعين مسنة. وحكى أبو عبيد والموفق وغيرهما: الإجماع عليه.

9 - قال شيخ الإسلام: إنَّما لم يذكر زكاة البقر في كتاب أبي بكر، والكتاب الذي عند آل عمر؛ لقلة البقر في الحجاز، فلما بعث معاذًا إلى اليمن، ذكر له حكم البقر؛ لوجودها عندهم، مع أنَّ وجوب الزكاة في البقر مُجمع عليه، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنَّ السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ، وأنَّه النصاب المجمع عليه. 10 - قال في "الروض وحاشيته": وإن كان النصاب نوعين ضأنًا ومعزًا، أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين، بلا خلاف بين العلماء. قال الشيخ تقي الدين: لا نعلم خلافًا في ضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض. 11 - قوله: "وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم يكن إلاَّ تسعين ومائة فليس فيها صدقة". قال ابن عبد البر: فيه إيجاب الصدقة في هذا المقدار، ونفيها عما دونه. وقال شيخ الإسلام: هو نصٌّ على العفو فيما دونها، وإيجاب لها فيما فوقها، وعليه أكثر العلماء، وذكره مذهب الأئمة الثلاثة. 12 - قال في "الروض وغيره": والاعتبار بالدرهم الإسلامي، واختاره الشيخ وغيره؛ أنَّه لا حد للدرهم والدينار، فنصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمن من خالص ومشوب، وصغير وكبير، ولا قاعدة في ذلك. قال في "الفروع": ومعناه: أنَّ الشارع والخلفاء الراشدين رتبوا على الدراهم أحكامًا، فمحال أن ينصرف كلامهم إلى غير موجود ببلادهم أو زمنهم؛ لأنَّهم لا يعرفونها. 13 - قال الشيخ وغيره: دلَّ الكتاب والسنة على وجوب الزكاة في الذهب، وحكى الإجماع غير واحد. 14 - قال في "الروض وحاشيته": تجب الزكاة في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالًا

باتفاق الأئمة الأربعة؛ لما روى ابن ماجه من حديث عائشة وابن عمر مرفوعًا: "أنَّه كان يأخذ من كل عشرين مثقالًا نصف مثقال". قال النووي: المعول فيه على الإجماع، وليس في الأحاديث الصحيحة تحديد، ولكن جميع من يعتد به في الإجماع على ذلك. قال الشيخ: ما دون العشرين، فلا زكاة فيه بالإجماع. 15 - قوله: "فإن لم تكن إلاَّ تسعين ومائة" هذا الكلام يوهم إذا زادت على ذلك شيئًا قبل أن يتم مئتين كانت فيها الصدقة، وليس الأمر كذلك، فإنَّها لا تجب إلاَّ بتمام مئتي درهم، وإنما ذكر التسعين؛ لأنَّه آخر فصل من فصول المائة، والحساب إذا جاوز المائة بالفصول كالعشرات والمئات والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين. 16 - قوله: "ولا يخرج في الصدقة هرِمَة ... " دليل على أنَّه ينبغي للإمام أن يزود الجباة والسعاة بمعلومات شرعية، أو يرسل معهم بعض طلبة العلم؛ ليفقهوهم في أحكام الزكاة، لتكون أعمالهم على بصيرة. 17 - الجبران في زكاة الإبل بأن يدفع صاحب المال عشرين درهمًا إذا وجب عليه جذعة، وليست عنده فدفع عنها حقَّة، أو يدفع جذعة والواجب عليه حقة، ويأخذ من الساعي عشرين درهمًا -يدل على جواز دفع القيمة في الزكاة عند الحاجة إلى ذلك، وهو أعدل الأقول الثلاثة، واختاره تقي الدين. 18 - قوله: "ولا يُجْمع بين متفرق، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة" فيه دليل على تحريم الحيل التي منها إسقاط واجب، أو فيها فعل محرم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "قاتل الله اليهود؛ إنَّ الله لما حرَّم عليهم شحومها جمَّلوه, ثم باعوه, فأكوا ثمنه" قال الإمام أحمد: لا يجوز شيء من الحيل لإبطال حق مسلم. وقال ابن القيم: من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله لم يشك في

تحريم الحيل وإبطالها، ومنافاتها للدين، وهذا الحديث نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة، أو تنقيصها بسبب الجمع والتفويق، كما هي معلومة صوره. قوله: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة" في هذا أربع صور: الأولى: نهى المالك عن جمع النصابين المتباعدين؛ ليكونا نصابًا واحدًا، فتقل الزكاة المخرجة. الثانية: نهى المالك عن تفريق النصاب الواحد بين مسافات متباعدة؛ لتسقط الزكاة. الثالثة: نهى عامل الزكاة عن تفريق مال المزكي لتعدد الأنصبة. الرابعة: نهى العامل أيضًا عن جمع العدد الناقص عن النصاب من مسافات متباعدة ليكون منها نصاب، كما قصدت بعض هذه الحيل على المالين المخلوطين في الجمع والتفريق. 19 - فيه أنَّه ليس فيما بين الفريضتين شيء؛ لأنَّ ما بينهما يسمى "وقْصًا"، وهو معفو عنه، ولا يكون الوقص إلاَّ في بهيمة الأنعام، أما ما عداها من الأثمان والعروض والخارج من الأرض -فما زاد فهو بحسابه من الزكاة. 20 - فيه أنَّه لا يجوز أن يخرج القيمة؛ سواء كان لحاجة أو مصلحة أو لا، وفيه خلاف قال شيخ الإسلام: في إخراج القيمة ثلاثة أقوال: الأول: الإجزاء بكل حال، وهو مذهب أبي حنيفة. الثاني: عدم الإجزاء مطلقًا عند الحاجة وعدمها، وهو مذهب مالك والشافعي. الثالث: الإجزاء عند الحاجة، وهذا المنصوص عن أحمد صريحًا. وهو أعدل الأقوال. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: ولا يجوز إخراج القيمة في

سائمة، أو غيرها عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. لما رواه أبو داود: "خذ الحب من الحب، والإبل من الإبل، والبقر من البقر، والغنم من الغنم". 21 - فيه أنَّ الساعي يأخذ الزكاة من الوسط، فلا يأخذ من أطيب المال؛ فيظلم المزكي، ولا يأخذ الرديء فيظلم المستحقين، إلاَّ أن يشاء صاحب المال أن يدفع من الجيد، فذاك إليه. 22 - فيه أنه لا يجوز أن يخرج مسنة، ولا هرمة، ولا معيبة، إلاَّ أن يكون النصاب كله هكذا؛ لأنَّ وإذا لا يجزىء في الزكاة، وفيه ظلم لمستحقيها. 23 - فيه أنَّه لا يخرج تيسًا، ولا طروقة الفحل، ولا الحامل، ولا الأكولة، إلاَّ أن يشاء صاحب المال. 24 - لا يجزىء إخراج ذكر في الزكاة إلاَّ في ثلاث مسائل: الأولى: في زكاة البقر، فإنَّه يجزىء التبيع عن التبيعة؛ لورود النص فيه، ويجزىء المسن عنه؛ لأنَّه خير منه. الثانية: ابن اللبون والحِق والجذع وما فوقه، فإنَّه يجزىء عن بنت مخاض عند عدمها. الثالثة: أن يكون النصاب من الإبل أو البقر أو الغنم كله ذكورًا، فإنَّه يجزىء؛ لأنَّ الزكاة مبنية على المواساة، فلا يُكَلِّفُهَا المخرج من غير ماله. 25 - فيه إثبات الخلطة في المواشي دون غيرها من الأموال، وأنَّ لها تأثيرًا في الزكاة إيجابًا، وإسقاطًا، وتغليظًا، وتخفيفًا؛ لأنَّها تجعل الأموال كالمال الواحد. 26 - إذا اختلط شخصان أو أكثر من أهل الزكاة في نصاب من الماشية حولاً كاملًا -فحكمهما في الزكاة حكم الشخص الواحد؛ سواء كانت خلطة أعيان: بأن يملكا نصابًا مشاعًا بإرث أو شراء أو غيرهما، أو خلطة

أوصاف: بأن يكون كل منهما له عين ماله، ولكنه متميز بصفة أو بصفات عن مال خليطه. 27 - ويشترط في تأثير خلطة الأوصاف اشتراكهما في مراح (وهو المبيت) ومسرح (وهو مكان اجتماعهما لذهاب إلى المرعى)، ومرعى في زمانه ومكانه، ومشرب (وهو مكان الشرب)، ومحلب (وهو موضع حلب)، وفحل وهو عدم اختصاصه في طرقه أحد المالين إن اتَّحد النوع؛ كالضأن والمعز، ولا يضر إن اختلف النوع لاختلاف النوعين، ولا تعتبر النية في الخلطة في كلا الخلطتين: الأوصاف والأعيان. 28 - ويحرم الجمع بين المالين، أو التفريق بينهما؟ إذا قُصد بذلك الفرار من الزكاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَلا يُجمع بين متفرق، ولا يُفرَّقُ بين مجتمع؟ خشية الصدقة". 29 - والخلطة تصيِّر المالين فأكثر كالمال الواحد إن كانا نصابًا، وكان الخليطان من أهل وجوبها؛ سواء كانت خلطة أعيان أو أوصاف، وما وجب عليهما فإنَّه على قدر ماليهما، فلو كان لإنسان شاة واحدة ولآخر تسعة وثلاثون فعليهما شاة واحدة على حسب ملكهما، ويتراجعان بينهما بالسوية. 30 - أما الرقة: وهي الفضة الخالصة فنصابها مئتا درهم، ويخرج منها ربع العشر إذا تمَّ حولها. 31 - أما الذمي: فلا تؤخذ منه الزكاة؛ لأنَّ الزكاة لا تصح منه قبل إسلامه، ولكن تؤخذ منه الجزية، فتؤخذ من الرجال البالغين دينار، أو مقداره من غير النقد، كالثياب. 32 - قوله: "فإنَّها تقبل منه، ويجعل معها شاتين"، وقوله: "فإنَّه تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين" -فيه دليل على جواز النزول والصعود من السن الواجب عند فقده إلى سن آخر يليه، وعلى أن

جبر كل مرتبة بشاتين، أو عشرين درهمًا، وعلى أنَّ المعطي مخير بينهما. * فوائد: الأولى: قال النووي: مدار أنصبة زكاة الماشية على حديث أنس عن أبي بكر، وحديث ابن عمر. وقال ابن عبد البر عن حديث عمرو بن حزم: إنَّه أشبه بالمتواتر؛ لتلقي الناس له بالقبول. فهذه الكتب الثلاثة كتاب أبي بكر، وكتاب عمر، وكتاب عمرو بن حزم -أصول من أصول الإسلام عليها المعتمد عند المسلمين. الثانية: قال شيخ الإسلام: الإمام أحمد وأهل الحديث متبعون لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة، فلقد أخذوا بأحسن الأقوال الثلاثة، فأخذوا في أوقاص الإبل بكتاب أبي بكر؛ لأنَّه آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي المعشرات توسطوا بين أهل الحجاز وأهل العراق، فأهل الحجاز لا يوجبون العشر في الثمار إلاَّ في التمر والزبيب، وفي الحب فيما يقتات، وأهل العراق يوجبونها في كل ما أخرجت الأرض، وأما أحمد والمحدثون فيوافقون أهل الحجاز بالنصاب لصحته، ويخالفونهم في الحبوب والثمار، فيوجبونها في حب وثمر يُدَّخر. الثالثة: قرار المجمع الفقهي بشأن زكاة الأسهم في الشركات: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. * قرار بشأن زكاة الأسهم في الشركات: (قرار رقم: 28) إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمر، الرابع بجدة

في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "زكاة أسهم الشركات". قرر ما يلي: أولًا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نصَّ في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانيًا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله؛ بمعنى: أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من لمجط نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذًا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها: أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثًا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنَّه الأصل في كيفية زكاة الأسهم، وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:

فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ لأنَّه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشيًا مع ما قرَّره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية -فإنَّ صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بدوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر (2.5 %) من تلك القيمة، ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعًا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول، ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكى الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. والله أعلم. ***

495 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ المُسْلِمِينَ عَلى مِيَاهِهِمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلأَبِي دَاوُدَ: "لاَ تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلاَّ فِي دُورِهِمْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أحمد وأبو داود من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تُكلم فيه. فقال الآجري: قلتُ لأبي دواد: عمرو عندك حجة، قال: لا، ولا نصف حجة. وقال ابن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب، ومن هنا جاء ضعفه. وقال أبو زرعة: إنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده، وما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر. وقال الإمام أحمد: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاؤوا تركوه. وقال البخاري: رأيتُ أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ¬

_ (¬1) أحمد (6442)، أبو داود (1591).

وللحديث شاهد من حديث عائشة رواه ابن الجارود والطبراني. * مفردات الحديث: - مياههم: المياه جمع: ماء، والمراد به: مواردهم التي ينزلون عليها، ويقطنون فيها بالصيف، حينما تحتاج المواشي إلى شرب الماء. - دُورهم: منازلهم التي يسكنون فيها؛ لئلا يتكلفون نقل زكاتهم إلى مقر الإمام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه أنَّ الزكاة لا تجب في المال، إلاَّ في السنة مرة واحدة، ووجوبها على تمام حوله عند مالكه. 2 - البادية أيام الشتاء وأيام الربيع منتشرة في البر والخلاء، يتبعون مواقع المطر ومكان الحيا والخصب؛ لرعي مواشيهم، فإذا جاء فصل الصيف نزلوا على الموارد والمياه، واجتمعوا فيسهل أخذ الزكاة منهم، فمِن باب الرفق بعمَّال الزكاة، ومن باب التقصي في تحصيل الزكاة من كل مسلم -أمر -صلى الله عليه وسلم- أن تؤخذ منهم الزكاة على مياههم ومواردهم. 3 - فيه أنَّ ولي أمر المسلمين هو الذي يبعث السعاة والجباة لقبض الزكاة، وأنَّه لا يكلف صاحب المال أن يأتي بصدقته إلى بيت المال. 4 - فيه إحياء هذه الشعيرة العظيمة التي هي أحد أركان الإسلام، ببعث العمَّال إليها وجبايتها، ثم تفريقها على أصحابها من أهل الزكاة. 5 - فيه دليل على جواز نقل الزكاة من بلدها الذي فيه المال إلى بلد آخر؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر بقبضها، ولم يأمر بتوزيعها على فقراء المكان الذي فيه الأموال المزكاة. 6 - فيه وجوب مراعاة الرفق بالرعية، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم من الأمور، حتى فيما هو واجب عليهم أداؤه.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في جواز نقل الزكاة من البلد الذي فيه المال إلى بلد آخر. فذهب الشافعية والحنابلة إلى: منع نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة، وهو عندهم مرحلتان تقدران بنحو (48 ميلًا). ودليلهم: حديث معاذ حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فأعلمهم أنَّ عليهم صدقةً، تؤخذ من أغنيائهم: فترد في فقرائهم" فالفقراء هنا أهل البلد الذي فيه المال، وفيه الأغنياء. وذهب المالكية إلى: المنع إلى مسافة القصر فأكثر، إلاَّ لمن هو أحوج إليها في غير بلد المال. وتتفق المذاهب الثلاثة على جوازه فيما دون مسافة القصر؛ لأنَّ ما كان كذلك فهو في حكم الحاضر. وذهب الحنفية: إلى كراهة النقل فقط، ما لم يكن في نقلها مصلحة كأقارب. وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنَّه يجيز نقلها لمصلحة شرعية. ودليل المجيزين: أنَّ ذكر الفقراء في حديث معاذ ليس خاصًّا بأهل تلك البلد، وإنَّما هو عام لعموم الفقراء. والدليل الثاني: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-كان يبعث الجباة، فيأتون بالصدقات من الأطراف البعيدة إلى المدينة؛ حيث توزع على فقرائها. وجمهور العلماء -حتى الذين لا يجيزون نقلها- يقولون: لو نقلها أجزأت عنه، وأدت الواجب. حكى ذلك الإمام الموفق في كتابه "المغني"، والله أعلم.

496 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ: "لَيْسَ فِي العَبْدِ صَدَقَةٌ، إِلاَّ صَدَقَةَ الفِطْرِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الزكاة لا تجب إلاَّ في الأموال النامية، أو المعدة للنماء، أما الأموال المعدة للقنية والاستعمال، فلا زكاة فيها. 2 - مثَّل الشارع الحكيم لأموال القنية التي لا زكاة فيها بالعبد المُعَدِّ للخدمة، والفرس المعدّ للركوب. 3 - وإذا دليل على مبدأ الزكاة، وأنَّها إنما فرضت مواساةً بين الأغنياء والفقراء، وأنَّها لا تجب إلاَّ في مالٍ نامٍ. 4 - هذا الحديث أحد الأدلة على عدم وجوب الزكاة في الحلي، المعد للاستعمال أو العارية؛ لأنَّه داخل تحت هذا الضابط من ضوابط الزكاة. 5 - قال شيخ الإسلام: الشارع عني ببيان ما تجب فيه الزكاة؛ لأنَّه خارج عن الأصل، فيحتاج إلى بيان، وما لا تجب فيه لا يحتاج إلى بيان بأصل عدم الوجوب. ففي الصحيحين: "ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة". قال النووي وغيره: وإذا الحديث أصل في أنَّ أموال القنية لا زكاة فيها، وهو قول العلماء من السلف والخلف. وقال الوزير: أجمعوا على أنَّه ليس في دور السكنى، وثياب البذلة، ¬

_ (¬1) البخاري (1464) مسلم (982).

وأثاث المنزل، ودواب الخدمة، وعبيد الخدمة، وسلاح الاستعمال زكاة؛ لما في الصحيحين: "ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة". قلتُ: هذه أمثلة لضابط الزكاة، وهي أنَّها لا تجب إلاَّ فيما أعد للنماء، أما ما قطع عن النماء لاستعمالٍ، فلا تجب فيه. 6 - أما زكاة الفطر: فإنَّها تجب على العبد؛ سواء كان للخدمة أو للتجارة. ويأتي إن شاء الله تعالى. ***

497 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيْم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبلٍ فِي أرْبَعِيْنَ بِنْتُ لَبُونٍ، لاَ تُفَرَّقُ إِبلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أعْطَاهَا مُؤتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا، فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لاَ يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيءٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ القَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص الحبير": رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي (7182) من طريق بهز بن حكيم، قال يحيى بن معين: إسناده صحيح، إذا كان مَنْ دون بهز ثقة، وبيَّن ابن حجر من تكلَّم في بهز، وأنه ليس بحجة، لكنه قال: وقد وثَّقه خلق من الأئمة، وقد استوفيت ذلك في "تلخيص التهذيب"، وقال عنه في "التقريب": صدوق، وعلى هذا يكون الحديث حسنًا، والله أعلم. ووافق الذهبي الحاكم؛ أنَّه صحيح الإسناد، وصححه صاحب "المحرر" وابن القيم، وسئل عنه أحمد، فقال: ما أدري ما وجهه، فسئل عن إسناده، فقال: صالح الإسناد، وقال البيهقي: حديث منسوخ، وتعقبه النووي بعدم نسخه، والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فقال: في لفظه وهم، ¬

_ (¬1) أحمد (20030)، أبو داود (1575)، النسائي (2445)، الحاكم (144).

وإنما هو: "فإنا آخذوها من شطر ماله"، أي: يجعل ماله شطرين، فيتخير عليه المصدق، وينظر تمامه في "التلخيص الحبير". واحتجَّ بحديث بهز كل من: أحمد، وإسحاق، والبخاري، والنووي، وابن الملقن. * مفردات الحديث: - لا تفرق إبل عن حسابها: يعني: أنَّ الخليطين لا يفرقان مالَيْهما خشية الصدقة، إذا كانت الخلطة أحظ للفقراء. - مُؤتَجِرًا بها: أي: قاصدًا الأجر من الله تعالى بإعطاء زكاته. - شطر ماله: بفتح الشين المعجمة وسكون الطاء المهملة آخره راء مهملة -هو النصف، ويستعمل في الجزء والبعض منه، ولعله المراد هنا. - عَزْمَة: بفتح العين المهملة وسكون الزاي ثم ميم مفتوحة ثم تاء التأنيث، منصوب على المصدرية، والناصب له فعل محذوف يدل عليه جملة: "فإنَّا آخذوها"، والمراد به: العزيمة والجد في الأمر الواجب المتحتم. - آل محمد: هم بنو هاشم الذين منهم آل أبي طالب، وآل العبَّاس، وآل الحارث، وآل أبا لهب بنو عبد المطلب بن هاشم، فأبو طالب والعباس والحارث وأبو لهب هم أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين صارت لهم ذرية، وأما من عداهم من أعمامه فلم يخلفوا عقبًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث كما يدل سابقه "حديث أنس" على أنَّ في كل أربعين من سائمة الإبل بنت لبون، وبنت اللبون هي: ما تمَّ لها سنتان، سميت بذلك؛ لأنَّ أمها بعد ولادتها إياها قد ولدت غالبًا مرَّة أخرى، فصارت ذات لبن. 2 - يدل على أنَّ المالين الخليطين من الماشية لا يجوز التفريق بينهما فرارًا من الزكاة، بل فيهما الزكاة على قدر حسابهما، فلا يفرق بين مجتمع، ولا

يجمع بين متفرق خشية الصدقة. 3 - أمر الله تعالى بإخراج الزكاة؛ فقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] والأمر يقتضي الفورية، وذلك مع القدرة على إخراجها، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. 4 - أما مع الحاجة إلى تأخيرها، فإنَّه يجوز تأخيرها، كأشد حاجةٍ مرتقبةٍ أو حضور قريبٍ، أو جارٍ غائب، أو لعذر غيبة المال ونحو ذلك. 5 - قال في "الشرح الكبير": لا يختلف المذهب أن دفعها للإمام جائز؛ سواء كان عدلاً أو غير عدل، وسواء كانت الأموال ظاهرةً أو باطنةً، ويبرأ بدفعها، تلفت يزيد الإمام أم لا، صرَفها في مصارفها أم لا. 6 - يدل على أنَّ من أدى الزكاة طيبة بها نفسه، بدافع طلب الثواب والأجر -فقد قام بركن من أركان الإسلام العظام، وله على ذلك الأجر العظيم. 7 - من مَنعها، فقد هدم ركنًا من أركان الإسلام، وترك واجبًا هامًا من أمور دينه، فعليه وزر ذلك وإثمه العظيم. 8 - أنَّ على الإمام تعزير مانع الزكاة، وأنَّ من التعزير أخذ الزكاة قسرًا منه، وأخذ نصف ماله تعزيرًا ونكالاً له، وردعًا لأمثاله. 9 - جواز التعزير بأخذ المال، فالتعزير باب واسع يختلف باختلاف الأحوال. 10 - قوله: "عَزْمَة من عزمات ربنا" يعني: حدَّ الله في الجد، وعدم التواني في القيام به. 11 - أنَّ الزكاة لا تحل لمحمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ولا لآله، وهم بنو هاشم؛ لأنَّها أوساخ الناس، وهم أرفع من ذلك، وسيأتي بأتمَّ من هذا إن شاء الله. 12 - قال شيخ الإسلام: إنَّ العقوبات المالية ثلاثة أقسام: أولًا: الإتلاف: هو إتلاف محل المنكرات تبعًا لها؛ مثل: الأصنام بتكسيرها وإحراقها، وتحطيم آلات اللهو، وتمزيق أوعية الخمور،

وتحريق الحوانيت التي يباع فيها الخمر، وإتلاف كتب الزندقة والإلحاد، والأفلام الخليعة، والصور المجسمة، ونحو ذلك. ثانيًا: التغيير: مثل تكسير العملة المزيفة، والستائر التي فيها التصاوير، وجعله وسادة ونحو ذلك. ثالثًا: التمليك: مثل: سرقة التمر المعلَّق، والتصدق بالزعفران المغشوش، فمصادرة مثل هذه الأشياء والصدقة بها، أو بأثمانها. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- إلى أنَّ التعزير بأخذ المال لا يجوز. وأجاب بعضهم عن القضايا التي وردت في العقوبة بأخذ المال-: بأنَّها منسوخة؛ إذ كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وعللوا عدم جواز التعزير بأخذ المال، بأنَّ هذا النوع من العقوبة يكون ذريعة إلى أخذ ظلمة الحكام والولاة أموال الناس بغير حق. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى: جواز التعزير بأخذ المال، إذا رأى الولاة أنَّ هذا يحقق المصلحة، ويردع الظلمة، ويكف الشر؛ لأنَّ التعزير باب واسع، فأوله التوبيخ بالكلام، وأعلاه التعزير بالقتل، إذا لم ينكف الشر إلاَّ بالقتل، وأخذ المال نوع من أنواع التعزير الذي يحصل به ردع المعتدين. وقد ردَّ الشيخان دعوى النسخ ونفياها نفيًا باتًّا، ودلَّلا على ذلك بما ورد من القضايا العديدة المؤيدة لوجود العقوبات المالية. قال الشيخ: مدَّعو النسخ ليس معهم حجةٌ شرعيةٌ، لا من كتابٍ، ولا من سنةٍ، وهو جائز على أصل أحمد؛ لأنَّه لم يختلف أصحابه أنَّ العقوبات في المال غير منسوخة كلها.

ومن أدلة التعزير بأخذ المال ما يأتي: 1 - أباح النبي -صلى الله عليه وسلم- سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن يجده، [رواه أحمد (1381)]. 2 - أمر بكسر دِنان الخمر، وشق ظروفه، [رواه أحمد (11744)] 3 - أمر عبد الله بن عمرو بحرق الثوبين المعصفرين، [رواه أبو داود (3546)]. 4 - أضعف الغرامة على من سرق من غير حرز، [رواه أبو داود (3816)]. 5 - هدم مسجد الضرار. 6 - حرَم القاتل من الميراث والوصية، [رواه الترمذي (2035)]. ***

498 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا كَانَتْ لَكَ مِائتًا دِرْهَمٍ، وَحَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ، فَفِيْها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِيْنَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِيْنَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ، حَتَّى يَحُولَ علَيْهِ الحَوْلُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أبو داود، وابن ماجه (1790)، وأحمد (1200)، والبيهقي (7325) عن علي -رضي الله عنه- وصحح الدارقطني وقفه (2/ 91)، لكن ابن حجر قال: حديث علي لا بأس بإسناده، والآثار تعضده فيصلح للحجة، وحسَّنه في "الفتح"، وصححه البخاري، وقال النووي: صحيح أو حسن، وقوَّاه الزيلعي في "نصب الراية". وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: كلاهما -أي: طريقاه- صحيح. * مفردات الحديث: - مئتا درهم: تقدم أنَّ الدرهم الإسلامي وزنه (2.975) غرام. - حال عليها الحول: حال الحول: مضى، والحول اسم للعام، والجمع ¬

_ (¬1) أبو داود (1573).

أحوال، سمي حولاً؛ لأنَّ الشخص يحول فيه من حال إلى حال أخرى. - دينار: هو المثقال من الذهب، ووزنه أربع غرامات وربع (4.25 جم). - زكاة: أصلها "زكوة" بوزن فَعلَة كـ"صدقة"، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، انقلبت الواو ألفًا، فصارت "زكاة"، وهي من الأسماء المشتركة بين المخرَج والفعل، ويطلق على المعين، فهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى وهي التزكية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نصاب الفضة -سواء كانت مسكوكةً، أو تبرًا، أو حليًا -هو مئتا درهم، وهو إجماع، وإنما الخلاف في قدر الدرهم، والتحرير أنَّ مئتي الدرهم تعادل "خمسمائة وخمسة وتسعين" غرامًا، وهي قدر "ستة وخمسين" ريالاً سعوديًّا. 2 - ونصاب الذهب "عشرون" دينارًا، والدينار بزنة المثقال، وهو ما يعادل "خمسة وثمانين" غرامًا، وهو قدر "أحد عشر وثلاثة أسباع" جنيهًا سعوديًّا. 3 - قال في "الروض المربع وغيره": ويُضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب، فلو ملك عشرة مثاقيل ومائة درهم، فكل منهما نصف نصاب، ومجموعها نصاب، ويجزىء إخراج زكاة أحدهما عن الآخر؛ لأنَّ مقاصدهما وزكاتهما متفقة، فهما كنوعي جنس. 4 - والآن بعد أن اختفى النقدان من الذهب والفضة من أيدي الناس، وحل محلهما في التعامل والثمنية "الورق النقدي" -أجمعت المجامع الفقهية على أنَّ الحكم منوط "بالورق النقدي"، بجامع الثمنية بينهما، فصار الحكم للعُملة الحاضرة "الورق النقدي" بكل ما يقوم به النقدان: من الزكاة، والديات، وأثمان المبيعات، وأحكام الربا، والمصارفة وغير ذلك، وسيأتي في "باب الربا" الحديث عن هذا بأوسع من هنا إن شاء الله.

5 - النقدان ليس فيهما وقص في الزكاة، فكل شيء بحسابه، فإذا بلغ النقد نصابه في الزكاة، وجبت فيه الزكاة، وما زاد فبحسابه، قليلاً كان الزائد أو كثيرًا، فقد حكى النووي وغيره إجماع المسلمين على وجوب الزكاة فيما زاد على الأنصاب؛ للأخبار. 6 - أنَّ حلول الحول شرط لوجوب الزكاة، فلا تجب حتى يحول على النصاب حول كامل. قال الوزير: اتفقوا على أنَّ المستفاد لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول. 7 - أما نتاج السائمة وربح التجارة: فحَوْله حول أصله، ولو لم يبلغ النتاج، أو الربح نصابًا، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. * فائدة: أقسام الأموال من حيث حولان الحول ثلاثة: الأول: أن يكون المستفاد نتاج السائمة، أو ربح التجارة، فهذا حوله حول أصله، ولو لم يبلغ الربح والنتاج نصابًا، أو يحول عليه الحول. الثاني: أن يكون المستفاد من جنس المال الذي عنده، ولكنه. ليس نتاجًا له، ولا ربحًا له، فهذا يضم إلى ما عنده لكن إن كان الأول دون النصاب، فكمَّله الأخير نصابًا فحولهما واحد، وإن كان الأول نصابًا كاملًا قبل حصول الثاني، فلكل منهما حوله الخاص. الثالث: أن يكون من غير جنس ما عنده، فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، ولا يضم إلى ما عنده في تكميل النصاب، إلاَّ ما كان -من الذهب والفضة. ***

499 - وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "مَنِ اسْتَفَادَ مَالاً، فَلاَ زَكاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُوْلَ الحَوْلُ". وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف مرفوعًا. قال في "التلخيص": رواه الترمذي والدارقطني (2/ 92)، والبيهقي عن ابن عمر، وصحَّح الترمذي وقفه على ابن عمر، وكذا البيهقي وابن الجوزي وغيرهما، وضعَّفه السيوطي في "الجامع الصغير". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الزكاة لا تجب إلاَّ بعد مضي عامٍ كاملٍ عليها، والحول هو اثنا عشر شهرًا هلاليًّا، هذا هو أحد شروط وجوب الزكاة. 2 - قال البيهقي: المعتمد في اشتراط الحول على الآثار الصحيحة عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وغيرهم. وقال شيخ الإسلام: الحول شرطٌ في وجوب الزكاة في العين والماشية، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث عمَّاله على الصدقة كل عام، وعَمِل بذلك الخلفاء؛ لما علموه من سنته. قال ابن عبد البر؛ وعليه جماعة الفقهاء قديمًا وحديثًا، ولأن النماء لا يتكامل قبل الحول، ولأن الزكاة تتكرر في الأموال فلابد لها من ضابط؛ لئلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن المتقارب، فيفنى المال، والمقصود المواساة. ¬

_ (¬1) الترمذي (631).

3 - فمن استفاد مالًا من غير ربح التجارة التي يديرها، ومن غير نتاج السائمة التي أعدها للدرّ والنسل، وإنما استفاده من طريق آخر كميراث، أو هدية، أو أجر عقار، أو راتب على وظيفة -وهو المراد بهذا الحديث- فحوله مستقل، ولا دخل له بما لديه من مال؟ لأنه ليس تابعًا له، فلم يربط به. 4 - أما من استفاد مالًا من ربح التجارة، ولو قبيل حلول الأصل بشيء يسير -وجبت فيه الزكاة كأصله، أو لم تنتج بهيمة الأنعام قبل الحول إلاَّ بوقت يسير، وجبت فيه الزكاة كأصله، فحوله حول أصله. 5 - إذا كان المال المكتسب لا علاقة له بتجارته وسائمته، فكل مال يزكيه وحده، إذا حال عليه حوله. وإذا أراد أن يجعل له شهرًا معلومًا -كرمضان- لإخراج زكاته كلها، فيخرج عما حال عليه الحول، ويجوز إخراج الزكاة عما لم يحل حوله، من باب تعجيل الزكاة عنه فجائز، وهذا فيه راحة له، وتيسير لأمره. ***

500 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَيْسَ فِي البَقَرِ العَوَامِلِ صَدَقَةٌ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارقُطْنِيُّ، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحَّحه ابن القطان، وقال: كل من يرويه ثقة معروف، والحديث روي من طريق أبي إسحاق عن الحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة عن علي مرفوعًا وموقوفًا: "ليس في البقر العوامل شيء". قال البيهقي: رواه النفيلي عن زهير بالشك في رفعه ووقفه. وقال الحافظ في "التخليص": ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وفيه سوار بن مصعب، وهو متروك عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس أيضًا، وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف. ورواه البيهقي عن جابر موقوفًا، وضعَّف إسناده. * مفردات الحديث: - البقر العوامل: جمع: "عاملة": التي تعمل للحرث، والدوس، ونزع الماء، وجر الأثقال، وأمثال ذلك. * ما يؤخذ من الحديث:. 1 - تقدم أنَّ الزكاة مبنية على المساواة بين الأغنياء والفقراء، وبناء على هذا المبدأ العادل، فإنَّها لا تجب إلاَّ في أموال نامية، أما الأموال المعدة للاستعمال، فلا زكاة فيها. 2 - من الأموال المعدة للاستعمال البقر العوامل في حرث الزرع أو سقيه، فهذه ¬

_ (¬1) أبو داود (1573)، الدارقطني (2/ 103).

لا زكاة فيها؛ لأنَّها آلة عمل، وإنما الزكاة في ثمرة عملها وإنتاجه وهو الخارج من الأرض. 3 - يقاس على ذلك جميع الأموال التي أعدت للاشتغال والبقاء، ولم تجعل للنماء التجاري، وإنما نماؤها فيما ينتج منها، مثل سيارات النقل، ومثل مواتير الزراعة، ومثل أدوات الحراثة، ونحو ذلك، فكلها لا زكاة فيها. 4 - ومثل ذلك ما تقدم من أدوات القنية، والاستعمالات الشخصية، والمنزلية: من مراكبٍ، وفرشٍ، وأوانٍ، وأثاث منزلٍ، ونحو ذلك؛ فإنَّها أموال مجمدة عن النماء لإعدادها للاستعمال؛ فلا زكاة فيها. وتقدم أنَّ هذا هو مأخذ عدم وجوب زكاة الحلي المعد للاستعمال، كما تقدمت كلمة شيخ الإسلام التي قال فيها: إنَّ الشارع إنَّما عني ببيان ما تجب فيه الزكاة، أما الذي لا تجب فيه فلم يبيِّن، بناء على العفو فيما سكت عنه. 5 - الأثر وإن لم يكن له حكم الرفع، إلاَّ أنَّه حجة؛ لكونه قول صحابي من الخلفاء الراشدين، ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة" [رواه مسلم (1631)]. ***

501 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَهُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وإِسْنَادُهُ ضَعِيْفٌ (¬1)، وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، فقد سئل عنه الإمام أحمد، فقال: ليس بصحيح. قال الترمذي: في إسناده مقال؛ لأنَّ المثنى بن الصباح يضعف في الحديث. وقد تابعه محمد بن عبد الله بن عمر، أخرجه الدارقطني، وتابعه أيضًا عبد الله بن علي الإفريقي أخرجه الجرجاني، وهو ضعيف، وتابعه أبو إسحاق الشيباني، وهو ثقة لكن الراوي عنه مندل، وهو ضعيف أيضًا، فالحديث بجميع طرقه هذه ضعيف. وللحديث شاهد عن عمر موقوفًا، صححه البيهقي. * مفردات الحديث: - من ولي يتيمًا: مِنْ: وليت على الصبي أليه ولاية، والفاعل يقال له: والٍ، والجمع: ولاة، والصبي مولى عليه. - يتيمًا: اليتيم هو من مات والده ولم يبلغ، والجمع: يتامى وأيتام، والصغيرة يتيمة، وجمعها: يتامى، فإن ماتت أمه فقط، قيل له: عجي، فإن مات أبواه سمي: لطيمًا. ¬

_ (¬1) الترمذي (641)، الدارقطني (2/ 109). (¬2) الشافعي (1/ 92).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب الزكاة في مال اليتيم، ومثله المجنون والسفيه؛ ذلك أنَّ الزكاة منوطة بسببها، فتتعلَّق بعين المال، وإن كان لها تعلق بالذمة، ولتعلقها بعين المال وإناطتها بسببها فإنَّه لا يشترط لوجوبها تكليف المزكي، فهي عبادة مالية، بخلاف الصلاة والصيام، فهما عبادتان بدنيتان محضة. 2 - يُخرج الزكاةَ عنه وليُّه في المال؛ لأنَّ التصرفات المالية منوطة به. 3 - أما الجنين: فلا تجب الزكاة في المال المنسوب إليه؛ لأنَّه مال له ما دام حملاً. 4 - استحباب تنمية مال اليتيم بالتجارة وغيرها، مما يظن الولي أنَّه يحقق له ربحًا وفائدة، وزيادة في ماله، وإنَّ هذا من الإصلاح المأمور به لليتيم. 5 - الحرص على أموال اليتامى بعدم إنفاقها، إلاَّ فيما هو خير لهم، وصلاح لأحوالهم، عملاً بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المائدة: 152] والشارع هنا احتاط من نقص مال اليتيم من الصدقة الواجبة، وهي الزكاة، فكيف إنفاقه فيما لا صلاح له في دينه، ولا فى دنياه؟!. 6 - ثبوت الولاية على اليتيم، وأنَّها ولاية شرعية تقتضي عمل الأصلح في شؤونهم وأموالهم، وقد وعد الله تعالى بالخير في الإصلاح لهم، وتوعد على الإساءة إليهم، وأكل أموالهم بأشد عقوبات الآخرة. 7 - رحمة الله تعالى ولطفه باليتامى؛ حيث وصى عليهم، وجعل عليهم ولاية أميتة، تحفظ أموالهم وتنميها، وتصلح شؤونهم. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على وجوب الزكاة في مال المسلم البالغ العاقل، واختلفوا في وجوبها في مال الصبي والمجنون: فذهب الإمام أبو حنيفة إلى: عدم وجوبها في مال الصبي والمجنون، إلاَّ

في زرعه وثمره، فتجب فيه؛ لأنَّه من الأموال الظاهرة. وذهب الأئمة الثلاثة إلى: وجوبها في مال الصبي والمجنون مطلقًا: الظاهر والباطن، وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. استدل القائلون بعدم وجوبها بأدلة، منها: 1 - قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والصبي والمجنون لا ذنوب عليهما، حتى يحتاجا إلى التطهير والتزكية. 2 - جاء في سنن أبي داود (4402)، والنسائي بإسناد صحيح عن علي بن أبي طالب؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق"، والذي رفع عنه القلم غير مكلف بالشرائع، ولا يتناوله خطاب الشارع بالأمر والنهي. 3 - إنَّ الزكاة عبادة محضة؛ كالصلاة والعبادات، يناط الأمر بها بالمكلفين، أما غير المكلفين فلا تجب عليهم التكاليف الشرعية. 4 - الإسلام يراعي أموال الضعفاء، ويحرص على نمائها، وعدم مسها، إلاَّ بالتي هي أحسن، وأخذ الزكاة منها عامًا بعد عام، يعرضها للانقراض، فيتعرضان للحاجة والفقر. أما أدلة القائلين بالوجوب فما يأتي: 1 - عموم النصوص من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلَّت على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، لم تستثن صبيًّا ولا مجنونًا؛ فالصغار والمجانين داخلون تحت قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقوله: "افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم"؛ فعموم هذه النصوص وأمثالها تشمل الصغار والمجانين إذا كانوا أغنياء. 2 - ما رواه الترمذي (641) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ولي يتيمًا له مال، فليتجر له، ولا يتركه؛ حتى تأكله الصدقة" وهو حديث الباب. 3 - ما رواه الشافعي (1/ 92)؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ابتغوا في مال اليتيم، لا تُذهبه الصدقة". 4 - ما رواه الطبراني في "الأوسط" (4152) عن أنس قال: قال رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة"، وإسناده صحيح. وذهب إلى وجوبها في مال الصبي: عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وجابر -رضي الله عنهم- ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، فكان كالإجماع. 5 - المقصود من الزكاة هو سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، ومال الصبي والمجنون قابل لذلك. 6 - الصبي والمجنون أهل لأداء حقوق العباد من مالهما بالاتفاق، فتجب الزكاة في مالهما كسائر الحقوق. الجواب على أدلة الذين لم يوجبوها: (أ) التطهير في الآية ليس خاصًّا بالذنوب لينحصر في المكلفين، وإنما هو عام في تربية الخُلق، وتزكية النفس، وتعويدها على الفضائل. (ب) أما حديث: "رفع القلم عن ثلاثة" فالمراد به: رفع الإثم، والوجوب عليهما، والزكاة لا تجب عليهما، وإنما تجب في مالهما. ولذا فإنَّ رفع القلم لا يشمل ما يجب عليهما من الحقوق المالية للعباد. (ج) أما أنَّ الزكاة عبادة محضة كالصلاة، فالجواب: أنَّها عبادة مالية لها طابعها الخاص، وتجري فيها النيابة. والخلاصة: أنَّ الزكاة عبادة مالية تجري فيها النيابة، والولي نائب الصغير فيها، فيقوم مقامه في أداء هذا الواجب، بخلاف العبادات البدنية، كالصلاة والصيام، فإنَّها عبادات بدنية، لا تدخلها النيابة.

502 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اللَّهمَّ: هي بمعنى: "يا الله"، فالميم عوض عن ياء النداء، ولهذا لا يجمع بينهما؛ فإنَّه لا يجمع بين العوض والمعوَّض. -صلِّ عليهم: أصل الصلاة في اللغة: الدعاء، إلاَّ أنَّ الدعاء يختلف بحسب حال المدعو له، فلا يتعيَّن لفظ خاص، بل يكون الدعاء بلفظ يؤدي معنى الثناء، ويناسب المقام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أمر الله تعالى نبيه ورسوله محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقبض الزكاة من المسلمين، وأن يصلي عليهم حين يقبضها منهم، فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة]، فكان -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمر ربه إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللَّهمَّ صل عليهم". 2 - ينبغي لقابض الزكاة -سواء قبضها للمسلمين كالسعاة والجباة، أو قبضها لنفسه كالفقير- أن يدعو لمُخْرجها، فكان مما ورد من الدعاء: "آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا". 3 - استحباب مكافأة المحسن على إحسانه، ولو بالدعاء؛ لحديث: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تظنوا أنَّكم ¬

_ (¬1) البخاري (1497)، مسلم (1078).

قد كافأتموه" ففي الدعاء مع مكافأته تشجيعه، وتشجيع غيره على البذل. 4 - قال البخاري: قال أبو العالية: الصلاة من الله تعالى على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى. قال الأزهري: الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين التضرع والدعاء. 5 - أنَّ دَفْعَ الزكاة إلى ولي أمر المسلمين تارةً يكون ببعثه الجباة إلى أصحاب الأموال في مياههم وحقولهم، وتارةً يأتون بها إليه، وكل ذلك جائز. ***

503 - وَعنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ العَبَّاسَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَأَلَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي تَعْجِيلِ صَدقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ في ذلِكَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه أحمد (781) وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني (2/ 123)، والبيهقي (7157) عن علي -رضي الله عنه- ويعضده حديث أبي البحتري عن علي، ورجاله ثقات إلاَّ أنَّ فيه انقطاعًا. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وذكر الحافظ طرقًا متعددة لهذا الحديث في "فتح الباري"، وقال: ليس ثبوت قصة العباس في تعجيل صدقته ببعيد؛ لمجموع هذه الطرق. * مفردات الحديث: - تعجيل صدقته: تعجيل الصدقة هو: إخراجها قبل تمام حولها، وسيأتي إن شاء الله. - صدقته: المراد بها: زكاة ماله، فالصدقة تطلق شرعًا وعرفًا على الزكاة. -فرخَّص له: بالتشديد من: الترخيص، والرخصة معناها: اليسر والسهولة، وشرعًا: ما ثبت على خلاف دليلٍ شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، سأل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخَّص له في ذلك، فعجَّل صدقته عامين. ¬

_ (¬1) الترمذي (678)، الحاكم (5431).

2 - فيجوز تعجيل إخراج الزكاة لعامين فقط؛ اقتصارًا على الوارد، ولا يجوز أكثر من هذا. 3 - أجمع العلماء على أنَّه لا يعجلها، إلاَّ إذا كمل النصاب؛ لأنَّ النصاب هو سبب وجوبها، فلا يجوز تقديمها عليه. قال شيخ الإسلام: يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها سبب الوجوب عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية، والنقدين، وعروض التجارة إذا ملك النصاب، ويجوز تعجيل المعشَّرات قبل وجوبها، إذا كان قد طلع الثمر قبل بدو صلاحه، ونبت الزرع قبل اشتداد حبه. 4 - لا يستحب تعجيل الزكاة، إلاَّ إذا كان هناك مصلحة؛ كأن يوجد مجاعة، أو يحدث للمسلمين حاجة إلى تعجيل الزكاة. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل تمام النصاب؛ لانَّه لم يوجد سبب الوجوب، فلم يجز تقديمها عليه. وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة إلى: جواز تعجيلها بعد انعقاد سبب وجوبها بملك النصاب، وحديث العباس صحيح صريح في جواز التعجيل. وذهب المالكية وداود إلى: عدم جواز تقديمها قبل حلول الحول؛ سواء ملك النصاب أو لا، وحجتهم: أنَّ الحول أحد شرطي وجوب الزكاة، فلم يجز تقديمه عليه، كما لا يجوز قبل ملك النصاب إجماعًا. قال ابن رشد في "بداية المجتهد": وسبب الخلاف: أنَّ الزكاة هل هي عبادة، أو حق واجب للمساكين؟ فمن قال: إنَّها عبادة، لم يُجِز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على

جهة التطوع، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. * فائدة: ذهب الحنفية إلى: جواز تأخير إخراج الزكاة بعد وجوبها بحلول الحول، وقالوا: إنَّها تجب وجوبًا موسعًا. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: عدم جواز تأخيرها بعد حلول حولها. قال في "المغني": إنَّ الأمر يقتضي الفورية على الصحيح، كما في الأصول، ولذلك يستحق المؤخر للامتثال العقاب. والمبادرة بإخراجها مبادرة إلى الطاعة، ومسارعة إلى أدائها، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ***

504 - وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-قالَ: "لَيْسَ فِيْمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيْمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيْمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ مِن التَّمْرِ صَدَقَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أواقٍ: بدون الياء، برواية أبي داود (1558)، ووقع في مسلم بالياء المخففة، وبدونها. قال النووي: وكلاهما صحيح، وهي جمع: "أوقية" بتشديد الياء، وجمعها: "أواقي" بتشديد الياء. قال العيني: والجمهور يقولون في الواحدة:"وقية"بحذف الهمزة، وجمعها:"وقايا"، مثل: ضحية وضحايا، وأجمع أهل الحديث والفقه واللغة على أنَّ الأوقية الشرعية أربعون درهمًا، فخمس أواق هي مئتا درهم، وهذا نصاب الفضة، ونصاب الفضة في المعايير الحاضرة هو (595) غرامًا من الفضة. - الورق: بفتح الواو وكسر الراء المخففة، قال العيني وغيره: هي الدراهم المضروبة، فما كان من الفضة غير مضروب، فلا يسمى: ورِقًا. - ذَود: -بفتح الذال المعجمة وسكون الواو- هي ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، لا واحد له من لفظه، ويجمع على: "أذواد"، وهو اسم جمع يطلق على المذكر والمؤنث، والقليل والكثير، ولذا صحَّ إضافة "الخمس" إليه. - دون: في المواضع الأربعة كلها، هي بمعنى "أقل"؛ أي لا تجب الزكاة في ¬

_ (¬1) مسلم (980)

أقل من هذه المقادير لهذه الأشياء. - الإبل: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، وهي مؤنث. - أوسق: مفرده:"وسْق"، بفتح الواو وسكون السين، وحكي كسر الواو، والفتح أوضح، وبعد السين قاف، والوسق: ستون صاعًا، فيكون نصاب الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع، والصاع في الموازين الحاضرة هي "3 كيلو"، وهذا تقدير تقريبي احتياطي بالحنطة الرزينة، فيكون الثلاثمائة الصاع هي "900 تسعمائة كيلو غرام". وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء في قدر الصاع النبوي بالنسبة للمكاييل الحديثة، فلم يصلوا إلى تحديد متيقن حاسم؛ وذلك لعدم وجود صاع نبوي متيقن، فكان رأي غالب الأعضاء تقديره بثلاثة آلاف غرام، وهذا احتياط لصدقة الفطر ونحوها. ***

505 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَيْسَ فِيْمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَلا حَبٍّ صَدَقَةٌ" وَأَصْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أوساق: جمع: "وسق"، قال في "المصباح": حكى بعضهم "الوسق" بكسر الواو لغةً، وجمعه "أوساق" مثل: حمل وأحمال، وأصل الوسق: الحمل لكل شيء، يقال: وسقته؛ أي: حملته. - حب: -بفتح الحاء، وتشديد الباء-: البذر؛ مثل: القمح، أو الشعير. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الزكاة مبناها المواساة؛ لذا فإنَّها لا تجب في المال القليل الذي لا يفي بضرورات صاحبه، فهو أحق بهذا القليل من غيره. 2 - فليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر، أو الحب صدقة، فهذه مكاسب قليلة، ومحصول ضئيل، لا تجب فيها الزكاة. 3 - فنصاب الفضة مئتا درهم، وقدرها: (595) غرامًا، ونصاب الإبل خمس، وما دونها ليس فيه زكاة، ونصاب الثمار والحبوب هو (300) صاع نبوي، والصاع النبوي هو (3000) ثلاثة آلاف غرام. 4 - هذا كله من العدل الرباني بين عباده؛ فإنَّ الزكاة هي مواساة ومساواة، فلا تجب إلاَّ في أموال الأغنياء، أما الفقراء فلا تجب عليهم. ¬

_ (¬1) البخاري (1447)، مسلم (979).

فالبدوي الذي لا يملك إلاَّ أربعة أبعرة، والفلاح الذي لا يحصل إلاَّ أقل من ثلاثمائة صاع، والتاجر الذي تقل أثمانه وعروضه عن مئتي درهم -هؤلاء هم مستحقون لإعطائهم من الزكاة لتكميل نفقاتهم. 5 - قال ابن عبد البر والخطابي والنووي وغيرهم: هذا الحديث أصل في مقادير ما تتحمله الأموال من الموأساة، وإيجاب الصدقة فيها، وإسقاطها عن القليل الذي لا يتحملها؛ لئلا يجحف بأرباب الأموال، ولا يبخس الفقراء حقوقهم، فإذا بلغه النصاب وجب الحق، ولا يجب فيما دونه، وهو مذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة: مالك والشافعي وأحمد. 6 - في الحديث أنَّ تقدير النصاب والمخرج مردَّه إلى الشرع، لا إلى العرف، ولو رد إلى العرف لانفرط زمام الأمر؛ نظرًا لاختلاف الناس، من بخيل يمنع القليل من الكثير. 7 - قال الخطابي وغيره: يستدل بحديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"-: أنَّها لا تجب في شيء من الخضراوات، وعليه عامة أهل العلم، وتركها -صلى الله عليه وسلم-وخلفاؤه من بعده، وهي تزرع بجوارهم، يدل على عدم وجوبها فيها، وأنَّ تركها هي السنة المتبعة. 8 - قوله:"ليس دون خمس أواق من الورق صدقة" قال شيخ الإسلام وغيره: هو نصٌّ على العفو فيما دونها، وإيجاب لها في الخمس فما فوقها، وعليه أكثر العلماء. وفي الصحيح: "فإن لم يكن إلاَّ تسعين ومائة، فليس فيها شيء"، وفي رواية: "وليس فيما دون المئتين زكاة" قال البخاري: كلاهما عندي صحيح، والزيادة فيهما بحسابه. ***

506 - وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ، أوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَلأَبِي دَاوُدَ: "إِذَا كَانَ بَعْلاً العُشْرُ، وَفِيْمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أوِ النَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سقتِ السماء: أي: "المطر"، لأنَّه ينزل من السماء، وتطلق السماء على كل ما علاك. - العيون: جمع: "عين"، هي الينابيع التي تنبع من الأرض، أو من سفوح الجبال. - عثريًا: -بفتح العين المهملة وفتح المثلثة وكسر الراء وتشديد الياء المثناة التحتية -هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، فهو من: عثر على الشيء عثورًا؛ لأنَّه تهجم على الماء، فتعثر عليه بلا عمل من صاحبه. -العُشْر: بضم العين مبتدأ، وخبره "فيما سقت السماء"، وتقديره: العشر واجب فيما سقت السماء. -النَّضح: بفتح النون وسكون الضاد المعجمة فحاء مهملة، وأصل النضح: رش الماء وإساحته، وأريد به السقي، والدابة الناضحة هي التي تسقي الزرع، قال في "المصباح": ونضح البعير الماء: حمله من نهرٍ، أو بئرٍ؛ لسقي الزرع، فهو ناضح، والأنثى: ناضحة بالهاء، والجمع: نواضح، سمي: ناضحًا؛ لأنَّه ينضح العطش، أي: يبله بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم ¬

_ (¬1) البخاري (1483)، أبو داود (1596).

استعمل في كل بعير، وإن لم يحمل الماء؛ كحديث: "أطعِمه ناضِحَك"؛ أي: بعيرك. - أو كان: الضمير فيه يرجع إلى لفظ "مسقي"، وتقديره: أو كان المسقي عثَرِيًّا. -بَعْلاً: -بفتح فسكون- هو الشجر، أو الزرع الذي ينبت بماء السماء من غير سقي، وهو مقاربٌ لمعنى العثري، أو مرادفٌ له. - السواني: جمع "سانية"، هي الدابة من الإبل، والبقر، أو الحمر، ذاهبة وآيبة، تخرج الماء من البئر بالغرْبِ وأدواته، فالسانية التي يسقى بها، سميت سانية؛ لرفعها الماء ليسقي به الشجر والنبات * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام النووي: قد اتَّفق العلماء على المقدار المأخوذ من المعشرات، للخبر الصحيح عن ابن عمر مرفوعًا. 2 - أنَّ الواجب في الحبوب والثمار التي سقيت بلا مؤنة، وإنما سقتْها الأمطار، أو العيون الجارية، أو البعل الشارب بعروقه العُشر، وهو الواحد من عشرة، ذلك أنَّه حصلت ثمرته بلا كلفة، ولا مؤنة؛ لأنَّ أهم الكلفة والمؤنة هي الماء. 3 - أنَّ ما سقي بكلفة ومؤنة؛ كالنواضح والدولاب تديره البقر، أو الخيل، أو البغال، وكل آلة يحتاج إليها في إخراج الماء من بطن الأرض إلى ظاهرها، كالمواتير التي ترفع الماء من باطن الأرض إلى ظاهرها بالبنزين، أو الديزيل، أو الكهرباء -فيه نصف العشر، وذلك إجماع أهل العلم؛ للخبر الصحيح في ذلك. 4 - ما سُقِي بالطريقتين إحداهما: بكلفة ومؤنة، والأخرى: بلا كلفة ولا مؤنة، ففيه ثلاثة أرباع العُشر، حكى الإجماع على ذلك غير واحد، ولأنَّ كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه، فإذا وجد نصفه أوجب نصفه. 5 - هذا التقسيم في الأحكام مراعًى فيها حالة المزكي، وهو أساس العدل

والمساواة، في أحكام الله تعالى. 6 - ظاهر الحديث وجوب الزكاة في القليل والكثير، في الخارج من الأرض، ولكن الحديث مخصص بالحديث السابق في البخاري عن ابن عمر مرفوعًا، فإنَّه إذا تعارض العمل بالعام والخاص، كان العمل بالخاص في أظهر أقوال الأصوليين. 7 - ظاهر الحديث أنَّ الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة، وهي المواشي والحبوب والثمار؛ لأمرين: الأول: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر السُّعاة والجباة أن يسألوا صاحب المال، هل هو مدين أو لا؟ والغالب أنَّهم مدينون. الثاني: أنَّ الأموال الظاهرة يشاهدها الفقراء والمستحقون، فأنفسهم متعلقة بها، فمِن المواساة ألا يُحرموا منها، وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة: في منع الدين من وجوب الزكاة، أو عدمه. ***

507 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ وَمُعَاذٍ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ لَهُمَا: "لاَ تَأْخُذُوا فِي الصَّدَقَةِ، إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأَصْنافِ الأرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ وَالحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وقد أخرجه الدارقطني (2/ 98)، والحاكم، وقال: إسناده صحيح، ووافقه الذهبي، وأقرَّه الزيلعي، قال الشيخ الألباني: وأخرجه أبو عبيد في "الأموال" من طُرُقٍ عن عمر بن عثمان قال: سمعت موسى بن طلحة يقول: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير، والنخل والعنب" وهذا سندٌ صحيح مرسل، وهو صريح في الرفع، ولا يضر إرساله؛ لأنَّه صحَّ موصولاً عن معاذ. قال في "التلخيص": رواه الحاكم والبيهقي من حديث أبي موسى ومعاذ. قال البيهقي (7242): ورواته ثقات، وهو متصل. * مفردات الحديث: - الشعير: نبات عشبي حبي من الفصيلة النجلية، وهو دون البر في الغذاء، فيقال: "فلان كالشعير يؤكل ويذم". - الحنطة: -بكسر الحاء-: القمح، جمعه: "حنط". - الزبيب: جمع: "زبيبة"، وهو ما جفِّف من العنب. ... ¬

_ (¬1) الحاكم (1459).

508 - وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "فَأَمَّا القِثَّاءُ، وَالبِطِّيخُ، وَالرُّمَّانُ، وَالقَصَبُ، فَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-. وإِسْنَادُهُ ضعيف (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في "التلخيص": رواه الدارقطني والحاكم (1458) والبيهقي (7268) من حديث معاذ، وفيه ضعف. اهـ. وفيه انقطاع بين موسى بن طلحة ومعاذ بن جبل، ولكنه انقطاع مغتفر؛ ذلك أنَّه موسى يرويه عن كتاب معاذ، وهو حجة عند علماء أصول الحديث، ولذا صححه بعض العلماء. * مفردات الحديث: - قِثَّاء: بكسر القاف وضمها ممدود، واحدته: قثاءة؛ نوع من الخيار، لكنه أطول. - البطيخ -بكسر الباء-: نبات عشبي حولي ينبت في المناطق المعتدلة والدافئة، وهو من الفصيلة القرعية، وثمرته كبيرة كروية، أو مستطيلة، وهو أصناف وأنواع. - الرُّمَّان: بضم الراء وتشديد الميم، واحدته: رمَّانة، ثمر معروف، وشجره من الفصيلة الأتنية. - القصب: كل نبات كانت سوقه أنابيب وكعوب، ومنه قصب السكر، وقصب الذرة وغيرها. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 97).

- عفا عنه رسول الله: قال القرطبي: العفو بمعنى الترك، أي تركها، ولم يعرف بها فهو معفو عنها، فلا تبحثوا عنها، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" فهذا معنى العفو عنها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حديث (507) فيه دليل على أنَّ الزكاة تجب في الحبوب كلها، وتجب في الثمار التي تُكال وتُدَّخر، ومثَّل لذلك بالشَّعير والحنطة والزبيب والتمر؛ لأنَّ ما يقتات ضروري في الحياة، فأوجب فيه الشارع الزكاة نصيبًا مفروضًا لأصحاب الضرورات. أما الحبوب فشُرِط لوجوب الزكاة فيها الكيل؛ لأنَّه يدل على صحة إناطة الحكم به، كما شُرط للوجوب فيها صلاحيتها للادخار، فما لا يدخر لم تكمل فيه النعمة لعدم الانتفاع به. 2 - قال شيخ الإسلام: أما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوجبون الزكاة في الحبوب، كالثمار التي تدخر، وإن لم تكن تمرًا ولا زبيبًا، جُعِلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول، ويفرقون بين الخضراوات وبين المدخرات؛ لما في ذلك من الآثار عن الصحابة، فرجح شيخ الإسلام أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض هو الادخار، لا غير؛ لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه، بخلاف الكيل؛ فإنَّه تقدير محض، فالوزن في معناه. 3 - أما الفواكه والخضراوات والبقول فلا تجب فيها الزكاة؛ لأَنَّها ليست مدخرة، وليست مكيلة، ومثل هذه الأشياء إنَّما هي ذات منفعة عاجلة، والحاجة إليها مؤقتة، وليست من الغذاء الضروري، وإنما هي للتنعم والتفكه، فهي من مأكولات الأغنياء دون الفقراء: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] فلذا لم تجب فيها الزكاة، على قول جمهور العلماء.

4 - الحديث المتقدم الذي رواه البخاري (1366) "ليس فيما دون خمسة أوسق من حب صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من الثمر -بالثاء المثلثة- صدقة" -دليل على أنَّ الزكاة تجب في عموم الثمار المعدة للادخار والكيل، وأنَّها تجب في كل الحبوب؛ لأنَّه أطلق اسم الحب والثمر، فهو يشمل كل حب وثمر، وقيد الثمر بما صلح للادخار، وضبط بالكيل. 5 - قال في "الفروع": ولو ملك ثمرة قبل صلاحها، ثم صلحت بيده -لزمته زكاتها؛ لوجود السبب في ملكه، ومتى صلحت بيد من لا زكاة عليه، فلا زكاة فيها. 6 - قال غير واحد من أهل العلم: لا تجب زكاة المعشرات بعد الحول الأول، ولو ادخرها للتجارة؛ لأنَّها لا تصير لها إلاَّ بعد البيع، كعرض القنية. * خلاف العلماء: اختلف العلماء فيما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض: فذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنَّها تجب في القليل والكثير، مما أخرجته الأرض من الحبوب كلها، والثمار كلها، والفواكه، والخضراوات، والبقول، والزهور. واستدلَّ على ذلك: بحديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عَثَرِيًا العُشر ... " إلخ ... [رواه البخاري (1412)] فعمم الواجب في كل خارج من الأرض. وذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّها تجب فيما يدخله الكيل، ولو لم يكن قوتًا؛ كحب الكمون، وحب الكرات، وحب اللوز، ونحوه، ودليلهم ما تقدم من حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من حب صدقة". والحديث يدل على وجوبها في الثمار والحبوب فقط.

أما الخارج من الأرض من غير الحبوب والثمار: فهي حاصلات عاجلة، ومنافعها حاضرة، وخارجها غالبًا قليل، وهي تراد للتنعّم، مع ما في هذا من النص: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحديث وإن كان ضعيفًا إلاَّ أنَّه جاء على وفق الأصل، في عدم الوجوب في المسكوت عنه، فهو من المعفو عنه. قال -صلى الله عليه وسلم-: "وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنها" [رواه الطبراني في "الأوسط" (8938)، والدارقطني (4/ 298)]. وقد حسَّنه النووي والسمعاني وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وله شواهد في لفظه ومعناه. وقد قُدِّرت ما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض بمكيالها الشرعي، أما الفواكه والخضروات والبقول ونحوها، فهي من المعدودات فلا تكون داخلة فيما تجب فيه الزكاة. قال الخطابي: يستدل بالحديث (508) على أنَّها لا تجب في شيء من الخضراوات والفواكه ونحوها، وعليه عامة أهل العمل، فتركه -صلى الله عليه وسلم- إياها، وتَرك خلفائه، وهي تزرع بجوارهم، ولا تؤدى زكاتها لهم -يدل على عدم وجوبها فيها، وإن تركها لهو السنة المتبعة. ذهب الإمامان: مالك والشافعي إلى: أنَّها لا تجب في الثمار، إلاَّ في التمر والزبيب، ولا تجب في الحب إلاَّ ما كان قوتًا. أما الإمام أحمد: فذهب إلى وجوبها في الثمار التي تكال وتدخر، وإلى وجوبها في جميع الحبوب، ولو لم تكن قوتًا. وتقدم قول شيخ الإسلام: إنَّ المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض هو الادخار؛ لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه، بخلاف الكيل فإنَّه تقدير محض، فالوزن في معناه.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن إخراج زكاة الحبوب والثمار نقدًا: (قرار رقم: 98، وتاريخ 6/ 11/ 1402 هـ): الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة في مدينة الطائف في الفترة التي بين يوم 24/ 10/ 1452 هـ ويوم 7/ 11/ 1402 هـ , قد اطَّلع على كتاب صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء، رقم (22848)، وتاريخ 27/ 9/ 1402 هـ، الذي طلب فيه سموه إبداء الرأي الشرعي في جواز دفع زكاة الحبوب والثمار نقدًا، بدل دفعها من عين المال أو جنسه، كما اطَّلع المجلس على كتاب سمو نائب وزير الداخلية رقم (42234)، وتاريخ 22/ 9/ 1402 هـ، حول ما أفتى به فضيلة قاضي الغاط من جواز أخذ النقود عن زكاة الحبوب والثمار، واطَّلع أيضًا على كتاب معالي وزير العدل رقم (258/ 1/ ف)، وتاريخ 26/ 6/ 1402 هـ، المتعلق بالمعاملة المحالة إلى معاليه من فضيلة رئيس محاكم القصيم بشأن الموضوع. وبعد اطلاع المجلس على ما ذكر، وعلى بعض النقول من كلام أهل العلم، والنظر إلى أن الزكاة شرعت لمصالح كثيرة، منها مواساة الفقراء، وسد حاجتهم، وتطهير الأغنياء وتزكيتهم، وبعد تداول الرأي، وتأمل ما كان عليه العمل في صدر الأمة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- وأتباعهم، ووجود حالات أخذت فيها بعض قيم الزكاة عند فقد الواجب في الزكاة -فإن مجلس هيئة كبار العلماء يقرر بالإجماع: أن الأصل أن تدفع الزكاة من عين المال حسب ما جاءت به النصوص عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تفصيل الأموال الزكوية، وبيان مقدار الواجب فيها ما أمكن ذلك.

كما يقرر بالأكثرية جواز دفع القيمة في الزكاة إذا شق على المالك إخراجها من عين المال، ولم يكن على الفقراء مضرة في ذلك، كمن وجبت عليه زكاة الغنم في الإبل وليس عنده غنم، ويشق عليه طلبها، وهكذا إذا اقتضت مصلحة الفقراء إخراج القيمة؛ كأن يشق عليهم أخذها من عين المال لكونهم في مكان يشق عليهم أخذها فيه، وكما لو باع الفلاح ثمرته كلها، فإنه يجوز أن يعطي الزكاة من الثمن. هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. ***

509 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذَا خَرَصْتُمْ فَخذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ، فَدَعُوا الرُّبعُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صححه الحاكم وابن حبَّان. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاث، وابن حبان، والحاكم من حديث ابن أبي حَثْمَة، وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل، قال البزّار: وقد تفرد به، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، قال الحاكم: وله شاهد بإسناده متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به. * مفردات الحديث: -إذا خَرَصْتُم: أيها السعاة والعمَّال. -خرصْتُم: بفتح الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وبعدها صاد مهملة ساكنة، من باب نصر ينصر، وضرب يضرب -هو تقدير الشيء وخرصه بالظن والتخمين والحزر. يقال: خرص النخل والكرم: حزر ما عليهما من الرطب تمرًا، ومن العنب زبيبًا. إذا خَرَصْتُم: "إذا" شرطية، "خرصتم" فعل الشرط، وجوابه "فخذوا"، و"دعوا" عطف عليه. - دعُوا الثُّلُث: اتركوا لأهل المال الثلث بقدر ما خرصتم. ¬

(¬1) أحمد (15511)، أبو داود (1605)، الترمذي (643)، النسائي (2491)، ابن حبان (3280) الحاكم (1464).

510 - وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُخْرَصُ العِنَبُ؛ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيْبًا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الراجح أن الحديث مرسل. قال في "التلخيص": رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث عتاب بن أسيد، ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب، فقد قال أبو داود: لم يسمع منه، وقال المنذري: انقطاعه ظاهر؛ لأن مَوْلد سعيد في خلافة عمر، ومات عتاب في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق. قال أبو حاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عتابًا؛ مرسل. قال النووي: هذا الحديث وإن كان مرسلاً، لكنه اعتضد بقبول الأئمة له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الحديث جاء على قواعد الشريعة ومحاسنها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على أنه على الإمام أن يبعث جباة الزكاة وسعاتها لجبي زكاة الحبوب والثمار؛ وذلك إظهارًا لهذه الشعيرة العظيمة، فإن الزكاة من شعائر الإسلام الظاهرة. 2 - ويدلان على أنه يكفي لمعرفة قدر الثمرة والحب خَرْصُه وتقدير ما يحصل ¬

_ (¬1) أبو داود (1603)، الترمذي (644)، النسائي (2618)، ابن ماجه (1819) وعزوه لأحمد وهم، إنما رواه الإمام أحمد عن معاذ نحوه (20985).

منه؛ إذ في جذاذه وحصاده وتقدير ذلك بالمكيال الشرعي مشقة كبيرة، فاكتفى بتقديره وخرصه. فتقوى الله تعالى وتكاليفه الشرعية تكون بقدر الاستطاعة والقدرة. والقاعدة الشرعية أنه إذا تعذر الوصول إلى اليقين، أو تعسر، اكتفى بغلبة الظن وأمثلته في الشرع كثيرة. 3 - ويدل الحديث رقم (509) أن على خارص الثمرة والحب والجابي ألا يستقصي بأخذ كل الزكاة، وإنما عليه أن يدفع لأصحاب الأموال ثلث الزكاة أو ربعها؛ ليخرجها صاحبُها على أقاربه وجيرانه ونحوهم ممن تعلقت نفوسهم بهذه الثمرة والحب، وتخيير الخارص بين الثلث والربع راجع إلى نظر الخارص واجتهاده في تحقيق المصلحة في ذلك، من سخاء صاحب الثمار وعدمه، وكثرة أتباعه وقلبتهم. 4 - قال شيخ الإسلام: إن الحديث -حديث سهل- جار على قواعد الشريعة ومحاسنها، موافق لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في الخضراوات صدقة" [رواه الترمذي (638)]، لأنه قد جرت العادة أنه لابد لرب المال بعد كمال الصلاح أن يأكل هو وعياله، ويطعم الناس ما لا يدخر ولا يبقى مما جرى العرف بإطعامه وأكله، بمنزلة الخضراوات التي لا تدخر. يوضح ذلك بأن هذا العرف الجاري بمنزلة ما لا يمكن تركه، فإنه لابد للنفس من الأكل من الثمار الرطبة، ولابد أن يشاركه في هذه الثمار الرطبة من قريب وجار وقائم على صلاح الثمرة. 5 - قوله: "دعوا الثلث أو الربع" فيه الأخذ بمراعاة الأحوال، من أنه يجب في وقت ما لا يجب في وقت غيره، ويجب على شخص ما لا يجب على الشخص الآخر، وهذا ومثله راجع إلى مراعاة المصالح والأحوال. 6 - تقدم في الحديث رقم (507) حصر ما تؤخذ منه الزكاة في أربعة: "الشعير،

والحنطة، والزبيب، والتمر"؛ بمعنى: أنَّ الزكاة لا تجب إلاَّ في هذه الأربعة. ولكن هل هذا الحصر هو حصر عين، بمعنى أنَّها لا تجب إلاَّ في هذه الأربعة الأصناف فقط، أم أنَّه حصر وصف، بمعنى أنَّه فيها، وفيما يماثلها من الحبوب والثمار؟ قد تقدم خلاف العلماء أنَّ الراجح أنَّ هذا حصر وصف، وأنَّها تجب في كل الحبوب والثمار المدخرة، وهو مذهب جمهور العلماء على اختلاف بينهم؛ فيما يدخل، وما يخرج من هذه الأصناف الموصوفة، وقد اعتمدوا في هذا العموم على آثار من الصحابة -رضي الله عنهم- كما اعتمدوا في حصرها بالمعشّرات المدخرات على التعليل، وقالوا: إنَّ غير المدخر لم تكمل فيه النعمة، فلا تجب الزكاة فيه، ويستدلون بقول معاذة "فأما الفثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[رواه الدراقطني (2/ 97) والحاكم (1/ 145)]. وقد أخذ بحصر العين جماعة من السلف، منهم الحسن والثوري والشعبي، فحصروا ما تؤخذ منه الزكاة في الأصناف الأربعة في الحديث. قال في "سبل السلام": قال في "المنار": إنَّ ما عدا الأربعة محل احتياط أخذًا وتركًا، والأصل حرمة مال المسلم، كما أنَّ الأصل براءة الذمة، وهذان الأصلان لم يدفعهما دليل يقاومهما. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن جباية الزكاة: قال مجلس هيئة كبار العلماء في قرار رقم: (133)، وتاريخ 17/ 6/ 1406 هـ ما خلاصته: أولاً: فرض جباية الأموال الظاهرة مظهر شرعي، درج عليه المسلمون منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين إلى يومنا؛ عملاً بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فينبغي للدولة الاستمرار في

القيام به، وإيصال كل ذي حق حقه. ثانيًا: إبقاء الأمر على ما هو عليه من تشكيل لجان خَرْص الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة، وجباية زكاتها وتوزيعها. ثالثاً: لا مانع من الاكتفاء بلجان محلية، تتولى خَرْص وجباية وتوزيع الزكاة. رابعًا: أما أخذ الزكاة نقدًا، فالأصل أن تدفع الزكاة من عين المال، حسبما جاءت به النصوص، كما يقرر المجلس بالأكثرية جواز دفع القيمة عن الزكاة إذا شقَّ على المالك إخراجها من عين المال، ولم يكن على الفقراء مضرة في ذلك. * فوائد: الأولى: يحرم على المزكي شراء زكاته أو صدقته، ولا يصح ذلك بأن يشتريها بعد دفعها، ولو من غير من أخذها منه؛ لحديث عمر: "حملت على فرس في سبيل الله، وأردت أن أشتريه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تشتره، ولا تعُد في صدقتك؛ فإنَّ العائد في صدقته كالعائد في قيئه" [رواه البخاري (1419) ومسلم (1620)]. الثانية: يُزكى كل نوع من الثمار والحبوب على حدته، فمن التمر يخرج -مثلاً- عن السكري منه، وعن البرني منه، وعن الشقر منه، وهكذا. ويخرج عن الحنطة منها، وعن اللقيمي منه، وهكذا. وإن أخرج الوسط من نوع واحد، كفاه ذلك. وقد اختار الموفق وغيره: أنَّه يجمع ويخرج من الوسط بين الأعلى والأدنى؛ لأنَّ كل شيء على حدته يشق، وقد رفعت المشقة والحرج شرعًا، وإن أخرج من الأعلى فهو أكمل وأفضل، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]. الثالثة: تجب الزكاة في الثمار إذا بدا صلاحها وظهر نضجها، وتجب في الحب إذا اشتد حبه في سنبله، ولكنه لا يستقر الوجوب إلاَّ بجعلها في بيادرها، وهو المكان المعد لتشميسها وتجفيفها، والبيادر هي الجرن، وبناء عليه فإنَّه لو قطعها، أو جزَّها، أو باعها، أو تلفت بغير تعدٍّ منه قبل وضعها في البيدر -سقطت عنه الزكاة، إن لم يقصد بالبيع والقطع الفرار من الزكاة، وذلك لزوال ملكه عنها قبل الاستقرار، وإن كان ذلك بعد وضعها في البيدر لم تسقط؛ لاستقرارها بذلك، فالزكاة وإن وجبت في المال، إلاَّ أنَّ لها تعلقًا في الذمة. الرابعة: قال شيخ الإسلام: العنب الذي لا يصير زبيبًا إذا أخرج عنه زبيبًا بقدر عُشره لو صار زبيبًا جاز وأجزأ بلا ريب، وأما العنب الذي يصير زبيبًا لكنه قطعه قبل أن يصير زبيبًا، فهنا يخرج زبيبًا بلا ريب، فإن أخرج العُشْر عنبًا فقولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يجزئه، وهو المشهور من المذهب. الثاني: يجزئه، وهذا قول أكثر العلماء، وهو أظهر. أما الشيخ عبد الله بن محمَّد فيقول: ما أكله أهل العنب رطبًا لا زكاة فيه، وأما الباقي فإن بلغ نصابًا وجبت فيه الزكاة. الخامسة: روى الإمام أبو داود (3410) عن عائشة: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث عبد الله بن رَوَاحَةَ يخرص نخيل خيبر، حين يبدو صلاحه، وقبل أن يؤكل منه" وله شواهد تدل على مشروعية بعث الإمام خارصًا وقت بدو صلاح الثمر، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وجماهير أهل العلم. وفائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال.

قال ابن القيم: الصحيح الاكتفاء بخارص واحد، كالمؤذن، والمخبِر عن القِبلة ونحوه. قال الأصحاب: ويشترط أن يكون عالمًا بالخرص، عدلاً، ويجب أن يترك من الخرص الثلاث أو الربع؛ لحديث: "إذا خرصتم، فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع" [رواه أحمد وغيره]، وترك هذا القدر توسعة للمالك، أختاره الشيخ وغيره. السادسة: قال شيخ الإسلام: أوجب الإمام أحمد الزكاة في العسل؛ لِما فيه من الآثار التي جمعها، وإن كان غيره لم تبلغه إلاَّ من طريق ضعيف. ***

511 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسْكَتَانِ مِنْ ذَهبٍ، فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ: أَيَسُرُّكِ أنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ فَأَلْقَتْهُمَا". روَاهُ الثَّلاَثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ (¬1)، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - امرأة: هي: أسماء بنت يزيد بن السكن، الأنصارية الأوسية الأشهلية. - مسكتان: -بفتح الميم وسكون السين المهملة- تثنية: مَسْكة، وهما سوران، والمسكة السوار؛ سواء كان من فضة أو ذهب. - أيسرك: الهمزة للاستفهام، والفعل مضارع من: السرور، والخطاب للتأنيث، أي: أيعجبكِ. - أن يسوِّرك: أن يجعل لك سوارًا من نار يوم القيامة. - فألقتهما: طرحتهما في الأرض. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (1563)، الترمذي (637)، النسائي (2479). (¬2) الحاكم (1/ 389).

512 - وَعَنْ أَمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أكَنْزٌ هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أدَّيْتِ زَكَاتَهُ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ". رَواهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: هذان الحديثان وما جاء في بابهما في زكاة الحلي، اختلف المحدثون والفقهاء في صحة أحاديث المسألة: فأيَّدها قوم، وضعَّفها آخرون، فرأيتُ أن أرجىء البحث في قبول هذين الحديثين إلى بحث اختلاف العلماء، وهناك إن شاء الله تعالى سنعطي الموضوع حقه من البحث والتَّحقيق. * مفردات الحديث: - أوضاحًا: واحدها: وضَح، سميت بذلك؛ لوضحها ولمعانها، وهو نوع من الحلي يُعمل من الفضة، سمي أوضاحًا لبياضها، ويكون أساورة في اليدين، وخلاخل في الرجلين. - أكنز هو؟: الهمزة للاستفهام الإخباري؛ أي: أهذا داخل في وعيد الكنز المذكور في الآية، فكان الظاهر أن يكون الجواب بنعم، أو لا، لكنه -صلى الله عليه وسلم- عرف الكنز بما هو معروف من أنَّه ما جمع من النقدين حتى بلغ نصابًا، ولم تؤد زكاته، فانظري إن كان كذلك فهو كنز، وإن تزينت به كما شرعه الله، وأباحه للنساء، فليس بكنز. قال الراغب: أصل الكنز من: كنزت الثمر في الوعاء، فهو جعل المال بعضه على بعض، وحفظه. ¬

_ (¬1) أبو داود (1564)، الدارقطني (2/ 105) الحاكم (1438).

قال القرطبي: الكنز أصله في اللغة: الضم والجمع. * ما يؤخذ من الحديثين: يدل الحديثان على وجوب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال؛ سواء كان قليلاً أو كثيرًا؛ لأنَّ المسكتين من الذهب، والأوضاح من الفضة، لا تبلغان نصابي زكاة النقدين، والمسألة خلافية، وهذا بسط الخلاف فيها: أجمع العلماء على وجوب الزكاة في الذهب والفضة؛ سواء كان نقودًا، أو حليًّا، أو تبرًا، أو غير ذلك، ما لم يكن حليًّا معدًّا للاستعمال أو العارية. واختلفوا في حلي الذهب والفضة إذا أعد للاستعمال أو العارية: فذهب إلى وجوب الزكاة فيه الإمام أبو حنيفة وأتباعه. وصحَّ عن عدد من التابعين، منهم عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي. وذهب إلى عدم وجوب الزكاة فيه جمهور العلماء: من الصحابة، والتابعين، والأئمة وأتباعهم. فممن صرح بعدم الوجوب من الصحابة: ابن عمر، وأنس، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وباقي الصحابة لم يرو عنهم القول به، ومنهم الخلفاء الراشدون الذين تولوا جباية زكاة المسلمين، أما التابعون فمنهم سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وقتادة، وطاوس، وعمرة بنت سعد الأنصارية. كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وأتباعهم من أجلة علماء المسلمين. أدلة الموجبين: استدلَّ الموجبون: بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. وبما في صحيح مسلم (987) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من

صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلاَّ إذا كان يوم القيامة صفِّحت له صفائح من النار، فأحمي عليها في نار جنهم، فيكوى بها جبينه وظهره ... " الحديث. فعموم الآية والحديث شامل لجميع أنواع الذهب والفضة، ومنه حلي الاستعمال والإعارة. كما استدلوا بحديثي الباب، وهما حديث عمرو بن شعيب، وحديث أم سلمة، فهما نصٌّ في المسالة. الجواب الأول: عن هذه الأدلة: الآية عامة في كل ذهب وفضة، قليلاً كان أو كثيرًا، نقودًا كان أو غيره، كما أنَّ الحديث عام في قليل الذهب والفضة، وكثيره، وفي الماشية القليلة والكثيرة، السائمة والمعلوفة، ولهذا العموم أدلة تخصص معناه، وتقيَّد إطلاقه، وإلاَّ فلو أخذنا بهذا العموم، لزكَّينا من هذه الأموال قليلها وكثيرها، سائمتها ومعلوفتها، كما أننا لو أخذنا بعموم زكاة الخارج من الأرض، لزكينا القليل والكثير، ولزكينا مع الحبوب والثمار الفواكه والبقول والخضراوات، ولكن الأحاديث الأخر خصصت هذه العمومات، وبيَّنت المراد من هذه المعلومات. فمخصصات عموم الذهب والفضة بنصاب معين قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا فيما أقل من مئتي درهم صدقة"، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الإبل: "في كل خمس من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس صدقة" [رواه النسائي (2476)، وابن ماجه (1799)]. وقال-صلى الله عليه وسلم- عن البقر: "في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مُسِنَّة" [رواه الترمذي (622)]. وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الغنم: "إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة" [رواه

البخاري (1362)]. فهذه الأحاديث خصصت عموم حديث أبي هريرة في الصحيحين في زكاة الذهب والفضة والماشية. وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الخارج من الأرض: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق في حب صدقة" [رواه مسلم (979)]. فهذه الأحاديث وأمثالها خصصت العمومات، وقيدتها بقدر النصاب، وقدْر المخرَج. وهناك أحاديث أُخر خصصت تلك العمومات بصفاتها وقيدتها، وبيَّنت مجملها؛ وذلك مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون" [رواه البخارى (1386)]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "فيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر" [رواه البخاري (1388)]. وحديث: "لا تؤخذ الصدقة، إلاَّ من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". وحديث: "فأما القِثاء والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". فهذه كلها مخصصاتٌ لعمومات الذهب والفضة، وبهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، ومقيدةٌ لمطلقة، ومبيناتٌ لمجمَله. الجواب الثاني: النظرة الثابتة في هذه الأدلة أنَّ الآية الكريمة توعدت الذين يكنزون الذهب والفضة، فما هو الكنز لغة وشرعًا؟ قال ابن جرير: الكنز: كل شيء جُمع بعضه إلى بعض. قال القرطبي: ولا يختص ذلك بالذهب والفضة.

قال الأصفهاني: الكنز: جعْل المال بعضه على بعض وحفظه. قال محمد رشيد: الكنز: ما خزن في الصناديق من الدنانير والدراهم المضروبة، لا جنس الذهب والفضة، الذي يصدق بالحلي المباح، فإنَّ الدنانير هي المعدة للإنفاق، ولا فائدة بها إلاَّ في إنفاقها، فكنزها إبطال لمنافعها. وأما حديثا الباب: فقد تكلَّم العلماء فيهما إسنادًا ومتنًا: فحديث عمرو بن شعيب: جاء من طريق ابن لهيعة والمثنى بن الصباح وهما ضعيفان، وأحاديث عمرو بن شعيب اختلف العلماء في قبولها، وأحسن ما قيل فيها: إنَّ ما رواه عن أبيه عن جده فهو ضعيف -كهذا الحديث- وما رواه عن غيرهما فمقبول. وأما حديث أم سلمة: ففي سنده انقطاع بين عطاء وأم سلمة، فإنَّه لم يسمع منها، كما أنَّ في سنده عتاب بن بشير، وثابت بن عجلان متكلَّم فيهما. أقوال العلماء عن هذين الحديثين: قال الترمذي: لم يصح في هذا الباب شيءٌ. ورجَّح النسائي إرسال حديث عمرو بن شعيب. وقال أبو عبيد: حديث اليمانية لا نعلمه روي إلاَّ من طريق واحد، بإسناد متكلم فيه. وقال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء في الذهب. وقال ابن حزم: ما احتجَّ به على إيجاب الزكاة في الحلي آثار واهية، لا وجه للاشتغال بها. * أدلة القائلين بعدم الوجوب: أولاً: جاء البخاري (1395)، ومسلم (982) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة". قال النووي: هذا الحديث يدل على انَّ أموال القنية لا زكاة فيها،

وهو قول علماء السلف والخلف. ثانيًا: الزكاة لا تجب إلاَّ في الأموال النامية، أما أموال القنية فلا زكاة فيها؛ هذا هو ضابط الإسلام فيما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب. ثالثًا: ما رواه البيهقي (7328)، وابن الجوزي في"التحقيق" (2/ 43) من حديث جابر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس في الحلي زكاة" صححه كثير من المحدثين المحققين، منهم: أبو زرعة، وابن الجوزي، والمنذري، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني. رابعًا: كُتُب النبي -صلى الله عليه وسلم- التي اسْتُقْصِي بِهَا أحكام الزكاة، وبُيِّنَ فِيها الأموال التي تجب فيها الزكاة، والتي بلَّغها بعده خلفاؤه الراشدون وعملوا بها، ليس فيها ذكر للحلي، ولا زكاته، وإنما فيها النقدان المضروبان، اللذان هم العملتان في التجارة. خامسًا: قال شيخ الإسلام: إنَّ الشارع عني ببيان ما تجب فيه الزكاة؛ لأنَّه خارج عن الأصل، فيحتاج إلى بيان، بخلاف ما لا تجب فيه، فإنَّه لا يحتاج إلى بيان بأصل عدم الوجوب. سادسًا: كيف يصح عن عائشة حديث الوعيد بالنار من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث فتخاتها، ثم لا تخرج زكاة الحلي التي تحت يدها وتصرفها، مع أنَّها تخرج زكاة غيره من المال؟!. سابعًا: هذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان، وأبي عبيد، وابن المنذر، وابن جرير، وأتباعهم من كبار علماء المسلمين سلفًا وخلفًا. * الخلاصة: أحسن الأقوال وأعدلها في هذه المسالة هو أنَّ الحلي المعد للاستعمال أو العارية لا زكاة فيه، ما دام أنَّه حلي مباح، أما المحرم فتجب فيه الزكاة.

والمحرم هو ما زاد عن العادة من تجميع الذهب والفضة وتكديسها، بصورة خارجة عن العادة والمألوف، والحامل على ذلك قد يكون واحد من هذه الأمور: 1 - الفخر والخيلاء. 2 - السرف والتبذير في النفقات. 3 - الهرب من الزكاة. 4 - الترف المفسد للأخلاق. فهَذه مقاصد محرمة، فإذا كان الحامل على جمع الذهب والفضة بصورة حلي، واحدًا من هذه المقاصد المحرَّمة، فإنَّ هذا المصاغ محرَّم، وما كان منه محرَّما تجب فيه الزكاة؛ لأَنَّه ليس مأذونًا فيه، ولا مباح الاتخاذ. أما الحلي الذي بقدر الحاجة، والناس يختلفون بين غني وفقير في ذلك، فهذا حلي مباح الاتخاذ والاستعمال، وهو من أموال القنية المقطوعة عن النماء؛ فإنَّه لا زكاة فيه بحال من الأحوال، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. ***

513 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا أنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أبو داود بإسناد لين؛ لأنَّه من رواية سليمان بن سمرة، وهو مجهول. قال في "التلخيص": رواه أبو داود والدارقطني والبزَّار من حديث سليمان ابن سمرة عن أبيه، وفي إسناده جهالة. وقال الذهبي: هذا إسنادٌ مظلمٌ لا ينهض بحكم. لكن حسَّنه ابن عبد البر وقال عبد الغني المقدسي: إسناده حسن غريب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب الزكاة في الذي يُعد للبيع، يعني: عروض التجارة، والأصل فيها عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)} [المعارج: 24] , ومال التجارة أعم الأموال، فكانت أولى بالدخول، وأما النَّص فيها فحديث الباب: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يأمرنا أن نخرج الزكاة من الذي نعده للبيع". وقوله:"قد احتبس أدراعه وأعتاده" قال النووي: فيه وجوب زكاة التجارة. 2 - قال ابن المنذر والوزير وغيرهما: أجمع أهل العلم أنَّ في العروض الزكاة، ¬

_ (¬1) أبو داود (1562).

وقال المجد: هو إجماع، وقال شَيْخُ الإسلام: الأئمةُ الأربعةُ، وسائر الأئمة -إلاَّ من شذَّ- متفقون على وجوبها في عروض التجارة. 3 - الحديث دليل على وجوب الزكاة في كل ما أعد للبيع والشراء، من أي نوع من أنواع التجارة؛ سواء في الأطعمة، أو الألبسة، أو المجوهرات، أو الأواني، أو العقار، أو الحيوانات، أو أسهم الشركات، أو في غير ذلك مما أعدَّ للبيع والربح. 4 - مفهومه أنَّ الأشياء التي لا تعد للتجارة، وإنما أعدت للقنية والاستعمال: من مَسْكنٍ، ومركبٍ، وملبسٍ، وأثاثٍ، وحليٍّ -أنَّه لا زكاة فيه؛ لأنَّها قطعت عن النماء. 5 - المؤلف لم يسق هذا الحديث بعد حديثي عمرو بن شعيب، وأم سلمة، إلاَّ ليقيد به إطلاقهما في وجوب زكاة الحلي. 6 - قدر زكاة العروض ربع العشر، كالنقدين. 7 - لا تجب في المال إلاَّ إذا حال عليه الحول، ما لم يكن ربح عروض التجارة، فحولها حول أصلها، فإنَّها تزكى، ولو لم يحل عليها الحول. 8 - تقدر عند الحول بالأحظ للفقراء من ذهب أو فضة، فإذا بلغت قيمتها نصابها بأحد النقدين دون الآخر، اعتبر ما تبلغ به نصابًا. 9 - جاء في البخاري (1395)، ومسلم (982) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس على المسلم في عبده، وفرسه صدقة" قال النووي وغيره: هذا الحديث أصل في أنَّ أموال القنية لا زكاة فيها، وهو قول العلماء. 10 - قال في "الروض وغيره": ولا زكاة في قيمة ما أعد للكراء، من عقارٍ، وحيوانٍ، وغيرهما؛ لأنَّه ليس بمال تجارة، وإنما الزكاة فى غلته إذا بلغت نصابًا، وهذا مذهب الأئمة الأربعة. ***

514 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَفِي الرِّكازِ الخُمُسُ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). 515 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبةٍ: إنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ فَعَرِّفْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكازِ الخُمُسُ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن، فله شواهد صحيحةٌ، منها: ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبىَّ قالَ: "وفي الركاز الخمس". قال الحافظ: رواته ثقات، وله شاهد قوي مرسل جاء من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه. * مفردات الحديث: - خَرِبَه: -بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء وتخفيفها ثم باء موحدة تحتية ثم تاء التأنيث-: الدار الخراب التي غير عامرة، جمعها خرب. - فعرِّفْهُ: أمر من: التعريف؛ أي: أعلن في الناس، وبين لهم حتى يجيء مالكه، أو يمضي عليه سنة. ¬

_ (¬1) البخاري (1499)، مسلم (1710). (¬2) الشافعي (1/ 248)، وفي عزوه لابن ماجه وهمٌ.

- الرِّكاز: -بكسر الراء المهملة، وفتح الكاف المخففة ثم ألف وآخره زاي معجمة-: هو الكنز الجاهلي، يوجد في بطن الأرض، فالركاز خاص لما يكون مدفونًا. - وفي الركاز: خبر مقدم، والمبتدأ "الخمس". - الخُمُس: بضمتين وإسكان الميم لغة، والجمع: أخماس، والخمس جزء واحد من خمسة أجزاء من الشيء. ***

516 - وَعَنْ بِلاَلِ بْنِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ مِنَ المَعَادِنِ القَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ". رَوَاهُ أَبُو داوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في "التلخيص": رواه أبو داود والطبراني والحاكم (1467) والبيهقي (7425) موصولًا. قال المنذري: إنَّه مرسل. وأما الزكاة في المعادن، فقد قال الشافعي: ليس هذا ما يثبته أهل الحديث، ولم يكن فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لانقطاعه. وقد جاء في "مستدرك الحاكم" أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ من المعادن القبلية الصدقة. ولم يعقب عليه الذهبي بشيء. * مفردات الحديث: - بلال: هو ابن الحارث المزني من قبيلة مزينة، والآن تحولت مزينة، فصارت منازلها في الشمال الغربي من القصيم، ودخلت مع قبيلة حرب، وشيوخهم آل نحيت. - المعادن: مفرده: "معدِن" بكسر الدال، وسمي "معدنًا"؛ لإقامته الطويلة، يقال: عدن بالمكان: إذا لزمه فلم يبرح، ومنه سميت: جنات عدن. والمعدن: هو ما كان في الأرض من غير جنسها؛ كالذهب، والفضة، والحديد، والبترول، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) أبو داود (3061).

وقال علماء الكيمياء الحديثة: المعادن مادة عضوية توجد في الطبيعة، لها تركيب كيمائي معين، وخواص طبيعية معيَّنة، وتتكوَّن المعادن من العناصر الكيميائية نفسها؛ كالذهب، والحديد، الزئبق. - القَبَليَّة -بفتح القاف والباء-: وهو موضع بناحية ساحل الأحمر، من منطقة الفرع في بلاد مزينة، بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الركاز هو ما وجد من زمن الجاهلية، وهم مَن كانوا قبل الإسلام، أو ما وجد من دَفْن مَنْ تقدَّم من الكفار، وإن لم يكونوا في الجاهلية، بأن كان عليه، أو على بعضه علامة كفر، كأسمائهم وأسماء ملوكهم، أو صورهم، أو صور أصنامهم، وكذا يملِكه واجده، وإن لم يكن عليه علامة كفار. 2 - الركاز ملك لواجده؛ لأنَّه أحق به، ولفعل عمر وعلي -رضي الله عنهما- فإنَّهما دفعا باقي الركاز لواجده. 3 - يُخرج واجدُهُ خُمُسَه، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا خالف في ذلك، ولأنَّه حصل لصاحبه بلا كلفة ولا مشقة، فكان الواجب فيه أكثر مما فيه كلفة. 4 - ليس له نصاب، فيزكي قليله وكثيره، ويخرج زكاته الإمام، أو واجده. 5 - وقت إخراج زكاته من حين العثور عليه، فلا ينتظر دوران الحول عليه. 6 - يخرج زكاته منه، ولو كان غير نقد، بأن كان حديدًا أو رصاصًا، أو غير ذلك، ويجوز إخراج زكاته من غيره. 7 - تجب زكاته ولو كان واجده ذميًّا، أو مستأمنًا إذا كان بدار الإسلام. 8 - مصرفه يكون لمصالح المسلمين العامة، ولا يخص به الأقسام الثمانية، وبهذا فزكاة الركاز أشبه شيء بالفيء المطلق. فتجب على الكافر، وتجب في قليل المال وكثيره، وليس له حول، ويجب فيه الخمس، ويخرج من نوعه ولو كان عرضًا، ومصرفه مصرف

الفيء، لا يخص به الأصناف الثمانية. 9 - وأما الحديث رقم (515) فيدل على ما يلي: إن وجد الركاز في أرض موات، أو مشاعة، أو أرض لا يُعلم مالكها، أو على وجه الأرض التي لا يعلم مالكها، أو على طريق غير مسلوك، أو قرية خربة -فهو له في جميع هذه الصور، وكذا إن أعلم مالك الأرض، وكانت منتقلة إليه؛ فله أيضًا إن لم يدّعه المالك، فإن ادَّعاه بلا بيِّنة تشهد له، ولا وصفٍ يصفه -فالركاز لمالك الأرض مع يمينه؛ لأنَّ يد مالك الأرض على الركاز، فرجح بها. وكذا لو ادَّعاه من انتقلت عنه الأرض؛ لأنَّ يده كانت عليها. 10 - أما الحديث رقم (516): فيدل على وجوب الزكاة في المعادن، والمعادن هي مادة عضوية توجد في الطبيعة، لها تركيب كيميائي معين، وخواص طبيعية معيَّنة، وتتكون المعادن من العناصر الكيميائية نفسها؛ كذهبٍ، وحديدٍ، وصُفرٍ، وزئبقٍ، فهي مواد مولدة من الأرض من غير جنسها. 11 - يدل الحديث على أنَّ الزكاة في المعادن لا تجب إلاَّ إذا بلغ نصاب الزكاة المعروف، فإذا بلغ نصابًا: عشرين مثقالاً من الذهب، أو من الفضة مائتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرها؛ كالحديد والنحاس والرصاص والبلور والعقيق وغيرها -ففيه الزكاة فورًا؛ لعموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. 12 - فيه رُبع العُشرة لما في إخراجه من الكلفة والمؤنة. 13 - لا يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب، ولو كانت المعادن متقاربة؛ كقارٍ، ونفطٍ، وحديدٍ، ونحاسٍ. 14 - إخراج زكاته حين حصوله باتفاق الأئمة الأربعة؛ لأنَّه، له مال مستفاد من الأرض، فلم يعتبر له حول، فإن استخرج أقل من نصاب، فلا زكاة فيه.

* خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ المعدن شيء غير الركاز، كما تقدم. وذهب الحنفية إلى: أنَّ المعدن هو الركاز. واختلف الثلاثة في المعدن: فذهب المالكية والشافعية إلى: أنَّ المعدن هو الذهب والفضة. وذهب الحنابلة إلى: أنَّ المعدن كل متولد من الأرض من غير جنسها، ليس نباتًا، سواء كان جاريًا؛ كالنفط والقار، أو جامدًا؛ كالحديد والنحاس والذهب والفضة. والحق ما ذهب إليه الحنابلة، كما تقدم تعريفه عن علماء الكيمياء، الذين هم أصحاب الاختصاص والخبرة. والمعادن ثلاثة أنواع: 1 - جامد: وينطبع بالنار؛ كالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والزئبق. 2 - جامد: لا ينطبع ولا يذوب بالنار؛ كالجص، والنورة، والكحل، وسائر الأحجار، كالياقوت والملح. 3 - مائع: كالنفط "البترول"، وقار وهو الزفت. ***

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر مقدمة أصل الفطر أن يقال: فطر ناب البعير: إذا انشق موضعه للطلوع، ومنه قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار]، أي: انشقت، فكان الصائم يشق صومه بالأكل. وصدقة الفطر هي الزكاة التي سببها الفطر من صيام شهر رمضان، نسبت إلى الفطر من باب تسمية المسبب بسببه. والأصل في مشروعيتها: عموم الكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى]. والأحاديث فيها صحيحة. وأجمع المسلمون على وجوبها، وسند الإجماع ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان". قال جمهور علماء السلف والخلف: معنى "فرض": ألزم وأوجب. فُرضت في السنة التي فرض فيها صيام رمضان، وهو السنة الثانية للهجرة، والحكمة في مشروعية هذه الزكاة ما جاء في سنن أبي داود (1609) عن ابن عباس قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطمعةً للمساكين"؛ فهي ترقع خلل الصيام، وهكذا كل عبادة تتعلَّق بعبادة أخرى، فإنَّها تكون مكملة لها، ومتممة لما نقص منها. ويوضحها حِكَم وأسرار، منها ما يتعلق بالصائمين، فتطهرهم مما أصاب

صيامهم من نقص وخلل، وهي أيضًا شكر لله تعالى على أنْ منَّ على عباده بتكميل صيام شهر رمضان، وشكر لله تعالى على أن متعهم بدوران الحول عليهم، فدار عليهم بصحة في أبدانهم، وسلامة في أديانهم، وأمن في أوطانهم. ومنها ما يتعلَّق بتكافل المجتمع الإسلام بسد خلل المحتاجين، وإطعام الجائعين في هذا اليوم -يوم العيد-وإشاعة السرور والفرح، وإدخال المحبة والمودة في قلوب بعضهم بعضًا؛ ليكون المسلمون كلهم في مستوى واحد، من الغنى والكفاف عن التعرض للسؤال، والحاجة إلي مد اليد في يوم كل مسلم يحب أن يظهر فيه بمظهر الغنى، فحِكم الله وأسراره في شرعه كثيرة. ***

517 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "فرَضَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأمَرَ بِهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلاِبْنِ عَديٍّ وَالدَّارَقُطنِيِّ بإسنَادٍ ضَعِيفٍ: "أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هذا اليَوْمِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الزيادة ضعيفة. قال المؤلف: ولابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف زيادة: "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم". وفيه محمَّد بن عمر الواقدي. كما أنه جاء من رواية نجيح السندي الملقَّب: أبا معشر. قال ابن الملقن والحافظ: إنَّه ضعيف، وضعَّفه ابن المديني والنسائي، وقال البخاري: منكر الحديث. * مفردات الحديث: - فرض: يحتمل وجهين: أحدهما -وهو الأظهر-: أوجب، والآخر بمعنى قدر. ¬

_ (¬1) البخاري (1503)، مسلم (984). (¬2) ابن عدي في الكامل (7/ 2519)، الدارقطني (2/ 152).

وقال ابن دقيق العيد: أصل معنى الفرض في اللغة: التقدير، ولكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى من الحمل على معناه الأصلي. - زكاة الفطر: قال النووي: هي لفظة مولدة ليست عربية، بل اصطلاحية للفقهاء؛ كأنها من الفطرة التي هي النفوس، والخِلقة؛ أي: زكاة الخلقة. قال العيني: لو قيل: لفظة إسلامية لكان أوفى؛ لأنَّها ما عرفت إلاَّ في الإسلام، فهو اسمها على لسان صاحب الشرع، ويقال لها: صدقة الفطر، وزكاة الفطر، وفي حديث ابن عباس: "زكاة الصوم"، وحديث أبي هريرة: "صدقة رمضان". - صاعًا: الصاع النبوي (3 كيلو غرامات) من الحنطة الرزينة الجيدة. - إلى الصلاة: المراد بها صلاة عيد الفطر. - أغْنوُهُم: المراد هنا: أعطوهم ما يكفيهم ويغنيهم ذلك اليوم؛ ذلك أنَّ الغنى أنواع، يفسر في كل بابٍ بما يناسبه، فالغني في باب أهل الزكاة: من عنده كفاية سنة، وفي باب زكاة الفطر: من عنده ما يزيد عن قوت يومه، وفي باب إخراج الزكاة: من عنده نصاب، وفي باب النفقات: من عنده ما ينفقه على مَن عليه مؤنته. - عن الطواف: من طاف الشيء يطوف طوفًا وطوافًا: استدار به، ومنه: الطوَّاف الذي يدور على الناس لسؤالهم، وهو المراد هنا. - في هذا اليوم: هو يوم عيد الفطر، وما يتبعه من أيام الزينة. - من المسلمين: حال لـ"العبد" وما عطف عليه، قال الطيبي: وتنزيلها على المعاني المذكورة على ما يقتضيه علم البيان، أنَّ المذكورات جاءت مزدوجة على التضاد للاستيعاب، لا للتخصيص؛ لئلا يلزم التداخل، فيكون فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جميع الناس من المسلمين.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - أجمع العلماء على وجوب زكاة الفطرة؛ أخذًا من قوله: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر" فالفرض: هو الواجب. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ صدقة الفطر واجبة. 2 - أنَّها تجب على كل مسلم: ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد، صغيرٍ أو كبيرٍ. 3 - أنها لا تجب على الجنين. واستحب كثير من العلماء إخراجها عنه؛ فقد ورد عن الصحابة أنَّه كان يعجبهم إخراجها عن الحمل، وكان عثمان -رضي الله عنه- يخرجها عنه. 4 - أنَّ الأفضل في وقت إخراجها أن تؤدى صبح العيد قبل خروج الناس لصلاة العيد، ويأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. 5 - أنَّ من حِكَم هذه الزكاة إغناء الفقراء في يوم العيد؛ لئلا يبتذلوا أنفسهم بالسؤال، في يوم يود كل مسلم أن يظهر فيه بمظهر الغنى، وهو يوم فرحٍ وسرورٍ عامٍّ للمسلمين. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في وقت إخراج زكاة الفطر: فذهب أبو حنيفة إلى: جواز تقديمها لحول أو حولين، قياسًا على زكاة المال. وذهب الشافعية إلى: جواز تقديمها من أول شهر رمضان. وذهب مالك إلى: أنَّه لا يجوز تقديمها مطلقًا، كالصلاة قبل وقتها. وذهب الحنابلة إلى: جواز تقديمها قبل العيد بيومين، وبهذا حصل اتفاق الأئمة الثلاثة وأتباعهم على جواز إخراجها معجلة قبل العيد بيومين فقط؛ لما روى البخاري (1415) قال: "كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين"

يريد، الصحابة، ولأنَّه لا يحصل إعدادها إذا لم تقدم هذا التقديم، ولهذا اختار شيخنا عبد الرحمن السعدي استحباب تقديمها بيوم أو يومين. واختلف العلماء في زمن وجوبها: فذهب الحنفية إلى: أنَّها تجب بطلوع فجر يوم عيد الفطر. قالوا: لأنَّ الصدقة أضيفت إلى الفطر، والإضافة للاختصاص، والاختصاص للفطر باليوم دون الليل، فمن مات قبل طلوع الفجر، لم تجب فطرته، ومن أسلم أو ولد بعد طلوعه الفجر، لم تجب فطرته. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: أنَّها تجب بغروب شمس ليلة عيد الفطر؛ لأنَّه أول فطر يقع من جميع رمضان بمغيب الشمس في ليلة الفطر، فمن مات بعد الغروب وجبت عليه، ومن ولد أو أسلم بعده، فلا تجب عليه؛ لعدم وجود سبب الوجوب عليه. ***

518 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَّاعًا مِنْ طَعَام، أوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ". مُتَّفَقٌ عَليْهِ (¬1). وَفِي رِوَاَيةٍ: أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ" (¬2). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "أَمَّا أنا، فَلاَ أزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬3). وَلأبي دَاوُدَ: "لاَ أُخْرِجُ أَبَدًا إِلاَّ صَاعًا" (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - طعام: قال الجوهري: الطعام في اللغة: ما يؤكل، وربَّما خصَّ الطعام بالبُرِّ. وقال الكرماني: لا نزل في أنَّ الطعام بحسب اللغة عامٌّ بكل مطعومٍ، والعطف على الطعام قرينة على إرادة المعنى العُرفي منه، وهو البُر بخصوصه، وأيضًا فإنَّه لو لم يُرِد بالطعام هنا الحنطة، لذكرها عند التفصيل، كذلك سائر أقواتهم. - زبيب: وحداته "زبيبة"، وهو اسم جمع، يذكر ويؤنث، وهو ما جف من العنب - أقط: -بفتح الهمزة وكسر القاف بعدها طاء مهملة-: هو اللبن المحمض، يطبخ حتى يتبخر ماؤه ويصبح كالعجينة، ثم يعمل منه أقراص تؤكل رطبةً ¬

_ (¬1) البخاري (1558)، مسلم (985). (¬2) البخاري (1506). (¬3) البخاري (985). (¬4) أبو داود (1618).

ويابسةً، فإن أكل عجينة قبل أن يقرص، فتسميه البادية: لتيحا. - أما أنا ... إلخ: قال أبو سعيد ذلك ردًّا على من قال: إنَّ مدَّيْن من حنطة الشام تعادل صاعًا من التمر وغيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية إعطاء زكاة الفطر من هذه الأجناس الخمسة: الحنطة، والتمر، والشعير، والزبيب، والأقط. 2 - حكمة هذا التوزيع -والله أعلم-: التسهيل على المخرِجين، فكل أهل قطر يخرجون مما عندهم، فلا يكلفون مما ليس لديهم، كما أنَّ إغناء الفقراء يكون من الطعام الذي يأكله جمهورهم. 3 - كانت زكاة الفطر تُخرجُ صاعًا من أحد هذه الأجناس الخمسة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما وردت الحنطة السمراء من الشام إلى المدينة زمن معاوية، وقدم المدينة سنة حجته -قال: أرى أنَّ مدًّا من الحنطة عن مُدَّين من غيرها؛ لجودتها ونفعها، فقال أبو سعيد الخدري: أما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا أخرج أبدًا إلاَّ صاعًا. [رواه مسلم (985)]. وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور. وذهب أبو حنيفة إلى: أنَّه يجزىء من الحنطة نصف الصاع، ومال ابن القيم في "الهدي" إلى تقوية أدلة هذا الرأي. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: هو قياس قول أحمد في الكفارات، والأحوط هو مذهب الجمهور من إخراج الصاع مطلقًا. * خلاف العلماء ذهب الإمام أحمد إلى: تحديد إخراج الفطرة من هذه الأجناس الخمسة المنصوص عليها بهذا الحديث، إن لم تفقد هذه الأجناس، فإن عدمت، أجزأ

كل حب وتمر يقتات. وذهب الإمامان: مالك والشافعي إلى: أنَّها تجزىء بكل حب وثمر يقتات، ولو قدر على الأجناس الخمسة المذكورة في الحديث. وهو قول أكثر العلماء ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام وابن القيم، وهو أصح القولين؛ لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، ولأنَّ الأصل في الصدقات أنَّها تجب على وجه المساواة للفقراء، ولأنَّ هذه الخمسة المذكورة في الحديث قوت أهل المدينة، ولو لم تكن عندهم قوتًا لم يكلفهم أن يخرجوا إلاَّ مما يقتاتونه. قال ابن القيم لما ذكر الأنواع الخمسة: وهذه كانت غالب أقواتهم في المدينة، أما إذا كان أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنَّما عليهم صاع من قوتهم، فإن كان قوتهم من غير الحبوب؛ كاللبن واللحم والسمك، أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان, هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتات أهل بلدهم. * فائدة: أفضل هذه الأصناف الخمسة وغيرها من أجناس الأطعمة -أنفعها للمتصدَّق عليه، الذي يحصل به الإغناء المطلوب في ذلك اليوم. ***

519 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضي اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَهًّ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكينِ، فَمَنْ أدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ، زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني (2/ 138) والحاكم والبيهقي (7481) من طريق مروان بن محمد قال: حدثنا أبو يزيد الخولاني قال: حدثنا سيَّار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر ... " الحديث، قال الدارقطني: ليس فيهم مجروح، وسنده حسن، فهم ثقات صادقون قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي وابن الملقن، والسند قد حسَّنه النووي في "المجموع"، كما حسَّنه ابن قدامة في "المغني"، وأبو محمَّد المقدسي * مفردات الحديث: - طهرة للصائم: الطهر هو: النقاء من الدنس والنجس الحسي، وهنا طهرة من الأدناس المعنوية؛ كالبخل والشح وغيرهما. - اللغو: هو الكلام الذي لا يعتد به، قال الراغب: وقد يسمى كل كلام قبيح: ¬

_ (¬1) أبو داود (1609)، ابن ماجه (1827)، الحاكم (1488).

لغوًا؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]. - الرفث: يقال: رفث يرفث رفثًا، من باب طلب: أفحش في منطقه، والرفث: الجِماع، ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] قيل: الجِماع ومقدماته، وقيل: الفحش في القول. - طُعمة للمساكين: بضم الطاء: الطعمة: الرزق، وجمعها "طُعم" مثل: غرفة وغرف، والطعمة المأكلة. - من أدَّاها قبل الصلاة: أي: صلاة العيد. - صدقة من الصدقات: العامة يعني أنَّها لم تُجزِ عن زكاة الفطر، وإنما هي صدقة تطوع مطلقة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب زكاة الفطر، وتقدم أنَّه إجماع المسلمين. 2 - أنَّ من حِكمِهَا وأسرار تشريعها أنَّها تطهِّر الصائم مما حصل منه أثناء صيامه من لغو الكلام، ومما قد يكون اقترفه من رفث مع زوجته أو غيرها. كما أنَّ من حِكمتها أنَّها مواساة للفقراء والمساكين، وإطعام لهم في هذا اليوم، الذي ينبغي للمسلمين ألا يوجد بينهم مَن هو في حالة جوعٍ وبؤسٍ يشغله عن مشاركة المسلمين في فرحهم وعيدهم. 3 - يجب إخراجها قبل صلاة العيد، ويحرم تأخيرها عن الصلاة. 4 - إن أداها قبل الصلاة فهي زكاة فطر، أجزأت عن الواجب، وإن أخَّرها عن الصلاة، فإنَّها عبادة فات محلها، وباء بإثم تأخيرها. وهذا الذي أخرجه بعد الصلاة هو صدقة من جملة صدقات التطوع. 5 - قوله: "طهرة للصائم" هذا دليل قلة من العلماء ذهبوا إلى أنَّها لا تجب في حق الأطفال، ولكن جمهور العلماء أوجبوها على الصغير والكبير؛ لعموم

النصوص، ولأنَّ العلة مركبة من عدة أمور، ولعل من أهمها: طعمة المساكين ذلك اليوم، الذي لا ينبغي أن يوجد مسلم إلاَّ وهو مشارك في فرحة العيد وسروره، والتوسع فيه في المأكل والمشرب والملبس. * خلاف العلماء: الأفضل إخراجها فجر يوم العيد قبل صلاتها، وهذا قول فقهاء المذاهب الأربعة، فإن أخرجها بعد الصلاة في يومه، كره عند الجمهور، ومنهم الشافعية والحنابلة وحرم بعده. وذهب ابن حزم إلى تحريم تأخيرها عن الصلاة وعدم إجزائها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"؛ وهذا هو الصحيح من قول العلماء، والله أعلم. ***

باب صدقة التطوع

باب صدقة التطوع مقدمة الأصل في التطوع: فعل الطاعة، وشرعًا وعرفًا: طاعة غير واجبة. قال شيخ الإسلام: التطوع تكمل به الفرائض يوم القيامة، إن لم يكن أتمها. وصدقة التطوع مستحبة كل وقت إجماعًا؛ فقد حثَّ عليها الله تعالى، وأمر بها، ورغَّب فيها؛ فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وروى الترمذي (664)، عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إنَّ الصدقة لتطفىء غضب الرب، وتدفع مِيْتة السوء" وإخفاء صدقة التطوع أفضل؛ لما جاء في البخاري (629)، ومسلم (1031 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظله ... "، وذكر منهم: "رجلاً تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنْفق يمينه". والصدقة في الصحة أفضل منها في غيرها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تصدق وأنت صحيح شحيح" [رواه البخاري (1353)]. وفي رمضان أفضل منها في غيره؛ لما في البخاري (6) ومسلم (2308) عن ابن عباس قال: "إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان". وهي في وقت الحاجة أفضل منها في غيرها؛ لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي

يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)} [البلد]. والصدقة على ذي الرحم أفضل من غيره مع تساوي الحاجة؛ لأنَّها صدقة وصِلة رحم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الصدقة على ذي رحم اثنتان: صدقة، وصلة" [رواه أحمد (15644)]، وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه، فإن تصدق بما ينقص مؤنة مَن تلزمه نفقته أثِم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت" [رواه مسلم (996)]. ووفاء الدين مقدَّم على الصدقة؛ لوجوبه. وتجوز صدقة التطوع على: الكافر، والغني، وبني هاشم، وغيرهم ممن مُنع الزكاة، ولهم أخذها؛ لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان: 8] والأسير لا يكون إلاَّ كافرًا. ولا تستقلَّ الصدقة فيستحب الصدقة بما تيسر؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة]. ولما في البخاري (1351)، ومسلم (1516) من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقوا النار، ولو بشق تمرة". ويحرم المنّ بالصدقة، ويحبطها ويمنع ثوابها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. ويكره تعمد التصدق بالرديء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. ويستحب تعمد أجود ماله وأحبه إليه؛ لقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].

520 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظلُّهُ ... " فَذَكَرَ الحَديثَ. وفِيه: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنه". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سبعة: أي: سبعة أشخاص، وإنما قدر هكذا؛ ليشمل النساء، فالأصوليون ذكروا أنَّ أحكام الشرع عامة لجميع المكلفين. سبعة: التنصيص بالعدد في شيء لا ينفي ما عداه. - يظلهم الله: جملة محلها الرفع على أنَّها خبر للمبتدأ، الذي هو "سبعة"، وجاء في رواية سعيد بن منصور بإسناد حسن: "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه"، ومعنى "يظلهم": يسترهم. - حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه: هكذا روايات البخاري وغيره، ولكن جاء في مسلم مقلوبًا، وهو: "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله". قال القاضي عياض: جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم جاء فيها الترتيب مقلوبًا، والصواب الأول؛ لأنَّ السنة المعهودة إعطاء الصدقة باليمين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه إثبات البعث والجزاء الأخروي، وهو مما علم من الدين بالضرورة. 2 - فيه إثبات نزول الشمس يوم القيامة، وقربها من العباد في المحشر، حتى ¬

_ (¬1) البخاري (660)، مسلم (1031).

يبلغ بهم العرق، كلٌّ على حسب عمله. 3 - فيه فضل الصدقة، وأنَّها سبب السعادة في الدار الآخرة. 4 - فيه فضل السر فيها، والحرص على إخفائها؛ ليكون صاحبها من السبعة السعداء، الذين يستظلون بظل الله تعالى يوم القيامة، يوم لا ظل يقيهم من ألسنة الشمس المحرقة إلاَّ ظل الله تعالى؛ قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. يعني: إخفاء الصدقة أفضل من إعلانها، إلاَّ إذا كان هناك مصلحة راجحة في إعلانها، كأن يكون قدوة لغيره في الخير، ووثِقَ من نفسه من مخالطة الرياء. 5 - الحِكمة في إخفائها: بُعدها عن الرياء، الذي هو من أسباب حبوط العمل، وردَّه على صاحبه، ولعلَّ في هذا احترامًا لشعور الفقير، بلحوق الذل والانكسار إليه. 6 - قوله: "ورجل تصدق" لا مفهوم له؛ فإن المرأة كذلك. 7 - قال في "الشرح": واعلم أنَّه لا مفهوم للعدد، فقد ورد خصال أُخر تقتضي الظل بلغ بها في "فتح الباري" إلى ثمان وعشرين خصلة، وبلغ بها السيوطي إلى سبعين. * فائدة: عبادات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: أحدهما: كف عن محبوب؛ وذلك مثل الصلاة، والصيام، وترك الشهوات. الثاني: بذل لمحبوب؛ وذلك مثل الزكاة، والصدقات، والحج. وحديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلاَّ ظله جاء على هذا التقسيم، فهو إمَّا كف عن محبوب، كالذي يرابط في المساجد، ويدع

محبوباته، وكالذي اعتصم عن محبوبته ومعشوقته، والشاب الذي كف عن نزوات الشباب ومغرياته، وكالإمام العادل الذي تنزه عن الأثرة والسلطة المطلقة. وأما البذل فهو المتصدق الذي بذل صدقته وأخفاها، حتى لا يذوق حلاوة الثناء والدعاء. ***

521 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "كُلُّ امْرِىءً فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ، حَتَّى يُفْصَلَ بيْنَ النَّاسِ". رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الإمام أحمد (16695)، وابن خزيمة (2431)، وابن حبان في "صحيحيهما"، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي على ذلك، قال المنذري: الحديث صحيح، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وقال في "المهذب": إسناده قوي، وصححه السيوطي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب صدقة التطوع، وفضلها، والحث عليها، وأنَّها من أسباب تخفيف أهوال يوم القيامة. 2 - أنَّ صاحبها يكون في ظلها يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس في ذلك الموقف، الذي فيه ما جاء في صحيح مسلم (2864) عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة، أُدْنِيت الشمس من العِباد، حتى تكون على قدر ميل أو ميلين، فتصهرهم، ويكون العرق على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه على عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا". 3 - في الحديث إثبات يوم القيامة، والحساب، والفصل بين العباد، وهذا من ¬

_ (¬1) ابن حبان (3310)، الحاكم (1517).

أمور العقيدة التي يجب الإيمان بها، كما جاءت عن الله تعالى، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-. * فائدة: الزكاة والنفقة الواجبة أفضل من صدقة التطوع، فقد وصف الله تعالى الزكاة بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. فهي مزكية للنفوس، ومطهرة من الذنوب. وقد جاء في الحديث القدسي ما رواه البخاري (6137) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال تعالى: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترَضْتُهُ علَيهِ". ***

522 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ، أطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ، سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتومِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فيه يزيد بن عبد الرحمن "أبو خالد الدالاني"، قال المنذري: أثنى عليه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد. اهـ. وتقدم أنَّ ابن حجر قال: في إسناده لين، بينما حسَّنه السيوطي في الجامع الصغير. قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 66): روي موقوفًا على أبي سعيد، وهو أصح وأشبه. اهـ. لكن هذا الموقوف مما لا مجال للرأي فيه. وقال النووي: إسناده جيد، وحسَّنه المنذري. * مفردات الحديث: - أيما: "أي" اسم مبهم متضمن معنى الشرط، وهي معربة بالحركات؛ لملازمتها الإضافة إلى المفرد، نحو "أي امريء ... " وقد يحذف المضاف إليه فيلحقها التنوين عوضًا منه؛ نحو {أَيًّا مَا تَدْعُوا} وقد تلحقها "ما" الزائدة ¬

_ (¬1) أبو داود (1682).

-كما في هذا الحديث- فتكون للتوكيد. وفعل الشرط "كسا"، وجوابه "كساه الله". - عُري: مصدر: عَرِي الرجل من ثيابه يعرى عُرْيًا وعُرية، من باب علم، نقيض لبس، فهو عارٍ وعريان، والمرأة عارية وعريانة، وقوم عراة، ونساء عاريات. - ظمأ: من ظمىء الرجل يظمأ ظمأً: اشتد به العطش، فهو ظامىء وظمآن، والظمأ: شدة العطش. - خُضر الجنة: جمع "أخضر"؛ أي: من ثيابها الخضر، فهو من إقامة الصفة مقام الموصوف، كما ذكره الطيبي. - الرَّحيق: بفتح الراء المهملة بعدها حاء مهملة مكسورة، وبعدها ياء مثناة تحتية ثم قاف. قال أهل اللغة: هو من الخمر ما لا غش فيه، ولا شيء يفسده، فهو أجود الخمر، مما عتق وصفًا. - المختوم: يقال: ختم الإناء يختمه ختمًا -من باب ضرب-: سدَّ فاه، فختم الإناء: سدَّه بالطين ونحوه؛ لحفظه من التلويث، والمعنى: آنية مختومة مصونة من أي تلوث، وختامها الذي سدت به هو المسك، فهذا كله لكمال نفاستها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث فضل صدقة التطوع، والحث عليها، وأنَّها من أسباب الحصول على نعيم الجنة. 2 - أنَّ أفضل ما تكون الصدقة إذا وافقت حاجة في المتصدق عليه، كأن يُكسى على عري، وأن يُطعم على جوع، وأن يسقى على ظمأ، فإنَّ النفع يكون أعظم. 3 - في الحديث إثبات نعيم الجنة وأنواعه وأشكاله؛ وأنَّ الجزاء من جنس

العمل، فمن كسا كُسِيَ، ومن أطعم أُطْعم، ومن سَقَى سُقِي، وَمَا يُكسى وَيُطعم، ويُسقَى خير مما أعطاه في الدنيا، فما ذكر من النعيم إلاَّ أسماؤه، أما النعيم حقيقة فنعيم الجنة لم تره عين بشر، ولم تسمعه إذنه، ولم يخطر على قلبه. 4 - قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]، فهذا أفضل الصدقة، وأجل الإيثار حينما تكون القلوب إلى المال طامحة، والنفوس فيه راغبة، ثم جاء الوارد الإلهي، والرغبة الصادقة فيما عند الله تعالى، فتقوى على الشهوات النفسية، والغرائز الجسدية، فيُؤْثِر المؤمن غيرَه بما عنده على نفسه المحتاجة. قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9]. والإيثار معناه: تقديم الناس المحتاجين على أنفسهم، في حالٍ هم محتاجون إلى ذلك، وهي درجة أعلى من درجة الذي أنفقوا من أموالهم الشيء الذي ليس لهم به حاجةٌ، ولا ضرورةٌ. ***

523 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اليد العليا واليد السفلى: جاء في الصحيحين: أنَّ اليد العليا هي المنفِقة، والسفلى هي السائلة، قال النووي: المنفِقَة أعلى من الآخذة، والمنفقة أعلى من السائلة. - ابدأ بمن تعول: فتشمل صدقة التطوع، والواجب، والإنفاق على العيال. - تعُولُ: العيلة: الفاقة والحاجة، يقال: عال عيالة عولاً: كفاهم معاشهم ومؤنهم، وعال اليتيم: كفله وقام به. - عن ظهر غِنًى: تعبير يراد منه التمكن من الشيء والاستواء عليه، وجاء التنكير فيه للتعميم؛ أي: ما كان عفوًا قد فضل عن غنًى، وعما زاد عن نفقة العيال، "والظهر" هنا: لفظة زائدة، جاءت اتساعًا، وتمكينًا للسياق. - من يستعفِف: يطلب العفة، فـ"من" شرطيةٌ، تجزم فعلين: "يستعفف" فعل الشرط، وجوابه "يعفه"، والتعفف: هو الكف عن الحرام، وسؤال الناس. - يُعْفه الله؛ يُقال: عف عن المسألة، واستعف أي: كف، فهو عف، وعفيف، ويعفه الله؛ أي: يصير عفيفًا، فيرزقه الله العفة، ويوفقه لها، ويغنيه عما في أيدي الناس. ¬

_ (¬1) البخاري (1427)، مسلم (1034).

- من يستغن: يظهر الغنى. - يغنه الله: أَي: يرزقه الغنى عن الناس، فلا يحتاج إلى أحد. - الصدقة: استعيرت الصدقة هنا للحث على الإنفاق، وللمسارعة فيما يرجى ثوابه. ***

524 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ المُقِلِّ، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، صححه ابن خزيمة وابن حبان الحاكم، ووافقه الذهبي. * مفردات الحديث: - أي: من أدوات الاستفهام، فهي اسم مبهم يستفهم به عن الشيء، فيطلب بها تعيين الشيء؛ نحو: أي الصدقة أفضل؟. - جُهد: بضم الجيم المعجمة وسكون الهاء؛ أي: الطاقة والوُسع، قدر طاقته، ووسعه، وأما بالفتح فهو المشقة. - المُقِل: بضم الميم وكسر القاف آخره لام، والمُقِلّ: من كان قليل المال. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - اليد العليا هي المعطية، واليد السفلى هي المعطاة، فاليد العليا خير من السفلى؛ لأَنَّها المحسنة، وتلك المحسَن إليها، ولأنَّها المنفِقة، وتلك المنفق عليها، فالمتفضلة بالخير هي المعطية. 2 - في هذا حثٌّ للأغنياء على الإحسان، وإعطاء المحتاجين، ومواساة إخوانهم الفقراء بشيء من فضول أموالهم، بسد حاجتهم، وبرفْد فاقتهم. ¬

_ (¬1) أحمد (8348)، أبو داود (1677)، ابن خزيمة (2444)، ابن حبان (3346)، الحاكم (1509).

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا، ومن أبلغها أنَّ الله جعل الصدقة على الفقراء إقراضًا له، فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} [الحديد: 11]. 3 - صدقة التطوع لا تكون إلاَّ بما زاد عن حاجة الإنسان، وحاجة من يمونه ممن تجب عليه نفقته؛ فقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم (996) قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت" فإن تصدق بما ينقص مؤنتهم وحاجتهم أثم، لأنَّه عدل عما خوطب به، ووجب عليه إلى ما لم يخاطب به، فأضاع من تلزمه مؤنتهم. 4 - أنَّ الصدقة الواقعة موقعها هي التي يؤديها صاحبها عن غنًى، وفي شيء زائد عن الضرورات، والحاجات الخاصة به، وبمن يمونه. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] والعفو هو ما فضل وزاد عن الحاجة. 5 - فيه استحباب التعفف حتى مع الحاجة، فلا يسأل ولا يستشرف إلى ما في أيدي الناس، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] والتعفف معناه طلب العفة لنفسه عما في أيدي الناس، وكفّها عن سؤالهم. 6 - يستحب إظهار الغنى، والصبر رضا بأمر الله تعالى، وقناعةً بما عنده، وإن قلَّ، فيعف عما في أيدي الناس. كما أنَّ من كان غنيًّا، فسأل الناس، أو أظهر الفاقة؛ ليحتال على الإعطاء -فهذا قد غش وكذب، وأخَذَ حرامًا. أما من استغنى وعفَّ عما في أيدي الناس، فإنَّ الله تعالى يغنيه بأن يسد حاجته وخلته، ويجعل في قلبه القناعة والغنى، فليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس.

7 - أفضل الصدقة جهد المُقل، وذلك بأن يتصدق بالفاضل عن حاجته وحاجة عياله، ولو لم يكن صاحب مال وافر، وبهذا فإنَّ هذه الجملة لا تعارض الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري (1361) ومسلم (1034): "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" فلكل منهما محمل ومعنى، فلابد من تقييد جهد المقل بما زاد عن كفايته، وكفاية من يمونه. 8 - أنَّ من لم يطلب العفاف والغنى لم يُوفَّق لذلك، بل يبقى قلبه متعلقًا فيما حرَّم الله تعالى من الشهوات، ويفتح له أبوابًا إلى المحرَّمات، وهذا هو مفهوم قوله: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". * فوائد: الأولى: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- حديث: "سبق الفقراء بخمسمائة عام" لا يدل على فضلهم على الأغنياء، بل بعض الأغنياء الذين يدخلون بعدهم يكونون أرفع درجة منهم. وهذا له شواهد كثيرة من أنَّ الفضيلة الخاصة لا تدل على الفضيلة العامة. الثانية: وفاء الدين مقدم على صدقة التطوع؛ لأنَّ وفاء الدين واجب، وحقوق العباد عظيمة؛ ولذا جاء في الحديث الصحيح: أن الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب إلاَّ الدَّين. وقال شيخ الإسلام: ومثل الدَّين جميع حقوق العباد، ومظالمهم. الثالثة: صدقة التطوع يجوز إعطاؤها الكافر، والغني، وبني هاشم، وغيرهم ممن مُنع الزكاة. الرابعة: المنُّ بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب، ويبطلِ ثوابها، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. الخامسة: قال أبو قلابة: أي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار،

يعفهم ويغنيهم؟ فقد جاء في صحيح مسلم (994): "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله". السادسة: قال شيخ الإسلام: إعطاء السائل فرض كفاية إن صدق في مسألته. وقال القرطبي: اتَّفق العلماء على أنَّه إذا نزل بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنَّه يجب الصرف إليها. قال في "الإقناع": وليس في المال حقٌّ واجبٌ سوى الزكاة اتفاقًا، مع أنَّه يجب إطعام الجائع ونحوه إجماعًا، وهذا مما يجب عند وجود سببه. ***

525 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "تَصَدَّقُوا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، عِنْدِي دِيْنارٌ؟ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أنْتَ أَبْصَرُ بِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه الشافعي وأحمد (9705) والنسائي وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة. اهـ. وقد صححه ابن حبان، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي. قال الألباني: كونه على شرط مسلم فيه نظر، فإنَّ فيه محمَّد بن عجلان، وهو حسن الحديث. * مفردات الحديث: - تصدق به على نفسك: أي: أنفِقه على نفسك، عبر عن الإنفاق بالتصدق؛ إشارة إلى أنَّ الإنفاق على أهل الحقوق له مثل الصدقة في الأجر. - أنت أبصر به: أي: أدرى بحالك، وشأنك به. ¬

_ (¬1) أبو داود (1691)، النسائي (2535)، ابن حبان (4235)، الحاكم (1514).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية صدقة التطوع؛ فقد أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصارف للأمر عن الوجوب ما روى الترمذي (618) وابن ماجه (1778) عن ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك". وقال في "الإقناع وشرحه": وليس في المال حق سوى الزكاة اتفاقًا، وما جاء حمل على الندب. 2 - يبدأ الإنسان بالنفقة الواجبة قبل صدقة التطوع، فإذا كان ما عنده بقدر نفقة نفسه، بدأ بها على غيره، فإذا زاد ما عنده على نفقته، أنفق على ولده، ذكره وأنثاه، وتكون النفقة بقدر حاجة كل منهم، فإذا زاد عن ذلك، أنفق على خادمه، فإذا زاد عن ذلك، فهو مخير بين من ينفق عليه، لأنَّ النفقات الواجبة قضيت، ولم يبق إلاَّ نفقة التطوع. 3 - التمييز هنا ليس تمييز هوى وأثرة، وإنما هو تمييز مصلحة، فيقدِّم في صدقته الطريق الأفضل والأحسن. 4 - أفضل طرق الخير والإحسان هو أن ينفق على جهات خيرية: من تعليم علم، أو نشر دعوة الله تعالى، أو إنقاذ متضرري المسلمين، أو قريب محتاج، أو جار ملاصق، فينظر إلى المصالح أيها أرجح، فيقدمها لتكون صدقته كبيرة الفائدة، وواقعة في محلها، الذي يحبه الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. 5 - في الحديث لم يذكر إلاَّ النفس، والولد، والخادم، ومثل ذلك الزوجة، فالنفقة عليها واجبة، ومثل هذا الوالدان، لاسيَّما في حال كِبرهما وضعفِهمَا، ولعلَّ السائل ليس عنده إلاَّ ابنة وخادمة. 6 - في الحديث دليل على أنَّ النفقة على النفس، وعلى الولد، وعلى الخادم، وعلى كل من يمونه الإنسان -تكون صدقة، وأنَّ صاحبها مأجور عليها، إذا كان معها حضور النية الصالحة، إلاَّ أنَّ مثل هذه النفقات تكون غالبًا بدافع

المودة، والشفقة، والدافع الغريزي. ولكن الموفَّق الفِطن لا يغفل عن استحضار النية الصالحة عند الإنفاق، والقيام بالواجب الذي أمر الله به، ونهى عن إضاعته؛ امتثالًا لأمر الله تعالى ورغبةً فيما عنده، واحتسابًا لثوابه، فإذا أنفق بهذه النية الصالحة الخالصة نال الفائدتين. ***

526 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ طَعَامِ بيْتِهَا غَيْرَ مُفسِدةٍ، كَانَ لَهَا أجْرُهَا بِمَا أنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذلكَ، لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِن أجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غير مُفسدة: أي: من إسراف أو تبذير، ومن غير أن تنقص من مؤنة أهل بيتها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه أنَّه يجوز للمرأة أن تنفق من طعام بيتها، ولو لم تستأذن زوجها في ذلك، ولكن قيَّده العلماء بما يأتي: (أ) ألا يمنعها الزوج من ذلك، أو يكون بخيلاً فتشك في رضاه، ففي هذه الحال يحرم. (ب) أن تتصدق بما جرت العادة بالسماح به؛ مثل الرغيف، وزائد الطعام المطهي. 2 - مثل المرأة الخادم القائم على مال مخدومه، فله التصدق بما جرت العادة السماح به، ما لم يعلم الشح من صاحب المال، أو يمنعه من ذلك، فيحرم حينئذٍ. 3 - مثل المرأة والخادم من يقوم في بيت الرجل: من بنتٍ، أو أختٍ، أو ولدٍ، أو أخٍ؛ فحكمهم حكم المرأة والخادم المذكورين في الحديث. 4 - فمن أنفق من هؤلاء بهذه الصورة الجائزة، فكل واحد منهم له أجر خاص به، وهذا الأجر لا ينقص من أجر الآخرين شيئًا، ففضل الله أوسع. ¬

_ (¬1) البخاري (1425)، مسلم (1024).

527 - وَعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ أمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أنْ أَتَصَدَّقُ بهِ، فَزَعَمَ ابنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ أتصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: صَدَقَ ابن مَسْعُودٍ، زوْجُكِ وَوَلَدُكِ أحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ". روَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - امرأة ابن مسعود: هي زينب بنت عبد الله بن معاوية، من قبيلة ثقيف. - حُلِي: -بضم الحاء وكسرها مع كسر اللام وتشديد الياء، جمع حَلْي بالفتح فالسكون فالتخفيف-: هو ما تتزيَّن به المرأة من مصوغ الذهب والفضة، والحجارة الكريمة وأمثالها. - زعم: يقال: زعم يزعم زعمًا؛ أي: قال قولاً باطلاً أو حقًّا، فهي تستعمل للضربين، وأكثر ما تقال فيما يشك في حقيقته، وهو المراد هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضل صدقة التطوع. 2 - استحبابها للأقربين من زوج وأولاد محتالمين، ولو لم تكن نفقتهم واجبة على المتصدق، فهي صدقة وصلة. 3 - أنَّ للمرأة أن تتصدق بمالها، وتتصرف فيه بغير إذن زوجها. ¬

_ (¬1) البخاري (1462).

4 - مبادرة نساء الصحابة -رضي الله عنهن- إلى فعل الخير عند سماع الموعظة. 5 - أن للإنسان أن يتصدق ولو من أشيائه الخاصة، فيؤثر غيره على حاجته، ولكنه مقيد بما لا يخل، أو بما ينقص مؤنته ومؤنة من يعول، فإن فعله فإنه آثم. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز للزوج أن يدفع زكاته لزوجته، قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم أنَّ الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، وذلك أنَّ نفقتها واجبة عليه، مستغنية بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها، كما أنَّ الزوج إذا دفع زكاته إلى زوجته يوفر على نفسه النفقة، فكأنَّ زكاته عادت إليه فلم يخرجها. واختلفوا في دفع الزوجة زكاتها إلى زوجها: فذهب الحنفية والحنابلة إلى: أنَّه لا يجوز؛ لأن الزكاة تعود إليها بإنفاقه عليها. وذهب المالكية والشافعية إلى: أنَّه يجوز، وهو قول في مذهب الإمام أحمد، واختاره القاضي وأصحابه، والشيخ تقي الدين وغيرهم. فَمَن قال: إنَّه لا يجوز، حَمَلَ هذا الحديث على صدقة التطوع، وليس الصدقة الواجبة وهي الزكاة، والدليل على ذلك قولها: "كان عندي حلي لي، فأردتُ أن أتصدق به"، ولم تقل: "أتصدق منه، أو أزكيه". وأيضًا: فإنَّ هذا كان منها بعد أن سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث على عموم الصدقة، فبادرت -رضي الله عنها- بما عندها، أما الزكاة فهي شعيرة إسلامية كبيرة، وهي أحد أركان الإسلام، ولا تحتاج المبادرة إليها من النساء الفاضلات الصحابيات إلى حث واستنهاض. أما قولها: "أيجزيء عني" فلا ينافي ذلك صدقة التطوع؛ لأنَّ المعروف

أنَّ الصدقة تكون على البعيد، أما مَن تحت يد لإنسان فالنفقة عليه يدعو الدافع الغريزي للقيام بها، فهي تريد أن تثبت: هل الإنفاق عليهم منها واقع موقعه من الصدقة، أم أنَّه من النفقات العادية التي تدعو إليها الصلات العائلية؟. وأما من حمل القصة على الزكاة فقال: إنَّ الصدقة عند الإطلاق تنصرف إلى الواجبة. وقولها: "أيجزيء" دليل على أنَّ المراد: الصدقة الواجبة، فهي التي يسأل عن إجزائها، وبراءة الذمة منها. أما التطوع فلا يحتاج إلى هذا السؤال، وليضعها المتصدق حيث شاء من جهات البر. ولكن الراجح هو القول الأول، وأنَّ المراد به هنا: صدقة التطوع. قال في "عون الباري": السياق يرجح النيل. ويدل عليه الرواية الأخرى: "تصدَّقن، ولو من حُليكن"؛ فإنَّها تدل على إرادة التطوع، وبه جزم النووي. كما يدل على صحة هذا القول قوله عليه الصلاة والسلام: "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم"؛ لأنَّ الولد يُعطى من الزكاة الواجبة إجماعًا، فتعين إرادة صدقة التطوع.

528 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْألُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُزْعة: -بضم الميم وسكون الزاي المعجمة ثم عين مهملة فتاء تأنيث- هي القطعة اليسيرة تكون بقدر المضغة. قال الخطابي: يحتمل أنَّه يأتي ساقطًا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه؛ حتى يسقط لحمه؛ لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء. وفي بعض النسخ: "مضغة"، والمضغة بالضم أيضًا، وكلاهما بمعنى: القطعة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث محمول على من سأل الناس تكثرًا للمال، وليس من حاجة به إليه، والذي قيَّده النصوص الكثيرة التي أقرَّت السائل عند الحاجة، ومنها قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى]. 2 - الحديث يدل على تحريم المسألة من دون حاجة إليها، وإنما هو من غنًى عنها. 3 - الغنى يكون بالمال المعد، ويكون بغلة عقار، يُدِرّ عليه ما يكفيه، ويكون بصنعة تقوم بكفايته وتغنيه، فحينئذ يحرم عليه السؤال. 4 - الجزاء من جنس العمل؛ فحيث كان وجهه هو الذي يسأل، ويقابل الناس ¬

_ (¬1) البخاري (1474)، مسلم (1040).

عند السؤال، صار العذاب يوم القيامة منصبًّا عليه، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون ساقط القدر، ويحتمل أن يعذب حتى يسقط لحمه، عقوبةً له في موضع الجناية؛ لكونه أذلَّ وجهه بالسؤال. 5 - في الحديث تشبيه حاله في الآخرة بحاله في الدنيا عند السؤال؛ فإنَّ السائل يسأل بوجهٍ ذليل منكسير متعبٍ مجهدٍ، يتصيب عرقًا عند ذل المسألة، فيأتي يوم القيامة بذلك الوجه الذي تعب فيه بالسؤال. 6 - قال العلماء: إنَّ تحريم المسألة بدون حاجة مقيد بسؤاله السلطان، فإنَّه لا يحرم ولو بلا حاجة؛ لما سيأتي في حديث رقم (531) من استثناء السلطان، فإنَّ سؤاله لا مذمة فيه؛ لأنَّ السائل يسال مما له حق فيه، وهو بيت مال المسلمين، ولا منة للسلطان على السائل. 7 - إذا أُنفق على الإنسان، أو أُهدي إليه مال، أو ورثه، وغير ذلك من مال حرام وحلال -فإن كان المأكول والمهدي هو عينا المال المكتسب من حرام، فإنَّه لا يحل، وإن لم يكن عينه، فإنَّه لا يحرم، فلك غُنْمه، وعلى صاحبه إثمه، والأولى التنزه عنه، إلاَّ للمحتاج فلا بأس. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن ذمّ المسألة: جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء (123) وتاريخ 24/ 10/ 1404 هـ ما خلاصته: بعد استعراضه لأحوال المتسولين، وأنَّ منهم من هو محتاج فعلاً، ومنهم من اتَّخذ من التسول مهنة وحرفة، مع قدرته على الكسب بالطرق المشروعة، ومنهم المحتال والمستكثر. وبعد المناقشة والتبادل، قرر المجلس ما يلي: أولاً: أنَّ المسالة لا تحل إلاَّ لمن تحقَّقت فيه صفة من الصفات الثلات، المذكورة في الحديث الذي أخرجه مسلم عن قبيصة بن مُخارق [وسيأتي برقم

(534)] فمن وجدت فيه صفة من هذه الصفات الثلاث، فإنَّه يتعيَّن النظر في وضعه، ومساعدته حتى تزول حاجته، فإن لم تزل حاجته، وتندفع ضرورته، فلا مانع -والحال بما ذكر- من سؤاله إخوانه المسلمين حتى تزول ضرورته. أما من سأل تكثرًا، أو اتَّخذ من التسول مهنةً وحرفةً، وهو قادرٌ على الكسب بالطرق المشروعة -فإنَّ ذلك لا يحل ولا يجوز، وقد تضافرت الأحاديث الصحيحة على ذم فاعله. ثانيًا: لِما لمسه المجلس من أثر طيب لمخصصات الضمان الاجتماعي، فإنَّه يوصي بزيادة هَذه المخصصات؛ لتصبح ملائمة لسد حاجات المستفيدين منه، نظرًا لكثرة متطلبات المعيشة في الوقت الحاضر. ثالثًا: المزيد من دعم جمعيات البر والعناية بها، فهي جديرة بذلك؛ لِمَا لَها من خدمات جليلة، وفوائد متعددة في سبيل تفقد أحوال المحتاجين، ومد يد العون، والمساعدة لهم. ***

529 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ، أَوْ لِيَسْتكْثِرْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أموالهم: بدل اشتمال من "الناس"، وقد تقرر عند العلماء أن البدل هو المقصود بالذات، وأن الكلام سيق لأجله، فيكون القصد من هذا السؤال هو نفس المال. - تكثُّرًا: مفعول لأجله أي: طالبًا لكثرة المال لا لدفع الحاجة والفقر. - جمرًا: أي: نارًا متَّقدة يأكلها في جوفه. - فليَستقلّ أو ليستكثر: إن شاء أخذ قليلاً، وإن شاء أخذ كثيرًا، وهذا أمر قصد به التهديد والوعيد بالعذاب الشديد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على تحريم المسألة بدون حاجة إليها، وإنما يريد أن يتكثر بجمع المال. 2 - فالسائل الذي يسأل تكثرًا للمال، وجمعًا بدون حاجة له، إنما يجمع جمرًا يوقد عليه في نار جهنم؛ لأنَّه جمع مالاً حرامًا، فالمال المجموع بهذه الطريق حرام، والوسيلة في جمعه محرمة. قال في "شرح الإقناع": ويحرم سؤال الزكاة، وصدقة التطوع، أو الكفارة، ونحوها وله ما يكفيه. ¬

_ (¬1) مسلم (1041).

3 - مفهوم الحديث أنَّ من سأل من حاجة لا تكثرًا، فإنَّه حلال، والمسالة في الحصول عليه جائزة. قال في "شرح الإقناع": ومن أبيح له أخذ شيء من زكاة، وصدقة تطوع، وكفارةٍ، وغير ذلك أبيح له سؤاله وطلبه؛ لأنَّه يطلب حقه الذي أبيح له. 4 - قوله: "فليقل أو ليستكثر": تهديد له على سؤاله بدون حاجة، بأنَّ ما أخذ بهذه الطريق فهو جمر من نار جهنم، فليأخذ منه قليلاً أو كثيرًا، على قدر ما سأل في الدنيا. ***

530 - وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لأَنْ يَأْخذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنَ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ -خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أعْطَوْهُ أوْ مَنَعُوهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لأن يأخذ: "اللام" لام الابتداء، وهو للتوكيد، والفعل منصوب بأن المصدرية. - حبْلَه: -بفتح الحاء وسكون الباء-: ما فتل من ليف ونحوه ليربط به أو يقاد به، والجمع حبال، مثل سهم وسهام، وعند البخاري "أُحْبله" بضم الباء الموحدة، جمع قلة. - حُزْمَة: بضم الحاء المهملة وسكون الزاي، من حزمت الشيء: جعلته حزمة، والجمع حُزَم، مثل غرفة وغرف. - فكيف بها وجهه: أي: فيمنع بها وجهه، من أن يريق ماءه بالسؤال من الناس. - خير: مرفوع؛ لأنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير له، أو أنَّ المبتدأ المصدر المؤول، المكون من "أنَّ" وما دخلت عليه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث دليل على تحريم السؤال، مع القدرة على الكسب. 2 - قوله: "خير له" ليست هذه أفعل تفضيل على أصلها؛ إذ ليس في السؤال مع القدرة خير، ولعلها جاءت بحسب اعتقاد السائل، وتسمية الذي يعطاه خيرًا. ¬

_ (¬1) البخاري (1471).

3 - ليس الاحتطاب مرادًا، وإنما المراد هو: طلب الكسب بأي طريق مباحة، فهي أفضل من سؤال الناس، أما أنواع المكاسب فكلٌّ ميسَّر لما خُلقَ له. 4 - في الحديث الحث على الكسب والاستغناء به عن أن يكون المسلم القادر عالة على المجتمع، وعضوًا عاطلاً لا يفيد ولا يستفيد، بقدر ما أعطاه الله من قوة وموهبة. 5 - في الحديث الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك. 6 - سؤال الوالدين، أو الولد، أو أحد الزوجين الآخر لا يعد من ذلك، فليس فيه مِنَّةٌ، قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ..} [النور: 61]. قال ابن عبد البر: مكْسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس، أعطوه أو منعوه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء أي الأعمال أفضل في الاكتساب؟: فذهب الشافعي إلى: التجارة. وقال الماوردي: الأشبه عندي أنَّ الزراعة أجلب؛ لأنَّها أقرب إلى التوكل. وقال النووي: أفضلها ما نصَّ عليه الحديث: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده" [رواه البخاري (1696)]. فإن كان عمل الرجل بيده بالزراعة، فهو أطيب المكاسب وأفضلها، لأنَّه عمل يده، ولأنَّ فيه توكلاً، ولأنَّ فيه نفعًا عامًّا للمسلمين والدواب، ولأنَّه لابد عادة أن يُؤكل منه بغير عوض، فيحصل له أجره، وسيأتي في باب الأطعمة إن شاء الله تعالى. ***

531 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "المَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أوْ فِي أمْرٍ لاَبُدَّ مِنْهُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود (1639) والنسائي (2600) والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الشوكاني: "كد" هذا لفظ الترمذي وابن حبان، ولفظ أبي داود "كدح". * مفردات الحديث: - المسألة: سؤال الناس أموالهم. - كدُّ: بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة. قال في "النهاية": الكدُّ: الاتعاب. - وجهه: قال في "النهاية": أراد بالوجه: ماءه ورونقه. - أمر لابُدَّ منه: كما في الحمالة، والجائحة، والفاقة. - لابُدَّ: أي: لا محيص، ولا معدل، ولا مناص، وليس لك من ذلك بُدّ: يريدون به الإطلاق على أي وجه كان، و"بُد" لا يعرف استعمالها إلاَّ مع النفي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث ذم المسالة، وأنَّها كد وجُهد يلبسها الرجل وجهه أمام الناس، ¬

_ (¬1) الترمذي (681).

حين يسألهم أموالهم، فتصيبه الخدوش والندوب، المعنوية والحسية، فأما المعنوية فهو الذل والصَّغار أمام المسؤول، وأما الحسية فإنَّه يحدث بوجه السائل تقبض وتغير عند المسألة. 2 - في الحديث تحريم المسألة مع الغنى بالمال الموجود، أو المقدور عليه بالكسب والصنعة، ونحو ذلك. 3 - فيه استحباب العفة عن المسألة، والعفة عنها مع الحاجة إليها، وإيثار الصبر عنها. 4 - في الحديث استثناء مسألة السلطان، وهو إمام المسلمين؛ فإنَّها جائزة لا إثم فيها، ولا دناءة، ذلك أنَّ السلطان هو أمين المسلمين على بيت مالهم، وكل مسلم له حق في بيت المال، فكأنَّ السائل حينما يسأل الإمام إنَّما يسأله من حقه، الذي هو أمين عليه. 5 - يستحب ألا يكثر من سؤال السلطان، ويديم الطلب، لاسيَّما أهل العلم وأهل الفضل، ففي هذا إسقاط لوقارهم، وجلال العلم فيهم، وانهماك في جمع المال، والحرص عليه؛ لما جاء في البخاري أنَّ حكيم بن حزام قال: "سألتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إنَّ هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. قال حكيم: والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فكان أبو بكر يدعوه إلى عطائه، فيأبى أن يأخذه، ودعاه عمر فأبى، فقال عمر: أشهدكم أني أدعو حكيمًا إلى عطائه، فيأبى أن يأخذه، فما سأل أحدًا شيئًا حتى فارق الدنيا". ***

باب قسم الصدقات

باب قسم الصدقات 532 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أوْ غَارِمٍ، أوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوْ مِسْكِيْنٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الراجح أنَّه موصول صحيح. رواه أحمد، وأبو داود وسكت عنه هو والمنذري، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن خزيمة، وقد اختلف المحدثون في وصله وإرساله، وقد أشار أبو داود والبيهقي إلى ترجيح إرساله. وجزم الحاكم بوصله؛ حيث قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، والراجح وصله كما قال ابن عبد البر. وقال الحافظ: قد صححه جماعة موصولاً، والوصل زيادة بيقين، فتعين الأخذ بها. ¬

_ (¬1) أحمد (10838)، أبو داود (1636)، ابن ماجه (1841)، الحاكم (1480).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأصل في تقسيم الزكاة -وهي المرادة هنا- أنَّها للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى، وحصر الاستحقاق فيهم في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. . .} الآية [التوبة: 60]. 2 - قد ذكر في هذا الحديث من هؤلاء الأصناف الثمانية ثلاثة أصناف: وهم: العامل عليها، والغارم، والغازي في سبيل الله. 3 - فأما العامل: فهو كل من له عمل في تحصيل الزكاة، من جابٍ، أو كاتب، أو حافظٍ، أو راعٍ، أو حاملٍ، أو غير ذلك. 4 - وأما الغارم: فنوعان: أحدهما: الغارم لإصلاح ذات البين؛ وذلك بأن يكون بينٍ طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم، ويلتزم في ذمته مالاً لإطفاء الفتنة، فكان من المعروف حمْله عنه من الصدقة؛ لئلا تجحف هذه الغرامات بسادات القوم المصلحين، أو يوهِن ذلك من عزائمهم. والنوع الثاني: الغارم لنفسه ممن أصابت ماله جائحة، أو لحقته الديون، ولو من مصرف محرم، إلا أنَّه تاب منه، فهذا هو القسم الثاني، من الغارمين الذي توفى ديونهم من الزكاة. 5 - وأما الغازي في سبيل الله: فإنَّه يُعْطَى من الزكاة ما يكفيه في غزوته ذهابًا وإيابًا، هذا إذا لم يكن له شيء معروف في بيت المال أصلاً، أو له ولكن دون كفايته، فهؤلاء الأصناف الثلاثة يُعْطَون من الزكاة، ولو كانوا أغنياء. 6 - الغزاة في سبيل الله هم المجاهدون المتطوعون، الذين لا ديوان لهم، فسبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، وسياتي أنَّ "سبيل الله" أوسع في المعنى من

هذا، والآيات والأحاديث كثيرة، وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد؛ لأنَّه السبيل الذي يقاتل فيه على الدين، ولا خلاف في استحقاقهم، وبقاء حكمهم في الديوان إذا كانوا متطوعة. 7 - قرَّر المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي دخول الدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها، ويدعم أعمالها، دخول ذلك كله في معنى "وفي سبيل الله" في الآية الكريمة. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: وهناك أمر هام يصح أن يصرف فيه من الزكاة، وهو إعداد قوة مالية للدعوة إلى الله، ولكشف الشُّبه عن الدين، وهذا يدخل في الجهاد، وهذا من أعظم سبُلُ الله. 8 - أما المرافق العامة: فقال الوزير وغيره: اتَّفق الأئمة على أنَّه لا يجوز دفع الزكاة في بناء المساجد، والقناطر، وتكفين موتى ونحوه ة لتعيين الزكاة لما عينت له. 9 - يدل الحديث على أنَّ المسألة لا تحل لغني إلاَّ لهؤلاء الخمسة، وهم: الغارم لإصلاح ذات البين، والعامل في الصدقة، والغازي في سبيل الله تعالى، والغني الذي اشتراها بماله، وكذلك الغني الذي أهدى إليه الفقير منها، فهؤلاء الخمسة لهم أخذها، ولو كانوا أغنياء. فأما الثلاثة الذين هم: الغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون عليها، والغزاة المجاهدون في سبيل الله -فهم من أصناف أهل الزكاة الثمانية، وأما المشتري لها والمهدى إليه منها، فليس من أهلها، وإنما ملكاها من الفقير الذي استحقها، وأعطى منها، وإذا أعطي من الزكاة ملكها، فله حق التصرف فيها بالبيع والنفقة وغيرها. وقصة بريرة ولحمها الذي تصُدِّقَ علَيها به، صريحة في هذه المسألة.

* فوائد: الأولى: بقية أهل الزكاة الثمانية هم: 1 - الفقير: وعرفه الفقهاء: بأنَّه الذي لا يجد إلاَّ نصف كفاية عامه فأقل مع من يعول. 2 - المسكين: وعرفه الفقهاء: بأنَّه الذي يجد نصف الكفاية فأكثر، ولا يصل إلى الكفاية التامة لعامه. فالفقير حينئذٍ أشد حاجة من المسكين، فيعطى كل من الفقير والمسكين كفايتهما أو تتمتها للعام، أما إذا ذُكِرَ المسكين وحده، شمل الفقير، وإذا ذكر الفقير وحده شمل المسكين، وإذا ذكرا جميعًا فما تقدم هو الفرق بينهما. وتقدم أنَّ الفقير هو من لا يجد نصف كفايته في مدة سنة، ومن ملك نصاب زكاة يسمى: غنيًّا، والنصاب قد يكون خمْسًا من الإبل لا تقوم بكفايته وكفاية من يمونه، فكيف نصف الشخص الواحد بالغنى والفقر، واللفظان متقابلان في المعنى فهذا غير هذا؟ والجواب: أنَّه لا مانع أن يجتمع في الشخص الواحد وصفان متقابلان، فقد يجمع بين الفسق والطاعة، وبين النفاق العملي والإيمان، وإذا علمنا أنَّ مراد الشارع هو: دفع حاجة المعطى علمنا أنَّه قد يكون عند الشخص النصاب الذي يزكيه، ولكنه لا يكفيه، ويكفي من يمونه لو أنفقه، فهو من حيث سد حاجته فقير، ومن حيث عنده نصاب زكوي غني. 3 - المؤلفة قلوبهم وهم: السادة المطاعون في قومهم ممن يرجى إسلامه، أو يرجى كف شره بإعطائه، فيعطى ما يحصل به التأليف. 4 - المكاتب: وهو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده، فيُعطى ما يوفى به دين كتابته، ويعتق به نفسه. 5 - الغارم لنفسه: وهو من لَحِقه دين من أجل معاملة، وأعمال مباحة، أو

محرَّمة وتاب منها، فيعطى مع فقره ما يوفي به دينه. 6 - ابن السبيل: وهو المسافر الذي انقطعت به النفقة في غير بلده في سفر مباح، أو محرَّم وتاب منه، فيعطى ما يوصله إلى بلده، ولو وجد مقرضًا، أو كان غنيًا في بلده. الثانية: لا يجوز صرف الزكاة في غير الأقسام الثمانية المنصوص عليهم في الآية الكريمة. قال في "الشرح الكبير": لا نعلم خلافًا في ذلك. الثالثة: يجوز صرفها إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية، ولو مع وجود غيره، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. أما الشافعي: فيوجب استيعاب الأصناف الثمانية مع القدرة. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإنَّ اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم. وأما المعنى: فيقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة؛ إذ كان المقصود بها سد الخُلة، فكان تعديدهم عند هؤلاء في الآية إنما ورد تمييزًا للجنس، أعني: أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، والثاني أظهر من جهة المعنى. الرابعة: قال شيخ الإسلام: لا ينبغي إعطاء الزكاة من لا يستعين بها على طاعة الله تعالى؛ فإنَّ الله فرضها معونة على طاعته، فمن لم يُصَلِّ من أهل الحاجات لا يعطى منها حتى يتوب، ويلتزم أداء الصلاة. أما من أظهر بدعة أو فجورًا، فإنَّه يستحق العقوبة، فكيف يُعان على ذلك؟!. الخامسة: لفظ "إنما" المفيدة للحصر جاءت لإثبات ما بعدها، ونفي ما سواه، والمعنى: ليست الصدقة لغير هؤلاء، فهي لهم، ولا تحل لغيرهم،

وإنما سمى الله الأصناف الثمانية؛ إعلامًا منه أنَّ الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، لا إيجاب قسمتها بين الأصناف الثمانية، والصواب أنَّ الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما: سد خلة المسلمين. الثاني: معونة الإسلام وتقويته. السادسة: قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: أهل الزكاة قسمان: أحدهما: يأخذ الزكاة بسبب يستقر الأخذ به، وهو الفقر والمسكنة والعمالة والتأليف، فمن أخذ شيئًا بذلك مَلَكه، وصرفه فيما يشاء، كسائر أمواله، والآية الكريمة عبرت عن هؤلاء، "باللام" المفيدة للملك. الثاني: يأخذ الزكاة بسبب لا يستقر به الملك، وهي الكتابة، والغرم، والغزو، وابن السبيل، ومن أخذها من هؤلاء، صرفه في الجهة التي استحقَّ الأخذ بها، وإلاَّ استُرجع منه، والآية عبرت عن هؤلاء بـ"في" التي لا تفيد الملك، وإنما تفيد أن ينفق مما أخذ بقدر حاجته، ويعيد ما زاد عنها. السابعة: لا يجوز دفع الزكاة إلى عمودي نَسَبهِ، وهم أصوله وفروعه؛ سواء كانوا مِن قِبل الآباء أو الأمهات، وسواء كانوا من قبل البَنين أو البنات، الوارث منهم، وغير الوارث سواء، ما لم يكونوا عمالاً، أَو مؤلفين، أو غزاة، أو غارمين لإصلاح البين، فإنَّه يجزىء دفعها إليهم؛ لأنَّهم يأخذون للمصلحة العامة فأشبهوا الأجانب. أما بقية أقارب المزكي: فمن ورَثهم المزكي فلا يدفع إليهم زكاته، ومن لم يرثهم فيجوز أن يدفع زكاته إليهم، والفرق بين من يرثهم وبين من لا يرثهم، أنَّ من يرثهم تجب عليه نفقتهم، فإذا دفع إليهم زكاته وفَّر على نفسه النفقة، وأما من لا يرثهم فلا تجب عليه نفقتهم، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

أما الرواية الأخرى: فإنَّه يجوز دفعها إليهم، نقل هذه الرواية الجماعة عن الإمام أحمد، قال في "المغني" و"الشرح الكبير": هي الأظهر، واختارها شيخ الإسلام، فعلى هذه الرواية لو دفع زكاته إلى قريبه، فاستغنى بها، لم تلزمه نفقته لاستغنائه بها. الثامنة: قال ابن القيم: من الحيل الباطلة دفع زكاته إلى غريمه المفلس؛ ليطالبه بالوفاء، فإذا وفاه برىء، وسقطت الزكاة عن الدافع. قال: وهذه الحيلة باطلة محرَّمة؛ سواء شرط عليه الوفاء، أو ملكه إيَّاه بنية أن يستوفيه عن دينه، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يعد مخرجًا لها، لا شرعًا ولا عرفًا، كما لو أسقط دينه وحَسبه من الزكاة. التاسعة: جاء في البخاري (2809)، ومسلم (1625)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: "لا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك، ولا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم؛ فإنَّ العائد في صدقته كالعائد في قيئه". لذا حرم جمهور العلماء العود فيها، وفساد البيع في شرائها. قال ابن القيم: الصواب المنع من شرائها؛ فإنَّ في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير، بأن يدفع له صدقة ماله، ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها. فمن محاسن الشريعة سد هذه الذريعة، فإن رجعت بإرث ونحوه جاز تملكها، لما روى مسلم (1149): أنَّ امرأةً قالتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنتُ تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركتها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث". العاشرة: قال الشيخ: الذي عليه دين لا يعطيه ليستوفى دينه. وقال في إسقاط الدين عن المعسر: أما عن زكاة العين فلا يجزىء بلا نزاع، وأما قدر زكاة دينه، ففيه قولان: أظهرهما الجواز؛ لأنَّ الزكاة دين، وهنا قد أخرج من جنس ما يملك، بخلاف ما إذا كان ماله عينًا، وأخرج دينًا.

الحادية عشرة: ولا يجوز دفع زكاته إلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم، ممن يرثه بفرض أو تعصيب؛ هذا هو المشهور من المذهب. وقدَّم في "الفروع" أنَّه يجوز دفعها إلى غير عمودي نسبه ممن يرثه بفرض أو تعصيب، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة، [رواه أحمد (15644)، فلم يفرق بين الوارث وغيره، وقد تقدم قريبًا. الثانية عشرة: قال بعض العلماء: في المال حقوق سوى الزكاة نحو: - مواساة قرابة. - صلة إخوان. - إعطاء سائل. - إعارة محتاج، وهو قول جماعة من أهل العلم. قال شيخ الإسلام: إعطاء السائل فرض كفاية إن صدق. الثالثة عشرة: قال القرطبي: اتَّفق العلماء على أنَّه إذا نزل بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنَّه يجب صرف المال إليها. وقال في "الإقناع": ليس في المال حقٌّ واجبٌ سوى الزكاة عند الأئمة الأربعة، ما جاء غير ذلك حمل على الندب ومكارم الأخلاق، هذا في الراتب، دون ما يعرض كجائعٍ، وعارٍ، ونحوه، فهو واجب إجماعًا عند وجود سببه. ***

533 - وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَّارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ؛ أنَّهُمَا أتيَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلاَنهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقلَّبَ فِيْهِمَا النَّظَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أعْطَيْتكُمَا، وَلاَ حَظَّ فِيْهَا لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَوَّاهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (2/ 119)، حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال الإمام أحمد: ما أجوده من حديث، والحديث له شواهد منها: 1 - حديث أبي هريرة، رواه أحمد (8553)، والنسائي (2597)، وابن ماجه (1839)، وابن حبَّان (3393)، والحاكم (1477). 2 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه أبو داود (1626)، والترمذي (652)، والحاكم (1478) بسند حسن. قال ابن عبد الهادي: حديث صحيح، ورواته ثقات. * مفردات الحديث: - قلب فيهما النظر: "قلَّب" بتشديد اللام للمبالغة؛ أي: صعَّد بصره فيهما، يرفعه ويخفضه، يتأمل فيهما، وتفسيره جاء بالرواية الأخرى: "فرفع فيهما البصر، وخفضه". ¬

_ (¬1) أحمد (17291)، أبو داود (1633)، النسائي (2598).

- جَلْدَيْنِ: تثنية "جَلْد" بإسكان اللام في المفرد والمثنى؛ أي: قويين شديدين. - لاحظ فيها: الحظ: النصيب، والجمع: حظوظ، أي: لا نصيب في الزكاة للغني بماله، أو بكسبه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على تحريم أخذ الزكاة للغني، والغني يختلف باختلاف الزمان والمكان، فلا يمكن تحديده بقدر معلوم من المال. وإنما الغني هو الذي يجد كفاف عيشه، وعيش من يعولهم طول العام، إما من رصيد مال موجود، أو صنعة دارَّة، أو تجارة دائرة، أو عمل بدني يكفيه ونحو ذلك، فإذا لم يوجد لديه مال موجود، ولا دخل كافٍ -فهو من الفقراء أو المساكين الذين تحل لهم الزكاة. 2 - أنَّ أخذ الزكاة لا يحل للقوي المكتسِب، فإنَّه غني بقوة كسبه، فلو كان قويًّا، لكنه غير عارف بالعمل، وهو ما يسمى الأخرق، أو كان قويًّا على العمل قادرًا عليه عارفًا به، وللكن ليس في البلاد عمل؛ لتفشى البطالة فيها -فإنَّ هذا يعطى من الزكاة. 3 - المزكي يجب عليه التحري والتحقق ممن يطلب أخذ الزكاة، فمن ظاهره الغنى ينصحه، ويخبره بأنَّ أخذها مع الغنى والقوة على الكسب لا يجوز، فإن أصرَّ على حاجته، فالإنسان مأمون على سريرته، فيعطى منها، والتحري على حال السائل حال الاشتباه في غناه، أما مع العلم بحاله، وبيان مظهره فلا حاجة إلى ذلك. 4 - الذي يظهر لي من قوله: "إن شئتما أعطيتكما"، أن مراده -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: إن شئتما أعطيتكما من الزكاة اعتمادًا على تصديقي لكما، بحسب إخباركما عن حاجتكما، ولكن عطائي لكما على هذه الصفة لا يبيح لكما الزكاة، وأنتما جَلْدان قادران على العمل، أو غنيان بمالكما من مال، فهو إخبار عن حال لا

يعلمها إلاَّ هما، وهُما عدلان لكونهما صحابيين، فهو حكم بالظاهر، والباطن رجع إليهما، وهو شبيه بحديث: "أحكم على نحو ما أسمع ... " إلخ. 5 - فيه دليل على قبول قول الإنسان فيما يُخبر عن نفسه من إعسار ويَسار؛ لأنَّ ذلك أمر راجع إليه. وسيأتي تمامه في الحديث الذي يلي هذا الحديث، إن شاء الله تعالى. ***

534 - وَعَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الهِلاَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ المَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيْبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابتهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيْبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ -يَا قَبِيْصَةُ- سُحْتٌ، يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجل: بالجر، بدلٌ من "ثلاثة"، أو بالرفع بتقدير: "أحدهم". - تحمَّل: حمل وثقل. - حمالة -بفتح الحاء والميم المخففة-: ما يتحمله الإنسان عن غيره لإصلاح ذات البين خوف الفتنة، أو وقوعها. - حتى يصيبها: الضمير ليس براجع إلى "المسألة"، ولا إلى "الحمالة"، وإنما هو راجع إلى أحد المعنيين، والمعنى: أن يصيب ما حصل له من المسألة، أو ما أدى من الحمالة. - جائحة: بفتح الجيم المعجمة، اسم فاعل من: جاحته تجوحه: إذا استأصلته، والمراد بها: آفة سماوية لا صنع لآدمي فيها تتلف المال، كالفيضان، والبرد، ¬

_ (¬1) مسلم (1044)، أبو داود (1640)، ابن خزيمة (2361)، ابن حبان (3291).

والحريق، ونحو ذلك. - قوامًا من عيش -كسر القاف المثناة وفتح الواو-: ما يسد حاجته، ويكفي خلته. - فاقة: بفتح الفاء بعد الألف قاف ثم تاء التأنيث؛ أي: الحاجة والفقر. - حتى يقوم ... لقد أصابت فلانًا فاقة ... إلخ: هذا هو مقول القول، والمناسب به "يقول" لكن للاهتمام جعلت "يقوم" مقام "يقول"، فصار مقول القول حالاً: أي يقوم ثلاثة قائلين، وهذا القول لمزية الاهتمام أبرزه في معرض القَسَم. - الحِجَا: -بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم ثم ألف مقصورة- أي: أصحاب العقل والمعرفة الدين. - سُحْت: -بضم السين المهملة وسكون الحاء المهملة ثم تاء- هو الكسب الحرام؛ لأنَّه يسحت البركة ويُذْهبها. - يأكله صاحبه سحتًا: صفة لـ"سحت"، والضمير راجح إلى المأكول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ المسألة تحرم ولا تحل، إلاَّ لثلاثة: أحدهم: رجل تحمل حَمالة دَيْن عن غيره، إما دية تحملها عمن وجبت عليه، أو أصلح بمال بين طائفتين متحاربتين، ونحو ذلك، فهذا تحل له المسألة، ولو كان غنيًّا، فإنَّه لا يلزمه تسليمها من ماله. الثاني: رجل أصابت ماله جائحة، أو آفة سماوية، أو أرضية أهلكت ثماره وزرعه، إما بالبرد، أو بالغرق، أو الجراد، أو غير ذلك من الآفات التي اجتاحت ماله، فتحل له المسألة من أموال الناس، وإن كان غنيًّا؛ لأن هذه مما ينبغي فيها التعاون بين المسلمين. الثالث: من ادَّعى أنَّه أصابته فاقة وحاجة شديدة بعد أن كان غنيًّا، فإذا

شهد له ثلاثة رجال من قومه من ذوي الحِجا والعقل بأنَّه قد أصابته فاقة، فحينئذٍ تحل له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش، يقوم بمعيشته، ويكفي حاجته. 2 - ما سوى هذه المسائل الثلاث، فإن المسألة لا تحل، ومن سأل فإنَّما يسأل حرامًا، يأكله صاحبه سحتًا يسحت مالَه، ويسحت حسناته. 3 - أنَّه لا يجوز دفع الزكاة لغنيٍّ، إلاَّ لمن قام به أحد هذه الأوصاف ونحوها. ***

535 - وَعَنْ عَبْدِالمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لآِلِ مُحَمَّدٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - آل محمَّد: هم آل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب، وآل العباس بن عبد المطلب، هؤلاء من أبناء عبد المطلب بن هاشم، وهم الذين صار لهم عقب من بني هاشم. - أوساخ: مفرده: "وَسَخ"، بفتح الواو والسين آخره خاء معجمة، وأصل الوسخ: الدرن، وقد وسخ الثوب وتوسخ واتَّسخ كله بمعنى واحد، فالمراد هنا: الأوساخ المعنوية، فقد شبه الذنوب بالوسخ والدرن، الذي يعلق بالجسم، والصدقة تذهب بالذنوب وتزيلها. - الناس: عام أريد به خاص، وهم المزكون، فالعام المخصوص هو لفظ عام أخرج من عمومه بعض أفراده المقصودين، فيكون حجة فيما عداهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم الزكاة والكفارة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله الذين هم بنو هاشم: وهم آل عباس بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب. ¬

_ (¬1) مسلم (1072).

قال في "الشرح الكبير": لا نعلم خلافًا أنَّ بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، فهؤلاء هم الذين صار لهم عقب معروف من بني هاشم. 2 - قوله: "إنَّ الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد" الصدقة لفظ يشمل الواجبة، وهي الزكاة، ويشمل التطوع، ولكن يحدد المعنى هنا التعليل، وهو قوله: "إنما هي أوساخ الناس" فهذا يعين أنَّ المراد بها الزكاة. 3 - الحِكْمة في تحريمها عليهم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما الزكاة أوساخ الناس"، والكفارة فرضت لمحو الذنب، فكُرِّم مقام النبوة، وكُرِّم آله أن يكونوا محلاًّ للغسالة وشرفهم عنها، وهذه هي العلة المنصوص عليها في التحريم. 4 - حُكي الإجماع على حل صدقة التطوع لهم، والوقف والوصية، والنذر المخصصين للفقراء؛ لأنَّهم إنما منعوا الزكاة؛ لأنَّها تطهير لأموال الأغنياء ونفوسهم، وصدقة التطوع، والنذر، والوصية، والوقف ليست كذلك. 5 - اختار الشيخ تقي الدين والقاضي وأبو الوفاء بن عقيل وهم من الحنابلة، والآجري، وأبو طالب البصري، وأبو يوسف الأصطخري من الشافعية وغيرهم-: أخذ بني هاشم من الزكاة إذا منعوا من الخُمُس, لأنَّ ذلك حاجة وضرورة، ولأنَّهم مُنِعوا من الزكاة باستغنائهم عنها بالخُمس، فلا يجمع عليهم المنع من المصرفين، وقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة (10714) عن مجاهد قال: "كان آل محمَّد -صلى الله عليه وسلم- لا تحل لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس". 6 - قال في "شرح الإقناع" وغيره: فإن كان بنو هاشم غزاة، أو مؤلفة قلوبهم أو غارمين لذات البَين، فلهم أخذ الزكاة؛ لجوازها مع الغنى وعدم المنة، أما العمالة فتحرم عليهم بالنص على مواليهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 7 - قوله: "إنَّما هي أوساخ الناس" تعليل لمنع بني هاشم من أخذ الزكاة، وذكر التعليل لأيِّ حكم يفيد أربع فوائد:

(أ) اطمئنان النفس إلى الحُكْم. (ب) أنَّ أحكام الله تعالى جاءت وفق المصلحة. (ج) بيان سمو الشريعة؛ حيث إنَّها لا تحكم إلاَّ بما له علَّة. (د) إمكان القياس على الحكم بغيره. ***

536 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَشَيْتُ أنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أعْطَيْتَ بنَي المُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبرَ وَتَرَكْتَنا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّما بنُو المُطَلِّبِ وَبنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شيء واحد: بالشين المعجمة في آخره همزة، قال الخطابي: روى بعضهم: "سِيء" بكسر السين وتشديد الياء، ومعناه سواء. قال الخطابي: وهو أجود في المعنى، لكن قال عياض: الصواب رواية العامة. - من خمُس خيبر: الخُمُس بضمتين: ما يؤخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو سهم لله، ولرسوله، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. - بمنزلة واحدة: يعني: بالقرابة منك، فإنَّهم جميعًا بنو عبد مناف، فعثمان من بني عبد شمس بن عبد مناف، وجبير من بني نوفل بن عبد مناف، وهما أخوان لهاشم بن عبد مناف. - إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد: أي: من حيث التناصر، فاستحقوا هذه المنزلة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عبد مناف بن قصي هو الأب الرابع للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وله أربعة أبناء هم: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل؛ وهم من حيث النسب بدرجة واحدة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لذا جاء عثمان بن عفان، وهو من أحفاد "عبد شمس". ¬

_ (¬1) البخاري (3140).

وجاء جبير بن مطعم، وهو من أحفاد "نوفل" إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد شرك "بني المطلب" مع "بني هاشم" في خُمُس الغنيمة، فقال عثمان وجبير: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطلب من الخُمُس وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". وجاء في رواية أحمد (4068) في الحديث: "بأنَّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام". 2 - يشير -صلى الله عليه وسلم- بكون بني المطلب وبني هاشم شيئًا واحدًا، وأنَّهم لم يتفارقوا في جاهلية ولا إسلام، إلى ما كان من موقف بني المطلب حينما أجمعت أفخاذ قريش على كتابة صحيفةٍ قاطعوا بموجَبها بني هاشم، فلا يبايعونهم، ولا يشارونهم، ولا يناكحونهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقتلوه، وحصروهم في شعب بني هاشم، فدخل بنو المطلب مع بني هاشم في الشعب، وصاروا معهم وأصابهم من ضيق الحصار والأذى ما أصاب بني هاشم، فعرف لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- صنيعهم وموالاتهم، فكانوا وبنو هاشم يدًا واحدة. * خلاف العلماء: ذهب الإمام الشافعي وأتباعه إلى: تحريم الزكاة على بني المطلب، لهذا الحديث من أنَّهم مع بني هاشم شيء واحد، وأنَّ لهم نصيبًا من خُمس الخمس، يغنيهم ويكفيهم عن الزكاة. وذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: جواز دفع الزكاة إلى بني المطلب، لعموم آية الصدقة، وإنما خرج بنو هاشم بالنص، فيبقى مَن عداهم على الأصل، ولأنَّ بني المطلب في درجة بني عبد شمس وبني نوفل، وهم لا تحرم عليهم الزكاة، فكذا هم، وقياسهم على بني هاشم لا يصح؛ لأنَّهم أشرف وأقرب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخُمس لم يستحقوه بنص القرآن بل بالنُّصرة، والنصرة لا تقتضي حرمان الزكاة.

537 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ رَجُلاً عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بنَي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لأِبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي؛ فإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، فَقَالَ: لاَ، حَتَّى آتِيَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأَسْأَلَهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أنْفُسِهِمْ، وإنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلاَثَةُ وابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. والحديث له شواهد صحيحة: فمنها ما في صحيح مسلم من حديث المطلب بن ربيعة، ومنها حديث أبي هريرة في البخاري (1414) ومسلم (1069) حينما أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة". وقال في "التخليص": وفي الباب عن رفاعة بن رافع عند أحمد، والبخاري في "الأدب"، والحاكم، وعن عتبة بن غزوان عند الطبراني، وعن عمرو بن عوف عنده وعند إسحاق وابن أبي شيبة، وعن أبي هريرة عند البزار. ¬

_ (¬1) أحمد (2592)، أبو داود (1650)، الترمذي (657)، النسائي (2612)، ابن خزيمة (2344)، ابن حبان (3293).

* مفردات الحديث: - أبو رافع: كان مولى العباس، فوهبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجاء يبشر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بإسلام العباس، فأعتقه لتلك البشارة، اختُلف في اسمه، فقيل: إبراهيم، وقيل: غيره، وهو قبطي مولى، يسمى السيد: مولى من أعلى، ويسمى الرقيق أو العتيق: مولى من أسفل، وهي مشتقة من الموالاة، وهي النصرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الزكاة لا تُدفع إلى موالي بني هاشم، وأن حكمهم حكمُ أسيادهم في المنع من الزكاة، قال الطحاوي: تواترت عنه -صلى الله عليه وسلم- الآثار بذلك، قال ابن عبد البر: لا خلاف في عدم حل الصدقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-. 2 - العلة ما أشار إليها الحديث "مولى القوم من أنفسهم" فشَرفُ الأسياد سرى إلى الموالي، فكما لا تحل الزكاة لبني هاشم، فكذلك لا تحل لعتقائهم، لكن قال الخطابي: إنَّه لا حظ لعتقاء ذوي بني هاشم في سهم ذوي القربى من الخمس. 3 - في الحديث دليل على قوة رابطة الولاء، ولذا حصل به إرث المولى الأعلى من الأدنى، ولذا جاء عند الحاكم (7995)، وابن حبَّان (4950)، وصححه من حديث عبد الله بن عمر أنَّ النَبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الولاءُ لُحمة كلحمة النسب". 4 - الحديث نص في تحريم العمالة على موالي بني هاشم، فتكون محرَّمة على بني هاشم بالأولى. 5 - جواز إطلاق المولى على بني آدم، فتقول هذا مولاي، فقد قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4]. فهو يطلق على الله تعالى وعلى المخلوق. 6 - جواز أخذ الجُعل والرزق على القيام بالوظائف الدينية، إذا لم يكن المقصد الوحيد هو الدنيا، وإنما جعل ما أخذ للاستعانة على القيام به، والمرابطة

عليه، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يَعِبْ على المخزومي الذي عرض على أبي رافع بمشاركته في العمل، لينال أجره على العمل. 7 - سمو الإسلام وحسن معاملته؛ فإنَّ الرق رفع من حال الرقيق حتى جعله في شرفه ومكانته بمكان أسياده، فقد اكتسب من حسبهم ونسبهم، ولم يكن الرق إهانةً ومنقصةً له. 8 - أبو رافع كان غلامًا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبشره بإسلام عمه فأعتقه لهذه البشارة. قال ابن الأثير: الصواب أنَّ أبا رافع توفي في خلافة علي، رضي الله عنهما. * خلاف العلماء ذهب جمع من العلماء إلى: حل الزكاة لموالي بني هاشم؛ لأنَّ الزكاة إنما حرمت على بني هاشم من أجل القرابة، ومواليهم ليس لهم قرابة، فهم كسائر الناس. وذهب الكثير منهم إلى: تحريمها على الموالي، كتحريمها على بني هاشم، ومن المانعين الإمامان: الشافعي وأحمد وأتباعهما، لهذا الحديث الذي معنا، فإن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جعل مولى القوم من أنفسهم، وفي الحديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب" تحصل به الوراثة، ويحصل به التناصر، والعقل. ***

538 - وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ العَطَاءَ فَتقُولُ: أَعْطِهِ أفْقَرَ مِنِّي، فَتقُولُ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أوْ تَصَدَّقْ بِه، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ، وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لاَ، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - العطاء: أي: العمالة، وهي أجر العمل. - أفقر مني: بصيغة أفعل التفضيل. - تموَّله: -بفتح التاء والميم وتشديد الواو- أي: اتَّخذه مالاً لك، وإن لم تكن في حاجة إلى إنفاقه. - أنْتَ: غير مُشْرِف: بضم الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الراء آخره فاء، أي متعرض له، وحريص عليه، والجملة اسمية وقعت حالاً، فمحلها النصب. - وما لا: أي: وما لا يكون كذلك بألا يجيء إليك إلاَّ ونفسك مائلة إليه، فلا تتبعه نفسك في الطلب واتركه، حذفت هذه الجملة لدلالة الحال عليها. - فلا تتبعه نفسك: يقال: تبعه يتبعه تبعًا وتباعًا، من باب تعب، والمعنى: لا تعلق نفسك بالحصول عليه واتركه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث وارد فيما يعطيه الوالي، وفي مال العمالة، فيمن أُعطي مالاً من ¬

_ (¬1) مسلم (1045).

هذا النوع، وهو لم يسأله، ولم تشرئب نفسه إليه، وتحرص عليه، فليأخذه، ولو كان غنيًّا، فإنَّه حلال مباح جاء من طريق شريفة لا ذل فيه، ولا انكسار نفس. 2 - عطايا الولاة جائزة مباحة لمن أُعْطيَها، فلا مذمة في ذلك، ولا ذل نفس. 3 - قال العلماء: يباح أخذ جائزة السلطان، ولو كان جائرًا، قال ابن المنذر: أخذها جائز مرخص فيه، وبعض العلماء أوجب أخذ ما أهدي إليه بلا سؤالٍ، ولا استشراف نفسٍ. 4 - معاملة من ماله فيه حرام وحلال جائزة، فقد رهن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- درعه عند يهودي، وكان يأخذ الجزية منهم مع علمه يأكل الربا، وتعاطي المعاملات الباطلة، والتحيل على أكل أموال الناس بالباطل، وبيعهم الخنزير، وغير ذلك من أعمالهم. 5 - كراهية التطلع، والاستشراف إلى ما في أيدي الناس، وترقب نوالهم. 6 - في الحديث منقبة لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبيان فضله وزهده، وإيثاره غيره على نفسه. ... انتهى كتاب الزكاة

كتاب الصيام

كتاب الصيام مقدمة الصيام: لغة: مجرد الإمساك، يقال للساكت: صائم؛ لإمساكه عن الكلام، ومنه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]. وشرعًا: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن معين، من شخص مخصوص. وفُرِض صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة رمضانات إجماعًا. وصيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، وفروضه العظام، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بُني الإسلام على خمس"، وذكر منها: "صوم رمضان" [رواه البخاري (8) ومسلم (16)، والأحاديث في فرضيته كثيرة، أجمع المسلمون على أنَّ من أنكر وجوبه كفر. أما فضل الصيام: فقد جاء في أحاديث كثيرة، ومنها الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له؛ إلاَّ الصوم؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به" [رواه البخاري (1085) ومسلم (1151)]. * حكمته: للصوم حِكم وأسرار كثيرة عظيمة، منها:

أولاً: هو من أعظم الطاعات، فهو سر بين العبد وبين ربه، فهو الغاية في أداء الأمانة. ثانيًا: إنَّه تَحَلٍّ بفضيلة الصبر، فقد جَمَعَ أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. ثالثًا: تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، تذكر العبد نِعم الله عليه المتوالية، فيذكر إخوانه الفقراء الذين يقاسون هذا الحرمان أبد الدهر. رابعًا: فيه فوائد صحية: فالصيام راحة وإجازة للجهاز الهضمي، لإعطائه فترة من الزمن يسترح فيها من الامتلاء والتفريغ، فيحصل له استجمام وراحة، يستعيد بها نشاطه وقوته. فالصيام عبادة جليلة جمعت خصال الخير كلها، واستبعدت خصال الشر كلها؛ ولذا فإنَّ الله تعالى كتبها وفرضها على الأمم السابقة، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة]. ***

539 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ، إلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تقدموا: "لا" ناهية، ولذلك جُزِمَ الفعل بعدها. - تُقدِّموا: أصله: "تتقدموا" فحذفت إحدى التاءين، أي: لا تصوموا قبل رمضان يومًا أو يومين، استقبالاً لرمضان. - رمضان: قال الزمخشري: رمضان مصدر "رمض": إذا احترق من: الرمضاء، فأضيف إليه الشهر، وجعل علَمًا عليه، ومنع الصرف فيه للعلمية وزيادة الألف والنون، وسمّوه بذلك؛ لارتماضهم فيه من حر الجوع، ومقاساة شدته، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هلذا الشهر أيام رمض الحر. - يصوم: الصوم لغة: الإمساك، فكل ممسك عن طعام أو كلام أو غيرهما، فهو صائم لغة، وأما في الشرع: فهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس مع نية الصيام. - كان يصوم صومًا: أي: كان قد اعتاد صيام أيام معلومة، ووافق ذلك آخر يوم، أو يومين من شعبان. - إلاَّ رجل: لفظ مسلم "إلاَّ رجلاً"، وهو قياس اللغة العربية؛ لأنَّه استثناء متصل من مذكور، وبعض روايات البخاري: "إلاَّ أن يكون رجل"، و"يكون" هنا تامة ¬

_ (¬1) البخاري (1914)، مسلم (1082).

لا ناقصة، ومعناه: إلاَّ أن يوجد رجل يصوم صومًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر النيه التحريم، وَحَمله كثير من العلماء على الكراهة، فمن حرَّمه نظر إلى النَّهي، ومن كَرِهه نظر إلى الاستثناء. قال الترمذي: كرهوا أن يتعجل الرجل الصيام قبل دخول رمضان، لمعنى رمضان. 2 - الرخصة في الصيام لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام؛ كصيام يوم الخميس أو الإثنين، وهذه الرخصة بإجماع العلماء. 3 - الحكمة في ذلك -والله أعلم-: تمييز فرائض العبادات عن نوافلها، والاستعداد لصوم رمضان بنشاط ورغبة، ورجَّح ابن حجر أنَّ الحكمة هي أنَّ حُكم الصيام معلق برؤية الهلال، فمن تقدمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، ولعلَّ من الحكمة كراهة التنطع في الدين، وتجاوز الحدود التي فرضها الله تعالى. 4 - أما إذا كان على الإنسان صوم واجب كقضاء رمضان أو نذر، فإنَّ الصيام قبيل رمضان ليس رخصة، وإنما هو عزيمة، فيجب عليه الصيام؛ لأنَّ أداء الواجب مقدم على المكروهات. 5 - إنَّما اقتصر الحديث على يوم أو يومين؛ لأنَّه الغالب فيمن يقصد ذلك، وقد قطع كثير من الشافعية بأنَّ ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان، واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا" [أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (738) وابن ماجه (1651)، وصححه ابن حبان (3591) وغيره]. ولكن جمهور العلماء: جوزوا صوم التطوع بعد النصف من شعبان،

وضعَّفوا هذا الحديث، واستدلوا على استحبابه بما جاء من الحث على صيام شعبان. وقال الشيخ تقي الدين: لا يكره صوم العشر الأخير من شعبان عند أكثر العلماء. * فائدة: فُرِض الصيام على ثلاث مراحل: الأولى: فُرض صيام عاشوراء، فقد أمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بصيام عاشوراء. الثاني: فرض صوم رمضان على التخيير بين الصيام أو الفدية، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. الثالثة: التأكيد على فرض صوم رمضان بدون تخيير. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. والحكمة في هذا التدرج بالتشريع: أنَّ الصوم فيه نوع مشقة على النفوس، فأخذت به شيئًا فشيئًا. ***

540 - وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيه، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-". ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث عمَّار حديث صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين، وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواته كلهم ثقات، وصحَّحه البيهقي والعراقي والحاكم، ووافقه الذهبي. قال ابن عبد البر: هو مسند عند المحدثين مرفوع، لا يختلفون في ذلك. * مفردات الحديث: - الذي يُشك فيه: إنَّما أتى باسم الموصول، ولم يقل: "يوم الشك"؛ مبالغة في أنَّ صوم يوم يشك فيه أدنى شك سبب لعصيان أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-. - الذي يشك فيه: مبني للمجهول، أى: اليوم الذي لا يعلم هل يكون اليوم الأول من رمضان أو اليوم الآخر من شعبان، وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال ما يمنع الرؤية. - أبا القاسم: هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يكنى بأكبر أبنائه. ¬

_ (¬1) البخاري (4/ 119)، أبو داود (2334)، الترمذي (686)، النسائي (2189)، ابن ماجه (1645)، ابن خزيمة (1914)، ابن حبان (3577)، وهو في المسند من حديث أبي هريرة (8919).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن صيام يوم الشك من شهر رمضان، ويوم الشك من رمضان هو اليوم الواقع في أوله بلا يقين، لا يدرى هل هو منه أو ليس منه، وهو ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظر الهلال ما يمنع الرؤية. 2 - تحريم صيام ذلك اليوم، ما دام أنَّه معصية للنبي -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. 3 - الحديث يدل على القاعدة الشرعية، وهي: "أنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان"، ومثال القاعدة في هذه المسألة هي أنَّ الأصل بقاء شعبان، وعدم دخول شهر رمضان، ما دمنا شاكِّين في انتهاء شعبان، ودخول رمضان ما لم نتحقق انتهاء الأول، ودخول الثاني. 4 - أبا القاسم: هي كنية النبي -صلى الله عليه وسلم- كني أبنائه، والقاسم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خديجة، قيل: توفي قبل النبوة، وقيل: بعدها، وأنه لما مات قال بعض المشركين: أصبح محمد أبتر، فأنزل الله سورة الكوثر، والقصد أنَّ عمارًا كنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التعظيم والتوقير، فهو غير داخل في قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. كما أنَّ من أوصافه -صلى الله عليه وسلم- القاسم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنما قاسم، والله معطٍ" والقصد جواز ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير صفة الرسالة والنبوة؛ لأنَّ باب الخَبر أوسع من باب الطلب، فلا ينادى إلاَّ بصفة الرسالة أو النبوة، ولكنه يجوز أن يُتَحدَّث عنه بغيرهما من أسمائه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في تعيين يوم الشك: فذهب الحنابلة إلى: أنَّ يوم الشك من شهر رمضان هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يكن على مطلع الهلال غمٌ، أو قترٌ، أو دخانٌ، ونحوها مما يمنع الرؤية، فهذا هو يوم الشك الذي

نهي عن صيامه، فيكره صيامه، وأما إن حال دون مطلع الهلال تلك الليلة غيمٌ، أو غبارٌ، أو دخانٌ، أو نحو ذلك -فيجب صيامه حكمًا ظنيًّا احتياطيًّا. وذكر أصحابنا -أنَّ هذا هو قول عمر، وابنه عبد الله، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأنس، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ومن التابعين ميمون بن مهران، وطاووس، ومجاهد. واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود (2320) عن ابن عمرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إنَّما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليه فاقدروا له" ومعنى "اقدروا له"، أي: ضيِّقوا، من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق. قال في "الإنصاف": وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنَّفوا فيه التصانيف، وردوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، وهو من مفردات المذهب. وذهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء إلى: أنَّ اليوم الذي ليس في منظر هلاله ما يمنع الرؤية لا يسمى يوم شك، وإنما يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال ما يمنع الرؤية من سحابٍ، أو ضبابٍ، أو قتامٍ، أو دخانٍ، أو نحوها، فهذا هو يوم الشك المنهي عن صيامه في حديث عمَّار وغيره. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة والتابعين، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق. قال في "المغني": إنَّ المنع من صومه وعدم إجزائه إذا تبيَّن أنَّه رمضان -هو رواية عن الإمام أحمد، وقول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأتباعهم. وقال شيخ الإسلام: إذا حال دون منظره ليلة الثلاثين حائل، فهو يوم

شك يُنهى عن صومه بلا توقف؛ لأنَّ الأصل والظاهر عدم الهلال، فصومه تقدمٌ لرمضان بيوم، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره. وقال ابن القيم: وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- ألا يدخل في صوم رمضان إلاَّ برؤية محققة، أو شهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، [رواه أبو داود (2342)]، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيمٌ، أو سحابٌ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ثم صامه ولم يكن يصوم يوم الغيم ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل ذلك، فهذا فعله، وهذا أمره. وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص وقواعد الشرع، وهذا القول هو اختيار علماء الدعوة السلفية، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إنَّ المنع من الصيام هو اختيار شيخ الإسلام محمَّد بن عبد الوهاب. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومع من منع صومه من الأحاديث الصحيحة النبوية التي تعددت طرقها ما لا يدفعه دافع، ولا يعارضه معارض. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: لا يجوز صيام يوم الشك. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصواب إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان غيمٌ، أو قترٌ أنه لا يجب صيام ذلك اليوم، ولا يستحب، بل فطره هو المشروع. وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: واختار عدم صوم يوم الشك إمام هذه الدعوة، ومن أخذ عنه، ونهوا عن صيامه؛ لوجوه منها: 1 - أنَّ تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل. 2 - النَّهي الصحيح الصريح عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. 3 - الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنَّهي عن صيامه.

4 - أنَّ رواية المروزي عن أحمد أنَّ ليلة الشك هي ليلة الثلاثين من شعبان إذا غمَّ الهلال. وهو قول جمهور العلماء والأئمة الأربعة، وغيرهم، وجزم به شيخ الإسلام وغيره. وأدلة هذا القول كثيرة جدًّا منها: ما جاء في البخاري (1810)، ومسلم (1081) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم، فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين". ***

541 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "إِذَا رأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وإِذَا رَأيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدِرُوا لَهُ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ". وَلِلْبُخَارِيِّ: "فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاَثِيْنَ" (¬1). ولَهُ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِيْنَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذا رأيتموه فصوموا: أي: الهلال، والمراد: إذا رآه منكم من يثْبُت برؤيته وجوب الصوم. - أُغْمِي عليكم: -بسكون الغين المعجمة وكسر الميم، بالبناء للمجهول- أي: غطي الهلال وسُتِر عنكم، من: الإغماء يقال: أغمي عليه الخبر إذا استعجم؛ وذلك باستتار مغيب الهلال بغيمٍ، أو قترٍ فأكملوا العدة. وبعض الروايات: "فإن غُمَّ" بضم الغين وتشديد الميم، بالبناء للمجهول؛ أي: أخفي، وصار مستورًا بغيم ونحوه. - فاقدروا له: -بضم الدال وكسرها- قال في "المصباح": أي: قدِّروا عدد الشهر، وأكملوا شعبان ثلاثين يومًا. ¬

_ (¬1) البخاري (1900، 1907)، مسلم (1080). (¬2) البخاري (1909).

- فاقدروا له، وأكملوا العدة ثلاثين: قال شريح: الأول خطاب لمن خصَّه الله بهذا العلم، والثاني خطاب للعامة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب صيام شهر رمضان إذا ثبت رؤية هلاله، ووجوب الفطر إذا ثبت رؤية هلال شوال. 2 - استحباب إشاعة خبر دخول شهر رمضان، وخروجه بأوسع وسيلة، وأسرعها. 3 - أنَّ الحكم بالصوم والفطر معلق برؤية الهلال، فلا يصام إلاَّ بالرؤية، ولا يفطر إلاَّ بالرؤية المجردة، ولو بواسطة المراصد والآلات التي تكبر المرئيات؛ فإنَّه له يعتبر ذلك رؤية بالعين المشاهدة. 4 - إذا حال دون مغيب الهلال ما يمنع الرؤية من سحابٍ، أو غبارٍ، أو نحوهما ليلة الثلاثين من شعبان، فتكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ولا يصام يوم تلك الليلة، بل يصبح الناس مفطرين على القول الراجح. ذلك أنَّ الأصل واليقين هو بقاء شعبان، وخروجه شك، ولا يصار من اليقين إلاَّ إلى مثله، أما الشكوك والاحتمالات فلا تقدم على اليقين. 5 - الرؤية هي المستند الشرعي في أحكام الصيام والإفطار، وأنَّه لا عبرة بالحساب، ولا يصح الاعتماد عليه بحال من الأحوال. قال شيخ الإسلام: ولا ريب أنَّه ثبت بالسنة الصحيحة وآثار الصحابة، أنَّه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمِد عليه كما أنَّه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطىء في العقل، وعلم الحساب، فإنَّ علماء الهيئة يعرفون أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنَّها تختلف باختلاف ارتفاع المكان، وانخفاضه، وغير ذلك.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم الصيام ليلة الثلاثين من شعبان: إذا حال دون منظر الهلال غيمٌ، أو قترٌ، ونحو ذلك: فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى: وجوب الصيام. قال في "الإنصاف": وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنَّفوا فيه التصانيف، وردوا حُجَجَ المخالف، ونصوص أحمد تدل عليه، وهو من المفردات. واستدلوا: بما في البخاري (1900)، ومسلم (1080) من حديث ابن عمر ة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"، وفسَّروا "اقدروا له"؛ أي: ضيِّقوا على شعبان، فاجعلوه تسعة وعشرين يومًا. وذهب الأئمة الثلاثة إلى: عدم مشروعية صيام ذلك اليوم، واعتباره هو يوم الشك المنهي عنه؛ بما رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) من حديث عمَّار قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-". وهو رواية عن الإمام أحمد، قال في "المغني": وعن أحمد: لا يجب صيامه، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه، وهو قول أكثر أهل العلم. قال شيخ الإسلام: عدم صيامه هو مذهب أحمد المنصوص عليه، والأصل عدم الوجوب في كلام الإمام أحمد. وقال الشيخ أيضًا: صوم يوم الشك تقدمٌ لرمضان بيوم، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإنَّ المشكوك في وجوبه لا يجب فعله، بل المستحب تركه. وقال الشيخ: لو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر، لكان أولى. قال في "الفروع": لم أجد عن أحمد أنَّه صرَّح بالوجوب، ولا أمر به،

فلا تتوجه إضافته إليه، واحتجَّ الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر الوجوب، وإنما هو احتياط عورض بنهي. واختار الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب وأتباعه النهي عن صيامه. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: لا شكَّ أنَّ المحققين من العلماء في مذهب أحمد من الحنابلة وغيرهم ذهبوا إلى أنَّه لا يجب الصوم بل يكره، أو يحرم. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومع من منع صومه من الأحاديث الصحيحة النبوية التي تعددت طرقها ما لايدفعه دافع، ولا يعارضه معارض، وتقدم هذا كله قريبًا. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يجوز صوم الشك؛ لحديث عمَّار. قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة والتابعين. وأصحابنا في وجوب الصيام ليلة الثلاثين من شعبان إن حال دون مغيب الهلال غيمٌ، أو قترٌ، أو جبالٌ، ونحو ذلك، صاموه بحكم ظني احتياطي، والاحتياط ليس بالفعل فقط، وإنما يكون بالترك أيضًا، فالمسلم يحتاط لنفسه بالاتباع، فعلاً أو تركًا، لأنَّ الاحتياط الحقيقي هو اتباع ما كان أقرب إلى الشرع، وقد تكرر ذكر هذا الخلاف مع ما قبله، ولكنه لا يخلو من زيادة فائدة. واختلف العلماء فيما: إذا رؤي الهلال ببلد من البلدان، فهل يجب الصيام، أو الإفطار على عموم المسلمين؟ أو أنَّ كل قطر له حُكمه في الصيام والإفطار، حسب مطلع قطره الذي هو فيه؟ هذا موضع خلاف بين العلماء: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد- إلى: أنَّه إذا رؤي في بلد، لزم حُكْمه جميع الناس؛ عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا"، والخطاب للمسلمين عامة.

ولا عبرة باتفاق المطالع واختلافها. وذهب الإمام الشافعي، وجماعة من السلف إلى القول بالحكم باختلاف المطالع، وقالوا: إنَّ الخطاب في الحديث نسبي؛ فإنَّ الأمر بالصوم والفطر موجه إلى من وُجد عندهم الهلال، أما من لم يوجد عندهم هلال، فإنَّ الخطاب لا يتناولهم إلاَّ حين يوجد عندهم، وهذا قول له اعتبار من حيث الدليل النقلي، والنظر الفلكي. قال شيخ الإسلام: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتَّفقت لزم الصوم، وإلاَّ فلا، وهو القول الأصح للشافعية، وقول في مذهب أحمد. وقال الشيخ نجيب المطيعي: القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع يخالف المعقول والمنقول، أما مخالفته للمعقول فلِمَا علم من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، وأما مخالفته للمنقول فلأنَّه مخالف لحديث كريب في صحيح مسلم. قال كريب: قدمتُ الشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثم عدتُ إلى المدينة في آخر الشهر، فسألني ابنُ عباس متى رأيتم الهلال، فقلتُ: ليلة الجمعة وصاموا، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، هكذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[رواه مسلم (1087) والترمذي (693) وقال: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم]. قال مؤلف كتاب الزلال: اعلم يقينًا أنَّ القول الصحيح الذي انفصل عليه المحققون من علماء الأثر، وأهل النظر، وعلماء الهيئة، هو أن ينظر بين الرؤية وغيرها، فإن كان بينهما: ألفان ومئتان وستة وعشرون (2226) كيلاً فأقل، صار الحكم واحدًا في الصوم والفطر لاتحاد المطالع. وإن كان أكثر من ذلك فلا يصح، وصار لكل بلد حُكمه لاختلاف مطالعها؛ سواء كان البعد شرقًا، أو غربًا، أو شمالاً، أو جنوبًا، تحت ولاية

واحدة أم لا، في إقليم واحد أم لا. وهذا هو المطابق للنصوص الشرعية والفلكية، وبهذا القول تنتفي جميع الإشكالات، والله أعلم. * قرار هيئة كبار العلماء بشان اختلاف المطالع: أما مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعوية، فقرَّروا بقرارهم رقم (2) في تاريخ 13/ 8/ 1392 هـ بالإجماع ما خلاصته: بعد دراسة المجلس للموضوع، وتداول الرأي فيه، تقرر ما يلي: أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلاً، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين العلماء في اعتبار المطالع من عدمه. ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الاختلاف السائغ، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع. ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق بأدلته. وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرًا لاعتبارات قدَّرتها الهيئة، وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنًا، ولا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد أعياد إسلامية على رؤية واحدة، فإنَّ أعضاء الهيئة يقررون بقاء الأمر على ما كان عليه، وأن يكون لكل بلد إسلامي حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما. أما ما يتعلَّق بإثبات الأهلة بالحساب: فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره، وبالله التوفيق. اهـ القرار.

* قرار المجمع مع الفقهى الإسلامى بشأن توحيد الأهلة: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أنَّ الإسلام بنى على أنَّه دين يسر وسماحة، تقبله الفطرة السليمة، والعقول المستقيمة؛ لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية، لا على اعتمادها على الحساب، كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع؛ لما في ذلك من التخفيف على المكلفين، مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا، وعقلاً: أما شرعًا: فقد أورد أئمة الحديث حديث كُريب، وهو أنَّ أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمتُ الشام، فقضيتُ حاجتها، فاستهل عليَّ شهر رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلتُ: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلتُ: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نرله، فقلتُ: أَوَلا نكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [رواه مسلم في صحيحه]. وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في "شرحه على مسلم" بقوله: "باب بيان أنَّ لكل بلد رؤيتهم، وأنَّهم إذا رأوا الهلال ببلد، لا يثبت حكمه لما بعد عنهم"، ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له. وناط الإسلام الصوم والافطار بالرؤية البصرية دون غيرها؛ لما جاء في

حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له" [رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما]، فهذا الحديث علق الحكم بالسبب، الذي هو الرؤية، وقد توجد في بلد كمكة والمدينة، ولا توجد في بلد آخر، فقد يكون زمانها نهارًا عند آخرين، فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار، أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة، وقد قرر العلماء من كل المذاهب أنَّ اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثيرة فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس، أو لكل بلد حكم يخصه، وكثير من كتب أهل المذاهب الأربعة طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع؛ للأدلة القائمة من الشريعة بذلك، وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل. وأما عقلاً: فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه؛ لأنَّه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل، فقد توافق الشرع والعقل على ذلك، فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك، التي منها أوقات الصلاة، ومراجعة الواقع تطالعنا بأنَّ اختلاف المطالع من الأمور الواقعية، وعلى ضوء ذلك، قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنَّه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة، والأعياد في العالم الإسلامي؛ لأنَّ توحيدها لا يكفل وحدتهم، كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية؛ لأنَّ ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأنَّ الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، في جميع شؤونهم، والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم.

واختلف العلماء في نصاب البينة بدخول شهر رمضان على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنَّه كبقية الشهور، لابد فيه من شاهدين عدلين. الثاني: أنَّه لا يقبل إلاَّ بشاهدين إلاَّ في حالة الغيم، وما يحجب الرؤية، فحينئذٍ يقبل شاهد واحد. الثالث: أنَّه يقبل شاهد واحد مطلقًا، وهذا هو القول الراجح الذي يدل عليه حديث الباب وغيره. * فوائد: * الفائدة الأولى: يجب صوم رمضان بواحد من ثلاثة أمور: 1 - رؤية الهلال. 2 - الشهادة على الرؤية والإخبار بها. 3 - إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا. * قرار المجمع الفقهى الإسلامي بشأن العمل بالرؤية في إثبات الأهلة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: إنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، في الفترة ما بين السابع، والسابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ على صورة خطاب الدعوة الإسلامية في سنغافورة، المؤرخ في 16 شوال 1399 هـ الموافق 8 أغسطس 1979 م، الموجه لسعادة القائم باعمال سفارة المملكة العربية السعودية هناك، والذي يتضمن أنَّه حصل خلاف بين هذه الجمعية، وبين المجلس الإسلامي في سنغافورة، في بداية شهر رمضان ونهايته، سنة 1399 هـ، الموافق 1979 م؛ حيث رأت الجمعية ابتداء شهر رمضان وانتهاءه على أساس الرؤية الشرعية؛ وفقًا لعموم الأدلة الشرعية، بينما رأى المجلس

الإسلامي في سنغافورة ابتداء ونهاية رمضان المذكور بالحساب الفلكي؛ معللاً ذلك بقوله: "بالنسبة لدول منطقة آسيا؛ حيث كانت سماؤها محجبة بالغمام -وعلى وجه الخصوص سنغافورة- فالأماكن لرؤية الهلال أكثرها محجوبة عن الرؤية، وهذا يعتبر من المعذورات التي لابد منها، لذا يجب التقدير عن طريق الحساب". وبعد أن قام أعضاء مجلس الفقهي الإسلامي بدراسة وافية لهذا الموضوع، على ضوء النصوص الشرعية -قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي تأييده لجمعية الدعوة الإسلامية فيما ذهبت إليه؛ لوضوح الأدلة الشرعية في ذلك. كما يقرر أنَّه بالنسبة لهذ الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها؛ حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية، فإنَّ للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا بمن يثقون به من البلاد الإسلامية، التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال، دون الحساب، بأي شكل من الأشكال؛ عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة"، وما جاء في معناهما من الأحاديث. الفائدة الثانية: جاء في "جامع الترمذي" (633) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون". قال الشيخ: من رأى وحده هلال رمضان، فلا يلزمه الصوم، ولا جميع أحكام الشهر، وإنما يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال. وأصل المسألة: أنَّ الله علَّق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال والشهر،

كالصوم والفطر والنحر، فشرط كونه هلالاً وشهرًا، فلو طلع في السماء، ولم يعرفه الناس لم يكن هلالاً، فلا يسمى هلالاً إلاَّ بالظهور والاشتهار، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة. أما المشهور من مذهب الإمام أحمد والأئمة الثلاثة-: فإنَّ من رأى الهلال وحده، فإنَّه يلزمه الصوم، وجميع أحكام الشهر المتعلقة به. لعلمه أنَّ هذا اليوم من رمضان. * الفائدة الثالثة: خلاصة الأقوال في الصوم والفطر ثلاثة: الأول: أنَّه إذا رؤي في بلد، لزم الناس كلهم الصوم ة نظرًا إلى أنَّ الخطاب لكل المسلمين، بقوله: "إذا رأيتموه". الثاني: اعتبار اختلاف المطالع، وتقدم تحديده بالكيلومترات، وهذا ملاحظ فيه أنَّ الخطاب خاص لمن يمكن رؤيته في قطرهم. الثالث: لزوم الصوم والفطر إذا كانوا تحت ولاية واحدة، فالصحيح من حيث الدليل هو الثاني، والعمل الآن على الثالث. * الفائدة الرابعة: بناء على مما جاء في "سنن الترمذي" من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" فإنَّ من أدركه الصوم، أو الفطر في بلد، لزمه أن يصوم، أو يفطر ذلك اليوم، ولو لم يكن من أهل تلك البلاد؛ لأنَّ حكمهم لزمه، فإذا عاد إلى بلده وقد صام أقل من "تسعة وعشرين" يومًا، أكمله بعد عيد بلاده. ***

542 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "تَرَاءَى النَّاسُ الهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أبو داود والدارقطني وابن حبَّان والحاكم والبيهقي، وصححه ابن حزم، كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عنه، وأخرجه الدارقطني والطبراني من طريق طاوس، وقال الحاكم: إنَّه على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - تراءى: هو تفاعل من: الرؤية، والمفاعلة تكون من اثنين فأكثر، أي: جعل بعضهم يقول: أنا أراه، وبعضهم يقول: لا، أنا أراه، واجتمعوا، أو تصدوا لرؤيته. - الهلال: -بكسر الهاء وتخفيف اللام- جمعه: أهلة، ويسمى: هلالاً لثلاث ليال من أول الشهر، ثم بعد ذلك يسمَّى: قمرًا. وسمي هلالاً؛ لأنَّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2342)، الحاكم (1541)، ابن حبان (3438).

543 - وَعَنِ ابْن عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا-: "أَنَّ أعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَال: إِنِّي رَأيْتُ الهِلاَلَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلاَلُ؛ أنْ يَصُومُوا غَدًا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. أخرجه الحاكم (1546)، وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي. قال الألباني: وفيه نظرٌ، فإن سماك بن حرب -أحد رجال السند- مضطرب الحديث، وقد رجَّح جماعة من مخرجي الحديث إرساله. قال الترمذي: حديث ابن عبَّاس فيه اختلاف، وأكثر أصحاب ابن سماك يروونه عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو داود: رواه جماعة عن عكرمة مرسلاً، وقال النسائي: إنَّ إرساله أولى بالصواب. * مفردات الحديث: - أعرابيًّا: قال في "المصباح": الأعراب: أهل البدو من العرب، الواحد: أعرابي، وهو الذي يرتاد الكلأ، وزاد الأزهري: من نزل البادية، وظعن بظعنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى فهم عرب. ¬

_ (¬1) أحمد (188)، أبو داود (2340)، الترمذي (691)، النسائي (2112)، ابن ماجه (1652)، ابن خزيمة (1923)، ابن حبان (3445).

- فأذَّن: أمر من: الأذان، والمراد به: الإعلام والإخبار بالصوم غدًا؛ لكونه من رمضان. - أن يصوموا غدًا: "أن" مصدرية، والجار والمجرور محذوف، والتقدير: أذَّن فيهم بصوم الغد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أنَّ نصاب الشهادة في دخول شهر رمضان يكفي فيها شاهد واحد. قال العلماء: ولو أنثى، لأنَّه من باب الرواية، فيجب صوم رمضان ولو بشهادة الواحدة. قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وهو مذهب الشافعي وأحمد. قال النووي: وهو الأصح؛ لأنَّه خبر ديني لا تهمة فيه، وأحوط للعبادة. أما بقية الشهور: فلا يكفي إلاَّ شهادة رجلين عدلين؛ لقول ابن عمر وابن عباس: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجيز على شهادة الإفطار، إلاَّ شهادة رجلين" قال الترمذي وغيره: لم يختلف أهل العلم في الإفطار، إلاَّ بشهادة رجلين، وإنما أجزأ الواحد في الصوم؛ احتياطًا للعبادة. 2 - أنَّه لابد من تكليف الشاهد؛ بأن يكون بالغًا عاقلاً، فابن عمر والأعرابي مكلفان حين أداء الشهادة برؤية الهلال. 3 - أنَّه لابد من إسلام الشاهد، ومن ثبوت عدالته، فالإسلام يدل على اعتباره سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي هل يقر بالشهادتين، وأما العدالة فالصحابة كلهم عدول. 4 - أنَّه يكفي في أداء الشهادة الإخبار، ولا يشترط لفظ الشهادة؛ كالرواية، وسائر الإخبارات. 5 - استحباب ترائي الهلال؛ لما يترتب على رؤيته من أحكام الشعائر الهامة.

6 - يجب على ولاة أمور المسلمين إشاعة خبر الصوم أو الفطر؛ ليقوم الجميع بما يجب عليهم من صوم أو فطر، وغيرهما من الأحكام المترتبة على ثبوت الرؤية. 7 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: لا ريب أنَّ كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه على وجه السرعة، يسلك فيه طريق يحصل به المقصود، ولم يزل الناس يخبرون عن هذه الأمور بأسرع وسيلة، وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع مما قبلها أسرعوا إليها، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ ذلك أنَّ كل ما دلَّ على صدق الخبر، فإنَّ الشارع يُقرّه ويقبله، فالشارع لا يرد خبرًا صحيحًا بأي طريقٍ وصل، إذا عُلم هذا الأصل فإنَّه متى ثبت بطريق شرعي خبر الصوم والفطر وجب قبوله، والاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية خبر الصوم والفطر وجب قبوله، والاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية التي تفيد صدق مخبِرها، ومن المعلوم أنَّ الاستفاضة الحاصلة في زمن المدافع والبرقيات ووسائل الإعلام أبلغ من الاستفاضة المفيدة للعلم، والعادة المطردة والعرف المستقر في بث الأخبار من الأمور الرسمية، لا تبقي شكًّا في صدق الخبر. ***

544 - وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَمَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ابنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ. وَلِلْدَّارَقُطْنِيِّ: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود والدارقطني والطحاوي والبيهقي من طريق عبد الله بن وهب بسنده إلى حفصة، وأخرجه الإمام أحمد من طريق حسن بن موسى، ورجاله كلهم رجال الشيخين غير ابن لهيعة، وهو صحيح الحديث إذا روى عنه أحد العبادلة الثلاثة، كهذا الحديث. أما من حيث الرفع والوقف: فقد رجَّح بعض العلماء، وقفه ومنهم: البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وأبو حاتم والبيهقي، وبعضهم حكم له بالرفع، ومنهم: ابن حزم والخطابي وعبد الحق وابن الجوزي والشوكاني، وقال البيهقي والدارقطني: رواته ثقات، وقواه ابن حزم، وصححه الحاكم. * مفردات الحديث: - من لم يبيت الصيام: بيَّت فلان الأمر؛ أي: دبره بليل، والمراد هنا: من لم يبيت الصيام الواجب، وذلك بنية الصيام من الليل، فلا صيام له. ¬

_ (¬1) أحمد (25252)، أبو داود (2454)، الترمذي (730)، النسائي (2331)، ابن ماجه (1700)، ابن خزيمة (1933)، الدارقطني (2/ 172).

545 - وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أرِينِيهِ، فَلَقَدْ أصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فإني صائم: يعني: ما استقبلتُ من يومي هذا. - حَيْسًا: -بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة التحتية ثم سين مهملة- هو طعام يُصنع من التمر والأقط والسمن، تخلط وتعجن. - أرينيه: أمر من: الرؤية، والنون للوقاية، والياء بعدها ضمير المتكلم، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني ضمير الغائب. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديث رقم (544): على أنَّ الصيام لابد له من نية؛ كما جاء في البخاري (1)، ومسلم (1907) عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" قال في "الشرح الكبير": وذلك بإجماع العلماء. 2 - قال في "شرح الإقناع": والنية محلها القلب، فمن خطر بباله أنَّه صائم غدًا، فقد نوى، ويكفي الأكل والشرب بنية الصوم، فلا يصح الصيام بنية من النهار. 3 - "فلا صيام له": نفي للوجود الشرعي؛ فإنَّ الصيام لابد أن يشمل النهار كله، ومن لم ينو إلاَّ بعد الفجر فإنَّ جزءًا من يوم لم يَنْوِهِ. ¬

_ (¬1) مسلم (1154).

4 - أنَّ تبييت النية بأن تكون في الليل هو خاص بالصوم الواجب، وهو صوم رمضان أداءً وقضاءً، وصوم الكفارة والنذر. 5 - أما صوم التطوع: فيصح بنية من النهار، كما في الحديث رقم (545)، فإنَّه لا يجب تبييت نية الصيام من الليل، وإنما يكفي بنية من النهار في أي جزء منه، حتى ولو بعد الزوال. قال في "شرح الإقناع": ويصح صوم نفلٍ بنيةٍ من النهار، قبل الزوال أو بعده؛ لحديث عائشة. 6 - أنَّه يحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأنَّ ما قبله لم يوجد فيه قصد القُربة، فلا يقع عبادة. لكن يشترط ألا يكون أتى بمفطر بعد الفجر، وقبل النية، فإن أتى بمفطر، فلا يجزئه الصوم، بلا خلاف بين أهل العلم. 7 - يجوز تبييت نية الصوم واجبًا، أو تطوعًا من أي جزء من الليل، ولو أتى بعد النية بمنافٍ للصوم، ما دام أنَّ الفجر لم يطلع. 8 - قال في "شرح الإقناع": ويجب تعيين النية لما يصومه من رمضان، أو من قضائه، أو نذره، أو كفارة؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"؛ لأنَّ النية تميز العبادات بعضها عن بعض، فالتعيين مقصود في نفسه. 9 - الحديث رقم (545): يدل على أنَّه لا يجب إتمام صوم التطوع، بل يجوز قطعه والإفطار، إلاَّ أنَّه يستحب الإتمام. قال في "شرح الإقناع": ومن دخل في تطوع غير حج وعمرة، استحب له إتمامه؛ لأنَّ تكميل العبادة هو المطلوب، ولم يجب عليه إتمام لحديث عائشة، ولكن يكره قطعه بلا عذرة لما فيه من تفويت الأجر، وإن أفسده فلا قضاء عليه، وكذا لا تلزم الصدقة، ولا القراءة، ولا الأذكار بالشروع فيها، عند الأئمة الأربعة، وإذا قطع العبادة النافلة، فهل يثاب على الجزء

الذي قطعه؟ فيه خلاف، رجَّح الشيخ تقي الدين أنَّه يثاب على ما فعله. 10 - قوله: "إني صائم لا يحمل على الحقيقة الشرعية؛ وهو الصيام الشرعي؛ لأنَّه جاء بخطاب الشارع. ويحسن أن نلاحظ أنَّ الحقائق ثلاث: لغوية، وشرعية، وعرفية، فلو فرضنا معنًى من المعاني له لفظ لغوي، ولفظ شرعي، ولفظ عرفي، فإن جاء بلفظ أهل اللغة حملناه على معناه عندهم، وإن جاء بلفظ الشرع حملناه على المعنى الشرعي، وإن جاء بلسان العامة حملناه على المعنى العرفي. وهذا التقسيم يفيد في: الأوقاف، والوصايا، والوثائق، والإقرارات، والعقود، ونحو ذلك. 11 - على صائم النفل مراعاة المصلحة في إمضاء صومه أو فطره، فإن حقق فطره مصلحةً أفطر، كما أفطر -صلى الله عليه وسلم- لما وجد من الأكل ما يعينه على طاعة الله تعالى، وإن لم يوجد مصلحة فالأفضل إتمام صومه. قال في "شرح الإقناع"؛ وإن حضر المدعو إلى وليمة ونحوها، وهو صائم صومًا واجبًا لم يفطر، وإن كان تطوعًا فإن كان في ترك الأكل كسر قلب الداعي، استُحب له أنَّ يفطرة لأنَّ في أكله إدخال السرور على قلب أخيه المسلم، وإن لم يكن في تركه الأكل كسر قلب الداعي، كان إتمام الصوم أولى من الفطر. قال الشيخ: وهو أعدل الأقوال. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل يكفي لصوم شهر رمضان نية واحدة في أوله، أو لابد لكل صوم يوم من نية خاصة مستقلة؟ فذهب المالكية إلى: أنَّه يجزىء صوم شهر رمضان بنيةٍ واحدةٍ تكون في أول الشهر، وكذا في صيام متتابع مثل كفارة جماع في رمضان، وكفارة قتلٍ

وظهارٍ، ما لم يقطعه بسفرٍ، أو مرضٍ، أو يكون على حالة يجوز له الفطر، كحيض ونفاس ونحو ذلك، فيلزمه استئناف النية، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه جماعة: منهم أبو الوفاء بن عقيل. واستدلوا على ذلك: بما في الصحيحين: "إنما الأعمال بالنيات"، وهذا قد نوى جميع الشهر، ورمضان بمنزلة عبادة واحدة. وذهب الجمهور إلى: أنَّ كل يوم عبادة مستقلة بذاتها يحتاج إلى نية خاصة بها. وتظهر النتيجة فيما لو نام مكلف في رمضان، أو صيام كفارة، وذلك قبل الغروب إلى ما بعد الصبح، فعلى القول الأول يصح صومه، وعلى الثاني لا يصح؛ لأنَّه لم يبيت نية الصوم الواجب من الليل، والقول الأول أرجح. واختلفوا: هل تعيين نية الصوم واجب، أم يكفي نية الصوم المطلق؟ فذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد-: إلى وجوب تعيين النية لما يصوم له: من أداء رمضان، أو قضائه، ومن النذر، والكفارة، والتطوع، فإن لم يعين النية لم يصح صومه؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، والنية شرعت لتمييز العادة عن العبادة، وتمييز العبادات بعضها عن بعض. قال الشيخ تقي الدين: وتحقيق المسألة أنَّ النيَّة تتبع العلم، فإذا علم أنَّ غدًا من رمضان، فلابد من التعيين، وإن كان لا يعلم أنَّ غدًا من رمضان، فلا يجب عليه التعيين. وذهب الحنفية إلى التفصيل: فالصيام الثابت في الذمة كقضاء رمضان، والكفارات، والنذر المطلق، ونحو ذلك -فهذا يشترط فيه تعيين النية. والنوع الآخر -وهو ما يتعلق بعينه، وهو صوم رمضان أداءً، والنذر المعين زمانه، والنفل المقيد، ونحو ذلك- فهذا لا يشترط تعيينه بالنية، بل

يكفي مطلق نية الصيام. قال الشيخ: تعيين النية لشهر رمضان فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: ألا يجزئه الصيام إلاَّ أن ينوي رمضان، وهو مذهب الشافعي. الثاني: يجزئه، وهو مذهب أبي حنيفة. الثالث: يجزئه بنية مطلقة. وتحقيق المسألة أنَّ النيَّة تتبع العلم، فإن علم أنَّ غدًا من رمضان فلابد من التعيين، وإن كان لا يعلم فلا يجب التعيين. ***

546 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 547 - وَلِلْتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أعْجَلُهُمْ فِطْرًا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: "أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا": لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي. قال محرره عفا الله عنه: زيادة الترمذي هذه ساقها المصنف هنا، وذكرها في "التلخيص"، ولم يعقب عليها بشيء، مما يدل على قبولها عنده، ومعناها موافق للأحاديث الصحيحة في هذا الباب. وهذا الحديث في سنده مرة بن عبد الرحمن المغازي، قال الإمام أحمد: إنَّه منكر الحديث، وقال ابن عدي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان، وقال الحافظ: صدوق، وله مناكير. وقد حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبَّان. * مفردات الحديث: - لا يزال: من: زال يزول زوالاً، يتعدى بالهمزة والتضعيف، وزال من أخوات ¬

_ (¬1) البخاري (1957)، مسلم (1098). (¬2) الترمذي (705).

كان، ويشترط لها أنَّ يتقدمها نفي أو نهي، والمراد بها: ملازمة المسند للمسند إليه، فإذا قلتُ: ما زال خليل واقفا، فالمعنى أنَّه ملازم للوقوف. - ما عجلوا: "ما" هنا حرفية مصدرية ظرفية، ومعناها: مدة تعجيلهم الفطر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - استحباب تعجيل الفطر، وقد اتَّفق العلماء على استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس برؤيةٍ، أو بخبر ثقةٍ، أو غلب على ظنه الغروب. 2 - أنَّ تعجيل الفطر دليل على بقاء الخير عند من عجَّله، وزوال الخير عمن أخَّره. 3 - الخير المشار إليه هو اتباع السنة، ولا شكَّ أنَّه سبب خيري الدنيا والآخرة؛ ففي سنن أبي داود: "لا يزال الدين ظاهرًا، ما عجَّل الناس الفطر؛ لأنَّ اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم" ونحوه في الصحيحين، فالشارع الحكيم يطلب من المسلمين ألا يشابهوا أهل الكتاب في عباداتهم، فتعجيل الفطر شعار يفرق بين صيام أهل الإسلام وأهل الكتاب، وبين سوء المخالفة، وحسن الاتباع والاقتداء. 4 - هذا الحديث من المعجزات النبوية؛ فإنَّ تأخير الإفطار هو طريقة بعض الفرق الضالة. 5 - قال ابن عبد البر وغيره: أحاديث تعجيل الفطور، وتأخير السحور صحيحة متواترة، وأجمع العلماء على أنَّ تعجيل الفطر، وتأخير السحور، سنة متبعة، حكاه الوزير ابن هبيرة، وجزم به الشيخ تقي الدين. 6 - قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فهذا يقتضي أنَّ الإفطار عند غروب الشمس، فقد أجمعوا على أنَّ الصوم ينقضي ويتم بتمام الغروب، وأنَّ السنة أنَّ يفطر إذا تحقق الغروب، وأن له الفطر بغلبة الظن اتفاقًا، وذلك إقامة للظن مقام اليقين.

قال الشيخ تقي الدين: ومع الغيم المطبِق لا يمكن اليقين إلاَّ بعد أن يذهب وقت طويل من الليل، ويفوت تعجيل الفطر، فعليه لا يستحب التعجيل مع الغيم إلى أن يتيقن الغروب، وكره الفطر مع الشك في غروب الشمس، ولا يكره السحور مع الشك في طلوع الفجر، إلاَّ الجماع. 7 - الأكل ونحوه مع الشك في طلوع الفجر جائز، والإفطار مع الشك في الشمس لا يجوز، وهو مبني على قاعدة شرعية عظيمة هي أنَّ: "الأصل بقاء ما كان على ما كان"؛ ففي السحور الأصل بقاء الليل، وفي الفطر بالأصل بقاء النهار. 8 - فيه إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتًا حقيقيًّا يليق بجلاله، وأنَّ هذه المحبة الربانية تتفاوت، فأحبهم إليه أكثرهم لشرعه اتباعًا، ولأمره امتثالاً، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. الطوائف في المحبة ثلاث: (أ) المعطلة: يقولون: إنَّ الله لا يُحَبُّ، وهؤلاء نفاة صفات الرب جلَّ وعلا. (ب) الأشاعرة: يقولون: إنَّ الله يحبه خلقُه، ولكنه لا يُحب؛ لأنَّ إثبات المحبة له هو إثبات ميله إلى ما نفعه، أو عما يضره، والله منزَّه عن هذا، وهذا قول باطلٌ؛ لأنَّ هؤلاء شبهوا الله تعالى بخلقه، ثم عطلوه من صفاته. (ج) أهل السنة والجماعة: يقولون إنَّ الله يُحِب ويُحَب، كما جاءت النصوص بذلك، ولكن محبته لشىء من الأشياء هي محبة لائقة بجلاله، ليست كمحبة المخلوقين، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى].

548 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ برَكَةً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - السحور -بفتح السين المهملة-: اسم للطعام الذي يتُسحر به، وروي بالضم فهو مصدر، أي التسحر؛ أي: اسم للفعل نفسه، وأكثر ما يروى بالفتح، وهو مشتق من: السَّحر، وهو ما قبيل الفجر. - بركة: -بفتحتين-: هي كثرة الخير، ومن معانيها: النَّماء والزيادة، والتبريك الدعاء بالبركة، وسميت بِركة الماء؛ لكثرة مائها، والبركة في الفعل والطعام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - زاد الإمام أحمد (10646) من حديث أبي سعيد: "فلا تدعوه، ولو أن يتجرَّع أحدكم جرعة من ماء؛ فإنَّ الله وملائكته يصلون على المتسحرين". 2 - ظاهر الحديث وجوب السحور، ولكن صرفه عن الوجوب إلى الندب هو ما ثبت من مواصلته -صلى الله عليه وسلم-، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أنَّ التسحر مندوب، وليس بواجب. 3 - البركة الحاصلة من السحور ما فيه من امتثال الأمر الشرعي، فطاعة الله تعالى هي امتثال أمره، واجتناب نهيه. ومن بركته: أنَّ الأكل للتقوي على الصيام، وطاعة لله تعالى، وعبادته، ومن بركته أنَّ السحور يعطي الصائم قوة لا يَملُّ معها الصيام، بخلاف من لا يتسحر، فإنَّه يجد مشقة تثقل عليه الصيام والعبادة، ومن بركة السحور أنَّه ¬

_ (¬1) البخاري (1923)، مسلم (1095).

يكون سببًا للانتباه من النوم في وقت السحر، الذي هو وقت الاستغفار والدعاء، وفيه ينزل الرب جلَّ وعلا إلى السماء الدنيا، ينادي عباده ليسألوه مطالبهم ورغباتهم. ومن بركة السحور صلاة الفجر مع الجماعة، وفي وقتها الفاضل، ولذا تجد المصلين في صلاة الفجر في رمضان أكثر منهم في غيره من الشهور؛ لأنَّهم قاموا من أجل السحور. 4 - ينبغي للمسلم ألا يقوم بأموره العادية مجردة عن النية الصالحة، بل يمرن نفسه على أن تكون أعماله العادية عبادات لله تعالى، وذلك باستحضار إرادة هذه المعاني السامية لتصبح كل تصرفاته عبادة لله تعالى، ومادة "خير" و"بركة" تعود عليه بالثواب والأجر، أسال الله أنَّ يوفقنا والمسلمين لكل ما يقرب من رضاه، آمين، وصلى الله على نبينا محمد. 5 - في السحور من مخالفة أهل الكتاب؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1096) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر". والشارع يريد ألا يكون لنا مشابهة بالكفار، لا في العبادات، ولا في العادات، لكن إن تشبه المسلم بالكفار بعباداتهم، فهذا قد يؤدي إلى الشرك والكفر، وإن كان في العادات باستحسان أفعالهم وعاداتهم، فهذا قد يؤول إلى التشبه بهم في الأمور الباطنة، ويكون منه الهلاك. 6 - قوله: "فإنَّ في السحور بركة" دليل على أنَّ البركة تكون في المخلوقات؛ وذلك بحسب ما وهبه الله تعالى من القدرة، والمؤهلات، والمنفعة، فقد يكون في الإنسان بركة إما: بعلمه، وإما ببدنه، وإما بخُلقه، وإما بماله، وإما بجاهه، فيحصل منه خير ينتفع به غيره، والممنوع من التبرك في المخلوقين أن تكون بجسمه، فيتبرك بالظاهر من فضلاته، وثيابه،

وشعوره، ونحو ذلك، فهذا لا يكون إلاَّ في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن عداه ممنوع منه. * فائدة: أحاديث الأمر بالتسحر، والحض عليه، وتأخيره، وتعجيل الفطر، متواترة، حكاها الطحاوي وغيره. ولا يجب السحور، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا. وقال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الفطور، وتأخير السحور صحيحة متواترة. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكمًا شرعيًا. ويدل عليه: ما جاء في البخاري (1853)، ومسلم (1100) من حديث عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغابت الشمس -فقد أفطر الصائم" ولكن سيأتي قريبًا إن شاء الله أنَّ معنى الآية والحديث، أنَّه قد دخل وقت الإفطار، لا أنَّه حصل الإفطار بالفعل. ***

549 - وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أفْطَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُفْطِرْ عَلى مَاءٍ؛ فَإِنَّهُ طَهُورٍ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها: هذا الحديث الذي معنا، وقد علمنا من أخرجه من كلام المصنف. الثاني: حديث أنس مرفوعًا، بلفظ: "كان يحب أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار". أخرجه العقيلي في الضعفاء؛ والضياء المقدسي (5/ 131). الثالث: حديث أنس: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يجد، فعلى تمرات، فإن لم يجد تمرات، حسا حسوات من ماء" رواه أبو داود (2009) والترمذي (632) وقال: حسن غريب، وهذا أصح الأحاديث الثلاثة، فهو حديث حسن، فقد حسَّنه الترمذي، وصححه أبو حاتم والحاكم، ووافقه الذهبي. ¬

_ (¬1) أحمد (15637)، أبو داود (2355)، الترمذي (658)، النسائي في الكبرى (2/ 254)، ابن ماجه (1699)، ابن خزيمة (3/ 278)، ابن حبان (3514)، الحاكم (1575).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء الحديث من رواية الترمذي (632) وأبو داود (2009) عن أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات، فإن لم يجد، فعلى تمرات، فإن لم يجد، حسا حسوات من ماء". 2 - وفيه الحديث استحباب الإفطار على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء. 3 - قال ابن القيم في "الطب النبوي": وهذا من كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته ونصحه، فإنَّ التمر مقوٍّ للكبد ملين للطبع، وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن، وأكله على الريق يقتل الدود، فهو فاكهة، وغذاء، ودواء، وحلوى. وقال الدكتور صبري القباني: التمر غني بعدد من أنول السكر، فهو يتحلل رأسًا إلى الدم فالعضلات؛ ليهبها القوة. وقد أثبت الطب الحديث صحة سنة الرسول الأعظم في الصيام والإفطار، فالصائم يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد، هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل، وروغان في البصر، لذا كان من الضروري أن نمد أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، لتعود إليه قواه سريعًا. 4 - قال محرره عفا الله عنه: فمثل هذا الحديث من الإعجاز العلمي، الذي اكتشف في كثير من نصوص الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، مما يثلج قلب المؤمن، بأنَّه تنزيل من حكيم خبير. 5 - قوله: "فإن لم يجد، فليفطر على ماء-: فإنَّه طهور" الطهور هنا المراد به -والله أعلم-: أنَّ الماء مطهر للمعدة والأمعاء، وهذا الآن حقيقة علمية طبية، فإنَّ الأطباء ينصحون، ويوصون بشرب الماء على الفرك، ويقولون: إنَّه يغسل المعدة والأمعاء، ويعدل طبيعة الإنسان.

550 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عنِ الوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ: فَإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: وَأَيُّكُّمْ مِثْلِي؛ إِنِّي أَبِيْتُ يُطْعِمُنِي رَبَيّ وَيَسْقِينِي، فَلَمَّا أبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الهِلاَلَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ، كالمُنكِّلِ لَهُمْ حَينَ أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الوصال: -بكسر الواو وفتح الصاد المهملة- مأخوذ من: الوصل، والمراد هنا: مواصلة الصيام اليومين فأكثر، من غير إفطار بالليل. - المنكِّل -بضم الميم وفتح النون ثم كاف مشددة-: المعاقب لهم بما يردعهم عن مثل صنيعهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشريعة الإسلامية سمحة ميسرة، لا عنت فيها ولا مشقة، ومشرعها الحكيم الرحيم يكره الغلو، في الزيادة على المشروع، ولما فيه من تعذيب النفس، فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها. 2 - التيسير في العبادة والتسهيل أبقى للعمل، وأبعد عن السأم، وأقرب إلى العدل، فالمسلم لربه عليه حق، ولنفسه عليه حق، ولأهله عليه حق، والعدل إعطاء كل ذي حق حقَّه. ¬

_ (¬1) البخاري (1965)، مسلم (1103).

3 - يدل الحديث على تحريم الوصال بالصيام اليوم واليومين. 4 - جوازه للقادر عليه إلى السحر، وتركه أولى لتفويته فضيلة تعجيل الفطر عند تحقق الغروب. 5 - رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة؛ إذْ حرَّم عليهم ما يضرهم، ويُضعف قواهم. 6 - الحكمة -والله أعلم- في النهي عن الوصال: هو ما يحصل به من الضعف والسآمة، والعجز عن المواظبة على كثير من وظائف الطاعات، والقيام بحقوقها. 7 - النَّهي عن الغلو في الدين؛ فإنَّ الشريعة المحمَّدية هي الشريعة السمحة المقسطة. 8 - أنَّ التكاليف الشرعية شرعت بقدر طاقة الإنسان، فهي مقدرة من الرب الحكيم العليم. 9 - أنَّ الوصال من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، لأنَّه الذي يقدر عليه، بلا كلفة ولا مشقة، ولا يلحقه في هذا المقام أحد؛ لأنَّ له مناجاة واتصالاً لا يصل إليهما غيره. 10 - أنَّ غروب الشمس وقت للإفطار، ولا يحصل به الإفطار، وإلاَّ لما كان للوصال معنى إذا أفطر بغروب الشمس، وأما معنى الحديث الذي في البخاري (1853) ومسلم (1100): "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا -فقد أفطر الصائم"؛ فإن المراد به: أنَّه دخل في وقت الإفطار، ويؤيده رواية البخاري: "فقد حل الإفطار"، ولو كان المراد به أنَّه أفطر فعلاً، لما صار معنًى لاستحباب تعجيل الفطر، وكراهية الوصال. 11 - يدل الحديث على أنَّ ما ثبت في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو ثابت في حق أمته إلاَّ ما خصَّه الدليل، ووجهه من الحديث قول الصحابة: "فإنَّك تواصل" لما

نهاهم عن الوصال. 12 - أنَّ للنَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خصائص ليست لأمته، وقد صنَّف فيها العلماء كتبًا، أوسعها "الخصائص الكبرى" للسيوطي. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الطعام والشراب المذكورين في الحديث على قولين: أحدهما: أنَّه طعام وشراب حسيٌّ؛ تمسُّكًا بلفظ الحديث. الثاني: أنَّه ما يفيض على قلبه -صلى الله عليه وسلم- من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب تشغله عن الطعام والشراب، فيستغني عنهما. ولو كان طعامًا حسيًّا لم يكن مواصلاً، ولم يقل -صلى الله عليه وسلم-: "لست كهيئتكم". وهذا أرجح القولين، وقد بسط القول فيه ابن القيم في "زاد المعاد". واختلفوا في حكم الوصال على ثلاثة أقوال: محرم، ومكروه، وجائز مع القدرة. فذهب إلى جوازه: عبد الله بن الزبير، وبعض السلف، ومنهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وأبو الجوزاء. وذهب إلى تحريمه: الأئمة الثلاثة. وذهب الإمام أحمد إلى التفصيل في ذلك: فهو جائز إلى السحر، مع أنَّ الأولى تركه، ومكروه أكثر من يوم وليلة. استدل المجيزون: بأنَّه -صلى الله عليه وسلم- واصل بأصحابه يومين، فهو تقرير لهم عليه، فإذا لم يُرِد المواصل التشبه بأهل الكتاب وأهل البدع، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر، لم يُمنع من الوصال. واستدل المحرمون: بأنَّ النَّهي يقتضي التحريم. وأما مواصلته بأصحابه: فلم يقصد التقرير، وإنما قصد التنكيل، كما هو

في بعض ألفاظ الحديث. والتفصيل الذي ذهب إليه أحمد وبعض السلف: قال عنه ابن القيم: إنَّه أعدل الأقوال؛ لما في البخاري (1827) من حديث أبي سعيد: "لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر". ***

551 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ، وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ -فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَع طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، واللَّفْظُ لَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من لم يدع: توارد على الفعل جازمان، والعامل في الفعل هو الثاني المباشر، أما الأول فيكون عاملاً في المحل. - يدع: من ودعته أدعه ودعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثم حذفت الواو، ثم فتح لمكان حرف الحلق. قال بعض المتقدمين: إن "ودع" من الأفعال التي أماتت العرب ماضيه، فلا يأتي إلاَّ أمرًا ومضارعًا، والمعنى: لم يترك، والحق أنَّ ماضيه لم يمت، وإنما هو كما قال في "المصباح": قليل الاستعمال، وإلاَّ فقد قرىء قوله تعالى: {مَا وَدَّعكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف. وقال الشاعر: "غَالبه في الحب حتى ودعه" بالتخفيف. وجاء مصدرًا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجُمُعَات" [رواه مسلم (865)]. - الزور: -بضم الزاي وسكون الواو آخره راء مهملة-: هو كل كلام مائل عن الحق، ومنه الكذب والبهتان، ومن أعظمه الشهادة الكاذبة في أخذ باطل، أو إبطال حق. - والعمل به: أي: العمل بمقتضى ما نهى الله عنه من شهادة الزور، وما نهى الله عنه. ¬

_ (¬1) البخاري (6057)، أبو داود (2362).

- الجهل: السفه، من شتم وسب وقذف، وهو ضد الحلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قول الزور هو القول المائل عن الحق إلى الباطل، فيدخل فيه كل كلام محرَّم: من الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والسب والشتم وغير ذلك. 2 - فكل قول زور فهو محرَّم في كل زمان ومكان، ولكن يعظم ويشتد إثمه إذا كان في زمان فاضل كرمضان، ومكان فاضل كالحرمين، وحالة فاضلة كالصيام. 3 - أما الجهل فهو ضد الحلم من السفه بالكلام الفاحش، فهو أيضًا محرَّم على كل حال، وحرمته من الصائم أعظم وأشد. 4 - أنَّ الصيام مع قول الزور والجهل والسفه ناقص المعنى، قليل الأجرة لأنَّه ليس صومًا تامًّا كاملاً، ولو كان كذلك لصان صاحبَه عن الأقوال المحرَّمة، وفضول الكلام. 5 - قوله: "فليس لله حاجة في أنَّ يدع طعامه وشرابه" -يراد به: بيان عظم ارتكاب قول الزور والجهل في حال الصيام، وإلاَّ فالله تعالى غني عن العالمين وأعمالهم. 6 - الصيام مع الكلام المحرم ظاهره الصحة، وأداء الواجب عن صاحبه؛ إذ أنَّه ليس من المفطرات الحسية. قال في "الإقناع": ولا يفطر بغيية ونحوها. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الكذب والغيبة يكرهان للصائم، ولا يفطرانه، فصومه صحيح في الحكم، وهذا مبنيٌّ على قاعدة هي: أنَّ التحريم إذا كان عامًّا لا يختص بالعبادة، فإنَّه لا يبطلها، بخلاف التحريم الخاص. 7 - من آداب الصائم ما قاله في "الإقناع": ويجب اجتناب كذبٍ، وغيبةٍ، ونميمةٍ، وشتمٍ، وفحشٍ، ونحوه، كل وقت، وفي رمضان، ومكان فاضل آكد، وألا يعمل عملاً يجرح به صومه، فيكف لسانه عما يحرم ويكره، وإن

شُتِمَ سن له جهرًا في رمضان أن يقول: إني صائم، وفي غير رمضان يقولها سرًّا، يزجر نفسه بذلك خوف الرياء. ويستحب الإكثار من قراءة القرآن، والذكر، والصدقة، لتضاعف الحسنات به. 8 - قوله: "فليس لله حاجة ... " فيه إثبات الحكمة من الشرائع، وأنَّ منها تهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق، واستقامة الطباع، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. 9 - المقصود من شرعية الصيام ليس نفس الامتناع عن المفطرات، والجوع والعطش، بل ما يتبع ذلك من كسر الشهوات، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة حتى تصير مطمئنة، فإن لم يحصل له شيء من ذلك لم يبال الله بصومه، ولا ينظر إليه نظر قبول. * فوائد: الأولى: قال إبراهيم النخعي: تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة فيما سواه، وأخبار مضاعفة الأعمال الصالحة في رمضان متظاهرة. الثانية: جاء في البخاري (5672)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت". فيسن للصائم أن يسعى في حفظ لسانه عن جميع الكلام، إلاَّ ما ظهرت مصلحته. الثالثة: جاء في البخاري (1805)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم". وظاهر الحديث أنَّه يجهر بذلك، واختاره الشيخ، وليس مختصًّا بالصائم، لكنه في حقه آكد.

552 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلَ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبِاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلكنَّهُ كَانَ أمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: "في رَمَضَانَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يباشر: المباشرة مأخوذة من: البشرة، وهو ظاهر الجلد، ويراد بها هنا: القُبلة، واللمس لشهوة، وهو من عطف العام على الخاص، فالخاص القبلة، والعام المباشرة. - إربه: بكسر الهمزة وسكون الراء المهملة وكسر الباء الموحدة التحتية، المراد به هنا: الذكر خاصة، والمعنى: أنَّه كان غالبًا لشهوته. قال النووي: رويت هذه اللفظة بكسر الهمزة وإسكان الراء، وبفتح الهمزة والراء، ومعناها بالكسر: الحاجة، وكذا بالفتح، ولكنه أيضًا يطلق على العضو، وأريد به الذكر من الأعضاء خاصة. - أملككم: من ملك يملك مُلكًا وملَكَة، وأملك اسم تفضيل، قال في "المحيط": ملك نفسه عند شهوتها؛ أي: قدر على حبسها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على جواز تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم في رمضان، ولكنه يقيد بما إذا كان الإنسان يعلم من نفسه أنَّ القبلة لا تحرك شهوته. 2 - كما يدل على جواز مباشرة الرجل زوجته، وهو صائم، بقيد ثقته من نفسه، بعدم ثوران شهوة واحد منهما. ¬

_ (¬1) البخاري (1927)، مسلم (1106).

3 - قال في "الإقناع وشرحه": وتكره القبلة ممن تحرك شهوته فقط؛ لحديث عائشة، فإن ظنَّ الإنزال مع القبلة حرم بغير خلاف. ولا يكره ممن لا تحرك شهوته، وكذا دواعي الوطء كلها: من اللمس، وتكرار النظر، حكمها حكم القبلة. ويؤيد هذا التفصيل: ما جاء في أبي داود (2387) من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها شابًّا، ورخَّص فيها لشيخٍ، وقد قال الإمام الشافعي: لا بأس بها إذا لم تحرك شهوته. 4 - النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل ويباشر وهو صائم، ولكنه أملك الناس لنفسه من أن يحصل من قبلته إنزال، أو هيجان نفس، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ولكنه كان أملككم لإربه". 5 - جواز الحديث والإخبار عن الأشياء التي يستحيى منها؛ وذلك لإظهار الحق فيها، أو بيان للطبيب المعالج، أو ذكر لك في مجال القضاء، وفصل الخصومات، والتعليم. 6 - فائدة زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وبركتهن على الأمة، فقد نقلن من الأحكام الشرعية ما لا يطلع عليه إلاَّ هنَّ. 7 - لو قبَّل أو باشر فأنزل، فمذهب الأئمة الأربعة أنَّه يفطر، وحكى الإجماع في ذلك ابنُ المنذر والموفق ابن قدامة وغيرهما، وهو الصواب؛ لما جاء في الحديث القدسي: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". 8 - أما خروج المذي من المباشرة، فالمشهور من المذهب أنه يفطر، وعليه أكثر الأصحاب، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه لا يفطر بالإمذاء، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين، واستظهره في "الفروع"، وصوبه في "الإنصاف"، وذلك عملاً بالأصل، وأما قياسه على المني، فلا يصح لظهور الفروق بينهما، فالأقسام ثلاثة إذن:

(أ) المباشرة أو التقبيل بدون إنزال مني، ولا مذي، لا تفسد الصوم بالإجماع. (ب) المباشرة والتقبيل مع إنزال المني تفسد الصوم، حُكي في ذلك الإجماع. (ج) المباشرة أو التقبيل مع إنزال المذي دون المني، فيه خلاف، والراجح أنَّه لا يفسد الصوم. 9 - قولها: "كان أملككم لإربه" تشير به إلى أنَّ الذي لا يملك إربه، ولا يستطيع أن يملك شهوته عند القبلة أو المباشرة، أنه لا يحل له أن يقبل أو يباشر، وهو صائم صومًا واجبًا. 10 - في الحديث دليل على جواز ذكر الأحوال الجنسية عند الحاجة إلى ذكرها، من إظهار حق، وفقه في الدين، ومن وصف لطبيب ونحو ذلك، وأنه لا يعاب ذاكر ذلك للمصلحة. 11 - الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنهما- ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بالقُبلة ثم ثنت بالمباشرة. ***

553 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). 554 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: أفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - البقيع: -بفتح الباء وكسر القاف بعدها ياء مثناة تحتية ثم عين مهملة- وهو مقبرة أهل المدينة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1938). (¬2) أحمد (16489)، أبو داود (236)، النسائي في الكبرى (3144)، ابن ماجه (1681)، ابن خزيمة (1964)، ابن حبان (3533).

555 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ؛ أنَّ جَعْفَرَ بْنَ أبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أفْطَرَ هَذَانِ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعْدُ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ؛ وَكَانَ أنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: الحديثان (554، 555) صحيحان. قال الإمام أحمد والبخاري عن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم": إنَّه أصح حديث في الباب، وقال الإمام أحمد: أحاديث "أفطر الحاجم والمحجوم" يشد بعضها بعضًا، وقال الطحاوي وغيره: هي أحاديث متواترة عن عدة من الصحابة، وقال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بيَّنها الأئمة الحفاظ، وقال ابن القيم في "شرح سنن أبي داود": الثابت أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم، وأما قوله: "وهو صائم" فإنَّ الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة وبيَّن أنَّها وهمٌ، ووافقه غيره في ذلك، والذي في الصحيحين: "احتجم وهو محرم". اهـ. وقال في "المغني": حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" -رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد عشر نفسًا. أما حديث شداد بن أوس: فصحَّحه غير من ذكر، مثل إسحاق وابن المديني وابن خزيمة والحاكم وعثمان الدارمي، وقال الزيلعي: إنَّه روي عن ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 182).

ثمانية عشر صحابيًّا، وممن صححه ابن عبد البر وابن حزم. وقال الذهبي: قوله: "بالبقيع" خطأ فاحش؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يوم التاريخ المذكور في مكة، اللَّهمَّ إلاَّ أن يريد بالبقيع: السوق. وأما حديث أنس: فقال الدارقطني: رجاله كلهم ثقات، ولا أعلم له علة، وقال الحافظ: رجاله كلهم رجال البخاري. وأما من ردَّه: فمنهم صاحب "التنقيح"، فقد قال: هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به؛ لأنَّه شاذُّ المتن والإسناد، وضعفه ابن القيم، ففيه نكارة حيث جاء فيه: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بجعفر يوم الفتح وهو يحتجم، وجعفر قد استشهد قبل الفتح يوم مؤتة. * مفردات الحديث: - بَعْدُ: مبني على الضم؛ لقطعه عن الإضافة مع نية المضاف إليه؛ أي: بعد ذلك. - الحجامة: يقال: حجم حجمًا من باب قتل، والحِجامَة بالكسر: اسم الصناعة. قال في "المحيط": وهي أن يشرط الجلد بالمشراط، ثم يلقي في المحجمة قرطاس ملتهب أو قطن ونحوه، ويلزم بها مكان الشرط فيجب الدم بقوة، وفائدتها جذب المادَّة إلى جهتها، واستفراغ الدم بقوة الامتصاص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث رقم (553) جواز الحجامة للمحرم بحج أو عمرة، وجواز الحجامة للصائم فرضًا، أو نفلاً. 2 - الإمام أحمد وغيره من رجال الفقه والحديث طعنوا في زيادة: "وهو صائم"، وقالوا: الثابت: "احتجم وهو محرم". قال ابن القيم في "شرح السنن": الثابت: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم"، أما وهو صائم فإنَّ الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة، ووافقه غيره في ذلك، والذي في الصحيحين: "وهو محرم".

3 - أما الحديث رقم (554): فإنَّه صريح في أنَّ الحجامة تفسد صوم الحاجم والمحجوم. 4 - أما الحديث رقم (555): فيدل على كراهة الحجامة للصائم، وعلى أنَّها تفطر الحاجم والمحجوم في أول الأمر، ثم رخَّص فيها في آخر الأمر. 5 - الكراهية عند السلف يراد بها: كراهة التحريم. 6 - الحكمة في إفطار المحجوم: أنَّ الحجامة تسحب الدم الذي في بدن الصائم، مما يسبب له إنهاكًا وضعفًا، مع ضعف الصيام، فمن رحمة الله تعالى بعباده أنَّ صارت الحجامة تفطر؛ لئلا يجتمع على المسلم الصائم عاملا ضعف في آنٍ واحد. وأما سبب إفطار الحاجم: فقد كانت الحجامة بأن يمص الحاجم الدم بواسطة محاجمه، فيصل إلى جوفه من دم الحجامة، مما يسبب له الإفطار. 7 - مثل الحجامة في الإفطار فصد العرق، وسحب الدم الكثير بواسطة الإبر المستعملة في المستشفيات، بجامع أنَّ كل هذا إخراج للدم من البدن، وإخراجه يسبب الإنهاك والضعف للصائم، مما يسبب إفطار الصائم. والإفطار بالفصد، وسحب الدم -على القول الراجح، الذي اختاره شيخ الإسلام- مقتضى القياس. 8 - خروج الدم اليسير من خلع ضرس، أو سحب عينة دم لتحليل، أو جرح، ونحو ذلك- لا يفطر الصائم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الحجامة: هل تفطر الصائم، أم لا؟ ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّها لا تفطر؛ لما روى البخاري عن ابن عباس: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم محرم". ورخَّص في الحجامة: أبو سعيد، وابن مسعود، وأم سلمة، والحسين بن

علي، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ الحجامة تفطر؛ لما في المسند والترمذي من حديث رافع بن خديج أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". قال أحمد والبخاري: إنَّه أصح حديث في الباب. ولأبي داود عن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، قال الإمام أحمد: أحاديث "أفطر الحاجم والمحجوم" يشد بعضها بعضًا، وأنا أذهب إليها. قال الطحاوي وغيره: هي أحاديث متواترة عن عدة من الصحابة. قال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بيَّنها الأئمة الحفاظ، والقول بأنَّها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، كأحمد، وإسحاق، وابن خزيمة، وابن المنذر، وهو الموافق للقياس، والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما في صحيح البخاري (1836): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم محرَّم". ولكن أحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله: "وهو صائم"، وقالوا: الثابت "أنَّه احتجم وهو محرم"، قال أحمد: "وهو صائم" خطأ من قبيصة. قال شيخ الإسلام: وما ذكره أحمد هو الذي اتَّفق عليه الشيخان. وأحاديث الفطر صريحة صحيحة متعددة الطرق، رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر نفسًا، وساق الإمام أحمد أحاديثهم كلها، فكيف يقدم عليها أحاديث هي بين أمرين: صحيحٌ لا دلالة فيه، أو فيه دلالةٌ، ولكن غير صحيح. والصواب الفطر بالحجامة والفصد والتشريط، وسحب الدم الكثير من البدن الموجود في الحجامة موجودٌ في هذه الأشياء طبعًا وشرعًا.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من المحققين، رحمهم الله تعالى. * فوائد: الأولى: أجمع العلماء على أنَّ الأكل والشرب والجماع مفطرات. واختلفوا في الحجامة، والكحل، والإنزال بدون جماع، والإمذاء، ونحو ذلك، وقد تقدم تفصيل ذلك. الثانية: تقدم لنا أنَّ سحب الدم الكثير يفطر الصائم، كالحجامة -على القول الراجح- فلو فرضنا أنَّ مريضًا مضطرًا إلى إسعافه بالدم قبل المغرب، فإنَّه يباح لمن يراد سحب الدم منه الفطر بالسحب؛ لأجل إنقاذ المعصوم. الثالثة: إذا جيء بالعبادة على المقتضى الشرعي، فادَّعى أحد فسادها أو بطلانها، فإنَّ عليه الدليل على ذلك، وإلاَّ فقوله لا يقبل بنقص عبادة، أو بطلانها ظاهرها الصحة إلاَّ بدليل. الرابعة: إنَّ الشارع إذا شرع عبادة بيَّن أركانها وشروطها وواجباتها، حسبما اصطلح عليه علماء الأصول، كما بين مبطلاتها ومفسداتها، فإنَّ الأشياء لا تتم إلاَّ ببيان ما يكملها، وما يفسدها، وما يبطلها. إذن فلا يحل لأحد أن يدَّعي بطلان أو فساد عبادات الناس من تلقاء نفسه، أو بحكم يفرضه من عنده، فإنَّ هذا اعتداء على الخلق في عبادتهم، وعدوان في حق الخالق في شرعه.

556 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لاَ يَصِحُّ فِي هَذا البَابِ شَيءٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * أحاديث الاكتحال: وردت أحاديث تجيز الاكتحال للصائم، وأحاديث تمنع الصائم منه، وبناءً على هذا التعارض، فقد رخص فيه بعض العلماء، ومنهم الإمام الشافعي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم. ومنعه بعضهم، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق، وسفيان، وابن المبارك. والأحاديث التي تجيز الاكتحال للصائم، والأحاديث التي تمنع منه -كلها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة للطرفين، وهذا طرف منها: 1 - حديث عائشة: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اكتحل وهو صائم". قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء، وقال ابن القيم في "الهدي": روي عنه: "أنه اكتحل وهو صائم"، ولا يصح. 2 - حديث ابن عمر: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- خرج عليهم في رمضان، وعيناه مملوءتان من الإثمد". رواه الترمذي، وقال: ولا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب شيء، قال ابن القيم في الهدي: لا يصح. 3 - حديث معبد بن هوذة: "أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر بالأثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم" [رواه أبو داود (2377)]، قال أحمد: حديث منكر، وقال ابن ¬

_ (¬1) ابن ماجه (1678).

معين: هذا حديث منكر، وقال ابن عدي: هذا حديث موقوف، وقال البيهقي: لا يثبت مرفوعًا، وقال ابن القيم: لا يصح. وإذا لم تثبت الأحاديث المجيزة، ولا الأحاديث المانعة -فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من استصحاب البراءة الأصلية، التي لا ننتقل عنها إلاَّ بدليل، وليس في الباب دليلٌ على الإفطار بالكحل، والله أعلم. * فائدة: المفطرات قسمان: الأول: مُجمع عليه بين العلماء وهو: 1 - الردة عن الإسلام؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. 2 - الأكل والشرب عمدًا، ومنه الدخان؛ قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. 3 - الجِماع؛ وهو تغييب حشفة الذكر في فرج، قبلاً كان أو دبرًا، ولو في بهيمة، فيفطر كل من الواطىء والموطوء المطاوع؛ لما في البخاري (1834) ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكتُ، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أنَّ تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا ... " الحديث. 4 - إنزال المني باختياره بمباشرة بما دون الفرج كاللمس، أو القُبلة، أو الغمزة، ونحوها، أو المساحقة، أو الاستمناء؛ لأنَّ نزول الشهوة منافية للصوم وحكمته. 5 - خروج دم الحيض والنفاس. 6 - الحقنة المغذية التي يُسْتغنى بها عن الطعام والشراب، فهذا نوع من الغذاء، ومثل ذلك حقن الصائم بالدم؛ فإنَّه يمد الجسم بعناصر الغذاء المغنية عن

الطعام والشراب. 7 - القيء إذا أخرجه متعمدًا؛ لما روى أبو داود (2380) والترمذي (720) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من" استقاء عمدًا، فليقضِ". هذه هي الأشياء المجمَع على أنَّها من مفسدات الصوم، ومفطرات الصائم، وتقدم صحة القول بالفطر من الحجامة، وما شابهها من تعمد إخراج الدم الكثير من البدن. النوع الثاني: أشياء اختلف العلماء فيها: فبعضهم يرى أنَّها تصل إلى الجوف، وأنها مفطرةٌ، ومفسدةٌ للصوم، وبعضهم يرى أنَّها ليست من الطعام والشراب والغذاء، وأنَّه ليس لها تأثير في التغذية، وإعطاء الجسم فصيبًا من الغذاء، وأنَّه لا يوجد ما يدل على أنَّها من أنواع المفطرات، فلا تفطر، ذلك مثل: الكحل، قطرة العين، قطرة الأذن، قطرة الأنف، الحقنة الشرجية، التقطير في الإحليل، إبرة الدواء، دواء الربو الذي يستنشقه المريض، دواء الجائفة والمأمومة، وبلع النخامة من أي موضع خرجت من البدن. اختلف العلماء في الإفطار بهذه الأشياء، وفساد الصوم بها: فبعضهم يراها كلها مفطرةً للصائم؛ لما لها من نفوذ في البدن، ووصول إلى الجوف، وبعضهم يرى أنَّ بعضها يفطر، ويفسد الصوم. وهذا الاختلاف راجع إلى اجتهادهم فيها، وتصورهم فيما تحدثه في بدن الصائم، واعتبارهم كل ما وصل إلى الجوف فهو مفطر مفسد للصوم، فممن يرى الإفطار بهذه الأشياء كلها القول المشهور في مذهب الإمام أحمد، فأصحابه مشوا في إجراء كل ما وصل إلى الجوف من أي موضع نفذ مجرى المفطرات. أما شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وكثير من رجال الحديث ممن تمسكوا بالآثار-: فلا يرون الفطر من هذه الأشياء وأمثالها.

استدل القائلون بالإفطار بهذه الأمور على قولهم بأمرين: الأول: ما رواه أبو داود (142)، والترمذي (788) من حديث لقيط بن صبرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وبالغ في الاستنشاق، إلاَّ أن تكون صائمًا". الثاني: القياس، فقد قاسوا هذه الأمور على الأكل والشرب، بجامع وصولها إلى الجوف، فإنَّما حصل بالأكل والشرب لوصوله إلى الجوف، وهذه الأمور لها نفوذ وقوة تصل بهما إلى الجوف، وكل ما وصل إلى الجوف فهو مفطر للصائم. الجواب عن هذا: أولاً: أنَّه لا يوجد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح، ولا ضعيف، ولا مسند، ولا مرسل، يدل على أنَّ هذه الأمور من المفطرات. ثانيًا: إنَّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا عامًّا، ولابد أنَّ تنقله الأمة، فإذا انتفى هذا، عُلِم أنَّ هذا ليس من دينه، فالقياس وإن كان حجة، فالأحكام الشرعية التي الأمة بحاجة ماسة إلى بيانها لا تترك للقياس، وإنما تبينها النصوص الشرعية. ثالثًا: النص والإجماع أثبت الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، فأما الكحل والحقنة والدواء والقطرة، ونحو ذلك فليست طعامًا ولا شرابًا، وإنما هي أدوية لمكافحة الأمراض، ومقاومة الجراثيم، فهي أشياء مبيدة لا أشياء مغذية مفيدة، والعلة الشرعية في الإفطار ليست هي مجرد وصول أية مادَّة إلى الجوف لتكون مناط الحكم، فتلحق هذه الأمور بما يصل إلى الجوف من الطعام والشراب، وإنما يكون الإفطار من أحد الأمرين: 1 - إما وصول طعام أو شراب إلى المعدة ليمد الجسم بالتغذية، ويحصل به الأكل والشرب، فيتولد الدم الكثير الجاري في الأوراد والشرايين، التي يجد الشيطان مجاله فيها واسعًا، فيجري معها بإغواء بني آدم ووسوسته لهم، فمناط

الإفطار ليس وصول الشيء إلى الجوف أو الحلق، إنما مناط الحكم أن يصل الشيء إلى المعدة، وششحيل إلى ما يتغذى به الإنسان، فيكون أكلاً وشربًا. 2 - وإما خروج أشياء منكهة للجسم ومضغفة له، فتزيده ضعفًا إلى ضعف الصيام؛ وذلك كالجماع، والحجامة والحيض والنفاس، والقيء، فمنع الشارع الصائم منها رحمةً به، وشفقةً على قواه؛ لئلا يزيد ضعفه إلى ضعف آخر. فهذان العنصران هما أساس الإفطار، وهذه الأمور ليست واحدًا منهما، ولا يمكن قياسها عليهما؛ إذ لا يجمع بين متفرق. رابعًا: حديث لقيط بن صبرة لا دلالة فيه، فإنَّ المحذور من المبالغة في الاستنشاق هو وصول الماء إلى الحلق، ثم إلى المعدة؛ فإنَّ الأنف ينفذ إلى المعدة، ولذا فإنَّ كثيرًا من المرضى يطعم من أنفه إلى معدته، والماء من المجمع عليه أنَّه من المفطرات، فالتحذير من الماء واقع موقعه، والماء ليس مثل هذه الأمور، ولا تقاس عليه كما تقدم، والله أعلم. ***

557 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ". مُتَّفَقٌ عليْهِ. وللحاكم: "مَنْ أفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيهِ، وَلاَ كفَّارَةً". وَهُوَ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد رواه الحاكم وصححه. قال المؤلف: وهو صحيح، قال الشيخ الألباني: الرواية الرابعة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بلفظ؛ "من؛ أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة" أخرجه ابن حبان (3521) والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه الدارقطني (2/ 178) والبيهقي (7863) وقالا: كلهم ثقات، قلتُ: وإسناده حسن. * مفردات الحديث: - فليتم صومه: "اللام" لام الأمر، والميم مفتوحة؛ لأنَّه مضاعف. - فإنما: تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك: أنَّ الرزق لما كان من الله ليس فيه للعبد تحيل، فلا ينسب إليه، شبَّه الأكل ناسيًا به؛ لأنَّه لا صنع للعبد فيه. - إنما: أداة حصر، ومعناها: ما أطعمه، ولا سقاه إلاَّ الله؛ ليدل على أنَّ النسيان من الله، وأنَّه من لطفه بعباده. ¬

_ (¬1) البخاري (1933)، مسلم (1155)، الحاكم (1569).

558 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ذَرَعَهُ القَىْءُ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ، فَعلَيْهِ القَضَاءُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَأَعلَّهُ أَحْمَدُ، وقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن، حسنه الترمذي، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الدارقطني وعبد الحق: رجاله كلهم ثقات، وضعفه بعضهم، فقال البخاري: لا أراه محفوظًا، وأنكره الإمام أحمد، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء. * مفردات الحديث: - ذَرَعَهُ القيء: بفتحات ثلاث، أي: سبقه وغلبه وقهره، ومثله قولهم: ضاق ذرعي عن كذا، أي: ضعفت قوتي، والقيء: ما قذفته المعدة. - استقاء: طلب إخراج القيء من جوفه باختياره. * ما يؤخد من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على أنَّ الأكل والشرب القيء من العامد الذاكر المختار يفطر الصائم، ويفسد الصيام، وهو إجماع علماء المسلمين؛ لأنَّ الصيام هو الإمساك عن المفطرات زمنًا مخصوصًا. 2 - أنَّ الأكل أو الشرب من الناس لا يفسد الصوم، ولا يفطر به الصائم، فقوله: "فليتم صومه" دليل على أنَّ هناك صومًا يتم، ويدل على هذا المعنى قوله ¬

_ (¬1) أحمد (10058)، أبو داود (2380)، الترمذي (720)، النسائي في الكبرى (2/ 215)، ابن ماجه (1676)، الدارقطني (2/ 184).

تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] والنسيان ليس من كسب القلب. 3 - معنى إطعام الله تعالى وإسقائه: أنَّ الله تعالى من لطفه يسَّر له هذه الأكلة أو الشربة، حينما أنساه صيامه وحاله، فصار هذا الرزق المباح مسوقًا من الله كما جاء في رواية الترمذي (721): "إنَّما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه"، فالنسيان والخطأ من الأفعال الضرورية التي لا تضاف مسؤولية حكمها، وما يترتب عليها إلى فاعلها، إلاَّ أنَّها في إتلاف ما للعباد تغرم، من باب سد الذريعة، ولأنَّ حقوق العباد مبنية على الشح والضمان. 4 - كما أنَّ من أكل أو شرب ناسيًا لا قضاء عليه، فإنَّه أيضًا لا كفارة عليه؛ ذلك أنَّ الكفارة شرعت لتكفير الهفوات والذنوب، وترقيع النقص الذي حصل في العبادة، ومن فعل ذلك ناسيًا، فإنَّه لا ذنب عليه، ولا نقص في عبادته، لتحتاج إلى تكفير وترقيع، على أنَّ الكفارة عبادة من العبادات، ولا تشرع إلاَّ بنص من الشارع، ولم يوجد نص إلاَّ في الجِماع في صيام شهر رمضان، أداءً لحرمة الزمن نفسه. 5 - قوله: "من ذرعه القيء، فلا قضاء عليه" -دليل على أنَّ الإكراه على الفطر لا يقع به إفطار؛ لأنَّه لا قصد منه ولا تعمد، فلا ينسب الفعل إليه، وقد جاء في الحديث: "عفي لأمتي عن: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". 6 - أما من استقاء وطلب خروجه، فعليه القضاء؛ لتعمده الفطر. قال الشيخ: فقد نهى عن إخراج ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب الذي يتغذى به، كما يوجب إخراجه نقصان بدنه أو ضعفه، فإذا خرج منه ضرَّه، وكان متعديًا في عبادته، لا عادلاً فيها. 7 - عدم الفطر بالأكل والشرب ناسيًا هو مذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور العلماء، واعتذر بعض المالكية عن الأخذ بالحديث؛ بأنه خبر واحد

مخالف لقاعدة الإفطار. ولكن قولهم مردود بالنص الصريح الصحيح الذي يؤيده قاعدة إسلامية مستقلة، أرساها كثير من النصوص الكريمة: {عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268] وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان". وعدل الله تعالى أنه لا يؤاخذ إلاَّ من قصد وتعمد. * اختلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن جامع ناسيًا: فالمشهور من مذهب الإمام أحمد وغيره: أنَّ عليه القضاء والكفارة؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل فيه الرجل الذي قال: هلكتُ، أما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد: فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ لأنَّ الكفارة ماحية للذنب، ومع النسيان والإكراه والجهل لا إثم يمحى. قال ابن عبد البر: الصحيح أنَّ الجماع كالأكل في الإكراه والجهل، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو قياس أصول أحمد وغيره. وعليه فيكون قوله: "من نسي فكأل أو شرب" مثالان في الباب، ويؤيد هذا القول: رواية الحاكم (1557)، عن ابي هريرة: "من أفطر في رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة" فلفظ: "أفطر" عام في الجماع وغيره. وقوله: "ولا كفارة"، تفيد الجِماع؛ لأنَّ الكفارة لا تكون إلاَّ في الجماع، وإنما مثل بالأكل والشرب لكونهما الغالب في النسيان. * فائدتان: الأولى: المفطرات: 1 - الجماع: وهو نفس تغييب الحشفة في قُبل أو دبُر، ولو لم يحصل إنزال، وهو أعظم المفطرات؛ لأنَّه يوجب مع القضاء الكفارة في الجملة. 2 - إنزال المني باختياره، ولو بدون جماع.

3 - الأكل والشرب، ومنه شرب الدخان. 4 - الإبرة المغذية التي يقصد منها إيصال الغذاء إلى البدن؛ سواء كانت في العضل، أو الوريد. 5 - إخراج الدم الكثير بالحجامة، أو الفصد، أو سحبه. 6 - خروج دم الحيض والنفاس. 7 - حقن الدم في البدن. 8 - تعمد القيء. الثانية: غير المفطرات: 1 - الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات من الناسي. 2 - الكحل، وتقطير الأنف أو الأذن، ودواء الجروح في أي مكان من البدن. 3 - الإبرة التي يقصد بها إيصال الدواء إلى البدن؛ سواء في العضل؛ أو الوريد. 4 - خروج المني أو المذي بغير اختياره. 5 - دواء الربو باستنشاقه. ونحو هذه الأشياء، فهي أمور فيها خلاف بين الفقهاء، ولكن الأرجح عدم الإفطار بها، فإنَّ شيخ الإسلام أرجع المفطرات كلها إلى نوعين: أحدهما: أشياء تفيد البدن وتغذيه وتقويه، مثل الأكل والشرب، وما ناب عنهما. الثاني: أشياء يحصل من خروجها من البدن ضعف له وإنهاك، فمُنعت رحمةً بالصائم؛ لئلا يجتمع عليه ضعف الصيام، وما ينهك بدنه، وذلكم مثل الجماع والحجامة. لما ذكر الشيخ الأشياء التي اختلف العلماء في الإفطار بها مثل الكحل والحقنة -قال: إنَّ الصيام من دِين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد

الصوم بها لبينها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعلمه الصحابة، ولبلغوه، كما تلقوا سائر شرعه، فلما لما تبلغ، عُلِم أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر شيئًا في ذلك. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات في مجال التداوي: (رقم 93): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23/ 28 صفر 1418 هـ الموافق 28/ حزيران "يونيو" 3/ تموز "يوليو" 1997 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من (9/ 12 صفر 1418 هـ الموافق 14/ 17 حزيران "يونيو" 1997 م)، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء. قرر ما يلي: أولا: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: 1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 3 - ما يدخل المهبل من تحاميل "لبوس"، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع، للفحص الطبي. 4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.

5 - ما يدخل الإحليل، أي: مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، من قسطرة "أنبوب دقيق" أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة. 6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك، وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق. 8 - الحقن العلاجية الجلدية، أو العضلية، أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية. 9 - غاز اكسجين. 10 - غازات التخدير "البنج"، ما لم يعط المريض سوائل "محاليل" مغذية. 11 - ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد؛ كالدهونات، والمراهم، واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية. 12 - إدخال قسطرة "أنبوب دقيق" في الشرايين لتصوير، أو علاج أوعية القلب، أو غيره من الأعضاء. 13 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها. 14 - أخذ عينات "خزعات" من الكبد، أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل. 15 - منظار المعدة، إذا لم يصاحبه إدخال سوائل "محاليل"، أو مواد أخرى. 16 - دخول أية أداة، أو مواد علاجية إلى الدماغ، أو النخاع الشوكي. 17 - القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد "الاستقاءة". ثانيًا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث

والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية، وآثار عن الصحابة. (أ) بخاخ الربو، واستنشاق أبخرة المواد. (ب) الفصد، والحجامة. (ج) أخذ عينة من الدم المخبر للفحص، أو نقل دم المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول. (د) الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنًا في الصفاف "الباريتون"، أو في الكلية الاصطناعية. (هـ) ما يدخل الشرج من حقنة شرجية، أو تحاميل "لبوس"، أو منظار، أو إصبع للفحص الطبي. (و) العمليات الجراحية بالتخدير العام، إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل، ولم يعط شيئًا من السوائل "المحاليل" المغذية. والله أعلم. ***

559 - وَعَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله -رَضِيَ اللهُ عنهُمَا-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بلَغَ كُرَاعَ الغَمِيم، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فشَرِبَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذلكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ العُصَاةُ، أوْلَئكَ العُصَاةُ". وَفِي لَفْظٍ: "فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ العَصْرِ، فَشَرِبَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عام الفتح: المراد به: فتح مكة المكرمة؛ وذلك في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة. - كُراع: بضم الكاف وفتح الراء المهملة، ثم ألف آخره عين مهملة، كراع كل شيء: طرفه، والكراع: ما سال مستطيلاً من أنف جبل أو حرة، جمعها: كرعان. - الغميم: بفتح الغين المعجمة وكسر الميم ثم ياء ساكنة آخره ميم، وكراع الغميم: وادٍ على طريق مكة المكرمة إلى المدينة المنورة يبعد عن مكة بـ (64) كيلو متر، ويعرف عند أهل تلك الجهة ببرقاء الغيم، وهو وادي عسفان، وينتهي مصبه في البحر الأحمر، في الشمال الغربي من جدة. ¬

_ (¬1) مسلم (1114).

- أولئك العصاة: جمع: عاص، والعاصي هو المخالف للأمر الخارج عن الطاعة، وسماهم عصاة؛ لأنهم شددوا على أنفسهم، ولم يقبلوا الرخصة. - قدح: بفتحتين، هو إناء يشرب فيه الماء ونحوه. - أولئك العصاة: كررها تأكيدًا لزجرهم عن مخالفة الحكم الذي بالغ في بيانه برفع الإناء حتى يراه الناس، فيبادروا إلى الامتثال والأخذ بالرخصة. - شق: بفتح الشين المعجمة، وتشديد القاف، يقال: شق يشق شقًا ومشقة، من باب قتل: صعب عليه الأمر واشتد، والمعنى: تكلفوا من الصيام في الحر. ***

560 - وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍ والأسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ الله، إنِّي أجِدُ فِيَّ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أخَذَ بِهَا فَحَسَن، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَصُومَ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو سَأَلَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - هي رخصة: الضمير عائد إلى معنى السؤال أتت باعتبار الخبر، والرخصة لغة: التسهيل في الأمر والتيسير. واصطلاحًا: ما جاء على خلاف دليل شرعيٍّ لعارضٍ راجحٍ. - جُناح: بضم الجيم وتخفيف النون آخره حاء مهملة، قال في المحيط: قيل: هو معرب "كناه" بالفارسية وهو الإثم، قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَليْهِ} [البقرة: 158] أي فلا حرج ولا إثم. * يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على جواز الفطر من صيام شهر رمضان في السفر، وأنه رخصة، كما تدل على ذلك الآية الكريمة: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فاليسر والسهولة على العباد من مقاصد الرب تبارك وتعالى في أمور الدين. 2 - كما يدلان على جواز الصيام في السفر، وصحته، وإجزائه عن صاحبه ¬

_ (¬1) البخاري (1841)، مسلم (1121).

إجماعًا، فقد رخَّص لحمزة الأسلمي في الصيام والفطر. 3 - أما قوله: لمن لم يفطر: "أولئك العصاة"؛ فلمخالفتهم وعدم امتثالهم أمره بالإفطار، في حال يتعين عليهم؛ لما جاء في بعض ألفاظه: "أنهم قد شقَّ عليهم الصيام". 4 - يستحب لمن هو قدوة في الأعمال الشرعية، وهم العلماء وأهل الدين أن يبينوا للناس الأحكام الشرعية في أقوالهم وأعمالهم؛ ليكونوا قدوة في ذلك، وليحصل بهم التأسي، وراحة الضمير عند العامة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، فشرب. 5 - يدخل وقت رخص السفر التي منها الفطر في نهار رمضان إذا شرع في السفر، وفارق عامر بلده. 6 - وللعلماء تقييدات في السفر الذي تباح فيه الرخص بالمسافة والمدة والإباحة، أما الشيخ تقي الدين فيقول: إنَّ الشارع ذكر السفر، وأطلقه بدون ذكر مسافة ولا مدة، وجعل، لك راجعًا إلى العرف، فأي سفر في عرف الناس فهو السفر الذي علَّق به الشارع الحكيم تلك الأحكام والرخص، والتحديد لم يثبت به نصٌّ، ولا إجماعٌ، ولا قياسٌ، وليس مع المحددين حجةٌ. 7 - لا يشترط -على الصحيح- إباحة السفر، بل تؤتى الرخص في سفر الطاعة والمعصية، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار الموفق، والشيخ تقي الدين. 8 - قال شيخ الإسلام: أجمع الأئمة على جواز الصيام والفطر في نهار رمضان للمسافر، واختلفوا في الأفضل منهما. فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ الصوم لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة أفضل، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه".

وذهب الإمام أحمد وأصحابه إلى: أنَّ الفطر في رمضان أفضل، ولو لم يلحقه مشقة؛ لما في البخاري (1844) ومسلم (1115) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليسَ من البر الصيام في السفر"، وحديث: "إنَّ الله يحب أنَّ تؤتى رخصه" [رواه أحمد (5600)]. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم صوم رمضان في السفر على ثلاثة أقوال: فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ الصوم أفضل، واستدلوا على ذلك: بأنَّه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه أسرع في إبراء الذمة، وأنَّه أيسر أداء؛ إذْ صام والناس صائمون. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ الفطر أولى، وأنَّ الصوم مكروه، وعلَّل ذلك بأنَّه رخصة من الله تعالى، يبنغي للمسلم أن يسارع إلى قبولها، والتمتع بها، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته" [رواه مسلم (686)]. وذهب بعض العلماء إلى: جواز الأمرين، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم (1116) من حديث جابر قال: "سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيصوم الصائم، ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض". وقالت طائفة من العلماء: أفضل الأمرين أيسرهما عليه؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]. وعدم كراهة أحدهما أرجح، ما لم يكن في الصوم مشقة كبيرة، أو كان يمنع من القيام بأعمال فاضلة في السفر، فحينئذٍ الفطر يكون أفضل؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر، فمنا الصائم ومنَّا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حارٍ، فسقط الصائمون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذهب المفطرون اليوم

بالأجر" [رواه البخاري (2733) ومسلم (1119)]. * فوائد: الأولى: جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة، فقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ولما كان السفر -غالبًا- فيه مشقة، خفِّف فيه، فرخص الله تعالى الفطر في نهار رمضان، فهي رخصة يستحب التمتع بها؛ لأنَّها من رخص الله التي أباحها فضلاً منه، وإحسانًا على خلقه، ويُحب أن تؤتى. الثانية: استحباب الفطر للمسافر في نهار رمضان، وأما صيام يوم عرفة في السفر وعاشوراء فنص الإمام أحمد على استحباب صيامه، وهو قول طائفة من السلف، ولعلَّ الفرق بين رمضان وهذين اليومين أنَّ رمضان إذا فاتت أيامه قضى صومه، بخلاف عرفة وعاشوراء، فلا يقضى الصيام بفوتهما. الثالثة: قال الشيخ: ويفطر من عادته السفر كصاحب البريد والمكاري والملاح إذا كان له بلد يأوي إليه. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إذا كان الإنسان المسافر يحمل أهله معه، أو ليس له أهل، فإنَّه يلزمه الصيام؛ لأنَّ سفره هذا غير منقطع، وإن كان له أهل، ولكن لا يحملهم معه، فهو يخير بين الصيام والإفطار. ***

561 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "رُخِّصَ لِلْشيْخِ الكَبِيرِ أنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْم مِسْكِيْنًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديت صحيحٌ. أخرجه الحاكم وصحَّحه، وقال الدارقطني: إسناده صحيح، وقد أخرجه البخاري (4235) بنحوه من طريق عطاء إلى ابن عباس، وله شواهد. وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعد أن استعرض هذا الأثر وأتى بطرقه وبحثها وناقشها-: قال: حديث ابن عباس يدل على أنَّ العاجز عن الصيام -لكبره أو مرض مزمن- يطعم عن كل يوم مسكينًا، وهذا صحيح يشهد له حديث ابن عمر وأبي هريرة [رواه أحمد (7367)]. * ما يؤخد من الحديث: أول ما نزل في شأن صيام رمضان: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ. . .} [البقرة: 183] إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184] فصار المسلمون مخيرين في أول الأمر بين الصيام وبين الفطر مع الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم؛ لما جاء في البخاري (4237) عن سلمة بن الأكوع أنَّه قال: "لما نزلت: {يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هو كان ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 205)، الحاكم (1607).

من أراد أن يفطر، يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فنسختها"، فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم. أما الشيخ الهرم الذي يشق عليه الصيام، ومثله العجوز الكبيرة التي يشق عليها الصيام-: فلا يوجد نسخ في حقهما، وإنما لهما أن يفطرا، ولا قضاء عليهما، وإنما عليهما الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، وهذا هو ما جاء مرويًّا عن ابن عباس بقوله: "رخِّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه". ويشهد لهذا التفصيل ما أخرجه الإمام أحمد (21107) وأبو داود (507) وغيرهما عن معاذ بن جبل قال: "أثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام". والخلاصة: أنَّ الرخصة العامة بالإفطار والإطعام نسخت بالآية الثانية، أما الرخصة للشيخ الكبير والشيخة الكبيرة فلم تنسخ في حقهما، وبيَّنت السنة أنَّها مشروعة مستمرة إلى يوم القيامة. ومثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة -اللذين يشق عليهما الصيام- المريضُ الميؤوس من برئه، ويشق عليه الصيام فله الفطر، وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، وقدْر إطعام المسكين هو مد من البر "الحنطة"، ونصف صاع من غيره، والصاع النبوي أربعة أمداد، كل مد هو (625) غرامًا، فالصاع النبوي (3 كيلو غرامات) هذا في حق الكبيرين العاجزين العاقلين، أما الذي أصابه الخرف والتخليط، فلا صيام عليه ولا كفارة؛ لأنَّه ممن رفع عنهم القلم والتكليف. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو الطفل فقط، وأفطرتا، هل عليهما الكفارة؟ أو لا؟ ذهب الإمامان الشافعي وأحمد: إلى وجوب الكفارة؛ لما روي عن ابن

عباس في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال: كانت للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما لا يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا، قال أبو داود (2318): "يعني: على أولادهما" قال الألباني: "أثرٌ صحيحٌ". وذهب الحنفية والمالكية إلى: أنَّهما تقضيان ولا تطعمان، وهو قول الحسن، وعطاء، والنخعي، والزهري، وإليه ذهب الأوزاعي، وسفيان، الثوري. ولا يوجد ما يدل على الوجوب، والأصل براءة الذمة، ولكن صحَّ عن ابن عباس، وابن عمر، في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما أنَّ تفطرا وتطعما؛ لدخولهما في الآية الكريمة، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. قال ابن القيم: أفتى به ابن عباس وغيره؛ إقامةً للإطعام مقام الصيام. وقال الشيخ تقي الدين: تفطر، وتقضي، وتطعم عن كل يوم رطلاً من خبز بأدمه، وهو مذهب جمهور العلماء فقد قالوا: حكم الإطعام باقٍ في حق من لم يُطِقِ الصيام، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، تفطران، وتطعمان، وتقضيان. * فائدة: الذين لا يجب عليهم صيام شهر رمضان أداءً أربعةُ أصنافٍ: الأول: يفطر ويقضي، وهم: 1 - المريض الذي يرجى زوال مرضه، ويشق عليه الصيام. 2 - المسافر سفر قصر. 3 - المفطر لإنقاذ معصوم. 4 - الحائض والنفساء. 5 - الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما فقط، أو خافتا مع نفسيهما على الجنين أو الرضيع.

الثاني: يفطر ويقضي ويطعم مسكينًا عن كل يوم، وهم: الحامل إذا خافت على جنينها، والمرضع إذا خافت على رضيعها، والمذهب أنَّ الإطعام على من يمون الجنين والرضيع، وقال بعضهم: عليهما كليهما. الثالث: من لا يجب عليه الصيام أداء ولا القضاء، وإنما تجب عليه الكفارة بدل الصيام؛ وهم الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة، اللذان يشق عليهما الصيام. ففي البخاري (4237)، ومسلم (1145)، من حديث سلمة بن الأكوع قال: "لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كان أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها" أما ابن عباس فلا يرى النسخ، وإنما جاء عنه ما رواه أبو داود (2318) وغيره قال: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والمرضع والحبلى، إذا خافتا على ولديهما، أفطرتا وأطعمتا". قال بعض المحققين: فتكون الآية محكمة غير فنسوخة، وأنَّها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وهو أولى من ادعاء النسخ، فإنَّه خلاف الأصل، فالواجب عدمه، أو تقليله مهما أمكن. والمريض الذي لا يرجى شفاؤه، حكمه حكم الكبير، يفطر ويطعم عنه. الرابع: من لا يجب عليه أداءً ولا قضاءً، أو لا يصح منه، وهم: 1 - الكافر لا يصح منه، ولا يقضيه، لو أسلم، مع أنَّه إذا مات على كفره سئل عنه وعُذِّبَ على تركه. 2 - الصغير والصغيرة، وهما من دون البلوغ، وهما مميزان، فيصح منهما، ولا يجب عليهما، وينبغي أمرهما به ليعتادا عليه. 3 - المجنون لا يصح منه، ولا يقضيه بعد إفاقته، ولا يطعم عنه. 4 - المختلط في عقله لا يجب عليه، ولا يطعم عنه.

562 - وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لاَ. ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ: أَعَلَى افْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ، فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". رَوَاهُ السَّبْعَةَ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجل: هو سلمة بن صخر البياضى. - هلكت: الهلاك العذاب، ومراده: فعلت ما هو سبب هلاكي. - وقعت على امرأتي: أي: جامعها مختارًا عالمًا، وفي إحدى الروايات: "وطئت امرأتي، وأنا صائم". - تعتق رقبة: العتق: الخلوص، وهو تخليص الرقبة من الرق، والرقبة عبدٌ، أو أمةٌ، وخصت الرقبة من جميع البدن؛ لأنَّ الرق كالغل في رقبته، المانع له من التصرف، فإذا عتق صار كأنَّ رقبته أطلقت من ذلك الغل. تعتق رقبة: المراد بها: النفس الكاملة، وقد عبَّر بالبعض عن الكل، وهو ¬

_ (¬1) البخاري (1936)، مسلم (1111)، أبو داود (2390)، الترمذي (724)، النسائي الكبرى (2/ 212)، ابن ماجه (1671)، أحمد (6989).

جائز، إذا كان فقد البعض فيه فقد الكل، ولذا يعبر عن الصلاة بالركوع والسجود والقرآن؛ لأنَّ هذه الأشياء أركان فيها، إذا فقدت فقدت الصلاة. - مسكينًا: من: السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة والفقر، وهو من لا يجد كفاية عامة من النفقة. - عرق: -بفتحتين للعين والراء بعدهما قاف- وهو الزنبيل فيه عشرون صاعًا، أو خمسة عشر صاعًا. - لابتيها: تثينة "لابة"؛ وهي الحرة، وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود، جمعه لابات، والمدينة المنورة بين لابتين: شرقية وغربية، فالحرة الشرقية تسمى حرة الوبرة، والغربية حرة واقم. - بدت أنيابه: جمع: "ناب"؛ وهي الأسنان الملاصقة للرباعيات، وهي أربعة، وبدو أنيابه -صلى الله عليه وسلم- من حال الرجل، في كونه جاء خائفًا من الهلاك، فلما وجد الرخصة طمع أن ياكل ما أعطيه من الكفارة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرجل الذي وطىء في نهار رمضان هو سلمة بن صخر البياضي من بني بياضة، أحد بطون الأنصار. 2 - أنَّ الوطء للصائم في نهار رمضان من الفواحش الكبار المهلكات، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أقره على أنَّ فعله هذا مهلك. 3 - أنَّ الوطء عمدًا يوجب الكفار المغلظة، وهي على الترتيب: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا. 4 - أنَّ العبرة بالشهور لا بعدد الأيام، فإذا ابتدأ الصوم في خمسة عشر من ربيع الأول، فإنَّه ينتهي بنهاية خمسة عشر من جمادى الأولى. 5 - أنَّ الإنسان مؤتمن على عبادته البدنية والمالية، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّه على

عجزه عن الكفارة بأنواعها. 6 - عدم تعنيف التائب على ما وقع منه من معصية. 7 - عظم خطر الجماع في الصيام الواجب، وهو في نهار رمضان أشد خطرًا؛ لقوله: "هلكتُ" ولوجوب الكفارة. 8 - الجماع في نهار رمضان هو الموجب للكفارة؛ لحرمة الزمن، أما قضاء رمضان فحرام، ولكنه لا يوجب الكفارة، قال في الروض وحاشيته: ومن جامع في نهار رمضان، فعليه القضاء والكفارة، وهو مذهب الأئمة الأربعة. 9 - أنَّ الكفارة لا تسقط عمن وجبت بالإعسار والعجز عنها، فليس في الحديث ما يدل على سقوطها، والأصل بقاؤها في ذمته. 10 - جواز التكفير من الغير، ولو من أجنبي بشرط علم المكفر عنه؛ لأنَّها عبادة تحتاج نية. 11 - أنَّ للمكفر عنه الأكل منها هو وأهله ما دامت مخرجة من غيره، أما لو أخرجها هو: فإنَّها لا تجزىء عنه إذا أنفقها على نفسه وأهله. 12 - أنَّ من ارتكب معصية لا حدَّ فيها، ثم جاء تائبًا نادمًا، فإنَّه لا يعزَّر. 13 - حسن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكرم الوفادة عليه، فقد جاء هذا الرجل خائفًا يشكو الهلاك، فراح من عنده فرخا مغتبطًا، معه ما يطعمه أهله. 14 - الكفارة هي فدية تلزم المجامع في نهار رمضان من غير عذر، عقوبةً له، وزجزًا له ولغيره، وتكفيرًا لجرمه، واستدراكًا لما فرط منه، فهي بمنزلة الحدود المطهَّرة، والجماع مفسد للصوم بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. 15 - الجماع الموجب للكفارة هو إيلاج الذكر في الفرج، قبلاً كان أو دبرًا، ولو لم يحصل مع الإيلاج إنزال، فأما الإنزال بالمباشرة دون الفرج، فإنَّه يفطر الصائم، ويلحقه الإثم، ولكنه لا يوجب الكفارة.

16 - المرأة الموطوءة إن كانت ذاكرةً مطاوعةً، فعليها ما على الرجل الواطىء، من الكفارة والقضاء والإثم؛ لأنَّ الأصل تساويهما في الأحكام، وإن لم تكن مطاوعة فصيامها صحيح، ولا قضاء عليها، لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". 17 - المشهور من مذهب أحمد: أنَّه إذا طلع الفجر على المجامع فنزع في الحال، فعليه القضاء والكفارة، لأنَّ النزع جماع على المذهب، ومذهب الأئمة الثلاثة أنَّ النزع ليس بجماع، فلو طلع عليه الفجر، وهو يجامع، فنزع في الحال فلا قضاء ولا كفارة، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. 18 - يجوز للإنسان أن يشكو حاله إلى من يقدر على مساعدته على بلواه، إذا لم يكن على سبيل التسخط. 19 - يجوز للإنسان أن يخبر عما لا يحيط به علمًا، إذا غلب على ظنه ذلك، فقوله: "ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا" هو إخبار على حسب ظنه، وإلاَّ فاليقين لا يوصل إليه إلاَّ بالبحث عن أهل المدينة بيتًا بيتًا. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على وجوب الكفارة على من جامع عامدًا ذاكرًا في نهار رمضان، واختلفوا في الناسي والمكره: فذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- إلى: أنَّ عليه القضاء دون الكفارة. وذهب الشافعي وجمهور العلماء إلى: أنَّ من جامع ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة، وهو رواية للإمام أحمد، واختارها جملة من أصحابه، منهم الشيخ تقي الدين وابن القيم وغيرهما. أما المشهور من مذهب الإمام أحمد، والذي مشى عليه أصحابه، وأهل الظاهر: فهو وجوب الكفارة، ووجود الفطر في الجماع من العامد والناسي، والجاهل والمكره؛ لأنَّ الجماع أعظم المفطرات؛ لما فيه من الشهوة واللذة

المنافية للمقصود من الصوم، والإقبال على الله تعالى؛ فقد قال تعالى في الحديث القدسي: "يدع طعامه وشهوته من أجلي" [رواه البخاري (1771) ومسلم (1942)]. ولأنَّه لا يتصور وقوع النسيان والإكراه في الجماع، فإنَّ شهوته إذا تحركت ذهب معنى الإكراه وصار مختارًا. أما الذين يرون عدم الإفطار والكفارة من جماع الناسي والمكره: فيسدلون بأدلة منها: 1 - قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. 2 - وقال -صلى الله عليه وسلم-: "عفي لأمتي عن: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه" [رواه ابن ماجه (22045)]. 3 - الحديث الوارد في الجماع في حق الواحد، ولا يتناول الناسي، وهو العمدة في هذه المسألة. 4 - بالإجماع لا يلحق إثمٌ، ولا عقابٌ، دنيوي ولا أخروي، على الواطىء نسيانًا، فكذا الكفارة. 5 - الناسي والمكره ليس لهما فعل، ولا يصح نسبة الفعل إليهما؛ لأنَّ الفعل المنسوب للفاعل هو ما كان يقصده، وهنا لا يوجد قصد، ولا إرادة. 6 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ المجامع ناسيًا أو مكرهًا لا فطر عليه، ولا كفارة؛ لأنَّ الله عفا عن الناسي والمخطىء. 7 - أما المرأة فإن طاوعت على الوطء، فعند الأئمة الثلاثة عليها الكفارة، وعند الشافعي لا كفارة عليها. وقول الجمهور هو الصحيح، فقد جاء في بعض روايات الحديث: "هلكت وأهلكت"، قال المجد في "المنتقى"،: ظاهر هذا أنَّها كانت مكرهة. واختلف العلماء: هل تسقط الكفارة بالإعسار والعجز عنها؟ على قولين:

ذهب الإمام أحمد إلى: أنَّها تسقط، لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رخَّص للرجل أن يطعم التمر أهله، ولو كانت كفارة عنه لما حلت له، ولا لأهله. وذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تسقط بالإعسار؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره عدم سقوطها؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما سأل الواطىء عن أنزل درجات الكفارة، وهي الإطعام، وقال: لا أجد، سكت ولم يبرىء ذمته منها، والأصل أنَّها باقية، وقياسًا لهذه الكفارة على سائر الكفارات والديون التي لا تسقط بالإعسار. أما الترخيص له بإطعام الكفارة لأهله، فإنَّ من وجب عليه كفارة إذا كفر عنه غيره، جاز أن يأكل منها، وأن يطعمها أهله. ***

563 - وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُصْبِحُ جُنبًا مِن جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: "وَلَا يَقْضِي" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يصبح جنبًا: يدخل في الصباح، ويطلع عليه الفجر، وهو في حال الجنابة لم يغتسل منها. - جنبًا: سميت الجنابةُ: "جنابةً"؛ لكونها سببًا لاجتناب العبادة، أو لأنَّ الماء باعد وجانب محله. - من جماع: "من" سببية، والمعنى بسبب جماع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجامع من الليل، وربما أدركه الفجر، وهو جنب لم يغتسل، فيصوم ثم يغتسل بعد طلوع الفجر، ويتم صومه، ولا يقضيه. 2 - هذا عامٌّ في رمضان وفي غيره، قال ابن كثير: وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وحكاه الوزير إجماعًا؛ فإنَّ الآثار في ذلك متواترة. 3 - صحة صوم من أصبح جنبًا من جماع، أو غيره من الليل. 4 - إذا جاز في الجنابة من الجماع، فمن غير الجماع أولى. 5 - لا فرق بين الصوم الواجب والنفل، ولا بين رمضان وغيره. 6 - جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل طلوع الصبح. ¬

_ (¬1) البخاري (1925)، مسلم (1109).

7 - لو طلع عليه الفجر وهو يجامع فنزع، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ عليه القضاء والكفارة؛ لأنَّ النزاع جماع. وجمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: أنَّ النزع ليس بجماع، وأنه يجب عليه النزع، ولا قضاء عليه ولا كفارة. 8 - يؤخذ من جواز طلوع الفجر على الصائم وهو جنب، جواز طلوع الفجر على الحائض والنفساء بعد انقطاع الدم، وقبل الاغتسال. 9 - فضل نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد نقلن للأمة من العلم الشيء الكثير، لاسيَّما الأحكام التي لا يطلع عليها إلاَّ هنَّ من أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرضي الله عنهن. ***

564 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وليه: من: ولي الشيء يليه ولاية بالفتح والكسر، والولي فعيل بمعنى فاعل، من وليه إذا قام به، والجمع: أولياء، ويطلق على القريب والناصر، ذكرًا كان أو أنثى، وسيأتي في ما يؤخذ من الحديث أنَّ المراد به الوارث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الديون التي على الميِّت يجب قضاؤها؛ سواء كانت لله تعالى، كالزكاة والصيام، أو للآدميين. 2 - أنَّ أولى من يتولى أداء ذلك عنه هو وارثه، الذي له عليه حق البر، فهذا من أعظم البر والإحسان. 3 - ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت؛ سواء كان واجبًا بأصل الشرع، أو نذرًا، فالصيام في الحديث نكرة تشمل كل صوم. 4 - أنَّ الذي يتولى أداء الصيام عن الميت هو وارثه، الذي انتفع بما خلفه من مال، فيقتضي ذلك القيام بأداء الديون التي لله تعالى، أو لخلقه؛ تطبيقًا للقاعدة الشرعية: "مَنْ غَنِمَ غَرِمَ"، و"الخَراج بالضمان". 5 - إذا كان للميت عدد من الأولياء، فيجوز أن يتقاسموا أيام الصيام التي على مورثهم، ويصوم كل واحد منهم قسمًا منها؛ سواء كانوا رجالًا، أو نساءً، أو من الصنفين، ولو قاموا بالصيام في يوم واحد. ¬

_ (¬1) البخاري (1952)، مسلم (1147).

هذا ما لم يكن يشترط فيه التتابع كالكفارة، فإنَّه لا يجوز أن يصوموه جميعًا، وإنما يصوم أحدهم بعضه، ثم يكمله الآخر. * خلاف العلماء: اختلف في حكم قضاء صيام من مات وعليه صيام، على ثلاثة أقوال: الأول: أنَّه لا يقضى عنه بحال، لا النذر، ولا الواجب بأصل الشرع، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. الثاني: يصام عنه النذر، دون الواجب بأصل الشرع، وهذا مذهب الإمام أحمد، والليث، وإسحاق، وأبي عبيد، ونصره ابن القيم. الثالث: يصام عن الميت النذر الذي تمكن من أدائه ولم يصمه، كما يصام عنه الواجب بأصل الشرع، وهد ذا قول أبي ثور، وأهل الحديث، ونصره ابن حزم، وجماعة من محدثي الشافعية، وعلَّق الإمام الشافعي القول به على صحة الحديث. قال البيهقي: لو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث لم يخالفها إن شاء الله، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقال: إنَّه اختيار شيخ الإسلام في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت عليه بأصل الشرع. واستدل المانعون بأدلة: منها قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]. وما روي عن ابن عباس: "لا يصل أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد" [رواه النسائي في الكبير 29181)]، وروي عن عائشة مثل ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لحديثي الصيام عن الميت، ومع هذا خالفاه، فاتباع رأيهما في ذلك أولى، لأنَّهما أعلم بمعنى الحديث. واستدل المجوزن للقضاء -مطلقًا-: بحديث الباب؛ فإنَّه عامٌّ في

الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر. كما استدلوا: بحديث ابن عباس الذي في البخاري (1953)، ومسلم (1148)، قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفاقضيه عنها؟ فقال: نعم، دين الله أحق أن يقضى". وأما المفصلون: فيرون أنَّ حديث الباب وحديث ابن عباس خاصان بالنذر، ونصر هذا القول ابن القيم، وقال: لا يصم أحد عن أحد، مراده في الفرض، وأما النذر فيصام عنه، وبهذا يظهر الاتفاق بين الروايات، وزاد ابن القيم بقوله: النذر ليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما أوجبه الإنسان على نفسه، فصار بمنزلة الدين الذي استدانه. وسر الفرق بينهما: أنَّ النذر هو التزام المكلف بما شغل به ذمته، لا أنَّ الشرع ألزمه به ابتداءً، فهو أخف حكمَا مما أوجبه الشارع أصلًا، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه، بخلاف واجبات الشرع الأصلية، فهي على قدر طاقة الإنسان. والراجح أنَّ الحديث عامٌّ في الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر. والأحاديث والآثار المعارضة لهذا الحديث لا تقاوم هذا الحديث، ولا تصلح لمعارضته. وتوجد النصوص الصحيحة الكثيرة من السنة تسند معنى هذا الحديث، فقد قالت المرأة الخثعمية للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذن أحج عن أبي، فقال: نعم" [رواه البخاري (1417)، ومسلم (2375)،، ومثلها المرأة الجهنية لما قالت: "إنَّ أمي نذرت أن تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: نعم، حجي عنها، اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" [رواه البخاري (6771) ومسلم (1939)]، وأفتى سعد ابن عبادة: أن يتصدق عن أمه لما ماتت، ولم تتصدق، ومن نيتها أن تتصدق، وهذه أحاديث في الصحيحين.

باب صوم التطوع وما نهي عن صومه

باب صوم التطوع وما نهي عن صومه مقدمة التطوع: فعل الطاعة مطلقًا، وأطلقه الفقهاء على نوافل العبادات من صلاةٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ. وفيه فضل عظيم لما يحصل به من الثواب، وتكفير السيئات، وكثرة الحسنات، وترقيع الواجبات، قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] أي: من زاد عن الواجب بنوافل العبادات فهو أعظم؛ لأنَّ الخير اسم جامع لكل أمر نافع. وقال تعالى في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل، حتى أحبه" [رواه البخاري (26021)]. قال الإمام أحمد: الصيام أفضل ما تطوع به، لأنَّه لا يدخله الرياء. وقد ورد في فضله أحاديث شريفة، منها ما جاء في البخاري (1771) ومسلم (1942) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلاَّ الصوم؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". فالله جل وعلا خصَّ نفسه بالصيام بإضافته إليه دون سائر الأعمال، تنويهًا وتشريفًا وتفخيمًا له، ثم تولى عَزَّ وجل جزاء صاحبه بلا عدد ولا حساب، ذلك أنَّ الصيام سرٌّ بين الله تعالى، وبين عبده، لا يطلع عليه سواه. فنسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

565 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشورَاءَ، فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَليَّ فِيهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عاشوراء: فيه ألف التأنيث الممدودة، وهو أفصح من القصر، وعاشوراء من باب الصفة التي لم يرد لها فعل، والتقدير: يوم مدته عاشوراء، أو صفته عاشوراء، وهو مأخوذ من لفظ: "العاشر" عند جماهير العلماء، فإنَّه اليوم العاشر من شهر محرم، وقيل: إنَّه التاسع من محرم مأخوذ من إظماء الإبل، فإنَّ العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد: ربعًا، وكذا باقي الأيَّام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرًا، والقول الأول أرجح وأشهر عند العلماء وجمهور المسلمين، وهو اسم إسلامي لا يعرف بهذا الاسم في الجاهلية. - بعثتُ فيه، وأنزل عليَّ فيه: هما معنيان مترادفان، والدليل الرواية الأخرى في مسلم: "يوم بعثت فيه، وأنزل عليَّ فيه". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث استحباب صوم يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وأنَّه يكفر ذنوب السنة الماضية، أما السنة الآتية فإنَّ تكفير السيئات في المستقبل من العمر، لم يكن إلاَّ للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا ¬

_ (¬1) مسلم (1162).

تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. وكذلك لأهل بدر، فقد جاء في الحديث القدسي: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم". قال العلماء: معنى هذا الحديث: أن يوفق صائمه ويعصمه، فلا يأتي بذنب، أو يوفقه لأعمال صالحة تكفر ما يقع فيها من الذنوب. 2 - صوم يوم عرفة هو أفضل صيام التطوع، بإجماع العلماء. 3 - صيامه مستحب لغير الحاج الواقف بعرفة؛ لما روى الخمسة عن أبي هريرة: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" وكراهة صوم عرفة بعرفة مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. 4 - يدل الحديث على استحباب صوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1911) عن ابن عباس: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صامه، وأمر بصيامه". 5 - صيام عاشوراء يكفر سيئات السنة التي قبله؛ ذلك أنَّ فضله أقل من فضل يوم عرفة، وفضل صيامه أقل من فضل صيام يوم عرفة. 6 - جاء في صحيح مسلم (1917)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لئن بقيت إلى قابل، لأصومنَّ التاسع" ولذا استحب جمهور العلماء -ومنهم الإمام الشافعي والإمام أحمد- الجمع بالصيام بين التاسع والعاشر. ظاهر الحديث: أنَّ صوم يوم عرفة يكفر الصغائر والكبائر من الذنوب، به قال بعض العلماء، والجمهور على أنَّه لا يكفر الكبائر، وقالوا: إنَّ صوم يوم عرفة ليس أفضل من الصلوات الخمس، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر". وقال النووي: المراد بالذنوب التي يكفرها الصيام هي: الصغائر، فإن لم

يوجد صغائر، رجي أن يخفف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت له درجات. قال إمام الحرمين: وكل ما يراد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمول على الصغائر، دون الموبقات. قال النووي: وقد ثبت ما يؤيده: فمن ذلك حديث عثمان -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلاَّ كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله" [رواه مسلم (335)]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنَّ، ما لم تغش الكبائر" [رواه مسلم]. 7 - قال شيخ الإسلام: أيام ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيم: ذلك أنَّه ليس من أيام العمل أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وأما ليالي عشر رمضان ففيها ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر. 8 - يدل الحديث على استحباب صوم الاثنين من كل أسبوع؛ ذلك أنَّ هذا اليوم المبارك امتنَّ الله فيه على المسلمين بثلاث منن عظام، هي: ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعثته -صلى الله عليه وسلم- رسولًا بشيرًا ونذيرًا إلى هذه الأمة، والنعمة الثالثة إنزال القرآن الكريم في هذا اليوم، ولا شك أنَّ هذه نعم عظام، وآلاء جسام خصَّ الله تعالى بهنَّ يوم الاثنين، فصار كأنَّه يوم فرح وسرور ينبغي منَّا الشكر فيه، وشكر الله هو القيام بعبادته. 9 - كما جاء الفضل بصوم يوم الخميس من كل أسبوع، فقد روى الإمام أحمد

(7318)، والترمذي (678)، وابن ماجه (1730) أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". 10 - لا دليل في الحديث على مشروعية إقامة الموالد، فإنَّ العبادات توقيفية ولا تكون إلاَّ من الشارع، والشارع عين العبادة التي تؤتى في يوم الاثنين، وهي فضيلة صيامه، فنقتصر على الوارد ولا نتعداه. 2 - معنى عرض الأعمال -والله أعلم-: إظهارها، والإخبار عنها، وجزاؤها عند الله تعالى، فالأفضل أن يعرض عمله في يوم هو صائم فيه؛ ليظهر تجمله في هذا اليوم، فكل مناسبة لها زينتها ومظهرها اللائق بها. ***

566 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوَبَ الَأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أتبعه: يقال: تبعه يتبعه تبعًا وتباعًا، من باب تعب، وأتبعه: ألحقه به، وجعله تابعًا له. - شوال: -بفتح الشين المعجمة وتشديد الواو-: هو الشهر العاشر من السنة القمرية الهجرية، وهو أول أشهر الحج، قيل: سمي: شوالًا؛ لأنَّه وقت تسمية الشهور صادف تشويل الإبل، جمعه: شوالات. الدهر: بفتح الدال وإسكان الهاء، ويطلق على أزمنة كثيرة متفاوتة، ولكن المراد هنا هو: السنة القمرية، كما سيأتي بيانه في ما يؤخذ من الحديث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه استحباب صيام ست من شوال؛ لهذا الحديث الصريح التصحيح، الذي جاء من ثلاث طرق غير هذا الطريق: فرواه أحمد (22433)، وأبو داود (2078)، والترمذي (690)، من ثلاثة أوجه حتى قيل: إنَّه حديث متوات؛ ذلك أنَّ الدمياطي جمع طرق الحديث، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلًا، أكثرهم حفاظ ثقات. 2 - استحباب صيام الست هو مذهب السلف والخلف، وجمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد. ¬

_ (¬1) مسلم (1164).

أما مالك: فيرى كراهة صيامها؛ لئلا يظن العامة وجوبها؛ لقربها من رمضان، وهذا تعليل واه جدًّا في مقابل السنة الصحيحة الصريحة، فهو تعليل لا يستقيم، ولا يبقى أمام البحث والنظر، وأحسن ما اعتذر به عن الإمام مالك ما قاله محقق مذهبه، وشارح "موطّئه"، أبو عمر بن عبد البر: أنَّ هذا الحديث لم يبلغ مالكًا، ولو بلغه لقال به. 3 - قال في "الإقناع وشرحه": يسن صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولا تحصل الفضيلة بصيامها في غير شوال. 4 - من صامها مع رمضان، فكأنما صام الدهر فرضًا؛ ذلك أنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة الأيام عن شهرين، فذلك سنة كاملة، فحصل ثواب عبادة الدهر على وجه لا مشقة فيه، فضلًا من الله، ونعمةً على عباده. 5 - استحب العلماء أن يكون صيام الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لمراعاة أمور عامة، منها: المسارعة إلى فعل الخير، ومنها المسارعة إليها دليلٌ على الرغبة في الصيام والطاعة، وعدم السأم منها، ومنها ألا يعرض له من الأمور ما يمنعه من صيامها إذا أخرها، ومنها أنَّ صيام ستة أيام بعد رمضان كالراتبة بعد فريضة الصلاة، فتكون بعدها، وغير ذلك من الاعتبارات، والله الموفق. وأما فضلها: فيحصل في أي ستة أيام صيمت من شوال، مجتمعةً أو متفرقة. * خلاف العلماء. اختلف العلماء في جواز صيام التطوع -ومنها أيام الست- وعليه صيام واجب: فذهب الأئمة الثّلاثة إلى: جوازه، وقاسوه على صلاة التطوع قبل صلاة

الفرض في وقتها. والمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه يحرم صيام التطوع، ولا يصح، ما دام عليه صوم واجب. قال في "شرح الإقناع": ويحرم التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان، ولا يصح، نصَّ عليه، بل يبدأ بالفرض حتى يقضيه؛ لحديث: "إنَّ الله لا يقبل تطوعًا، حتّى تؤدى فريضته" [رواه ابن أبي شيبة (34433) موقوفًا على أبي بكر -رضي الله عنهما-]. أما من صام الستة الأيام من شوال، وعليه قضاء-: فإنَّه بذلك صامها قبل أن يكمل رمضان، والحديث: "من صام رمضان ... ". واختلفوا: هل تقضى الأيام الستة إذا خرج شوال؟ فيه قولان لأهل العلم: الأرجح: أنَّها لا تقضى؛ لأنَّها سنة فات محلها. * فائدة: قال الشيخ: ويسمي بعضهم الثامن من شوال: "عيد الأبرار"، ولا يجوز اعتقاده عيدًا؛ فإنَّه ليس بعيد إجماعًا، وليست له شعائر العيد. ***

567 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خريفًا: الخريف: أحد فصول السنة، واقع بين الصيف والشتاء، وبروجه ثلاثة، وهي: "الميزان، والعقرب، والقوس"، والمراد هنا: السنة كلها، من باب تسمية الكل باسم بعضه، وإنما خص بالذكر من دون بقية الفصول؛ لأنَّ فيه تنضج الثمار، وتحصل سعة العيش. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصيام من العبادات البدنية الشاقة، والجهاد من العبادات المالية والبدنية الصعبة، فمن قوي عليهما جميعًا، وقام بهما، فقد بلغ القمة في بذل الوسع والطاقة في عبادة الله تعالى، وآثر محبة الله تعالى على راحته، فجزاؤه كبير على قدر نصَبَه الشاق، وذلك بأن يبعد من جهنم وعذابها، مسافة سبعين سنة. 2 - أنَّ العدد لا مفهوم له، وإنما تذكر الأعداد على سبيل التكثير والتوضيح، كما أنَّ من زحزح عن النار، فقد أدخل الجنة، بموجب وعد الله تعالى؛ إذ ليس هناك جهة غير الجنة، أو النار. 3 - وفي الحديث فضل الجهاد في سبيل الله، ومقام الجهاد من الإسلام معلوم، ¬

_ (¬1) البخاري (2840)، مسلم (1153).

فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله". 4 - يقيد الصيام في سبيل الله بعدم إضعاف بدنه عن الجهاد، فإذا أضعفه فالمستحب له تركه؛ لأنَّ الجهاد مصلحة عامة متعدية، والصوم عبادة خاصة قاصرة على صاحبها، وكلما عمت مصلحة العبادة كانت أنفع وأولى. 5 - قوله: "ما من عبد" عبودية الخلق لله تعالى قسمان: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع المخلوقات، ويدخل فيها الكفار والعصاة، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم]. فهي عبودية كونية يخضع لها الجميع، فهو المتصرف فيهم بالإحياء والإماتة والنعم والنقم، فهم في قهره وسلطانه وهم عبيده المسخرون بخلقه وأمره. والعبودية الخاصة: هي التي تكون للمؤمنين، فهم متعبدون لله بطاعته، ممتثلون لشرعه، منفذون لحكمه في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. ***

568 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يصُومُ: حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلاَّ رَمَضَانَ، ومَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حتى: هي الجارة التي بمعنى: "إِلى"، والفعل بعدها منصوب بـ"أن" مضمرة وجوبًا، و"أنَّ" والفعل المضارع في تأويل مصدر مجرور بـ"حتى"، تقديره: "حتى قولنا". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يسرد الصيام أيامًا كثيرة متوالية، حتى يُظن أنَّه لن يفطر، إلاَّ أنَّه لا يكمل صيام شهر غير رمضان، ويفطر الأيام المتواصلة حتى يُظن أن لن يصوم. 2 - لعلَّ عذره في موالاة الصيام تارةً، وموالاة الإفطار أخرى-: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يراعي المصلحة في ذلك، فإن وجد فرصةَ أيامٍ خفَّت أعمالُه فيها صام، وإذا زحمت أوقاته بأعمال المسلمين العامة فضَّل الإفطار، والتفرغ لها على الصيام، ودليل ذلك أنَّ صيامه، أو فطره لم يكن بوقت خاص، أو شهر خاص. 3 - أما شهر شعبان: فكان يكثر فيه -صلى الله عليه وسلم- من الصيام؛ وذلك إما تعظيمًا لشهر رمضان وصومه، وجعل الصيام فيه كالراتبة قبل الفريضة في الصلاة، ولعلَّ ¬

_ (¬1) البخاري (1969)، مسلم (1156).

من الحكمة في ذلك التمرن والاستعداد لصيام رمضان، فلا يأتي والنفس لم تعتد الصيام، وبعضهم قال: لأنَّ شهر شعبان يغفل عنه الناس؛ لوقوعه بين شهرين عظيمين: رجب، ورمضان. قال في "سبل السلام": ويحتمل أنَّه كان يصومه لهذه الحِكَم كلها. 4 - وفيه دليل على أنَّه لا يخص بصيامه وقتًا دون وقت، فينبغي للمسلم مراعاة المصلحة في عباداته، فيقدم منها الأهم فما بعده، ويقدم منها ما يتعلَّق بالمصالح العامة، ولا يغفل عن غيرها، فتوزيع الوقت وتنسيق الأعمال مما يحث عليه الشرع الشريف. 5 - وفيه أنَّه ينبغي للمسلم أن يسوس نفسه، ويمرنها على طاعة الله تعالى، حتى تعتاد ذلك وتألفه، وتصبح العبادة سهلة عليها، بعد أن كانت شاقة وثقيلة. ***

569 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ: ثَلَاثَ عَشَرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشَرَةَ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، والتِّرمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ. قال في "التلخيص": رواه النسائي، والترمذي، وابن حبان، من حديث أبي ذر، ورواه ابن حبان أيضًا من حديث أبي هريرة، ورواه ابن أبي حاتم عن جرير مرفوعًا، وصحَّح أبو زرعة وقفه على جرير. قال الترمذي: حديث حسنٌ، وللحديث طرقٌ أُخر. * مفردات الحديث: - ثلاث عشرة ... إلخ: وتسمَّى الأيام البيض؛ وذلك لبياض لياليها بطلوع القمر في جميعها، من أولها إلى آخرها. ثلاث عشرة: بدل من المفعول به، وهو مركب مزجي مبني على فتح جزأيه، ومحله النصب، وذُكِّر "ثلاث" موافقة ليوم المذكر، وأُنِّث "عشرة" مخالفة ليوم، وهكذا باقي هذه الأعداد المركبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شهور السَنة الهلالية، وأجر الأيام الثلاثة بقدر أجر صيام الشهر كله؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، ويدل لهذا التقدير ما جاء في السنن الأربع من حديث قتادة بن ¬

_ (¬1) النسائي (4/ 222)، الترمذي (761)، ابن حبان (3647).

ملحان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي كهيئة الدهر"، فالمديم على صيام الأيام الثّلاثة من كل شهر كأنه صام الدهر كله. 2 - الأفضل أن تكون من الشهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لحديث الباب، ولما أخرجه النسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن جابرٍ؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، وأيَّام البيض صبيحة: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة". 3 - واستحباب صيام. أيام البيض الثلاثة هو قول جمهور أهل العلم، بل حكى الوزير الاتفاق على فضيلته. 4 - تخصيص فضيلة الصيام بأيام البيض الثلاثة -كما جاء في السنة المطهرة- فيه إعجازٌ علميٌّ، فقد ذكر الأطباء أن رطوبة الأجسام تزيد فيها مع زيادة نور القمر واكتماله، والصوم يساعد على التخفيف من هذه الفضلات وإفراغها من البدن، كما أن الصوم حينما يلاقي البدن ممتلئًا من هذه الرطوبة تخف مشقته، ويسهل تحمّله على الصائم، ولله في شرعه حِكَم وأسرار. ***

570 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ، وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ، إِلاَّ بِإذْنِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. زَادَ أَبُو دَاوُدَ: "غَيْرَ رَمَضَانَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة أبي داود قال عنها النووي في "المجموع": إسنادها صحيح على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - شاهد: أي: حاضر عندها غير غائب، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي: من كان منكم مقيمًا غير مسافر. - بإذنه: من أذن يأذن إذنًا، بمعنى: أباح له وأجازه، ومنه إذن الزوج لزوجته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حقوق الزوج على زوجته كبيرة؛ وذلك لوجوب طاعته، وامتثال أمره بالمعروف، وإجابة مطالبه العادلة، ورغباته الممكنة. 2 - قال شيخ الإسلام: إذا تزوجت المرأة، كان زوجها أملك بها من أبيها، وطاعة زوجها عليها أوجب؛ لما روى الترمذي (1079) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها". 3 - من هذا أنَّه لا يحل لها أن تصوم صوم تطوع وزوجها حاضر، إلاَّ بإذنه وموافقته، وأما إن كان غائبًا عنها، فيجوز أن تصوم، ولا تحتاج إلى إذنه؛ إذ ¬

_ (¬1) البخاري (1991)، مسلم (1921).

صيامها لا يضيع عليه حقًّا من حقوقه، وجواز صيامها هو مفهوم حديث الباب، ولأنَّ المعنى المراد من المنع لا يوجد. أما الصوم الواجب كرمضان أداءً كان أو قضاءً، فمقدم على طاعته، ويجب عليها صيامه ولو كره الزوج؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 4 - فلو صامت نفلًا بغير إذنه، صحَّ صيامها، مع أن صيامها محرَّم عليها؛ ذلك أنَّ حق زوجها عليها مقدم على صوم التطوع. 5 - لكن ينبغي أن يكون بين الزوجين عِشرة حسنة، ومعاملة طيبة، فكل منهما يعاشر صاحبه بالإحسان والمعروف؛ لتدوم الصحبة، وتستمر العِشرة. 6 - الإذن من الزوج لا يشترط فيه التصريح، بل إذا علمت من قرائن الحال ما يدل على الرضا بذلك، فإنَّه يكفي، فإنَّ الإذن العرفي كالإذن اللفظي. ***

571 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عيد الفطر وعيد الأضحى هما عيدا المسلمين، اللذان يظهر المسلمون فيهما السرور والفرح والبهجة، فهما يوما شكر لله تعالى على صيام شهر رمضان، وعلى القيام بمناسك الحجِّ، وذبح الهدي والأضاحي. وهما يوما فرح للمسلمين يتوسعون فيهما بالمباحات والطيبات، ولعلَّ من الحكمة في تحريم صومهما، ووجوب فطرهما: تمييز شهر الصيام عن شهر الفطر في عيد الفطر، والتمتع في الأكل من الأضاحي والهدي، التي أمر الله تعالى بالأكل منها بقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] والصيام عزوف عن هذه السُّنَّة. 2 - صيام هذين اليومين هو أمر مخالف ومناف لما شرعه الله وأباحه فيهما، لذا نهى الشارع الحكيم عن صيامهما، وأمر بالفطر فيهما. 3 - صيام يومي عيد الفطر والأضحى حرام بالإجماع، ولا يصح، أي: لا ينعقد صيامًا شرعيًّا، فلو صامهما الإنسان عن قضاءٍ، أو نذرٍ، أو نفلٍ، أو غير ذلك -لم يصح صومه، ولم يجزئه عن شيء. 4 - يوم العيد هو ما اتَّفق عليه المسلمون، وتحقق لديهم ثبوته، ولا عبرة بكبر الأهلة وصغرها، كما لا عبرة بتعيين الدخول والخروج بالحساب، وإنما العبرة بالشهادة الصادقة على الرؤية البصرية المجردة، فقد جاء في البخاري (1767) ومسلم (1799)، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا ¬

_ (¬1) البخاري (1991)، مسلم (1921).

رأيتموه فأفطروا". فإذا تحققت رؤيته، اعتبروا هذا يوم عيدهم، فيحرم صومه، فصيامه شذوذ عن جماعة المسلمين؛ لما روى الدارقطني (2/ 224)، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون". قال شيخ الإسلام: الهلال اسم لما يراه الناس، ويتعاملون بينهم، فالفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس. 5 - المشهور في مذهب الإمامين: أبي حنيفة وأحمد-: أنَّه إذا ثبت رؤية الهلال في بلد لزم الناس كلهم الصوم، ولو اختلفت المطالع. وذهب الإمام الشافعي إلى: اعتبار اختلاف المطالع. قال شيخ الإسلام: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإذا اتفقت لزم الصوم، وإلاَّ فلا. وهو قول في مذهب أحمد، واختار هذا القول كثير من المحققين. واختلاف المطالع قدَّرها أهل الهيئة بـ (2226) كيلو (ألفين ومئتين وستة وعشرين). 6 - قال شيخ الإسلام: لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمِد عليه كما أنَّه منافٍ للشريعة مبتدعٌ في الدين، فهو أيضًا مخطىء في العقل وعلم الحساب، فإنَّ علماء الهيئة يقولون: إنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنَّها تختلف باختلاف ارتفاع المكان وانخفاضه، وغير ذلك. ***

572 - وَعَنْ نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 573 - وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَا: "لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لم يرخص: بالبناء للمجهول، والرخصة لغة: التسهيل في الأمر والتيسير؛ يقال: رخَّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا إذا يسَّرهُ وسهَّله، والمراد هنا: لم يرخص؛ يعني: لم يبح صيامها إلاَّ لما ذكر. - أيَّام التشريق: هي ثلاثة أيام: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة، سميت بذلك؛ لتشريق الناس لحوم الأضاحي والهدي فيها، ونشرها في الشمس لتجف، وذلك بعد تقديدها، وجعلها شرائح. * ما يؤخذ من الحديثين: - أيَّام التشريق ثلاثة: هي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة، وهي أيام أكلٍ وشربٍ، وذكر الله عزَّ وجل، فهي أيام فرح تابعات ليوم عيد الأضحى بالأكل من لحوم الأضاحي، والتبسط في ¬

_ (¬1) مسلم (1141). (¬2) البخاري (1859).

المباحات، وهي أيام ذكر الله تعالى: حيث يشرع فيهن تكبير الله تعالى، فهي الأيام المعدودات، التي قال الله تعالى عنها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وسميت أيام التشريق؛ لأنَّ الناس يقددون لحوم الهدي والأضاحي، ويشرقونها في الشمس لتجف، ليدخروها لعدة أيام. 2 - لهذه الوظائف الدينية والتقوِّي على أدائها، ولكون المسلمين فيها في أعقاب فرح العيد، والأكل مما تقربوا به إلى الله تعالى من الهدي والأضاحي، فهم في ضيافة الله تعالى، لهذا كله، ولامتثال أمر الله تعالى، حرَّم صيامها، ولا يصح لا فرضًا، ولا نفلًا، ولا نذرًا، ولا غير ذلك، وإن صامها عن شيء من ذلك لم يجزئه؛ لأنَّه لم يقع موقعه ولم يصح صيامه فيهن. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في صيام أيام التشريق، على ثلاثة أقوال: الأول: أنَّه لا يصح صومهن، إلاَّ عن صوم التمتع والقِران لعادم الهدي. الثاني: لا يصح صومهنَّ مطلقًا، لا عن تمتع، ولا قِران، ولا غيره. الثالث: جواز صومهن للتمتع والقِران، وكل صوم له سبب كنذر وكفارة، دون ما لاسبب له، فلا يصح. والصحيح من هذه الأقوال: أنَّ صومهن محرَّم، لا يصح إلاَّ للتمتع والقِران إذا عدم الهدي، فإنَّه يجوز له صوم أيام التشريق الثلاثة؛ لحديث الباب الذي معنا. قال النووي: والأرجح في الدليل صحتها للتمتع، وجوازها له؛ لأنَّ الحديث في الترخيص له صحيح، وهو صريح في ذلك، فلا عدول عنه. ***

574 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّام، إِلاَّ أنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أحَدُكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 575 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أوْ يَوْمًا بَعْدَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تخصوا: لا تفردوه دون غيره من الأيام والليالي. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع؛ لما رواه أبو داود (883) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أفضل أيامكم يوم الجمعة"، وفي البخاري (847) ومسلم (1412) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له، وضلَّ الناس عنه". فيوم الجمعة هو عيد المسلمين الأسبوعي، ومجتمعه أفضل مجامع المسلمين سوى مجمع عرفة، لذا كُرِهَ صيامه؛ لأنَّه يوم زينة وبهجة، يُظْهر فيه المسلم عزَّ الإسلام وقوته ونشاطه، ويؤدي فيه شعائره الدينية بهمة وقوَّة ¬

(¬1) مسلم (1144). (¬2) البخاري (1985)، مسلم (1144).

ونشاط، والصيام يضعف الصائم عن القيام بهذه الأمور، وإذا تزاحمت المصالح قدم أنفعها وأولاها بما يعود على المصلحة الإسلامية العامة. قال النووي: الحكمة في كراهة صومه أنَّه يوم دعاءٍ، وذكرٍ، وعبادةٍ، فاستحب الفطر فيه؛ ليكون أعون عليها، ولأنَّه عيد الأسبوع الذي هدى الله إليه هذه الأمة، حينما أضل عنه اليهود الذين عظموا السبت، وأضل عنه النصارى الذين عظموا يوم الأحد، فالحمد لله على نعمته وهدايته. وقال أيضًا: في الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من دون الليالي، فهذا متفق على كراهته. 2 - يدل الحديثان على كراهة إفراد يوم الجمعة بصيام، وكراهة تخصيص ليلته بقيام؛ لئلا يتخذ الناس شعائر لم يأذن بها الله تعالى، أما صيامه أو قيامه بدون قصد لتخصيص هذه الليلة وذلك اليوم، فلا يدخل في النهي. 3 - يدل الحديثان على جواز الصيام، وزوال الكراهة بأحد أمرين: أحدهما: أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد، كأن يكون يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة. الثاني: إذا لم يفرده بالصيام بل جمع معه غيره، بأن صام يومًا قبله، أو يومًا بعده. ففي هاتين الحالين تزول الكراهة؛ لأنَّه لم يوجد للجمعة تخصيص. 4 - ظاهر الحديثين تحريم الصيام؛ لأنَّ النَّهي يفيد التّحريم، كما أنَّه توجد أدلة أخر صحيحة تفيد وجوب الفطر، وتحريم الصيام؛ كحديث جويرية في البخاري، ومع هذا ذهب جمهور العلماء إِلى أن النَّهي للتنزيه لا للتحريم؛ لأنَّ النَّهي منصب على تخصيصه بصيام أو قيام، ولم يكن النَّهي على نفس الصيام والقيام. ولعلَّ مأخذ الجمهور في الكراهة دون التحريم-: أنَّهم لما رأوا إباحة

صيامه بقرنه بيوم قبله أو بعده، وإباحته إذا صادف صومًا للمسلم- استقرَّ لديهم أنَّ النَّهي ليس للحتم، كما هو لعيدي الفطر والأضحى، اللذين لا يجوز صيامهما بحال، والله أعلم. * فائدتان: الأولى: قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: العبادات مبناها على الأمر، والنَّهي، والاتباع، فصيام يوم المولد، وسبع وعشرين من رجب، ونحو ذلك من البدع، لم يأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت أنَّه قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد" أرواه مسلم (3243)، وتكون هذه الأمور وأمثالها مردودة. الثاني: قال الشيخ تقي الدين: صوم رجب أحاديثه كلها موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في فضائل الأعمال، بل عامتها من المكذوبات الموضوعات. ***

576 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلَا تَصُومُوا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، واسْتَنكرَهُ أَحْمَدُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. الحديث استنكره الإمام أحمد؛ لأنَّه تفرد به العلاء بن عبد الرحمن، قال بعضهم: هو من رجال مسلم، وقال الحافظ في "التقريب": إنَّه صدوق، وربَّما وهِم. قال أحمد وابن معين: إنَّه منكر، وقد استدلَّ البيهقي والطحاوي على ضعفه بحديث أبي هريرة في الصحيحين: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين". قال الشوكاني: جمهور العلماء ضعَّفوا هذا الحديث. * مفردات الحديث: - إذا انتصف شعبان: أي: إذا مضى نصفه، وبقي نصفه. - لا تصوموا: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم بحذف النون. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - من مقاصد الشرع الشريف تمييز العبادات بعضها عن بعض، ولذا جاء في صحيح مسلم: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر ألا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم، أو ¬

_ (¬1) أحمد (9333)، أبو داود (2337)، الترمذي (738)، النسائي في الكبرى (2/ 172)، ابن ماجه (1651).

نخرج" وهذه هي حكمة النية التي تميز العادة عن العبادة، وتميز العبادات بعضها عن بعض. 2 - من هذا الهدف -والله أعلم- نُهيَ عن الصيام إذا انتصف شعبان؛ ليكون صيام شهر رمضان منفصلًا مستقلًّا وحده. ولعلَّ من الحكمة أيضًا: حصول الاستجمام لصوم رمضان، فلا يأتي صومه والمسلم في حال ملل وكسل عن الصيام، وإنما يقبل عليه برغبة وشوق إليه، وهذا التعليل لا ينافي حديثي عائشة وأم سلمة في صيام شعبان كله أو أكثره، فالنفوس على الامتثال على العبادة ليست واحدة، والحكم يكون للغالب. 3 - النَّهي عن هذا الصيام مقيد بما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلاَّ رجل كان يصوم صومًا فليصمه"، فمن كان له صوم معتاد فصادف ما بعد النصف من شعبان فليصمه، فإنَّه لم يدخل في النَّهي. 4 - النَّهي عن صيام النصف الأخير من شعبان، هذا في حال إذا ابتدأ بالنصف فما بعده، أما إذا كان يصوم قبل النصف، ثم استمر إلى آخر الشهر، فإن النهي لا يشمله؛ لئلا يتعارض مع ما جاء في البخاري (1834)، ومسلم (1957) من حديث عائشة قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان؛ فإنَّه كان يصومه كله". * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل النَّهي للتنزيه، أو للتحريم؟ فذهب كثير من الشافعية إلى: أنَّ النَّهي للتحريم. وذهب بعضهم إلى: أنَّه للتنزيه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ وذلك لما جاء في "المسند" (25434) من حديث أم سلمة: "أنَّ النَّبيَّ

-صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا، إلاَّ شعبان، يَصِلُ به رمضان". وحديث أم سلمة لا ينافي حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري (1781) ومسلم (1812) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين، إلاَّ رجل كان يصوم صومًا فليصمه"؛ فهذا من الصوم الذي لم يقصد به تقدّم رمضان باليوم، أو اليومين. ***

577 - وَعَنِ الصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ. فَلْيَمْضَغْهَا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ مَنْسُوخٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وقال الحافظ: رجاله ثقات. وقد طعن في الحديث بالاضطراب؛ لأَنَّه جاء من رواية عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، وقيل: عن عبد الله بدون أخته. وأجيب: بأنَّ هذه علة غير قادحة، فإنَّه صحابيٌّ، ولا يضر ذلك في روايته، فكلهم عدول، وأما دعوى النسخ بالحديث الذي بعده، فلا يصح؛ لأنَّ هذا أقوى من الذي بعده، ولإمكان حمل الذي بعده على معنى آخر. وقد حسَّن هذا الحديث الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن السكن، وقال النووي: صححه الأئمة، كما صححه الدارقطني، وعبد الحق، والمباركفوري، وضعَّفه بعضهم ومنهم النسائي، والطحاوي، والحافظ. ¬

_ (¬1) أحمد (25828)، أبو داود (2421)، الترمذي (744)، النسائي في الكبرى (2/ 143)، ابن ماجه (1726).

* مفردات الحديث: - بُسْر: بضم الباء، اسمها: بهية المازينية. - لِحاء عنب: -بفتح اللام وكسرها فحاء مهملة ممدودة- هو قشرة كل شيء، والمراد هنا: قشرة العنب "الفاكهة المعروفة". - فليمضغها: من باب نصر وفتح؛ أي: يطعمها للفطر بها. ***

578 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَيَوْمُ الأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أن أُخَالِفَهُمْ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لفْظُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه ابن حبان (3616) والحاكم (1593) وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي، وقد ضعف هذا الإسناد عبد الحق الإشبيلي، لوجود مَنْ لا يعرف حاله في سنده، ولو صحَّ لم يصلح أن يعتبر ناسخًا لحديث الصماء بنت بسر، ولا يعارض به، لإمكان حمله على أنَّه صام مع السبت يوم الجمعة، وبذلك لا يكون قد خصَّ السبت، ولذلك قال ابن عبد الهادي عقب حديث ابن عباس: وهذا لا يخالف الانفراد بصوم السبت، وقال شيخنا -يعني: ابن تيمية-: ليس في الحديث دليل على إفراد يوم السبت بالصوم، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم: (577): يدل على كراهية إفراد صوم يوم السبت، وذلك مقيد بما إذا لم يوافق عادة لصومه، أو يصومه عن قضاءٍ أو نذرٍ، أو كفارة. 2 - الحكمة في النَّهي عن صومه والله أعلم، أنَّه يوم تعظمه اليهود، ويمسكون فيه عن الأشغال والأعمال، ويتفرغون فيه للعبادة، فصيامه تشبه بتعظيمهم إيَّاه، ومشابهة الكفار محرَّمة، فمن تشبه بقوم فهو منهم. ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (2/ 146)، ابن خزيمة (2167).

3 - أما إذا جمع صيام يوم السبت مع يوم الأحد، فإنَّ الكراهة تزول؛ إذ لا يوجد تشبه بإحدى الطائفتين، وهذا ما يدل عليه الحديث رقم (578) فإنَّ صيام اليومين فيه مخالفة لأهل الملتين جميعًا؛ إذ كل أصحاب ملة يعظمون يومًا، ولا يعظمون اليومين كليهما. 4 - قال شيخ الإسلام: دلَّت الدلائل من الكتاب والسنة، والإجماع والاعتبار على أنَّ التشبه بالكفار منهي عنه، فلا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعامٍ ولا شرابٍ، ولا لباسٍ ولا اغتسالٍ ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة، أو غير ذلك، أو ترك الوظائف الراتبة من الصنائع، أو التجارة، أو اتخاذ يوم راحةٍ وفرحٍ ولعب على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيَّام، كما لا يحل فيه إعداد وليمة ولا إهداءٌ، ولا إظهار زينة، والضابط أن يُجعل كسائر الأيام. 5 - قال ابن القيم: إنَّ العلماء اتَّفقوا على تحريم تقديم الهدايا في أعياد الكفار الدينية، وتهنئتهم بأعيادهم التي يتعبدون لله بها، ففيه خطورة تؤدي إلى الكفر، ولهذا فإنَّه ينبغي للمسلم مخالفة أهل الكتاب في أعيادهم وعباداتهم، وأن يقصد هذه المخالفة، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم السبت والأحد؛ قصدًا ولمخالفة المشركين من أهل الكتاب. ***

579 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالحَاكِمُ، وَاسْتَنكرَهُ العُقَيْلِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وفيه مهدي الهجري مجهول، ورواه العقيلي في "الضعفاء" من طريقه، وقال: لا يتابع عليه. قال العقيلي: وقد روي عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد جياد أنَّه لم يصم عرفة بها، ولا يصح عنه النَّهي عن صيامه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يوم عرفة يوم عظيم وصيامه أفضل صيام التطوع؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1976) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده". إلاَّ أنَّ الحاج يوم عرفة مشغول بوظائف ذلك اليوم، من التلبية والتكبير، والذكر والدعاء، تلك الأذكار الخاصة بهذا اليوم، وهي وظائف تفوت ويفوت ثوابها بفوات ذلك اليوم، الذي قد لا يتكرر في حياة المسلم. 2 - من أجل هذا كُره صوم عرفة بعرفة؛ ليكون الحاج قويًّا مستعليًا للقيام ¬

_ (¬1) أحمد (1773)، أبو داود (2440)، النسائي (3/ 252)، ابن ماجه (1732)، ابن خزيمة (2151)، الحاكم (1587)، العقيلي (1/ 298).

بوظائف هذا اليوم العظيم، من الذكر والدعاء. 3 - عدم استحباب صوم عرفة بعرفة هو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الثّلاثة: مالك والشافعي وأحمد، ويؤكد هذا الحديث ما جاء في البخاري (1853)، ومسلم (1896): "أنَّ أم الفضل أرسلت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بلبن، فشرب، وهو يخطب بعرفة"، وقال ابن عمر: "حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم مع أبي بكر، ثم مع عمر، ثم مع عثمان، فلم يصمه واحد منهم". 4 - قال شيخ الإسلام: إنَّه يوم عيد؛ لما روى الإمام أحمد (16739)، عن عقبة ابن عامر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام"، ومظهر العيد فيه والاجتماع هو للحجاج أكثر منه لغيرهم. ولا يمنع أن يجتمع في الحكم الواحد عدة حِكَم وأسرار، فأحكام الله تعالى مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، والحمد لله على نعمه التي لا تحصى. ***

580 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَفْظِ: "لا صَامَ، وَلَا أفْطَرَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا صام من صام الأبد: جملة إنشائية دعائية، جاءت على سبيل الإخبار، فهو دعاء عليه، لقصد الزجر عن هذا الصنيع، وقيل: إنَّها جملة خبرية، وأنَّ من صام الدهر، فقد ألِفَ نظام الأكل على هيئة الصيام، فلا يحس بألم الجوع والظمأ، فكأنَّه لم يصم. - الأبد: بفتح الهمزة والباء، والأبد هو: الدهر الطويل، الذي ليس بمحدود، وجمعه: آباد وأبود. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اختلف العلماء في معنى قوله: "لا صام من صام الأبد". فقال بعضهم: هذا دعاء على الصائم؛ زجرًا له عن مواصلة الصيام المجهدة الشاقة، التي تمنع القائم بها عن كثير من أعمال البر والإحسان، وتعجزه عن القيام بالواجبات نحو نفسه ونحو أهله، ونحو من يمون، ونحو أصحاب الحقوق الواجبة، والمستحبة عليه. وقال بعضهم: إنَّ معناه الإخبار عن حال هذا الصائم الذي لم يصم ¬

_ (¬1) البخاري (1977)، مسلم (1159). (¬2) مسلم (1162).

حقيقة، وإنما صام صورة؛ ذلك أنَّ الصيام الذي يؤجر عليه صاحبه ما نال صاحبه، من ألم الجوع والظمأ، وفقد المباحات. أما صائم الدهر: فقد ألفت نفسُه الصيام، واعتادت طبيعته الحرمان، فصار لا يحس بالصيام ولا بما يسببه من الجوع والظمأ، وبهذا فكأنَّه لم يصم، فالحديث إخبار عن حاله. 2 - على كل حالٍ، فهو مذموم في كلا الأمرين؛ لأنَّه خالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأنَّه اختار لنفسه قدرًا من العبادة غير القدر الذي اختاره الله ورسوله. قال ابن العربي "شارح الترمذي": إنَّ كان دعاء، فيا ويح من دعا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان كان خبرًا فيا ويح من أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-. 3 - فإن قيل: إنَّ صيام الدهر فضيلة؛ لأنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال عن صائم الأيام الثلاثة من كل شهر: "إنَّ ذلك يعدل صوم الدهر" [رواه مسلم (1162)]. قال ابن القيم: هذا التشبيه إنما يقتضي التشبيه به في ثوابه، لو كان مستحبًّا. والدليل عليه من نفس الحديث، فإنَّه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يومًا، ومعلوم أنَّ هذا حرام قطعًا، وغير جائز بالاتفاق، فالتشبيه إنما جاء على تقدير إمكانه. 4 - الصيام المستحب هو صيام نبي الله تعالى داود؛ كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، والمسلم الموفق يراعي الأحوال في عباداته وعاداته، فلا يترك شيئاً يطغى على شيء، فإنَّ الانهماك في نوع يحرم صاحبها من أشياء ربما تكون أفضل وأولى مما هو عليه. 5 - جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صُم يومًا، وأفطر يومًا؛ فإنَّه أفضل الصيام، ولا أفضل من ذلك"، قال

ذلك -صلى الله عليه وسلم- إرشادًا للأمة إلى مصالحهم، وقصرًا لهم على ما يطيقون الدوام عليه، فإنَّ أحب العمل إلى الله أدومه. وفيه نهي لهم عن التعمق والتنطع في العبادات؛ فقد قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا رهبانية في الإسلام". قال الشّيخ: فإنَّ من حق النفس اللطف بها. واشترط العلماء في فضيلة صوم يوم وفطر يوم، ألا يضعفه الصيام عما هو أفضل منه، واجبًا أو سنة. * فائدة: قال أصحابنا: ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأنَّ فيه إحياء لشعائر الجاهلية. قال الشيخ: كل حديث يروي في فضل صومه أو الصلاة فيه، فكذب باتفاق أهل الحديث. ***

باب قيام رمضان

باب قيام رمضان مقدمة المراد بالقيام هنا: الصلاة الوعود عليها بالغفران. سميت الصلاة: قيامًا ببعض أركانها، كما تسمى ركوعًا، قال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة]، وتسمى: سجودًا أيضًا، قال الله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود". ولعل التسمية جاءت مطابقة لما تمتاز به من كثرة القراءة، وإطالة القيام فيها. * فضل قيام الليل: قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]. وجاء في البخاري (1084)، ومسلم (1965) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل". وجاء في "سنن الترمذي" (2409) بسند صحيح عن عبد الله بن سلام، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفشُوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

وجاء في صحيح مسلم (1259) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ في الليل ساعةً، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلاَّ أعطاه إياه". وجاء في الترمذي (3472)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليكم بقيام الليل؛ فإنَّه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم". والآيات والأحاديث والآثار في فضل قيام الليل، والحث عليه كثيرة معروفة، ولله الحمد. * قيام رمضان: والمراد بالقيام هنا: صلاة التراويح؛ لما أخرجه البخاري (1873) ومسلم (1270)، عن عائشة قالت: "صلَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة في المسجد في شهر رمضان، ومعه ناس، ثم صلَّى الثانية، فاجتمع الناس أكثر من الأولى، فلما كانت الثالثة، أو الرابعة، امتلأ المسجد حتىَّ غصَّ بأهله، فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل الناس ينادونه، فقال: أمَا إنَّه لم يَخْفَ عليَّ أمركم، ولكني خشيت أن تُكتَب عليكم"، زاد البخاري في رواية: "فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك". وأخرج النسائي (1586) من طريق يونس بن يزيد عن الزهري الجزم بأن الليل التي لم يخرج فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الرابعة. وروى الترمذي (734) بإسناد صحيح عن أبي ذرٍّ قال: "صمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان، فلم يقم بنا شيئًا من الشهر، حتى بقي سبع، فقام بنا، حتى ذهب ثلث الليل، فلما كان الخامسة، قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلتُ: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة، فقال: إنَّ الرجل إذا صلَّى مع الأمام حتى ينصرف حسبت له قيام ليلة، فلما كان الليلة الثالثة، جمع أهله والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال الراوي: قلتُ: وما الفلاح؟ قال: السحور،

ثم لم يقم بنا بقية الشهر". قال ابن عبد البر: وهذا كله يدل على أنَّ قيام رمضان جائز أن يضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لحضِّه عليه، وعمله به، وإنَّ عمر -رضي الله عنه- إنَّما أحيا منه ما قد سنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال العراقي في "طرح التثريب": استدلَّ بحديث عائشة على أنَّ الأفضل في قيام رمضان أن يفعل في المسجد في جماعة؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك، وإنما تركه لمعنى قد أمِنَ بوفاته عليه الصلاة والسلام، وهو خشية الافتراض. وهذا مذهب جمهور علماء المسلمين، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وصار من الشعائر الظاهرة. * عدد الركعات: قال العراقي: لم تبين في هذا الحديث -رضي الله عنها- عدد الركعات التي صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليالي في المسجد، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما زاد النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، ولا غيره على إحدى عشرة ركعة" [رواه البخاري (1579)]، فالظاهر أنَّه كذلك فعل في هذا المحل. لكن عمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس على صلاة التراويح في شهر رمضان، مقتدين بأُبي بن كعب، صلَّى بهم عشرين ركعة غير الوتر، وهو ثلاث ركعات، وبهذا أخذ الأئمة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، والثوري، والجمهور. قال ابن عبد البر: هو قول جمهور العلماء، وهو الاختيار عندنا، وعدوا ما وقع في زمن عمر -رضي الله عنه- كالإجماع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ نفس قيام رمضان لم يؤقِّت فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عددًا معينًا، بل كان هو لا يزيد على ثلاث عشرة ركعة، لكن يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر -رضي الله عنه- على أُبي بن كعب، صلَّى بهم عشرين ركعة،

ثم يوترون بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأنَّ ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، فحينئذ فله أن يصلي عشرين ركعة، كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصليها ستًّا وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصليها إحدى عشرة، فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام أو تقصيره، والأفضل أن يكون بحسب اختلاف حال المصلين، فإن كان منهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، فهو أفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل. وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، وعليه العمل في الحرمين الشريفين، ولا يكره شيء من ذلك. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ذهب أكثر أهل العلم كالأئمة: أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنَّ صلاة التراويح عشرون ركعة؛ لأنَّ عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ركعة، وكان هذا بحضور الصحابة، فكان كالإجماع، وعليه عمل الناس، فلا ينبغي الإنكار عليهم، بل يتركون على ما هم عليه. والله الموفق. ***

581 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ؛ إيْمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من: اسم شرط جازم، و"قام" فعل الشرط، وجوابه "غُفِرَ لَه". - إيمانًا: منصوب على أنَّه حال، بمعنى: أنَّه حال قيامه مؤمنًا بالله تعالى، ومصدقًا بوعده، ومؤمنًا بفضل هذه الليالي، وعظيم أجر العمل بها عند الله تعالى. - احتسابًا: منصوب على أنَّه حال، بمعنى: محتسبًا الثواب عند الله تعالى، فالحسبة بالكسر هي: الأجر، الذي يرجوه العبد القائم عند الله تعالى. قال العلماء: ويبعد أن يكون "إيمانًا واحتسابًا"؛ مفعولين من أجله، أو تمييزًا. - غُفِرَ لَهُ: من: الغفر وهو الستر، ومنه: المِغفر؛ وهو الخوذة التي تستر الرّأس، ومغفرة الله لعبده: إلباسه إياه العفو، وستر ذنوبه. - مِنْ ذنبه: متعلق بقوله: "تقدم"، ويجوز أن تكون بيانية لما تقدم. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - معنى قيام رمضان هو إحياء ليله بالعبادة والصلاة، ففيه مشروعية صلاة الليل في رمضان، وثبتت صلاتها جماعة في المسجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أجمع عليها الصحابة -رضي الله عنهم- في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم عمل بها المسلمون بعد ذلك قاطبة، فقاموا بصلاة التراويح. ¬

_ (¬1) البخاري (2009)، مسلم (759).

2 - جزاء القيام في شهر رمضان هو غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لكن تقدم أنَّ هذا مقيد بتكفير الذنوب الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، وإطلاق الذنب يشمل الكبائر والصغائر، لكن جزم إمام الحرمين بأنَّه يختص بالصغائر، ونسبه القاضي عياض لأهل السنة. قال النووي: إن لم يوجد صغائر، يرجى أن تخفف الكبائر. 3 - قبول صلاة الليل وترتب تكفير السيئات بها مشروطٌ به أمران: أحدهما: أنَّ الذي حمل القائم علما القيام هو الإيمان والتصديق بثواب الله تعالى. الثاني: احتساب العمل عند الله تعالى، والإخلاص فيه لوجه الله تعالى، فإن فقد العمل هذين الشرطين الهامين، ودخله الرياء والمباهاة، فإنَّه باطل مردود على صاحبه، ونال به صاحبه الملامة والعذاب. 4 - حكى الكرماني الاتفاق على أنَّ المراد بقيام الليل: صلاة التراويح، ويحصل هذا الفضل بما يصدق عليه القيام. 5 - الحديث دليل على فضيلة قيام رمضان، وتأكد استحبابه، وتأكد صلاة التراويح جماعة في المسجد. قال شيخ الإسلام وغيره: كان الصحابة يفعلونها فى المسجد أوزاعًا في جماعات متفرقة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى علم منه بذلك، وإقراره لهم، فقد دلَّت الأخبار على أنَّ فعل التراويح جماعة أفضل من الانفراد، وذلك بإجماع الصحابة وأهل الأمصار، وهو قول جمهور العلماء. 6 - قال شيخ الإسلام: الصلاة التي لا تسن لها الجماعة الراتبة كقيام الليل، والسنن الرواتب، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، ونحو ذلك، فتجوز جماعة أحيانًا، وأما اتخاذ ذلك سنة راتبة فهو بدعة مكروهة. ***

582 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ -أيِ: العَشْرُ الأَخِيْرَةُ مِنَ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَايْقَظَ أَهْلَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مئزره: -بكسر الميم وسكون الهمز- هو الإزار، ويقال: شد للأمر مئزره: تهيَّأ له وتشمر، وهو كناية عن الجد والتشمير في العبادة. وعن الثوري: أنَّه من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء. وقال بعضهم: هو كناية عن التشمير للعبادة، واعتزال النساء معًا، ولكن قد تقرر عند علماء البيان أنَّ الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، فلا يبعد أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قد شدَّ مئزره ظاهرًا، وتفرغ للعبادة، واشتغل بها عن غيرها. - وأحيا ليله: يُحمل على أحد وجهين: أحدهما: راجع إلى العابد، فاشتغاله بالعبادة عن النوم الذي هو بمنزلة الموت إحياء لنفسه. والثاني: أنَّه راجع إلى نفس الليل، فإنَّ ليله لما صار بمنزلة نهاره في القيام فيه، كأنه أحياءه بالطاعة والعبادة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان هي أفضل ليالي العام كله، لما خصت به من المزايا العظيمة، والفضائل الجسيمة، التي أهمها ليلة القدر. قال شيخ الإسلام: الليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي ذي ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2024)، مسلم (1174).

الحجة، فهي الليالي التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحييها كلها، وفيها ليلة القدر خير من ألف شهر. 2 - كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة اهتمامه بهذه الليالي المباركة، يعتكف في المسجد، ويعتزل الناس، ويعتزل نساءه، تفرغًا للعبادة، وإقبالًا على الله. 3 - الحديث دليل على شدة الإقبال على الطاعة في تلك العشر، والانصراف عن كل ما يقطع العلاقة بالله تعالى. 4 - قوله: "إذا دخل العشر، شدَّ مئزره" دليل على الاهتمام، والإقبال على العبادة. واختلف العلماء في تفسير "شدَّ المئزر" على قولين: أحدهما: أنَّ هذا كناية عن التشمير للعبادة، والإقبال عليها، والجد فيها. الثاني: أنَّ هذا كناية عن اعتزال النساء في هذه العشر، ويبعد المعنى الأخير: ما روي عن علي -رضي الله عنه- بلفظ؛ "فشدَّ مئزرك، واعتزِل النِّساء"، فإنَّ العطف يقتضي المغايرة، فهذا غير هذا. 5 - قوله: "وأيقظَ أهله" أي: للصلاة والعبادة؛ لئلا تفوتهم فضيلة هذه المواسم المباركات، وهذا من كمال نصحه لهم، فينبغي لقَيِّم البيت أن ينشط أهله، ويرغبهم في العبادة، لاسيَّما في المواسم الفاضلة. 6 - العشر الأخير: هي خاتمة الشهر، والأعمال إنما تكون بالخواتيم، ولعلَّ هذا من أسرار الجِد والاجتهاد فيها. * خلاف العلماء: قال العيني ما خلاصته: المشهور من مذاهب العلماء في هذا الحديث وشبهه كحديث غفران الخطايا بالوضوء، وبصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء -أنَّ المراد به: الصغائر فقط؛ كما في حديث الوضوء ما لم تؤت كبيرة.

قال النووي: في التخصيص نظر، لكن أجمعوا على أنَّ الكبائر لا تسقط إلاَّ بالتوبة أو بالحد. فائدة: نلخص خصائص هذه العشرة المباركات بهذه الفقرات بدون أدلتها، فهي معروفة وقريبة، ولله الحمد. أولًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيها بالعمل أكثر من غيرها، والاجتهاد فيها لا يختص بعبادة خاصة، بل يشمل الاجتهاد في جميع أنواع العبادة، من صلاة، وتلاوةٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وغيرها. ثانيًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يوقظ فيها أهله للصلاة والذكرة حرصًا على اغتنام هذه المواسم الطيبات، فإنَّها غنيمة، لا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوتها ويهملها، فتذهب عليه سدًى. ثالثًا: كان يعتكف في هذه العشرة ليتمتع بهذه الخلوة بالله تعالى، ويسعد بلذيذ مناجاته، ويبتعد عن كل ما يشغله، ويقطعه عن هذه الخلوة بربه تعالى. رابعًا: أرجى ما تكون ليلة القدر في هذه العشرة المباركات، لذا كان ليلها أفضل ليالي العام، فينبغي تلمسها في هذه الليالي، عسى أن يوفق لها المؤمن، فيحصل له الخير الوفير، فهي "ليلة مباركة"، وهي "خير من ألف شهر". والقصد أنَّ هذه الليالي المباركات التي هي الختام المسك لصوم الشهر، ليالٍ عظيمةٍ، وفوائدها وعوائدها جسيمة، ولا يفرط فيها إلاَّ المحروم من الخير، ممن سفه نفسه، وأكبر من ذلك أن يقضيها بالمجالس المحرمة والاجتماعات الآثمة، نسأل الله تعالى السلامة. ***

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف مقدمة الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، ومنه قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]، أي: الذي أقمت ودمت على عبادته. وشرعًا: المقام في المسجد من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة، لطاعة الله تعالى. والاعتكاف سنة وقُربة: بالكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]، واستفاضت السنة النبوية في فعله -صلى الله عليه وسلم- والترغيب فيه، وإقراره. وأجمع العلماء على مشروعيته، وأجمعوا على أنَّه مستحب وليس بواجب. قال الإمام أحمد: لا أعلم عن أحد من أهل العلم خلافًا أنَّه مسنون، وقد اتَّفق العلماء على أنَّه مسنون كل وقت، ولكنه في رمضان، وفي عَشْرِه الأخيرة آكد. * حكمته: قال ابن القيم: لما كان صلاح القلب، واستقامته على طريق سيره إلى الله

تعالى، متوقفًا على جمعيته، بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شَعث القلب لا يلمه إلاَّ الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثًا، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، ويعوقه، ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذْهب فضول الطعام والشراب، واستفراغ القلب من أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعيته بقدر المصلحة؛ بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة والانقطاع والانشغال به وحده سبحانه وتعالى، ويصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل عموم القلب، وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه منه، فيصير أنسه بالله، بدلًا من أنسه بالخلق، وبعده بذلك، لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. وذكر الاعتكاف بعد الصيام لمناسبتين: الأولى: أنَّ جملة الكلام على الصيام يتناول صيام شهر رمضان، وهو الشهر الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه؛ لما يرجا فيه من ليلة القدر. الثانية: اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف؛ لأنَّ تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام، والبعد عن الشهوات والعادات. واشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف الصيام، ولكن رأى غيرهم من العلماء أنَّه لا دليل لهم، إلاَّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يعتكف إلاَّ صائمًا، والفعل المجرد لا يكون دالاًّ على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنَّه صام أيام اعتكافه.

وجاء في البخاري (6203) ومسلم (3128) أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يَا رَسُولَ الله، إني نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: "أوف بنذرك"، والليل ليس وقتًا للصيام، والله أعلم. ***

583 - وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجلَّ، ثُمَّ اعْتكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يعتكف: الاعتكاف هو: حبس النفس في المسجد لله تعالى، وعكف على الشيء يعكف عكوفًا: إذا واظب عليه ولازمه، ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، أي: يقيمون عليها، فيلازمونها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ طلبًا لليلة القدر، لما قوي ظنه أنَّها في تلك العشر المباركات، واستمرَّ يعتكفهن كل سنة حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. فيشرع الاعتكاف؛ لأنَّه سنة مؤكدة، فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقرَّ عليها. 2 - فائدة الاعتكاف وثمرته هي قطع المعتكف علائقه عن الدنيا وما فيها، والخلوة بربه، والتلذذ بمناجاته، وجمعية نفسه وخواطره وأفكاره عليه، وعلى عبادته. 3 - الاعتكاف سنة باقية لم تنسخ؛ إذ اعتكف أزواج النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعده. 4 - كان -صلى الله عليه وسلم- يعتكف شهر رمضان كله، فكان آخر الأمر منه أن اقتصر على العشر الأواخر من رمضان؛ لما يرجى فيهن من ليلة القدر. 5 - إنَّ شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) البخاري (2025)، مسلم (1172).

{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ولئلا يفضي اعتكافه إلى ترك الجماعة، أو إلى تكرار الخروج من معتكفه إليها كثيرًا، وهذا منافٍ للاعتكاف. 6 - أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- تقسم إلى أنواع خمسة: الأول: ما فعله على مقتضى الطبيعة البشرية؛ كالنوم والأكل والشرب، فهذا لا حكم له، وإنما يدخله العنصر الديني إذا قصد به الفاعل التقوي على طاعة الله تعالى، أو فعله على هيئة مشروعية، كالنوم على الجنب الأيمن، والأكل باليمين؛ احتسابًا للأجر عند الله. الثاني: ما فعله عادة لا عبادة؛ كلبس العمامة والإزار والرداء، وكنوع من الأكل ونحو ذلك، فهذا الاتباع فيه أن يلبس الإنسان ما يلبس أبناء جنسه وأهل بلده، وليس من الاقتداء أن يلبس الإنسان ما كان يلبسه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالقدوة هنا عدم المخالفة، لا ذلك النوع الخاص. الثالث: ما فعله على سبيل التعبد، فإذا ظهر لنا فيه قصد العبادة، فيستحب لنا اتباعه في ذلك؛ لأنَّ أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- المجردة لا تدل على الوجوب، على الراجح. الرابع: ما كان مترددًا بين العبادة والعادة، كالتحصيب بعد ليالي منى، وصفة دخول مكة، ودخول المسجد، فبعض العلماء يرى أنَّه فعل ذلك على وجه العبادة، وبعضهم يرى أنَّها جاءت على سبيل العادة؛ لأنَّها أسمح لطريقه. الخامس: ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا لحكم مجمل؛ كقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صلوا كلما رأيتموني أصلي" [رواه البخاري]. ***

584 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، صَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - معتكفه: ظرف مكان؛ أي: مكان اعتكافه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه مشروعية الاعتكاف واستحبابه، وأنَّه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته. 2 - أنَّ وقت دخول المعتكف، أي: مكان اعتكافه يكون بعد صلاة الصبح. 3 - فيه دليل أنَّه لا بأس من احتجاز مكان للاعتكاف بخيمة، أو خصفة، أو حُجْرَة، أو نحو ذلك؛ لما أخرج الشيخان عن عائشة "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يعتكف، أمر بضرب خبائه، فضُرِبَ"، وإباحة هذا المكان المحجوز بشرط ألاَّ يحصل به ضيق عن المصلين. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2033)، مسلم (1173).

585 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأسَهُ -وَهُوَ فِي المَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ البَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتكِفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ليدخل: "اللام" حرف ابتداء جاءت للتوكيد، وفي دخولها على الفعل المضارع تخليصه للحال، كهذا الحديث. - ليدخل على رأسه وهو في المسجد: ذلك أنَّ بيته -صلى الله عليه وسلم- مجاور للمسجد. - أُرجِّله: أمشط شعر رأسه، وأسويه وأزينه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - خروج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه بلا حاجة -أمر يفسد اعتكافه ويبطله، ويجوز أن يخرج لما لا بد له منه، كإتيانٍ بمأكلٍ ومشربٍ؛ لعدم من يأتيه بهما، وكقيءٍ وبولٍ، وغائطٍ، وطهارةٍ واجبةٍ، ونحو ذلك. 2 - لذا فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج من المسجد من أجل ترجيل رأسه، وإنما يقربه من عائشة ترجله، وهي في بيتها، وهو في مسجده، لأنَّها حائض لا تدخل المسجد. 3 - فيه دليل على أنَّ خروج بعض البدن لا يعتبر خروجًا ممنوعًا، بل لا يزال صاحبه في المسجد. 4 - أنَّ لمس المرأة بدون شهوة لا يفسد الاعتكاف، وأنَّ ملامسة الحائض ¬

_ (¬1) البخاري (2029)، مسلم (297).

للمعتكف وغيره جائزة، فبدنها طاهرٌ، وعرقها طاهرٌ، ولم ينجس إلاَّ مكان الحيض وهو الفرج. 5 - أنَّ الاعتكاف لا يمنع من ترجيل الشعر وإصلاحه وغسله، وأنواع التنظيف في البدن والثياب. 6 - أنَّ الحائض لا يجوز أن تمكث في المسجدة لئلا تلوثه، ولحدثها الأكبر، الذي لا يخففه الوضوء. 7 - الإسلام موقفه من الحائض موقف الطهارة والنظافة، وموقف الاحترام والتقدير، فهو يعتبر مكان الحيض وهو الفرج أذًى وقذر، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. لأنه نفس المخْرَج، ولقُربه من الأذى والنجس، ولهذا تنزه عن عمل النصارى الذين لا يتحاشون عن جماعها وهي حائض. والإسلام يعتبر بدن الحائض طاهرًا نظيفًا، ويعتبر الحائض محترمة مكرمة، وبهذا يرفض شدة اليهود ومشقتهم التي ليس لها أساس، فالإسلام وسط، وخيار بين الملتين الشاطحتين. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في لمس الرجل المرأة بدون حائل، وبدون شهوة، هل ينقض الوضوء، أو لا؟ فذهب الإمام الشافعي وأتباعه إلى أنَّه ينقض؛ محتجين بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء: 43]، فإنَّه حقيقة في المس. وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه: لا ينقض؛ محتجين بما في البخاري (485) ومسلم (793) عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد، عمزني، فقبضت رِجلي"، وبما رواه مسلم (751) والنسائي (169) قالت: "فقدت النبي -صلى الله عليه وسلم-

ذات ليلة، فجعلت أطلبه، فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد". وممن ذهب إلى هذا القول: علقمة، وأبو عبيد، والنخعي، والحكم، والشعبي، وحماد، والثوري، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأصحابه. أما الاستدلال بالآية على النقص فغير ورادٍ. قال ابن رشد في "بداية المجتهد": سبب اختلافهم في هذه المسألةُ اشتراك اسم المس في كلام العرب، فإنَّ العرب تطلقه على اللمس باليد مرةً، وتكني به عن الجماع مرةً، كما في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. وقد احتجَّ من أوجب الوضوء من اللمس باليد: بأنَّ اللمس حقيقةً يطلق على المس باليد، ويطلق على الجماع مجازًا، وأنَّه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يُحمل على الحقيقة، حتى يدل دليلٌ على المجاز. ولكن لأولئك أن يقولوا: إنَّ المجاز إذا كثر استعماله، كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم الغائط، الذي هو أدل على الحدث -الذي هو المجاز- منه على المطمئن من الأرض، الذي هو فيه حقيقة، والذي أعتقده أنَّ اللمس وإن كان دلالته على المعنبين بالسواء، أو قريبًا من السواء، أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازًا؛ لأنَّ الله تعالى قد كنى عن المباشرة، والمس عن الجماع، وهما في معنى اللمس. اهـ. قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا الذي قاله ابن رشد تحقيق دقيق، وبحث واضح نفيس. قلتُ: جاء في سنن أبي داود (153)، والترمذي (79)، وابن ماجه (495) من حديث عروة عن عائشة: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبَّل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ، وهو حديثٌ مشهورٌ، وبناءً عليه ذهب طائفةٌ من السلف والخلف إلى أنَّ القُبلة ونحوها -وإن كانت لشهوة- لا تنقض الوضوء.

وممن أخذ به علي، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، ومسروق، وبه قال أبو حنيفة وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية. والذين يرون القُبلة بشهوة ناقضة، حملوا الحديث على أنَّه تقبيل رحمةٍ ومودةٍ، لا شهوة، والله أعلم. ***

586 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتِ: "السُّنَّة عَلَى المُعْتكِفِ أَلاَّ يَعُودَ مَرِيْضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَهًّ، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلاَّ لِمَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ، إِلاَّ أنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أصل الحديث في البخاري (2025)، ومسلم (1172) من حديث عائشة: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله". زاد البيهقي: (8377) وقالت: "السنَّة للمعتكف ألا يعود مريضًا ... " إلخ الحديث، وإسناده صحيح، وأخرج أبو داود هذه الزيادة بإسناد جيد على شرط مسلم. * مفردات الحديث: - السنة: يعني: الدين والشرع، فعائشة -رضي الله عنها- أرادت إضافة هذه الأمور إلى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قولًا وفعلًا. - يعود: عاد يعود عودًا، فهو عائد، جمعه: عُوَّد وعُوَّاد؛ أي: زار المريض، فزيارة المريض، تسمى عيادة. - يشهد: شهد يشهد شهودًا؛ أي: حضر، والمراد بذلك: اتباع الجنازة حتى تدفن. - جنازة: بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح، وتخفيف النون، جمعه: ¬

_ (¬1) أبو داود (2473).

جنائز، اسم للنعش عليه الميت. - يمس: بفتح الياء، وتشديد السين، يقال: مس يمس مسًّا، من باب نصر: لمسه، وأفضى بيديه إلى جسمه بلا حائل. ومس امرأته: جامعها، وهو المراد هنا. - يباشر: يقال: باشر الرجل زوجه: لامس بشرتها بإلصاق بشرته ببشرتها، مأخوذة من البشرة، وهي ظاهر الجلد. - لابد: أي: لا محيص، ولا معدل، ولا مناص، وليس لك من ذلك بُدٌّ، يريدون به الإطلاق على أي وجه كان، فـ"بُد" لا يعرف استعمالها إلاَّ مقرونةً بالنفي. ***

587 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى المُعْتكِفِ صِيَامٌ، إِلَّا أن يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. قال المؤلف: الراجح وقفه على ابن عباس، قال البيهقي: التصحيح أنَّه مو قوف، ورَفْعه وَهْمٌ. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم أنَّ معنى الاعتكاف هو: قطع العلائق عن الخلائق، ومناجاة الخالق، فيجب على المعتكف ملازمة معتكفه، ولا يجوز له الخروج منه، إلاَّ لما لابد له منه، من مأكلٍ، ومشربٍ، وطهارةٍ، ونحو ذلك، فإن خرج بطل اعتكافه. 2 - لا يجوز للمعتكف أن يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يزور قريبًا، ولا يخرج لأية قُربة لا تتعيَّن عليه، وذلك بإجماع العلماء. 3 - قال أصحابنا: إذا شرط في ابتداء الاعتكاف الخروج إلى مثل هذه القرب من عيادة المريض، وشهود الجنازة، ونحو ذلك، فله شرطه، وهو مروي عن جماعة من الصحابة، ولأنَّ الاشتراط يصير المشتَرط كالمستثنى، قال ابن هبيرة: وهو التصحيح عندي، قال إبراهيم النَّخعي: كانوا يستحبون للمعتكف هذه الخصال، وجزم بذلك الموفق، وهو المشهور من المذهب. ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 199)، الحاكم (1603).

4 - يدل الحديث على أنَّه يشترط أن يكون الاعتكاف في مسجد تصلى فيه الجماعة، ولقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. 5 - قوله: "ولا اعتكاف إلاَّ بصوم" هذا دليل الحنفية والمالكية، أما جمهور العلماء والمشهور عن الإمام الشافعي، والإمام أحمد-: فلا يشترط الصوم، وقد تقدم دليله، وهذا الحديث الموقوف لا يعارض ما تقدّم من الأدلة من عدم اشتراط الصوم. 6 - الحديث رقم (587): صريح بعدم اشتراط الصوم، وهو مؤيد للأدلة السابقة. 7 - إذا نذر المسلم الصوم مع الاعتكاف، وجب الوفاء من أجل النذر، لا من أجل لزوم الصوم مع الاعتكاف، فمن نذر أن يطيع الله فليُطعه. 8 - قال العلماء: يستحب اشتغال المعتكف بالقُرب؛ من صلاةٍ، وقراءةٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وليس له ذكرٌ مخصوص، ولا فعلٌ، سوى اللبث في المسجد، وأفضل الذكر تلاوة القران بتدبر، فهذا لا يعدله شيء. 9 - الاعتكاف حبس النفس، وجمع الهمة على نفوذ البصيرة في تدبر القرآن، ومعاني التسبيح، والتحميد، والتهليل، وذكر الله. 10 - وعلى المعتكف اجتناب ما لا يعنيه من جدال، ومراء، وكثرة كلام؛ لأنَّه مكروه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حُسنِ إسلام المرءِ تركه ما لا يعنيه" [رواه الترمذي (42239)]. * ليلة القدر وفضلها: القدر: ينطق بفتح القاف والدال لا غير، بمعنى: قضاء الله في خلقه من آجال وأرزاق، وغير ذلك. ويُنطق بفتح القاف والدال وسكونها، وهذا معناه: الشرف والحرمة، وكِلا المعنبين حاصلان في ليلة القدر، فهي جليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا

أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]. وهي ليلة تُقدَّر فيها الأشياء، وتقضي فيها الأمور التي ستكون في السنة، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 4، 5]. ففيها يفصل الأمر المقدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة، في كل ما هو كائن من أمر الله تعالى في تلك السنة، من الأرزاق، والآجال، والخير، والشر، وغير ذلك، من كل أمر حكيم، أحكمه الله وأتقنه. قال الطيبي: إنما جاء "القدر" بسكون الدال، وإن كان الشائع بالفتح، ليعلم أنَّه لم يرد به ذلك، فإنَّ القضاء قديم، وإنما أريد به ما جرى به القضاء وتببينه وتجديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل؛ ليحصل ما يلقى إليهم فيها مقدارًا بمقدار. فهي ليلة عظيمة شريفة جليلة عند الله تعالى، لها مزايا عظيمة، نلخص فيما يلي بعضها: أولًا: يُنزل الله تعالى فيها الملائكة من السماء إلى الأرض، وينزلون ومعهم الخير والبركة والرّحمة والأمان، ويتقدمهم الروح الأمين: جبريل عليه السلام. ثانيًا: ابتدأ في هذه الليلة الشريفة نزول القرآن، الذي هو أعظم منَّة ورحمة على المسلمين. ثالثًا: يحل فيها السلام والأمان، من أول تلك الليلة المباركة حتى الصباح، قال تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر]. رابعًا: تُقدَّر فيها الأمور للعام القابل، فتُفْصل تلك الأمور من الآجال، والأرزاق، والحوادث، وغير ذلك، تُفصل من اللوح المحفوظ، وتتلقاها الملائكة الكتبة، ليجري تنفيذها بأمر الله تعالى قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

حَكِيمٍ (4)} [الدخان]. خامسًا: العبادة فيها خير من ألف شهر فيما سواها من الأوقات، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}. سادسًا: جاء في البخاري (2014) ومسلم (760)؛ أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام ليلة القدر؛ إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه" سابعًا: الدعاء فيها مستجاب، فقد روى الترمذي (2435) عن عائشة أنَّها قالت: "قُلتُ: يا رسول الله، أرَأيتَ إنَّ علمتُ أيَّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللَّهمَّ إنَّك عفوٌ تُحب العفو فاعف عنِّي". وستأتي بقية أحكامها إن شاء الله تعالى. ***

588 - وَعَن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رِجَالًا مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحرِّيهَا، فَلْيَتَحرَّهَا فِي السَّبع الأَوَاخِرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُروا: أصلها: "أريوا" من: الرؤيا؛ أي: خيل لهم في المنام. - ليلة القدر: بفتح الدال وسكونها، سمِّيت بذلك؛ لعظم قدرها وشرفها، أو لأنَّ الأمور تقدر فيها، من الآجال والأرزاق، وحوادث العام كلها فيها، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}. - رؤياكم: الرؤيا على وزن: فُعلى، كحبلى، فيقال: رأى رؤيا بلا تنوين، وجمعها: رؤًى بالتنوين، والمراد بها: الرؤيا المنامية. - تواطأت: بتاء ثم واو ثم طاء ثم ألف مهموزة ثم تاء، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]. فأصله أن يطا الرجل برجله مكان وطء من قبله، فنقلت إلى هنا بجامع موافقة رؤيا الرجل لرؤيا الآخر، فتواطأت؛ أي: توافقت لفظًا ومعنًى. - فليتحرَّها: التحري هو: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان الصحابة -رضي الله عنهم- من حرصهم على الخير ورغبتهم فيما عند ¬

_ (¬1) البخاري (2015)، مسلم (1165).

الله يتحرون ليلة القدر، ويلحون بالسؤال عنها؛ لِما في هذه اللَّيلة من المزايا العظيمة، وما يتنزَّل فيها من الخيرات والبركات، وما يحل فيها من الرحمة، والنعمة، والأمن، والأمان، والسلام. 2 - كان بعض الصحابة يرون ليلة القدر: إما بعلامتها وأماراتها، وإما يرونها منامًا، قال الشيخ تقي الدين: وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، فقد رآها بعض الصحابة، فجاءوا وأخبروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما رأوا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَرى" -بفتح الهمزة بمعنى: أعلم- "رؤياكم قد تواطأت" أي: توافقت على وقت متقارب، وهو "في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". 3 - السبع الأواخر من شهر رمضان هي أرجى ما تكون تلك الليلة. 4 - فضل ليلة القدر وشرفها، وما جعل الله تعالى فيها من الخير والبركة، حتى صارت العبادة فيها خيرًا من ألف شهر، مما سواها من الأيام والليالي. 5 - أنَّ الله تعالى من رحمته بخلقه، وحكمته بأمره، أخفى هذه الليلة، ليجدَّ المسلمون في العبادة في تلك الليالي، فيكثر ثوابهم، ولو علموا بها في ليلة معيَّنة، لقَصَروا اجتهادهم عليها، إلاَّ من شاء الله تعالى. 6 - استحباب طلبها والتعرض فيها لنفحات الله تعالى، فهي ليلة مباركة تضاعف فيها الأعمال، ويستجاب فيها الدعاء، ويسمع فيها النداء، وتقال فيها العثرات، فالمحروم من حُرِمَ خيرها، وحرم التماس خيرها، والله الموفق. ***

589 - وَعنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ: لَيْلَةُ سَبع وَعِشْرِيْنَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1)، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِيْنِهَا عَلى أَرْبَعِينَ قَوْلًا، أَوْرَدْتُهَا فِي "فَتْحِ البَارِي". ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. وله حكم الرفع، قال الحافظ: رواه أبو داود مرفوعًا، وسكت عنه هو والمنذري، وصححه النووي في "المجموع"، والراجح وقفه على معاوية، وله حكم الرفع، لأنَّه لا يقال بالرأي، وإنما يتلقى بالسماع. * مفردات الحديث: - في ليلة القدر: القدر مصدر، من قولهم: قدَّر الله الشي قدرًا وَقدْرًا لغتان، وقدره تقديرًا بمعنًى واحدٍ، ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها فيها، وقيل سميت بذلك؛ لعظمها وشرفها. قال الأزهري: هي ليلة العظمة والشرف، ومنه قول الناس: لفلان عند الأمير قدْرَ؛ أي: جاه ومنزلة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، فقد سيق مساق الجزم والحتم. 2 - المؤلف ابن حجر ذكر فيها في "فتح الباري" أربعين قولًا، ويمكن تصنيف ¬

_ (¬1) أبو داود (1386).

هذه الأقوال إلى أربع فئات: الأولى: مرفوضة، كالقول بإنكارها في أصلها، أو رفعها. الثانية: ضعيفة، كالقول بأنَّها ليلة النصف من شعبان. الثالثة: مرجوحة، كالقول بأنَّها في رمضان في غير العشر الأخير منه. الرابعة: هي الراجحة، وهي كونها في العشر الأخير من شهر رمضان وأرجاها أوتارها، وأرجح الأوتار ليلة سبع وعشرين. وهذه الأدلة تؤيدها: أولًا: ما أخرجه الإمام أحمد (4577) عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان متحريها، فليتحرها ليلة سبع وعشرين"، وللحديث شواهد. ثانيًا: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، المحدث المُلْهم"، وحذيفة ابن اليمان "أمين السر النبوي"، وغيرهما من الصحابة لا يشكون أنَّها ليلة سبع وعشرين. ثالثًا: ما رواه مسلم (1999) عن شيخ القرَّاء أُبي بن كعب، أنَّه كان يحلف أنَّها ليلة سبع وعشرين. رابعًا: كونها ليلة سبع وعشرين، هو مذهب واختيار إمام أهل السنة الإمام أحمد، وأصحابه من فقهاء المحدثين؛ كإسحاق بن راهويه. خامسًا: قال ابن رجب -رحمه الله-: ومما استدل به من رجَّح أنَّها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات، التي رؤيت فيها قديمًا وحديثًا. سادسًا: هذا الشعور العام الجماعي عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعبر قرونها الطويلة أنَّها هذه الليلة، وإقبالهم على العبادة والاجتهاد فيها، ولا تجتمع أمة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة. ***

590 - وَعَنْ عائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيْهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي". رَوَاهُ الخَمْسَةُ غَيرَ أَبِي دَاوُدَ، وَصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلِّف: صححَّه الترمذي والحاكم، ووافقه الذَّهبي. وقال الشيخ صديق بن حسن في "نزل الأبرار": رويناه بالأسانيد الصحيحة في كتب الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أرأيتَ إن علمت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قُولِي: اللَّهمَّ إنك عفو تحب العفو، فاعف عنِّي"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أُم المؤمنين -رضي الله عنها- من حرصها على أفضل الدعاء في تلك الليلة، التي علمت أنَّ الدعاء مستجاب فيها، وأنَّ النِّداء مسموع فيها، تسترشد من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل دعاء تقوله في ليلة القدر إن علمت، فأخبرها -صلى الله عليه وسلم- بأحسن وأفضل ما تقول. 2 - هذا الدعاء سأله عنه -صلى الله عليه وسلم- أحب الناس إليه، وأرشده إليه بطريق إعطاء النصح ¬

_ (¬1) أحمد (24215)، الترمذي (3513)، النسائي في الكبرى (7712)، ابن ماجه (3850)، الحاكم (1942).

في المشورة. والذي اختاره هو أعلم الناس بمعناه، فيكون لهذا الدعاء مزايا القبول كلها. 3 - الدعاء المذكور هو أفضل مسؤول من الله تعالى، فعفو الله عن عباده معناه الصفح عن الذنوب، ومحو السيئات، وترك المجازاة عن الهفوات الكبيرة والصغيرة، وليس بعد هذا إلاَّ الرضا عن المعفو عنه، وإحلاله دار كرامته، وهذا هو غاية المطلوب. 4 - هذا الدعاء جَمَع آداب الدعاء، فقد ابتدىء بلفظ: "اللهمَّ"، وهي عوض عن "يا الله"، فالميم بدل من الياء. وأصح الأقوال: أنَّ لفظ "الله" هو الاسم الأعظم، الذي إذا دُعِي الله به أجاب؛ لتضمنه معنى الإلهية والعبادة. ثم إنَّ جملة "إنَّك عفو" فيها تأكيدات لإثبات صفة العفو لله تعالى. "تحب العفو" فيه إثبات محبته اللائقة بجلال الله تعالى للعفو عن المستعين. "فاعفُ عني" فيه إثبات حكم العفو، ومقتضاه لله تعالى. ففي هذه الجمل التوسل إِلى الله بصفته المناسبة للمطلوب، ومحبته للعفو، وقربه منه بأن يعفو عن الداعي، فإذا صادف هذا الاسترحام والتذلل من قلب خاشعٍ، وفي ليلةٍ مباركةٍ، ومن عبدٍ مخلصٍ منيبٍ، فهو حري ألَّا يُرد، وأن يستجاب لصاحبه؛ لأنَّ قبول الدعاء له أسباب وآداب، هذه من أهمها. 5 - من فقه عائشة -رضي الله عنها- أنَّها اختارت لهذا الوقت الفاضل الدعاء بأفضل مطلوب، حتى إذا حصلت الإجابة، وإذا الهبة والعطية جزلة. 6 - وللنسائي من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سلوا الله العفو،

والعافية، والمعافاة الدائمة، فما أوتي أحد بعد يقين خيرًا من معافاة". قال في "الروض وحاشيته": فالشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة؛ لتضمنها دوام العافية، فهذا من أجمع الدعاء. وينبغي الإكثار في ليلة القدر من الدعاء والاستغفار؛ لأنَّ الدعاء فيها مستجاب، ويذكر حاجته في دعائه، الذي يدعو به تلك الليلة. ***

591 - عَنْ أَبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تُشَدُ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلَاثَةِ مسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: "تُشد" بضم الدال المهملة على أنَّ "لا" نافية، ويروى بسكونها على أنَّها ناهية، وهو مبني للمجهول، جاء بلفظ النفي بمعنى النَّهي؛ بمعنى: لا تشدوا الرحال، ونكتة العدول عن النَّهي إلى النفي حمل السامع على ترك الفعل، فيكون أبلغ بألطف وجه. قال الطبري: النَّفْي أبلغ من صريح النَّهي، كأنه لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلاَّ هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصَّت به. - الرحال: جمع "رحل"، وهو للبعير كالسرج للفرس، وشده كناية عن السفر؛ لأنَّه يلازمه غالبًا، وهذا من باب الحصر عند علماء البلاغة، ومن أدواته عندهم النفي والاستثناء كهذا الحديث، فإنَّه أفاد تخصيص جواز السفر إلى المساجد الثلاثة دون غيرها من البقاع. - المسجد الحرام: أي: المحرَّم، وفي إعراب المسجد الحرام وجهان: الأوّل: الجر على أنَّه بدل من الثلاثة. الثاني: الرفع على الاستئناف. - ومسجدي هذا: اسم الإشارة للتعظيم، ومن أجل الإشارة خصَّ النووي مضاعفة الثواب في المسجد الذي على عهده -صلى الله عليه وسلم-، والذين يغلبون الاسم ¬

_ (¬1) البخاري (1197)، مسلم (827).

عمَّموا المضاعفة لكل الزيادات التي ألحقت به. - المسجد الأقصى: بإضافة الموصوف إلى الصفة، وهو جائز عند الكوفبين، وقول عند البصربين بإضمار المكان، وسمِّي "الأقصى" لبعده عن المسجد الحرام في المسافة. وقال الزمخشري: سمي: أقصى؛ لأنَّه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل غير ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ساق المؤلِّف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث ليبيِّن للقارىء أنَّه لا يصح أن يقصد بالزيارة، وشد الرحال، والسفر إلاَّ هذه المساجد الثلاثة، فهذه المساجد الثلاثة لها مزايا وخصائص، ليست لغيرها من البقاع: أولًا: مضاعفة ثواب الأعمال فيها؛ فقد روى الطبراني في "الأوسط" (7008) عن أنسٍ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة"، قال ابن عبد البر: إسناده حسن، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلاَّ المسجد الحرام". ثانيًا: أنَّ هذه المساجد الثلاثة بناها أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالكعبة المشرفة بناها إبراهيم وإسماعيل، والمسجد الأقصى بناها يعقوب، ومسجد المدينة بناه النَّبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المزية لا يلحقها غيرها من المساجد والبقاع، فالمكي قبلة الناس، وإليه حجهم، والمدني أُسِّس على التقوى، والأقصى قبلة الأنبياء السابقين، وأُولى قبلتي المسلمين. 2 - بيَّن هذا الحديث الشريف أنَّ السفر لا يُنشأ لأية بقعة من بقاع الأرض، إلاَّ لهذه المساجد الثّلاثة، كما في حديث الباب؛ لما لها من المزية على غيرها، ولورود شرع الله تعالى بالإذن بشد الرحال إليها.

3 - مفهوم الحديث أنَّ غيرها من البقاع لا يجوز شد الرحل إليه للعبادة، والسفر إليه؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قصر ذلك على هذه المساجد، وأعظم ما يكون، وأشده فتنة هو شد الرحال والسفر إلى القبور، سواء كانت قبور الأنبياء، أو صالحين، أو غيرها، فإنَّ شدَّ الرحل إليها غلو في أصحابها، ووسيلة قريبة إلى الفتنة التي قد تصل إلى عبادة أهلها ودعائهم من دون الله. 4 - ما زيد في هذه المساجد الثلاثة، فهو تابع لها بالمضاعفة، وحصول الثواب الأصلي منها. 5 - قال في "الفروع": ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد، في المسجد الحرام أنَّه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل، فالصلاة فيه أفضل، وذكر القاضي وغيره: مرادهم في التسمية لا في الأحكام، وقد يتوجه من هذا حصول المضاعفة في الحرم كنفس المسجد، وجزم به صاحب "الهدي" من أصحابنا. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إنَّ المضاعفة والثواب تعم الحرم كله، وهو ما أدخلت الأميال. وذكر ابن الجوزي: أنَّ الإسراءِ كان من بيت أم هانىء عند أكثر المفسرين، فعلى هذا المعنى فالمراد بالمسجد: الحرم كله. ... انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله (كتاب الحج)

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الرّابْع مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الحج

كتاب الحج مقدمة الحج: حج يحج حجًّا، من باب قتل، وهو بفتح الحاء وكسرها، والفتح أشهر؛ والحِجة بالكسر المرة، ولكن غير قياس، والجمع حجج، قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يسمع من العرب. والحج لغة: القصد، وقال الخليل: القصد إلى معظَّم، قال في المصباح: ثم قصر استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج والعمرة. وشرعًا: قصد البيت الحرام؛ لأعمال مخصوصة، في زمن مخصوص. وكونه أحد أركان الإسلام ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، إجماعًا ضروريًا: فالكتاب: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران]. وأما السُّنَّة: فمستفيضةٌ، ومنها ما في الصحيحين: "بُني الإسلام على خمس"، ولا يجب في العمر إِلَّا مرَّة واحدة في السنة، كما في سنن أبي داود (1463) من حديث ابن عبَّاس مرفوعًا، "الحج مرة فمن زاد فهو تطوع". قال الوزير وغيره: أجمعوا على أنَّ الحج يجب على كل مسلم بالغ مستطيع مرةً واحدةً، وأنَّ المرأة في ذلك كالرجل. قال الشيخ تقي الدين: يجب على الحاج أن يقصد بحجه وجه الله تعالى والتقرب إليه، وأن يحذر أن يقصد حطام الدنيا، أو المفاخرة، أو حيازة

الألقاب، أو الرياء، أو السمعة، فإنَّ ذلك سبب في بطلان العمل، وعدم قبوله. * حكمه وأسراره: للحج حكم عظيمة، وأسرار سامية، وأهداف كريمة، تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وقد أشارت إليها الآية الكريمة، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]. فهو مجمع حافل كبير، يضم جميع وفود المسلمين من أقطار الدنيا، في زمنٍ واحدٍ، ومكانٍ واحدٍ. فيكون فيه التآلف والتعارف، والتفاهم، مما يجعل المسلمين أمةً واحدةً، وصفًّا واحدًا، فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم. وفيه من الفوائد والمنافع الاجتماعية والثقافية والسياسية ما يفوت الحصر عده، وهو عبادة جليلة لله تعالى بالتذلُّلِ، والخضوع والخشوع، وبذل النفس والنفيس من النفقات، وتجشم الأسفار والأخطار، ومفارقة الأهل والأوطان، كل ذلك طاعة لله تعالى، وشوقًا إليه، ومحبة له، وتقربًا إليه في قصد الكعبة المشرفة، والبقاع المقدسة. ومن أجل هذا جاء الحديث الذي في البخارى (1650) ومسلم (2403) "الحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة" هذا إذا قصد العبد بحجه وجه الله تعالى، واحتسب الأجر من الله تعالى، ثم تحرى اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجَّه وأعماله كلها، وابتعد عمَّا ينقص حجه من الرفث، والفسوق، والجدال بالباطل. ونقَّى عقيدته من البدع والخرافات والاتجاهات المنافية لدين الإسلام، والله الموفق والمستعان. ***

باب فضله وبيان من فرض عليه

باب فضله وبيان من فرض عليه 592 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الكفارة لغة: من الكفر، وهو الستر والتغطية. وشرعًا: إسقاط ما لزم الذمة: بسبب ذنب، أو جناية. - الحجِّ في اللغة: القصد. وفي الشرع: الحج: قصد زيارة بيت الله الحرام على وجه التعظيم، بأفعال مخصوصة في زمن مخصوص. - المبرور: البر بكسرِ الباء اسم جامع للخير كله، فالمبرور مشتق من البر. يقال: برَّه: أحسن إليه، فهو مبرور، ثم قيل: بر الله عمله، إذا قَبِله، كأنَّه أحسن إلى عمله بأن قبله، ولم يرده، وعلامة كونه مقبولًا هو الإتيان بجميع أركانه وواجباته، مع إخلاص النية، واجتناب ما نهي عنه. قال النووي: الأصح والأشهر أنَّ المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وعلامته أن تظهر ثمرته على صاحبه، بأن تكون حاله بعد الحج خيرًا منها قبله. ¬

_ (¬1) البخاري (1197)، مسلم (827).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضل العمرة وأنَّها، تكفر الذنوب، كسائر العبادات، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. لكن قيَّد العلماء التكفير للصغائر دون الكبائر. فال النووي: "مذهب أهل السنة أنَّ الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله وفضله". قال ابن عبد البر: "المراد تكفير الصغائر دون الكبائر". 2 - الحديث ظاهر في فضل الإكثار من العمرة، وسيأتي بيانه إن شاء الله. 3 - أنَّ العمرة ليس لها وقت مخصوص، ولا زمن معيَّن لغير متلبس بالحج، وهو إجماع العلماء. 4 - أنَّ الحج أفضل من العمرة؛ لأهميته وكثرة أعماله، وكونه أحد أركان الإسلام. 5 - قال النووي: "الأصح الأشهر أنَّ الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر، وهو الطاعة". 6 - أنَّ الجنَّة هي منتهى الآمال، وهي الجائزة الكبيرة لفضائل الأعمال، ومن أعظم نعيم الجنه النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى. 7 - الحضُّ على أداء الحج خاليًا من الإثم، آتيًا على الوجه المشروع، لأجل الحصول على هذا الثواب العظيم. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء إِلى استحباب العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وقالت المالكية: تكره في السنة أكثر من عمرة واحدة. ودليلهم: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلاَّ من سنة إلى سنة.

أما الجمهور: فدليلهم حديث الباب، وما أخرجه الترمذي (738) وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنَّ المتابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد"، وغيرهما من الأحاديث، وقد اعتمرت عائشة في شهر واحد مرَّتين، وذلك في حجتها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع. والعلماء المحققون يريدون من العمرة ما يأتي بها الإنسان من بلده، لا ما يخرج من أجلها من مكة إلى أدنى الحل. قال ابن القيم في زاد المعاد: ولم يكن في عُمَرِهِ -صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجًا من مكة، كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُه كلها وهو داخل إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنَّه أحرم خارجًا من مكة، تلك المدة أصلًا فالعمرة التي فعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرعها عمرة الداخل إِلى مكة، لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلاَّ عائشة وحدها، من بين سائر من كان معه؛ لأنَّها كانت أحرمت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وبعمرة مستقلة، وترجع هي بعمرة ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم. وأما الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: فقال: وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم، أو الجعرانة، أو غيرهما، وقد سبق أن اعتمر قبل الحج، فلا دليل على مشروعيته، بل الأدلة تدل على أنَّ الأفضل تركه، لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج، وإنما أعمر عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض، فطلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعتمر بدلًا من عمرتها التي أحرمت بها من الميقات، فأجابها -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، وقد حصلت لها عمرتان، فمن كان مثل

عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج، عملًا بالأدلة كلها. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقال: وأما الاعتمار بخروجه إلى الحل، فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط، إِلَّا عائشة في حجة الودل، مع أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها. أما أصحابه -الذين حجوا معه حجة الوداع، كلهم من أولهم إلى آخرهم- فلم يخرج منهم أحد، لا قبل الحجة ولا بعدها، وكذلك أهل مكة المستوطنون لم يخرج منهم إلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته. ***

593 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! عَلى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ والعُمْرَةُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: إسناده صحيح، وأصله في التصحيح. وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني (2/ 284) عن محمَّد بن فضيل قال: حدَّثنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة -رضي الله عنها-. قُلْتُ: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن خزيمة (3074) وأخرجه البخاري من طريق عبد الواحد بن زياد إِلى آخر السند، ثم أخرجه البخاري من طريق آخر عن حبيب بن أبي عمرة، وتابعه معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة، ولمعاوية هذا إسناد آخر بلفظ آخر. وأخرجه الطبراني في الأوسط (4287)، فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثني إبراهيم بن الحجاج، أنبأنا أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق عن عبادة بن رفاعة عن الحسين بن علي قال: جاء رجل إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني جبان، وإني ضعيف، قال: "هلم إلى جهاد لا شوكة فيه، الحج". وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، قال المنذري: رواته ثقات. ¬

_ (¬1) أحمد (24158)، ابن ماجة (2901)، البخاري (1520).

* مفردات الحديث: - على النساء جهاد: بحذف همزة الاستفهام. - جهاد: الجهاد مصدر جاهد جهادًا، أو مجاهدةً، إذا بالغ في قتال عدوه، فهو لغة: بذل الطاقة والوسع. وشرعًا: قتال الكفار خاصة؛ لإعلاء كلمة الله. - نَعَم: حرف جواب يأتي لثلاثة معان: منها: أنه إعلام للسائل في جواب الاستفهام، وهو المراد هنا. - عليهن جهاد لا قتال فيه: أطلق الجهاد الذي أرادت به قتال الكفار على الحج، من باب المشاكلة، وهو أن يذكر بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، وهو من أنواع البديع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الجهاد بالبدن وقتال الكفار ليس مشروعًا في حق النساء، لما هنَّ عليه -غالبًا- من ضعف البدن ورقة القلب، وعدم تحمل الأخطار، ولا يمنع ذلك قيامهنَّ بعلاج المرضى، ومداواة الجرحى، وإسقاء العطشى، ونحو ذلك من الأعمال. 2 - أنَّ الجهاد واجب في حق الرجال، فهو فرض كفاية، إلاَّ أنَّه يتعيَّن في بعض الأحوال على كل قادر عليه. 3 - تشبيه الحج والعمرة بالجهاد بجامع البعد عن الأوطان، ومفارقة الأهل وبذل الأموال، وأخطار السفر وأتعاب البدن. 4 - فضل الحج والعمرة إذْ جعل ثوابهما كثواب الجهاد في سبيل الله. 5 - فضيلة عائشة -رضي الله عنها- لأنَّ رغبتها في الخير والأعمال الصالحة جعلهتها تريد منافسة الرجال فيما خصص لهم من أعمال. 6 - أنَّ الله تبارك وتعالى لما خلق الصنفين من البشر، هيَّأ كل صنف منهما، وأعده

للعمل الذي يناسبه ويتحمله، لما في ذلك من المصالح العظيمة، التي منها: - توزيع الأعمال بين خلقه، فكل منهم يقوم بجانب من الأعمال. - أنَّ الصنف الواحد إذا تخصَّص بعمل من الأعمال وحده أجاده وأتقنه، فجاء على المراد. - أن يكون كل صنف مطالبًا بما يخصه، وما هيّء له من الأعمال. - في هذا التوزيع العادل يكون عمار الكون، وسير الأعمال ونجاحها. 7 - حسن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمال إجابته، فهو لم ينفِ عن عائشة تشوفها واشتياقها إِلى فضيلة الجهاد في سبيل الله، وإنما دلَّها على جهاد من نوع آخر، يرضي طموحها ويُطمئن قلبها. 8 - استدلَّ بهذا الحديث الحنابلة وغيرهم على جواز صرف الزَّكاة للفقير الذي يريد أداء فريضة الحج، لأنَّه داخل في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]. قال في الروض وحاشيته: ويجزيء أن يعطي منها فقيرًا لحج فرض وعمرته؛ لما روى أحمد (26026) وغيره أنَّ النَّبيَّ قال: "الحج والعمرة في سبيل الله"، ولما روى أبو داود (1698) أنَّ رجلًا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اركبيها فإنَّ الحج في سبيل الله". 9 - قال في الحاشية: والحاصل أنَّه يجب للعمرة ما يجب للحج، ويسن لها ما يسن له، فهي كالحج في الإحرام، والفرائض، والواجبات، والسنن، والمحرمات، والمكروهات، والمفسدات، والإحصار، وغير ذلك، إلاَّ أنَّها تخالفه في أنَّه ليس لها وقت معيَّن، ولا تفوت، ولا وقوف لها في عرفة، ولا نزول لمزدلفة، وليس فيها رمي الجمار، ولا خطبة.

* خلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية العمرة، وأنَّها من شعائر الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في حكمها، فأهل الحديث، والإمامان الشافعي وأحمد، يرون وجوبها مرَّة واحدة في العمر على المستطيع كالحج. كما روي وجوبها عن جماعة من الصحابة والتابعين، منهم عُمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وطاوس، والحسن البصري، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء. أما الإمامان: أبو حنيفة ومالك وأتباعهما فيرون استحبابها فقط، وقد روي ذلك عن ابن مسعود ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقال شيخ الإسلام في الاختيارات: "والقول بوجوب العمرة على أهل مكة قول ضعيف جدًا، مخالف للسنة الثابتة، ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد أنَّ أهل مكة لا عمرةً عليهم روايةً واحدةً وفي غيرهم روايتان". وقد ذكر هذه الرواية في المغني فقال: "وليس على أهل مكة عمرة" نصَّ عليه أحمد، وقال: كان ابن عباس لا يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنّما عمرتكم طوافكم بالبيت، ووجه ذلك أنَّ ركن العمرة ومظهرها الطواف بالبيت، وهم يفعلونه فأجزأ عنهم" اهـ. فأما دليل الموجبين مطلقًا فمثل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأمر يقتضي الوجوب، وقد قرنها بالحج، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه، ولما رواه الترمذي (852) وصححه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لسائل: "حُجَّ عن أبيك واعتمر" وبما أخرجه الدارقطني (2/ 284) عن زيد بن ثابت بلفظ "الحج والعمرة فريضتان". وأما القائلون بعدم وجوبها، فيقولون إنَّ الأصل البراعة من الوجوب، ولا

ينتقل عنها إِلاَّ بدليل ثابت، فأمّا الآية فلفظ الأمر بالإتمام يشعر بأنَّه إنما يجب بعد الإحرام لا قبله، والحديث التصحيح "بني الإسلام على خمس" اقتصر على الحج، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]. قلتُ: قد وردت أحاديث ضعيفة تفيد عدم وجوب العمرة، مثل: "يا رسول الله، أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك" رواه أحمد (13877) وحديث: "الحج جهاد، والعمرة تطوع" رواه ابن ماجه (2980). قال الحافظ ابن حجر: ولا يصح من ذلك شيء. قال في سبل السلام: "والأدلة لا تنهض -عند التحقيق- على الإيجاب الذي الأصل عدمه". قُلْتُ: والذي يترجح عدم الوجوب لاسيَّما للمكيين، ولكن الأفضل والأحوط هو الإتيان بها، وهو أمر سهل وميسر، ولله الحمد والمنة. ***

594 - وعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ العُمْرَةِ، أَواجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخرَ ضَعيفٍ (¬1). وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: "الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيْضَتَانِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف موقوف. والراجح وقفه على جابر، فإنَّ الذي سأل عنه الأعرابيُّ، وأجيب عنه، مما للاجتهاد فيه مسرح، وأخرجه ابن عدي من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن جابر، وأبو عصمة كذبوه، كما أنَّ في إسناده -عند أحمد والترمذي- الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة. وقال الشافعي: ليس في العمرة شيء ثابت، إنما هي تطوع. وأما حديث جابر: "الحج والعمرة فريضتان" فلم يذكر المصنف هاهنا من أخرجه، وما قيل فيه، والذي في التلخيص: أنَّه أخرجه ابن عدي (4/ 1468) والبيهقي (8542) من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر، وابن لهيعة ضعيف. ¬

_ (¬1) أحمد (13877)، الترمذي (931)، ابن عدي (7/ 2507). (¬2) البيهقي (8542)، ابن عدي (4/ 1468).

* مفردات الحديث: - أعرابي: بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب: سكان البادية، وجمعه أعراب وأعارب وأعاريب. - فريضتان: الفرض لغة: الحَزُّ في الشيء. وشرعًا: ما أوجبه الله على عباده المكلفين، وهو مرادف للواجب الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وبعض الأصوليين يفرق بين الفرض وبين الواجب، بأنَّ الفرض ما شُرع بأمر قطعي، والواجب ما شُرع بأمر ظني. - العمرة: اسم من الاعتمار، وهي لغة: الزيارة إلى شيء معظم. وشرعًا: زيارة الكعبة المشرفة، لأعمال مخصوصة، جمعها عُمرٌ وَعُمُرات. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الأول: يدل على أنَّ العمرة ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، والثاني: يعارضه، فيدل على وجوبها وفرضيتها. أما الحج فأمره معروف، وتقدم الكلام عليه. 2 - الحديثان ليسا بحجة، لا على الوجوب، ولا على الاستحباب لضعفهما، ولذا نقل الترمذي عن الشافعي أنَّه قال: "ليس في العمرة شيء ثابت، إنما هي تطوع، وفي إيجابها أحاديث لا تقوم بها الحجة". وقد تقدم بسط الكلام على الخلاف فيها وحكمها، والله أعلم. 3 - يدل الحديثان على مشروعية العمرة، إما وجوبًا كما في الحديث الثاني، وإما استحبابًا كالحديث الأول. 4 - قال الوزير: أجمعوا على أن الحج والعمرة لا يَجِبَان في العمر إلاَّ مرَّة واحدةً، وأنَّ المرأة في ذلك كالرجل، وأنَّ شرائط الوجوب في حقها كالرجل. قلتُ: وتزيد المرأة بشرط المَحْرَم.

595 - وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قِيَلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" رَواهُ الدَّارقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ (¬1)، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. والشيخ الألباني: ناقش طرق هذا الحديث مناقشة طويلة، واستعرض أقوال المحدثين فيه، وانتهى به الأمر إِلى قوله: وخلاصة القول: أنَّ طرق هذا الحديث كلها واهية، وبعضها أوهى من بعض، وأحسنها طريق الحسن البصري المرسل. وليس في تلك الموصولات ما يمكن أن يجعل شاهدًا لها لِوَهْيها. ويظهر أنَّ ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: لم يعط هذه الأحاديث والطرق حقها من النظر والنَّقد، حيث سردها في شرح العمدة ثم قال: فهذه الطرق مسندة من طرق حسانٍ، ومرسلةٍ، وموقوفةٍ، تدل على أنَّ مناط الوجوب الزاد والراحلة. اهـ. قُلْتُ: ليس في تلك الطرق ما هو حسن، بل ولا ضعيف منجبر، فتنبه. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مُسْنَدًا، والصّحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة. * مفردات الحديث: - السبيل: السبيل يراد به الطريق، ويستعمل لكل ما يتوصل به إلى شيء، وهو ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 216)، الحاكم (1613). (¬2) الترمذي (813).

المراد هنا، ويذكر ويؤنث، والمسؤول عنه هنا هو المذكور في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. - الزاد: هو الطعام المدخر الزائد على ما يحتاج إليه في الوقت الحاضر، فسمي به طعام المسافر الذي يدخره لسفره، والجمع أزواد. - الراحلة: هي من الإبل الصالحة للأسفار والأحمال، والرحل ما يوضع على ظهر البعير للركوب، والمراد هنا الحصول على ما يوصله إلى البيت الحرام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فقد أناط تعالى وجوب الحج باستطاعة السبيل، فسأل بعضُ الصّحابة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن السبيل في هذه الآية، ففسَّره بالزاد والراحلة. 2 - من وجد الزاد والراحلة وجب عليه الحج، ومن لم يجد فلا يجب عليه. 3 - الراحلة فسَّرت بالناقة، ولكن المعنى يشمل المراكب الآخر، فأصبحت الراحلة الآن إما السيَّارة، أو الطائرة، أو الباخرة، أو غيرها من المراكب الحديثة. 4 - الزاد فُسِّر لغة بطعام المسافر، وأصبح الآن يشمل كل ما يحتاج إليه مريد الحج، من النفقات المنوعة، التي تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. 5 - الشارع أطلق الزاد والراحلة، ولكل إنسان ما يناسبه ويليق به، فلابد أن يكونا صالحين لمثله. 6 - ومن هذا الحديث يستدل بأنَّ الله تعالى لم يكلف نفسًا إلاَّ وسعها، فالعاجز لا يجب عليه الحج، ولا يبنغي أن يحج ثم يكون عالة على الناس. 7 - ما تقدم هو شرط الاستطاعة، فإن كملت أداة الاستطاعة، ولكن حصل مانع آخر فإن كان ميؤوسًا من زواله، كمرض ميؤوس منه، أو شيخوخة، أو أيست المرأة من حصول المحرم أنابوا من يحج عنهم، وإن كان المانع مرجوَّ الزَّوال -كمرض مأمول الشفاء منه، أو كخوف الطريق- بقي منتظرًا

حتى يزول، ثم إذا زال بادر بأداء الفريضة، إذا كان لا يزال مستطيعًا. 8 - فيه دليل على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- فهموا من كتاب الله معاني أسماء الله وصفاته، وأنهم لم يمروها ألفاظًا كما نزلت من دون معرفة لها، لأنَّها نزلت بلسانهم، فعرفوا معنى الاستواء والنزول، وفهموا معنى الرحمة، والغضب، والعجب، والمحبة، وجميع الصفات الذاتية والفعلية، ومما علموا أنَّ مَرَدَّ علمه إلى الله تعالى -وهو كيفية الصفة- فقد سكتوا عنه. ولو كانوا لم يعلموا ذلك ما سكتوا عن السؤال عنه، وهم يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عما هو أقل أهمية في الدين من ذلك، وهو معنى السبيل في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ففي هذا رد على طوائف المعتزلة والجهمية، وأضرابهم. 10 - أنَّ الله تبارك وتعالى جعل الحج على: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فالفقير لا ينبغي أن يكلف نفسه ويشق عليها، وربَّما ضرَّ بحجه نفقة واجبة عليه، أو دينًا واجبًا عليه أداؤه، فيقدم ما لم يجب عليه على الواجب عليه، والله تعالى يقول: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91]. 11 - قال الفقهاء: والقادر مَنْ وجد زادًا وراحلة صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات من الديون الحالَّة والمؤجلة، والزكوات، والكفارات، والنذور، وبعض النفقات الشرعية له ولأهله، إلى أن يعود بلا خوف. * فائدة: قال شيخ الإسلام: من اغتصب مركوبًا، أو اشتراه بمال مغصوب، وحج عليه فإنَّه يجب عليه أن يعوض صاحبه إذا أمكن، وإلاَّ تصدَّق بقدر قيمة الثمن عنه، وقد طاب حجه، وينبغي أن يعد لحجه وعمرته نفقة طيبة من حلال، لما صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ الله طيبب لا يقبل إلاَّ طيباً" [رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1686)].

596 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوحَاءِ، فَقَال: مَنِ القَوْمُ؟ قَالُوا: المُسلِمين، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَال: رَسُولُ اللهِ، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، وَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رَكْبًا: بفتح الراء وسكون الكاف بعدها باء موحدة تحتية، جمع راكب وهم الراكبون على الإبل خاصة في السفر، من العشرة فما فوق، جمعه أركب وركوب وركبان. - الروحاء: بفتح الراء وسكون الواو ثم حاء مفتوحة بعدها ألف ممدودة، والروحاء بئر على الطريق الساحلي بين مكة والمدينة المنورة، وتبعد عن المدينة بـ (73) كيلو متر، يوجد بها المقاهي واستراحة، وتسميها العامة بئر الرحا، أو بئر الراحة، وخف شأنها الآن بعد أن أحدث الطريق السريع الذي لا يمر بها. - صبيًّا: الصبي جمعه صبية وأصبية وصبيون وصبيان، قلبوا الواو فيها ياء للكسرة التي قبلها، وهو الغلام من الولادة إلى البلوغ. وقال بعض أهل اللغة: يقال له صبي إذا قارب البلوغ عرفًا، وأما لغة فمن الولادة إلى أن يفطم. - حج: مبتدأ مؤخر، و"ألهذا" خبر مقدم، يعني: أيحصل لهذا ثواب حج، ولم تقل: أعلى هذا حج؛ لأنَّه لا يجب على الأطفال. ¬

_ (¬1) مسلم (1336).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - صحة حج الصغير والصغيرة، سواء كانا مميزين، أو دون سن التمييز. 2 - أنَّ ثواب الحج للصغير لا لوليه، ولا لغيره من أقاربه، لكن لوليه الذي تسبب في نسكه أجر على ذلك. 3 - حجة من دون البلوغ لا تجزيه عن حجة الإسلام، فإنَّ معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرأة: نعم، أي: يصح منه الحج. وإن كان طفلًا لا يميز، كما هو ظاهر السياق بقوله: "فرفعت إليه امرأة صبيًا"، وهذا الإجمال في كلمة "حج" مبيَّن بحديث "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" [رواه البيهقي (9629)]. أي له الأجر في التطوع بالحج قبل البلوغ، وعليه ركن الحج - وجوبًا -بعد البلوغ. فقد أجمع العلماء على أنَّه لا يجزئه -إذا بلغ- عن حجة الإسلام. قال الطحاوي: "لا حُجة في قوله "نعم" على أنَّه يجزئه عن حجة الإسلام، بل فيه حُجة على من زعم أنّه لا حجَّ له". 4 - ما دام أنَّ الشارع أجاز حج الصغير فإنَّه يريد منه أن يأتي به على الوجه المشروع، فتشمله أحكام حج الكبير إلاَّ ما أخرجه الدّليل، فحيئذٍ يكون على وليه أن يتبع ما يأتي: أ - إن كان دون التمييز أن ينوي عنه الإحرام، ويصير -بذلك- الصغير محرمًا. ب - إن كان مميزًا أمره وليه أن يحرم، لأنه لا ينعقد الإحرام من الصغير المميز إلاَّ بإذن وليه؛ لأنَّه تصرف فيه شائبة مالية، فلا يكون إلاَّ بإذن الولي. ج - إنَّ كان ذكرًا تجنب ما يتجنبه الذكور في الإحرام، وإن كان أنثى تجنبت ما يجتنبه النساء في الإحرام. د - إن كانا مميزين فعليهما الطهارة من الحدث والنجاسة للطواف، وإن كانا دون التمييز، فينبغي لوليهما أن يطهر أبدانهما وثيابهما من النجاسة حين الطواف.

5 - ولي الصغيرين هو القائم بشؤونهما ومصالحهما، من أب أو أم، أو غيرهما، فلا تُخص الولاية بالرجال، كما هو ظاهر الحديث. 6 - يفعل الولي عنهما ما يعجزان عنه كالرمي ونحوه، لما روى الترمذي (849) عن جابر قال: "كنَّا حججنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكنَّا نرمي عن الصغار". أما ما يقدر عليه الصغير فيأتي به بنفسه، كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والطواف والسعي. 7 - إذا كان الصغير المحمول في الطواف والسعي مميزًا، فإنَّه ينوي عن نفسه وحامله الطائف أو الساعي ينوي عن نفسه، ولكل منهما نية خاصة بنفسه، وأما إذا كان دون التمييز والناوي عنه حامله، فظاهر هذا الحديث إجزاء ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر المرأة التي سألته أن تطوف له وحده ولها وحدها، ولو كان واجبًا لبيَّنه، ولكن خروجًا من الخلاف، ومن باب الاحتياط، ولحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [رواه الترمذي (2442)]، فالأفضل أن يكون حامله قد طاف وسعى لنفسه، حين حمل من هو دون التمييز. 8 - فيه قبول العبادة من الصغار وإثابتهم عليها، وفيه تدريب وتمرين على طاعة الله تعالى، التي هي سعادة الدنيا والآخرة، ولله في أمره أسرار. 9 - استحباب التعارف والتآلف بين المسلمين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من القوم؟ " فقالوا: فمن أنت؟ قال: "رسول الله". والتعارف والتواصل من أهداف الحج ومقاصده، التي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]. 10 - فيه فضيلة صحبة أهل العلم والفضل، لاسيَّما في سفر الحج؛ ليستفيد منهم المسلم، وليؤدي عبادته على منهج سليم. 11 - فيه أنَّ صوت المرأة ليس بعورة، ما لم تلينه وترققه، كما قال تعالى: {فَلَا

تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب] وإنَّ سماعه من الرجال جائز للحاجة إذا لم يقصد الرجل التلذذ بسماع صوتها. 12 - فيه أنَّ المرأة تلي شوؤن ولدها، وتعمل فيه بما هو الأصلح له، ولو كان والده موجودًا، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يستفسر منها عن وجود أبيه. 13 - حج الفرض عن الميت يجزيء عنه، ولو بغير إذن وارث؛ لأنَّ النَبيَّ -صلى الله عليه وسلم- شبَّهه بالدين. أما الحي فلا يسقط عنه الحج إلاَّ بإذنه، ولو معذورًا، كدفع الزَّكاة عنه؛ لأنَّ هذه عبادات لا تصح إلاَّ بنيَّة. بخلاف الدَّين فإنَّه يصح القضاء عنه بلا إذنه، لأنَّه ليس عبادة، ولو حجَّ أو اعتمر نفلًا، ونوى ثوابه لميت أو حي صحَّ، وأجزأ، ولو بلا إذن المحجوج عنه، والمعتمر عنه. ***

597 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ الفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- رَدِيف رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَرِيْضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أدْرَكتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رديف: وزن فعيل، وهو الراكب خلف الراكب، جمعه أرداف، ورُدَفاء، ورِداف. - خثعم: هي قبيلة قحطانية ينتهي نسبها إلى كهلان، تقع ديارها على طريق الطائف إلى أبها، تحد ديارها -من ناحية الشمال والغرب- قبيلة شهران، وتحدها من الجنوب والشرق ديار بلقرن. - فجعل الفضل: جعل من أفعال الشروع -هنا-، وضع ليدل على أن الخبر بدىء في فعله، و"الفضل" اسم جَعَل، وجملة: "ينظر إليها" في محل نصب خبرها. - الشِّق: بكسر الشين المعجمة بعدها قاف مشددة، المراد به هنا الجانب. - أدركت: أي لحقت، فالإدراك اللحاق. - شيخًا كبيرًا: نصب على الحال، و"كبيرًا" صفة، وهو من استبانت فيه السن، ¬

_ (¬1) البخاري (1513)، مسلم (1334).

يجمع على شيوخ وشيخان وغيرهما. - لا يثبت على الراحلة: الجملة صفة لـ"شيخ" بمحل النصب، والمعنى: لا يدوم، ولا يستقر، فلا يقدر على ركوب الراحلة. - أفأحج عنه: الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوفة على محذوف، أي: أيصح مني أن أكون نائبة، فأحج عنه؟ - نعم: حرف جواب وإعلام، وإن وقعت بعد الماضي: فهي تصديق له. - حَجَّة الوداع: بكسر الحاء وفتحها وتشديد الجيم، وهي التي ودَّع النبي -صلى الله عليه وسلم- النَّاس فيها، وإلاَّ فهو لم يحج بعد الهجرة إلاَّ هذه الحجة. - الودَاع: بفتح الواو، اسم من التوديع عند الرحيل، وهو الترك والمفارقة، سمي بذلك تفاؤلًا للمسافر بالدعة، التي سيصير إليها في سفره إذا قفل، وحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم النظر إلى المرأة التي ليست بذات مَحْرم. 2 - إبعاد الإنسان عن مواقِع الفتنة، وصده عنها. 3 - وجوب إنابة المُزْمِن غَيْرَهُ ليحجَّ عنه، وإن كان موسِرًا. 4 - جواز نيابة المرأة عن الرجل، وبالعكس في أداء النسك. قال شيخ الإسلام: يجوز للرجل الحج عن المرأة باتفاق أهل العلم، وكذا العكس عند الأئمة الأربعة، وخالف فيه بعض الفقهاء. 5 - إنَّ من لم يستطع أداء الحج ببدنه لا يلزمه أداؤه بنفسه، بل تكفي النيابة عنه، هذا في حال استطاعته بماله، فإن لم يستطع بالمال، فلا تجب النِّيابة عليه، لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. 6 - ما دامت النِّيابة جائزة في فرض الحج، ففي نفله من باب أولى وأحرى أن تجوز.

7 - ترك الاستفصال في هذا الحديث يدل على أنَّ النائب في الحج يأتي به، ولو من غير بلد المنوب عنه، ولو كانت أقرب منه، خلافًا للمشهور من مذهب الإمام أحمد. 8 - في الحديث دليل على وجوب كشف المحرمة وجهها حين الإحرام، ولكنه مقيد بعدم رؤية الأجانب لها، كما في حديث عائشة الآتي. 9 - هذه المسألة حدثت في حجة الوداع، أي قُبيل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأحكامها باقية لم تنسخ. 10 - فيه بر الوالدين بالقيام بمصالحهما، من قضاء الديون، وأداء الحج، وغير ذلك. 11 - جواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة. 12 - جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة، إذا لم يخش فتنة، وتقدم. ***

598 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَن تَحُجَّ، وَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَايْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيتَهُ، اقْضُوا اللهَ، فَالله أَحَقُّ بِالوَفَاءِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جُهَيْنَة: بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء بعدها نون مفتوحة ثم مربوطة، هو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، فهي قبيلة قضاعية قحطانية، منازلها حتى الآن على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وعاصمة قراها أملج. - نذرت: أي أوجبت على نفسها، فالنذر شرعًا: إلزام مكلف مختار نفسه شيئًا لله تعالى، بكل قول يدل عليه. - أفأحج عنها: الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. - أرأيتِ: أوله همزة استفهام للتقرير، وًاخره تاء المخاطبة المكسورة، والمعنى أخبريني. - قاضيته: قضى لها عدة معاني، والمراد بها هنا: أدى دينه. - اقضوا الله: أي اقضوا حق الله تعالى، وما وجب له عليكم. - أحق بالوفاء: يعني أولى بإعطاء حقه وافيًا من غيره. ¬

(¬1) البخاري (1852).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - انعقاد النذر في العبادات، والنذر هو إلزام المكلف نفسه شيئًا لله تعالى بالقول غير لازم بأصل الشرع. 2 - وجوب الوفاء بالنذر إذا أوجبه الإنسان على نفسه؛ لقوله: "حجي عنها، واقضوا الله، فالله أحق بالوفاء". لكن أصل عقد النذر مكروه، لما جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنَّه نهى عن النذر، وقال: إنَّه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل". 3 - في الحديث دليلٌ على أنَّ ناذر الحج إذا مات قبل أداء نذره يؤدى عنه، وجوبًا إن كان ترك مالًا، واستحبابًا إنَّ لم يترك مالًا، وأنه تعلق بذمته، وذلك مستفاد من تشبيهه بالدين، فإنَّ من مات وعليه دين، وله تركة وجب إيفاء الدِّين، وإلاَّ فلا يجب على الورثة، وإنما يستحب في حقهم. 4 - إنَّ الوفاء واجب عن الميت، ولو لم يوصِ به، لأنَّه دين، فوجب إبراء ذمته منه. 5 - في الحديث دليل على أنَّ القياس أصل من أصول التشريع، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- قاس الحج على الدين، وقاس حق الله على حق غيره في وجوب الوفاء. 6 - في الحديث حسن التفهيم وتوضيح المسائل، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل في المعلوم للمجهول؛ ليتضح وليكون أوقع في النفس. 7 - في الحديث دليل على وصول ثواب عبادة الحج من الحي إلى الميت، وهو في الحج، والصدقة، والدعاء، والاستغفار مجمع عليه بين العلماء، وفي الصوم، والصلاة وتلاوة القرآن. موضع خلاف، والصّحيح عمومه، وتقدم بيان الخلاف في كتاب الجنائز، والله أعلم. 8 - وجوب قضاء حقوق الله تعالى على الميت كالزكاة، والنذر، والكفارة،

وحجة الإسلام، وأنها تزاحم الحقوق التي عليه للخلق، فتُقدَّم هذه الديون على حق الوثة في التركة، فإن لم تفِ التركة، وزَّعت على الديون كلها، كلٌ بنسبته. 9 - بر الوالدين ولو بعد وفاتهما، وإنَّ من البر بهما وفاء ديونهما ونذرهما. 10 - إجزاء وفاء الدين النذر عن الميت من لطف الله تعالى بخلقه، وبره بهم، ليخفف عنهم أعباء الواجبات وتبعة الحقوق. ***

599 - وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بلَغَ الحِنْثَ، فَعلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى" رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالبَيْهقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: رجاله ثقات، والمحفوظ أنَّه موقوف، وأخرجه الطحاوي والبيقهي من طريقين، وإسناده صحيح مرفوعًا وموقوفًا، وللمرفوع شواهد ومتابعات يتقوى بها. قال في التلخيص: ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: "احفظوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس"، وهذا ظاهره أنَّه أراد أنَّه مرفوع، فلهذا نهاهم عن نسبته إليه. * مفردات الحديث: - الحِنث: بكسر الحاء المهملة وسكون النون ثم ثاء مثلثة، هو الإثم والذنب، معناه أنَّه بلغ أن يكتب عليه إثم ذنبه، إذ بلغ حد التكليف. - أيما: أيُّ: اسم شرط، وهي هنا معربة؛ لأنَّها مقطوعة عن الإضافة، و"ما" زائدة والتقدير أي صبي .. إلخ. ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (14875)، البيهقي (8397).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دليل على صحة حجة من لم يبلغ، وقد تقدم بيانه. 2 - أنَّ حجة الصغير لا تجزئه عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يؤدي فريضة الحج بعد البلوغ إذا كان مستطيعًا. 3 - قال الترمذي وابن عبد البر والوزير وغيرهم: أجمع أهل العلم على أنَّ الصبي إذا حج قبل أن يبلغ فعليه الحج إذا بلغ ووجد سبيلا إليه، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته. 4 - أنَّ الصغير قبل البلوغ لا تكتب عليه الآثام في أعماله العدوانية، ولا توجب عليه واجبات يوصف بأنه فرط فيها، إلاَّ أنَّ هذا لا يسقط وجوب تأديبه، وتربيته بالحكمة. 5 - أنَّ حجة الرقيق قبل عتقه صحيحة، له وللساعي في حجه أجرها، كما يكون ذلك للصغير. 6 - أنَّ حجة الرّقيق قبل العتق لا تجزئه عن حجة الإسلام، بل عليه أن يحج أخرى إذا كان مستطيعًا، عملاً بهذا الحديث. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم -إلاَّ من شذَّ منهم- على أنَّ الصبي والعبد إذا حج في صغره، والعبد في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد، أنَّ عليهما حجة الإسلام، إذا وجدا سبيلًا. وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أنَّ المملوك إذا حجَّ في حال رقه، ثم عتق فعليه الحج، إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، ولا يجزيء عنه ما حجَّ في حالة رقه. ***

600 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَقُولُ: "لَا يَخلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ المَرْأُةُ إِلَّا معَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يخلونَّ: "لا" حرف نهي، تجزم الفعل، فالفعل مجزوم بها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. - إلاَّ ومعها ذو محرم: المَحْرم بفتح الميم: مَنْ يَحرم عليه نكاحها أبدًا، من قريب بنسب كأبيها وأخيها، أو سببٍ مباحٍ. كصهر أو رضاع، والزوج له حكم المحرم. - اكتُتِبْتُ: مبني للمجهول، وأصل الكتب جمع الشيء، من ذلك الكتابة جمع الحروف بعضها إلى بعض، والمراد هنا أنَّ اسمي مكتوب مع الغزاة. - كذا وكذا: "الكاف" للنسبة، "وذا" اسم إشارة، والثانية توكيد لفظي للأولى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وهي مَن ليست بذات محرم له. 2 - كذلك يحرم سفر المرأة مع غير ذي محرم، ولو للعبادة، أو للحاجة. 3 - لا يجب عليها أداء الحج إذا لم تجد محرمًا، وذلك بإجماع العلماء، ولكن هل المحرم شرط للوجوب، أو شرط للأداء؟ ¬

_ (¬1) البخاري (1862)، مسلم (1341).

قولان، التصحيح الأول منهما لكن لو قامت به أجزأ عنها مع التحريم عند الأئمة الأربعة؛ لأنَّ أهلية الحج تامة، والمعصية في أمر خارج عنه. 4 - في منعها من الحج إلاَّ مع ذي مَحرم حكمة سامية، هي المحافظة على الأخلاق الكريمة، والصيانة والعفاف، فإنَّ المرأة محل الأطماع، وهي ضعيفة في بدنها ونفسها، ولا يحافظ على شرفها ويغار عليها مثل الرجال من محارمها. 5 - إذا تأملت حال نساء المسلمين الآن، من التبرج، والعري، ومزاحمة الرجال، والخلوات المحرمة معهم، وصحبتهم في الأسفار البعيدة، وغير ذلك من العادات التي يندى له الجبين، علمت بعد المسلمين عن دينهم، وعدم مراعاتهم حرماته. 6 - في مثل هذه الآيات الكريمة والأخلاق العالية، المحافظة على الكرامة، والصيانة للشرف والعِرض، وحفظ الأنساب والأعراق، وهو مظهر كريم، وتكريمٌ للمرأة، وتطهيرٌ لها من الأدناس، أما الخلاعة والمجون والإباحية فهي الرجعية إلى عهد الوحشية والبهيمة، التي لا تعرف نظامًا، ولا قانونًا، ولا حياءً، ولا عفةً. 7 - إنَّ فرض العين مقدم على فرض الكفاية، فالرجل كُتِب في الجهاد وهو فرض كفاية، والمحافظة على زوجته فرض عين، فقدمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففيه دليل على تقديم الأعذار الخاصة اللازمة على فروض الكفايات. 8 - محرم المرأة هو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد، بنسب كأخ وبسبب مباح كأخ من رضاع. 9 - يشترط في المحرم الإسلام، فالكافر لا يكون محرمًا، كما يشترط التكليف بالبلوغ والعقل؛ لأنَّ الصغير والمجنون لا تحصل بهما الصيانة والكفاية. 10 - استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنَّ أداء فريضة الحج على التراخي

فلا تجب على الفور، ووجهه أنَّ زوجة الرجل تريد الحج في حجة الوداع، وزوجها كُتِب مع الغزاة، والمسلمون لم يحجوا إلاَّ ذلك العام، ولكنه معارَض بحديث: "إنَّ الله كتب عليكم الحج فحجوا" [رواه مسلم (2380)]. والأمر يقتضي الفور عند الأصولبين، وهذا نص لا يقاومه الاستنباط من حديث الباب، فإنه معرض لوجود الاحتمالات، وهو معارض بما رواه الإمام أحمد (2721) والبيهقي (8477) من حديث ابن عباس أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعجلوا الحج، فإنَّ أحدكم لا يدري ما يعرض له". 11 - يعتبر المَحرم لكل من لعورتها حكم، وهي بنت سبع سنين فأكثر لأنَّها محل شهوة. 12 - قال الشيخ: ليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج، وإن لم يأذن في ذلك، وإن أحرمت به بلا إذنه لم يملك تحليلها، ويستحب لها أن تستأذنه. 13 - جاء في البخاري (1026) ومسلم (1339) "لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا وليلةً، إلاَّ ومعها ذو محرم". وجاء في البخاري (1026) "لا تسافر مسيرة يوم، إلاَّ ومعها ذي محرم". وجاء في صحيح مسلم (1339): "لا يحل لامرأة أن تسافر سفرًا إلاَّ ومعها ذو محرم لها". وجاء في المسند لأحمد (2391) بسند صحيح: "لا يدخل على المرأة رجل، إلاَّ ومعها محرم". والقصد من المحرم معلوم، والعلماء تجاه هذا لهم اتجاهات، فبعضهم تمسَّك بظواهر النصوص، فلم يرخِّص للمرأة بتخطيها، سواء

كانت مسنة أو شابة، وسواء كانت مع رفقة آمنة أوْ لا، وسواء كان ثقةً في نفسها أوْ لا. وبعضهم نظر إلى معنى ومراد الشارع، فما دام أنَّ حال الطمع في المرأة موجود، فالعمل بالنصوص واجب، وإذا فُقد هذا الخوف، بأن كانت المرأة ثقة في نفسها، ومع نساء ثقات، أو كانت في مجمع حاشد كالطائرة، يودعها محارمها ويستقبلها محارمها، فهؤلاء لا يتمسكون بظواهر النصوص، ويرون أنَّه لا يوجد محذور. قال شيخ الإسلام: تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم؛ لزوال العلة. وقال: هذا متجه في كل سفر طاعة. 14 - وقال الشيخ: وليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب، ولا يجوز للولد طاعتهما في ترك واجب الحج، وكذا كل ما وجب: من صلاةٍ وصومٍ وصلاة الجماعةِ والسفر لطلب العلم الواجب؛ لأنَّه فرض عين، فطاعتهما واجبة في غير معصية: من فعل محرمٍ، أو ترك واجبٍ. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية منه، كما أجمعوا على تحريم سفر المرأة بدون محرم، إذا خيف الفتنة، واختلفوا فيما إذا بعدت الشبهة وموطنها. فبعضهم أخذ بعموم اللفظ، فحرَّموا سفرها بدون محرم، سواءٌ قَرُب السَّفر أو بعُد، وسواءٌ كانت شابةً أو عجوزًا، وسواءٌ كان معها رفقةٌ من النساء أو لا، وهذا مذهب الحنابلة والظاهرية، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وطاووس. أما الجمهور فذهبوا إلى تحريم ذلك على الشابة، وتساهلوا في المرأة الكبيرة، وبعضهم خصص السماح لها بوجود رفقةٍ من النساء، وبعضهم أباحه

حينما يكون الطريق آمنًا، وهذا كله في الحج الواجب. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فنقل عنه في الاختيارات قوله: "وتحج كل امرأة آمنة، مع عدم محرم؛ لزوال العلة، قال أبو العباس: وهذا متوجه في كل سفر طاعة". قلتُ: والمسألة موضع اجتهاد بين العلماء، فمن رأى عموم النصوص أجراها على ظاهرها، ومنع ذلك مطلقًا، ومن رأى المعنى الذي حرم السفر من أجله أباحه في سورة تبعد الشبهة بها، وتخف الريبة حولها، والراجح ما قاله الشيخ من الجواز مع وجود الأمن، وقد تقدم مثله قريبًا، والله أعلم. ***

601 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ؟ قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ، قَالَ أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيْبٌ لِي، فَقَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، والرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: صحَّحه ابن حبان، قال البيهقي: إسناده صحيح، وليس في الباب أصح منه. قال ابن الملقن: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أعلَّه الطحاوي بالوقف، والدارقطني بالإرسال، والظاهري بالتدليس، وابن الجوزي بالضعف. ولكن الحافظ في التلخيص مال إلى تصحيح الحديث، بالنظر إلى أنَّ له شاهدًا مرسلًا، رواه سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأجاب الحافظ في التلخيص عن بعض علله، وهذا المرسل يقوي الموصول، ورجَّح عبد الحق وابن القطان رفعه، وصحَّحه ابن حجر مرفوعًا، وقال ابن الملقن: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الشوكاني. ¬

_ (¬1) أبو داود (1811)، ابن ماجه (2903)، ابن حبان (962).

* مفردات الحديث: - لبَّيك: سيأتي شرحه في حديث جابر، إن شاء الله تعالى. - شُبْرُمَة: بضم الشين والراء وسكون الباء الموحدة. - أخ لي أو قريب لي: "أو" للشك، والشاك هو راوي الحديث. - حججت عن نفسك: هذا للاستفهام، وتقديره: أو لا؟ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب ذكر اسم المحجوج عنه في التلبية، لإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل على تلبيته. 2 - جواز حج الإنسان عن قريبه، سواء كان حيًّا أم ميتًا، لكن في النافلة تجوز مع قدرته على الحج وعدمها، أما في الفريضة فلا يحج عنه حتى ييأس من قيامه بالحج بنفسه. 3 - أنَّ النائب لا تجوز حجته عن غيره إلاَّ بعد أن يحج فريضة الإسلام. 4 - أنَّه لو أحرم عن غيره في هذه الحال انقلب الحج له، ومثله لو أتم الحج صارت الحجة له، لا لمن نوى النيابة عنه، فهو من الأحكام القهرية التي لا تؤثر فيها النية. 5 - أنَّ الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد، فإن الإحرام عن الغير ممن لم يحج عن نفسه باطلٌ للنهي، ولكنه لم يؤثر في أصل عقد الإحرام، فصحت الحجة القائم بها مع اختلاف نيته وقصده. 6 - وجوب المبادرة إلى تعليم الجاهل، إذا كان متلبسًا بالعبادة على غير وجه صحيح. 7 - أنَّ المفتي إذا بيَّن للجاهل خطأ ما هو عليه، فلابُدَّ أن يبين له الطريقة الصحيحة في عمله الذي أخطأ فيه. 8 - الحج عمل من شرطه أن يكون قربة لفاعله، فلا يجوز الاستئجار عليه

كغيره من القرب، فإذا كان هذا العمل إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه، لم يكن حجه عبادة لله، وإنما تقع النيابة المحضة فيمن غرضه نفع أخيه المسلم، لرحمٍ بينهما، أو صداقةٍ، أو غير ذلك، وله قصد أن يحج بيت الله الحرام، ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجه لله، فيقام مقام المتسبب. 9 - قال العلماء: يستحب أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين، أو عاجزين؛ لحديث زيد بن أرقم: "إذا حجَّ الرجل عن والديه تقبل عنه وعنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله برًّا". أرواه الدارقطني (2/ 259)، ولا نزاع في وصول ثوابه إليهما. ***

602 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَال: خطَبَنا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: "إنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَقَامَ الأَقْرَعُ بنُ حَابسٍ، فَقَال: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، الحَجُّ مَرَّةً، فَمَا زادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ" رَوَاهُ الخَمسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ (¬1)، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أصل الحديث صحيح بلفظ مقارب لهذا اللفظ، وأخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وغيرهم، فهو حديث مشهور ومتداول. ولفظ مسلم: عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيُّها النَّاس! إنَّ الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجال: أكلَّ عام يا رسُول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". وقد صحَّح الحديث الحاكم ووافقه الذَّهبي، وقال الحافظ ابن حجر: له شواهد منها عند ابن ماجه عن أنس ورجاله ثقات. * مفردات الحديث: - كَتَبَ: له معان، والمراد هنا "فرض"، وجاء في الرواية الأخرى للحديث: ¬

_ (¬1) أحمد (2510)، أبو داود (1721)، النسائي (2573)، ابن ماجه (2886). (¬2) مسلم (1337).

"فرض الله عليكم الحج". - وجبت: وجب يجب وجوبًا لزم وثبت، والواجب شرعًا: ما أثيب فاعله وعوقب تاركه، وقال في المحيط: هو ما لزم علينا بدليل. - تطوع: أي تبرع، وعبادة نافلة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالمواعظ والتعليم، والتفقه في الدين. 2 - فرض الحج على المسلمين إلاَّ من خصَّهم الدليل بعدم الاستطاعة. 3 - أنَّ الحجَّ هو في العمر مرَّة فقط، وما زاد فهو نافلةٌ. 4 - أنَّ صيغة الأمر لا تدل على التكرار في امتثاله أكثر من مرة، ما لم يأت البيان من دليل آخر. 5 - أنَّ بعض الأحكام تكون بتفويض من الله تعالى لرسوله، وما كان بالاجتهاد أو بالوحي فكله شرع الله تعالى، فإنَّه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، ولا يقره الله تعالى إلاَّ على الحق. 6 - أنَّ ما سكت عنه الشارع معفوٌّ عنه، وما كان ربُّك نسيًا، فالأحكام التي تجب على العباد بيَّنها الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو متروك. 7 - أنَّ الأفضل السكوت وعدم البحث عن الأمور التي لم يأت لها الشرع بذكر، فلقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101]. وقد جاء في البخاري (6845) ومسلم (4349): "أعظم المسلمين جرمًا من يسأل الله عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". وجاء في سنن الدارقطني (4/ 184) عن أبي ثعلبة مرفوعًا: "وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها". 8 - الحديث فيه: "إنَّ الله كتب عليكم الحج فحجوا" والأمر يقتضي الفورية،

فتجب المبادرة إلى أداء الفريضة، قال شيخ الإسلام: الحج على الفور عند أكثر العلماء. ولو مات ولم يحج مع القدرة أثم إجماعًا. 9 - فيه أنَّ الأمر يقتضي الوجوب، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو قلتها لوجبت". 10 - فيه أنَّ التشريع الرباني جاء إلى الخلق من ربهم بقدْر طاقاتهم واستطاعتهم، فلم يكلف جلَّ وعلا خلقه إِلَّا بما يطيقون، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. 11 - فيه رأفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته، فإنَّه كره مسألة هذا الرجل لبحثه أمرًا مسكوتًا عنه، يخشى أن يبحث فيفرض، فتحصل بفرضه المشقة. 12 - المفهوم من تشريع الحج في هذا الحديث، وكما جاء في بعض رواياته: "لو قلتُ نعم لوجبت، وما استطعتم" الإشارة إلى أنَّ الأمر على اليُسر والسهولة، لا على العسر والصعوبة، كما يظن السائل. ***

باب الموقيت

باب الموقيت مقدمة المواقيت: جمع ميقات، وهي مواقيت زمانية، ومكانية. فالزمانية: أشهُر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والمكانية: ما ذكرت في هذين الحديثين الآتبين. وجعلت هذه الحدود مواقيت؛ تعظيمًا للبيت الحرام وتكريمًا، ليأتي إليه الحجاج والمعتمرون من هذه الحدود معظمين خاضعين خاشعين. ولذا حرَّم الله ما حوله من الصيد، وقطع الأشجار؛ لأنَّ في ذلك استخفافًا لحرمته، وحطًّا من كرامته. والله سبحانه وتعالى جعله مثابة للناس وأمنًا، ورَزَقَ أهله من الثمرات، لعلَّهم يشكرون. ***

603 - عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقَّتَ لأَهْلِ المَدِيْنَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامٍ الجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَليْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّن أراد الحَجَّ أَوْ العُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذلكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وقَّت: بفتح الواو ثم قاف مثناة مشددة بعدها تاء، أي حدَّد. أصل التوقيت أن يُجعل للشيء وقتٌ يختص به. قال عياض: وقَّت: حدد. - ذو الحليفة: بضم الحاء المهملة وفتح اللام تصغير حَلْفاء، نبت معروف بتلك المنطقة، وتسمى الآن "آبار علي" وتبلغ المسافة بينها وبين المسجد النبوي (13) كيلو، ومنها إِلى مكة المكرمة (420) كيلو متر، فهي أبعد المواقيت، وهي ميقات أهل المدينة، ومن أتى عن طريقهم. - الجُحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء، كانت قرية عامرة محطة من محطات الحاج بين الحرمين، ثم جحفتها السيول، فصار الإحرام من قرية رابغ، الواقعة عنها غربًا ببعد (22) ميلًا، ويحاذي الجحفة من خط الهجرة "الخط السريع" من المدينة باتجاه مكة، وتبعد عن مكة (208) كيلو. ¬

_ (¬1) البخاري (1524)، مسلم (1181).

تعقيب: أصدر مجلس هيئة العلماء قرارًا برقم: (142) وتاريخ 9/ 11/ 1407 هـ جاء فيه "أنَّ من جاء من ناحية الشرق أو الغرب، يريد سلوك الطريق السريع متَّجهًا إلى مكة، فهذا لا يمر بميقات، فإنَّ ميقاته محاذاة الجحفة، لكونها أقرب المواقيت إليه هو (208) كيلو، فإن كان أهله دون ذي الحليفة مما يلي مكة، فهذا ميقاته موضع سكناه. - رابغ: بلدة كبيرة عامرة، فيها الدوائر الحكومية والمرافق العامة، وتبعد عن مكة المكرمة (186) كيلو، ويُحرِم منها مَنْ كان في شمال المملكة العربيّة السعودية، وساحل المملكة الشمالي إِلى العقبة. ويُحرِم منها أهل بلدان إفريقيا الشمالية والغربية، وأهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين. - قَرْن المنازل: بفتح القاف وسكون الراء، ويسمى "السيل الكبير"، ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة (78) كيلومتر. - وادي محرم: هذا هو أعلى قرن المنازل وهي قرية عامرة فيها مدرسة، ويقع على طريق الطائف مكة النازل من جبل الكر، وأنشيء في هذا الميقات مسجد كبير فيه جميع مرافق من يريد الإحرام، ويبعد عن مكة بمسافة (75) كيلو متر، وليس ميقاتًا مستقلًا، وإنما هو الطريق الأعلى لقرن المنازل. من هذين المكانين يحرم كل من أهل جبال السراة من جنوب المملكة العربية السعودية، وكذلك ما وراءها من اليمن، كما يحرم منه أهل نجد، وما وراءها من بلدان الخليج، والعراق وإيران، وحجاج الشرق كله. - يلمْلَم: بفتحِ الياء -المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى ثم ميم أخرى، ويقال-: أَلمْلَم وسكان تلك المنطقة الآن يقولون: "يلملم"، وفيه بئر تمسى السعدية، نسبة إلى امرأة حفرتها تسمى: "فاطمة السعدية" ويلملم وادٍ عظيم ينحدر من جبال السراة إلى تهامة، ثم يصب في البحر الأحمر عند ساحل

يمسى "المجيرمة" والاسم لهذا الوادي من فروعه حتى مصبه ومكان الإحرام منه الذي يمر طريق تهامة المملكة العربية السعودية، وتهامة من ضفته الجنوبية تعبد عن مكة مسافة (120) كيلو متر. وكنتُ أحد الأعضاء الذين وقفوا على صحة حَدِّه حينما أنشيء الطريق الساحلي. - هنَّ لهُنَّ: أي هذه المواقيت لهذه البلاد، والمراد أهلها، وكان الأصل أن يقال: هنَّ لهم، وقد ورد ذلك في بعض الروايات في التصحيح. - فمِن حيث أنشأ: "الفاء" جواب الشرط، أي فَمَهَلُّه من حيث قصد الذهاب إلى مكة. ***

604 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهَا- "أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وقَّتَ لأَهْلِ العِراقِ ذَاتَ عِرْقٍ" رَوَاهُ أبُو داودَ وَالنَّسَائِيُّ (¬1). وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلاَّ أنَّ رَاوِيهِ شَكَّ فِي رَفْعِهِ (¬2). وَفِي صَحِيح البُخَارِيِّ: "أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ" (¬3). وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقَّتَ لأَهْلِ المَشْرِقِ العَقِيقَ" (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أما حديث عائشة: فقال الحافظ: تفرد به القاسم بن محمد عن عائشة، وتفرد به أفلح بن حميد عن القاسم، وذكر ابن عدي أنَّ الإمام أحمد ينكر على أفلح ابن حميد هذا الحديث، لكن صححه ابن الملقن، وله شواهد ذكرها الحافظ في "التلخيص". وأما حديث ابن عبَّاس: فقد حسَّنه الترمذي، ولكن ردَّ تحسينه النووي، وقال: فيه يزيد بن زياد، وهو ضعيف باتفاق المحدثين. ¬

_ (¬1) أبو داود (1739)، النسائي (2605). (¬2) مسلم (1183). (¬3) البخاري (1531). (¬4) أحمد (3205)، أبو داود (1740)، الترمذي (832).

وقال الحافظ: في نقل الاتفاق نظر، وقوَّى ابن الملقن من شأن يزيد. ولحديث ابن عباس علة أخرى، وهي أنَّه لا يعلم لمحمد بن علي سماع من جده. * مفردات الحديث: - ذات عِرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، سمِّي بذلك لوجود جبل صغير ممتد من الشرق إلى الغرب، بطول (2) كيلو فقط، مطل على موضع الإحرام من الجهة الجنوبية، يبتديء هذا العرق شرقًا، وما تحته من موضع الإحرام، من وادٍ يقال له: "أنخل"، وينتهي غربًا بواد يقال له: العصلاء الشرقية"، وهذه الكتابة والتحديد عن مشاهدة مع سكان ثقات من أهل المنطقة، ويسمى الضريبة بفتح الضاد بعدها راء مكسورة ثم ياء ساكنة، واحدة الضراب، وهي الجبال الصغار، ويقع عن مكة شرقًا بمسافة قدرها (100) كيلو متر، والآن مهجور لعدم وجود الطرق عليه. - العقيق: بفتح العين وكسر القاف ثم ياء فقاف، وادٍ عظيمٌ يقع شرق مكة المكرمة فهو بحذاء ذات عرق شرقًا يبعد (28 كيلو مترًا)، ويبعد عن مكة بـ (128 كيلو متر). * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تحديد هذه الأمكنة المذكورة مواقيت مكانية للنسك، فلا يحل تجاوزها بدون إحرام، لمن يريد الحج أو العمرة. 2 - أنَّ ميقات مَن دون هذه المواقيت من مكانه الذي هو ساكنٌ، أو مقيمٌ فيه. 3 - أنَّ من تجاوزها بلا نية النسك، ثم طرأ له العزم على أداء النسك، يُحْرِم من حيث أراد النسك. 4 - أنَّ ميقات أهل مكة منها، وهذا في الحج، أما العمرة فلابد من الخروج إلى الحل، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة.

بل قال المحب الطبري: "ما أعلم أحدًا ما جعل مكة ميقاتًا للعمرة". قلت: إِلا أنَّ الصنعاني جعله قولًا له، ونصره بما لا ينهض فيه دليل؛ فإنَّ مفهوم هذا الحديث لا يقاوم صريح أمره عائشة بالخروج لعمرتها إلى التنعيم في ذلك الوقت الضيق، وكذلك عضده آثار قوية، وعمل المسلمين جميعًا في القديم، والحديث على هذا. 5 - مفهوم قوله "ممن أراد الحج أو العمرة" إنَّ من أراد دخول مكة لغير حج أو عمرة، بل لتجارة أو غيرها، فلا يجب عليه الإحرام، وفي المسألة خلاف يأتي إن شاء الله. 6 - جَعْل كل أهل جهة لهم ميقات في طريقهم إلى مكة من رحمة الله بخلقه، وتسهيل شرعه لهم، فلو كان الميقات واحدًا، لشقَّ على مريدي النسك. 7 - تحديد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المواقيت من معجزات نبوته، فإنَّه حددها قبل إسلام أهلها، إشعارًا منه بأنهم سيسلمون. ويحجون، ويحرمون منها، وقد كان ولله الحمد والمنة. 8 - تعظيم هذا البيت وتشريفه بجعل هذا الحمى، الذي لا يتجاوزه حاج، أو معتمر حتى يأتي بهذه الهيئة، خاشعًا لله تعالى، معظِّمًا لشعائره ومحارمه. 9 - أنَّ ذات عِرق مَهل أهل المشرق، ومن جاء معه، قال الإمام الشافعي في "الأم": "أجمع عليه الناس". 10 - فقه عمر -رضي الله عنه-، فإنَّه وقَّت ذات عرق، والنص فيها لم يبلغه، فجاء على وفق توقيته، وليس غريبًا عليه، فله موافقات كثيرة معروفة. 11 - سبب توقيت عمر ذات عِرق لأهل الشرق، أنه لمَّا تأسست البصرة والكوفة، وكان قرن المنازل في الشرق الجنوبي، وطريق أهل البصرة والكوفة في الشرق الشمالي، شقَّ عليهم الإحرام منه، فجاءوا، فقالوا لعمر: "إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدَّ لأهل نجد قرنًا، وإنه جَور عن طريقنا، قال:

فانظروا إلى حذوها من طريقكم، قال: فحدَّ لهم ذات عرق" [رواه البخاري (1531)] فصار هذا سنة لكل من لم يأت على ميقات من هذه المواقيت أن يحرم حينما يحاذي أقربها إليه. 12 - قال الفقهاء -رحمهم الله-: وكُرِه إحرامٌ قبل الميقات، الذي وقَّته الشارع؛ لموافقته الأحاديث الصحيحة، ولفعله -صلى الله عليه وسلم-. روى الحسن أنَّ عمران بن حصين أحرم من مصر، فبلغ عمر خَبَرَهُ فغضب، وقال: يتسامع الناس أنَّ رجلًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحرم في مصره. 13 - يكره أن يحرم قبل أشهر الحج، قال في الشرح: بغير خلاف علمناه؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. ولقول ابن عباس: من السنة أن لا يحرم بالحج إلاَّ في أشهر الحج، [رواه البخاري معلقًا]. وينعقد الإحرام قبل الميقات الزماني والمكاني. 14 - الذي لا يمر من ميقات يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، واعتبار المحاذاة أصلٌ بنى عليه عمر -رضي الله عنه- حين قرَّر ذات عرق ميقاتًا لأهل العراق، والعلماء اتَّفقوا على هذا الأصل. ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قرار هيئة كبار العلماء بشان ميقات "ذات عرق": رقم (177): الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم، وبارك على عبده، ورسوله نبينا محمَّد، وآله وصحبه، وبعد: فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء قد اطَّلع في دورته الأربعين على الرسالة المقدمة من بعض سكان الضريبة، المتضمنة طلب بناء مسجد في ميقات ذات

عرق، يكون معلمًا للميقات، يُحرم منه من يمر بهذا الميقات ممن يريد الحج أو العمرة؛ لأنَّ عدم وجود مسجد في الميقات، أدى إلى تجاوز الميقات من بعض مريدي الحج والعمرة من غير أهل المنطقة قبل الإحرام، لعدم وجود ما يرشد إليه، ولأهمية الموضوع، ومسيس الحاجة إلى إيضاح هذا الميقات، رأى المجلس تكليف أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرَّحمن البسَّام، والشيخ عبد لله بن سليمان المنيع عضوي المجلس، والشيخ عبد العزيز بن محمد العبد المنعم الأمين العام للهيئة، بزيارة موقع الميقات المذكور، والعناية بتحديده، وبيان ما يحتاج إليه من مسجد ومرافقه، وقد قاموا بالمهمة، وأعدوا التقرير اللازم، وفي الدورة الحادية والأربعين للمجلس المنعقدة في الطائف في الفترة من 18/ 3/ 1414 هـ إلى 29/ 3/ 1414 هـ عرض الموضوع، واطَّلع المجلس على التقرير الذي أعده المشايخ، الذي نصه: "الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فلما كان ميقات "ذات عرق" مدرجًا في جدول أعمال الدورة الأربعين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض ابتداءً من تاريخ 10/ 11/ 1413 هـ، وقد رأى المجلس -كما ورد في المحضر الأول من محاضر هذه الدورة- تكليف كلاً من: فضيلة عضوي المجلس الشيخين عبد الله بن عبد الرحمن البسام، وعبد الله بن سليمان المنيع، وأمين عام الهيئة عبد العزيز بن محمَّد العبد المنعم بزيارة ميقات "ذات عرق" وكتابة تقرير بشأنه، يتضمن وصفًا له، وبيان حدوده، وتقديمه للمجلس في دورته الحادية والأربعين. وإنفاذًا لما رآه المجلس توجهت اللجنة المكلفة بالمهمة في يوم السبت الموافق 12/ 2/ 1414 هـ إلى ميقات "ذات عرق" وقد سلكت في ذهابها الطريق الموازي لوادي العقيق، المتجه شمالاً من "عشيرة" إلى بلدة

"المحاني"، وعند محاذاتها "ذات عرق" من الشرق تركت الطريق المزفت، واتَّجهت غربًا مارة بوادي العقيق عرضًا، مغ خط ترابي ممسوح، يصل ما بين الطريق المزفت وبين ذات عرق، وقد حسبت المسافة من وادي العقيق إلى ذات عرق فبلغت ثمانية وعشرين كيلو مترًا، حسب عداد السيارة. وقد وصلت اللجنة منطقة ذات عرق، وتجولت فيها، وفيما حولها من وديان ومزارع، ثم كتبت ما انتهت إليه من معلومات وحقائق معتمِدة في ذلك على: 1 - ما ذكره بعض أهل العلم من مفسرين وفقهاء ومؤرخين عن هذا الميقات، حيث استعرضت اللجنة، وهي في رحلتها قراءة كثير من أقوال أهل العلم في وصف هذا الميقات، وذكر بعض معالمه. 2 - مشاهدة معالم هذا الميقات من أودية وجبال، وتطبيق ما ذكره أهل العلم عليها، لاسيَّما ممن كتبوا في وصف طرق الحاج، وأشاروا إلى كثير من المواضع، مع ضبطها بالوصف والمسافات. 3 - الاستعانة ببعض أهل الخبرة من سكان تلك الجهة، فقد اتَّصلت اللجنة بثلاثة من كبار السن من أهل تلك المنطقة، واصطحبتهم معها في جولاتها، ووقوفها على مختلف المعالم من جبالٍ، وأوديةٍ، وآبارٍ، وخرائب، وتعرفت منهم على أسمائها، وعلى كل ما يعرفونه عنها في القديم، حينما كان الحاج يستخدم الإبل في سفره، ويحرم بالنسك من هذا الميقات، وفي الحاضر حيث تغيرت وسائل المواصلات، فأصبح الإحرام منه منقطعًا، وذلك من أكثر من أربعين عامًا، حيث ذكروا ذلك. وتوصلت اللجنة إلى الحقائق التالية: 1 - أنَّ "عرقا" قمة جبل مرتفع، ولونه متميز عن بقية الجبل، بلون إلى السواد أقرب، واقع على كامل قمة الجبل، وهذا الجبل مرتفع عما حوله، ممتد

من الشرق إلى الغرب بطول ألفي متر تقريبًا، يحده من الشرق وادي "الحنو"، ومن الغرب وادي "العصلاء الشرقية" وهذا الجبل هو الحد الجنوبي للميقات. 2 - أن ميقات "ذات عرق" ريع بين جبلين، فيه مجرى سيل كبير، متجه من الشرق إِلى الغرب، يدعى "وادي الضريبة" يتسع هذا الريع في بعض نواحيه، ويضيق في نواحي أخرى، بين مائتي متر، وخمسمائة متر، وطوله من الشرق إِلى الغرب ألفا متر تقريبًا. ويطلق عليه اسم "الطرفاء"، وفي منتصفه بئر قديمة فيها ماء تسمى "الخضراء"، يحرم عندها من يريد الإحرام من أهل البلد، أو من يمر بها ممن هم حولها، حسب إفادة المرافقين للجنة من أهل المنطقة، وفي هذا المحدود توجد آثار خرائب، وأساسات مباني قديمة، لم يبق منها إلاَّ ما هو ملاصق للأرض، وفي غربيه شمال مجرى الوادي آثار مقبرة قديمة، وتغطي أشجار السلم والطلح والسمر عامة أرض الميقات. حدود الميقات: أما حدود هذا الميقات كما وَضُحَ للجنة: فيحده من الشرق ملتقا وادي "الحنو"، مع وادي "أنخل" عند مصبهما، ليتكون منهما وادي "الضريبة"، وعند ملتقى هذين الواديين يبتديء العرق المنسوب إليه هذا الميقات، ويوجد في هذا الحد ثلاث نصائب: إحداها في جنوبيه في سفح العرق المذكور عند ابتدائه من الشرق، حيث مجرى وادي "الحنو". والثانية: فوق ملتقى وادي الحنو، ووادي أنخل، في المثلث الفاصل بينهما قبيل التقائهما. والثالثة: في سفح الجبل الشمالي المقابل لجبل "عرق" من الشمال. وهذه العلامات الثلاث ذكر المرافقون من أهل تلك الجهة أنَّها وضعت

منذ حوالي ثلاثين سنة، من قبل لجنة خرجت من مكة بقصد تحديد الميقات، ومَنْع التعدي عليه. ويحده من الغرب وادي "العصلاء الشرقية"، المتجه من الجنوب إلى الشمال حيث يصب سيله في وادي الضريبة، ويمتد الحد الغربي شمالًا على مسامته وادي العصلاء، حتى يصل إلى الجبل المقابل، من الناحية الشمالية، ويوجد مجرى سيل متجه من الجنوب إلى الشمال، موازٍ للعصلاء الشرقية من الغرب، يدعي "العصلاء الغربية" وبينهما حوالي خمسمائة متر، ويصب سيله في وادي الضريبة، وقد وضعت نصائب من قبل اللجنة السابقة في الضفة الشرقية للعصلاء الغربية، وقال المرافقون: إنَّ هذا متجاوز للحد، وإنما وضعت هذه الأنصاب لتكون حمى للميقات، إذ أنَّ حد الميقات من الغرب هو العصلاء الشرقية، كما أوضحناه آنفًا، لوجود الآثار شرقيها، ولأنَّ العرق المنسوب إليه هذا الميقات ينتهي عند هذا الحد، ونوصي بأن يبقى ما بين العصلاء الشرقية والعصلاء الغربية حمى للميقات، كما وضعته اللجنة السابقة، ولا يسمح لأحد بإحيائه أو تملكه، لئلا يضيق الميقات بالتعدي على حدوده. ويحد الميقات من الجنوب قمة جبل عرق، ابتداءً من طرفه الشرقي عند مجرى واد الحنو إلى طرفه الغربي حيث ينتهي بمجرى العصلاء الشرقية. ويحده من الشمال الجبال المتصلة الواقعة شمال وادي الضريبة، من مصب وادي أنخل في وادي الضريبة شرقًا، حتى ملتقى وادي الضريبة بوادي العصلاء الشرقية غربًا. وطول الميقات شرقًا وغربًا ألفا متر، تقريبًا، وهو طول العرق المذكور، وعرض الميقات يختلف باختلاف ما بين الجبلين ضيقًا واتِّساعًا، ويتراوح ذلك ما بين مائتي متر وخمسمائة متر، كما سبقت الإشارة إليه. أما موقع إقامة مسجد الميقات ومرافقه، فترى اللجنة أن يقام في المتسع

الواقع شمال شرق بئر "الخضراء" لتوسطه، ولأن جميع من سألناهم أجمعوا على أنَّ الإحرام في الماضي والحاضر هو قرب هذه البئر، التي يوجد حولها بقية الآبار المندفنة، والغرف المتهدمة، والمقابر في سفوح الجبال الشمالية الغربية مما يلي وادي الضريبة. هذا ما توصلت إليه اللجنة فيما يتعلَّق بميقات "ذات عرق"، ونسأل الله إصابة الحق في القول والعمل، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم ... ولمزيد التأكد طلب المجلس حضور الشريف شاكر بن هزاع قائم مقام مكة سابقًا، واطلاعه على تقرير اللجنة، ومعرفة ما لديه من معلومات عن الميقات المذكور، لما له من خبرة في ذلك، وقد حضر عند هيئة كبار العلماء في يوم السبت الموافق 3/ 25/ 1414 هـ، وأفاد أنَّ ما تضمنه تقرير اللجنة موافق لما قررته اللجنة التي شكلت في عام 1387 هـ، لتحديد ذات عرق، وكان عضوًا فيها، ووضعت علامات حدود الميقات في ذلك الوقت، التي لا تزال باقية إلى الآن، وهي نفس العلامات التي رأتها اللجنة التي شكلها المجلس، كما قام كل من عضوي المجلس فضيلة الشيخ محمَّد بن سليمان البدر، وفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد يوم الجمعة الموافق 24/ 3/ 1414 هـ بزيارة الميقات ذات عرق، وأفادا المجلس بأنَّهما اطلعا على الميقات ومعالمه، وسألا عددًا من سكان المنطقة عن الميقات، واتَّضح لهما أنَّ ما جاء في تقرير اللجنة التي كلفها المجلس فيه وصف دقيق لذات عرق، يوافق واقعها على الطبيعة، وبناءً على ما تقدم، فإنَّ المجلس يرى ما يلي: 1 - أن تهتمَّ الحكومة بميقات ذات عرق، الذي هو أحد المواقيت المكانية المعتبرة للحج والعمرة، من حيث المحافظة عليه، وذلك بوضع علامات واضحة وبارزة في بدايته من الشرق، ونهايته من الغرب، حسب الحدود الموضحة في تقرير اللجنة المذكور ضمن هذا القرارة حتى لا يتجاوزه أحد

ممن يريد الحج أو العمرة قبل الإحرام. 2 - يوصي المجلس بتكليف الجهة المختصة بالمبادرة بإنفاذ أمر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ببناء ميقات ذات عرق، وتأمين ما يحتاجه من خدمات ومرافق، حسبما صرَّح به معالي وزير الحج والأوقاف السابق، ونشر في جريدة الجزيرة في عددها (7470) الصادر في 19/ 9/ 1413 هـ. 3 - يقام المسجد في المكان الذي اقترحته اللجنة في تقريرها؛ للأسباب التي ذكرتها، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه. * قرار هيئة كبار العلماء بشان المواقيت المكانية: رقم (73): قال مجلس هيئة كبار العلماء: بعد الرجوع إِلى الأدلة، وما ذكر أهل العلم في المواقيت المكانية، ومناقشة الموضوع من جميع جوانبه، فإنَّ المجلس يقرر بالإجماع ما يلي: 1 - أنَّ الفتوى الصادرة من الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود بجواز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية، والسفن البحرية، فتوى باطلة، لعدم استنادها إلى نصٍّ من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو إجماع سلف الأمة، ولم يسبقه أحد من علماء المسلمين الذين يعتد بأقوالهم. 2 - لا يجوز لمن مرَّ ميقاتًا من المواقيت المكانية، أو حاذى واحدًا منها جوًّا، أو بحرًا أن يجاوزه من غير إحرام، كما تشهد بذلك الأدلة، وكما قرره أهل العلم -رحمهم الله تعالى-. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى وجوب الإحرام على كل من قصد مكة، سواء قصد النسك أو لا، مستدلين بما رواه البيهقي عن ابن

عباس: "لا يدخل أحد مكة إلاَّ محرمًا"، قال ابن حجر: إسناده جيد. وذهب الإمام الشافعي إلى عدم وجوب الإحرام، لمن لم يرد الحج أو العمرة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن عقيل، وشيخ الإسلام ابن تيمية. قال في الفروع: وهي ظاهرة. مستدلين بقوله في حديث الباب: "ممن أراد الحج والعمرة" فمفهومه أنَّ من لم يُرِد النسك لا يجب عليه، على أنَّ عامة العلماء الموجبين للإحرام يقيدون الإيجاب في غير المترددين على الحرم، بحالة مستمرة، كصاحب البريد، والمكاري، ونحو ذلك، فلا يوجبون عليهم الإحرام، وعلى هذا العمل الجماعي. * فائدة: جعل الإحرام من هذه الأماكن تعظيمًا وتشريفًا لهذه البقعة المباركة، فإنَّ الله جعل البيت معظمًا، وجعل المسجد الحرام فِناء له، وجَعَل مكة فِناء للمسجد الحرام، وجعل الحرم فِناءً لمكة، وجعل المواقيت فِناء للحرم. ***

باب وجوب الإحرام وصفته

باب وجوب الإحرام وصفته 605 - وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهلَّ بِحَجٍّ، وأَهلَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهلَّ بِعُمْرَةٍ فَحلَّ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَهلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتى كانَ يَومُ النَّحْرِ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خرجنا: من المدينة، وكان خروجه -صلى الله عليه وسلم- يوم السبت، لخمس بقين من ذي القعدة، بعد صلاة الظهر بالمدينة. - حجَّة الوداع: سنة عشر من الهجرة، سميت بذلك؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- ودعَّ الناس فيها، وقال: "لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا". - مَنْ أهلَّ بعمرة: بتشديد اللام، فصار متمتعًا بالعمرة إلى الحج. - مَنْ أهلَّ بحج وعمرة: فصار قارنًا بين الحج والعمرة. - من أهلَّ بحج: فصار مفردًا بالحج وحده. - أهلَّ: من الإهلال، والإهلال بالحج هو رفع الصوت بالتلبية. - يوم النحر: هو يوم العاشر من ذي الحجة، سمي بذلك؛ لنحر البُدن فيه، ¬

_ (¬1) البخاري (1562)، مسلم (1211).

هديًا وأضاحي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية الأنساك الثلاثة، وهي التمتع، والقِران، والإفر اد. فقد أشار الحديث إلى التمتع بقوله: "أهلَّ بعمرة". وإلى القِران بقوله: "أهلَّ بحج وعمرة"، وإلى الإفراد بقوله: "أهلَّ بحج"، فالأنساك الثلاثة جائزة كلها، فعلها الصحابة بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته. 2 - مشروعية التلبية عند الإحرام، فهو المراد بالإهلال. 3 - أنَّ المُحرم بالعمرة يفرغ منها ويَحِل، ثم يُحرِم بالحج في عامه. 4 - أنَّ المحرِم القارن: هو مَنْ نَوى الحج والعمرة جميعًا، أو نوى العمرة ثم أدخل عليها الحج. 5 - أنَّ المحرم المفرد: هو مَنْ أَحرم بالحج فقط. 6 - ظاهر الحديث أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- أحرم مفردًا، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله. 7 - أما الصحابة فقد فعل كل طائفة منهم نسكًا من الأنساك الثلاثة، كما هو نص الحديث، وسياتي أيُّ الأنساك الثلاثة أفضل، إن شاء الله تعالى. 8 - ظاهر الحديث أنَّ المفردين والقارنين بقوا على إحرامهم حتى يوم النحر، ولكن هذا مقيَّد بالنصوص الأُخر التي ألزمت من لم يسق الهدي منهم بفسخ حجه إلى عمرة، ليفرغ منها، فيكون متمتعًا، وأنَّ هذا الحديث خاص بمن ساق الهدي، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. 9 - إلهام الصحابة الذين حجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بأن ينوعوا نسكهم إلى ثلاثة أنواع، ثم يقرهم -صلى الله عليه وسلم- حِكمة عظيمة، لتكون تشريعًا عامًا في أمته، فإنَّ من سننه إقراره على الشيء.

* خلاف العلماء اختلف العلماء في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هل هو قارن، أو متمتع، أو مفرد؟ فكل طائفة من العلماء ذهبت إلى نوع. فالذين يرون أنَّه حج متمتعًا، دليلهم: ما جاء في صحيح، ومسلم (1227) عن ابن عمر قال: "تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج". وأمّا من يرون أنَّه حج مفردًا، فدليلهم حديث الباب، وما رواه مسلم (1211) عن عائشة "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج". وأما من يرون أنَّه حج قارنًا، فاستدلوا بما رجَّحه المحققون من العلماء، ومنهم ابن القيم، الذي ساق ما يزيد على عشرين حديثًا صحيحًا في ذلك، وقال الإمام أحمد: "لا شكَّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حجَّ قارنًا". وشيخ الإسلام ابن تيمية من الذين يجزمون بأنه حج قارنًا، ويوفق بين روايات الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فيقول: الصواب أنَّ الأحاديث في هذا الباب متفقة، إلاَّ اختلاف يسير يقع مثله في غير ذلك. فإنَّ الصحابة ثبت عنهم "أنَّه متمتع" والتمتع عندهم يتناول القِران، والذين يرون أنَّه أفرد روي عنهم التمتع، فيريدون بالإفراد إفراد أعمال الحج، بحيث لم يسافر للنسكين سفرتين، ولم يطف لهما طوافين، ولم يَسْعَ لهما سعيين، فيقال: تمتع قِران، وإفراد أعمال الحج، وقرن النسكين. واختلفوا أي الأنساك الثلاثة أفضل: قال الإمام أحمد يرى أنَّ التمتع أفضل، ويقول: لا شكَّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، والمتعة أحب إلي، لأنَّها آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سُقت الهدي، ولأحللتُ معكم"، فهو تأسف على فواته، وأمر أصحابه أن يفعلوه.

وممن اختاره ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاووس ومجاهد، وهو أحد قولي الشافعي. وذهب الثوري، وأصحاب الرأي إلى اختيار القِران، لما في الصحيحين عن أنس، "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهلَّ بهما جميعًا"، وما كان الله ليختار لنبيه إلاَّ أفضل النسك. وذهب مالك والشافعي في المشهور عنه إلى أنَّ الإفراد أفضل. ودليلهم ما جاء في البخاري (1562) ومسلم (1211) "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج"، وحديث الباب. وتقدم أنَّ معنى الإفراد هو القِران، لدخول أفعال العمرة في أفعال الحج، وأنَّ صورته هي صورة الإفراد. أما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فقالا: إنَّ التمتع أفضل في حق مَن لم يسق الهدي، والقِران أفضل في حق من ساقه، جمعًا بين الأدلة، وهو رواية عن الإمام أحمد. قال ابن القيم: وهذه هي الطريقة التي تليق بأصول أحمد. وقال الشيخ في موضع آخر: التحقيق أنَّه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر، ويقيم بها، فهذا الإفراد له أفضل باتِّفاق الأئمة، وأما إذا كان يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقِران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل. أجمع العلماء على أنَّ الصحابة الذين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع قد فسخوا حجهم إلى عمرة بأمره -صلى الله عليه وسلم-. ثم اختلفوا في مشروعية فسخ الحج إِلى عمرة، في حق من لم يسق

الهدي، من مفردٍ وقارنٍ. فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، وجمهور العلماء إلى أنَّه لا يشرع. وذهب الإمام أحمد، وأصحابه، وأهل الحديث، والظاهرية إلى مشروعية الفسخ. استدلَّ الجمهور بما رواه أبو داود (1542) عن أبي ذر قال: "لم يكن ذلك إلاَّ للركب الذين كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وبما رواه أحمد (15292) عن بلال بن الحارث قال: قلتُ: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: "بل لنا خاصة". فهذا الحديث ناسخ لأحاديث الفسخ التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها الصحابة أن يخالفوا عادة الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، هذا دليل الجمهور. أما الذين يرون الفسخ فعندهم فيه ثمانية عشر حديثًا صحاحًا جيادًا عن بضع عشرة من علماء الصحابة، كلها صريحة في فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي، ولذا لما قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! كلّ شيء منك حسن جميل، إلاَّ أنَّك تقول بفسخ الحج، فقال أحمد: كنت أرى لك عقلًا، عندي ثمانية عشرة حديثًا صحاحًا جيادًا، كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك. ومن تلك الأحاديث: ما رواه مسلم (1247) عن أبي سعيد الخدري قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نصرخ بالحج، فلما قدمنا أمرنا أن نجعلها عمرة إلاَّ من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج". ومنها ما رواه مسلم (1236) أيضًا عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "خرجنا محرِمين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كان معه هدي فليُقِم على إحرامه،

ومَن لم يكن معه هدي فليحلل"، فلم يكن معي هدي فحللتُ، وكان مع الزبير هدي فلم يحل. وهذان الحديثان وأمثالهما مما جاء في هذا الباب أحكام عامة لجميع الأمة، ومن خصها بطائفة دون أخرى فعليه الدليل. وأما أثر أبي ذر فرأي له، خالفه فيه غيره من الصحابة، وأما دعوى الجمهور النسخ بحديث بلال، فقال أحمد: لم يثبت عندي، ولا أقول به، وأحد رواة سنده الحارث بن بلال، لا يعرف. وقال أيضًا: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال فأين يقع من أحد عشر رجلًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يرون ما يروه من الفسخ. كما استدلَّ الإمام أحمد ورجال الحديث بما روي عن سراقة بن مالك أنَّه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل هي لنا خاصة؟ فقال: "بل للأمة عامة" [رواه أحمد (15292)]. وممن اختار الفسخ شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد أطال البحث في موضوعه في كتابه "زاد المعاد" ونصر مشروعية الفسخ ورد غيره، وقال: نحن نشهد الله تعالى علينا أنَّا لو أحرمنا بحج، لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صحَّ حرف واحد يعارضه، ولا خصَّ به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة بن مالك أن يسأله: هل هذا مختص بهم، فأجاب: "إنَّ ذلك كائن لأبد الأبد"، فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث والأمر المؤكد. قال في عيون المسائل: لو قيل بوجوبه لم يبعد، واختار الوجوب ابن حزم، وقال هو قول ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وإسحاق. وقال شيخ الإسلام: وقد تواترت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أمر به أصحابه في حجة الوداع، لما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة.

وقال الشيخ الألباني: من تتبع الأحاديث تبين له أنَّ التخيير المذكور إنما كان في مبدأ حجته -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يستقر الأمر على ذلك، بل نهى كل من لم يسق الهدي من المفردين والقارنين أن يجعل حجَّه عمرة، ثم جعل ذلك شريعة مستمرة إلى يوم القيامة. أما الإمام أحمد وأهل الحديث، فلا يرون وجوب الفسخ، وإنما يرون استحبابه، ويرون أنَّ تغليظ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفسخ وغضبه، هو لعدم المبادرة في امتثال أمره، ليزيل العادة الجاهلية في عدم الاعتمار في أشهر الحج، ومسلك الإمام أحمد وأتباعه مسلك حسن، وسط في الأقوال، والله أعلم. ***

باب الإحرام وما يتعلق به

باب الإحرام وما يتعلق به 606 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا أهلَّ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ مِن عِنْدِ المَسْجِدِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أهل: أحرم، ورفع صوته بالتلبية. - المسجد: هو مسجد ذي الحليفة المسمى الآن "بآبار علي"، وتقدم أنَّه ميقات أهل المدينة، ومن أتى عليه من غيرهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية التلبية عند الدخول في الإحرام لأنَّها شعار الحج والعمرة، كالتكبير شعار الصلاة. 2 - أنَّ الإحرام هو أول عمل واجب يبدأ به مريد الحج والعمرة؛ لأنَّه الدخول في النسك، كتكبيرة الإحرام لمريد الصلاة. 3 - في هذا الحديث تحديد ابتداء إهلال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه من عند المسجد؛ لأنَّه ردٌّ من ابن عمر على من قال: "إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحرم من البيداء". 4 - اختلف نقل الرواة من أين أهلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحجة؟ فأكَّد ابن عمر "أنَّه من عند المسجد"، وعند مسلم (1218) من حديث جابر "ثم ركب ¬

_ (¬1) البخاري (1541)، مسلم (1186).

القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلَّ بالتوحيد"، وفي رواية أخرى عند مسلم: (1218) "إنَّه أهلَّ من عند الشجرة حين قام به بعيره"، وعند أبي داود من حديث أنس "فلما علا جبل البيداء أهلَّ". وقد أجاب ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- جوابًا شافيًا عن هذا الاختلاف في قضية واحدة، فقال: "إني لأعلم الناس بذلك، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجًّا، فلما صلَّى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه، فأهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوامٌ، فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلَّت به ناقته أهلَّ، فأدركه أقوامٌ فحفظوا عنه، وذلك أنَّ النَّاس إنما كانوا يأتون أرسالًا، ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهلَّ، فأدرك ذاك أقوامٌ، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلَّت به راحلته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء" [رواه أحمد (2240)]. 5 - أجمع العلماء على جواز الإحرام قبل الميقات، ومع الإجماع فقد ثبت فعله عن بعض الصحابة. إلاَّ أنَّ المشروع وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أن لا يعقد الإحرام إلاَّ من الميقات لمن مرَّ عليه أو من حاذاه، كما هو عمل الخلفاء الراشدين، وجمهور الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وعمل بعض الصحابة دليل الجواز فقط مع احتمال الأعذار. ***

607 - وَعَنْ خَلَّادِ بنِ السَّائِبِ عَنْ أَبيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيْلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلَالِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلِّف: صححه الترمذي وابن حبَّان. وقال في التلخيص: رواه مالك والشافعي وأحمد، وأصحاب السنن وابن حبَّان والحاكم والبيهقي، من حديث خلاد بن السائب عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. * مفردات الحديث: - الإهلال: قال صاحب المُغْرِب: كلّ شيء صوَّت، فقد استهلَّ. وقال أبو الخطاب: كل متكلم رافع صوته، أو خافضه فهو مهل، ومستهل. قال في النهاية: الإهلال، رفع الصوت بالتلبية، فيكون تعريف صاحب النِّهاية بمثال من المعنى العام، والمُهلُّ بضم الميم موضع الإهلال وهو المكان الذي يحرمون منه، ويقع على الزمان، والمصدر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استدل به بعضهم على وجوب التلبية للأمر بها، ومنهم أبو حنيفة، والجمهور ¬

_ (¬1) أحمد (15961)، أبو داود (1814)، الترمذي (829)، النسائي (2703)، ابن ماجه (2922)، ابن حبان (3791).

على أنَّها متأكدة الاستحباب في الحج والعمرة. 2 - استحباب رفع الصوت بالتلبية، وهذا خاصٌّ بالرجال دون النساء، لطلب خفض أصواتهن، قال ابن المنذر وغيره: أجمع أهل العلم على أنَّ السنة للمرأة أن لا ترفع صوتها، والكراهة مقيدة بما إذا لم يتحقق سماع أجنبي، وإلاَّ فيحرم. 3 - أنَّ بعض السنة تكون بوحي الله تعالى، يبلغها جبريل إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. 4 - أجمع العلماء على مشروعية التلبية في النسك؛ لأنَّها شعار الحج والعمرة، وتستمر حتى البداءة برمي جمرة العقبة في الحج على التصحيح، وفي العمرة حتى البدء بطوافها؛ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. * خلاف العلماء: اختلاف العلماء في حكم التلبية: ذهب الشافعي وأحمد إلى أنَّ التلبية سنة، ليس بتركها إثم، فلم يقم لديهما دليل بوجوبها، والأصل عدم الوجوب. وذهب أبو حنيفة، والظاهرية، والثوري، وعطاء، وطاووس إلى أنَّها ركن لا يصح الحج بدونها، كتكبيرة الإحرام في الصلاة. وذهب مالك وأصحابه وبعض الشافعية إِلى أنَّها واجبة يجبر تركها بدم، ودليل وجوبها قوي؛ لأنَّها شعار الحج، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُخِلُّ بها، وقال: "خذوا عني مناسككم"، وحديث الباب فيه الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، وقد التزمها المسلمون -ولله الحمد- في نسكهم، فلا تجد مُحْرِمًا إلاَّ وهو يُرددها. ***

608 - وَعَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَجرَّدَ لإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحسَّنَهُ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه الترمذي والدارقطني (2/ 220)، والبيهقي (8726)، والطبراني (4862) من حديث زيد بن ثابت، وحسَّنه الترمذي، وضعَّفه العقيلي. ولعلَّ تضعيف العقيلي، لأنَّ في إسناده عبد الله بن يعقوب المدني، وهو مجهول الحال. وقال ابن الملقن: لعلَّ الترمذي حينما حسَّنه إنما اطَّلع على حال عبد الله ابن يعقوب، وقد صحَّحه ابن السكن أيضًا. وغسل الإحرام ثابتٌ بمثل حديث جابر في مسلم (1218)، وحديث عائشة عند أحمد (23350) بإسناد حسن. * مفردات الحديث: - تجرَّد لإهلاله: تعرَّى من ثوبه حينما خلع ملابسه المخيطة، ليبدلها بملابس الإحرام، ليحرم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب التجرد من المخيط، ولبس الإزار والرداء للإحرام للرجال. 2 - الاغتسال للإحرام، وهو من الاغتسالات المشروعة المؤكدة. 3 - يقصد من الاغتسال النظافة لهذه العبادة الجليلة، كما أنَّ في ذلك تفاؤلًا إلى غسل الآثام، وآثار الذنوب. ¬

_ (¬1) الترمذي (830).

609 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَمَّا يَلْبسُ المُحْرِمُ مِن الثِّيَابِ، فَقَالَ: لا يَلْبَسُ القَمِيْصَ، وَلا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلاتِ، وَلَا البرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبسَ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الوَرْسُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يلبس .. إلخ: قال النووي: قال العلماء هذا من بديع الكلام وجزله، لأنَّ ما يلبس منحصر، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر، فقال: لا يلبس كذا، ويلبس ما سواه. - لا يَلْبسَ: من اللُّبس بضم اللام، والأشهر في الفعل الرفع على الخبر، ويجوز فيه الجزم على أنَّ "لا" ناهية. - القميص: جمعه قُمُص وقمصان وأقمصة، وهو ما يفصَّل ويلبس على هيئة البدن مخيطًا، أو محيطًا. - العمائم: جمع عمامة، بكسر العين هي التي تلف وتكور على الرأس، واعتم بالعمامة وتعمم بها بمعنى واحد. - السراويلات: جمع سروال، يذكر ويؤنث، وقال الأصمعي: لم يعرف فيها إلاَّ التأنيث، والسراويلات: كلمة أعجمية معربة، قال العيني: العرب إذا ¬

_ (¬1) البخاري (1542)، مسلم (1177).

استعملوا لفظًا أعجميًّا غيَّروه بزيادةٍ، أو نقصانٍ، أو بقلب حرف بحرف غيره. - البرانس: جمع بُرنُس بضم الباء الموحدة وسكون الراء وضم النون، هو ثوب رأسه منه ملصق به، يلبسه النسَّاك في صدر الإسلام، ويلبسه الآن المغاربة، وهو ماخوذ من البِرْس -بكسر الباء- هو القطن، فالنون زائدة. - الخِفَاف: بكسر الخاء جمع خُف، وهو ما يلبس في الرِّجل، ويكون إلى نصف الساق، أما الجوارب فما غطى الكعبين، والحكم واحد. - إلاَّ أحد: المستثنى منه محذوف، وتقديره: لا يلبس المحرم الخفَّين إلاَّ أحدٌ لا يجد نعلين. - مسَّه الزَّعفران: أصابه، والجملة محلها النصب، صفة لقوله: "شيئًا". - الزَّعفران: بفتح الزاي والفاء نبات بصلي من الفصيلة السوسنية، يصبغ به الثياب، وهو اسم أعجمي، يجمع على زعافر، وقد عربته العرب وصرفته. - الكعبين: تثنية كعب، هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من القدم. - الوَرْس: بفتح الواو وسكون الراء آخره سين مهملة، نبت أصفر يصبغ به الثِّياب أيضًا، وله رائحةٌ طيبةٌ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - من حسن السؤال تحريره، وأن يقصد به نفس المسؤول عنه. 2 - من حسن الجواب، وكمال التعليم والتفهيم، تقويم سؤال السائل وتعديله إلى المعنى المطلوب، فإنَّ السائل في هذا الحديث سأل عما يلبسه المحرم، ولكون ما يلبسه المحرم هو الأصل المباح الكثير، عَدَل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجواب، فبيَّن للسائل ما يحرم، وترك ما عداه على أصل الإباحة، وهذه الطريقة في الجواب على مثل هلذا السؤال هو ما يسمِّيه علماء البلاغة أسلوب الحكيم، لذا أجابه بما هو أخصر وأحصر، فإنَّ ما يحرم أقل وأضبط مما يحل.

3 - أنَّ الأشياء التي يجتنبها المحرم قليله معدودة محدودة، والأشياء المباحة هي الكثيرة التي ليس لها حدٌّ، ولا عدٌّ. 4 - تحريم الأشياء الملبوسة المذكورة في الحديث على الرجال المحرِمين خاصة دون النساء، قال المجد بن تيمية: واتَّفقوا على أنَّ التحريم هنا على الرجال. ودليله من حديث الباب: توجيه الخطاب نحوهم، فإنَّ "واو" الضمير وإن استعمل متناولًا للجنسين على التغليب فإنَّ الظاهر فيه اختصاصه بالذكور 5 - نبَّه بهذه الأشياء المذكورة في الحديث على ما شاكلها من الألبسة، فتحريم البرنس والعمائم، يشمل كل ما غطى به الرأس من الملاصق، أما تظليل الرأس بغير ملاصق، فلا بأس به للرجال والنساء. 6 - تحريم "الخفين" يشمل كل ما ستر القدم وغطى الكعبين، والتحريم ما لم يعدم النعلين، فإن لم يجدهما ليس الخفين، كما في حديث ابن عبَّاس الذي في الصحيحين، ولا يقطعهما في أصح قولي العلماء؛ لأنَّ حديث ابن عباس متأخر عن حديث ابن عمر الذي فيه القطع، ولأنَّ الذين سمعوا حديث ابن عبَّاس هم أكثر من الذين سيعوا حديث ابن عمر، فحديث ابن عمر في المدينة، وحديث ابن عباس في عرفات، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد في هذين الحديثين. 7 - تحريم "القميص" يشمل كل ما لبس على قدر البدن مخيطًا، أو محيطًا. والمراد بالنَّهي هو لبس المخيط، اللبس المعتاد، أما ارتداؤه ولفه على البدن بلا لبس، فلا بأس فيه. 8 - ونبَّه "بالسراويلات" على كل ما ستر بعض البدن، كالسراويل القصير والصدرية المنسوجة "الفنيلة".

9 - أما الورس والزعفران فنبَّه بهما على تحريم أنواع الطيب، وهذا عام في حق الرجال والنساء، فلا يجوز للمحرم استعماله، لا بلبسٍ، ولا ببدنٍ، ولا بأكلٍ، ولا بشربٍ، ولا بغير ذلك. * من حكمة التشريع: 1 - أن يأتي الحاج أشعث أغبر حاسر الرأس، ففي هذه الحال يكون قريب القلب من ربه، لم تُطْغه المظاهر، ولم تغره الزخارف، ولم تفتنه الزينة. 2 - أنَّ هذه الهيئة تبعث صاحبها على الخضوع، والخشوع إلى الله تعالى هو لب العبادة وروحها. 3 - أنَّ لباسه يذكِّره بموقف يوم القيامة حينما يأتي إلى ربه عاريًا حافيًا، فإذا ذكر ذلك الموقف العظيم زاده قربًا من الله تعالى، وابتهالًا بين يديه، وخوفًا منه، ورجاءً إليه. 4 - أنَّ هذه العبادة وسائر العبادات ترمز إِلى الوحدة بين المسلمين، والاتحاد بينهم، وتشير إلى المساواة، ولذا توحَّد زيهم ومسكنهم حتى لا يطغى أحد على أحد، ولا يمتاز فردٌ على فردٍ، ولا يظهر غنيٌّ على فقيرٍ، ولا قويٌّ على ضعيفٍ، وإنما هم في موقف واحد، وفي عبادة لئه واحدة، ينشدون هدفًا واحدًا، فهذا اللباس يؤلف بين القلوب، ويوحد بين النفوس. 5 - هذه اللبسة الخاصة تشعره في أنَّه في حالة إحرام، فيكثر من الدعاء والذكر، ويصون نفسه عن ارتكاب المحظورات. 6 - أما المرأة فروعي في لباسها قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" فبقيت مستورة مصانة عن الفتنة، لاسيَّما في هذا الموطن. ***

610 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ولَحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الطيب قُبيل عقد الإحرام، ليبقى أثره معه أثناء إحرامه. 2 - أنَّ بقاء الطيب على المحرم لا يضر إحرامه، ولا يخل به، سواء في ثوبه أو في بدنه، وهو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، وأئمة المذاهب. ومن أدلة هذا ما جاء في البخاري (1538) ومسلم (1190)، عن عائشة قالت: "كأني أنظر إلى وبِيض المسلك في مفرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم". قال ابن القيم: ومذهب جمهور العلماء جواز استدامة الطيب للسنة الصحيحة: أنَّه كان يُرَى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه، وحديث صاحب الجبة عام حنين سنة ثمانٍ، وحديث عائشة عام حجة الوداع، فهو ناسخ. 3 - حل الطيب إذا تحلل المحرم التحلل الأول، وسيأتي بيان التحللين، إن شاء الله تعالى. 4 - استحباب الطيب بعد التحلل الأول، وقبل الطواف بالبيت. 5 - يؤخذ من تطيبه -صلى الله عليه وسلم- عند الإحرام، وتطيبه بعد التحلل، تحريم الطيب أثناء الإحرام، وعلى هذا إجماع العلماء، فهو من محظورات الإحرام. ¬

_ (¬1) البخاري (1539)، مسلم (1189).

6 - أنَّ ترتيب الإفاضة في فعل المناسك يكون بعد التحلل الأول، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. 7 - الحكمة في تحريم الطيب على المحرم، هو البعد عن التنعم، وملاذ الحياة الدنيا، وأن يجمع همه لمقاصد الآخرة. 8 - ولاية المرأة شؤون زوجها الخاصة، وقيامها عليها، وإنَّ هذا من حسن العشرة. 9 - استحباب التجمل والتطيب عند الذهاب إلى العبادات في المساجد، لاسيَّما المجامع الكبيرة، فقد قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. 10 - وجوب طواف الإفاضة، فهو أهم أركان الحج، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]. ***

611 - وَعنْ عُثْمَانَ بنِ عفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَنكِحُ المُحْرِمُ، وَلا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا ينكح: "ياء" المضارعة مفتوحة، فهو مبني للمعلوم، أي لا ينكح بنفسه، وهذا يروى على وجهين: أحدهما: على صيغة الخبر، وتكون "لا" نافية. الثاني: على صيغة النَّهي، وتكون "لا" ناهية جازمة. والأفعال الثلاثة إما مرفوعات على الأول، أو مجزومات على الثاني، وذكر الخطابي أنَّ صيغة النَّهي أصح، وهو أكثر ما روي في طرق الحديث. - ولا يُنكح: بضم الياء مبني للمجهول، أي لايُنكِحُهُ غيره. - ولا يخطب: بضم الطاء، من الخِطبة بكسر الخاء، وهي طلب زواج المرأة من نفسها، أو من أهلها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم عقد النكاح للمحرم لنفسه، سواء كان رجلًا أو امرأة، مُحْرمين، أو أحدهما محرمًا، والآخر حلالًا، وهو نفي في معرض النَّهي فيقتضي فساد العقد. 2 - تحريم عقد النكاح لغيره إذا كان محرمًا، ولو كان المعقود عليه حلالًا، سواءٌ كان وليًا أو وكيلًا، لعموم الحديث، وهو نفي بمعنى النَّهي فيقتضي فساد العقد. ¬

_ (¬1) مسلم (1409).

3 - تحريم خِطبة النكاح على المحرم، لأنَّ الخِطبة وسيلة إلى عقد النكاح، والنكاح وسيلة إلى الجِماع المحرَّم قبل التحللين: الأول والثاني للمحرم، لأنَّ الجمَاع هو أغلظ محظورات الإحرام. 4 - جاء في البخاري (5114) ومسلم (1410) عن ابن عباس: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال". وقد خطأ العلماءُ ابن عباس بهذه الرواية، فإنَّ ميمونة نفسها قالت: "إنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال"، وكذلك أبو رافع قال: "كنت السفير بينهما، فتزوجها وهو حلال" قال ابن المسيب: وقال القاضي عياض: انفرد برواية ذلك ابن عباس وحده، وخالفه أكثر الصحابة، وممن خالفه ميمونة وأبو رافع، وهما أعلم بالقصة؛ لأنهما المباشران لها. 5 - الحكمة في تحريم النساء على المحرم، هو بعده عن ملاذ الحياة الدنيا وزينتها، وأن يجمع قلبه على أعمال الآخرَة، وما يقربه إلى الله تعالى. 6 - قال الشيخ تقي الدين: الرفث اسم للجماع، وليس في المحظوارت ما يفسد الحج إلاَّ جنس الرفث، فإن جامع فسَدَ حجه. وحكى ابن المنذر والوزير وغيرهما إجماع العلماء على فساد النسك بالوطء قبل التحلل الأول، وأنه لا يفسد النسك إلاَّ به، أنزل، أو لم ينزل. 7 - المشهور من مذهب الإمام أحمد فساد الحج بالوطء مطلقًا، عالمًا أو جاهلًا، ناسيًا أو متعمدًا، وهو قول جمهور العلماء. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: لا يفسد حج الناسي والجاهل والمكره، وهو مذهب الشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وأنه لا شيء عليهم، لا كفارة ولا قضاء، لما ثبت بدلالة الكتاب والسنة. 8 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا وطيء فيما دون الفرج، وكان ذلك قبل الوقوف بعرفة أنَّ عليه دمًا، ولا يفسد حجه، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا.

9 - الحديث من أدلة القاعدةُ الشرعية "الوسائل لها أحكام المقاصد" فإنَّ الخِطبة لما كانت وسيلة إلى العقد. والعقد وسيلة إلى الجِماع، حرمت الخِطبة والعقد. 10 - جَمَع الحديث بين ما يحرم ولا يصح، وهو العقد، وبين ما يحرم ولا يوصف بصحة ولا فساد، وهو الخِطبة. ***

612 - وَعَنْ أَبِي قتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ صَيْدِه الحِمارَ الوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: "فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: هَلْ مِنكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيءٍ؟ قَالُوا: لَا، قَال: فَكُلُوا مَا بَقِي مِنْ لَحْمِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 613 - وَعَنْ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَة اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّه أَهْدَى لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَردَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الليثي: نسبة إلى "ليث بن بكر" بطن من كنانة بن خزيمة من قبائل عدنان، وكان الصعب -رضي الله عنه- ينزل ودان، والأبواء ما بين مكة والمدينة. - حمارًا وحشيًا: الحمار الوحشي نوع من الصيد على خلقه الحمار الأهلي؛ لأنَّهما من فصيلة واحدة نسبت إلى الوحش؛ لتوحشها في الأمكنة الخالية المقفرة، جمعها وحوش ووحشان. - حمَارًا: جاء في رواية مسلم: "لحم حمار وحش". وفي رواية أخرى: "رِجْل حمار وحش". وفي رواية ثالثة: "عجز حمار وحش". وفي رواية رابعة: "شق حِمار وحش". ¬

(¬1) البخاري (1824)، مسلم (1196). (¬2) البخاري (1825)، مسلم (1193).

وفي خامسة: "عضوًا من لحم صيد". فهذه الروايات كلها أتى بها مسلم من طرق متعددة، ولذا فلابد من ذكرها لتسوفى الرواية التي أن بها المؤلف. - وهو بالأبواء أو بودان: الشك من الراوي الصعب بن جثامة نفسه، ففي إحدى روايات الحديث من حديث ابن عبَّاس، عن الصعب قال: "مرَّ بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بالأبواء أو بودَّان، فأهديت له لحم حمار وحش"، وفي الطبراني أنَّ الشك من ابن عباس الراوي عن الصعب، وبعض الرواة جزم أنه بالأبواء، وبعضهم جزم أنَّه بودان. - الأبواء: وادٍ فروعه: الحرار التي بين مكة والمدينة، ومصبه في البحر الأحمر، فهو ملتقى وادي الفرع ووادي القاحة، حيث يتكوَّن من التقائهما وادي الأبواء، ثم ينحدر إلى البحر الأحمر جاعلًا ودان عن يساره، ومارًّا ببلدة مستورة حيث مصبه في البحر، ويسمَّى الآن "وادي الخريبة". - ودان: بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون، شرق قرية مستورة الواقعة على طريق المدينة جدة، فيبعد "ودان" عن مستورة شرقًا بمسافة اثني عشر كيلو، وسكان ودان الآن بنو محمَّد من قبيلة حرب، وليست ودان هي مستورة، كما توهم ذلك بعض الباحثين، وتبعد كلّ من الأبواء وودان عن مكة بنحو (240) كيلو. - لم نرُدَّه: يجوز فيه الإدغام وفكه، وإذا أدغم فالمشهور عند المحدثين هو فتح الدال، أما أهل العربية فالضم عندهم أصح، لأنَّه مضاعف مجزوم اتَّصلت به هاء ضمير المذكر. - أنا حُرُمُ: بكسر الهمزة وفتحها، فالكسر على أنَّها ابتدائية، لاستئناف الكلام، والفتح على حذف لام التعليل. - حُرُم: بضم الحاء والراء المهملتين، مفرده حرام، مثل عناق وعنق، والمراد

محرمون. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حل أكل الحمار الوحشي، وأنَّه من الصيد، بخلاف الحمار الأهلي، فإنه رِجسٌ محرمٌ. 2 - حل أكل المحرِم مما صاده الحلالُ، إذا لم يصده من أجله. 3 - تحريم الصيد على المحرم والإعانة عليه، بدلالةٍ أو إشارةٍ أو مناولةِ سلاحٍ، أو غير ذلك مما يعين على قتله، أو إمساكه، وفي هذا حِكمٌ عظيمةٌ، ولعلَّ من أبرز ما ظهر لنا منها المبالغة في بُعد المحرم عن كل اعتداء وأذى لغيره، ثم إنَّ الصَّيد من اللهو المرغوب فيه عند كثير من الناس، فحظر على المحرم ممارسته، والاشتغال به عن طاعة الله في حال الإحرام. 4 - تحريم صيد الحلال على المحرم الذي صيد لأجله، وسيأتي ذكر الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله. 5 - استفسار المفتي عن الأشياء التي يتغير من أجلها الحكم في الفتوى. 6 - قبوله -صلى الله عليه وسلم- الهدية جبرًا لقلب صاحبها. 7 - رد الهدية إذا وجد ما يمنع من قبولها، ولكن من حسن الخلق أن يبين للمردود عليه هديته سبب الرد، لتطمئن نفسه، وتزول الشكوك عنه. 8 - إنَّ الإعانة على الأمور المحرَّمة، والدلالة عليها لا تجوز؛ لأنَّ المعين مشارك للمباشر في عمله، قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 9 - قصة أبي قتادة في عمرة الحديبية، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج معتمرًا، وأحرم من ذي الحليفة، لأنَّه يسلك الطريق الأيسر البري، وبعث أبا قتادة ومعه بعض الصحابة ليكون رداءً له، وليستطلع له أخبار عدوه، فسلك طريق الساحل الذي ميقاته الجحفة، أقرب من ذي الحليفة إِلى مكة بنحو نصف المسافة،

ففي أثناء تجول أبي قتادة لاستطلاع أخبار العدو، أحرم أصحابه وبقي هو في حال تأهب للعدو، الذي يظن أنَّه سيشغله ترقبه عن دخول مكة، وأداء نسك العمرة، فلذا لم يحرم، هذا ما ظهر لي من تأخر إحرامه، والله أعلم. 10 - أنَّ ما صاده الحلال لأجل المحرم لا يحرم على الحلال، فإقراره -صلى الله عليه وسلم- ورده عليه دليل على إباحته، بخلاف الذي صاده المحرم، فإنَّه يحرم على الصائد وغيره: من محرم وحلال. 11 - حديث أبي قتادة دليل على عدم وجوب الإحرام لمن دخل مكة، وهو لم يرد نسكًا. 12 - الإمساك عن الأشياء المشتبهة حتى يتبيَّن أمرها من حل، أو حرمة من الورع. 13 - وفيه إباحة الاصطياد، وأنَّه ليس من اللهو المحرم. * خلاف العلماء: ظاهر حديث أبي قتادة يدل على أنَّ للمحرم أن يأكل من لحم الصيد الذي صاده الحلال، ولو صاده من أجله، ما دام أنَّه لم يُعنه على صيده. وظاهر حديث الصعب بن جثامة أنَّه إن صاده الحلال لأجل المحرم لا يحل للمحرم، من أجل هذا اختلف العلماء: فذهب أبو حنيفة، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير إلى جواز أكل المحرم مما صاده الحلال، ولو صيد من أجله. وحجتهم حديث أبي قتادة: فإنَّه لم يسأل أبا قتادة هل صاده لأجل رفقته أو لا؟ وأقرَّ الرفقة على أكلهم قبل أن يأتوا، وأمرهم بأكل ما بقي من لحمه. وهذا القول روي عن جملة من الصحابة، منهم عُمر، والزبير، وأبو هريرة. وذهب طاووس، والثوري إلى تحريم صيد الحلال للمحرم مطلقًا، سواء صيد من أجل المحرم، أو لا، وحجتهم حديث الصعب بن جثامة، فإنَّ النَّبىَّ

-صلى الله عليه وسلم- ردَّ الحمار الوحشي على المُهدِي، وبيَّن أنَّ سبب الرد هو الإحرام، وقد قال به جملة من الصحابة: منهم علي وابن عبَّاس، وابن عمر. وذهب جمهور العلماء، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق إلى التوسط بين القولين، فما صاده الحلال لأجل المحرِم حرُم على المحرم فقط، وما لم يصد لأجله حلَّ له، وممن قال به من الصحابة عثمان بن عفان. وهذا القول تجتمع به أدلة الفريقين، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد (1365) وأبو داود (1577)، والترمذي (846)، والنسائي (2778) عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صيد البر حلال لكم، وأنتم حرم، ما لم تصيدوه، أو يُصد لَكم" قال الترمذي عن هذا الحديث: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لا يرون بالصيد للمحرم بأسًا إذا لم يصده، أو يُصد من أجله". قال الشافعي: "هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، والعمل على هذا". والحاصل: أنَّ ما صاده الحلال للمحرم من أجله فلا يجوز للمحرم أكله، وما لم يُصَد من أجله، بل صاده الحلال لنفسه أو لحلال، لم يحرم على المحرم أكله، وهذا قول الجمهور، قال ابن عبد البر: وعليه تصح الأحاديث، وإذا حملت لم تختلف، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن، ولا يعارض بعضها بعضًا، ما وجد إلى استعمالها سبيل. وقال ابن القيم: وآثار الصحابة في هذا الباب إنَّما تدل على هذا التفصيل، ولا تعارض بين أحاديثه -صلى الله عليه وسلم-. ***

614 - وَعنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوابِّ كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ، يُقْتَلنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: العَقْرَبُ، والحِدَأةُ، وَالغُرَابُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خَمس: مبتدأ، وقد تخصص بالجار والمجرور، و"كلهن" مبتدأ ثان، وخبره "فواسق، والجملة من المتبدأ الثاني وخبره خبرٌ للمبتدأ الأول. - الدواب: جمع دابة، وهي ما يدب على الأرض والهاء للمبالغة، فالأصل أنَّ الدابة كل ما يدب على وجه الأرض، ثم نقله العرف العام إلى ذات القوائم الأربع، من الخيل والبغال والحمير، ويسمى هذا منقولًا، وتسمية الحدأة والغراب من الدواب؛ لاعتبار أغلب المذكورات. - كلهن فواسق: جمع فاسقة، والفسق العصيان والخروج عن الطاعة، ووصْف هذه الدواب -"بالفسق"- لفسق مخصوص بخروجها عن حكم غيرها بالايذاء والإفساد. - يُقْتَلْن: الضمير الذي فيه يرجع إلى قوله: -"خمس"- ولا يرجع إلى معنى "كل". - الحل: بكسر الحاء، وهو ما خرج عن حد الحرم، مما يحل فيه الصيد وقتل الصيد. - الحرَم: بفتح الحاء والراء آخره ميم، حرم مكة هو ما أحاط بها من جوانبها، ¬

_ (¬1) البخاري (1829)، مسلم (1198).

وأطاف بها كلها، جعل الله حكمه حكمها في الحرمة، وما يترتب عليه من أحكام، لذا فإنَّه يتعيَّن معرفة حدوده، وقد شكَّلت حكومتنا السعودية السنية هيئتين للتحقق من حدود الحرم، ثم وضع علامات على حدوده من الحل، ولكن أعماله لم تنته حتى الآن (1408 هـ)، أما الطرق الرئيسية فعليها أعلام قديمة، فإلى الطائف من طريق عرفات (19) كيلومتر، وإلى نجد والعراق (11) كيلومتر، ومع طريق الجعرانة (15) كيلومتر، وإلى المدينة مع التنعيم (7) كيلومتر، وإلى جدة (23) كيلومتر، وإلى اليمن (9) كيلومتر. وفيه خلاف ولكن هذه المسافات أقربها إلى الصحة، وفي هذا العام (1410 هـ) انتهت اللجنة المشكلة لتحديد مدار الحرم المكي، ومن أعضاء هذه اللجنة مؤلف هذا الكتاب، والشيخ محمَّد بن عبد الله بن سبيل، والشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، وشاركنا أفراد من العارفين من سكان كل جهة من جهات الحرم، كما راجعنا لمعرفة تلك الحدود الكتب الخاصة بالمسميات، وحصلت الموافقة على بحث تحديدنا في مجلس هيئة كبار العلماء، وصدر به قرار منه، ووكل إلينا الإشراف على وضع أعلامه التي ستكون على جميع مدار الحرم ومحيطه، وقد صدر الأمر بالتنفيذ من ولي الأمر إلى وزارة الداخلية. - العَقْرب: دويبة من العنكبيات، ذات سُم تلسع. قال الدميري: دويبة من الهوام، تكون للذكر والأنثى بلفظ واحد، والغالب عليها التأنيث، وقد يقال للأنثى عقربة، والذكر عقربان، وقيل: إن العقربان دويبة كثيرة القائم. - الحِدَأَة: بِكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة، فهي مقصورة مهموزة حداء وجمعها حدًا، ولا يقال فيها حداة، ومِن أذاها خطف الدواجن والأطعمة.

- الغُرَاب: بضم الغين المعجمة، جنس طير من الجواثم، ويطلق على أنواع كثيرة، والمراد هنا الغراب الأبقع "غراب البَيْن" ووقع في بعض طرق مسلم "الأبقع" وهو الذي في ظهره وبطنه بياض، وبعض العلماء طعن في زيادة مسلم، وقال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح، وجمعه غربان، وجمع القلة أغربة. - الفأرة: بهمزة ساكنة وتسهل همزته، فيقال: فار، قال في الجامع: وأكثر العرب على همزها، والفصيلة الفأرية من رتبة القوارض، وهو يشمل الجرذ والفأر والخلد وغيرها، الكبير منها والصغير، جمعه فئران وفيران. - الكلب: وهو الحيوان المعروف بجميع ألوانه وأشكاله، فهو يعتبر حيوانًا أهليًا من الفصيلة الكلبية، ورتبة اللواحم، جمع كلاب وأكلب، والأنثى كلبة، وجمعها كلبات. - العقور: فعول مبالغة في العقر، وهو العض والجرح، فالعقور هو العادي الذي تغلبت فيه صفة البهيمة السبعية، فصار كثير العض والجرح للناس والحيوان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز قتل الخمسة المذكورة في الحديث، وهو موضع اتفاق من العلماء، والخلاف في المعنى الذي شرع قتلهن من أجله، وسيأتي إن شاء الله تعالى. 2 - مشروعية قتل ما فيه أذية من الحيوانات والحشرات، كالحيَّة، والذئب، والأسد، والنسر، والعُقاب والبرغوث، والقراد أخذًا من معنى الحديث، الذي أباح قتلهن من أجل فسقهنَّ، وقد نصَّ على بعضها. 3 - الحنفية يرون الاقتصار على هذه الخمسة التي وردت في النص، وجمهور العلماء يُعدون الحكم إلى غيرها، مما في طبعه الأذى، ويرون أنَّ ما في النص جاء على سبيل المثال، كما أنَّ مفهوم العدد ليس بحجة عند كثير من

الأصوليين، ولذا جاء في بعض الروايات: "أربع وجاء في بعض الروايات عدد المؤذيات إلى سبعة أنواع، وقول الجمهور هو الصحيح". 4 - قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة: وإنما اختصَّت هذه بالذكر لينبه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون ذكر كل نوع منها منبهًا على جواز قتل ما فيه ذلك النوع، فنبَّه بالعقرب على ما يلسع كالبرغوث، وبالفأرة على ما يثقب ويقرض كابن عرس، وبالغراب والحدأة على ما يخطف كالعُقاب، وبالكلب العقور على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه، كالأسد والنمر. 5 - تقييد الكلب العقور يُخْرِج غيره، ويقتضي أنَّ غيره من الكلاب، لا يجوز قتله، صرَّح بذلك النووي في شرح المهذب. 6 - قال الشيخ وغيره: وللمحرم وغيره أن يقتل ما يؤذي الناس بعادته، كالحيَّة والعقرب والفأرة، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدمبين والبهائم، حتى لو صال عليه أحد، ولم يندفع إلاَّ بالقتل قاتله، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قُتِلَ دون مَاله فهو شهيد، ومنْ قُتل دُون حرمته فهو شهيد" [رواه أحمد (21565)]. 7 - قال النووي في شرح مسلم: وفيه دلالة للشافعي وموافقيه، في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل مَن يجب عليه قتل بالقصاص، أو رجم بالزنا، أو غير ذلك من إقامة كل حد، سواء كان موجب الحد أو القتل جرى في الحرم، أو خارجه، ثم لجأ صاحبه إلى الحرم، وهو مذهب مالك، والشافعي، وآخرين. 8 - استُدلَّ بالحديث على تحريم أكل المذكورات في الحديث، وما ألحق بها مما يؤذي بطبعه، فإنَّ الأمر بقتلها دليل حرمتها، وليس هو التعليل في الأمر بالقتل، فيبطل تعليل مشروعية قتلها بالأذية.

* فائدة: الحيوانات أربعة أقسام: 1 - ما طبعه الأذى: يشرع قتله بلا فدية. 2 - ما لا يؤكل ولا يؤذي: يكره قتله، وليس في قتله في حرمٍ أو إحرامٍ فدية. 3 - الحيوان المستأنس، كبهيمة الأنعام مباح تذكيته، أو نحره في كل حال. 4 - الحيوان البري المأكول: هو الصَّيد، فهذا قتله في الحرم، أو في الإحرام فيه الجزاء والأثم. ***

615 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِي الله عَنْهُمَا- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دلالة على جواز الحجامة للمحرم، وهو إجماع العلماء. 2 - أنَّ إخراج الدم من سائر البدن ليس من محظورات الإحرام. 3 - إذا تبع الحجامة قلع شعر المحرم، فإن كان بلا عذر حرُم وفدى، وإن كان لعذر أبيح، ولكن فيه الفدية لإزالة الشعر. 4 - قال في سبل السلام: وقد نبَّه الحديث على قاعدة شرعية، وهي: أنَّ محرمات الإحرام من الحلق وقتل الصيد ونحوها تباح للحاجة، وعليه الفدية. 5 - وفيه جواز الحجامة لمن تفيده طبيًا، وتخرج منه فضلات الدم المؤذية. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1835)، مسلم (1202).

616 - وَعَن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- والقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بلَغَ بِكَ مَا أرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَصُمْ ثَلَاثَة أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مسَاكينَ، لِكُلِّ مِسْكِيْنٍ نِصْفُ صَاعٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عُجْرة: بضم العين، وسكون الجيم الموحدة التحتية، بعده راء مهملة، ثم هاء. - حُملْت: بالبناء للمجهول، وكأنه لشدة المرض لا يستطيع المشي. - القَمل: بفتح القاف وسكون الميم، جمع قملة، حشرة تتولد على البدن عند دفعه العفونة إلى الخارج. قال الدميري: والقمل يتولد من العرق والوسخ، إذا أصاب ثوبًا، أو بدنًا، أو ريشًا، أو شعرًا، حينما يصير المكان عفنًا. - أُرى: بضم الهمزة بمعنى أظن. - الوجع: بفتحتين، اسم جامع لكل مرض مؤلم، جمعه أوجاع. - ما أرى: بفتح الهمزة، بمعنى أشاهد. - صاع: يذكر ويؤنث، ويجمع جمع قلة على أصوع، وجمع كثرة على صيعان وآصع، ففاء آصع صاد وعينها واو، قلبت الواو همزة ونقلت إِلى موضع الفاء، ثم قلبت الهمزة فاء فصار آصعًا، وقدِّر صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ (3000) غرام. ¬

_ (¬1) البخاري (1816)، مسلم (1201).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز حلق الشعر للمحرم، مع التضرر، ببقائه ويفدي، فإنَّه لم يسأله عن قدرته على الفدية، إلاَّ ليأذن له بالحلق، كما صرَّح به في الرواية الأخرى. 2 - تحريم أخذ شعر المحرم، إذا لم يحتج إلى ذلك، ولو فدى. 3 - الأفضل في الفدية شاة، فإن لم يجدها، أو لم يجد ثمنها صام ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. 4 - عموم الحديث يفيد أنَّ نصف الصاع يخرج، سواء كانت الفدية من البُر أو غيره، وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أحمد، وقال به جماهير العلماء. أما المشهور في مذهب أحمد فيجزيء مُدّ من بُرّ، أو نصف صاع من غيره. وأما أبو حنيفة فيرى إخراج نصف صاع من الحنطة، وصاع من غيرها. والقول الأول أرجح الثلاثة. 5 - يجوز الحلق قبل التكفير، وبعد إخراج الكفارة. 6 - أنَّ السنَّة مفسِّرة للقرآن، فإنَّ الصدقة في قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، هي الإطعام في هذا الحديث. 7 - رأفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته، وتفقده لأحوالهم. 8 - ما دام تحقق من الحديث أنَّ المخرَج هنا هو فدية، فهو جار مجرى الكفارة، فلا يجوز للمخرج أن يأكل، أو ينتفع منه بشيء، وكذلك مَن تجب عليه نفقته بقرابة، أو عوض، سواء كانت الفدية بدم، أو طعام. 9 - قال ابن القيم: يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتابٍ ولا سنة، ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمه، وليس في ذلك مما يحرم على المحرم تسريح شعره.

قال الشيخ تقي الدين: إذا اغتسل، وسقط شىء من شعره بذلك، لم يضره؛ وإن تيقن أنَّه قطع بالغسل. 10 - عموم الحديث يفيد أنَّ هذه الفدية يجوز أداؤها في الحرم وخارجه، سواء كانت صيامًا، أو نسكًا، إو إطعامًا، فأما الصيام فقد اتَّفق العلماء على جواز أدائه في الحرم أو خارجه؛ لأنَّ نفعه مقصور على صاحبه، وأما النسك والإطعام فعند مالك أنَّهما كالصوم، وعند الشافعي وأحمد تخصيصهما بالحرم. * تحقيق التخيير فيى الفدية: الحديث الذي معنا يفيد تقديم الشاة، فإن لم يستطع فهو مخيَّر بين الصيام والإطعام. أما الآية وبقية روايات الحديث فهي تفيد التخيير بين الثلاثة، فقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وفي البخاري عن كعب بن عجرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لعلَّه آذاك هوام رأسك؟ قال نعم، فقال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة". فهذا كله يفيد التخيير، وقد جمع بينهما العلماء، وأحسنهم جمعًا هو ابن حزم حيث قال: إنَّ الأحاديث الواردة عن كعب بن عجرة جاءت من طريقين: أحدهما: طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب، وهو الذي يفيد التخيير، والثاني: طريق عبد الله بن معقل عن كعب أيضًا، وهو الذي يفيد الترتيب. وقد حكم ابن حزم على رواية عبد الله بالاضطراب، وقال في طريق عبد الرحمن: "هذا أكمل الأحاديث وأبينها". قُلْتُ: وهَذا الجمع أحق، لأنَّ القصة واحدة، فلا يمكن الجمع إلاَّ

بهذا، وطريق ابن أبي ليلى موافق للآية الكريمة. قال في الشرح: "والظاهر أنَّ التخيير إجماع". وقال ابن عبد البر: "عامة الآثار عن كعب وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن العظيم، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار" والله أعلم. * فائدة: - الفدية: هي ما وجب بسب حرم أو إحرام، وهي: إما دمٌ، أو إطعامٌ، أو صومٌ، وهي قسمان: الأولى على التخيير، وهما نوعان: 1 - فدية الأذى: من لُبس مخيطٍ، أو تغطية رأسٍ، أو طيبٍ، أو إزالة شعرٍ، ونحو ذلك، فيخير المخرج بين ذبح شاةٍ أو إطعام ستة فساكين، أو صوم ثلاث أيام. 2 - جزاء الصيد: يخير المخرج بين مثل الصيد من النَّعم، أو تقويم النعم، ويشتري بقيمته طعامًا، لكلِ مسكين مد برٍّ، أو نصف صاعٍ من غيره، أو يصوم عن كل إطعام مسكين يومًا. القسم الثّاني: على الترتيب، وأنواعه أربعة: 1 - دم متعة، أو قران. 2 - دم وجب لترك واجب. 3 - دم الوطء، أو الإنزال بالمباشرة ونحوها. 4 - دم الإحصار. فيجب الدم، فإن لم يجد صام عشرة أيام. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن نقل لحوم الهدي والأضاحي: قال مجلس هيئة كبار العلماء في قراره (77) وتاريخ 21/ 10/ 1400 هـ ما يلي: وبعد مناقشة موضوع نقل اللحوم المشروعة بسبب حرمٍ أو إحرام،

وتداول الرأي فيها رأى المجلس بالأكثرية إصدار قرار يوضح الحكم في نقل اللحوم إلى خارجه، حيث كان القرار السابق مختصًا باللحوم التي تبقى فيه؛ وبناءً على هذا فإنَّ ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع: 1 - هدي التمتع أو القران، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم، وقد نقل الصحابة -رضوان الله عليهم- من لحوم هداياهم إلى المدينة، ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كنَّا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاثة منى، فرخَّص لنا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا وتزوَّدوا، فأكلنا وتزودنا". 2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد، أو فدية لإزالة أذى، أو ارتكاب محظور، أو ترك واجب، فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه؛ لأنَّه كله لفقراء الحرم. 3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزا، أو هدي الإحصار، أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم، فهذا يوزعِّ حيث ذُبِحَ، ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر. هيئة كبار العلماء ***

617 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا فَتَحَ الله تعَالى عَلى رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- مكَّةَ، قَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، وَإنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرِيْنِ، فَقَالَ العَبَّاسُ: إلاَّ الإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ الله! فَإنَّا نَجْعَلَهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ: إِلَّا الإِذْخِرَ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حبس الفيل: أي منعه من الانبعاث، فالحبس هو مصدر حبسته، من باب ضرب، ويجمع الحَبْس على حُبوس، مثل فَلْس وفُلُوس. - الفيل: حيوان ضخم الجسم، من فصيلة العواثب الثديية، ذو خرطوم طويل، يتناول به الأشياء كاليد، وله نابان بارزان كبيران، يُتَّخذ منهما العاج، جمعه أفيال وفيلة. - سلَّط: بتشديد اللام، من التسليط، هو التغليب والتمكين. - ساعة من نهار: السّاعة هي الوقت من ليل أو نهار، والعرب تطلقها وتريد بها الحين، والوقت إن قلَّ، والمراد هنا يوم الفتح. - لا ينَفَّر صيدها: مبني للمجهول بتشديد الفاء، يقال نفر ينفر نفورًا، أو نفارًا، ¬

_ (¬1) البخاري (3433)، مسلم (1355).

إذا فرَّ وذهب، والمراد هنا: لا يزعج من مكانه، ويذعر. - صيدها: الصيد هو ما كان وحشيًا أصلًا، مما يحل أكله من الطير والحيوان. - ولا يُخْتَلى شوكها: بالخاء المعجمة مبني للمجهول، يقال: اختلى الحشيش أو الشجر قطع الرطب من الكلأ، وأما اليابس منه فيسمى حشيشًا، والخلا: بفتح الخاء مقصور، مفرده خلاة، وهي الواحدة من النبات، وأصله يأتي لقولهم؛ خليت البقل، أي قطعته. ومعنى: "لا يختلى خلاها": لا يحصد كلأها، وهو مقصور، قال العيني: ومده بعض الرواة وهو خطأ. - ساقطتها إلاَّ لمُنْشد: الساقطة هي اللقطة، والمنشِد هو المعرِّف لها، أما الناشد فهو الذي يطلبها، ويسأل عنها. - ومن قُتِل: على صيغة المجهول و"مَنْ" اسم موصول متضمن معنى الشرط، ولهذا دخلتِ في خبرها الفاء، وهو قوله "فهو بخير النظرين". - بخير النَّظرَين: أي يختار أحد الأمرين، إما الدية، أو قتل القاتل. - الإذخر: بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة وكسر الخاء، يجوز أن يكون استفهامًا حذفت همزته، وأن يكون خبرًا فهمه العبَّاس قبل ذلك، وهو منصوب على الاستثناء، أو مرفوع على البدل، والإذخر واحده إذخرة، وهو شجر صغار عروقه تمضي في الأرض، وقضبانه دقاق، ورائحته طيبة. - في قبورنا وبيوتنا: يسدون به خَلَل اللَّبِن في القبور، ويجعلونه تحت الطين وفوق الخشب عند تسقيف البيوت؛ ليسد الخلل، ويمسك الطين فلا يسقط. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثاني يوم فتح مكة؛ ليبين للناس الأحكام، وليعيد في نفوس النَّاس عظمة الكعبة المشرفة وحرمتها، فلا يظنوا أنَّها صارت مباحة الحرمة كغيرها من البلاد.

2 - الإفادة بالعلم وقت الحاجة إليه، لأنَّه أعلق بالنفوس. 3 - من تعظيم مكة وحرمتها حبس فيل الحبشة عنها، لأنَّهم قصدوا بدخولها الاعتداء والظلم، وانتهاك حرمة البيت المطهر، أما النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فيقصد بقتال يوم فتح مكة تطهيرها من الشرك والأوثان، وعبادة غير الله تعالى، وتعظيم البيت وتقديسه عن الجاهلية، فسلَّطه الله على أهله حتى استولى عليها، وأصبحت بلدة إسلامية. 4 - أنَّ حلَّ القتال بمكة للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاص بساعة الفتح للحاجة، وإلاَّ فمكة محرَّمة في كل الأزمنة الماضية والقادمة، فلا يحل القتال فيها ولا يجوز ترخص أحد بالقتال فيها، بقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح. 5 - تحريم سفك الدماء بمكة المكرمة إلاَّ في إقامة الحدود، فالصحيح جوازه، وهو قول مالك والشافعي. وأما جمهور العلماء فيرون تحريم سفك الدم مطلقًا، ويضيَّق على مَن وجب عليه حد حتى يخرج من الحرم، والصحيح الأول لعموم الأدلة. 6 - أنَّ تحريم مكة شامل حتى لصيدها، فلا يحل تنفيره من مكان لآخر، فيكون إمساكه أو قتله أشد تحريمًا، وأعظم إثمًا. 7 - أنَّ شجر مكة وشوكها وحشيشها مما ينبت بنفسه يحرم قطعه، أما ما أنبته الآدمي فهو ملكه، فيجوز له قَطعه واحتشاشه، وهو قول جمهور العلماء. أم الشافعي فيأخذ بعموم الحديث، فلا يجوز عنده قطع الشجر مطلقًا. 8 - اللقطة الساقطة في أرض الحرم لا يحل لأحد أن يأخذها ليعرفها، ثم يتملكها بعد حول من تعريفها، فإنَّها لا تُملك، فإن أراد أن يأخذها ليعرفها مدى الدهر فلا بأس من أخذها. 9 - أنَّ من قُتِل له قتيل عمدًا فهو مخيَّر بين القصاص، أو أخذ الدية. 10 - استثني من شجر الحرم ونباته الإذخر؛ لحاجة سكان الحرم إليه، فأبيح

أخذه ليجعلوه فوق اللَّبِن المنصوب على اللحد في القبور، وبين الطين والخشب لتسقيف البيوت، فيسد خلل بيوت الأحياء والأموات. 11 - الحديث دليل على أنَّ مكة فتحت عُنْوةً لا صلحًا، وهو أحد قولي العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة وأحمد، والقول الثاني: أنَّها فتحت صلحًا، وإليه ذهب الشافعي، والأول أصح. 12 - إجابة العباس، وقبول شفاعته في استثناء الإذخر، إما باجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم-، أو بوحي من الله تعالى. * تكميل: للبيت العتيق حرم جعله الله تعالى لتعظيمه، فجعل فيه الأمان حتى شمل ما فيه من الشجر والنبات فلا يؤخذ، وما فيه من الصيد فلا ينفر، وجعل ثواب الأعمال فيه أفضل من ثوابها في غيره، ومضاعفة أجر الصلاة إِلى مائة ألف، والحرم دائر على مكة المكرمة، وبعض حدوده أقرب من بعض، وقد نصبت أعلام على حدوده في الطرق الرئيسية المؤدية إلى مكة المكرمة، وهي: 1 - حده من الغرب: الشميسي "الحديبية" فبعضها في الحل، وبعضها في الحرم، وهي أبعد الحدود، فتبعد بـ (22) كيلو ويمره طريق جدة. 2 - الجنوب: "إضاة لَبِنَ" في طريق اليمن الآتي مع تهامة، وتبعد بـ (12) كيلو. 2 - الشرق: ضفة وادي عرنة الغربية، وهو طريق الطائف، والحجاز "السراة"، ونجد، واليمن، ويبعد (15) كيلو. 4 - الشمال الشرقي، طريق الجعرانة عند جبل المقطع بالقرب من قرية "شرائع المجاهدين" وتبعد بنحو (16) كيلو. 5 - الشمال وحده التنعيم، وهو طريق المدينة المنورة المتَّجه مع وادي فاطمة "الجموم" ويبعده بـ (7) كيلوات، وهو أقرب حدود الحرم، كما أنَّ أبعدها "الشميسي"، وقد شكلت لجنة عام 1387 هـ لتحديد الحرم المكي من جميع

جهاته، وكنت مع تلك اللجنة، وبعد أن حددنا نصف دائرة الحرم توقف العمل، والنية متجهة إِلَّا اتمامه إن شاء الله تعالى، وقد وجدنا أعلامًا قديمة منصوبة في سفوح الجبال التي هي الحد بين الحل والحرم. بعد كتابة ما سبق تمَّ ولله الحمد، تحديد الحرم من جميع جهاته، ورفع القرار إلى الجهة العليا في الدولة للموافقة عليه، والأمر بتنفيذه بوضع أعلام بارزة على مدار حد الحرم من الحل، ونسأل الله تعالى التوفيق. بعد كتابة ما سبق صدرت الموافقة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وفَّقه الله بوضع أعلام بارزة على حدود حرميْ مَكَّة والمدينة، وسيبدأ التنفيذ قريبًا إن شاء الله، وأنا أحد أعضاء اللجنة المنفذة، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق. ***

618 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ زَيْدِ بِنْ عَاصِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَي مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 619 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حرم مكة: الحرام هو الشيء الممنوع منه بتحريم إلهي، أو بمنع عقلي، والحرم سمي بذلك؛ لتحريم الله تعالى فيه كثيرًا، مما لم يحرم في غيره من المواضع. - عير: بفتح العين ثم ياء ساكنة ثم راء مهملة، جبل أسود بحمرة مستطيل من الشرق إلى الغرب، يشرف على المدينة المنورة من الجنوب، وبسفحه الشمالي وادي العقيق، الذي فيه بئر عروة بن الزبير، ولا تزال مشهورة إلى الآن. - ثور: جَبل صغير مستدير أحمر، يقع شمال المدينة المنورة، وموقعه خلف جبل أحد، إذا اتَّجه الإنسان من المدينة إلى المطار، وحاذى جبل أُحُد يراه عن يساره بالصِّفَة التي ذكرناها. ولكون جبل ثور المدينة غير معروف ولا مشهور، والمشهور هو جبل ثور ¬

_ (¬1) البخاري (2129)، مسلم (1360). (¬2) البخاري (6755)، مسلم (1370).

بمكة المكرمة، فإن كثيرًا من الكاتبين أخطأوا هنا حتى نفوا وجوده بالمدينة، والحق أنَّه موجود ومعروف، وعلى هذا التحديد فما بين الجبلين هو حرم المدينة، فإنَّ جبل أحد داخل حرم المدينة المنورة، فصارت حدود حرم المدينة من الشرق إِلى الغرب الحرتان، ومن الجنوب جبل عَير، ومن الشمال جبل ثور. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد حرم المدينة: قرار رقم: (166) وتاريخ (17/ 8/ 1415 هـ) الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده محمَّد وعلى آله وصحبه وبعد: ففي الدورة الخامسة والثلاثين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الرياض ابتداء من 8/ 6/ 1410 هـ، وبناء على خطاب المقام السامي رقم: 1861 م وتاريخ 11/ 9/ 1409 هـ بخصوص تحديد الحرم المدني. فقد جرى من المجلس قراءة القرار الصادر من اللجنة المشكلة لذلك عام (1389هـ) والمؤيد من سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- وبعد التأمل والمذاكرة والمداولة والمناقشة لذلك، رأى المجلس الموافقة عليه، وأن توضع الأعلام للحرم على الحدود التي ذكرت في القرار. نص القرار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: فبناء على الأوامر الصادرة بتحديد حرم المدينة المنورة من رئيس مجلس الوزراء برقم (2953) في 25/ 2/ 1378 هـ، ومن سماحة مفتي الديار

السعودية برقم (1/ 3317) وتاريخ 12/ 11/ 1386 هـ، ومن وزارة الداخلية برقم (1867) وتاريخ 8/ 3/ 1378 هـ، ومن إمارة المدينة برقم (4248) وتاريخ 15/ 3/ 1378 هـ، ومن المحكمة الكبرى بالمدينة برقم (1139)، وتاريخ 25/ 3/ 1378 هـ، وهذه الأوامر مرفقة بالمعاملة التي بين يدي اللجنة والواردة أخيرًا إلى سماحة المفتي من رئيس المحكمة الكبرى بالمدينة برقم (2052) وتاريخ 26/ 2/ 1387 هـ، وتنص هذه الأوامر على تشكيل لجنة علمية لمعرفة مواضع حدود الحرم المدني ووضع علامات عليها، وقد شكلت اللجنة المذكورة من كل من: فضيلة الشيخ محمَّد الحافظ القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة رئيسًا، وكل من: السيد محمود أحمد، والسيد عبيد مدني، والشيخ عمار بن عبد الله، والشيخ أبو بكر جابر، والأستاذ أسعد طرابزوني أعضاء. وقد اجتمعت اللجنة فور تشكيلها، وقامت بما عهد إليهاة غير أنَّه أشكل عليها نقاط وارتأت عرضها على سماحة المفتي الأكبر، وعندما رفعت المعاملة إلى سماحته أمر بأن يكون مع اللجنة مندوب من قبل سماحته ليجتمع باللجنة، ويقفوا جميعًا على حدود الحرم، ويعرفوا مسميَّات تلك الحدود، ثمَّ يعود المندوب إلى سماحته، وقد تضمنت النصوص الواردة في هذا تحديد الحرم: باللابتين تارة، وبعِير وثور تارة، وبالمأزمين تارة، وبالجبلين تارة، وأحاديث اللابتين أكثر من أحَاديث الجبلين، والجبلان هما عير وثور. والمأزمان هما الجبلان، فأما عير وثور فخارجان عن الحرم كما هو الأصل في التحديدات، وأما اللابتان فداخلتان في الحرم لما يلي: أ - قصة بني حارثة حين قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أراكم يا بَني حارثة قد خَرَجْتُم من الحرم ثمَّ التفَتَ فقال: بل أنتُمْ فيهِ" ومنازلهم في سند الحرة الشرقية مما يلي العريض، وحصنهم باقية آثاره حتى الآن، فدل على أنَّ هذه الحرَّة من الحرم، وهي محاذية لعير وثور، فكأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لما التفت فرأى عيرًا قال لهم بل

أنتم في الحرم. ب - قصة سعد بن أبي وقاص حينما أخذ سلب الرَّجل الذي وجده يقطع الشجر في العقيق، والعقيق ليس حرة، بل هو واد منقطع عن الحرة الغربية، وأبعد منها عن المدينة، ولكن القسم الأعلى منه مسامت لجبل عير من الشمال والغرب. ج - حديث تحريم ما بين حرتيها وجامها، والجمارات الثلاث معروفة، وتقع بعد العقيق وبعد الحرة الغربية كما هو مشاهد. د - أنَّ الحرة الغربية تبدأُ من عند باب العنبرية وتمتد غربًا، والحرة الشرقية تبدأ من نهاية شارع أبي ذر بطريق المطار بنحو مائتي متر، فإن لم نقل بأنَّهما داخلتان في الحرم لخرجت جملة كثيرة من منازل المدينة عن الحرم: ولا قائل بهذا من أهل العلم الذين اطَّلعنا على كلامهم. هـ - ذكر العلماء مسافة الحرم بريدًا في بريد، واستدلوا بما ورد في هذا، ولا يمكن تطبيق هذه المسافة إلاَّ إذا أدخلنا الحرتين، لأنَّ الحرتين قريبتان من الحرم، بخلاف الجبلين فيبعدان جدًّا بالنسبة إلى قرب اللابتين. وقد أخذت الهيئة المساحة من الجهات الأربع من المسجد إلى "عير" جنوبًا، ومن المسجد إلى "ثور" شمالًا، ومن المسجد إلى الحرَّة الغربية عند محاذاة "عير" غربًا، ومن المسجد إِلى الحرة الشرقية عند محاذاة "ثور" شرقًا، فكانت المسافة متقاربة في الجميع، وتبلغ أحد عشر كيلو مترًا تقريبًا بعداد السيارة وإن كانت السيارة لا تسير باتجاه واحد بل تأخذ يمينًا وشمالًا حسب سهولة الخط، ولكن هذا يعطي فكرة تقريبية للمسافة من الجهات الأربع، وهذه المسافة مقاربة لإثني عشر ميلًا الواردة في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مسلم قال: "حرَّم رسول الل -صلى الله عليه وسلم- ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلًا حول المدينة حِمى" وهذا من أدلة من قال بريدًا في بريد؛ لأنَّ البريد

أربع فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. والمسافة التي بين عير وثور من الناحية الشرقية تقدر باثني عشر ميلًا، ومثلها المسافة التي بينهما من الناحية الغربية". ثم مشت اللجنة على مواضع الحدود لتطبيق ما ناقشوه من النصوص وما فهموه منها وكان ممشاها على ما يلي: 1 - وصلت اللجنة إلى جبل "ثور" ويقع خلف أحد من الشمال الشرقي، طلعت فوقه ووجدته كما وصفه العلماء، جبل صغير بالنسبة إِلى جبل أحد، والجبال التي حوله بتدوير، وليس بمستطيل، لونه يقرب إلى الحمرة، خلف أحد من الشمال الشرقي، وبينه وبين أحد مقدار خمسين مترًا تقريبًا. 2 - ثم انتقلت اللجنة إلى "اللابة الشرقية" ووجدت حرَّة ذات حجارة سوداء نخرة كأنَّها أُحرقت بالنار، وتنقطع هذه الحرَّة في بعض المواضع خصوصًا في جهتها الشمالية، وتمتد في مواضع ولاسيَّما جهتها الجنوبية، فكأنَّها حرار متعددة، وهذه الحرَّة تسمى "حرة واقم" ويفضلها عن "أُحد" الشرقي وسفح جبل وغيره، وتشمل منازل بني حارثة وبني ظفر وبني عبد الأشهل وبني معاوية، كما تشمل منطقة العريض وما حولها من المصانع والبساتين وبعاث المسمى الآن بـ"المبعوث" إلى العوالي وقربان ومنازل بني قريظة وبني النضير، ولم يكن الحد في هذه الحرة واضحًا كوضوحه من جهة الجبلين: عير، وثور، لهذا مشت اللجنة وسط الحرة في موضع متوسط بين عير وثور، ووقفت هناك لتحقق لها المسافة بين الجبلين وتتمكن من أخذ مقاسها. 3 - ثم انتقلت اللجنة إلى طرف "عير" من هذه الناحية أعني الناحية الجنوبية الشرقية، ووقفت قريبًا من الجبل مما يلي سد بطحان، وعرفت مقياس مسافته لجبل ثور مع متوسط اللابة الشرقية، وتقرَّر أن تبدأ من طرف عير الجنوبي الشرقي مدخلة مد بطحان ومذينيب، وتنقاد ببئر متواصلة مع وسط الحرة بعد كل ثلاثة كيلوات بِتَر كبيرة ملونة يكتب عليها حد الحرم إلى أن

تصل جبل ثور من الشمال الشرقي مخرجة جبل وغيره، ومدخلة جيمع جبل أُحد والخزان الذي حوله، والمصانع وماحولها من البساتين ومنطقة العريض والعوالي وقربان إلى امتداد سد بطحان حتى يحاذي طرف عير من الشرق. 4 - ثم انتقلت الهيئة إلى طرف "عير" من الناحية الجنوبية الغربية مما يلي ذا الحليفة، لأنَّ عيرًا جبل كبير مستطيل، فقربت الهيئة من طرفه، ووقفت على ربوة بسفحه، وتطلعت إلى ما حوله وما يحاذيه من اللابة الغربية والشمالية الغربية. 5 - انتقلت اللجنة إلى "الحرة الغربية" وهي أقرب إلى المدينة من الحرة الشرقية، فالغربية تبدأ من عند باب العنبرية كما مرَّ، وهي من جنس الشرقية في كونها تنقطع في مواضع ولاسيَّما في جهتها الشمالية، كما هو مشاهد عند مسجد القبلتين حيث يوجد هناك فضاء واسع فيه المزارع والرمال والسباخ وتتخللها الطرق والعيون والأودية إلى أحد والجرف وما حوله، وتمتد الحرة من الناحية الجنوبية إلى أن تدنو من شرقي عير قريبًا من طرف الحرة الشرقية من ناحية قباء، ويفصل بينها وبين الحرَّة الشرقية بساتين قباء وقربان، والعوالي ووادي مهزور، ومذينيب وجفاف، وبطحان والرانونة. وقد مضت اللجنة من "عير" إلى "أحد" لنصل منه إلى "ثور" وسلكت في أثناء ممشاها مع الطريق الجديد الموضوع للأجانب ومن لا يريد دخول المدينة ويسمى بالتحويلة ويبدأُ من نهاية البيداء آخر الخط الآتي من جدة قبل أن يصل إلى ذي الحليفة ثم يتجه شمالًا تاركًا المدينة على ميمنه، ورأت اللجنة هذا الطريق في أثنائه مسامتًا لما بين عير وثور من هذه الناحية، إلاَّ أنَّه قد تجاوزها من أوله وآخره، فقررت اللجنة أن توضع البدأ [لعلَّه البتر] من طرف عير الغربي متَّجهة إلى الغرب ثم إلى الشمال الغربي فتدخل ذا الحليفة والعقيق وسد عروة والجماوات الثلاث، وبنايات الجامعة

الإسلامية والقصور الملكية والجرف، وبئر رومة وما حولها من البساتين إلى أُحد، كل هذه داخلة في حدود الحرم، فإذا وصلت إِلى ما سامتها من التحويلة، صارت التحويلة هي الحد، فتوضع البئر على جانبها الشرقي، وتستمر البئر مع هدذه التحويلة حتى تحاذي ثور خلف أُحد من الشمال الشرقي، وحينئذٍ تأخذ البتر ذات اليمين صوب الجنوب لتلتقي بالبئر التي مرَّ ذكرها في الحرَّة الشرقية، وتترك التحويلة لأنَّها تستمر شرقًا حتى تصل شارع المطار، وبهذا تصبح حدود الحرم تابعة من جميع جهاتها سواءٌ حدد من عير إلى ثور، أو باللابتين، أو باثني عشر ميلًا وفي بريد في بريد كما سبق إيضاح ذلك وأخذ مسافته. ونظرًا لأنَّ هذه أعمال هندسية، وتحتاج إلى مهندس فني، فينبغي تعميد بلدية المدينة بهذا؛ ليقوم مهندسوها بمسحها مسحًا فنيًّا، مع وضع العلامات اللازمة على ضوء ما ذكرنا، ويكون ذلك بإشراف الشيخ محمَّد الحافظ. ولا يفوتني أن نذكر هنا تتميمًا للفائدة أنَّ حرم المدينة يخالف حرم مكة في ثلاثة أشياء. أوَّلًا: أنَّ صيده وقطع شجره لا جزاء فيه بخلاف حرم مكة. ثانيًا: أنَّ من أدخل صيدًا من خارج الحرم جاز له إمساكه وذبحه بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا عُمَير ما فعل النُّغَير" وهذا بخلاف حرم مكة. ثالثًا: جواز قطع ما تدعو حاجة الفلاحين إليه من آلات الحرث والرحل كالمساند وغيرها. هذا ما جرى دراسته وتحريره بعد كمال التحري وبذل الجهد، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم أجمعين. هيئة تحديد حدود المدينة المنورة

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أنَّ الذي حرم مكة المكرمة هو النبي إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم-، كما أنَّ الذي حرَّم المدينة المنورة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء في البخاري (189)، ومسلم (1353)، "أنَّ هذا البلد مكة، حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض"، ومعناه أنَّ تحريم مكة قديم وشريعة سالفة مستمرة، ليس مما أُحدث، أما ما جاء في الرواية الأخرى: أنَّ إبراهيم -عليه السلام- هو الذي حرَّم مكَّة، فهو من حيث إنَّه هو الذي بلغ تحريمها فإنَّ الحاكم بالشرائع هو الله تعالى، والأنبياء يبلغونها، فإنَّه كما يضاف التحريم إلى الله من حيث إنَّه هو الحاكم بها، فإنَّها تضاف أيضًا إِلى الرسول، حيث إنَّه هو المبلغ عن الله تعالى. 2 - معنى تحريم المدينتين هو أنَّهما بلدتان آمنتان، فلا يقطع الشجر في حرمهما، ولا يقتل الصيد، ولا ينفر فيه. 3 - أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا لأهل مكة بالبركة، وسعة الرزق، كما قال تعالى حكاية عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ} [البقرة: 126]. 4 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل المدينة بالبركة وسعة الرزق، كدعوة إبراهيم لأهل مكة، بل دعا أن تكون البركة في المدينة ضعفي بركة مكة. 5 - أنَّ حرم المدينة يحده من الناحية الجنوبية جبل عَير، ومن الجهة الشمالية جبل ثور، كما نص الحديث. 6 - أما حد الحرم الشرقي والغربي في المدينة فهما الحرتان الشرقية والغربية، لما جاء في البخاري (1869) ومسلم (1372) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "حرَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلًا حمًى". وجمهور العلماء قالوا بتحريم الحرم المدني، عملًا بالنصوص الصحيحة الآتية، ومنهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد، بخلاف أبي حنيفة فلا يرى

تحريمه من ناحية الصيد، وقطع الشجر، ولا مدفع عنده للنصوص الصحيحة الآتي بعضها. 7 - جاءت نصوص كثيرة في تحريم قتل الصيد، وقطع الشجر في الحرم المدني منها: ما رواه مسلم (1362) عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي حرَّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عَضَاها، ولا يصاد صيدها". وله أيضًا من حديث أبي شريح (1354) "ولا يخبط فيها شجر إلاَّ لعلف"، وتحريم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة لتعظيمها وتقديسها، ولكن تحريم حرم المدينة لا يأخذ كل أحكام حرم مكة. 8 - ذكر العلماء فروقًا بين الحرم المكي والحرم المدني ترجع إلى أنَّ العقاب والجزاء في الحرم المدني أخف من الحرم المكي. منها: أنَّ ذبح الصيد أو قتله في الحرم المدني، يحِلّ أكله، بخلاف المكي فيعتبر ميتة محرَّمة، ومنها: أنَّه لا جزاء في الصيد في الحرم المدني ... ، بخلاف المكي ففي قتله الجزاء، ومنها أخذ ما تدعو الحاجة إليه من شجرها كالقنب وآلة الحرث كلها، لما جاء في مسند أحمد من حديث جابر أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لما حرم المدينة، قالوا يا رسول الله إنَّا أصحاب عمل وأصحاب نضح، فرخِّص لنا فقال "القائمتان والوساد، والعارضة والمسند، وأما غير ذلك فلا يعضد" ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي شريح: "ولايخبط فيها شجر إلاَّ لعلف" [رواه مسلم (1354)]. * فائدة: آثار إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة كثيرة، فهو: أولًا: أول من أسس مكة وسكنها، بوضعه ابنه وزوجته هاجر فيها. ثانيًا: دعا لأهلها بسعة الرزق، وأن يكون البلد مثابة للناس وأمنًا. ثالثًا: هو الذي أعلن تحريمها، وعظمتها عن أمر الله تعالى.

رابعًا: هو الذي بنى البيت الحرام، ووضع قواعده، وساعده ابنه إسماعيل. خامسًا: هو الذي نادى الناس ليحجوه. سادسًا: هو الذي أقام شعائر الحج، فهي من مآثره. سابعًا: هو الذي أعلن فيها التوحيد، وعبادة الله وحده. ثامنًا: هو أول من حدد الحرم بتعليم من جبريل. ***

باب صفة الحج ودخول مكة

باب صفة الحج ودخول مكة مقدمة صفة الحج بيان ما شرع فيه من أقوال وأفعال، وفيها حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم، فإنه وصف حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين خرج من المدينة حاجًّا إلى أن عاد إليها من حجته -صلى الله عليه وسلم-، وسيكون بيان الحج وصفته بذكر ما ساقه المؤلف من هذا الحديث الشريف، وشرحه إن شاء الله تعالى. وأما مكة المكرَّمة التي شرفها الله تعالى ببيته الحرام والبقاع المقدسة، فهي البلد الحرام الذي جعله الله تعالى مبعثًا لخاتم أنبيائه، ومهبطًا لآخر رسالاته، تلك الرسالة العامة الشاملة الثابتة الباقية، لما جعل الله تعالى فيها من مقومات البقاء، وعناصر الخلود، مما يكفل لها هذا البقاء الأبدي والشمول الذي لا ينتهي، فكان مصدرها من أم القرى، التي صارت بهذه الرسالة عاصمة الدنيا، وقبلة المسلمين. قال الأستاذ حسين كمال الدين أحمد: إنَّ مكة المكرمة في الإسقاط المساحي المكي هي مركز العالم كله، ولقد أصبح من البديهي أنَّ الأرض كروية، وأنَّ الكرة الأرضية تدور حول نفسها دورة منتظمة، ولابد من محور ثابت داخل هذه الكرة يحدد النقطتين الثابتتين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، والخط الدائري هو خط الاستواء. وعندما تمَّ توقيع حدود القارات السبع على خريطة الإسقاط، وجدنا أنَّ الحدود الخارجية لهذه القارات يجمعها محيط دائرة واحدة، مركزها عند مكة المكرمة، أي أنَّ مكة المكرمة تعتبر مركزًا وسطًا للأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية، فهذا الإسقاط المكي الجديد يعطي مكة المكرمة مركزًا خاصًّا بين أماكن العالم، ولله في خلقه أسرار.

630 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَال: اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِري بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي، وَصَلَّى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ أَهلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيْكَ لَكَ لبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكُ، لَا شَرِيْكَ لَكَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصلَّى، وَرَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِن البَابِ إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَفَا قَرأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ، فَرَقَى الصَّفَا حَتَّى رَأى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهُ وَكَبَّرَهُ، وَقَال: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لَا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذلِك، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى إلَى المَرْوَةِ، فَفَعَلَ عَلى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ... وَذَكَرَ الحَدِيثَ، وفَيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِتةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَصلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى

عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَب النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكَبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءَ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بمنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى إِذَا غَابَ القُرْصُ، وَدَفعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأَسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبالِ أرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعدَ، حَتَّى أَتَى المزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبح بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهلَّلَهُ، وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيْقَ الوُسْطى الَّتِي تَخْرُجُ عَلى الجَمْرَةِ الكُبْرى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ

رَسُولُ اللهِ، فَأَفَاضَ إِلَى البّيْتِ، فَصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أسماء بنت عُميس: بضم العين وفتح الميم بعدها ياء ثم سين مهملة، الخثعمية كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وأولاده منها، فقتل شهيدًا بغزوة مؤتة فتزوَّجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمَّدًا في الميقات، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب. - استثفري: بسين مهملة فمثناة فوقية ثم ثاؤ ثم فاء ثم راء، واستثفار المرأة أن تشد على وسطها شيئًا ثم تأخذ خرقة عريضة، تجعلها في محل الدم، وتشدها من ورائها وقدامها، ليمنع الخارج، وفي معناها الحفائض الآن. - القصواء: بفتح القاف وسكون الصاد ثم واو وألف ممدودة، قال في النهاية: القصواء: الناقة التي قُطع طرف أذنها، وناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن مقطوعة الأذن، قال محمَّد بن إبراهيم التيمي: إنَّ القصواء والعَضْبَاء والجَدْعَاء، اسم لناقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واحدة، وهي التي هاجر عليها النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي سُبِقت، فشقَّ ذلك على الصحابة. - البيداء: بفتح الباء بعدها ياء مثناة ثم دال مهملة ثم ألف ممدودة، هي الفلاة، جمعها بِيْد. - أهلَّ بالتوحيد: رفع صوته بالتلبية، التي تشمل على توحيد الله تعالى بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، فكل أنواع التوحيد الثلاثة تشتمل عليها التلبية، وفيه تعريض لما كان يفعله أهل الجاهلية من انضمام قولهم: "إلاَّ شريكًا هو ¬

_ (¬1) مسلم (1218).

لكَ تملكه، وما ملك". - لَبَّيْكَ: أصله ألبَّ بالمكان إذا لزمه، نصب على المصدر، فهو من المصادر التي يجب حذف فعلها لكونه وقع مثنى، ولذلك يجب حذف فعله قياسًا؛ لأنَّ العرب لما ثنوه للتأكيد كأنَّهم ذكروه مرَّتين. فمعنى لبَّيك: إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، والمراد بالتثنية التأكيد والتكثير. - إنَّ الحمد: بفتح الهمزة وكسرها، فالكسر على الابتداء، والفتح على المصدرية، قال ثعلب: الاختيار الكسر فهو أجود من الفتح؛ لأنَّ الذي يكسر يذهب إِلى أنَّ الحمد والنعمة لله على كل حال، وأما الذي يفتح فيذهب إلى أنَّه معنى لبيك؛ لأنَّ الحمد لك، أي لبَّيك لهذا السبب. - والنعمة: بكسر النون هي المسرة واليد البيضاء بالعطاء، والأشهر في إعرابها الفتح معطوف على الحمد اسم "إنَّ"، والخبر محذوف، والجار والمجرور "لك" يتعلَّق بالخبر المحذوف، ويجوز الرفع على الابتداء. - الركن: هو الركن الشرقي من الكعبة المشرفة، الذي فيه الحجر الأسود، والذي يمسح منه الحجر الأسود. فرمل: الرَّمل هو الإسراع في المشي والهرولة، مع هز المنكب، وذلك في الثلاثة الأشواط الأُوَل من طواف القدوم. - مقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان يقوم عليه إبراهيم أثناء بنائه البيت هو وإسماعيل، وهو الآن في حاشية المطاف، تجاه باب الكعبة المشرفة. - رقى: قال في المصباح ما خلاصته: رقيت في السلم أرقى رقيًا، من باب تعب، ورقيت الجمل علوته، وأما رقيته أرقيه من باب رمى: عوذته بالله، والاسم الرقيا على وزن فعلى، والجمع رُقًى. - الصفا: مقصور، جمع صفاة، وهو الحجر الضخم الصلد الأملس، وهكذا

هذا المشعر، وهو أصل جبل أبي قيس، وهو من الشعائر المقدسة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. - المروة: جمعها مرو هي الحجارة البيض الرقاق البراقة في الشمس، وهكذا صفة المروة التيِ هي أحد المشاعر المقدسة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. - شعائر الله: الشعائر جمع شعيرة وهي أعلام الإسلام، والشعائر هنا هي أعلام الحج، ليقوم الحاج بتعظيمها، والطواف بهما. - أنجز: نجز الوعد نجزًا -من باب قتل- تعجل، ويتعدى بالهمزة وبالحرف، فيقال: أنجزته ونجزت به إذا عجلته، وقد تحقق هذا الوعد بنصر الله لنبيه، حين هزم الأحزاب وحده. - وعده: وعد يستعمل في الخير والشر، فيقال: وعده خيرًا وبالخير، وشرًا وبالشر، وقد أسقطوا لفظي: الخير والشر، وقالوا: في الخير: وعده وعدًا، وفي الشر: وعده وعيدًا، فالمصدر هو الذي يفرق بينهما، فالوعد للخير والوعيد للشر. - نصر عبده: ينصره نصرًا، أعانه وقواه، والمعنى: نصر الله نبيه محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه، حتى صارت له الغلبة عليهم، وفتح البلاد. - هزَم: يهزم هزمًا -من باب ضرب- كسره وفلَّه، فالاسم الهزيمة، والجمع هزمات. - الأحزاب: الأحزاب: هم تلك القبائل الذين تحزبوا، وتجمعوا وحاصروا المدينة، فهزمهم الله تعالى وحده من غير قتال الآدميين، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وقال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب].

- انصبَّت قدماه: في بطن الوادي: نصب ينصب نصابًا، انحدر فهو مستعار من انصباب الماء في بطن الوادي، فالانصباب الانحدار. - طن الوادي: ما خفي منه، وانخفض. - سعى: يسعى سعيًا، السعي يطلق في لسان العرب على الإسراع، والعَدْو الشديد، ويطلق على الكسب للخير أو الشر، فإن كان يعدى بـ"إلى" فالمراد منه الجري، وإن كان المراد به العمل والكسب فيعدى باللام، قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]، أي عمل لها، وأما قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فيعتبر بمعنى المضي، ولذا فإنَّ قراءة عمر وابنه وابن مسعود: "فامضوا"، والمراد بالسعي هنا العَدو الشديد، وقت شعيرة السعي في بطن الوادي، والآن مكان العدْو هو ما بين العَلَمَيْنِ الأخضرين، اللذين هما علامة على ضفتي الوادي. - يوم التروية: بفتح المثناة الفوقية فراء، هو اليوم الثّامن من ذي الحجة، سمي بذلك، لأنَّهم كانوا يتروون فيه الماء ليوم عرفة، ذلك أنَّه لم يكن فيه حينذاك ماء. - فأجاز: جاز المكان يجوزه جوزًا وجوازًا: سار فيه، وأجازه بالألف قطعه ومعناه هنا: جاوز المزدلفة، ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات. - عرفة: هي مشْعر حلال، فهي خارج حدود الحرم لأنَّها واقعة في الحل وحدودها كالآتي: الحد الشمالي: ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة. الحد الجنوبي: ما بعد مسجد نمرة جنوبًا بنحو كيلو ونصف. الحد الغربي: هو وادي عرنة، ويمتد هذا الحهد من ملتقى وادي وصيق حتى يحاذي جبل نمرة. الحد الشرقي: هي الجبال المحيطة المقوسة على ميدان عرفات من الثنية التي

ينفذ معها طريق الطائف، وتستمر سلسلة تلك الجبال شمالًا حتى تنتهي سفوحها عند ملتقى وصيق بعرنة. قال العيني: وأما عرفة فإنَّها تطلق على الزمان، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وعلى المكان وهو الموضع المعروف. حتى أن عرفة: نقول فيه ما قاله النووي: المراد قارب عرفات، فإنَّ نمرة ليست من عرفات. - القُبة: بضم القاف وتشديد الباء الموحدة التحتية ثم تاء التأنيث، هي الخيمة الصغيرة. قال ابن الأثير: القبة من الخيام بيت صغير مستدير، والجمع قِبَب وقِباب. - ضُرِبت له: ضرب القبة نصبها، وإقامتها على أوتاد مضروبة في الأرض. - نَمِرَة: بفتح النون وكسر الميم فراء فتاء تأنيث جبلان، صغيران هما منتهى حد الحرم من الجهة الشرقية، فهما محاذيان لأنصاب الحرم، فنمرة تكون على يمين الخارج من المأزمين والأنصاب عن يساره، ووادي عرنة يفصل بين نمرة وبين عرفات. - بطن الوادي: أي وادي عرنة الذي فيه مقدمة مسجد نمرة، ووادي عرنة ليس من موقف عرفات بل هو حدها الغربي كما تقدم. - الصخرات: هي صخرات ملتصقة بالأرض تقع خلف جبل عرفات، فهي عنه شرقًا، فالواقف عندها يستقبل جبل الرحمة، والقبلة معًا، وهو موقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو موقف الولاة بعده حتى الآن. - حبْل المشاة: الأصح أنَّها بالحاء المهملة وبعدها باء موحدة ثم لام، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة، ويكون هذا الحبل أمام الواقف على الصخرات وبين يديه. - المشاة: بضم الشين، جمع ماش.

- الصفرة: بضم الصاد وسكون الفاء، لونٌ دون الحمرة، وهو شعاع الشمس بعد مغيبها. - حتى غربت الشمس حتى غاب القرص: قال النووي: "هكذا في جميع النسخ، ويحتمل أن يكون قوله "حتى غاب القرص" بيانًا لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة، فإنَّ هذه تطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال، بقوله حتى غاب القرص. وقال القاضي عياض: ولعلَّ الصواب؛ حين غاب القرص، ويحتمل الأول ويكون الكلام على ظاهره، وجاء بقوله: حتى غاب القرص لدفع توهم المجاز. - دفع: يقال دفع السيل من الجبل إذا انصب منه، الدفع هنا المراد به: الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة. - شنقَ: بفتح الشين المعجمة والنون الفوقية الموحدة مخففة ثم قاف مثناة، ضمَّ وضيَّق. - الزِّمَام: بكسر الزاي المعجمة، هو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير، ليقاد به، ويمنع به. - مورِك: بفتح الميم وكسر الراء الموضع من الرحْل، يجعل عليه الراكب رجله، وتسميها العامة "ميركة". - رَحْله: بالحاء المهملة ما يوضع على ظهر البعير للركوب، ويسمى الكُور بضم الكاف وسكون الواو، وهي لغة فصحى. - السكينة السكينة: مرتين، الأولى منصوبة بفعل محذوف على الإغراء، أي الزموا السكينة، والسكينة الثانية توكيد لها، والسكنية في السير من السكون ضد الحركة، أي كونوا مطمئنين خاشعين. - حَبْلًا: بالحاء المهملة وإسكان الباء، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم.

- حتى تصعد: بفتح التاء المثناة الفوقية وضمها، فَإنَّه يقال: صعدت الجبال وأصعد إذا ارتفعت في جبل أو غيره، فالإصعاد السير في مستوى من الأرض والصعود الارتفاج على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، ومنه: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. - المزدلفة: مأخوذ من الازدلاف، وهو التقرب، فالحاج يتقرَّب بها من عرفة إِلى منى، أما حدودها فهي: الحد الشرقي: من مفيض المأزمين الغربي. الحد الغربي: وادي مُحسِّر. الحد الشمالي: جبل ثَبِير. الحد الجنوبي: جبال المريخيات. فما بين هذه الحدود الأربعة من شعاب، ووهادٍ، وروابٍ، وسهولٍ كلها مزدلفة، وتسمى جَمْعًا؛ لاجتماع الناس فيها ليلة يوم النحر. - لم يسبح بينهما: أي لم يصلِّ نافلة بين صلاتي المغرب والعشاء. - المشعر الحرام: هو جبل صغير في المزدلفة، يسمَّى قُزَح بضم القاف وفتح الزاي آخره حاء مهملة، وقد أزيل وجعل مكانه المسجد الكبير الموجود الآن في مزدلفة. - أسفر جدًا: بكسر الجيم، أي إسفارًا بالغًا، والضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور. - مُحَسِّر: بضم الميم وفتح الحاء المهملة ثم سين مهملة وآخره راء، هو وادٍ يقع بين مزدلفة ومنى، وليس من واحد منهما، وإنما هو برزخ حاجز بينهما، وروافده جبل ثبير الأثبرة، ومنتهاه ملتقاه بسيل مزدلفة، ثم يتَّجهان حتى يجتمعا بوادي عرنة المتجه غربًا إلى البحر الأحمر في جنوب جده. - حرَّك: أي حث دابته، واستخرج جريها.

- الطريق الوسطى: هي الطريق القاصدة إلى الجمرات. - الجمرة: جمعها جِمار، والجِمَار عند العرب الحجارو الصغار، وبه سميت جمار منى، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى. - حصى الخذْف: بفتح الخاء المعجمة ثم ذال معجمة ساكنة ففاء موحَّدة، وقدر الحصاة مثل حبة الباقلاء، أو الفول. والخذف: هو الرمي بالحصى بالأصابع، وذلك بأن يجعل الحصاة بين سبابتيه ويرمي بها، قال ابن الأثير: ويستعمل في الرمي والضرب. - نَحر: النحر هو الطعن بالسكين، أو الحربة في الوهدة، التي بين أصل العنق والصدر، والنحر للإبل خاصة. - فأفاض إلى البيت: قال في الفائق: الإفاضة في الأصل الصب، فالمراد بهما الدفع بكثرة، تشبيهًا لها بفيض الماء الكثير، والمعنى هنا: دفع من منى إلى الكعبة المشرفة لطواف الإفاضة. * ما يؤخذ من الحديث: قال الإمام النووي في شرحه على مسلم: "حديث جابر حديث عظيم مشتمل على جُمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي: وقد تكلَّم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنَّف فيه ابن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرَّج من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه" اهـ. وقال شارح البلوغ: "وليعلم أنَّ الأصل في كل ما ثبت أنَّه فعله -صلى الله عليه وسلم- في حجه الوجوب، وذلك لأمرين: أحدهما: أنَّ أفعاله في الحج بيان للحج الذي أمر الله به، والأفعال في بيان الوجوب محمولة على الوجوب.

الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عنِّي مناسككم" فمن ادَّعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل" اهـ. وهذه جمل من فوائده، ونفائسه: 1 - أنَّ الحُليفة هي ميقات أهل المدينة، ومن أتى عليها من غير أهلها. 2 - استحباب اغتسال الحائض والنفساء للإحرام، فغيرهما يكون أولى بذلك. 3 - استحباب استثفار الحائض والنفساء في حالة الإحرام، ويقوم مقامها الحفائظ المستعملة الآن. 4 - صحة إحرام الحائض والنفساء، فإذا طرأ الحيض والنفاس بعد الإحرام، فجواز المضي فيه من باب أولى. 5 - إذا كان الإحرام وقت فريضة أو بعد نافلة لها سبب، كسنة الوضوء، استحب أن يكون الإحرام بعد تلك الصلاة، وإن لم يكن شيء من ذلك، فبعض العلماء يرى استحباب ركعتين قبل الإحرام، ومنهم الحنابلة، ومنهم من لا يرى مشروعية ذلك؛ لأنَّه لا دليل عليه، والعبادات توقيفية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أولى. 6 - الإهلال بالتلبية حينما يستقل المحرم مركوبه، وتقدَّم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَهلَّ بالإحرام بالمسجد بعد انصرافه من الصلاة، ولعلَّ جابرًا من الذين لم يسمعوا إهلاله إلاَّ بعد استوائه على ناقته فحدَّث بما سمع ورأى. 7 - تسمية التلبية توحيدًا لاشتمالها عليه، ففيها أنواع التوحيد الثلاثة، فتوحيد الإلهية في "لبيك لا شريك لك لبيك" فهو الاستقامة على عبوديته وحده، وتوحيد الربوبية في إثبات "أنَّ النعمة لك والملك لا شريك لك" وتوحيد الأسماء والصفات في إثبات "الحمد" المتضمن إثبات صفاته تعالى الكاملة. 8 - الإشارة إلى إهلاله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد مخالفة لتلبية المشركين الشركية. 9 - أنَّ تحيَّة المسجد البدء بالطواف في البيت، فأول شيء بدأ به -صلى الله عليه وسلم- الطواف.

10 - شرط الطواف البدء من الركن الذي فيه الحجر الأسود. 11 - استحباب استلام الحجر الأسود في أول الطواف، وعند محاذاته في كل الطواف. 12 - استحباب الرمل في الأشواط الثلاث الأُول، والمشي في الأربعة الباقية، والرمل خاص في طواف القدوم. 13 - استحباب صلاة ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، وقد تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فيكون فعله تفسيرًا للصلاة المذكورة في الآية، وتعبين مقام إبراهيم في هذا الحجر المعروف. 14 - استحباب استلام الحجر بعد صلاة ركعتي الطواف وقبل السعي، وليس بواجب بإجماع العلماء. 15 - قال الشيخ: الحج فيه ثلاثة أطوافة: - طواف عند دخول مكة، ويسمى طواف القدوم. - الطواف الثاني هو بعد عرفة، ويقال له طواف الإفاضة، وهو طواف الفرض الذي لابد منه. - الطواف الثالث: هو لمن أراد الخروج من مكة، وهو طواف الوداع، وإذا سعى عقب واحدٍ منها أجزأه، ولو لم يكن متوقفًا على تقدم الطواف عليه لما أخرته عائشة -رضي الله عنها-. 16 - كل طواف بعده سعي، يسن أن يعود المُحرم إِلى الحجر فليستلمه قبل السعي إن أمكن، لأنَّ الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي، بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي، فلا يستلم بعد الركعتين. 18 - المعتمر -ولو كانت عمرة تمتع- إذا شرع في الطواف قطع التَّلبية؛ لأنَّ التَّلبية إجابة إلى العبادة، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل،

والأخذ في التحلل منافٍ للإجابة على العبادة، واستقبالها. ولما روى أبو داود (1551) من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسك عن التَّلبية في العمرة إذا استلم الحجر". قال النووي: الصحيح أنَّه لا يلبي في الطواف والسعي، لأنَّ لهما أذكارًا خاصة. 18 - استحباب الخروج للسعي من باب الصفا إن سهل ذلك. 19 - أنَّ السَّعي يكون بعد طواف النسك ولا يتقدمه، قال في الحاشية: وإن سعى قبل أن يطوف لم يجزئه السعي إجماعًا. 20 - استحباب الموالاة بين الطواف والسعي. 21 - البداءة بالسعي من الصفا، فلو بدأ بالمروة لم يعتد بالشوط الأول، والبدء بالصفا هو تفسير لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فقد بدأ بما قدَّم الله ذكره. 22 - استحباب رقي الصفا واستقبال القبلة حينما يطلع عليه، وهو سنة، فيوحد الله، ويكبره، ويحمده بما ورد، قال الشيخ: لو ترك صعوده فلا شيء عليه إجماعًا. 23 - الذكر المشروع على الصفا والمروة مناسب للمقام؛ لأنَّه في حجة الوداع التي تجلت فيها قوة الإسلام بعد ضعفه، وظهور الدين بعد خفائه، والجهر بعبادة الله تعالى بعد إسرارها في مكة، والقيام بركنية الحج ذلك العام خالصًا لله تعالى، بعد أن كان الحج لا يؤدى إلاَّ من المشركين وحدهم. وقد اشتمل على توحيد الله تعالى بالوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والاعتراف بنعمه بما أنجز ما وعده المسلمين بظهور الدين، ونصر رسوله، وهزم أعداء الدين من الأحزاب، فهو على كل شيء قدير. 24 - الذكر المشروع يكرره على الصفا ثلاث مرات يتخللهن الدعاء؛ لأنَّ هذا

المشعر العظيم من مظان الإجابة. 25 - بعد الذكر والدعاء يتجه إلى المروة، فما بين الصفا والمروة هو المسعى. 26 - ولا تشترط الطهارة للسعي، بل تسن؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بالطهارة فيه، وليس بصلاة كما لا تشترط به ستر العورة. 27 - فإذا حاذى العَلَم الأخضر هرول حتى العلم الثاني لأنَّ ما بينهما كان هو بطن الوادي، والهرولة خاصة للرجال، وبعد مجاوزة العَلَم الثاني يمشي حتى يصل المروة. قال الشيخ: وإن لم يسع في بطن الوادي بل مشى على هينته جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه. 28 - ثم يرقى على المروة ويقول ويفعل عليها مثل ما قاله وفعله على الصفا، من قراءة الآية المذكورة، واستقبال القبلة، والذكر، والدعاء، وبعد تمام السعي يحل من عمرته إن كان متمتعًا، وإن كان يشرع له البقاء في إحرامه بقي محرمًا حتى يتحلل من حجه. 29 - قال النووي: فيه دلالة لمذهب الجمهور أنَّ الذهاب من الصفا إِلى المروة يحسب بعد الرجوع إِلى الصفا ثانية. قال الوزير: اتَّفق الأئمة أن يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية. 30 - ثم قصَّر من شعره وحلَّ، ما لم يكن ساق الهدي. وبهذا قال أهل الحديث، وإمامهم أحمد بن حنبل، وأهل الظاهر لبضعة عشرة حديثًا صحيحًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها: "من لم يكن معه هدي فليحلل" [رواه مسلم (1213)]. وسأل سراقة بن مالك: هل هي لنا خاصة؟ قال: بل "للأبد"، [رواه مسلم (1218)]. قال ابن القيم: كل من طاف بالبيت، وسعى، ممن لا هدي معه، من

مفرد، أو قارنٍ أو متمتعٍ، فقد حلَّ، هذه هي السنة التي لا رادَّ لها، ولا مدافع اهـ. 31 - استحباب التوجه إلى منى للحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وصلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر يوم التاسع فيها، ثم البقاء فيها حتى تطلع الشمس، واستحبابه إجماع العلماء. 32 - فإذا طلعت الشمس توجه إِلى نمرة، وأقام فيها حتى تزول الشمس. 33 - قوله: "ثم أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة" هذا الكلام يشعر بأنَّ نمرة في عرفة، وهي ليست بعرفة وإنما "نمرة" شعب بين جبلين"، هما نهاية حد الحرم من الشرق الجنوبي، وبجانبها أنصاب الحرم المنصوبة على طريق المأزمين، وبين عرفات والحرم "وادي عرنة" الذي ليس من الحرم وليس من عرفات. فيكون معنى قوله "حتى أتى عرفة" كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي قَرُب من عرفات، وكتابتنا هذه عن مشاهدة، وتحرٍّ، وصحبةٍ لسكان تلك المنطقة، مع تطبيق النصوص على الموقع. كانت قريش في جاهليتها تقول: نحن أهل الحرم، وكانوا لا يجاوزون مزدلفة إلى عرفة، لأنَّ مزدلفة في الحرم، وعرفة في خارجه، وكان الناس يذهبون إِلى عرفة، ويقفون بها، فلما حجَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ظنَّت قريش بأنه سينهج نهجهم فلا يجاوز مزدلفة إِلى عرفة، إلاَّ أنَّ الله تعالى أمره بذلك، فقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، 34 - قال الشيخ: ويصلي الإمام، ويصلي خلفه جميع الحجاج من أهل مكة، وغيرهم قصرًا وجمعًا، كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّه لم يأمر أحدًا من أهل مكة أن يتموا، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ باتفاق أهل الحديث، وإنما قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة.

ومن قال: لا يجوز القصر إلاَّ لمن كان على مسافة قصر، فهو مخالف للسنة. 35 - استحباب البقاء بنمرة إلى ما بعد الزوال، وصلاة الظهر والعصر فيها جمعًا، وهذا الجمع متَّفق على مشروعيته. واختلف في سببه، فذهب الحنفية وبعض الشافعية إلى أنَّ سببه النسك، وذهب الشافعية إلى أنَّ سببه السَّفر، وهذا هو التصحيح؛ لأنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قصر الرباعيتين، ولا تقصران إلاَّ في السفر. 36 - استحباب الخطبة للإمام؛ ليعلم الناس صفة الوقوف، ويذكرهم بعِظم هذا اليوم، ويحثهم على الاجتهاد فيه بالدعاء والذكر. 37 - بعد الزوال يذهب إلى مسجد نمرة، فيصلي بها مع الإمام الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، واستحب جمع التقديم هنا ليتسع وقت الوقوف، ولا يصلي بينهما، ولا بعدهما سنة. 38 - على علماء المسلمين، وطلبة العلم الاقتداء بهديه عليه الصلاة والسلام، فيعلمون الناس، ويعظونهم ويذكرونهم أمر دينهم، وكيفية أداء مناسكهم. 39 - ثمَّ يتَّجه إلى الموقف بعرفة، فيشتغل فيه بالدعاء، والذكر، والتلبية. 40 - استدل بالحديث على أنَّ وقت الوقوف لا يدخل إلاَّ بالزوال. 41 - الأفضل الوقوف بعرفة بموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- إن سهل ذلك، وإلاَّ وقف بحيث كان منزله. قال النووي: وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، فغلط بل الوقوف في كل جزء من أرض عرفات. 42 - استقبال القبلة حين الدعاء والذكر، أفضل من استقبال الجبل لمن لم يسهل عليه استقبالها معًا. 43 - من وقف بعرفة نهارًا فيجب عليه الاستمرار فيها حتى غروب الشمس.

44 - الدفع من عرفة إلى مزدلفة يكون بعد الغروب، وقبل الصلاة. 45 - استحباب الدفع بسكينةٍ ووقارٍ وخضوعٍ، وخشوعٍ وتكبيرٍ، وتلبيةٍ، فإن وجد سائق السيارة طريقًا مشى، وإلاَّ انتظر حتى يمشي الذي أمامه، ولا يتجاوز السيارات، بل عليه بالنظام، ومراعاة خُطَّة السير، فهو آمن له، وأسهل لمن معه ولغيرهم من الحجاج. 46 - جواز استظلال المحرم بالخيمة. 47 - قال الشيخ: ولم يعين النبي -صلى الله عليه وسلم- لعرفة دعاءً خاصًا، ولا ذِكْرًا خاصًا، بل يدعو الحاج بما شاء من الأدعية الشرعية، ويكبر، ويهلل، ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس، وقد جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلاَّ الله وحده لاشريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". 48 - قال الشيخ: ويجتهد في الدعاء والذكر هذه العشية، فهو يوم تُرجى فيه الإجابة، ويَرْفع يديه. قال ابن عباس: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفات يدعو ويداه إلى صدره" [رواه أبو داود]. وما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أغيظ، ولا أدحر من عشية عرفة، لِما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلاَّ ما رؤي في يوم بدر. 49 - ولا يستبطيء الإجابة، لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وليكثر من الاستغفار والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، ويُلحَّ في الدعاء، فإنَّه موقف عظيم، تسكب فيه العبرات، وتُقال فيه العثرات، وهو أعظم مجامع الدنيا.

فإنَّ تلك أسباب نصبها الله مقتضية لحصول الخير، ونزول الرحمة، فإن لم يقدر على البكاء فليتباك. وقد جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". قال العلماء: هذا وإن لم يكن دعاءً صريحًا فهو تعريض به، مراعاة للآداب، وأيضًا فإنَّ اشتغاله بخدمة المولى، والإعراض عن الطلب اعتمادًا على كرمه، فإنَّه سبحانه لا يضيع أجر المحسنين، ففي الحديث القدسي: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، فالذاكر وإن لم يصرح بالطلب، فهو طالب بما هو أبلغ من التصريح. 50 - استحباب جمع صلاتي المغرب والعشاء بمزدلفة تأخيرًا، وهذا جمع متَّفق عليه بين العلماء، على خلاف بينهم في حكمه: استحبابًا، أو وجوبًا. 51 - أن يصليهما بأذان واحد، وإقامتين، وهذه الرواية أصح الروايات. 52 - أن لا يصلي بينهما نافلة، وكذا لا يصلي قبلهما، ولا بعدهما. 53 - الاضطجاع بعد الصلاة حتى طلوع الفجر، ليتقوى على أعمال يوم العاشر الكثيرة الكبيرة. 54 - استحباب البقاء بمزدلفة حتى طلوع الفجر، والصلاة، والبقاء إلى قرب طلوع الشمس. 55 - أفضلية الوقوف عند المشعر الحرام مستقبلاً القبلة، والدعاء، والتكبير، التهليل عنده حتى الإسفار جدًّا. 56 - استحباب الدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، قال ابن القيم:

أجمع المسلمون على أنَّ الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُنَّة. 57 - الإسراع في وادي محسِّر الفاصل بين مزدلفة وبين منى، والإسراع هنا جاء على صفة دفعه من عرفة من أنَّه إذا وجد فرجة أرخى لناقته الزمام وأسرع. 58 - البداءة برمي جمرة العقبة يوم النحر، ويكون ذلك بعد طلوع الشمس، ولا يرمي غيرها هذا اليوم 59 - أن يكون الحصى بقدر الباقلاء أو الفول. 60 - وجوب النحر على الآفاقي: القارن والمتمتع. قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أنَّ من أحرم بعمرة في أشهر الحج وحلَّ منها، وليس من حاضري المسجد الحرام، ثم أقام بمكة حلالاً، ثم حجَّ من عامه أنَّه متمتع عليه دم. وقد اشترط فقهاؤنا لوجوب الدم على المتمتع سبعة شروط: الأول: أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو من مسافة قصر فأكثر من مكة. الثاني: أن يحرم بها في أشهر الحج، وقال الأئمة الثلاثة، يكون متمتعًا إذا طاف لها في شوال. الثالث: أن يحج من عامه، وقد وافق عليه الأئمة الثلاثة. الرابع: أن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر، وقد وافق عليه الأئمة الثلاثة. الخامس: أن ينوي التمتع في ابتداء إحرامه، واختار الشيخ الموفق عدم هذا الشرط، وهو مذهب الشافعي. السادس: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج. السابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهو إجماع العلماء. 61 - قوله: "ثم ركب ... فأفاض إلى البيت" يعني طاف طواف الإفاضة، وهو ركن لا يتم الحج إلاَّ به، فمن لم يطف لم يحل له أن ينفر حتى يطوف،

وأول وقته بعد نصف ليلة النحر لمن وقف قبل ذلك بعرفات، ويسن فعله يوم النحر بعد الرمي، والنحر، والحلق، وإن أخَّره عن أيام منى جاز، بلا نزاع بين العلماء. 62 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ التحلل الثاني يحيى محظورات الإحرام جميعها، ويعود المحرم حلالاً، لما جاء في البخاري ومسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجَّه ونحر هديه يوم النحر، فأفاض بالبيت ثم حلَّ من كل شيء حرم منه". * خلاف العلماء: اختلف العلماء: في حكم السَّعي، هل هو ركنٌ، أو واجبٌ، أو سنةٌ؟ وهي ثلاثة أقوال: في مذهب أحمد، والمشهور من المذهب أنَّه ركن. واختار القاضي أنَّه واجب من واجبات الحج، وليس ركنًا. قال الموفق: وهو أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى، وقال في الشرح الكبير: وهو أولى؛ لأنَّ دليل من أوجبه دلَّ على مطلق الوجوب، لا على أنَّه لا يتم الحج إلاَّ به، فيجبره بدم، وكونه واجبًا لا ركنًا هو مذهب أبي حنيفة، والثوري. قال في شرح العمدة: قال شيخنا: وقول القاضي أقرب إلى الحق، فإنَّ ما روي عن عائشة، وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه دليل على وجوبه، كالرمي، والحلق، وغيرهما، ولا يلزم منه كونه ركنًا. ***

621 - وَعنْ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبيَتهِ فِي حَجٍّ أَو عُمْرَةٍ سَأَلَ اللهَ رِضوَانَهُ وَالجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِن النَّارِ" رَوَاهُ الشَّافِعيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: رواه الشافعي بإسناد ضعيف. قال في التلخيص: رواه الشافعي من حديث خزيمة، وفيه صالح بن محمَّد بن زايدة الليثي، وهو مدني ضعيف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية التلبية؛ للحج أو العمرة، وأنَّ هذا من هديه -صلى الله عليه وسلم-. 2 - مشروعية الدعاء بعد الفراغ من التلبية، لأنَّ التلبية هي شعار النسك، فهي من أفضل أعماله، فالدعاء بعدها حريٌّ بالإجابة. 3 - التلبية تتضمن التوحيد، وهو أساس الدين، فما بعده يكون من مواطن قبول الدعاء، فينبغي اغتنام هذه الفرصة. 4 - أنَّ فضل الدعاء سؤال الله رضوانه ورحمته، فهو الجامع لخيري الدنيا والآخرة، والاستعاذة من النار، التي هي أعظم الشرور والمصائب. 5 - أنَّ من أدب الدعاء أن يتقدمه من الداعي الثناء على الله تعالى وتمجيده، فهو من التوسل المشروع فيكون أحرى بالإجابة. ¬

_ (¬1) الشافعي (1/ 307).

622 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَحَرْتُ هَاهُنا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلَّهَا مَوْقِفٌ" رَوَاه مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نحرت: يقال: نحر البعير نحرًا، -من باب نفع- طعنه بالسكين في لبته، وهو مكان النحر، والنحر خاص بالإبل. - منى: أحد المشاعر المقدسة، والآن هي بلدة كبيرة المرافق والدوائر الحكومية، التي تخدم حجاج بيت الله تعالى، وتتيح لهم الراحة في أداء مناسكهم، وستأتي أحكامها إن شاء الله تعالى. أما حدودها فهي: الحد الغربي: هو جمرة العقبة. والحد الشرقي: وادي محسر الفاصل بينها وبين مزدلفة. قال عطاء بن أبي رباح: منى من العقبة إلى محسر. أما حدها الجنوبي والشمالي: فهو الجبلان المستطيلان من جانبيها، فالشمالي منهما ثبير الأثبرة، والجنوبي منهما الصابح، وفي سفحه مسجد الخيف، فيما أدخلت هذه الحدود الأربعة فهو منى. قال بعض العلماء: ما أقبل على منى من وجوه هذه الجبال فهو منها، وما أدبر فليس منها. ¬

_ (¬1) مسلم (1218).

- مَنْحَر: بفتح الميم، اسم الموضع الذي تنحر فيه الإبل، قال بعضهم: منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف. - هاهُنا: "ها" حرف تنبيه، و"هنا" ظرف للمكان القريب. - جمع: هي المزدلفة المتقدم تحديدها، سمِّيت جمعًا، لاجتماع الحجاج فيها. - رحال: رحل يرحل رحيلاً، انتقل وسار، ورحال الرجل أثاثه وزاده، والمراد هنا مكان إقامته. - موقف: وقف يقف وقوفًا، ثبت وسكن، والموقف موضع الوقوف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب نحر الهدي، أو ذبحه في منى، والمراد به دم التمتع، والقِران، والتطوع بهدي الحج، وأما دم العمرة ففضيلته في مكة، وأما الدم الواجب لترك نسك، أو فعل محظور فإن كان داخل الحرم، ففي مكان وجود سببه من الحرم، وإذا كان فعل المحظور خارج الحرم فحيث وجد أيضًا، ويجوز أيضًا في الحرم. 2 - جواز ذلك في أي مكان من منى حيث إنَّ منى كلها منحر. 3 - أن جمعًا كلها موقف، ففي أي مكان من مزدلفة وقف الحاج أجزأه ذلك، وتقدم تحديدها في شرح المفردات. 4 - أنَّ جميع ميدان عرفة موقف، ففي أي مكان فيها وقف ودعا أجزأه ذلك، وصحَّ حجُّه، وقد تقدم تحديد الموقف. 5 - إن تَيسَّر الوقوف في موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، ومزدلفة فهو أفضل، وإذا كان ذلك يشق فلا يُستحب. 6 - يسر الشريعة الإسلامية المطهرة وسماحتها، فلا تكليف، ولا عنت، ولا مشقة، وإنما مبناها السهولة واليسر.

7 - أقامت الحكومة السعودية مسالخ فنية في أرض الحرم القريبة من منى، وبرادات فخمة، لحفظ لحوم الهدي والأضاحي، للاستفادة منه للمحتاجين على طول العام، وإرسال ما يجوز توزيعه خارج الحرم إلى الدول الإسلامية المتضررة. ***

623 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أعْلاَهَا، وَخَرَجَ مِنْ أسفَلِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أعلاها: ثنية الحَجُون بفتح الحاء، وتسمى كداء، بفتح الكاف وآخره ألف ممدودة، وهي الطريق الآتي من بين مقبرتي المعلاة. - أسفلها: ثنية كُدى، بضم الكاف وآخره ألف مقصورة كهُدى، ويعرف الآن بريع الرسَّام، فهو الطريق الذي يأتي من حارة الباب متَّجهًا إلى جرول مع قبة محمود، والثنية هي كل طريق بين جبلين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث من أعلى مكة، وهو مدخله حينما جاء فاتحًا لها في رمضان، سنة ثمان من الهجرة، كما جاء في حديث عائشة. 2 - جاء في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيحين، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى" مما يدل على أنَّ هذين الطريقين هما مدخله ومخرجه، غازيًا، أو حاجًّا، أو معتمرًا، فيكون هذا هو المشروع لمن سهل عليه ذلك. 3 - قال في فتح الباري: اختلف في المعنى الذي لأجله خالف النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الطريقين، فقيل ليتبرك به كل من في طريقه، وقيل: لمناسبة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأنَّ إبراهيم عليه السلام دخل منها، وقيل: لأنَّ من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت. قُلْتُ: لعلَّ المدخل هذا والمخرج أسمح له عند الدخول والخروج والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخارى (1577)، مسلم (1258).

624 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْدُمُ مَكَّةَ، إلاَّ باتَ بذِي طُوًى حَتَّى يُصْبحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بذي طوى: يجوز في الطاء الضم والفتح والكسر، والضم أفصح وأشهر، وواوها مخففة، وآخره ألف مقصورة. قال النووي: هو موضع عند باب مكة، في صوب طريق العمرة المعتادة ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهر. قُلْتُ: ولا تزال بئر طوى موجودة في جرول أمام مستشفى الوِدلاة، وهذا التحديد من النووي شامل للمناطق الثلاث: الزاهر، والعتيبية، وشمالي جرول. - حتى: هي الجارَّة التي بمعنى "إلى"، والفعل بعدها منصوب بـ"أن" مضمرة وجوبًا، وأنَّ والفعل المضارع في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره: "حتى إصباحه، واغتساله". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الغُسل عند دخول مكة، قال في فتح الباري: قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء. 2 - قال العيني: الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرِمًا، وإنَّما هو لحرمة مكة، حتى يُستحب لمن كان حلالاً أيضَا، وقد اغتسل لها -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح. وكان ¬

_ (¬1) البخاري (1553)، مسلم (1259).

حلالاً، أفاده الشافعي -رضي الله عنه- في الأم. اهـ كلامه. 3 - استحباب البيات بذي طوى ليدخل مكة نهارًا، قال ابن حجر عند شرح هذا الحديث: وهو ظاهر في الدخول نهارًا. 4 - أما تخصيص الاغتسال من هذه البئر، والبيات في هذا المكان، فلعله راجع إلى أنَّ ذلك واقع في طريقه فلا تتقيد الأفضلية في ذلك. 5 - تعظيم مكة المكرمة، والكعبة المشرفة فهما من شعائر الله تعالى، والله تعالى يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32] 6 - استقبال الأعمال الهامة في الصباح، فهو وقت النشاط والاستجمام، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "بورك لأمتي في بكورها". ***

625 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ، وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. تقبيل الحجر الأسود جاء في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما السجود عليه فرواه الحاكم والبيهقي بإسناد متصل إلى ابن عباس مرفوعًا، وروياه عنه موقوفًا، ورجح الذهبي في الميزان وقفه، ورواه الطيالسي، والدارمي، وابن خزيمة، وابن السكن، والبزار من حديث جعفر بن عبد الله عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس مرفوعًا. قال العقيلي: إنَّ في حديث جعفر بن عبد الله وهمًا واضطرابًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب تقبيل الحجر الأسود عند بدء الطواف، وعند محاذاته أثناء الطواف، وهذه سنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة، وسيأتي منها حديث عمر في الصحيحين. 2 - يدل هذا الأثر على استحباب السجود على الحجر الأسود، ولكن هذا الأثر لم يثبت رفعه، ولا يكفي لمشروعية السجود عليه، والعبادات توقيفية، والأصل فيها المنع إلاَّ ما ثبت شرعه عن الله تعالى، أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولذا روي عن الإمام مالك: أنَّ السجود على الحجر الأسود بدعة. ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 455)، البيهقي (5/ 75).

3 - مشروعية استلام الحجر الأسود، أو تقبيله لمن سهل عليه ذلك، أما مع الزحام وأذية الطائفين فلا يشرع، بل تركه أفضل إذ الاستلام، أو التقبيل فضيلة فقط، وأذية الناس محرَّمة، فلا يقدم المستحب على المحرم. ***

626 - وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَرْمُلُوا ثَلاَثَةَ أشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا أرْبَعًا، مَا بيْنَ الرُّكنَيْنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أن يرملوا: بضم الميم، والرمل هو الهرولة، وهو الإسراع في المشي، مع هز الكتفين، وتقارب الخطى. - أشواط: جمع شوط بفتح الشين المعجمة، هو الجري مرَّة إلى الغاية، والمراد هنا الطوفة حول الكعبة. - الركنين: هما اليماني والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود، ويقال لهما: اليمانيان تغليبًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الرمل في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم، وهو خاص بالرجال لأنَّهم المخاطبون به في عمرة القضاء، وهم الذين تظهر فيهم حِكمته من حيث إظهار القوة والجَلَد للجهاد، ولأنَّ النساء يطلب منهن الستر والتحفظ. 2 - استحباب المشي في الأشواط الأربعة الباقية. 3 - أنَّ ذلك مستحب في طواف القدوم، وكذا طواف الحج والعمرة، إذا قاما مقام طواف القدوم. 4 - في حديث ابن عبَّاسٍ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يمشوا ما بين الركنين، وهذا في عمرة القضاء، رأفةً بحال الصحابة، فقد جاء آخر الحديث قول ابن عباس: ¬

_ (¬1) البخاري (1602)، مسلم (1264).

"ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلاَّ الإبقاء عليهم"، كما جاء في صحيح مسلم: "إنَّ المشركين جلسوا مما يلي الحِجْر" أي على جبل قعيقعان، ومَنْ هُو فيه لا يرى مَن يكون بين الركنين اليمانين. أما في حجة الوداع فقد جاء في حديث جابر الذي في مسلم (1218): "إنَّه -صلى الله عليه وسلم- رمل ثلاثًا، ومشى أربعًا" كما هو صريح في هذين الحديثين اللذين معنا، فيكون آخر أمره عليه الصلاة والسلام الرمل في كل الثلاثة، فتكون سنة الرمل هكذا. 5 - الحكمة في إظهار الجَلَد والقوة أمام الأعداء من المشركين، الذين قالوا حينما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة: إنَّه يقدم عليكم قوم قد وَهَنَتْهم يثرب، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، فكانت سنة لعموم المسلمين، ولذا فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فعله حتى بعد أن طهَّر الله مكَّة من المشركين والشرك في حجة الوداع، ولما خطر بذهن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تركه فقال: "ما لنا وللرمل، إنما كنا أرينا به المشركين قوتنا، وقد أهلكهم الله" ثم رجع فقال: "شيء صنعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا نحب أن نتركه". قال ابن جرير: ثبت أنَّ الشارع رمل ولا مشرك يومئذٍ بمكة، فعُلِم أنَّه من مناسك الحج. 6 - فيه استحباب إظهار القوة والجَلَد أمام أعداء الدين، لأنَّ في ذلك عزُّ الإسلام، وتوهين أعدائه. 7 - إظهار القوة في العبادة والنشاط عليها لمقصد حسن، لا ينافي إخلاصها لله تعالى. 8 - قال في فتح الباري: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية؛ لأنَّ هيئتها السكينة، فلا تغير.

9 - قال الشيخ: يستحب أن يرمل من الحجر إلى الحجر في الأطوفة الثلاثة، فهو سنة باتفاق الأئمة، ففي مسلم من حديث ابن عمر قال: "رمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحجر إلى الحجرِ ثلاثًا، ومشى أربعًا في الحج والعمرة" وفي صحيح مسلم عن جابر: "رمل ثلاثًا، ومشا أربعًا". قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. وقال ابن عباس: رمل في عُمَره كلها، وفي حجه، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وكان أصل هذا الرمل إغاظة المشركين، ثم صار سنة مع زوال سببه، كالسعي والرمي. 10 - قال الشيخ: فإن لم يمكنه الرمل للزحمة، كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون رمل، لأنَّ المحافظة على فضيلة تتعلَّق بذات العبادة، أهم من فضيلة تتعلق بمكانها. ***

627 - وعَنِ ابْن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمْ أرَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُ مِنَ البيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يستلم: استلم يستلم استلامًا. قال في المحيط: استلم الحجر الأسود استلامًا: لمسه ومسحه بيده. - اليمانيين: تثنية يماني، وهو من باب التغليب، حيث يراد بهما الركن اليماني، أي الموالي جهة اليمن، والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود، والتغليب كثير في اللغة العربية، كالقمرين: للشمس والقمر، والأبوين: للأب والأم، وغير ذلك، قاله النووي. واللغة الفصيحة المشهورة تخفيف الياء، وفيه لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف نسبة إلى اليمن، والألف عوض عن إحدى يائي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شددت لجمع بين العوض والمعوض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - للبيت العتيق أربعة أركان: الشامي، والغربي، واليماني، والشرقي الذي فيه الحجر الأسود. 2 - يشرع مسح اليماني والحجر الأسود، هذا هو الذي وردت فيه النصوص الشرعية. 3 - أنَّه لا يُستلم إلاَّ الركنان اليمانيان. 4 - العبادات توقيفية، فلا يتعبد الله إلاَّ بما شرعه تعالى، أو شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) مسلم (1269).

5 - بإجماع المسلمين أنَّ الركنين اليمانيين مبنيان على أسس إبراهيم وقواعده، وأما الشامي والغربي فليس على قواعد إبراهيم، حيث اقتطع الحِجر من الكعبة، واحتجز. 6 - ذكرنا هذا إن صلح أن يكون علة المسح لليمانيين دون الآخرين، وإلاَّ فالحكمة هو امتثال أمر الله تعالى، الذي لا يأمر إلاَّ بما فيه الخير والصلاح، ولا ينهى إلاَّ عما فيه الضرر والفساد، والله أعلم. ***

628 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّهُ قَبَّلَ الحَجَرَ، وَقَالَ: إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضرُّ ولاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُقَبلُّكَ مَا قَبَّلتُك" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يؤخذ من كلام هذا الإمام الملهم أصلٌ شرعيٌّ عظيمٌ، هو أنَّ الأصل في العبادات الحظر والمنع، فلا يشرع منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله، فلا مجال للرأي والاستحسان في ذلك، كما نبَّه على أنَّ القدوة في ذلك خاصَّة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه المبلغ عن الله تعالى، فهو القدوة والأسوة في الأمور الشرعية. 2 - قال النووي: وإنما قال: "لا تضر ولا تنفع" لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين أَلِفُوا عبادة الأحجار وتعظيمها، رجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف عمر أن يراه بعضُهم يقبله، ويُعنى به فيشتبه عليه، فبيَّن له أنَّه حجر مخلوق كباقي المخلوقات، التي لا تضر، ولا تنفع، وأشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان، ويحفظ عنه أهل الموسم. 3 - ما أشبه الليلة بالبارحة، فإنَّ كثيرًا من البلاد الإسلامية لديهم من الجهل بشرعهم، وتوحيد الله تعالى الذي هو أصل الدين، مثلما هو عند أهل الجاهلية، فما أحوج المسلمين إلى من يبصرهم بأمر دينهم، ويلقنهم إياه على حقيقته، التي أرادها الله تعالى منهم، حينما بعث الله رسوله، وأنزل عليه كتابه المبين. ¬

_ (¬1) البخاري (1597)، مسلم (1270).

4 - فيه مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف، ولكن هذه الفضيلة تكون بشرط ألا يترتب عليها محرم، من مزاحمة الناس، ومدافعتهم، وأذيتهم حتى يصل إليه، فإنَّه في هذه الحال يكون ترك الاستلام أفضل، لاسيَّما للنساء. 5 - قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: فيه أنَّ متابعة السنن واجبة، وإن لم يقف لها على علل معلومةٍ وأسبابٍ معقولةٍ، وقد فضَّل الله البقاع والبلدان، كما فضل بعض الليالي، والأيام، والشهور. 6 - يعلم من قوله -رضي الله عنه- "إنَّك حجر" أنهم ينزلون النوع منزلة الجنس، باعتبار اتصافه بصفة مختصة به، فقوله: "إنَّك حجر" شهادة له بأنَّه من هذا الجنس، ثم أكد هذه الجنسية وقررها بأنه حجر لا يضر ولا ينفع، وقوله: "لولا أني رأيت ... " فهذا إخراج له من الجنس باعتبار تقبيله -صلى الله عليه وسلم-. ***

629 - وَعنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يطُوفُ بالبيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ مَعَهُ، ويُقَبِّلُ المِحْجَنَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المحجن: بكسر الميم وسكون الحاء المهملة ثم جيم آخره نون والميم زائدة، جمعه محاجن، هو عصا محنية الرأس. قال ابن دريد: كل عود معطوف الرأس فهو محجن. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - لما أكثر الناس على النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وهو يطوف طاف على ناقته وجعل يستلم الحجر الأسود بمِحجنه، ويشير به -صلى الله عليه وسلم- إلى الحجر. 2 - فيه دليل على جواز الطواف راكبًا للحاجة. 3 - فيه استحباب استلام الحجر الأسود، فإن شقَّ استلامه باليد استلمه بما فيه يده على أن لا يؤذي بذلك الطائفين. 4 - استلام الحجر الأسود، وتقبيله لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ في حال الطواف، وبين الطواف والسعي. 5 - قال في الحاشية: أما الإشارة إلى الحجر الأسود إن شقَّ تقبيله، أو استلامه بيده، أو شيء آخر فهو إجماع. وأما الركن اليماني فلم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يشير إليه، ولو فعله لنقل، فالسنة ترك ما تركه -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ السنة كما تكون في الفعل تكون أيضًا ¬

_ (¬1) مسلم (1275).

بالترك. 6 - قال الشيخ تقي الدين: لا يستلم إلاَّ الركنين اليمانيين دون الشاميين، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنما استلم اليمانيين خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت، قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-. 7 - قال الشيخ: وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وحجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فالطواف بها، واستلامها، وتقبيلها، من أعظم البدع المحرَّمة باتفاق الأئمة الأربعة. 8 - قال النووي: واستدل به أصحاب مالك وأحمد على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه؛ لأنَّه لا يؤمن ذلك من البعير، فلو كان نجسَا لما عرَّض المسجد له. * قرار هينة كبار العلماء بشأن حكم الطواف على جزء من سقف المسعى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة والخمسين، المنعقدة بمدينة الطائف، خلال المدة من 12/ 5/ 1421 هـ إلى 15/ 5/ 1421 هـ، درس موضوع حكم الطواف وقت الزحام على جزء من سقف المسعى، وذلك بناء على كثرة ما يرد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من استفتاءات حول هذا الموضوع. وبعد الدراسة رأى المجلس بالأكثرية عدم جواز الطواف فوق جزء من سطح المسعى؛ لأنَّ المسعى يعتبر خارج المسجد الحرام، وليس جزءًا منه، بل هو مشعر مستقل بأحكامه، وما يؤدى فيه من عبادات، والطواف إنما هو في المسجد الحرام، لقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}. وخروجًا من هذا المحذور فقد اطَّلع المجلس على كتاب معالي الرئيس

العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي رقم: "32/ 1" وتاريخ 15/ 3/ 1421 هـ، ومشفوعه المحضر المعد من لجنة هندسية مكونة من: "مجموعة بن لادن السعودية، واتحاد المهندسين الاستشاريين، والرئاسة العامة لشؤن المسجد الحرام والمسجد النبوي" المتضمن ايجاد حل لهذا الموضوع، وذلك بتوسعة سطح المسجد الحرام من الجهة الشرقية مما يلي صحن المطاف من خلال اضافة ثلاثة عشر مترًا "13 م" إلى الممر الضيق، ليصبح عرض الممر كاملاً عشرين مترًا "20 م"، وهذا يتطلب عمل قواعد أرضية، وأعمدة جديدة من الأرض إلى السطح، تخترق المبني القديم للحرم في ذلك الجزء. ويرى المجلس الموافقة على رأي اللجنة الهندسية المذكور بعالية، لما فيه من المصلحة العامة للطائفين من الحجاج والمعتمرين، ولكونه لا يجوز الطواف خارج المسجد الحرام، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه ... ***

630 - وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "طَافَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أخْضَرَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في المنتقى: رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه. قال الشوكاني: حديث يعلى بن أمية صححه الترمذي، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه النووي. * مفردات الحديث: - مضطبعًا: الاضطباع افتعال من الضَبعْ بالسكون، هو العضد، أما بضم الباء فهو الحيوان المعروف، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر، وبهذا يبدو ضبعه الأيمن، والضبع هو الكتف. - بُرد: بضم الباء وسكون الراء المهملة، قال في المعجم الوسيط: البُرد كساء مخطط يلتحف به، جمعه: أَبْرَاد، وأبرُد، وبُرود. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - استحباب الاضطباع في طواف القدوم خاصة، حيث لم يرد في غيره من الطواف. ¬

_ (¬1) أحمد (17273)، أبو داود (1883)، الترمذي (859)، ابن ماجه (2954).

2 - قال العلماء: والحكمة في فعله أنَّه يُعين على إسراع المشي، وأول من اضطبع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في عمرة القضاء؛ ليستعينوا بذلك على الرمل؛ ليرى المشركون قوتهم وجلدهم، ثم صار سنة. 3 - لا يشرع الاضطباع بعد هذا الطواف، فإذا قضى طوافه سوَّى ثيابه، فلا يضطبع في ركعتي الطواف. 4 - كثير من المحرمين يضطبع منذ يلبس ملابس الإحرام حتى يحل منها، وهذا غير مشروع. 5 - جواز الإحرام بالأخضر وغيره من الألوان، مع فضيلة الأبيض. ***

631 - وَعنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "كَانَ يُهلَّ مِنَّا المُهلُّ، فَلاَ يُنْكرُ علَيْهِ، وَيُكبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ، فَلاَ يُنكرُ عَلَيه" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث بتمامه في صحيح مسلم: سأل محمَّد بن أبي بكر أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في مثل هذا اليوم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منَّا فلا ينكر عليه". ففي الحديث رد على من قال: يقطع التلبية صبح يوم عرفة. 2 - الإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية، فالحديث دليل على جواز جعل التكبير مكان التلبية، فتارةً يفعل هلذا، وتارةً يفعل هذا، فكله سنة، أقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عليها. 3 - الحديث يدل بفحواه على أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- ينكرون على من خالف النَّهج الصستقيم في قولٍ أو فعلٍ، وأنَّهم لا يقرون مخطئًا على خطئه للمداهنة والمجاملة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1659)، مسلم (1285).

632 - وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "بَعَثنَي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الثَّقَلِ -أو قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ- مِنْ جَمْعٍ بلَيْلٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الثقل: بفتح الثاء المثلثة وفتح القاف، قال في النهاية: هو متاع المسافر. - الضَعَفة: بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة والفاء، جمع ضعيف، هم النساء والأطفال، وكبار السن والمرضى. - جَمْع: بفتح الجيم وسكون الميم فعين مهملة، هي مزدلفة، سمِّيت بذلك؛ لاجتماع الناس فيها، أو لجمع الصلاتين المغرب والعشاء فيها. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1856)، مسلم (1293).

633 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ليْلَةَ المُزْدَلِفَةِ أنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً -يعْنِي ثَقِيلَةً- فأَذِنَ لَهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثَبطَة: يقال: ثبّطه يثبّطه ثبطًا، من باب نصر، بمعنى عوَّقه وبطَّأه، فالثَبِط هو الثقيل، والمرأة ثَبِطة، جمعها ثبِطَات. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - في الحديثين دليل على أنَّ هديه -صلى الله عليه وسلم- البيات بمزدلفة إلى بعد طلوع الفجر. قال في المغني: والمستحب الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المبيت إلى أن يصبح، ثم يقف حتى يسفر. 2 - أما الضعفة من النساء، والصبيان، والكبار العاجزين، والمرضى، وكذلك مَن لا يستغنون عن رفقته من الأقوياء، فلا بأس من تقديمهم بعد منتصف ليلة النحر إلى منى. قال في المغني: ولا نعلم في تقديمهم مخالفًا، ولأنَّ فيه رِفْقًا بهم، ودفعًا لمشقة الزحام عنهم، واقتداء بفعل نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. 3 - قال الوزير: أجمعوا على جواز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل إلاَّ أبا حنيفة قال: عليه دم. ودليل الجمهور حديث ابن عباس: "كنتُ فيمن قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى". [رواه البخاري (1678)، مسلم (1293)]. ¬

_ (¬1) البخاري (1680)، مسلم (1290).

قال الترمذي: عليه العمل عند أهل العلم. قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: وله الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل، وبعض أهل العلم يأبى ذلك، ويقول: إنه ما جاء إلاَّ في حق الضعيف، فلا يكون مسوغًا لبقية الناس أن يدفعوا مثلهم، وهذا أحوط، وإلى هذا ذهب الشيخ، وابن القيم. والليل الشرعي المعتبر من غياب الشمس إلى طلوع الفجر. 4 - مكان الوقوف يكون في أي جزء من مزدلفة التي تقدم تحديدها، وأفضله عند المشعر الحرام، وهو الجبل الصغير الذي فيه المسجد لمن سهل عليه ذلك، أما من لم يسهل عليه، فالرفق بنفسه ورفقته أولى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم المبيت بمزدلفة، ويراد بالمبيت بها الحصول فيها تلك الليلة. فذهب الإمام أحمد إلى وجوبه إلى بعد منتصف الليل، على غير السقاة والرعاة، وإن لم يدركها إلاَّ بعد نصف الليل أجزأ، لأنَّ الحكم منوط بالنصف الأخير، وأما الشافعي: فالصحيح من مذهبه أنَّ الواجب جزء من النصف الثاني من الليل، وقال مالك: الواجب هو النزول بمزدلفة ليلاً قبل الفجر، بقدر ما يحط رحاله، وهو سائر من عرفة إلى منى. وأما الأحناف: فالمبيت بمزدلفة عندهم سنة، والواجب عندهم هو الوقوف زمنًا بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. وذهب قلة من العلماء منهم الشعبي، وعلقمة، والنَّخعي، وأبو بكر بن خزيمة إلى أنَّ من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج. وأقرب هذه الأقوال للصواب الذي هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته القول الأول، ولا يخالفه شيء من الأدلة عند التامل، والله أعلم.

634 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وفِيهِ انْقِطَاعٌ (¬1). 635 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ، فَأَفَاضَتْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وإِسْنَادُهُ علَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: أما حديث ابن عباس، فحسَّنه الحافظ في الفتح، وله طرق ذكرها الألباني في إرواء الغليل، وصحَّحه ابن حبَّان، لكن قال ابن عبد الهادي والحافظ: في إسناده انقطاع. وأما حديث عائشة فأخرجه الحاكم والبيهقي ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن عبد الهادي: رجاله رجال مسلم، وقال البيهقي: إسناده صحيح لا غبار عليه. * مفردات الحديث: - فأفاضت: قال الجوهري: أفاض الناس من عرفات إلى جمع أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة، والمراد هنا أنَّ أم سلمة -رضي الله عنها- لما رمت جمرة العقبة أفاضت إلى مكة فطافت طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج. ¬

_ (¬1) أحمد (19778)، أبو داود (1940)، الترمذي (893)، النسائي (5/ 270)، ابن ماجه (3025). (¬2) أبو داود (1942).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حديث ابن عباس يدل على أنَّ وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر لا يدخل إلاَّ بعد طلوع الشمس، وحديث عائشة يدل على جواز رميها قبل طلوع الفجر وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. 2 - الحديثان يدلان على جواز دفع الضعفة من النساء والصبيان ونحوهم من مزدلفة إلى منا قبل طلوع الفجر. 3 - حديث عائشة يدل على أنَّ وقت رمي جمرة العقبة يبدأ قبل طلوع فجر يوم النحر، وحدده الشافعية والحنابلة بدخول النصف الثاني من ليلة النحر. قال ابن القيم: والذي دلت عليه السنة إنَّما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل، والله أعلم. 4 - فيه دليل على دخول وقت الإفاضة من منى إلى البيت لطواف الحج قبل طلوع الفجر من ليلة النحر، وحدده الشافعية والحنابلة بنصف الليل. 5 - حديث عائشة أصح من حديث ابن عباس، فعند تعارض الحديثين في دخول وقت الرمي يكون العمل بحديث عائشة أولى، على أنَّه يمكن الجمع بينهما بحمل حديث ابن عباس على الندب، وحديث عائشة على الجواز، مع أنَّه من الرحمة واليسر العمل بحديث عائشة في هذه الأزمنة، التي تضخمت فيه أعداد الحجاج، ووجدت المشقة العظيمة عند رمي الجمار. ***

636 - وَعنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-. "مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنا هَذِهِ -يَعْنِي بِالمُزْدَلِفَةَ- فَوَقَفَ مَعَناَ حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبلْ ذلِكَ لَيْلاً أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّةُ، وَقَضَى تَفَثَهُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبَّان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عروة بن مضرس بألفاظ مختلفة، وصحَّحه هذا الحديث الدارقطني والحاكم والقاضي أبو بكر بن العربي، وقال: إنَّه على شرطهما، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - من شهد: أي حضر. - صلاتنا هذه: صلاة الفجر بمزدلفة. - ندفع: أي نرحل ونفيض من مزدلفة إلى منى. - تفثه: بفتح التاء المثناة الفوقية والفاء الموحدة والثاء المثلثة. قال في النهاية: التفث هو ما يفعله المحرم بالحج إذا حلَّ، كقص الشارب، والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ويقال للرجل: تفِث، وللمرأة تَفِثَة. ¬

_ (¬1) أحمد (15619)، أبو داود (1950)، الترمذي (891)، النسائي (5/ 263)، ابن ماجه (3016)، ابن خزيمة (2820).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - استدل به الحنابلة على أنَّ وقت الوقوف بعرفة يدخل من فجر يوم التاسع؛ لعموم قوله: "ليلاً أو نهارًا" وهو شامل لما قبل الزوال، وهو من مفردات المذهب، أما الجمهور فيرون أن الوقت لا يدخل إلاَّ بالزوال، والعمل يقول الجمهور أحوط. 2 - قال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه أنَّ من وقف بعرفات وقفة بعد الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحج. 3 - قوله: "فقد تمَّ حجه" يريد به معظم الحج، وهو الوقوف بعرفة، لأنَّه أَمِنَ فوات الحج، أما الطواف وهو ركن كبير، فلا يخشى فواته، لبقاء وقته وامتداده. 4 - قوله: "وقضى تفثه" أي قرُب من التحلل الذي يزيل به ما علقه، بسبب الإحرام، من شعور، وأظفار، وأدران. 5 - هذا الحديث هو حجة الشعبي وعلقمة والنَّخعي وغيرهم في أنَّ من فاته الوقوف بمزدلفة فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة، كما لو فاته الوقوف بعرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهد صلاتنا هذه" حيث جعلها شرطًا لصحة الحج. وقد خالفهم جمهور العلماء فاوجبوا دمًا على من فاته المبيت بمزدلفة، وعلى هذا عمل المسلمين الآن. 6 - استدل به الفقهاء على أنَّه لا يشترط لصحة الوقفة بعرفة أن يعلم الواقف أنَّها عرفة. 7 - استدل به على أنَّ من لم يقف بعرفة إلاَّ ليلاً، فإنَّ حجَّه صحيح، وأنه لا يجب عليه دم، لفواته جزء من وقوف النهار. 8 - استدل به على مشروعية الدفع مع الإمام أو بعده؛ لأنَّه هو قائد مسيرة الحج،

فهو قدوتهم في أعماله. 9 - استدل به على مشروعية شهود صلاة الصبح في مزدلفة مع الإمام، فهو من كمال النسك. 10 - الوقوف -هنا- المراد به الحصول في مزدلفة في ذلك الزمن، لا نفس الوقوف. 11 - في الحديث ترتيب أعمال مناسك الحج، وأنَّه لا يقدم شيء على شيء، فلو قدم المبيت بمزدلفة على الوقوف بعرفة، فإنَّه لا يجزئه هذا المبيت. 12 - فيه جواز التعبير عن تمام الشيء بالإتيان ببعضه. ***

637 - وَعَنْ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّ المُشْرِكينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ويَقُولُون: أشْرِقْ ثَبِيرُ، وإنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَالَفَهُمْ، فَأَفَاضَ قَبْلَ أن تَطْلُعَ الشَّمْسُ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أشرق ثَبير: ثبير بفتح الثاء المثلثة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء ساكنة آخره راء مهملة، هو الجبل الكبير الشاهق الواقع علما حد مزدلفة الشمالي. وكانت العرب في الجاهلية لا يدفعون من مزدلفة إلى منى إلاَّ بعد إشراق الشمس على قمة هذا الجبل، فكانوا يقولون: أشرق ثبير، كيما نغير. - أشْرِق: بفتح الهمزة، فعل أمر من الإشراق، أي أدخل في وقت الإشراق، وفي بعض نسخ البخاري "كيما نغير" أي لنذهب سريعًا إلى منى، كالمغيرين من سرعة الدفع. - فأفاض: أصله من إفاضة الماء، وهو صبه بكثرة، فالمراد هنا: الدفع من مزدلفة إلى منى، أما الإفاضة الأولى التي قال الله تعالى عنها: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] فهي من عرفة إلى مزدلفة. وأما الإفاضة الثالثة التي مرَّت في حديث جابر، فهي الإفاضة من منى إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة، وبها سمِّي طواف الحج "طواف الإفاضة"، وهذه الإفاضة الثانية من مزدلفة إلى منى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ المشركين كانوا يعظمون البيت، ويحجونه، ويقفون في المشاعر إرثًا من ¬

_ (¬1) البخاري (1684).

أبيهم إبراهيم عليه السلام، إلاَّ أنَّهم غيَّروا، وبدَّلوا في صفة النسك. 2 - أنَّ المشركين في حجهم يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يفيضون إلى منى. 3 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم فدفع من مزدلفة إلى منى وقت الإسفار قبل طلوع الشمس. 4 - وجوب مخالفة الكفار على تنوع مللهم، في أعمالهم، وأحوالهم، وشعائرهم؛ ليكون للمسلمين كيان مستقل عنهم، وميزة تبرزهم وتميزهم عن غيرهم، فلا يذوبون في الأوساط والمجتمعات المخالفة لنهجهم، والمؤسف أنَّ المسلمين الآن يترسمون خطاهم، فيحاكونهم في كل شيء بلا بصيرة. 5 - قوله: "وإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خالفهم" يفهم قصد مخالفة الكفار، والابتعاد عن مشابهتهم. 6 - تحصل من الاستقراء أنَّ إفاضات الحجيج ثلاث: الأولى: من عرفة إلى مزدلفة ليلة عيد النحر، وهذه هي المذكورة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] الثانية: من مزدلفة إلى منى، وهذه هي المذكورة في هذا الحديث: "فأفاض قبل أن تطلع الشمس". الثالثة: الإفاضة من منى إلى مكة المكرَّمة لأداء طواف الحج المسمى "طواف الإفاضة"، وهي المشار إليها في حديث جابر السابق، وفيه: "ثم ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأفاض إلى البيت". ***

فصل في رمي الجمار

فصل في رمي الجمار مقدمة التجمر هو التجمع، وسميت الجمار؛ لاجتماع الناس حوله أو لاجتماع الحصا عندها، وهي من الشعائر المقدسة، ومن مناسك الحج، والجمار ثلاث: الأولى: وتلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة: التي تلي مكة، والتي هي نهاية حد منى الغربي. قال الشيخ حسن مكرم في كتاب "غنية الناسك": الجمرة موضع الشاخص، لا الشاخص، فإنَّه علامة الجمرة. وقال الشافعي: الجمرة مجتمع الحصى، لا ما سال من الحصى. وقال المحب الطبري: حده ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع. وقال الشيخ سليمان بن علي بن مشرف: المرمى هو الأرض المحيطة بالميل المبني. قال محرره: بقي مكان الرمي طوال القرون الماضية غير محاط بشيء، ولا معلم عليه بشيء، وفي عام (1292 هـ) وضع شبك حديدي لمنع الزحام، وذلك بفتوى من بعض علماء مكة، فاعترض على هلذا العمل بعض العلماء، وأشدهم اعتراضًا الشيخ علي باصرين عالم جدّه، وقال: إنَّ هذا الشبك يوهم بأنَّ ما أحاط به الشبك كله مرمى، فأزيل ووضع الحائط المحيط بالجمرات الآن، وذلك عام (1293 هـ). أما جمرة العقبة فهي نصف دائرة، ولم تزل العقبة التي تسند عليها

الجمرة حتى عام (1377 هـ)، وجرى العمل في توسعة شوارع مني، فأزيلت العقبة المذكورة، فصارت ترمى من سهل الأرض من جميع جهاتها الأربع، وإزالتها بإذن من مفتي البلاد الشيخ، محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ بموجب خطابه المؤرخ في 1/ 9/ 1375 هـ، ثم في عام (1383 هـ) أنشيء دور ثانٍ للجمرات الثلاث، وصارت ترمى من الأرض، ومن الدور الثاني، ووضعه بموافقة من مفتي الديار بموجب خطابه المؤرخ في 25/ 6/ 1382 هـ. ويرجع أول تاريخ الجمار الثلاث إلى عهد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حينما عرض له الشيطان في هلذه المواقف الثلاثة، ليثْنِيه عن أمر الله تعالى في ذبح ابنه إسماعيل، فحَصَبه وطرده، فأغلب المشاعر والشعائر في الحج هي عِبَادات لله تعالى، وتذكير بأحوال عباد الله الصالحين. ***

638 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ- قَالاَ: "لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلَبِّي حَتَّى رَمى جَمْرَةَ العَقَبَةِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *ما يؤخذ من الحديث: 1 - استمراره -صلى الله عليه وسلم- على التلبية مدة إحرامه، لأنَّها ذكر الحج وشعائره. 2 - أنَّ وقت التلبية ينتهي بابتداء رمي جمرة العقبة، لا في نهايته، على خلافٍ في ذلك. 3 - والحكمة في ذلك أنَّ التلبية شعار الحج وإجابة المنادي إليه، وفي البدء برمي الجمرة شروع في التحلل والانتهاء من أعمال الحج، فينتهي وقتها ومناسبتها. 4 - قطع التلبية عند رمي جمرة العقبة، هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، وإسحاق، وأتباعهم، استنادًا إلى فعله -صلى الله عليه وسلم-، المؤيد بقوله: "خذوا عنَّي مناسككم". قال ابن عبَّاس: حججتُ مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة. 5 - بعضهم قال: يقطع التلبية عند دخول الحرم. 6 - بعضهم قال: يقطع التلبية عند ذهابه يوم التاسع إلى عرفة. وكلا القولين خلاف ما صحَّ من هديه -صلى الله عليه وسلم-. 7 - قال الطحاوي: إنَّ كل من روي عنه ترك التلبية من يوم عرفة، إنَّما تركها ¬

_ (¬1) البخاري (1686).

للاشتغال بغيرها من الذكر، لا على أنَّها تشريع ... ويؤيد قول الطحاوي ما رواه البيهقي عن أبن مسعود قال: لقد خرجت مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من منى إلى عرفة، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلاَّ أنَّه يخلطها بتكبيرٍ وتهليلٍ. ***

639 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ جَعَلَ البيْتَ عنْ يَسَارِهِ، وَمنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمى الجَمْرَةَ بِسَبع حَصَيَاتٍ، وَقَال: هَذا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البقرَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مقام: أي مكان قيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، حينما رمي الجمرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - صفة رمي جمرة العقبة المفضل هو جعل مكة عن اليسار، ومنًى عن اليمين من بطن الوادي، قال القسطلاني: وترمى من أسفلها، وقد اتَّفقوا على أنَّه مِن حيث رماها جاز. 2 - الحكمة في هذا -والله أعلم- أنَّ مرمى جمرة العقبة واقع في جهة الجنوب، ومسدود من جهة الشمال بالعقبة التي أزيلت، فالرامي على الصفة التي ذكرها ابن مسعود مستقبل للمرمى، ومتسهل عن سفح العقبة، وآمِن في ذلك الوقت من أن يصيبه حصى الرامين، بخلاف الجمرتين الأخريين فإنَّ كل جهة سهلة، فاستحب استقبال القبلة فيهما كسائر العبادات. 3 - هذا وقد أزيلت العقبة التي في سفحها جمرة العقبة عام (1377 هـ)، لتوسعة شوارع منى، وأصبحت الجمرة بارزة في بطن الوادي تؤتى من أي جهة قصدت، إلاَّ أنَّ المرمى لا يزال باقيًا على صفته الأولى، نصف دائرة على شاخص المرمى. 4 - فيه دليل على أنَّ الرمي يكون بسبع حصيات متتابعات، واحدة بعد الأخرى ¬

_ (¬1) البخاري (1749)، مسلم (1296).

متواليات عرفًا. 5 - قال العلماء: إنما أشار ابن مسعود إلى سورة البقرة، لأنَّ أحكام المناسك كثيرة فيها. 6 - فيه دليل على تسمية سور القرآن بما ذكر فيها من أسماء وأخبار، كالبقرة والفيل، والإسراء، والشعراء، وغير ذلك، فإنَّ ابن مسعود -رضي الله عنه- من علماء الصحابة بالقرآن الكريم. 7 - قال القسطلاني: امتازت جمرة العقبة عن الجمرتين بأربعة أشياء: اختصاصها برميها يوم النحر، وألا يوقف عندها، وترمى ضحى، وترمى من أسفلها استحبابًا. ***

640 - وَعَن جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَمى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وأمَّا بعدَ ذلك، فَإذَا زَالَتِ الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ المستحب هو رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، عملاً بحديث ابن عباس السابق، وأنَّ وقت الجواز في رميها يدخل قبل طلوع الفجر من ليلة النَّحر. وهذا الحديث شاهد ومؤيد لحديث ابن عباس، فهذا فعله -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بقوله: "خذوا عنِّي مناسككم". 2 - فيه دليل على أنَّ رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق لا يكون إلاَّ بعد الزوال. قال النووي في شرح مسلم: ومذهبنا الشافعية، ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنَّه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلاَّ بعد الزوال، وقال أبو حنيفة وإسحاق، يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال ودليلنا: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- رمى كما ذكرنا، وقال: لتأخذوا عني مناسككم. * خلاف العلماء: تقدم أنَّ قول جمهور العلماء أنَّ ابتداء وقت الرمي في أيام التشريق الثلاثة هو بزوال الشمس، والإجماع منعقد إلى امتداده إلى الغروب، والاختلاف في انتهاء وقت الجواز فهل ينتهي بالغروب أو يمتد ليلاً حتى طلوع الفجر؟ ¬

_ (¬1) مسلم (1299).

فالقول الأول: هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والقول الثاني: هو مذهب الحنفية والشافعية، إلاَّ أنَّ المشهور عن المالكية هو أنَّ الرمي ليلاً قضاءٌ، والحنفية والشافعية يقولون أداءٌ ونظرًا للزحام العظيم عند رمي الجمرات لازدياد عدد الحجاج الكبير، فقد أصدرت رابطة العالم الإسلامي عام (1394 هـ) برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعدد كبير من أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة، الذين يمثلون بلدانًا كثيرة من بلدان العالم الإسلامي، ويعتنق مجموعهم مذاهب الأئمة الأربعة، أصدرت فتوى بجواز الرمي ليلاً في أيام التشريق الثلاثة، مستأنسين برأي هؤلاء الأئمة الثلاثة، وبترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للرعاة أن يؤخروا الرمي عن وقته؛ لحاجتهم لذلك، وعملاً بعموم نصوص الشريعة السمحة في التيسير والتسهيل، وبالله التوفيق. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن رمي الجمار، ونصه ما يلي: 1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد منتصف ليلة النحر للشفقة على النساء، وكبار السن، والعاجزين، ومن يكون معهم للقيام بشؤونهم، لما ورد من الأحاديث الصحيحة، والآثار الدالة على جواز ذلك. 2 - عدم جواز رمي الجمار الثلاث أيام التشريق قبل الزوال. 3 - يقرر المجلس -بالأكثرية- جواز الرمي ليلاً عن اليوم السابق، بحيث يمتد وقت الرمي حتى طلوع فجر اليوم الذي يليه؛ دفعًا للمشقة التي تلحق بالحجاج؛ عملاً بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ولعدم الدليل الصحيح الصريح الدال على منع الرمي ليلاً، وبالله التوفيق. ويجوز تأخير الرمي كله إلى آخر يوم من أيام التشريق. وهل الرمي المؤخر أداءٌ أو قضاءٌ؟ قال الشيخ محمَّد أمين الشنقيطي في تفسيره: التحقيق أنَّ أيَّام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي، وهو مذهب أحمد والشافعي.

641 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيَقُومُ، فَيَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ثُمَّ يَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يأخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو، وَيَرْفعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبْةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيقُولُ: هكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يفْعَلُه" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الدنيا: بضم الدال وكسرها، أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف. - إثر: بكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي عقب كل حصاة. - يُسْهل: بضم الياء وسكون السين المهملة وكسر الهاء، مضارعٌ من أسهل الرباعي، أي يقصد المكان السهل من الأرض. - يقوم طويلاً: أي قيامًا طويلا للدعاء، حال كونه مستقبل القبلة. - ثم يأخذ ذات الشمال: بكسر الشين المعجمة، أي يمشي إلى جهة الشمال. - ذات العقبة: بفتح العين والقاف والباء، اسم للجبل الصغير، فيه ثنية، كانت الجمرة الكبرى في سفحه الجنوبي، فأزيلت تلك العقبة عام: 1377 هـ، لغرض توسعة شارع الجمرات. ¬

_ (¬1) البخاري (1751).

*ما يؤخذ من الحديث: 1 - مشروعية رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق الثلاثة، فهنَّ وقت الرمي، فإن لم يرم فيهن لعذر أو غيره، فاته الرمي، وعليه دم. 2 - البداءة بالجمرة التي تلي مسجد الخيف، ثم الثانية، ثم العقبة، وهذا الترتيب واجب، فإن اختلَّ لم يصح الرمي. 3 - أن يكون الرمي بسبع حصيات لكل جمرة، وهذا مذهب جمهور العلماء خلافًا لقلة، منهم عطاء ومجاهد، فقد أجازوا الرمي بالخمس والست. 4 - التكبير عقب كل حصاة يرميها. 5 - التقدم عن مكان الرمي في الجمرة الأولى، والانصراف إلى جهة الشمال في الجمرة الوسطى، ئم استقبال القبلة، والدعاء طويلاً رافعًا يديه، متحريًا للإجابة والقبول، لأنَّ هذا الموطن من مواطن قبول الدعاء. 6 - أما جمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي، أي يجعل مكة عن يساره، ومنًى عن يمينه، ولا يقف عندها للدعاء. وقد علَّل العلماء عدم مشروعية الوقوف هنا لضيق المكان في ذلك الوقت، على أنَّ سعة المكان عند جمرة العقبة الآن لا يبرر الوقوف عندها للدعاء، إذ أنَّ العلل والأسرار ظنية، والخير في الاتباع، وخير الهدي هدي محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. 7 - الرمي على الصفة المذكورة في الحديث هي الصفة الواردة، فتكون المفضلة، على أنَّ رمي الجمار الثلاث جائز من أي جهة كانت، ما دام الحصى يقع في المرمى. قال النووي في شرح مسلم: "وأجمعوا على أنَّه من حيث رمى جمرة العقبة جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو أسفلها، أو وقف في وسطها ورماها". 8 - قال الشافعي: الجمرة مجتمَع الحصى، لا ما سال من الحصى.

وقال الطبري: حد مجتمع الحصى ثلاثة أذرع من أصل الجمرة. قال ابن حجر الهيتمي: والمشاهدة تؤيد ذلك، فإنَّ مجتمعه -غالبًا- لا ينقص عن ذلك. قال محرر هذا الكتاب: إنَّه لم يكن مرما الجمار الثلاث محاطًا بجدار إلاَّ في الزمن القريب، وأول من ذكر إحداث هذه الحيطان على الجمار هو الشيخ علي بن سالم الحضرمي في منسكه المسمى: "دليل الطريق لحجاج بيت الله العتيق"، فقد قال في صحيفة (87): "المرمى المحل المبني فيه العلم، وضبط بثلاثة أذرع من جميع جوانبه، وقد حوِّط على هذا المقدار بجدار قصير. فالرمي يكون داخله" وتقدم بحثه. * قرار مجلس هيئة كبار العلماء بشأن حوض الجمار: وخلاصته ما يلي: تقرر بالاتفاق أنَّه لا يجوز بناء حوض زائد عن الحوض الموجود حاليًا، وأن يبقى على ما كان، ومعلوم أنَّ الحصى متى وصل إلى الحوض أجزأ، ولو لم يستقر فيه وتدحرج وسقط خارجه. هيئة كبار العلماء ***

642 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِيْنَ، قَالُوا: وَالمُقَصِّرِيْنَ، يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ فِي الثَّالِتَةِ: وَالمُقَصِّرِينَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اللهم ارحم المحلِّقين: قال ابن عبد البر: المحفوظ أنَّه قاله في الحديبية. وقال النووي: المشهور أنَّه قاله في حجة الوداع. وقال عياض: لا يبعد أنَّه قاله في الموضعين، قال العيني: وما قاله عياض هو الصواب، جمعًا بين الأحاديث الصحيحة. - اللَّهمَّ اغفر للمحلقين: شك الراوي هل دعا للمحلقين وحدهم مرَّتين أو ثلاثًا، كما اختلفت الروايات في ذلك. - اللَّهم: جاءت هنا للنداء، والميم عوض عن حرف النداء، ولذا لا يقال: يا اللَّهمَّ؛ لأنَّه لا يجمع بين العوض والمعوض منه. - المحلقين: الحلق: هو إزالة الشعر، من الرأس من أصله. - المقصرين: التقصير: قص بعض الشعر، مع عدم استئصاله. والمقصرين هو من العطف التلقيني، يعني: ضُمَّ إليهم المقصرين، يا رسول الله! فقل: اللَّهمَّ ارحم المحلقين والمقصرين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج، وشعيرة من الشعائر. 2 - القول الراجح أنَّ الحلق، أو بدله التقصير واجب من واجبات الحج ¬

_ (¬1) البخاري (1727)، مسلم (1301).

والعمرة. 3 - فضل الحلق على التقصير في حق الرجال، وهو مُجمع عليه، ما لم يكن الحاج متمتعًا، وضاق الوقت عن نبات الشعر للحج، فيكون التقصير أولى، كما أنَّ المُجمع عليه للنساء التقصير لا الحلق، فإنَّه محرَّم. 4 - الحلق أو التقصير نسك، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك وأحمد، والنسك عبادة يثاب على فعلها، ويعاقب على تركها، قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فوصفهم ومنَّ عليهم بذلك، فدلَّ على أنَّه عبادة، ولأنَّه -صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين والمقصرين، وفاضَلَ بينهم، فلولا أنَّه نسكٌ لما استحقوا لأجله الدعاء منه لهم. قال في المغني: والحلق والتقصير نسك، في ظاهر مذهب أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. وعن أحمد أنَّه ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور، كان محرَّمًا عليه بالإحرام فأُطلق فيه عند التحلل، كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه، ويحصل الحل بدونه، والرواية الأولى أصح. 5 - المفهوم من الحديث هو أنَّ الحلق أو التقصير لعموم الرأس، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، من قوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله، وهو ما أجمع عليه، وإنما الخلاف في أقل المجزيء منه، والصحيح أنَّه لا يجزيء إلاَّ كله، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد. قال ابن الهمام: مقتضى الدليل في الحلق وجوب استيعابه. وحكى النووي الإجماع على حلق الجميع، والمراد بالإجماع الصحابة والسلف.

6 - تفضيل الحلق على التقصير دليل على أنَّ أحدهما يفعل على أنَّه نسك من مناسك الحج أو العمرة، وأنَّه ليس تحللاً من محظور فقط، كما قاله بعض العلماء. 7 - في الحديث دليل على الاكتفاء في الحج والعمرة بالحلق وحده، أو التقصير وحده، وأن لا يجمع بينهما، على أنَّهما جميعًا نسك لحجٍ واحدٍ أو عمرةٍ واحدةٍ. 8 - محل الحلق والتقصير هو شعر الرأس خاصة، دون بقية شعور البدن، واستحب بعض العلماء ومنهم المالكية والحنابلة الأخذ من الشعور المستحب إزالتها أو تخفيفها، كالعانة والشارب، وكذلك تقليم الأظفار، وقد كان عبد الله بن عمر يفعله. 9 - من أسرار الحلق والتقصير أنَّ فيهما كمال الخضوع، والتذلل لله تعالى، وإظهار العبودية، والانقياد لطاعته، ولذا صار الحلق أفضل من التقصير؛ لأنَّه أبلغ في تحقيق هذه العبادة الشعيرة الجليلة، ولأنَّ الحلق أدل على من صدق نية صاحبه في التذلل لله، وإظهار الخضوع له. كما أنَّ من أسراره وحِكمه إزالة الأوساخ والأدران، التي تعلق بالحاج أثناء تلبسه بالإحرام، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]. فقد فسَّرها العلماء بذلك، حتى يفيضوا إلى البيت العتيق بحال تجمل وزينة تحقيقًا. لقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُو} [الأعراف: 31]. ***

643 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ على النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ" رَوَاهُ أَبُو داودَ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أبو داود والدارقطني والطبراني من حديث ابن عبَّاس وإسناده حسن، وقوَّاه أبو حاتم في العلل، والبخاري في التاريخ، وأعله ابن القطان، وردَّ عليه ابن الموَّاق فأصاب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم في الحديث الذي قبله أنَّ الدعاء للمحلقين خاص بالرجال بإجماع العلماء، وأنَّ الواجب في حق النساء هو التقصير فقط، وهو إجماع العلماء أيضًا. 2 - هذا الحديث حسب ترتيب المؤلف يأتي بعد حديث السيدة عائشة الآتي برقم (646)، ولكني قدمته ليلي حديث ابن عمر في الحلق والتقصير؛ للمناسبة التي بينهما. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (1985).

644 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْألونَهُ، فقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ؟ قَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ انْ أرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَن شَيءً قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ، إلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ابن العاص: الجمهور على كتابته بالياء، وهو الفصيح عند أهل العربية، ويقع في كثير من الكتب بحذفها، وقد قريء في القراءات السبع: "الكبير المتعال" والعاص من العصيان، وجمعه عصاة، كالقاضي يجمع على قضاة. - لم أشْعُر: بضم العين، الشعور: هو الإحساس والإدراك، يقال: شعرت بالشيء شعورًا إذا فطنت به، فالسائل عمل النسك من الحج بلا شعور، ولا إحساس لما يبنغي تقديمه وتأخيره من المناسك، فمعناه لم أعلم جهة التقديم والتأخير. - أن أذبح، أن أرمي: أن فيه مصدرية، أي قبل الذبح، وقبل الرمي. - ولا حرج: بفتح الحاء والراء المهملتين آخره جيم معجمة، والحرج: الضيق، والمراد ليس عليك شيء مطلقًا. - ارمِ: فعل أمر: أي ارم الجمرة، ولو أخَّرتها عن الحلق أو الطواف، فليس ¬

_ (¬1) البخاري (83)، مسلم (1306).

عليك شيء مطلقًا. - فما سُئل عن شيء: يعني من الأمور التي هي من وظائف يوم النحر في الحج، إلاَّ قال: افعل، ولا حرج. - قُدِّمَ وَلا أُخِّر: بالبناء للمجهول، من باب التفعيل فيهما، ولابد فيه من تقدير "لا" في الأول، لأن الكلام الفصيح قلَّما تقع "لا" وتدخل على الماضي إلاَّ مكررة، نظير قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وقوف العالِم في أيام المناسك؛ لإفتاء الناس، وإرشادهم في مناسكهم. 2 - في يوم النحر أربعة أعمال للحج، وهي: رمي جمرة العقبة، والذبح، والحلق أو التقصير، والإفاضة، فأي واحد منها قدمه على الآخر فهو جائز، وهذا في حق الناسي بالإجماع كما هو صريح الحديث، وسيأتي الخلاف في العامد إن شاء الله تعالى. 3 - سماحة الشريعة وسعتها في أحكامها وعباداتها، فلا ضيق، ولا عَنت. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّ المشروع هو الترتيب، وذلك بتقيدم الرمي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، كما رتَّبها النبي -صلى الله عليه وسلم- في فعله، وقال: "خذوا عنِّي مناسككم". كما أجمعوا على جواز تقديم بعضها على بعض في حق الناسي والجاهل. واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض على غير النسق المشروع المتقدم، وذلك في حق العامد العالم. فذهب الشافعي وأحمد وجمهور التابعين وفقهاء المحدثين إلى جواز تقديم بعضها على بعض للعامد، مستدلين بأحد طرق هذا الحديث التي رواها البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو، قال السائلون: "يا رسول الله! حلقت

قبل أن أذبح، قال: اذبح، ولا حرج، وقال الآخر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارمِ ولا حرج، فما سئل عن شيء قدِّم، ولا أُخِّر إلاَّ قال: افعل ولا حرج" ولم يقيده بالناسي والجاهل. وذهب بعضهم -ومنهم الحنفية- إلى أنَّ رفع الحرج هو في حق الجاهل والناسي فقط، لقول السائل في الحديث "لم أشعر" والمطلق يحمل على المقيد، فيختص الحكم بهدذه الحال، ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المناسك لحديث: "خذوا عني مناسككم". وقال الطحاوي: إنَّ هذا القول له احتمالان: أحدهما: أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أباح ذلك له توسعة وترفيهًا، فيكون للحاج أن يقدم ما شاء ويؤخر ما شاء. والآخر أنَّ قوله: "لا حرج" أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذه، على الجهل منكم لا على القصد، وإنما كان ذلك لجهلهم بالمناسك؛ لأنّ السائلين كانوا أعرابًا، لا علم لهم بالنسك. * وهل على من قدم المؤخر من هذه المناسك على المقدَّم منها دم، أو لا؟ الجمهور على عدم وجوب الدم، بناء على جواز التقديم والتأخير في كل الأحوال. * فائدة: لا خلاف بين العلماء في إجزاء تقديم بعضها على بعض في حق العامد والناسي، وسقوط الوجوب به. قال في المغني: "لا نعلم خلافًا بينهم في أنَّ مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء، ولا يمنع وقوعها موقعها". وقال الطبري: "لم يسقط النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرج إلاَّ وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئه لأمره بالإعادة، لأنَّ الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه".

645 - وَعنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نَحَرَ قَبْلَ أنْ يَحْلِقَ، وَأمَرَ أصحَابهُ بِذلِكَ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث كالحديث السابق في مشروعية تقديم النحر على الحلق، وجواز تقديم النحر على الحلق، سواء كان ذلك في حال العمد أو الجهل، والنسيان. 2 - هذا الفعل والأمر وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة الحديبية، حين منعته قريش من دخول مكة لأداء عمرته، فصالحهم على أن يعود ويأتي من قابل، كما ذكر ذلك في القضية المشهورة، ثم تحلل -صلى الله عليه وسلم- بالذبح والنحر، وتابعه أصحابه على ذلك. 3 - الهدي إن كان من آفاقي جامع بين الحج والعمرة، إما بتمتع أو قران، فهو هدي واجب. وإن كان غير آفاقي، أو من مفرد، أو من معتمر، فهو هدي تطوع على كل منهم؛ لأنَّه هدي شكر الله تعالى، لا جبران من تعدٍّ في إحرام، أو تقصيرٍ، في واجبٍ من النسك. 4 - قال ابن القيم: الهدي في التمتع والقِران عبادة مقصودة، وهو من تمام النسك، وهو دم هدي، لا دم جبران، وهو بمنزلة الأضحية للمقيم، ولو كان دم جبران لما جاز الأكل منه، وقد ثبت أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أكل من هديه، وفي الصحيحين أنَّه أرسل لنسائه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، وهو متناول هديَ التمتع والقِران قطعًا. ¬

_ (¬1) البخاري (1811).

5 - قال ابن القيم: هدي الحاج بمنزلة الأضاحي للمقيم، فلم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه أنَّهم جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم، فهو هدي بمنًى وأضحية بغيرها، فإذا اشترى الهدي من عرفات وساقه إلى منى، فهو هدي باتفاق العلماء، وأما إذا اشتراه من منى وذبحه فيها ففيه نزاع، فمذهب مالك ليس بهدي، ومذهب الثلاثة أنه هدي. 6 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: الهدايا شرعت في الحج اقتداء بخليل الله إبراهيم، حين أمره الله بذبح ولده إسماعيل، ودرج على ذلك المسلمون جميعًا جيلاً بعد جيل، والتقليل من أهمية مشروعية الذبح، أو استبدالها بغيرها هذا مما يمليه الشيطان على بعض الأشخاص. فهذه الذبائح شرع الله ذبحها عبادةً له وتعظيمًا، وأن يطعم منها القانع والمعتر. * قرار هينة كبار العلماء بشأن ذبح الهدايا والأضاحي: وخلاصته ما يلي: 1 - لا يجوز أن يعتاض عن ذبح هدي التمتع والقِران بالتصدق بقيمته؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ لأنَّ من القواعد المقررة سد الذرائع، والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة. 2 - قرر المجلس بالأكثرية أنَّ أيَّام: الذبح أربعة أيام: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، ويجوز الذبح في ليالي أيام التشريق، وخالف الشيخ عبد الرزاق العفيفي، فأجاز الذبح بعد أيام التشريق، ولا إثم عليه. 3 - لا يخصص الذبح بمنى، بل يجوز في مكة، وفي أي موضع من الحرم. ***

646 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا رَمَيْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ، وَكُلُّ شَيءً، إلاَّ النِّسَاءَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال ابن الملقن والمنذري: إسناده حسن. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي من حديث عائشة مرفوعًا، ومداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف مدلس، وله طرق أخر مدارها عليه. قال ابن معين: صدوق يدلس، وقد روى له مسلم مقرونًا بغيره، وقد حسَّن الحديث المنذري وابن الملقن. وروي من حديث الحسن العرني عن ابن عباس: "إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كل شيء إلاَّ النِّساء"، وروي من طريق آخر عن ابن عمر، وهذا كله له حكم الرفع، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ التحلل الأول الذي يبيح كل شيء للمحرم إلاَّ النساء، لا يحصل إلاَّ بمجموع الأمرين: الرمي، والحلق. 2 - يدل بمفهومه أنَّ النساء لا يحل وطؤهن ولا مباشرتهن إلاَّ بعد التحلل الكامل، وهو الإِتيان بالرمي، والحلق، وطواف الإفاضة، والسعي إن طاف للقدوم ولم يَسْعَ. ¬

_ (¬1) أحمد (23951)، أبو داود (1978).

3 - ما تقدم من أنَّ التحلل الأول لا يحصل إلاَّ بالرمي والحلق، وهو قول لابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاووس، والنَّخعي، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، والمشهور من مذهب الإمام أحمد، عملاً بهذا الحديث في عموم طرقه. قال في الشرح الكبير: والرواية الأخرى: يحصل التحلل بالرمي وحده، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبي ثور، قال شيخنا -يعني صاحب المغني-: وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة: "إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كل شيء إلاَّ النساء". وقال الشوكاني بعد أن ذكر حديث أم سلمة: استُدل به على أنَّه يحل برمي جمرة العقبة كل محظورات الإحرام إلاَّ الوطء للنساء، فإنَّه لا يحل له بالإجماع". وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: "المحرم إذا رمى جمرة العقبة حلَّ له كل شيء إلاَّ النساء، ولو لم يحلق، لحديث عائشة "طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي في حجة الوداع للحل والإحرام، وحين رمى جمرة العقبة يوم النَّحر قبل أن يطوف بالبيت"، بسند صحيح على شرط الشيخين، وإليه ذهب ابن حزم". ***

647 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ العَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِب اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَبِيْتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِن أجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذَنَ لَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سقايته: بكسر السين المهملة وفتح القاف ثم ألف بعدها ياء ثم تاء، مهنة السقاء، وسقاية الحاج: سقايتهم الماء، ينبذ فيه الزبيب، وكانت من مآثر قريش، يتولاها بنو عبد المطلب، وكان العباس بن عبد المطلب هو القائم بها زمن النبوة، وكان ينبذ للحاج من ماء زمزم، وذكر المؤرخون أنَّه ما كان بين مكان السقاية والحجر الأسود إلاَّ ثمانية أذرع بذراع الحديد. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1634)، مسلم (1315).

648 - وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِل فِي البيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ لِيَوْمَيْنِ، ثمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ وَصَحَّحَةُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن، وقال الترمذي: حسن صحيح. قال في التلخيص: رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث أبي البداح عن عدي عن أبيه، ورواه مالك عن أبي البداح عن عاصم بن عدي، وحديث مالك أصح، قال الحاكم: من قال عن أبي البداح بن عدي فقد نسبه إلى جده. ويقال: إنَّ لأبي بداح صحبة، وقد صحح ذلك ابن عبد البر في الاستذكار. * مفردات الحديث: - رخَّص: بفتح الراء المهملة وتشديد الخاء المعجمة، والرخصة لا تكون إلاَّ من عزيمة، ومعناها شرعًا: ما ثبت على خلاف دليلٍ شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ، والترخيص: الإذن له بجواز ترك المبيت بمزدلفة ومنىً، من أجل سقايته. - لرعاة الإبل: جمع راعٍ، وهو من يحفظ الماشية ويرعاها، والإبل: الجِمال والنوق، لا واحد له من لفظه، مؤنث جمعه آبال. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 450)، أبو داود (1975)، الترمذي (955)، النسائي (5/ 273)، ابن ماجه (3037).

- البيتوتة: بات يبيت بياتًا وبيتوتة، معناه أمضى الليل، نام أو لم ينم، فيقال: بات يفعل كذا: إذا فعله ليلاً. - يوم النَّفْر: يقال: نفر القوم ينفرون نفرًا تفرقوا. قال في المحيط: نفر الحجاج من منى اندفعوا إلى مكة. قُلْتُ: من نفر في اليوم الثاني من أيام التشريق فقد نفر النفر الأول، ومن نفر في اليوم الثالث فقد نفر النفر الأخير. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - وجوب المبيت بمنى لياليها، ومناط الدليل من هذين الحديثين طلب العبَّاس الإذن له، ولفظ: "الترخيص" لا يكون إلاَّ من عزيمة. 2 - الرخصة في عدم المبيت في منى لصاحب سقاية الحاج، ولرعاة الإبل، لعذرهم في ذلك. 3 - المبيت الواجب أكثر الليل لا كله، سواء ابتدأ من أوله أو من آخره، قال في شرح الغاية: ويتجه المراد من البيتوتة بمنى معظم الليل، وهو متَّجه. قال النووي: وفي قدر الواجب قولان، أصحهما: معظم الليل. قال في فتح الباري: ولا يحصل المبيت إلاَّ بمعظم الليل. 4 - المشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ الرخصة: خاصة لسقاة زمزم، والرعاة اقتصارًا على النص، لكن قال في المغني: "وأهل الأعذار كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه، ونحوهم كالرعاة في ترك البيتوتة". وقال ابن القيم: "وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد رخَّص لأهل السقاية وللرعاة في ترك البيتوتة، فمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضًا، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، والله أعلم". 5 - أما الرمي فالسقاة يرمون كغيرهم، وأما الرعاة فيرمون جمرة العقبة يوم النحر، ثم يذهبون بالإبل، فإذا عادوا يوم النفر الأول رموا عن اليومين، ثم

يرمون يوم النفر الثالث إن لم يتعجلوا. * خلاف العلماء: لم يختلف العلماء أنَّ أفضل الرمي بعد يوم النحر هو بعد زوال الشمس، كما فعله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "خذوا عنِّي مناسككم"، وأنَّ الوقت المختار ينتهي بالغروب، وقال ابن رشد: وأجمعوا على أنَّ السنة في الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون بعد الزوال، أما الرمي بالليل فمذهب الإمام أحمد أنَّ ابتداءه من زوال الشمس ونهايته بغروبها، إلاَّ أنَّه يجزيء رمي يوم في اليوم الذي بعده، أو رمي الكل آخر أيام التشريق، كلها وقت للرمي، ولا يجزىء الرمي عنده ليلاً. وأما مذاهب الأئمة الثلاثة فيجيزون الرمي بالليل، فقد قال في بدائع الصنائع للحنفية: "فإنَّ آخر الرمي فيهما إلى الليل، فمن رمى قبل طلوع الفجر جاز، ولا شيء عليه". وقال النووي في المجموع: "ويبقى وقتها إلى غروبها، وفيه وجه مشهور، أنَّه يبقى إلى الفجر الثاني في تلك الليلة، والصحيح هذا فيما سوى اليوم الآخر، وأما اليوم الآخر فيفوت رميه بغروب شمسه، بلا خلاف". قال الشيخ محمَّد الشنقيطي: "واختلفوا في أيام التشريق الثلاثة: هل هي كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي؟ والتحقيق أنَّ أيام التشريق كاليوم الواحد، فمن رمى عن يوم منها في آخر يوم أجزأه، ولا شيء عليه، هذا هو مذهب أحمد ومشهور الشافعي ومن وافقهما". وقد أصدر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز في أيام الحج عام (1394 هـ) فتوى جواز الرمي ليلاً، وجرى العمل بها وتنفيذها من قبل حكومة المملكة العربية السعودية، وذلك حينما اشتدَّ الزحام على الجمرات.

649 - وَعَنْ أَبِي بَكرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَطَبنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحرِ" الحَديثُ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ (¬1). 650 - وَعنْ سرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يوْمَ الرُّؤوسِ، فَقَالَ: "أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ .. " الحَدِيثُ، رَواهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (650): حديث سرَّاء حديث حسن. قال المؤلف: رواه أبو داود بإسنادٍ حسن. وقال الشوكاني: حديث سراء بنت نبهان سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديثين: - يوم النَّحر: هو اليوم العاشر من ذي الحجة عيد الأضحى، سمي يوم النَّحر؛ لما ينحر فيه من الهدي والأضاحي. - سرَّاء: بفتح السين وتشديد الراء بعدها ألف ممدودة، بنت نبهان الغنوية، من قبيلة غني، قبيلة عدنانية مضرية. - يوم الرؤوس: جمع رأس هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وهو أول يوم من أيام التشريق الثلاثة، وسمي يوم الرؤوس؛ لأنَّهم يأكلون في هذا اليوم -غالبًا- رؤوس الأضاحي والهدي التي ذبحت يوم النَّحر، ويسمى يوم "القرِّ" ¬

_ (¬1) البخاري (1741)، مسلم (1679). (¬2) أبو داود (1953).

بفتح القاف وتشديد الراء. لأنَّ النَّاس قارُّون في منى. - أوسط أيام التشريق: هو ثاني يوم النَّحر بالاتفاق، كما قال ابن القيم، أي يوم الحادي عشر، وهو أول أيام التشريق، وأما تسميته في الحديث بأوسطها، فمن جعل الأوسط بمعنى الأفضل، أو لأنَّه ثاني يوم النَّحر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أنَّه -صلى الله عليه وسلم- خطب خطبتين الأولى، يوم النَّحر، والثانية في اليوم الذي بعده من أيام التشريق. 2 - خطبة يوم النَّحر ليست خطبة عيد، فإنَّه عليه الصلاة والسلام لم يصل صلاة العيد في حجته، ولا خطب مثل خطبة العيد، وإنما هي خطبة قصد بها تعليم الناس المناسك. 3 - في الحديثين مشروعية هاتين الخطبتين للإمام، أو نائبه، يعظ الناس، ويبيِّن لهم المناسك ويرشدهم. 4 - ما أحق هذا المشعر الكبير، والمجتمع الإسلامي في منى، للدعاة المرشدين والمصلحين أن يستغلوه في التوجيه الإسلامي الصحيح، وما أجدر وسائل الإعلام: من الإذاعة والتلفاز والصحف والنشرات، من البث في هذه المجتمعات الكبيرة، فالقلوب مفتحة، والأنفس مطيعة، والسبل ممهدة لنشر دعوة الخير والصلاح، وفَّق الله المسلمين إلى ما فيه صلاحهم. 5 - خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- اشتملت على أعلى الحِكم والتوجيهات، فقد جاء فيها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا، أَلاَ لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، أيها النَّاس اعبدوا ربَّكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم وأطيعوا ربكم إذا أمركم، تدخلوا جنَّة ربكم، ألا فليبلغ منكم الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، ألا

هل بلغت؟ فقالوا: نعم، فقال: اللَّهمَّ اشهد". 6 - أما خطبة اليوم الأول من أيام التشريق، فقد جاء فيها ما يلي: "ألا لا تظالموا، إنَّه لا يحل مال امريء مسلم إلاَّ بطيب نفس منه، ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، اتَّقوا الله في النساء، فإنَّهنَّ عَوان عندكم، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنَّ لهنَّ عليكم حقوقًا، ولكم عليهنَّ حقًا: أن لا يُوطِئن فرشكم أحدًا غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه، ومَن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. أيُّها الناس: إنَّ ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاَّ بالتقوى". قال عبد الرحمن بن معاذ -رضي الله عنه-: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في منى، ففتحت أسماعنا، حتى كنَّا نسمع ما يقول، ونحن في منازلنا". فالله جلَّ وعلا رفع صوته، وبلَّغ دعوته، وهو على كل شيء قدير. ***

651 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "طَوَافُكِ بالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والمَروَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عائشة -رضي الله عنها- كانت محرمة عام حجة الوداع بالعمرة، لتتمتع بها إلى الحج، فحاضت قرب مكة، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُدخل الحج على العمرة، ففعلت، فصارت قارنة، فلم تطف، ولم تسع إلاَّ بعد الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، ثم قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، فأمر -صلى الله عليه وسلم- أخاها عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم ليلة الرابعة عشرة، فاعتمرت. 2 - يدل على أنَّ القارن لا يجب عليه إلاَّ طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، وعند الحنفية أنَّ القارن عليه طوافان وسعيان، واستدلوا على ذلك بأحاديث عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-، ذكرها الزيلعي في نصب الراية. 3 - في الحديث دليل على أنَّ السَّعي لا يكون إلاَّ بعد طواف نسك، وإلاَّ فلا يصح. 4 - دخول أعمال العمرة في أعمال الحج في حق القارن بينهما، لما روى مسلم من حديث ابن عباس، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخلتْ العمرة في الحج إلى يوم القيامة". ¬

_ (¬1) مسلم (1211).

5 - عائشة -رضي الله عنها- لما وصلت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وادي سرف حاضت، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُدخل العمرة على الحج، وتكون قارنة، وقال لها: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت"، فأخذ الأئمة الثلاثة من هذا اشتراط الطهارة للطواف، أما أبو حنيفة -رحمه الله- فيرى أنَّ منعها من الطواف هو لئلا تلبث بالمسجد وهي حائض، وعلى هذا فلا تشترط الطهارة عنده للطواف، ولكن لو طافت وهي حائض صحَّ طوافها، وعليها جزاء حسب نوع الطواف، كما هو مفصل في المذهب عنده. أما بقية العلماء فقالوا: الحائض والنفساء تكمل أعمال الحج كلها، عدا الطواف فلا يصح. * خلاف العلماء: هذا الحديث من أدلة وجوب السعي، فالأقوال في حكمه ثلاثة: أنه واجب، وأنَّه سنة، وأنَّه ركن من أركان الحج، وكلها مروية عن الإمام أحمد. فذهب كثير من العلماء إلى أنَّه ركن، منهم الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهي المشهورة في المذهب، وممن رأى ذلك من الصحابة، ابن عمر وجابر، وعائشة -رضي الله عنهم- ومعنى ذلك أنَّ الحج لا يتم بدونه. دليلهم: ما رواه مسلم عن عائشة قالت: "طاف النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وطاف المسلمون بين الصفا والمروة، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة". وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أنَّه سنة، لا يجب بتركه شيء، ومنهم ابن عباس، وأنسٍ، وابن الزبير وابن سيرين، وهو رواية عن الإمام أحمد، ودليلهم ما يفهم ظاهراً من الآية: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].

فأما القول الثالث: فواجب، وإليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، والحسن البصري، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه القاضي، والتميمي، وصاحب الشرح الكبير، وصاحب الفائق، وجزم بها في الوجيز، ورجحها الإمام ابن قدامة في المغني فقال: "وقول القاضي أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى، فإنَّ فِعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه دليل وجوبه كالرمي والحلاقة، ولا يلزم أن يكون ركنًا، وقول عائشة يعارضه قول غيرها". وقال في الشرح الكبير حين ذكر رواية الوجوب: "وهو أولى؛ لأنَّ دليل من أوجبه دلَّ على مطلق الوجوب، لا على أنَّه لا يتم الحج إلاَّ به". أما أدلة أنَّه سنة فغير ناهضة، فالآية نزلت لمَّا تحرَّج الصحابة من السعي لوجود صنمين، أحدهما على الصفا، والثاني على المروة في الجاهلية، وأدلة الوجوب قوية، لكنها لا توصله إلى الركنية. ***

652 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبع الَّذِي افَاضَ فِيهِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِي، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على ذلك. وقال عطاء الراوي عن ابن عباس: "لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه". قال محرره: ويؤيده أنَّ كل من وصف حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهم جابر في حديثه الطويل- لم يذكروا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- رمل في غير طواف القدوم، وقد أخرجه أبو داود وسكت عنه. والحكمة من مشروعيته قد تتحقق بالطواف الأول، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في الكلام على فقه الحديث. * مفردات الحديث: - في السبع: فيه لغتان إحداهما: فتح السين وإسكان الباء، والمراد سبع مرات، والثانية: بضم السين والباء وإسكانها، وهو الجزء من السبعة، من إطلاق الجزء على الكل، والمراد سبع مرات. ¬

_ (¬1) أحمد (14133)، أبو داود (2001)، النسائي في الكبرى (2/ 460)، ابن ماجه (3060)، الحاكم (1/ 475).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرمل مستحب في الطوفات الثلاث من السبع، ويكون على البيت، كله حتى فيما بين الركنين: اليماني والأسود. 2 - الرمل لا يكون إلاَّ في طواف القدوم للمفرِد والقارِن، أو إذا قام مقامه طواف العمرة للمعتمر والمتمتع. 3 - لذا فإنَّ الرَّمل لا يكون في طواف الإفاضة، كما دلَّ عليه الحديث، كما لا يكون في طواف الوداع؛ لأنَّ الوداع ينافي القدوم. 4 - أما سبب مشروعية الرمل وحكمته، فهو ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عبَّاس قال: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنَّه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا الأشواط الثلاثة" ولو زال سببه فإنَّ شرعيته مستمرة بدليل فعله عليه الصلاة والسلام، في حجة الوداع، وذلك إظهارًا لشكر الله في عز دينه، وظهور أمره، وتذكر حال سلفنا الصالح، وما قاسوا في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، كما أنَّ فيه كمال الاتباع والاقتداء. ***

653 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكبَ إِلَى البيتِ فَطَافَ بِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). 654 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذلِكَ -أَيْ النُّزُولَ بالأَبْطَحِ- وَتَقُولُ: إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، لأِنَّهُ كَانَ مَنْزِلاً أسْمَحَ لِخرُوجِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رَقْدة: بفتح الراء المهملة وسكون القاف المثناة ثم دال فتاء تأنيث، أي نام نومة ليست بالطويلة. - المُحصَّب: بالمهملتين، بزنة مكرم، اسم مفعول، مأخوذ من الحصباء، وهي صغار الحجارة، وسمي محصبًا؛ لاجتماع الحصى فيه، لأنَّ السيل يحمل إليه الحصباء، والمراد به هنا وادي إبراهيم، المنحدر من أعلى مكة، والخارج من أسفلها، لكن حد المحصب هنا هو من المنحنى إلى مقبرة الحجون "المعلا"، ويسمى الأبطح والبطحاء، وقد أدركته قبل زفلتته، وأرضه حصباء، أما الآن فلا حصباء، ولا محصب، ولا بطحاء فقد زُفْلِتَ الشارع، وبلِّط جانباه، وقامت العمائر على جنبيه، وأصبح المحصَّب من أهم أسواق مكة التجارية. ¬

_ (¬1) البخاري (1764). (¬2) البخاري (1765)، مسلم (1311).

وحينما بدأت الزفلتة في شارع المحصب كَتَب الأستاذ الأديب "حسين سرحان" في "جريدة البلاد السعودية" كلمة بعنوان: "لا بطحاء بعد اليوم" وأخذ يحن عليها، ويتوجد على بقائها، ويذكر أيامها، والسمر فوق حصبائها الناعمة. - الأبطح: هو المحصَّب، كما تقدم. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حينما رمى الجمار بعد الزوال من اليوم الثالث لأيام التشريق دفع من منى، ونزل الأبطح، وصلَّى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم نام نومة خفيفة، ثم ركب راحلته ومرَّ بالبيت، فطاف فيه طواف الوداع، ثم سافر عائدًا إلى المدينة. والخلاف بينهم هل نزوله الأبطح -صلى الله عليه وسلم- على وجه القُربة والعبادة، فيتبع فيه، أم أنَّه فعله على أنه منزل واقع في طريقه، فارتاح فيه هذا الوقت، فيكون نزوله غير متعبد به، وليس فيه فضيلة؟ فذهب إلى القول بفضيلته الجمهور، قال في طرح التثريب: "هو قول الأئمة الأربعة، وتقدم أنَّ في صحيح مسلم، "عن أبي بكر، وعمر، وابنه أنَّهم كانوا يفعلون ذلك"، وحكى في شرح المهذب عن القاضي عياض أنَّه قال: النزول بالمحصب مستحب عند جميع العلماء، وأجمعوا على أنَّه ليس بواجب، وأجمعوا على أنَّه من تركه لا شيء عليه". وذهب بعض العلماء إلى أنَّه ليس بسنة، قال في طرح التثريب: وأنكر التحصيب جماعة من السلف، فروى الشيخان عن ابن عباس قال: "ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". ومنهم عائشة كما في حديث الباب، ومن الذين لا يحصبون إذا حجوا طاووس، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير.

استدل الأولون بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة "أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال حين أراد، أن ينفر من منى: "نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر" وهذا المكان هو الذي تحالفت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، حتى يسلموا لهم رسلو الله -صلى الله عليه وسلم-، فقصد عليه الصلاة والسلام إظهار شعائر الإسلام، حيث أظهرت شعائر الكفر. واستدل الآخرون بما جاء في صحيح مسلم عن أبي رافع قال: "لم يأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربت قبته، ثم جاء فنزل". قال ابن القيم: فأنزل الله فيه تصديقًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة". والقصد أنَّه ليس من واجبات الحج، وليس على تاركه شيء بإجماع العلماء، وله الحمد والمنة. ***

655 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أُمرِ النَّاسُ أنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مقصود الحج الأكبر هو البيت العتيق، وبقية المشاعر عظمت وفضلت لقربها منه، فكما أنَّ المشروع للقادم هو طواف القدوم، وكذلك يكون المشروع في حقه طواف الوداع. 2 - "أمر الناس" الآمر هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء في مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينصرفن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت". 3 - الأمر يدل على الوجوب، فطواف الوداع واجب، ويأتي الكلام في الخلاف فيه. 4 - الحديث صريح في عدم وجوبه على المرأة الحائض، ومثلها النفساء. 5 - الحديث صريح أنَّ طواف الوداع يكون عند الرحيل، إلاَّ قضاء بعض حاجات السفر بعد الوداع، وانتظار الرفقة للمدة اليسيرة، أو توديع الأقارب، فلا يبطل طواف الوداع، بل يبطله المبيت في مكة، أو التجارة، والإقامة الطويلة، على خلافٍ في ذلك بين الفقهاء. 6 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: من طاف للإفاضة قبل الرمي، ونوى في طوافه أنَّ الطواف طواف إفاضةٍ ووداعٍ، فهذا لا يجزئه عن الوداع، لأنَّه لم يكمل أعمال الحج بعد، ولو كان طوافه المذكور بعد فراغه من الرمي، ¬

_ (¬1) البخاري (1755)، مسلم (1328).

واكتفى به عن الوداع، ولم يقم بعده، بل سافر في الحال، كفاه عن طواف الوداع. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة إلى اشتراط الوضوء في الطواف، وذهب أبو حنيفة إلى عدم اشتراطه، لكن قالوا بوجوبه، وثمرة الخلاف أنَّ طواف المحدث عند الحنفية صحيح، لكن يجب عليه الفداء على تفصيل في ذلك، وعند غير الحنفية الطواف غير صحيح. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة، أو لا يلحق، وذلك أنَّه ثبت أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منع الحائض من الطواف، كما منعها من الصلاة، فأشبه الصلاة من هذه الجهة، وحجة أبي حنيفة أنَّه ليس كل شيء منعه الحيض، فالطهارة شرط في فعله. * فائدة: - أطوفة النسك ثلاثة: أحدها: طواف القدوم، وهو سنة بإجماع العلماء. والثاني: طواف الإفاضة، وهو ركن في الحج والعمرة، فلا يحل تحلل بدونه، ولا يقوم مقامه دم ولا غيره، وهذا بإجماع العلماء. والثالث: طواف الوداع، وهو واجب عند جمهور العلماء، وسنة عند المالكية، والحج يصح بدونه، ويجب في تركه على غير حائض ونفساء دم، عند من قال بوجوبه. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن طواف الوداع: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيه محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداءً من 10/ 10/ 1399هـ حتى 21/ 10/ 1399 هـ، في حكم

طواف الوداع للخارج من مكة المكرمة، سواء كان حاجًّا، أو معتمرًا، وغيرهما، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر، ومن كان دون ذلك، واطَّلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، على طلب المجلس في دورته الثالثة عشرة، وقد تبيَّن له أنَّ العلماء مختلفون في تلك المسائل تبعًا لاختلاف اجتهادهم، والخلاف فيها معروف بين العلماء، ومدون في كتب الأحاديث، وكتب الفقه، والمناسك وما زال عمل العلماء جاريًا على الأخذ بما يترجح لهم دليله، وينبغي للحاج وغيره أن يحرص على الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عنِّي مناسككم"، لذلك يرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته، ومذهب العامي مذهب من يفتيه من أهل العلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ***

656 - وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي المَسجِدِ الحَرَامِ أفْضَلُ مِنْ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمَائة صَلاَةٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أحمد وابن حبَّان والبيهقي (10058). وقال ابن عبد الهادي في المحرر: إسناده على شرط الشيخين. قال في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي مسلم من حديث ابن عمر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فضل الحرمين الشريفين: الحرم المكي الشريف، والحرم المدني الشريف. 2 - مضاعفة الصلاة، والأعمال الصالحة فيهما. 3 - أنَّ مضاعفة المسجد النبوي على غيره من المساجد بقدر ألف صلاة، إلاَّ المسجد الحرام. أما المسجد الحرام ففضله على المسجد النبوي بمائة صلاة، فتكون مضاعفة المسجد الحرام على غيره من المساجد عدا -المسجد النبوي- بمائة ألف صلاة. 4 - أنَّ المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، وأكثر مضاعفة في ثواب ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 5)، ابن حبان (1620).

الأعمال الصالحة. 5 - لأجل هذا الفضل، وتلك المضاعفة في الأعمال أبيح السفر إليهما، وجاز شد الرحل إليهما، أما ما عداهما من البقاع، فلا يجوز إلاَّ المسجد الأقصى، لأنَّ له ميزة فضل، ومضاعفة. 6 - أنَّ العمل الصالح يفضل، ويضاعف بفضل زمانه، ومكانه. 7 - قال الشيخ: إذا دخل المدينة فإنَّه يأتي مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلاَّ إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين، والمشروع بالنص والإجماع هو قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه. 8 - قال الشيخ: ويسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مستقبل الحجرة مستدبرة القبلة، عند أكثر العلماء، ويسلم على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ولا يدعو مستقبل الحجرة، فإنَّه منهي عنه باتفاق الأئمة، ويكره رفع الصوت عند حجرته -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه في التوقير والحرمة كحياته. 9 - قال ابن القيم: الاعتمار في أشهر الحج أفضل من سائر السنة بلا شك، سوى رمضان، فإنَّ الله لم يكن ليختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ أولى الأوقات، وأحقها بها، فكانت عُمره -صلى الله عليه وسلم- في أشهر الحج، فهذه الأشهر قد خصَّصها بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل المضاعفة خاصة بالصلاة، أو يلحق بهما بقية الأعمال الصالحة؟ والصحيح العموم. واختلفوا في المضاعفة هل هي مقصورة على المسجد الحرام أو تشمل عموم الحرم؟ والصحيح شمولها لعموم الحرم.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار 657 - عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلاً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أُحصر رسول الله: يقال: حصره يحصره حصرًا، من بابي ضرب ونصر، حبسه وضيق عليه، والمعنى أنَّ قريشًا منعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أداء عمرته يوم الحديبية، فصالحهم على أن يرجع عنهم ذلك العام، ويعود من قابل. - هَدْيه: الهدي بفتح الهاء وسكون الدال، اسم لما يهدى إلى الكعبة المشرفة عبادةً لله ونفعًا لمساكين الحرم. قال ابن عباس: إنَّها كانت سبعين بدنة، كان فيها جمل لأبي جهل، في رأسه برة من فضة، أصيب مع غنائم بدر، فجيء به من الهدي ليغيظ به المشركين. - قابلاً: القابل خلاف الدابر، والمراد هنا السنة المقبلة، وقد اعتمر عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة. ¬

_ (¬1) البخاري (1809).

* مايؤخذ من الحديث: 1 - كان حصره -صلى الله عليه وسلم- في عمرة الحديبية، سنة ست من الهجرة، حينما صدَّه المشركون عن دخول مكة، فحلق -صلى الله عليه وسلم- رأسه، ونحر هديه، ثم اعتمر عمرة القضاء في السنة التي بعدها. 2 - ما بين عمرة الحديبية، وعمرة القضاء لم يُمنع عليه شيء من محظورات الإحرام؛ لأنَّه حلَّ التحلل الكامل. 3 - قال الفقهاء: كان أخطأ الناس فوقفوا في الثامن، أو العاشر، أجزأهم ذلك إجماعًا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج يوم يحج الناس". وإذا وقفوا في الثامن، وعلموا قبل فوات الوقت، وجب الوقوف في الوقت. 4 - قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أنَّها نزلت في حَصْر الحديبية. وفي الصحيح: أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال في صلح الحديبية: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا"، ولأنَّ الحاجة داعية إلى الحل، لما في تركه من المشقة العظيمة وهي منتفية شرعًا. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الإحصار بالعدو يبيح التحلل. 5 - إذا اشترط المحرم في ابتداء إحرامه، فقال: إنَّ محلِّي حيث حبستني، فحبسس، فله التحلل مجانًا في الجميع، فلا هدي ولا قضاء، سواء كان حصر بمرضٍ، أو عدوٍ، أو ضياع نفقةٍ، أو غير ذلك، وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمدَ -رحمهما الله تعالى-. 6 - قال ابن القيم: لا يلزم المحصر هديٌ ولا قضاءٌ؛ لعدم أمر الشارع به، ومعنى قضية الصلح الذي وقع في الحديبية، وقد أحصروا عام الحديبية، ولم يعتمر منهم معه في عمرة القضاء إلا البعض، فعُلِم أنَّها لم تكن قضاء،

ولم ينقل أنَّه أمر الباقين بالقضاء، وفارق الفوات، لأنَّه مفرط بخلاف المحصر. 7 - قال في الشرح الكبير: في وجوب القضاء روايتان: إحداهما: تجب، سواء كان الفائت واجبًا، أو تطوعًا، وهي المذهب، وهو قول الأئمة الثلاثة عدا مالك، لما روى الدارقطني من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من فاته عرفات فقد فاته الحج، فليتحلل بعمرة، وعليه القضاء" فهو بعمومه شمامل للفرض والنفل. الرواية الثانية: لا قضاء عليه إن كان نفلاً، وأما الفرض فهو عليه بالوجوب الأول، وهو مذهب المالكية. 8 - هل يلزم من فاته الحج دم، أم لا؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد يلزمه صححه في المغني والشرح الكبير. قال في الإنصاف: وهو المذهب. والرواية الأخرى: لا يلزمه، ورجحها جماعة من المحققين. * خلاف العلماء: اختلف العلماء بماذا يكون الحصر؟ والصحيح أنَّ كل مانع من إكمال النسك وكل حصر وجد، من عدوٍّ، أو مرضٍ، أو ضياع نفقةٍ، أو غير ذلك، فهو حصر؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. واختلف العلماء في وجوب الهدي على المحصر، فذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، فإن لم يجد صام عشرة أيام، بنية التحلل، والصحيح عدم وجوبه وهو مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، فإنَّه لم يكن مع كل المحصرين الذين كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- هدي، ولم يأمرهم، ولم يوجبه عليهم بل أمرهم بالتحلل مطلقًا. واختلف العلماء في وجوب القضاء وعدمه، والراجح عدم وجوبه، ذلك أن الذين كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضاء، أقل من الذين كانوا معه في عمرة الحديبية، فهو لم يأمرهم بالقضاء.

658 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- على ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبيَرِ ابْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي ارِيْدُ الحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي: أنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ضُباعة: بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة التحتية، ابنة عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهي بنت الزبير بن عبد المطلب، تزوَّجها المقداد بن الأسود، فولدت له عبد الله وكريمة. - شاكية: شكا العلة يشكو شكاية وشكيًا: ذكرها وأخبر بها، فهو شاكٍ، وهي شاكية. - اشترطي: يقال: شرط يشرط شرطًا من بابي ضرب ونصر، والشرط: الإلزام بشيء، فالاشتراط هو أنَّ من أراد الإحرام اشترط على ربه، متى صده عدو عن البيت، أو حبسه حابس من مرضٍ، أو ضياعٍ أو ذهاب نفقة، فإنه يحل من إحرامه بلا هديٍ، ولا صيامٍ، ولا قضاءٍ، وأنَّ له على ربه ما اشترط. - مَحِلِّي: بفتح الميم وكسر الحاء، مأخوذ من حل، إذا خرج من الإحرام، أي محل خروجي من الإحرام بالحج أو العمرة في زمانه، أو مكانه. - حيث حبَسْتَني: أي في المكان والزمان الذي يحصل لي فيه الحبس، هو مكان وزمان حلي من إحرامي. ¬

_ (¬1) البخاري (5089)، مسلم (1207).

* خلاف العلماء: اختلف العلماء في مشروعية الاشتراط عند الإحرام. فذهب إلى استحبابه طائفة من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمد، كما نصره ابن حزم في المحلى. ودليلهم هذا الحديث الصحيح الصريح. وذهب الإمامان: أبو حنيفة ومالك إلى عدم مشروعية الاشتراط، وعدم فائدته، فلو اشترط وحصل له عذر فليس له أن يتحلل من إحرامه، فقد كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: "أليس حسبكم سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-". ذلك أنَّ الاشتراط لم يكن معروفًا عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن صحابته، عدا قضية ضباعة. ولذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى مشروعية الاشتراط للخائف خاصة، كحال ضباعة، جمعًا بين الأدلة. وهذا هو اختيار عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى- * فائدة: الاشتراط يفيد صاحبه أمرين: الأول: أنه إذا منعه عدوٌّ، أو مرضٌ، أو ذهاب نفقةٍ، ونحو ذلك فله التحلل. الثاني: أنَّه متى حلَّ لعذرٍ، فلا يجب عليه البقاء في إحرامه، ولا يلزمه قضاءٌ ولا فداءٌ. فإن اشتراطه على ربه بقوله: "فإن حبسني حابس فَمَحِلِّي حيث حبسني" إفادة الحرية المطلقة عند العذر. ***

659 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ عَمْرو الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ كُسِرَ أوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالاَ: "صَدَقَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الترمذي: هذا حديث حسن. ورواه غير واحد عن الحجاج بن الصواف، وهو ثقة حافظ عند أهل الحديث، وقد رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال ابن عبد الهادي في المحرر: وقد روي هذا الحديث عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج، وهو أصح، قاله البخاري. * مفردات الحديث: - كُسر: بالبناء للمجهول، يقال: كسر العظم يكسره -كسرًا من باب ضرب- فصله من غير نفوذ جسم فيه، فالكسر: فصل الجسم الصلب من غير نفوذ جسم فيه. - عرَج: بفتح العين والراء، أصابه شيء في رجله، هلذا ضبطه إذا لم يكن خِلْقةً، فإن كان عرجه خِلْقَةً فهو بكسر الراء. ¬

_ (¬1) أحمد (15172)، أبو داود (1862)، الترمذي (940)، النسائي (5/ 198)، ابن ماجه (3077).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ المحرم بحج أو عمرة إذا أصابه عذر منعه من إكمال نسكه: من كسرٍ، أو مرضٍ، أو حادثٍ، فإنَّه يحل من إحرامه بحصول ذلك المانع. 2 - قال ابن القيم: لو لم يأت نص بحل المحصَر بالمرض لكان القياس على المحصر بالعدو يفيده، فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه. 3 - عليه القضاء من قابل لقوله: "وعليه حجة أخرى". 4 - أمر عمر -رضي الله عنه- من فاته الحج بفوات الوقوف بعرفة أن يتحلل بالعمرة، ثم يحجٍ من قابل. لكن إن كان فرضا فهو موضع إجماع بين العلماء، وإن كان نفلاً فهو مذهب الجمهور. 5 - هل يجب عليه الهدي؟ ذهب الجمهور إلى أنَّ على من فاته الحج الهدي، والرواية الأخرى عن أحمد: لا يجب عليه الهدي؛ لأنَّه لو كان الفوات سببًا لوجوب الهدي لزم الحصر هديان، هدي للقوات، وهدي للإحصار. ***

كتاب البيوع

كتاب البيوع مقدمة لما فرغ المؤلف من بيان العبادات، التي يقصد منها الثواب الأخروي، شرع في بيان المعاملات التي يقصد منها التحصيل الدنيوي، فبعد أن جاء بالعبادات؛ لأهميتها، ثنَّى بالمعاملات؛ لأنَّها ضرورية، وأخَّر النكاح؛ لأنَّ شهوته متأخرة عن الأكل والشرب ونحوهما، وختم بالجنايات والمخاصمات؛ لأنَّ وقوع ذلك -في الغالب- إنما هو بعد الفراغ من شهوة البطن والفرج. والبيوع: جمع بيع، والبيع مصدر، والمصادر لا تجتمع، لكن جمع لملاحظة تعدد أنواعه، واختلافها. وهو لغةً: أخذ شيء وإعطاء شيء، فهو مشتق من الباع، الذي يمد إما عندما يعقد الصفقة، أو عند أخذ المعقود عليه من الثمن، أو المثمن. وهو شرعًا: مبادلةُ مالٍ بمالٍ لقصد التملك، بما يدل عليه من صيغ العقد القولية، وما يدل عليه من الفعل، وهو جائز بالأصول الأربعة. 1 - الكتاب: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. 2 - السنة: قال -صلى الله عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" [رواه البخاري (2108)، ومسلم (1532)]. 3 - وأجمع المسلمون على جوازه. 4 - ويقتضيه القياس: لأنَّ الحاجة داعية إليه، فلا يحصل الإنسان على ما

يحتاجه إذا كان بيد غيره -غالبًا- إلاَّ بطريقه. * الصيغة: الصيغة التي ينعقد بها البيع هي الإيجاب المصادر من البائع، كقوله: بعتكه بكذا، والقبول المصادر من المشتري، كقوله: قبلتُ ونحوه. وأجاز الحنابلة عقده بالصيغة الفعلية وتسمى "المعاطاة" وذلك بأن لا يصدر من العاقدين إيجاب وقبول، بل يضمع المشتري الثمن، ويأخذ المثمن، أو لا تصدر إلاَّ من واحد منهما، فحينئذٍ تقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول؛ للدلالة على الرضا، ولعدم التعبد بألفاظه. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: إنه ينعقد بكل قول أو فعل عده الناس بيعًا، لأنَّ الله لم يتعبدنا بألفاظ معيَّنة، وإنما القصد الدلالة على معناه، فبأي لفظٍ دلَّ عليه حصل المقصود. فالعقد عند كل قوم يتم بما يفهمونه بينهم من الصيغ، وليس لذلك حدٌّ مستمرٌ، لا في شرعٍ ولا في لغةٍ، بل بتنوع اصطلاح الناس، كما في تنوع لغاتهم، وهذه القاعدة تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها القلوب. وهي الغالب على أصول مالك وأحمد. والأصل: في المعاملات والعادات الحل والإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. فمن حرم شيئًا من ذلك فعليه الدليل؛ لأنَّه على خلاف الأصل، وبهذا يعلم سماحة الشريعة، وسعتها، ومرونتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات أحوال البشر، ومصالح الناس، والعدل بينهم. أما المعاملات والعقود المحرَّمة: فترجع إلى ظلم الطرفين، أو أحدهما، وذلك راجع إلى قواعد ثلاث هي: 1 - قاعدة الربا.

2 - قاعدة الغرر والجهالة. 3 - قاعدة الخداع والتغرير. فهي أساس المعاملات المحرَّمة، ويدخل تحتها من الصور والجزئيات الشيء الكثير، من العقود والأحكام التي يحرمها الإسلام، وقد فصَّلت الشريعة أحكام المعاملات والأحوال الشخصية، والجنايات والعقوبات، مما يدل على أنَّ الإسلام دين ودولة، فكما أنَّه يُعنى فيما بين العبد وبين ربه من عبادات، كذلك ينظم أعماله وتصرفاته في أعمال الحياة الدنيا. فالإسلام لم يدع شيئاً مما يصلح أحوال هذا المجتمع إلاَّ نظَّمه أحسن نظام: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة]. * شروط البيع، وما نهي عنه: الشروط: مفرده شرط، وهو ما يلزم من عدمه العلم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. البيع: عقد من العقود التي لا تصح إلاَّ بوجود شروطها، وانتفاء موانعها، وبدون ذلك فلا يصح أن يكون محل عقد. ونلخص الشروط التي اعتبرها الفقهاء شروطًا لصحة البيع بالاستقراء والتتبع، نلخصها بهذه الفقرات: 1 - الرضا من المتعاقدين: فلا يصح من مكرَه بغير حق. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: الرضا أصل ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو مقتضى العدل والإنصاف. 2 - أهلية العاقد: وهو البائع والمشتري، بأن يكون جائز التصرف، وهو المكلف الرشيد. 3 - أن يكون المعقود عليه: أو على منفعته، من ثمن أو مثمن مباح النفع. 4 - أن يكون العاقد: مالكًا للمعقود عليه، أو مأذونًا له في العقد عليه.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وهذه قاعدة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. 5 - أن يكون المعقود عليه مقدورًا على تسليمه. 6 - أن يكون المبيع والثمن، معلومين للبائع والمشتري، فلا يصح على مجهول. أما ما نهي عنه من البيع فهو إما يرجع إلى الجهالة، أو إلى الغرر، أو إلى الربا بأنواعه، وستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى. * قرار المجمع الفقهي بشأن حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه، إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة، في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار مارس 1990 م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة". ونظرًا إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود، لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات، وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب، وبالكتابة، وبالإشارة، وبالرسول، وما تقرر من أنَّ التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس عدا الوصية، والإيصاء، والوكالة، وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول، بحسب العرف.

قرَّر: 1 - إذا تمَّ التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة، أو الرسالة، أو السفارة "الرسول"، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس، وشاشات الحاسب الآلي "الكمبيوتر"، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله. 2 - إذا تمَّ التعاقد بين طرفين في وقت واحد، وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإنَّ التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين حاضرين، وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء، المشار إليها في الديباجة. 3 - إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابًا محدد المدة، يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه. 4 - أنَّ القواعد السابقة لا تشمل النكاح؛ لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف؛ لاشتراط التقابض، ولا السلم؛ لاشتراط تعجيل رأس المال. 5 - ما يتعلَّق باحتمال التزييف، أو التزوير، أو الغلط، يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات. * قرار المجمع الفقهي بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ الموافق 6 - 11

فبراير 1988 م. بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتزاع الملك للمصلحة العامة". وفي ضوء: ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأنَّ حفظ المال أحد الضروريات الخمس، التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية، وعمل الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، وتطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح، وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة، وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرَّر ما يلي: أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها، أو الحد منها، وللمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه، وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلاَّ بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1 - أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري. عادل، يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. 2 - أن يكون نازعه ولي الأمر، أو نائبه في ذلك المجال. 3 - أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة، أو حاجة عامة، تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4 - أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو

الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض، والغصوب التي نهى الله تعالى عنها، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. على أنَّه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل. والله أعلم. ***

باب شروطه وما نهي عنه

باب شروطه وما نُهِي عَنْهُ 660 - عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أَيُّ الكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِه، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ" رَوَاهُ البَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بتعدد طرقه. قال المؤلف: رواه البزار وصححه الحاكم. قال في التلخيص: رواه الحاكم والطبراني، ورجح البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي إرساله عن سعيد بن عمير. وفي الباب عن علي وابن عمر ذكرهما ابن أبي حاتم، وأخرج الطبراني في الأوسط حديث ابن عمر، ورجاله لا بأس بهم. قال في بلوغ الأماني: رواه الإمام أحمد وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير، ورواه البيهقي مرسلاً، وقال: هذا هو المحفوظ والله أعلم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد أن ذكر له عدَّة طرق، فقال عن طريق الطبراني: رجاله ثقات، وقال عن طريق أحمد: رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - الكسب: كسب يتعدى بنفسه، وبالهمزة إلى مفعول ثان، فيقال: أكسبت زيدًا ¬

_ (¬1) البزار (2/ 83)، الحاكم (2/ 10).

مالاً: أي أنلته، والكسب طلب الرزق، وإصابته بتصرف وجهد. - أطيب: أي أفضل عملاً، وأكثر بركةً، وأحلَّ أكلاً. - بيع: باعه يبيعه بيعًا، فهو بائع، والشيء مبيع ومبيوع، وهو بائع العين، وهو من الأضداد مثل الشراء، فيطلق على كلٍّ من المتعاقدين بائع. قال ابن قتيبة: بعت الشيء بمعنى ابتعه، وبمعنى اشتريته، وشريت الشيء بمعنى بعته، ولكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلا الذهن أنَّه باذل السلعة، والبيع اسم مصدر، والجمع بيوع، والمصدر لا يجمع، ولكنه جُمعَ نظرًا إلم اختلاف أنواعه، وتفسيره لغةً: مطلق المبادلة. وتعريفه شرعًا: هو مبادلة المال بالمال على سبيل التراضي. - مبرور: يقال: برَّ يبر برًّا، فالبار هو الصادق الصالح، وضد العاق، جمعه أبرار وبررة، فالبيع المبرور هو الذي لم يخالطه شيء من المأثم، كالكذب، والخداع، واليمين الكاذبة، ونحو ذلك. قال ابن القيم: "البر" كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلتها كلمة "الإثم" الجامعة لأنواع الشر، ورديء العيوب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث دليل على ما في الإسلام من حثٍّ؛ على الحركة والعمل، وطلب المكاسب الطيبة، وأنَّه دين ودولة، فكما يأمر العبد بالقيام بحق الله تعالى عليه، يأمره أيضًا بطلب الرزق والسعي في الأرض؛ لعمارتها واستثمارها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. 2 - يدل على أنَّ أفضل المكاسب عمل الرجل بيده، فقد جاء في صحيح البخاري (2072) أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرٌ مِنْ أن يأكل من عمل يده".

3 - يدل على أنَّ التجارة من أطيب المكاسب، إذا سلمت من العقود المحرَّمة، كالربا، والغرر، والخداع، والتدليس، ونحو ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. 4 - يدل الحديث على أنَّ البر كما يكون في العبادات، يكونُ أيضًا في المعاملات، فإذا نصَحَ المسلم في بيعه، وشرائه، وصناعته، وعمله، وحرفته، فإنَّ عمله هذا من البر والإحسان، الذي يثاب عليه في الدنيا والآخرة. 5 - يدل على أنَّ أي عمل يقوم به المسلم ليعف به نفسه، ويستغني به عمَّا في أيدي النَّاس أنَّه من المكاسب الطيبة، وكل إنسانٍ مهيَّىء لِمَا يناسبه من الأعمال، والحرف، والصناعات. 6 - عدم تخصيص الشارع وتعيينه عملاً بعينه، دليل على قصد تنفيذ الإرادة الكونية في عمَارة هذا الكون، وذلك بأن يقوم كل إنسان، وكل طائفة بالعمل الذي لا تقوم به الطائفة الأخرى، فالله تبارك وتعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه]. 7 - الرجل في الحديث ليس مقصودًا، وإنما سيق مساق الغالب، فإنَّ الرجال غالبًا هم أصحاب الكسب والإنفاق. 8 - البيع المبرور هو الذي يعقد على مقتضى الشرع، باجتماع شروطه وأركانه ومتمماته، وانتفاء موانعه ومفسداته، فتجتمع فيه الشروط المتقدمة، وتنتفي عنه موانعه، من الغرر، والجهالة، والمقامرة، والمخاطرة، وعقود الربا، والغش والتدليس، وإخفاء العيوب. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في تعيين أطيب المكاسب وأحسنها. فقال الماوردي: أطيبها الزراعة، لأنَّها أقرب إلى التوكل. وقال النووي: أطيب المكاسب عمل الإنسان بيده، فإن كان زراعة فهو

أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب والطير. وقال الحافظ ابن حجر: أفضل المكاسب من أموال الكفار بالجهاد، فهو مكسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اختلف العلماء أي المكاسب الدنيوية أولى، فمنهم من فضَّل الزراعة، ومنهم من فضَّل التجارة، ومنهم من فضَّل العمل باليد من الصنائع والحِرف. وأحسن ما يقال في هذا الباب: أنَّ الأفضل لكل أحد ما يناسب حاله، ولابدَّ في جميع المكاسب من النصح وعدم الغش، والقيام بالواجب من جميع الوجوه. قال ابن مفلح في "الأداب الشرعية" ما خلاصته: يسن التكسب حتى مع الكفاية، كما يباح كسب الحلال لزيادة المال والجاه، والترفه، والتنعم، والتوسعة على العيال، مع سلامة الدين، والعرض، والمروءة، وبراءة الذمة. ويجب ذلك على من لا قوت له، ولمن تلزمه نفقته، ويقدم الكسب العياله لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته" [رواه مسلم (996)]. قال القاضي: الكسب الذي لا يقصد به التكاثر، وإنما يقصد به التوسل إلى طاعة الله، من صلة الإخوان، أو التعفف عن وجوه الناس، فهو أفضل لما فيه من منفعة غيره ومنفعة نفسه، وهو أفضل من التفرغ لنوافل العبادات، لما فيه من منافع الناس، وخيرُ الناس أنفعهم للناس. * فائدة: قال الخطابي: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه؛ لحديث: "دع ما يريبك

إلى ما لا يريبك" [رواه أحمد (1630)]. وقال الغزالي: ورع الصديقين: ترك ما يتناول لغير نية القوة على العبادة، وورع المتقين: ترك ما لا شبهة فيه خشية أن يجرَّ إلى الحرام. وورع الصالحين: ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين. قال ابن تيمية: الفرق بين الزهد والورع، أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخاف ضرره في الآخرة. قال ابن القيم: إنَّ هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها. وقال ابن القيم أيضًا: التحقيق أنَّ النعم إن شغلته عن الله، فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن ذكر الله بل كان شاكرًا فيها، فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها. * قرار المجمع الفقهي بشأن حكم الحقوق المعنوية: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت، من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ، 10 إلى 15 كانون الأول ديسمبر 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء، في موضوع الحقوق المعنوية، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرَّر: أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف،

والاختراع، أو الابتكار، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة؛ لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا، فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري، أو العنوان التجاري، أو العلامة التجارية، ونقل أي منها بعوض مالي، إذا انتفى الغرر، والتدليس، والغش، باعتبار أنَّ ذلك أصبح حقًّا ماليًّا. ثالثًا: حقوق التأليف، والاختراع، أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. ***

661 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ عَامَ الفَتْحِ، وَهُوَ بمَكَّةَ: "إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حرَّمَ بيَعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ، وَالخِنْزِيرِ، وَالأَصْنامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟، فَقَالَ: لاَ، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّم عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ باعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنه" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عام الفتح: يعني فتح مكة المكرمة، في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة. - حرَّم: قال في فتح الباري: هكذا في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد، وفي بعض طرقه "إنَّ الله حرَّم" وفي وجه: "إنَّ الله ورسوله حرَّما" والتحقيق جواز الإفراد، إشارةً إلى أنَّ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ناشىءٌ عن أمر الله، وهو نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فالجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها. - لا، هو حرام: "لا" ناهية، وبعدها فعل محذوف مجزوم، والتقدير: لا تبيعوها، فإنَّ بيعها حرام، وما حَرُمَ بيعه حَرُمَ الانتفاع به. - الخمر: مادة خمر تدل على الستر والتغطية، ومنه خِمار المرأة الساتر لرأسها ¬

_ (¬1) البخاري (2236)، مسلم (1581).

ووجهها، وتخمير الأواني: تغطيتها، ومن هنا أخذ معنى الخمر للمادة المسكرة، لأنَّها تغطي العقل، وكل ما أسكر فهو خمر من أي نوع من عنب أو تمرٍ، أو شعيرٍ، وهذه المشروبات المستحدثة. - الميتة: ما مات حتف أنفه، أو ذكي ذكاة غير شرعية. - الخنزير: الخنزير حيوان خبيث قذر من الفصيلة الخنزيرية، جمعه خنازير. - الأصنام: ما ينحت من حجارة، أو يصنع من حديد، أو طين، أو خشب، أو أي مادة كانت، لتُعبد من دون الله تعالى، وقد يكون الصنم على صورة إنسان، وقد يكون على صورة حيوان، كعجل بني إسرائيل، أو صورة شيطان يتخيلونه. - أرأيتَ: بمعنى أخبرنا. - تُطْلَى بِهَا السفن: طلا يطليه طليًا: لطخه، والطلاء: القطران وكل ما يطلى به، فطلاء السفن أن تدهن حتى يَزُول عنها الماء، فلا يفسدها. - السُّفن: بضمتين جمع سفينة يقال: سفن الشيء يسفنه سفنًا قشره، السفينة، المركب البحري سميت بذلك؛ لقشرها وجه الماء. - ويستصْبِح بها الناس: استصبح الرجل إذا أوقد المصباح واستضاء به، فالاستصباح: الاستضاءة. - فقال: لا، هو حرام: قيل: الضمير يرجع إلى الانتفاع المفهوم من قوله: "فإنَّها تطلى بها السفن ... " إلخ، ولكن الراجح أنَّ الضمير يرجع إلى البيع؛ لأنَّ السائل إنَّما سأل عنه، ولأنَّ الكلام مسوق له ويؤيده قوله: "ثم باعوه". - قاتل الله اليهود: يقال قتله يقتله قتلاً: أزهق روحه وأماته، قال أهل اللغة: قاتله الله لعنه وعاداه، ولعن الله اليهود لاستعمالهم الحيل. - جملوه: بفتح الجيم والميم، أذابوا الشحم المحرَّم عليهم أكله، يقال: جمل الشحم يجمله، من باب نصر، ومنه الجميل، الشحم المذاب، ثم باعوه

ليحتالوا على الانتفاع بالشحوم، والضمير في "جملوه" راجع إلى الشحوم على تأويل المذكور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاءت هدذه الشريعة الإسلامية المحمَّدية بكل ما فيه صلاح البشر، وحذَّرت من كل ما فيه مضرة تعود على الأديان، والأبدان، والعقول، والأعراض، والأموال. 2 - تحريم الخمر، عمله، وبيعه، وشربه، وكل وسيلة تعين عليه، والخمر: كل ما أسكر وغطَّى العقل من أي نوع يكون، سواء كان سائلاً أو جامدًا. 3 - إذا كان الخمر حرامًا تناوله، وبيعه، وترويجه، فما كان أشد منه مفسدة وضررًا أشد حرمة، وأكبر إثمًا وهي المخدرات: التي أفسدت الأخلاق، وأضعفت العقول، وأذهبت الأموال، وأضاعت الأديان، وهدمت الصحة. 4 - تحريم أكل الميتة، والانتفاع بها: بلحمها، أو شحمها، أو دمها، أو عصبها، وكل ما تسير إليه الحياة من أجزائها، وحرمت لقذراتها ونجاستها، ومضرتها على الأبدان والصحة. 5 - استثنى جمهور العلماء من الميتة: الشعر، والوبر، والصوف، والريش، إذا لم تتبعها أصولها؛ لأنَّه ليس لها صلة بمادة الميتة، فلا يكتسب من خبثها ونجاستها؛ فهذه الأشياء لا تحلها الحياة، فلا يصدق عليها اسم الميتة وتقدم في باب الآنية الكلام على جلد الميتة، وخلاف العلماء فيه. 6 - تحريم الخنزير أكله وبيعه وملامسته، لأنَّه خبيث رجس، فضرره على الدين بالنجاسة والدياثة، وضرره على العقل بذهاب الغيرة الواجبة، وضرره على البدن بالأمراض، وكل هذه المضار حقائق صدقتها الاكتشافات العلمية. 7 - مما يلحق بالأصنام في التحريم الصور الخليعة، التي تظهر في المجلات، والصحف، والأفلام الماجنة، التي تعود على الأخلاق بالفساد، وتسبب

فتنة الشباب والشابات، لما تحركه من الغرائز الجنسية، ومن الأصنام: الصليب الذي هو شعار النصارى، ومن الأصنام، تماثيل الزعماء التي تنصب بالميادين والشوارع العامة، ففيها فتنة وغلو، يجر إلى الشرك بالله تعالى. 8 - أنَّ المحرمات المعدودة في الحديث ما هي إلاَّ نماذج لأنواع الخبائث التي يعود ضررها على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعِرض، والعقل، والمال. ولتحريمها حِكمٌ وعللٌ، فَعِلَّةُ تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير: النجاسة، فتتعدى إلى كل نجاسة، والعلة في منع بيع الأصنام، البعد عن طاعة الله، فكل ما ألهى وشغل عن طاعة الله فهو حرام، ومن لك التماثيل والصور المجسمة، وآلات اللهو والطرب. 9 - جواز استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى، فقد أقرَّهم -صلى الله عليه وسلم- على دهن الجلود، وطلي السفن بها، فإنَّ الضمير في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا، هو حرام" راجع إلى البيع. قال ابن القيم في الهدي: ينبغي أن يعلم أنَّ باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، إذ لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع. أما ابن حجر في فتح الباري فقال: قوله: "لا هو حرام" حمله الجمهور على الانتفاع، فقالوا يحرم الانتفاع بالميتة إلاَّ ما خصه الدليل، وهو الجلد المدبوغ. كما أنَّه المشهور من مذهب أحمد. قال في شرح الاقناع "ولا يصح بيع الأدهان النجسة العين، من شحوم الميتة وغيرها، ولا يحل الانتفاع بها، استصباحًا ولا غيره، لحديث جابر". 10 - أنَّ التحايل على محارم الله هو عمل اليهود فقد صب عليهم غضبه ولعنته، فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13] 11 - تحريم الحِيَل على استحلال المحرمات، أو ترك الواجبات، وأنَّها لا تغير حقائق الأشياء، ولو سميت بغير أسمائها، أو غيرت بعض صفاتها. 12 - تحذير هذه الأمة مما أقدم عليه اليهود من فعل المحارم بالحيل، لئلا يُصبها ما أصابهم من غضب الله، ولعنته، وأليم عقابه. قال الخطابي: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرَّم، فإنَّه لا يتغيَّر حكمه بتغير هيئته، وتبديل اسمه. 13 - قال ابن القيم: لعن الله اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، وأيضًا فإنَّ اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنَّها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك. وقال في معالم السنن: الوسيلة إلى الحرام حرام في الكتاب والسنة والفطرة والمعقول، فإنَّ الله سبحانه مسَخَ اليهود قِردة وخنازير، لما توسلوا إلى البيع الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، فإنَّ الطريق متي أفضت إلى الحرام، فإنَّ الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً لأنَّ إباحتها وتحريم الغاية جمع بين متناقضين، فلا نتصور أن يباح شيء ويحرم ما يُفضي إليه، بل لابد من تحريمها، أو إباحتها، والثاني: باطل قطعًا، ويتعيَّن الأول. 14 - يدل الحديث على القاعدة المشهورة: "إذا رجحت المفسدة على المصلحة فالمقدم هو درء المفسدة" فإنَّ المصلحة بشحوم الميتة ألغيت؛ نظرًا إلى مفسدة الانتفاع بالميتة. ***

662 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبايِعَانِ، وَلَيسَ بَيْنَهُمَا بيِّنَةٌ، فَالقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلعَةِ، أوْ يَتَتَارَكَانِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف ولكن تقوى بطرقه. فقد أخرجه أحمد، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، وصححه ابن السكن والحاكم، ورواه الشافعي منقطعًا بين عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وبين عبد الله بن مسعود، لكن جاء موصولاً، فرواه محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده مرفوعًا. قال الألباني: الحديث قوي بمجموع طرقه. * مفردات الحديث: - بيِّنة: يقال: بأن يبين بيانًا وتبيانًا؛ اتَّضح وظهر، فالبينة ما أبان الحق وأظهره، من قرار وشهود وغيرهما. - رب السلعة: أي صاحبها، والمراد به البائع. - السلعة: بكسر السين المهملة وسكون اللام، هي البضاعة والمتاع الذي يتجر به، جمعها سلع. - يتتاركان: يتفق البائع والمشتري على فسخ البيع. ¬

_ (¬1) أبو داود (3511)، النسائي (7/ 302)، الترمذي (1270)، ابن ماجه (2186)، أحمد (1/ 466).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّه إذا حصل خلاف بين البائع والمشتري، وليس لدى أحدهما بيِّنة، فإنَّ القول هو قول البائع، مع يمينه. فإنَّ القاعدة الشرعية: أنَّ من كان القول قوله فعليه اليمين. 2 - يطبق في هذا ما رواه البيهقي، وبعضه في الصحيحين، من حديث أنس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيِّنة على المدعي واليمين على من المنكر" وعند هذا الحديث جمع شيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- خلاف البائع والمشتري في صور، هذه خلاصتها: 1 - إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، ولا بينة، تحالفا، وصفة التحالف أن يحلف البائع ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ثم لكل منهما فسخ البيع. 2 - إذا اختلفا في صفة الثمن أخذ نقد البلد، إن وافق قول أحدهما. 3 - إذا اختلفا في عين المبيع أو قدره يتحالفان، ويفسخ العقد. 4 - إذا اختلفا في شرطٍ، أو رهنٍ، أو ضمينٍ، فقول من ينفيه؛ لأنَّ الأصل عدمه. 5 - إذا دعا أحدهما فساد العقد، وادَّعى الآخر صحته، فالأصل سلامة العقد، والقول قول مدعي الصحة، وعلى المدعي البيِّنة. 6 - إذا بيع بصفةٍ أو رُؤيةٍ سابقة فادَّعى المشتري تغير الصفة، وأنكر البائع، فالقول قول المشتري، لأنَّ الأصل عدم لزوم الثمن على المشتري. 7 - إذا اختلفا عند من حدث العيب مع الاحتمال، فالقول قول البائع على الصحيح، وعلى هذا القول عمل الناس. ***

663 - وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الكلب: بفتح فسكون، حيوان معروف، والأنثى كلبة، والجمع كلاب، والكلب مشهور بشدة الرياضة والوفاء. قال علماء الأحياء: الكلب حيوان أهلي من الفصيلة الكلبية ورتبة اللواحم، ومنه سلالات كثيرة. - مهر البغي: المهر هو العوض الذي يقدم في النكاح، ويسمى ما يدفع للزانية تجوزًا؛ لكونه على صورته. - البَغي: بفتح الموحدة وكسرة الغين وتشديد الياء، هي الزانية، أصله بغوي على وزن فعيل بمعنى فاعله، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فصار بغُي، ضم الغين، فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء، وتجمع البغي على بغايا. فالبغاء: بكسر الباء ممدودًا هو الطلب، وكثُر استعماله في الزنا، فيقال: بغت المرأة تبغي بغاء: إذا زنت، فهي بغي فعولٌ بمعنما فاعلة، نسأل الله العافية. - حُلْوَان الكاهن: بضم الحاء المهملة مصدر حلوته حلوانًا إذا أعطيته، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلاً بلا مشقة، فهو ما يأخذه الكاهن على ¬

_ (¬1) البخاري (2237)، مسلم (1567).

كهانته، أما الكاهن فهو الذي يدعي علم الغيب، وهو شامل للعرَّاف، والمنجِّم، وضرَّاب الحصى، وقاريء الكف، وغيرهم من الدجالين والمشعوذين. قال ابن الأثير: الكاهن الذي يخبر بالغيب المستقبل، والعرَّاف الذي يخبر بما خفي، فبعضهم زعم: أنَّ له تابعًا من الجن يلقي إليه الأخبار، وبعضهم يزعم: أنَّه: يعرف الأمور بمقدمات وأسباب، يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله، أو فعله، أو حاله، ومنهم من يدَّعي أنه يستدرك الأمور بفهمٍ أُعطيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] فهو تبارك وتعالى أحلَّ الطيبات وحرَّم الخبائث، فالمكاسِب الخبيثة حرَّمها، فكان مما حرَّم ما جاء في هذا الحديث الشريف. 2 - الكلب أنجس الحيوانات وأقذرها، فنجاسته لا يطهِّرها إلاَّ التراب، مع تكرير الغسل سبعًا، فنهى عن اقتنائه، وبيعه، واتخاذه، ما لم تشتد الحاجة إليه، لحراسة الغنم، أو الزرع، أو يتَّخذ للصيد فيباح اقتناؤه، أما النَّهي عن ثمنه فهو يحتمل أحد أمرين: أحدهما: أنَّ النَّهي عن ثمنه؛ لأنَّه حرام، وهذا يقول به من يرى بطلان بيعه، وتحريم ثمنه، وهم جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، سواء جاز اقتناؤه، أو لا. أما الإمام أبو حنيفة فيرى صحة بيعه، وإباحة ثمنه، والنَّهي عنه إنَّما هو لدناءته، لا لتحريمه، والراجح هو القول الأول. 3 - سيأتي في حديث أبي الزبير عند مسلم زيادة للنسائي "إلاَّ كلب صيد" وبعض العلماء قيد إطلاق الحديث بها، والجمهور اعتبروها شاذةً وأخذوا بعموم الحديث.

4 - الزنا من أعظم المعاصي، وأفحش المنكرات، فما يؤخذ عليه من أجرٍ فهو خبيث حرام، سواء كانت الزانية حرةً، أو أمةً. 5 - ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به ذنب عظيم، وإثم كبير، وذلك بمثل ما يدعيه الكهان، والعرَّافون، والمنجمون، وأصحاب الشعوذة من أنَّهم يعلمون المغيبات، من الأمور المستقبلة، والأشياء الخفية، لاسيما إذا جعلت هذه الدعاوي الباطلة وسيلة لسلب أموال الناس بالباطل. 6 - أنَّ ما يندر من صدق هدذه الدعوى الغيبية لا تكون إلاَّ بإخبار الشياطين لهم، والشياطين لا يخبرونهم إلاَّ إذا خدموهم وأطاعوهم بالكفر بالله تعالى، وما دونه من المعاصي، كما قال تعالى عنهم: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا} [الأنعام: 128]. 7 - الإتيان إلى هؤلاء الدجالين معصية قد تصل إلى الكفر عند تصديقهم بما يقولون، ففي الحديث "من أتى عرَّافًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمَّد" [رواه أحمد (9171)]. 8 - فالحديث ينهى عن الأمور التي تمس الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، فيكون النَّهي فيها أشد، وعنها آكد، والنَّهي يقتضي التحريم. 9 - الإسلام دين صدق فلا يقر الدجالين والمشعوذين، ودين طهارة ونزاهة فلا يرضى كسب المال بالطرق الوسخة والفاحشة المنكرة، ودين جِد فلا يرضى أخذ أموال الناس إلاَّ بطرقٍ نافعةٍ يستفيد منها الطرفان، أما المنَافع المحرَّمة فلا يعترف بها، ولا يجعل لها ثمنًا، ولا وزنًا. 10 - إذا كانت هذه الأمور منكرة فالعقود التي توصل إليها محرَّمة باطلة، وما ترتب عليها من كسب فهو حرام، فنهي الشارع يقتضي التحريم والفساد. 11 - جاء في بعض روايات الحديث: "وثمن الدم"، والدم المسفوح، ومنه

المسحوب من بدن الصحيح للمريض، فبيعه حرام، ولكن إذا اضطر إليه للمريض، أو للعمليات، فدفع العوض فيه جائز من أجل الضرورة، والإثم إنما هو على الآخذ، وليس على الباذل للعوض لحاجةٍ أو ضرورة إثمٌ، وقد أصدر في هذا مجلس كبار العلماء قرارًا، ذكروا فيه هذا التفصيل في حكمه. ***

664 - وَعَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أعْيَا، فَأَرَادَ أنْ يُسَيِّبهُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَدَعَا لِي وَضَرَبةُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَال: بِعْنيهِ بِأُوْقِيَّةٍ؟ قُلْتُ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ بأُوْقِيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلاَنَهُ إلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بلَغْتُ أتيْتُهُ بِالجَمَل، فَنَقَدَنِي ثَمَنهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أثَرِي، فَقَال: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ، لآخذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ لِمسُلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جمل: قال الفراء: الجمل زوج الناقة، ويجمع على جِمال وأجمال وجمالات. - أعيا: بفتح الهمزة وسكون العين، أي كلَّ وعجز عن السير والذهاب إلى مقصده، يقال: أعيى فهو معي، وأعياه الله كلاهما بالهمزة، لازمًا ومتعديًا، ولا يقال: عياء. - أن يسيِّبه: بضم الياء وفتح السين وتشديد الياء، من باب التفعيل، أي أراد أن يتركه رغبة عنه، فيطلقه ليذهب حيث شاء. - أُوقيَّة: بضم الهمزة وكسر القاف وتشديد الياء، وجاء في رواية البخاري "وقية" بدون الهمزة، قال العيني: وليست بلُغَةٍ عالية. والأوقية: أربعون درهمًا إسلاميًّا، والدرهم نصف مثقال وخُمُس مثقال، والمثقال أربعة غرامات ورُبع غرام. ¬

_ (¬1) البخاري (2861)، مسلم (3/ 1221).

- قُلتُ لا: قال العيني: ثبت أنَّ جابرًا قال: لا أبيع، بل أهبه لك. - حُملانه: بضم الحاء المهملة، أي أشترط أن يكون لي حق الحمل عليه إلى المدينة. - نقدني ثمنه: أعطاني الثمن نقدًا معجلاً. - أثري: بفتحتين، أو بكسر فسكون، أي بعث من يطلبني ويأتي بي إليه. - أتُراني: بضم التاء، بمعنى تظنني كلَّمتك، لأجل نقص الثمن، لأخذ جملك، والاستفهام للإنكار، أي أتظنني وتحسبني. - ماكستك: يقال: ماكسه مماكسةً: شاحَّه؛ لأجل انقاص الثمن. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - من حسن القيادة، والرفق برفقة السفر أن يكون قائدهم، وأميرهم في ساقتهم، فيكون في مؤخرة الجيش، أو القافلة، انتظارًا للعاجزين، ورفقًا بالمنقطعين. 2 - رحمة النبي ورأفته، فإنَّه لما رأى جابرًا في هذه الحال أعانه بالدعاء والضربة المباركة لجَمَله الهزيل، فسار بإذن الله تعالى سيرًا صار أمام رفقته. 3 - هذه الضربة منه -صلى الله عليه وسلم- معجزة ظاهرة ناطقة بأنَّه رسول الله حقًّا، حينما مسَّ هذا الجمل المهزول العاجز المتخلف، فيسير على أثر هذه الضربة هذا السَّير الحسن، ويلحق بالجيش. 4 - جواز البيع والشراء من الإمام لرعيته. 5 - أنَّ مماكسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيع، والامتناع من البيع عليه لأجل الزيادة في الثمن، أو عدم الرغبة في البيع، لا يعد معصية ومخالفة لأمره -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ مثل هذه الأمور ليست على وجه العبادة والإلزام، وإنما هي عقود مباحة، ترجع إلى العادات، فيكون فيها خيار الطرفين، وأيضًا في الرواية الأخرى عند الإمام أحمد (14495)، قال: "لا أبيع، بل أهبه لك".

6 - أخذ ابن رجب من هذا الحديث قاعدة عامة هي: أنَّه يجوز للإنسان نقل الملك في شيء، واستثناء نفعه المعلوم مدَّة معلومة. 7 - أن لم يكن المستثنى معلومًا فإنَّ العقد لا يصح، فإنَّ استثناء المجهول من المعلوم يصيِّر المعلوم مجهولاً، وهذا يعم الإجارة، والهبة، والوقف، والوصية. 8 - جواز عقد البيع، ولو لم يحصل قبض الثمن، ولا المبيع، ما لم يكن ذلك مما يجري فيه الربا، أو يكون رأس مال سلَمَ، أو المبيع في الذمة، فلابد من القبض في المجلس. 9 - كرم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسماحته عند البيع والشراء. 10 - تطييب خاطر أصحابه، وممازحتهم بالحق والصدق. 11 - جواز ترك الدابة رغبة عنها، إذا كان عندها ما تقتات منه. 12 - مشروعية عمل الأسباب حتى للنتائج الخارقة للعادة، التي تقع من الأنبياء والصالحين، كقصة مريم في هزها النخلة، وضرب جمل جابر ليسير سيرًا ما كان يسيره حال قوته ونشاطه. 13 - أنَّ تسليم المبيع من عُهدة البائع. 14 - جواز البيع الصوري إذا كان يتوصل بعقده على مصلحة، ولا يترتب عليه مضرة، ولا مفسدة. 15 - قوله: "فهو لك" ليس إنشاء وتمليكًا، وإنما إخبارًا عما في نفس الأمر وحقيقته. 16 - جواز أخذ الهدية إذا لم يستشرف لها الإنسان، ولم يسألها، لاسيَّما من ولاة الأمور. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل يجوز للبائع أن يشترط نفعًا معلومًا في المبيع،

كسكنى الدار المباعة شهرًا؟ وهل يجوز -أيضًا- للمشتري أن يشترط على البائع نفعًا معلومًا في المبيع، كأن يشترط عليه حمل ما اشتراه إلى موضع معين، أو خياطة الثوب المبيع، ونحو ذلك؟ ذهب الأئمة الثلاثة إلى المنع، لِما رواه أبو داود (3405) والترمذي (1290) عن جابر "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الثنيا إلاَّ أن تُعلم". وذهب الإمام أحمد إلى جواز شرطٍ واحدٍ فقط، كان جَمَع بين شرطين بطل البيع، ووافقه إسحاق، والأوزاعي، وابن المنذر. وعن الإمام أحمد رواية أخرى، أنَّ البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع أو المشتري، من منافع معلومة في المبيع والثمن، أو عائدة للمشتري لو كثرت. واختار هذه الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمهم الله تعالى-. قال شيخ الإسلام: الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز، ولا يحرم منها ويبطل إلاَّ ما دلَّ الشرع على تحريمه وإبطاله. وقال ابن القيم: كل شرط لم يخالف كتاب الله تعالى فهو لازم. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الشرطان اللذان باجتماعهما تترتب مفسدة شرعية هي مسائل العينة. وأدلة هؤلاء المحققين هي: 1 - حديث جابر الذي معنا في الباب. 2 - "نهى عن الثنيا إلاَّ أن تعلم"، وهذه شروط واستثناءات معلومة. 3 - قال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم، إلاَّ شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً"، وغير ذلك من النصوص الشرعية والاعتبارات المرعية.

665 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُل مِنَّا عَبدًا لَهُ عَنْ دُبرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَباعَهُ" مُتَّفَقٌ عَليْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عن دبر: بضم الدال المهملة وضم الباء الموحدة، هو نقيض القُبُل من كل شيء، والمراد هنا أنَّه أعتقه وعلَّق عتقه بموت السيد، فهذا يسمى مدبَّرًا، كما سيأتي إن شاء الله بيانه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التدبير هو عتق الرقيق بعد موت المعتِق، بأن يقول السيد لرقيقه: أنتَ حر بعد موتي، سمي بذلك؛ لأنَّ العتق دُبُر الحيَاة. 2 - في الحديث جواز التدبير وصحته، وهلذا حكم متَّفق عليه عند العلماء. 3 - أنَّ الرقيق المدبَّر يعتق من ثلث مال المتوفى، لا من رأس مال التركة، لأنَّ حكمه حكم الوصية؛ لأنَّ كلاً منهما لا ينفذ إلاَّ بعد الموت، وهذا مذهب جمهور العلماء. 4 - جواز بيع المدبر، فعند الإمامين: الشافعي وأحمد جواز بيعه مطلقًا عند الحاجة وعدمها لأنَّه لما جاز في سورة من صور البيع جاز في كل صوره، ولأنَّه شبيه بالوصية التي يجوز الرجوع عنها، ما دام الموصي في حال الحياة، وبعضهم قيد جواز بيع المدبر بالحاجة فقط؛ عملاً بهذا الحديث. 5 - الواجب على من ليس عنده سعة في الرزق أن يجعل ذلك لنفسه ولمن ¬

_ (¬1) البخاري (2141)، مسلم (997).

يعول، فهم أولى من نوافل الصدقات. وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول" [رواه مسلم]. أما من وسَّع الله عليه فليحرص على اغتنام الفرص، فليس له من ماله إلاَّ ما قدمه لآخراه: {مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] 6 - البداءة بالأهم في الأعمال، وتقديم الواجبات على المستحبات. 7 - كل عمل يُقدم عليه الإنسان وهو مخالف للشرع فهو باطلٌ لاغٍ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" [رواه مسلم]. فالأعمال التي ليست على وفق ما شرع الله من العبادات، وما أباح من المعاملات فهي باطلة. ***

666 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ فَأْرةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهَا، فَقَال: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوه" رَواهُ البُخَارِيُّ. وزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: "في سَمْنٍ جَامِدٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة أحمد والنسائي وتقييدها: "في سمن جامد" حكم عليها بالشذوذ الإمام البخاري وابن تيمية، وذلك لتفرد عبد الرحمن بن مهدي بها، ومخالفته لرواية الجماعة عن الإمام مالك. وفي التلخيص الحبير لابن حجر: ذكر عدَّة روايات وطرق تقوي هذه الزيادة، وتجود الحديث، وكذلك في الفتح (9/ 669) لكن رجح فيه الوقف. * مفردات الحديث: - فأرة: بفتح الفاء تُهمز ولا تُهمز، الواحدة من الفار، وتقع على الواحدة من الذكر والأنثى، وهو جنس حيوان من الفصيلة الفأرية، ورتبة القوارض. - سَمْن: بفتح السين وسكون الميم، هو سلاء الزبد، وهو ما يذاب ويخلص منه بعد إغلائه. - جامد: جمد الماء، وكل سائل يجمد جمْدًا وجُمُودًا -من بابي نصر وكرم- يبس، وضد ذاب. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5540)، أحمد (7284)، النسائي (4186).

667 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأَرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإنْ كانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوه" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ البُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِالوَهْمِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الشيخ محمَّد زكريا الكاندهلوي في شرحه على الموطأ ما خلاصته: رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ، "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... "، الحديث. قال: حكى الترمذي عن البخاري أنَّه قال في رواية معمر: هذه خطأ، وقال ابن أبي حاتم: إنَّها وَهَم، وأشار الترمذي إلى أنَّها شاذة، وقد حكم البخاري وأبو حاتم عليه بالوهم، وقالوا: إنَّ معمرًا قد غلط على الزهري لأنَّ الصحيح هو الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. * مفردات الحديث: - مائع: يقال: ماع الشيء يميع ميعًا: سال وجرى، فالمائع خلاف الجامد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديثان على نجاسة الفأرة، وأنَّها من الخبائث، فلقد جاء في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتلها، وسمَّاها فاسقة. 2 - أنَّ الفأرة إذا وقعت في سمن أو مائع، وماتت فيه نجَّست ما حولها مما وقعت فيه، فيجب إلقاؤها وإلقاء ما حولها. ¬

_ (¬1) أحمد (6880)، أبو داود (3842).

قال الحافظ: لم يأت تحديد ما يُلقى، لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء: أن يكون قدر الكف، وسنده جيد لولا أنَّه مرسل. 3 - أنَّ بقية السمن أو اللبن أو نحوهما مما ليس حولها طاهرٌ، يجوز أكله واستعماله، فلا تسري النجاسة إلى كل أجزائه. 4 - أنَّ ذكر السمن إنَّما هو واقعة عين لميمونة، وإلاَّ فالحكم عام في كل المائعات من دهنٍ، وزيتٍ، ولبنٍ، وعصيرٍ، وغير ذلك. قال الحافظ: وإلحاق غير السمن به في القياس واضح. 5 - قال الخطابي: في الحديث دليل على أن المائعات لا تزال بها النجاسة، وذلك أنَّها إذا لم تدفع عن نفسها النجاسات، فلأن لا تدفع عن غيرها أولى. 6 - في الحديث دلالة على تحريم الأعيان النجسة، وأنه لا يجوز الاستفادة منها ولا استعمالها، وتقدم مثله في حديث جابر (661). 7 - مفهوم قوله: "فماتت فيه" أنَّها لو سقطت فيه وخرجت حية أنَّ السمن لا ينجس، فإنَّ الفقهاء جعلوا الهرة وما دونها في الخلقة طاهرًا في حال الحياة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطوَّافين عليكم" وقيس عليها الباقي. 8 - قوله: "كلوه" ليس أمرًا، وإنما هو إباحة، وبيان حكم طهارته. 9 - هذا الحكم ما لم يتغيَّر السمن بالنجاسة في ريحه، أو طعمه، أو لونه، فإن تغيَّر فإنَّه نجس لا يجوز استعماله ولا قربه، فإنَّ الماء وهو الطهور إذا تغيَّر طعمه أو ريحه أو لونه بالنجاسة نجس، فكيف بالمائعات التي لا تدفع عن نفسها نجاسة. 10 - الحديث عام في السمن: قليله وكثيره، فليس فيه تقييد، فيبقى على عمومه أنَّ الفأرة إذا وقعت فيه وماتت ولم تغيره أنَّها تلقى، ويؤكل السمن، كثُر أو قلَّ.

11 - وفي الحديث: دلالة على جواز ملامسة النجاسة لإزالتها، وتطهير المكان منها، ومن أدلة هذه المسألة مشروعية الاستنجاء، وغسل النجاسات. 12 - رواية البخاري مطلقة تعم السمن المائع والجامد، ورواية أحمد والنسائي تقيد ذلك في السمن الجامد، ولكن محققي المحدثين كالبخاري وأبي حاتم حكموا على رواية "في سمن جامد"، بالوهم. قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: هو خطأ، والصواب: ما رواه الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة -رضي الله عنهم-. وقال الترمذي: هو حديث غير محفوظ. قال ابن القيم: اختلف العلماء في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يرَوْه صحيحًا، بل رأوه خطأ محضًا، فكثير من أهل الحديث جعلوا هذه الرواية: "إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه" موهومة معلولة، فإنَّ النَّاس إنما رووه عن سفيان عن الزهري من غير تفصيل، كما رواه البخاري وغيره. ***

668 - وَعَنْ أَبِى الزُّبَيرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالكَلْبِ، فَقَال: زَجَرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنَّسَائيُّ، وزَادَ: "إلاَّ كلْبَ صَيْدٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة النسائي ضعَّفها الإمام أحمد، واستنكرها النسائي، وضعَّفها النووي والسيوطي، ونقلا اتفاق المحدثين على ذلك. * مفردات الحديث: - السِّنَّوْر: بكسر السين المهملة وتشديد النون، هو الهِرّ والقطّ، وهو حيوان أليف من الفصيلة السنورية ورتبة اللواحم، والأنثى سنورة، جمعه سنانير. - الكلب: كل سبع عقور، وغلب على هذا النابح بل صارت حقيقة لغوية فيه لا تحتمل غيره، الجمع: أكلب وكلاب، والأنثى كلبة، وجمعها كلاب وكلبات. - زجر عن ذلك: يقال: زجره يزجره زجرًا: منعه ونهاه عنه، وأمره بالكفِّ عن بيعه، والانتفاع بثمنه بعنفٍ وشدةٍ. - صيد: صاد الطير وغيره يصيده صيدًا واصطاده: اقتنصه وأمسكه بمشقة، فالطير مصيد، والرجل صائد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على النَّهي عن بيع السنور، وتحريم ثمنه وإن جاز اقتناؤه لغير حاجة، لعدم النَّهي عن ذلك، ولما في الصحيحين: "أنَّ امرأة دخلت النَّار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". ¬

_ (¬1) مسلم (1569)، النسائي (7/ 190).

ولأنَّها طاهرة في الحياة، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم الحنابلة، إذ صحة البيع إنما تكون في عين مالية، والسنور ليس بمال. وذهب الجمهور إلى جواز بيعه، وحملوا الحديث على التنزيه ومكارم الأخلاق، وأنَّ هذا مما اعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة فيه، ولكنه خلاف الظاهرة لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم، ففيه زجر، وهو أبلغ من النَّهي، وتكون العلة في تحريم بيعه لعدم النفع المقصود فيه. 2 - يدل الحديث على تحريم ثمن الكلب وتحريم بيعه؛ لما في الصحيحين من حديث أبي مسعود "نهى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب"، والنَّص على تحريم ثمنه يدل باللزوم على تحريم بيعه؛ لأنَّه نجس العين، ولا ينتفع به إلاَّ لحاجة. 3 - الحديث الذي في الصحيحين عام، ولكن عند النسائي زيادة تقدم حكمها وأنَّها ضعيفة: "إلاَّ كلب صيد". ومن أجل هذه الزيادة اختلف العلماء في جواز بيعه. فذهب الجمهور -ومنهم الإمامان: الشافعي وأحمد- إلى تحريم بيعه، وإن كان كلب صيدٍ، أو زرعٍ، أو ماشيةٍ، ويباح اقتناؤه لهذه الحاجة مع تحريم بيعه وثمنه، لأنَّ الأصل في النَّهي أنَّه للتحريم. قال الخطابي: جواز الانتفاع بالشيء إذا كان لأجل الضرورة لم يكن يدل على جواز بيعه، كالميتة يجوز الانتفاع بها للمضطر ولا يجوز بيعها، وذهب أبو حنيفة إلى جواز بيعه مطلقًا، سواء جاز اقتناؤه، أو لا. وقال عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي: ما أبيح من الكلاب فبيعه جائز، وما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرَّم. ***

669 - وَعنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "جَاءَتْنِي بَرِيْرَهُّ فَقَالَتْ: إِنِّي كاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسع أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوْقِيةٌ، فَأَعِيْنِيْنِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَن أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَيَكُونُ وَلاَؤُكِ لِي، فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيْرَةُ الَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إلاَّ أنْ يَكُونَ الوَلاَءُ لَهُمْ، فَسَمعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبرَتْ عَائشِةُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: خُذِيْهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ، فَإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائشِةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي النَّاسِ، فَحَمِد اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أمَّا بَعْدُ: فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مَا كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كتَابِ اللهِ فَهُوَ باطلٌ، وَإِنْ كانَ مِائه شَرْطٍ، قَضاءُ اللهِ أحَقٌ، وَشَرْطُ اللهِ اوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: "اشْتَرِيْهَا، وَاعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بريرة: مولاة عائشة، كانت تحت زوجها مغيث، وكان مولى مثلها، فلما عتقت خيَّرها النبي -صلى الله عليه وسلم- فاختارت فراقه. - كاتبتُ أهلي: الكتابة مشتقة من الكتب وهو الجمع؛ لأنَّ نجوم أقساطها ¬

_ (¬1) البخاري (2168)، مسلم (1504).

جمعت على الرقيق، أو من المكاتبة، وهو العقد بينها وبين مواليها من الأنصار. - أواق: تقدم أنَّ الأوقية أربعون درهمًا إسلاميًا، وأنَّ الدرهم نصف مثقال وخمس مثقال، والمثقال (4.25) غرامات. أواق: جمع أوقية، وأصلها أواقي بتشديد الياء، فحذفت إحدى الياءين تخفيفًا، والثانية على طريقة قاضٍ. - ولاؤك لي: أي ولاء عتقك يكون لي. - ما بال: جواب أما، والأصل أن يكون بالفاء، ولكنها قد تحذف، ومعنى "بال" يعني ما حال رجال، وشأنهم. - رجال: لإشعار النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ قصة المبايعة كانت مع رجال، وفي بعض روايات البخاري: "ما بال أقوام" وفي بعضها: "ما بال أناس". - ليست في كتاب الله: أي ليست الشروط في حكم الله تعالى وقضائه في كتابه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل هي مما يخالف الكتاب والسنة والإجماع. - ما كان: كلمة "ما" شوطية، فلذلك دخلت الفاء في جوابها، وهو قوله: "فهو باطل". - باطل: في اللغة: ذاهبٌ ضائعٌ لاغٍ. وشرعًا: ما وقع غير صحيح من أصله، فلا نفاذ له. - وإن كان مائة شرط: لم يقصد بالمائة التحديد، وإنما قصد التوكيد، والمبالغة للعموم، يعني أنَّ الشروط التي لم تشرع باطلة، ولو كثرت. - أحق وأوثق: جاءا على صيغة التفضيل، وليسا على بابهما، وإنما هما صفتان مشتبهتان، فالمراد: إنَّ قضاء الله، وشوط الله هما الحق القوي. - أوثق: يقال: وثُق الشيء يوثُق وثاقة: قوي وكان محكمًا، والمعنى: أقوى وأشد استحكامًا.

- إنما الولاء لمن أعتق: هذه صيغة حصر: بأنَّ ولاء العتاقة، وما يترتب عليه من عصوبةٍ، ومناصرةٍ، وتوارثٍ، ونحوها هي لمن أسدى النعمة على الرقيق بالعتق، وصار سببًا في حريته. قوله: "أحق وأوثق"، و"لمن أعتق"، فيه سجع، وهو نوع من أنواع البديع، وهو من محسِّنات اللفظ إذا لم يكن فيه تكلف، وإنَّما نهى عن سجع الكهَّان لما فيه من التكلف. - الولاء: يقال: والى فلانًا موالاة: ناصره وأعانه، فالولاء بفتح الواو ممدود لغة: القرابة. وشرعًا: عصوبة سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق. * ما يؤخذ من الحديث: هذا الحديث جليل عظيم الفائدة؛ لما اشتمل عليه من الأحكام، ولِما حوى من الفوائد والفرائد. وقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، واستخرجوا منه ما يزيد على أربعمائة فائدة، ونحن نجمل أهم الأحكام الظاهرة في: 1 - خلاصة القصة أنَّ أمةً لأحد بيوت أهل المدينة، يقال لها "برِيرة" اشترت نفسها من أسيادهم بتسع أواق فضة، لهم كل عام أوقية واحدة، فجاءت تستعين عائشة على وفاء دَيْنها، فقالت لها عائشة: اذهبي إلى أسيادك فأخبريهم أني مستعدة أن أدفع أقساط دين الكتابة مرَّة واحدة، ليكون ولاؤك خالصًا، فأخبرتهم فأبوا إلاَّ أن يكون لهم الولاء، فعلِمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وقال لعائشة: اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الوَلاء لمن أعتق". ثم خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، ونهاهم عن الشروط المحرَّمة، وأخبرهم بأنَّ أي شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وبيَّن لهم أنَّ الولاء لمن أعتق. 2 - مشروعية مكاتبة الرقيق، لأنَّها طريق إلى تخليصه من الرق، الذي هو من

أفضل الأعمال الصالحة. 3 - أنَّ دين الكتابة يكون مؤجلاً يحل قسطًا قسطًا؛ لأنَّ الرقيق حين عقد الكتابة لا يملك شيئًا، فصار التأجيل فيها لازمًا، ومن هذا أخذ العلماء معناها واشتقاقها. 4 - جواز تعجيل تسليم الأقساط المؤجلة، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ عائشة على استعدادها لدفعها لهم معجلةً. 5 - أنَّ الولاء لمن أعتق؛ لأنَّه لُحْمة كَلُحمَة النسب، أما اشتراطه للبائع فباطل. 6 - أنَّ اشتراطه من البائع لا يؤثر في صحة عقد البيع، إنما الذي يَبْطل: الشرطُ وحده، لمخالفته مقتضى العقد. 7 - استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات، وأن يكون في المجامع الحافلة، كخطب الجمعة، والمجامع الكبيرة، ووسائل الإعلام، من الصحف، والإذاعة، والتلفاز وغير ذلك. 8 - استحباب افتتاح الخطب، بحمد الله والثناء عليه، لتحل بها البركة. 9 - استحباب الابتداء بـ"أما بعد"؛ لأنَّها يؤتى بها في الكلام، للانتقال من أسلوب إلى غيره، ومن موضوع إلى آخر. 10 - أنَّ كل شرط يخالف حكم الله فهو باطل مردود، وإن أكثر، فليس المائة في الحديث بعدد مقصود، وإنما المراد به التكثير والمبالغة، كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. 11 - أنَّ حدود الله وأحكامه وأقضيته وشروطه هى المتبعة، وما عداها فلا يلتفت إليه، "فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق". 12 - أنَّ العتق بأي طريق يسبب الولاء، سواء كان منجزًا، أو مكاتباً، أو غير ذلك من طرقه، لعموم "الولاء لمن أعتق". 13 - أنَّ الشروط التي على خلاف مقتضى العقد فاسدة بنفسها، ولكنها غير

مفسدة للعقد. 14 - قوله: "شروطًا ليست في كتاب الله": قال ابن القيم: ليس المراد به القرآن قطعًا، فإنَّ أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أنَّ المراد بكتاب الله حكمه، فإنَّه يطلق على كلامه، وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أنَّ كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون باطلاً، والصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله، ولم يمنع منه. 15 - الولاء عصوبة سببها نعمة المُعتِق على عتيقه، ولذَا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم (7990) وابن حبان (4950) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الولاء لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب". يرث به المعتِق -بكسر التاء- وترث به عصبة المعتِق المتعصبون بأنفسهم، كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى. 16 - أشكل على كثير من العلماء إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة بشراء بريرة، واشتراط الولاء لهم، وهو شرط باطل، وأحسن جواب عن ذلك: أنَّهم يعلمون فساد الشرط، وأقدموا عليه، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يعاملهم بنقيض قصدهم، فأمهلهم يمارسون هذا الشرط، ثم أعلن فساده، وعدم نفوذه، وغضب وزجرهم عن التلاعب بأحكام الله، إلاَّ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- جعل وعظه وزجره عامًّا ليكون؛ ردعًا لهم ولغيرهم، كما هي عادته في مثل هذه المواقف. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل الأصل في العقود والشروط الحظر إلاَّ ما ورد الشرع بإجازته، أو أنَّ الأصل فيها الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلاَّ ما دلَّ الشرع على تحريمه وبطلانه؟ قال شيخ الإسلام: إنَّ القول الأول هو قول الظاهرية، وكثير من أصول

أبي حنيفة، وكثير من أصول الشافعي، وأصول الطائفة من أصحاب مالك وأحمد. فأهل الظاهر لا يصححون عقدًا، ولا شرطًا إلاَّ ما ثبت جوازه بنصٍّ، أو إجماعٍ. أما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنَّه لا يصح من العقود والشروط ما يخالف مقتضى العقد، وكذلك الشافعي يوافق أبا حنيفة على أنَّ كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع لدليل خاص. وكذلك طائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي. وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، فيتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس، ولما يفهمونه من معاني النصوص، التي ينفردون بها عن أهل الظاهر. وحجة هؤلاء: 1 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فكل شرط ليس في القرآن، ولا في السنة، ولم يُجْمِع عليه العلماء فهو مردود. 2 - قياسهم جميع الشروط التي تنافي موجَب العقد على اشتراط الوَلاء؛ لأنَّ العامة فيه كونه مخالفًا لمقتضى العقد؛ لأنَّ العقود توجب متقضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرًا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذه نكتة القاعدة، وهي أنَّ العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. أما دليل القول الثاني: فقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود، والمواثيق، والشروط، والعقود، وأداء الأمانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، عُلِم أنَّ الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح

إلاَّ ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصوده العقد هو الوفاء به. وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم" [قال الترمذي: حسن صحيح]، وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة. فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبًا، ولا حرامًا، فما كان مباحًا بدون الشرط فالشرط يوجبه. والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء المحدثين، أنَّ اشتراط الزيادة واشتراط النقص جائز، ما لم يمنع منه شيء. قال شيخ الإسلام: وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود، وسواء اشترط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع، مما هو مقصود للبائع، أو المبيع نفسه، فيصح البيع والشرط. وقال ابن القيم: الضابط الشرعي أنَّ كل شرط خالف حكم الله تعالى وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف فهو لازم، فإنَّ المسلمين على شروطهم إلاَّ شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالاً، وهو اختيار شيخنا ابن تيمية -رحمه الله-. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن صحة الشرط الجزائي ولزومه: وملخص قرارهم ما يلي: إنَّ الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالتزام الموجب له، يعتبر شرعًا، فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول، وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة، أو لَحِق من مضرة، ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي، عن طريق أهل النظر والخبرة؛ عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا

بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وبالله التوفيق. * قرار مجمع الفقه الإسلامى بشأن موضوع الشرط الجزائي: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادي الآخرة 1421 هـ، إلى غرة رجب 1421 هـ (23 - 28 سبتمبر 2000). بعد اطِّلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "الشرط الجزائي"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع، بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء. قرَّر ما يلي: أولاً: الشرط الجزائي في القانون: هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه، إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه. ثانيًا: يؤكد المجلس قرارته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلَم، رقم: (85) (2/ 9)، ونصه: "لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلَّم فيه؛ لأنَّه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير" وقراره في الاستصناع رقم: (65)، (3/ 7) ونصه: "يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتَّفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة" وقراره في البيع بالتقسيط رقم: (51) (2/ 6) ونصه: "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه. أي زيادة على الدين، بشرط سابقٍ أو بدون شرط، لأنَّ ذلك ربًا محرم". ثالثًا: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترنًا بالعقد الأصلي، كما يجوز أن

يكون في اتفاق لاحق قبل حدوث الضرر. رابعًا: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية، ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا، فإنَّ هذا من الربا الصريح. وبناءً على هذا، فيجوز هذا الشرط مثلاً في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع، إذا لم ينفذ ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه. ولا يجوز مثلاً في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية، سواء كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه. خامسًا: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِقَ المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي، أو المعنوي. سادسًا: لا يُعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شُرط عليه أنَّ إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أنَّ من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد. سابعًا: يجوز للمحكمة بناءً على طلب أحد الطرفين أن تُعدِّل في مقدار التعويض، إذا وجدت مبررًا لذلك، أو كان مبالغًا فيه. * توصيات: يوصي المجمع بعقد ندوة متخصصة لبحث الشروط، والتدابير التي تقترح للمصارف الإسلامية، لضمان حصولها على الديون المستحقة لها. والله سبحانه وتعالى أعلم ***

670 - وَعَن ابْن عُمَرَ -رَضِىَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ، فقال: لا تُباعُ، وَلا تُوهَبُ، وَلا تُورثُ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإذَا مَاتَ فَهِيَ حُرّةٌ" رَوَاهُ مَالكٌ وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَوَهِمَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أثر موقوف صحيح. رواه الدارقطني وقال: الصحيح وقفه على عمر، ومثله قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، وفي الباب آثار عن الصحابة. وقال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه مالك في الموطأ، وقال غلط فيه بعض الرواة فرفعه. * مفردات الحديث: - أمهات الأولاد: أم الولد: هي من كانت رقيقة فولدت من مالكها مولودًا حيًّا أو ميتًا، ولو لم يكن إلاَّ صورة خفية من إنسان، فإنها تعتق بموت سيدها. - ما بدا له: بدا الأمر يبدو بُدُوًّا: ظهر، أي إلى متى شاء. - ما: ظرفية مصدرية، وهي وما دخلت عليه في تأويل "مدة بدوه له". ... ¬

_ (¬1) مالك (2/ 776)، البيهقي (10/ 342).

671 - وَعنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنا أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وَالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَيٌّ لاَ يرَى بذلِكَ بأْسًا" رواه النَّسَائيُّ وابنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال المؤلف: رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني، وصحَّحه ابن حبان، وقال في التلخيص: وأخرجه أحمد والشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي والحاكم، ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد، وإسناده ضعيف. قال البيهقي: وليس في شيء من الطرق أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اطَّلع على بيع أمهات الأولاد، وأقرَّهم عليه. وتعقَّبه ابن حجر بأنَّه روى ابن أبي شيبة عن جابر ما يدل على ذلك. وقال ابن عبد الهادي: إسناده على شرط مسلم. وصحح الحديث الألباني في إرواء الغليل بمجموع طرقه، وأيضًا لا يشترط لإقرار الحكم اطلاعه -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ الله مطَّلع عليه، ولا يقر نبيه على خلاف ما شرعه. * مفردات الحديث: - سرارينا: مفردها سُرِّية، بضم السين وكسر الراء وتشديدها ثم ياء مفتوحة آخرها تاء التانيث، هي الجارية المملوكة. - بأسًا: "لا يرى بذلك بأسًا" أي إثمًا وحرجًا، قال في المحيط: قيل المعنى: لايؤجر عليه، ولا يؤثم به". * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل أثر عمر -رضي الله عنه- على تحريم بيع أمهات الأولاد، وتحريم نقل ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (3/ 199)، ابن ماجه (2517)، الدارقطني (4/ 135)، ابن حبان (1215).

الملك فيهن بأي طريقة ووسيلة، سواء كان بيعًا، أو هبة، أو إرثًا، وإنما تبقى أم ولد، تأخذ من أحكام الأحرار عدم جواز التصرف فيها بما ينقل الملك، أو يسببه، وتأخذ من أحكام الرقيق جواز الخدمة، والاستمتاع. 2 - أنَّها بعد موت سيدها تكون حرَّة تامة الحرية، تملك جميع تصرفاتها، فبدأ عتقها بولادتها من سيدها، وبعد موته كمل عتقها. 3 - أما حديث جابر فيدل على جواز بيع أمهات الأولاد، وأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم ذلك ويقرهم عليه. 4 - جمهور العلماء أخذوا بما نهى عنه عمر، واعتبروه إجماعًا من الصحابة، وأيدوه بما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دُبُره". 5 - أجابوا عن حديث جابر بأنَّه مجرد إقرار على فعلٍ، وقته لا يعرف بالتحديد، وتتطرق إليه احتمالات كثيرة. 6 - قال فقهاؤنا: إذا أولد حرٌّ أمته ولدًا حيًّا أو ميتًا، قد تبيَّن فيه خلق الإنسان صارت أم ولدٍ له، تعتق بموته من كل ماله، ولو لم يملك غيرها، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة؛ لحديث ابن عبَّاس يرفعه: "من وطيء أمته فولدت فهي معتقة عن دبر منه" [رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني]. وذكرت أم إبراهيم عند النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعتقها ولدها". وهو قول أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومذهب جماهير العلماء. 7 - قال ابن رشد: الثابت عن عمر أنَّه قضى بأنَّ أم الولد لا تباع، وأنَّها حرَّة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار، وحكى ابن عبد البر والإسفراييني والباجي والبغوي وغيرهم الإجماع على أنَّه لا يجوز بيعها، ولا نقل الملك فيها. ***

672 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيْع فَضْلِ المَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: "وَعنْ بيْع ضِرَابِ الجَمَلِ" (¬1). 673 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديثين: - فضْل الماء: هو الماء الزائد عن حاجة الإنسان. - ضِراب الجمل: بكسر الضاد المعجمة، وهو ماء الفعل الذي يقذفه في رحم أنثاه، والمنهي عنه أخذ الأجر عليه. - عَسب: بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة وآخره باء موحدة، المراد بالضراب والعسب هو ماء الفحل، الذي يقذفه في رحم أنثاه، وقيل: عسب الفعل الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفعل، وهذا المعنى أعدل، لأنَّ نفس الضراب غير منهي عنه. قال أبو عبيد: العسب في الحديث الكراء، ويدل على صحة ما قاله أبو عبيد رواية الشافعي: "نهى عن ثمن بيع عسب الفحل". قال في القاموس: ومورد النَّهي في الحديث الأجرة التي تؤخذ على ضِراب الفعل. - الفَحل: هو الذكر من كل حيوان، جملاً كان، أو خروفًا، أو تيسًا، أو فرسًا، أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) مسلم (1565). (¬2) البخاري (2284).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (672) دليل على تحريم بيع فضل الماء، وأنَّ الواجب بذل الزائد منه لمحتاجه. 2 - الماء الواجب بذل زائده هو ما كان نقع بئرٍ، أو نبع عينٍ، أو نهرًا جارٍ، أو مشربًا من وادٍ، ولو كان ذلك في أرض مملوكة، ما دام الماء زائدًا عن حاجة صاحب الأرض، وليس عليه ضرر كبير من دخول المُسْتَقِين أَرْضَه. قال في الشرح الكبير: أما الأنهار النابعة في غير ملك، فلا تملك بحال، وأما ما ينبع في ملكه كالبئر، فنفس البئر مملوكة لمالك الأرض، والماء غير مملوك في ظاهر المذهب، والوجه الثاني: يملك، والخلاف إنما هو قبل حيازته، أما بعدها فلا ريب أنَّه يملكه حائزه. 3 - أما المياه المحوزة بالقِرَب والأواني والخزانات والبِرك فهي مياه مملوكة، لا يحل أخذها إلاَّ بإذن صاحبها، ولا يجب على صاحبه بذله إلاَّ لمضطرٍّ. 4 - قال في الإقناع وشرحه: وإذا حفر بئرًا بأرض مَوَات لنفع المجتازين، فالناس مشتركون في مائها، والحافر لها كأحدهم في السقي والزرع والشرب؛ لأنَّه لم يخُصَّ بها نفسه، ولا غيره. وإن حفرها ليرتفق هو بمائها لم يملكها، لأنَّه عازم بانتقاله عنها، وتركها لمن ينزل منزله، بخلاف الحافر للتملك فهو أحق بمائها ما قام فيها؛ لسبقه، وعليه بذل الفاضل من الماء، وبعد رحيله تكون لسابلة المسلمين، فإن عاد الحاضر إليها كان أحق بها من غيره. 5 - يدل الحديمث رقم (673) على النَّهي عن بيع ضراب الفعل، ووجوب بذله مجانًا، ذلك أنَّ في أخذ الأجرة على هذه النطفة دناءة، وضعة نفس، فهو من الأمور التي ينبغي أن يجري فيها الإحسان، والتَّعاون بين الناس، وهذا مذهب جمهور العلماء.

674 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عنْ بيعِ حَبل الحَبلَةِ -وَكَانَ بَيْعًا يَبْتَاعُهُ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ- كَانَ الرَّجلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حبل: بفتحتين، قال النووي: وإسكان الباء غلط، وهو مصدر أريد به الجنين الموجود في بطن أمه حين العقد، قال في المصباح: قال بعضهم الحبل مختص بالآدميات دون البهائم والشجر، فيقال فيه: "حمل" بالميم. - الحَبلَة: بفتحتين، والمراد حمل الحمل أي إنتاج الجنين، فهو ولد الولد الذي في بطن الناقة، وأدخلت عليه الهاء للمبالغة. - الجاهلية: يطلق هذا الاسم على الزمن الذي قبل الإسلام، وأصله مشتق من الجهل، لغلبته عليهم، أي الطيش وسرعة الغضب، والانفعال، والعدوان. - الجَزُور: بفتح الجيم المعجمة، هو البعير ذكرًا كان أو أنثى، وجمعه جزر وجزائر. - تُنتج الناقة: بضم التاء المثناة الفوقية وسكون النون، هذا الفعل على صيغة المبني للمجهول دائمًا، ومعناه إلى أن تلد، والناقة هي الأنثى من الإبل. - تنتج التي في بطنها: فالمراد به النَّهي عن بيع النتائج، أي بيع أولاد أولادها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن بيع حبل الحبلة، فسَّره هنا بأن يبيع الرجل الجَزور بثمن مؤجل ¬

_ (¬1) البخاري (2143)، مسلم (1514).

يحل عند حصول نتاج النتاج. 2 - خصت هلذه الصورة من البيع؛ لأنَّها كانت بيعًا يبيع به أهل الجاهلية، فيجعلون أجل حل الدين بهذا التحديد. 3 - أما تحريمه فقد جاء من أنَّه من بيوع الغررة لجهالة الأجل، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، إلى أجل معلوم" [رواه البخاري]. ولأنَّ جهالة الأجل تفضي إلى الخصام والنزاع، والإسلام جاء بالمحبة والمودة والوئام. 4 - فسَّر بعضهم بيع حبل الحبلة بأنَّه بيع نتاج النتاج. وعلة التحريم هنا أعظم من الأولى، ففي هذا جهالة المبيع، فلا يعلم قدره ونوعه، وفيه جهالة الأجل؛ لأنَّه أجل غير محدد بزمن قد يطول وقد يقصر، وقد يتخلف فلا يوجد أصلاً. 5 - النَّهي على كلا التفسيرين للتحريم، ويفيد فساد العقد المنهي عنه. ***

675 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بيْع الوَلاَءِ، وَعَنْ هِبتَهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الوَلاء: بفتح الواو ممدودًا، هو لغةً: السلطة والنصرة، والمراد به هنا ولاء العتاقة، الذي سببه نعمة المعتِق على من أعتقه بالعتق، فهو لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع ولا يورث، وإنما يورث بسببه، واللُّحمة بالضم القرابة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الولاء: عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه بالإعتاق، لأنَّ العبد كان في حال الرقّ كالمعدوم، فلا يملك ولا يتصرف، فلما أعتقه سيده صيَّره موجودًا كامل الوجود، كما أنَّ الولد كان معدومًا، والأب تسبب في وجوده، فكان للسيد فضل الإعتاق. 2 - يرث به المعتق -بكسر التاء- ذكرًا كان أو أنثى، كما يرث به عصبته المتعصبون بأنفسهم، إذا لم يوجد للعتيق قرابة وارثة من النسب. 3 - جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وابن حبان أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الولاءُ لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". فهو كالنسب لا يزول بالإزالة، ومن هذا فلا يتصور بيعه، ولا نقل الملك فيه بأي طريق، إذ لا يمكن ذلك، لأنَّه كالنسب الذي جاء فيه حديث: "لعن الله من انتسب إلى غير أبيه". 4 - النَّهي في الحديث يفيد التحريم، ويقتضي فساد العقد المنهي عنه، فلا ¬

_ (¬1) البخاري (6756)، مسلم (1506).

يصح، ولا ينفذ لو فعل. 5 - النَّهي والتحريم ليس خاصًّا في صورتي البيع والهبة، وإنَّما هو محرَّم وفاسد بكل صورة من صور نقل الحق فيه. ***

676 - وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَن بيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بيْع الغَرَرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بيع الحَصاة: بفتح الحاء، واحد الحصى، من باب إضافة المصدر إلى نوعه، وليس من إضافة المصدر إلى مفعوله، وصفة بيع الحصاة: هو أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فأيَّ ثوب تقع عليه فعليك بكذا، أو أن يبيعه من أرضه ما انتهى إليه رمي الحصاة. - الغرر: بفتحتين، من إضافة المصدر إلى نوعه، من غرَّ يغِر بالكسر، هو الخطر. قال ابن عرفة: بيع الغرر ما كان ظاهره يغرر، وباطنه مجهول، فهو مجهول العاقبة، وقد يكون جهل عاقبته إما لعدمه كبيع حبل الحبلة، وإما للعجز عنه كالجمل الشارد، أو المجهول المطلق، أو المعين المجهول قدره، أو جنسه، أو صفته، فالغرر يجمع وجوهًا كثيرة من المخاطر، وأصل الغرر النقصان، من قول العرب: غارت الناقة: إذا نقص لبنها، وغارت البئر: إذا قلَّ ماؤها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن بيع الحصاة، مما يقتضي تحريمه وعدم صحته. 2 - للعرب في الجاهلية أنواع من صور البيع يتخذونها في أسواقهم، وأكثرها مما يغبن فيه البائع أو المشتري، ولذا حرمها الإسلام، فمنها بيع الحصاة، وله صور منها: ¬

_ (¬1) مسلم (1513).

- أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوبٍ وقعت فهو لك بكذا. أن يقول البائع: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مباع منك بكذا، فيجعل الرمي بالحصاة نفسه بيعًا. - أن يعترض القطيع من الغنم -مثلاً- فيأخذ حصاة، ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا. - أن يقول: بعتك على أنَّك بالخيار إلى أن أرمى بهذه الحصاة، فإذا نبذتها وجب البيع. - أو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. وهكذا من الصور المتعددة، وكلها بيوعات جاهلية، فيها غررٌ، ومخاطرةٌ، وجهالةٌ، لذا جاء الإسلام بتحريمها. 3 - الحديث يفيد النَّهي عن بيع الغرر، والنَّهي يقتضي التحريم، كما يقتضي فساد العقد. 4 - الغرر: هو ما لا تعلم عاقبته من الخطر، مما طوي عنك علمه، وخفِي عليك أمره. 5 - قد جاء النَّهي عن الغرر في أحاديث كثيرة. 6 - قال النووي: النَّهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع العبد الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لا يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع ثوب من الأثواب، وشاة من الشياه، ونظائر ذلك، وكل ذلك باطلٌ؛ لأنَّه غرر كبير من غير حاجة. 7 - قال شيخ الإسلام: وأما الغرر: فالأصل في ذلك أنَّ الله حرَّم في كتابه أكل

أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة، فمن أنواعه: - بيع حَبَل الحَبَلَة. - بيع الملاقيح. - بيع المضامين. - بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها. - بيع الملامسة والمنابذة، ونحو ذلك من أنواعه وصوره. والغرر ثلاثة أنواع: - بيع المعدوم كحَبَل الحَبَلَة. - بيع المعجوز عن تسليمه كالجمل الشارد. - بيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر. قال النووي: واعلم أنَّ بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النَّهي عن بيع الغرر، وللكن أفردت بالذكر ونهي عنها؛ لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ثبت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين تحريم الميسر، وهو نوعان: الأول: المغالبات والرهان، فهذا كله حرام، لم يبح منه الشارع إلاَّ ما كان معينًا على طاعته، والجهاد في سبيله، بأخذ العوض على مسابقة الخيل، والركاب، والسهام. الثاني: الميسر في المعاملات، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، وهذا شامل للبيع بأنواعه، والإجارات، فالشيء الذي يشك في حصوله، أو تجهل حاله، وصفاته المقصودة داخل في الغررة لأنَّ أحد العاقدين إما أن يغنم،

أو يغرم، فهذا خطر كالرهان. ولأجل هذه القاعدة اشترط الفقهاء في البيع أن يكون الثمن معلومًا، والمثمن معلومًا، لأنَّ جهالة أحدهما داخلة في الغرر. * فوائد: الأولى: ما تدعو الحاجة إليه من الغرر: قال شيخ الإسلام: رخَّص الشارع فيما تدعو الحاجة إليه من الغرر، كبيع العقار بأساساته، والحيوان الحامل، والثمرة بعد بدو صلاحها، وبيع ما المقصود منه مغيَّب في الأرض، كالبصل والفجل ونحوهما قبل قلعه. وتختلف مشارب الفقهاء في هذا: فأبو حنيفة والشافعي أشد الناس قولاً في الغرر، وأصول الشافعي المحرَّمة أكثر من أصول أبي حنيفة. أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فإنَّه يجوز بيع هذه الأشياء، وجميع ما تدعو الحاجة إليه، أو يقل غرره، فيجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر والفجل والبصل ونحو ذلك، وأحمد قريب منه في ذلك. والناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع؛ لأجل نوع من الغرر. وهو أصح الأقوال، وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلاَّ به. وكل من شدَّد في تحريم ما يعتقده غررًا فإنَّه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرَّمه الله، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، ومفسدة التحريم لا تزول بالحيلة.

الثانية: التأمين التجاري: تعريفه: هو عقد يُلزم فيه أحد الطرفين وهو "المؤمِّن" أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو "المؤمَّن له" عوضًا ماديًا يتفق عليه، يُدْفع عند وقوع الخطر، وتحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم يسمى "قسط التأمين" يدفعه المؤمَّن له حسب ما ينص عليها عقد التأمين، إذًا فالمتعاقدان هما: - المؤمِّن: شركة أو هيئة. - المؤمَّن له: دافع أقساط التأمين. حكمه: قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: التأمين مخالف للشريعة الإسلامية؛ لما يشتمل عليه من أمور هي: 1 - غررٌ وجهالةٌ ومخاطرةٌ، مما يكون من قِبل أكل أموال الناس بالباطل. 2 - يشبه الميسر؛ لأنَّه يستلزم المقامرة. وبالجملة .. فكل من تأمل هذا العقد وجده لا ينطبق على شيء من العقود الشرعية، ولا عبرة بتراضي الطرفين، ولكن العبرة بتراضيهما إذا كانت معاملتهما قائمة على أساس من العدالة الشرعية. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن التأمين التجاري: أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا عن التأمين التجاري برقم (55) وتاريخ 4/ 1397/4 هـ مطولاً، لا يتَّسع المقام لنقله كله، ولذا أكتفي بنقل فقرات منه، وللقاريء الرجوع إليه، جاء فيه ما يلي: أولاً: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاجتماعية، المشتملة على الغرر الفاحش، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر. ثانيًا: هو ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغُرم بلا جناية، ومن الغُنم بلا مقابل أو مقابل، غير

مكافىء. ثالثًا: من الرهان المحرم الذي لم يبح منه إلاَّ ما فيه نصرة للإسلام، وقد حصر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرهان في الخف والحافر والنَّصل، وليس التأمين من ذلك. اهـ ملخصًا. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن التأمين التجاري: جاء فيه: إنَّ عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت، الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري، عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرامٌ شرعًا. * قرار الميجمع الفقهي الإسلامي بشأن التأمين بشتى صوره وأشكاله: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإنَّ المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة، بعدما اطَّلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعدما اطَّلع أيضًا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض، بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه. وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك، قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك من الأموال. كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء، من جواز التامين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرَّم، والمنوه عنه آنفًا، وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.

* تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين: بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ، المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ محمد بن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله. وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها، وبعد المداولة أقرَّت ما يلي: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه .. أما بعد: فإنَّ المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10/ شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي، نظر في موضوع التأمين بأنواعه، بعدما اطَّلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعدما اطَّلع أيضًا على ما قرَّره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه. وبعد الدارسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع، عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك للأدلة الآتية: الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية، المشتملة على الغرر الفاحش؛ لأنَّ المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى، أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا أو قسطين، ثم تقع الكارثة، فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئًا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ، بالنسبة لكل عقد

بمفردته، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- النَّهي عن بيع الغرر. الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية، أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل، أو مقابل غير مكافيء فإنَّ المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا، ودخل في عموم النَّهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] والآية بعدها. الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ، فإنَّ الشركة إذا دفعت للمستأمن، أو لورثته، أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ، واذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط، وكلاهما محرَّم بالنص والإجماع. الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرَّمة، لأنَّ كلا منها فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلاَّ ما فيه نصرةٌ للإسلام، وظهورٌ لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا سبق إلاَّ في خف أو حافر أو نصل"، وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به، فكان محرَّمًا. الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرَّم، لدخوله في عموم النَّهي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].

السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإنَّ المؤمن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرَّد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه، مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن، فكان حرامًا. وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا، أو في بعض أنواعه، فالجواب عنه ما يلي: (أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإنَّ المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة. وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين. والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالةٌ وغررٌ وقمارٌ وربًا، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة. (ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاً هنا؛ لأنَّ عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد، فبطل الاستدالال بها. (ج) "الضرورات تبيح المحظورات" لا يصح الاستدلال به هنا، فإنَّ ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافًا مضاعفة مما حرَّمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعًا، تلجيء إلى ما حرمته الشريعة من التأمين. (د) لا يصح الاستدلال بالعرف، فإنَّ العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبارات الناس في إيمانهم، وتداعيهم، وأخبارهم، وسائر ما

يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلَّت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها. (هـ) الاستدلال بأنَّ عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة، أو في معناها غير صحيح؛ فإنَّ رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأنَّ رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظامًا مبلغ التأمين، ولو لم يدفع مورثهم إلاَّ قسطًا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأنَّ الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية مثلاً، بخلاف التأمين، فربح رأس المال وخسارته للشركة، وليس للمتسأمن إلاَّ مبلغ التأمين، أو مبلغ غير محدد. (و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به، غير صحيح، فإنَّه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أنَّ عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة، بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه التآخى في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء، وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع. (ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح، لأنَّه قياس مع الفارق ومن الفروق أنَّ الوعد بقرضٍ أو إعارةٍ، أو تحمل خسارةٍ مثلاً من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبًا، أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين، فإنَّها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر. (ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم

يجب قياس غير صحيح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أنَّ الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنَّه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع، ما دام تابعًا غير مقصود إليه. (ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح، فإنَّه قياس مع الفارق، كما سبق في الدليل قبله. (ي) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح، فإنَّه قياس مع الفارق أيضًا، لأنَّ ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤلاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين، الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية، التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأنَّ ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة. (ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح، فإنَّه قياس مع الفارق، ومن الفروق أنَّ الأصل في تحمل العاقلة لديه الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين المقاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون، وأسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة، لا تمت إلى

عاطفة الاحسان، وبواعث المعروف بصلة. (ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضاً، ومن الفروق أنَّ الأمان ليس محلاًّ للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط، ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة، وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس. (م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضاً، فإنَّ الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين، فإنَّ ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن، ويعود إلى المستأمن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين، أو زمنه فاختلف في عقد الايداع بأجر. (ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح والفرق بينهما أنَّ المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس التأمين تجاري وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس. كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً عن التأمين التجاري المحرَّم والمنوه عنه آنفاً للأدلة الآتية: الأول: أنَّ التامين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤلية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال

غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم، والتعاون على تحمل الضرر. الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ، فليس عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية. الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنَّهم متبرعون، فلا مخاطرة، ولا غرر، ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري فإنَّه عقد معاوضة مالية تجارية. الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشيء هذا التَّعاون، سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معيَّن، ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية: (أ) الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسؤلية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية، ولا يأتي دور الدولة إلاَّ كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، وكدور موجه، ورقيب، لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها. (ب) الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله، ومن حيث الجهاز التنفيذي، ومسؤلية إدارة المشروع. (ج) تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني، وإيجاد المبادرات الفردية، والاستفادة من البواعث الشخصية، فلا شكَّ أنَّ مشاركته الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصاً ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها، مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني، إذ أنَّ تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أنَّ وقوعها قد يحملهم أقساطاً أكبر في المستقبل.

(د) أنَّ صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل بمشاركة منها معهم فقط، لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية، وهلذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة، ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية. ويرى المجلس أن يراعي في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية: الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن، وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين: كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي، وثانٍ للتأمين ضد العجز والشيخوخة .. إلخ. أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين، وآخر للتجار، وثالث للطلبة، ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين .. إلخ. الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة، والبعد عن الأساليب المعقدة. الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل، ويقترح ما يلزمها من الوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتَّفقت مع قواعد الشريعة. الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس تختاره من الأعضاء، ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس، ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها، واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل. الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة. ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في

قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمَّد وآله وصحبه. ... والمجالس الثلاثة كلها أجازت البديل الشرعي؛ وهو "التأمين التعاوني". فعبارة مجمع الفقه الإسلامي المنبثقة من منظمة المؤتمر الإسلامي هي: إنَّ العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي، هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن التأمين التعاوني: أنَّ التأمين التعاوني من عقود التبرعات، التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤلية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية، تُخصَّص لتعويض من يصيبه ضرر، وإمكان الاكتفاء به عن التأمين التجاري. ***

677 - وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى طعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فلا يبعه: هذه رواية مسلم، وقد تكررت فيه من عدة طرق، أما روايات البخاري، فكل الروايات التي اطَّلعت عليها فيه: "فلا يبيعه" ورواية مسلم بالجزم على أنَّ "لا" ناهية، ورواية البخاري بالرفع على أنَّها نافية، وكلتا الروايتين تؤدي إلى معنى واحد، إلاَّ أنَّ رواية النفي أبلغ. - حتى يكتاله: المراد حتى يستوفيه بالكيل، والفرق بين الكيل والاكتيال إنما يستعمل إذا كان الكيل لنفسه، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين] فالمراد بالاكتيال استيفاء الطعام المبيع بالكيل، فقد جاء في رواية البخاري: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" والرواية الأخرى للبخاري: "إذا ابتعت فاكتل" يعني اشتريت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث نهي المشتري أن يبيع الطعام الذي اشتراه حتى يكتاله، ويستوفيه ممن باعه عليه. 2 - الطعام عادة وغالباً لا يباع إلاَّ كيلاً، ولذا جعل الفقهاء هذا الحكم في كل بيع يحتاج قبضه إلى حق توفية، من الكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذرع، فلا يصح بيعها إلاَّ بعد استيفائها من البائع بما تقبض به من أحد هذه ¬

_ (¬1) مسلم (1528).

الطرق، قال شيخ الإسلام: وعلى هذا إجماع العلماء. 3 - إذا بيع الطعام جزافاً فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّه يصح التصرف فيه قبل قبضه، لقول ابن عمر: مضت السنة أنَّ ما أدركته الصفقة حباً مجموعاً فهو من مال المشتري، فدلَّ على جواز التصرف فيه قبل قبضه. ومذهب جمهور العلماء والرواية الأخرى عن أحمد: أنَّه لا فرق في الطعام بين الجزاف وغيره، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم. 4 - قال الشيخ تقي الدين وابن القيم: علة النَّهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه، وتسليمه للمشتري الثاني، لاسيَّما إذا رأى البائع أنَّ المشتري رَبحَ فإنَّه يسعى في رد البيع إما بجحد، أو احتيال الفسخ. 5 - قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: وقد تواتر النَّهي عن بيع الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره. 6 - قلتُ: من تلك الأحاديث: - ما رواه أحمد من حديث حكيم بن حزام أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه". - ما رواه أبو داود من حديث زيد بن ثابت "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تباع السلعة حيثُ تُبْتَاع، حتى يحوزها التجَّار إلى رِحالهم". - ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. ***

678 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عنْ بَيْعَتَينِ فِي بيَعَةٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ. ولأِبِي دَاوُدَ: "مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أوْكَسُهُمَا، أَوِ الرِّبَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم، والترمذي وصححه ابن حبان وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وصححه ابن حزم في المحلى، كما صححه عبد الحق في أحكامه، وإسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقال المنذري عنها: في إسناده محمَّد بن عمرو بن علقمة، فقد تكلِّم فيه، ولكن وثَّقه النسائي. قال في التلخيص: وفي الباب عن ابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود. * مفردات الحديث: - بيعتين في بيعة: صفته على الصحيح هي بيع العِينة، بأن يبيعه السلعة نسيئة، ثم يشتريها البائع من المشتري نقداً بأقل من ثمن النسيئة. - أوكسهما: يقال: وكس فلانٌ يكسه وكساً نقصه، فالوكس النقصان، وأوكسهما اسم تفضيل، أي أقلهما وأنقصهما، والمعنى أنَّه إذا فعل ذلك فلا ¬

_ (¬1) أحمد (9764)، النسائي (7/ 295)، الترمذي (1231)، أبو داود (3460)، ابن حبان (1109).

يخلو من أمرين: إما أن يمضي العقد وهذا هو الربا، وإما أن يأخذ الأقل. - الربا: سيأتي معناه في بابه إن شاء الله. * ما يؤخذ من الحديث: النَّهي عن بيعتين في بيعة، ومقتضى النَّهي التحريم، وفساد العقد. * اختلاف العلماء: اختلف العلماء في معنى "بيعتين في بيعة" فسَّره الحنابلة بأن يشترط أحد المتابيعين على الأخر عقداً آخر، كسلف وقرض، وبيع وإجارة وشركة، ونحو ذلك، كقول البائع للمشتري: بعتك كذا بكذا على أن تؤجرني دارك بكذا ونحو ذلك، فهذا الشرط يبطل العقد عندهم من أصله. وحكمه البطلان؛ لأنَّه إذا فسد الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وهو مجهول، فيصير الثمن مجهولاً. وفسَّره بعضهم بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيَّهما شئت أخذتَ به. أما ابن القيم: فيقول: "البيعتان في بيعة" أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين حالَّة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا. وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنَّه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلاَّ رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين، أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، أما أخذه بمائة مؤجلة أو بثمانين حالة، فليس في هذا ربا ولا جهالة، وإنما خيَّره بأي الثمنين شاء. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الذي يدخل في النَّهي عن بيعتين في

بيعة مسألة العِينة وعكسها؛ لأنَّ فيه محذور الربا، وحيلة الربا. وأما تفسير الحديث بأن يقول: بعتك هذا البعير بمائة على أن تبيعني الشاة بعشرة، فلا تدخل، لأنَّه لا محذور في ذلك. ***

679 - وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ والحَاكِمُ. وَأَخْرَجَهُ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ مِنْ رِوَايةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرٍو المَذْكُورِ بِلَفْظ: "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ". وَمِنْ هَذَا الوَجْهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأوْسَطِ، وَهُوَ غَرِيبٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بطرقه. قال في التلخيص: رواه مالك بلاغاً، والبيهقي موصولاً من حديث عمرو بن شعيب، وصححه الترمذي، وله طرق أُخر عند النسائي والحاكم من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن عمرو، ولكن قال النسائي: عطاء لم يسمع من عبد الله بن عمرو. وفي البيهقي من حديث ابن عباس، وفي الطبراني من حديث حكيم بن حزام. وقال الشوكاني: الحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان، وهو عندهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه ابن حزم في المحلى، والخطابي في المعالم، والطبراني في الأوسط. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 174)، أبو داود (3504)، الترمذي (1234)، النسائي (7/ 288)، ابن ماجه (2188)، الحاكم (2/ 17)، الحاكم في المعرفة (128)، الطبراني في الأوسط (4361).

قال في المنتقى للمجد: قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحَّحه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط جماعة من أئمة الحديث، ووافقه الذهبي، كما صححه ابن خزيمة وعبد الحق والمنذري وابن القيم. * مفردات الحديث: - سلف: بفتحتين، أي قرض، وهو شرعاً: دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله. - ربح: ربح في تجارته يربح ربحاً، أي كسب، فهو رابح، والربح اسم لما يربح، جمعه أرباح. - ما لم يُضمن: مبني للمجهول، أي ما لم يُملك، ولم يُقْبض. - ما ليس عندك: أي شيئاً ليس في ملكك حال العقد من المبيعات المُعيَّنات. * ما يؤخذ من الحديث: قال ابن القيم في تهذيب السنن: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحِيل الربوية. قلتُ: ففيه أربع فقرات، سنشرحها حسب ذكرها في الحديث إن شاء الله تعالى: الأولى: "لا يحل سلف وبيع": فُسِّر بعدة تفاسير، ولكن أحسنها وأقربها إلى الصواب ما يأتي: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه لا يجوز بيع وسلف، وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يقرضه قرضاً. قال ابن القيم: لأنَّه ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً، ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً وسلعة بثمانمائة، وأخذ منه ألفين، وهذا عين الربا، فلولا هذا البيع ما أقرضه، ولولا عقد القرض ما اشترى ذلك. الثانية: "ولا شرطان في بيع": فُسِّر بعدة تفاسير منها تفسير، الحنابلة، بأن يشترط المشتري على البائع

أن يفصل الثوب المبيع ويخيطه، فلا يصح، لأنَّه جمع بين شرطين، والحديث ينهى عن "شرطين في بيع". وأحسن من هذا التفسير وغيره التفسير الآتي: قال ابن القيم: الشرطان في بيع فُسِّر بقول البائع: خذ هذه السلعة بعشرة نقداً، وآخذها منك بعشرين نسيئة. وهي مسألة العِينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإذا كان مقصوده الدارهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلاَّ رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، ولا يحتمل غير هذا المعنى، وهذا هو الشرطان في البيع. وإذا أردت أن يتَّضح لك المعنى فتأمل نهيه عن: - بيعتين في بيعة. - وعن سلف وبيع. - وعن شرطين في بيع. فكلا الأمرين يتوصل به إلى الربا. الثالثة: "ولا ربح ما لم يُضمَن": فُسِّر بعدة تفاسير، ولكن أحسنها هو أن يبيع السلعة المعيَّنة المشتراة قبل قبضها ويربح فيها، فقد تقدم لنا أنَّ المشتري لا يصلح له أن يبيع السلعة المشتراة إلا بعد قبضها، لأنَّها لا تزال في ضمان البائع لو تلفت، فإذا باعها قبل قبضها فقد ربح في سلعة ليس عليه ضمانها لو تلفت، وهو لا يجوز، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الخراج بالضمان" [رواه أحمد (23091)]. الرابعة: "ولا بيع ما ليس عندك": يعني في ملكك، أو ولايتك، يُفسِّر هذه الجملة حديث حكيم بن حزام، وهو ما أخرجه النسائي (4534) قال: قلتُ: يا رسول الله!: يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، فأبتاعه له من السوق؟ فقال: "لا تبع ما ليس عندك".

لكن قال الإمام الخطابي: يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنَّه أجاز السلم، وهو بيع ما ليس عند البائع. قال محرره: وهذه يغلط فيها كثير من طلاب العلم، يجعلون بيع الأعيان كبيع الموصوف في الذمة في الحكم، وهذا غير صحيح، فالمتعلق يختلف، فإنَّ متعلق الموصوف المعين عين المبيع، وأما متعلق الموصوف الذي لم يعين فهو الذمة. ولذا قال في شرح الإقناع: ويصح البيع بالصفة وهو نوعان: أحدهما: بيع عين معيَّنة، كبعتك عبدي التركي، ويذكر صفاته، فهذا ينفسخ العقد عليه بتلفه قبل قبضه، لزوال محل العقد. الثاني: بيع موصوف غير معيَّن ويصفه بأن يقول: بعتك عبداً تركياً ثم يستقصي صفاته، فمتى سلَّم البائع إليه عبداً على غير ما وصفه له فردَّه المشتري على البائع، لم يفسد العقد برده؛ لأنَّ العقد لم يقع على عينه بخلاف النوع الأول. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الذي يمنع بيع الموصوف في الذمة ويحتج بحديث: "ولا تبع ما ليس عندك" احتجاجه فيه نظر، فالحديث يدل على منع بيع العين التي في ملك غيره، أما الموصوف في الذمة فلا أرى دخوله في هذا الحديث، وهو المذهب عند الأصحاب كلهم. * قرار المجمع الفقهي بشأن القبض: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 -

20 آذار "مارس" 1990 م بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "القبض: صوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامها" واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرَّر: أوَّلاً: قبض الأموال كما يكون حسيّاً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف، ولو لم يوجد القبض حسًّا، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها. ثانياً: أنَّ من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً: 1 - القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: (أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة، أو بحوالة مصرفية. (ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. (ج) إذا اقتطع المصرف بأمر العميل مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية، ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنَّه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلاَّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي. 2 - تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه، وحجزه المصرف.

680 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبِيه عنْ جدِّه -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قال: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ العُرْبَانِ" رَوَاهُ مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ بِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص ما خلاصته: الحديث له طرق تنتهي بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. فقد رواه مالك وأبو داود وابن ماجه، وفيه راوٍ لم يسم، قيل: هو عبد الله بن عامر الأسلمي، وقيل: هو ابن لهيعة وكل منهما ضعيف. رواه الدارقطني والخطيب: وفيه الهيثم بن اليمان ضعَّفه الأزدي، وقال أبو حاتم صدوق. ورواه البيهقي من طريق عاصم بن عبد العزيز عن الحارث بن عبد الرحمن بن عمرو بن شعيب. ورواه عبد الرزاق مرسلاً عن زيد بن أسلم وقال: ضعيف مع إرساله. * مفردات الحديث: - العُربَان: بضم العين المهملة ثم راء ساكنة وباء مفتوحة وألف آخره نون، ويقال عربون وأربون، وعربان وأربان، وصفته: أن يعلق المشتري عقد البيع بأن يعطي البائع بعض الثمن، ويقول: إن أخذتُه فهذا من الثمن، وإن لم آخذه فهو للبائع. ¬

_ (¬1) مالك (2/ 609).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيع العُربان: هو أن يشتري الرجل السلعة ثم يعطي البائع ديناراً أو درهماً من الثمن، فإن أمضى المشتري العقد وأخذ السلعة، فما دفعه فهو من الثمن، وإلاَّ فهو للبائع. 2 - الحديث يدل على النَّهي عن هذه الصورة من العقد، والنَّهي عنها يقتضي فسادها، وهي مسألة خلافية. 3 - وقد لخَّص الدكتور عبد الرزاق السنهوري -رحمه الله- في كتابه "مصادر الحق" أدلة القولين، وردَّ أدلة القائلين ببطلان بيع العربون، فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة -رحمه الله- ما نصه: ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي: أولاً: إنَّ الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي نهى عن بيع العربون، ولأنَّ العربون اشتُرط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنَّه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة، كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة، ومعها درهم. ثانياً: أنَّ الإمام أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر، وضعَّف الحديث المروي في النَّهي عن بيع العربون، واستند إلى القياس على صورة متَّفق على صحتها، هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً، قال أحمد: هذا في معناه. ثالثاً: ونرى أنه يمكن الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يُشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع، وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ

المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع، فإن لم يرجع فيها مضت الصفقة، وانقطع الخيار. اهـ. * خلاف العلماء: انفرد الإمام أحمد -رحمه الله- بالقول بصحة بيع العُربون، واستحقاق البائع إيَّاه في حال العدول عن الشراء، وخالفه الأئمة الثلاثة، فيرى المالكية والشافعية أنَّه باطل لهذا الحديث، بينما هو عند الحنفية فاسد، وليس بباطل حيث يفرقون بينهما. قال ابن قدامة -رحمه الله- ما نصه: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهماً أو غيره، على أنَّه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، قال أحمد: لا بأس به، وفعله عمر -رضي الله عنه-. قال في المنتهى وغيره: ويصح بيع العُربون، وفَعَله عمر، وأجازه. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّه أجازه، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئاً، وقال أحمد: هذا في معناه، واختار أبو الخطاب أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع العربون" [رواه ابن ماجه]، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بيع العربون: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة المؤتمر الثامن ببندر

سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "بيع العربون"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر ما يلي: 1 - المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع، على أنَّه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى بيع الإجارة؛ لأنَّها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد "السلم"، أو قبض بالبدلين "مبادلة الأموال الربوية والصرف"، ولا يجري في المرابحة للأمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة. 2 - يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تمَّ الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء. ***

681 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "ابْتَعْتُ زَيْتاً فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحاً حسَناً، فَأَرَدْتُ أنْ أضْرِبَ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لاَ تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حَتَّىَ تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر، وله طرق جياد: الأولى: عن نافع عنه مرفوعاً به أخرجه مالك، ومن طريق مالك أخذ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد كلهم من طريق مالك عن نافع به، وتابعه جماعة عن نافع به. الثانية: عن عبد الله بن دينار عنه به أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي والشافعي الطحاوي والبيهقي وأحمد من طرق عن ابن دينار به. الثالثة: عن القاسم بن محمَّد عن ابن عمر، ورواه أبو داود والنسائي والطحاوي وأحمد من طريقين: الأولى: فيها مجهول، والثانية: فيها ابن لهيعة وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 191)، أبو داود (3499)، ابن حبان (1120)، الحاكم (2/ 40).

أما الزرقاني فقال: من قال إنَّه حديث منقطع أو ضعيف فلا يلتفت إليه، فهو متصل، غير أنَّ فيه راوياً مبهماً. * مفردات الحديث: - زيْتاً: هو دهن الزيتون، ويطلق على دهن غيره، ولكنه المراد هنا. - استوجبته: استوجب الشي: استحقه وعدَّه واجباً، واستلزمه. - أضرب على يد الرجل: قال في اللسان: وفي حديث ابن عمر: فأردتُ أن أضرب على يده: أي أعقد معه البيع؛ لأنَّ من عادة المتبايعين أن يضرب أحدهما يده في يد الآخر عند عقد البيع. - حيث ابتعته: حيث اشتريته، و"حيث" ظرف مكان، فالمعنى: المكان الذي اشتريته فيه. - حتى تحُوزَه: يقال: حاز الشيء يحوز حوزاً وحيازةً: جمعه وضمَّه إلى نفسه، والمعنى: حتى تحرزه وتضمه إليك بنقله إلى مكانك. - رحلك: رحل الإنسان مسكنه وما يستصحبه من أثاثٍ ومتاعٍ، وفي الحديث: "إذا ابتلَّت النعال فالصلاة في الرحال" أي المساكن. - السِّلع: بكسر السين وفتح اللام، جمع سلعة، هو المتاع المبيع، والسلعة يطلق على جميع الأمتعة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يقبضه ويحوزه إلى مكانه. 2 - تقدم أنَّ المشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ هذا الحكم خاص بالمبيع الذي يحتاج إلى حق توفية، وهو المكيل والموزون والمعدود والمزروع، أما ما لا يحتاج إلى حق استيفاء من المبيعات فيصح التصرف فيها قبل قبضها، على المشهور من مذهب الحنابلة.

أما جمهور العلماء: فالحكم عام في كل مبيع، فلا يجوز التصرف فيه حتى تقبض وتنقل، وتقدم في حديث رقم (677). 3 - قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: تواتر النَّهي عن بيع الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره، لما يأتي: - ما في البخاري (2137)، مسلم (1526)، من حديث ابن عمر قال: "كان الناس يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبَّي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم". - ولأحمد (14773)، من حديث حكيم بن حزام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا اشتريت شيئاً فلا تَبِعه حتى تقبضه". - ولأبي داود (3036) من حديث زيد بن ثابت: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تُبَاع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجَّار إلى رحالهم". فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أنَّه لا يجوز بيع أي سلعة اشتريت إلاَّ بعد قبض البائع لها واستيفائها. قال ابن القيم: إنَّه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال، وهو من محاسن الشريعة، وقال: ثبت المنع في الطعام بالنص، وفي غيره إما بقياس النظر أو بقياس الأولى. ***

682 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَبِيعُ الإِبْلَ بِالبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّارهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذا مِنْ هَذَا، وَأُعْطِي هَذا مِنْ هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: لا بَأْسَ أَن تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا. وَبَيْنَكُمَا شَيءٌ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلاَّ من حديث سِماك بن حرب؛ وسماك فيه مقال، وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من طرق عن حماد بن سلمة عن سِماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي. وصححه ابن حبان، وحسَّنه السبكي في تكملته لمجموع النووي، أما عن وقفه ورفعه، فقد رجَّح رفعه ابن الملقن وابن الهمام، بينما رجَّح ابن حجر وقفه. * مفردات الحديث: - الإبل: الجمال النُّوق، اسم جمْع لا واحد له من لفظه، الجمع آبال وأبيل. - بالبقيع: بالباء الموحدة المفتوحة وكسر القاف بعدها ياء وآخرها عين مهملة، هو سوق الإبل في المدينة، ثم صار مقبرة المدينة منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 33)، أبو داود (3354)، الترمذي (1242)، النسائي (7/ 81)، ابن ماجه (2262)، الحاكم (2/ 44).

اليوم، وبعض النسخ، "بالنقيع" بالنون المفتوحة والقاف المكسورة والياء التحتية الساكنة والعين المهملة، موضع غرب المدينة حماه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يزال على حماه حتى الآن، ويبعد عن المدينة بـ (75) كلم، والراجح من رواتي الحديث أنَّه بالباء التحتية الموحدة. - الدنانير: الدينار عملة ذهبية إسلامية، زنة الدينار مثقال، وقدره بالغرامات (4.25). - الدراهم: الدرهم عملة فضية إسلامية وقدر الدرهم بالغرامات (2.975). * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث دليل على أنَّه يجوز أن يقضي عن الذهب الفضة، وعن الفضة الذهب، وهذا من باب الصرف الذي عرَّفه الفقهاء بقولهم: المصارفة: بيع نقد بنقد اتَّحد الجنس أو اختلف. 2 - يشترط لبقاء صحة الصرف أن لا يتفرقا من مجلس العقد وبينهما شيء، بل يقبض كل منهما ما عقد لعميله. 3 - أن تفرقا من مجلس العقد قبل القبض بطل العقد فيما لم يقبض، وإن قبض بعضه دون البعض الآخر بطل العقد فيما لم يقبض فقط لفوات شرطه. 4 - يجوز الصرف ولو لم يكن حاضراً في مجلس العقد إلاَّ أحد النقدين، والنقد الآخر في الذمة، بشرط أن لا يتفرقا وبينهما شيء. وهذا هو المراد من حديث الباب، ذلك أنَّ الظَّاهر أنَّ النقدين غير حاضرين، وإنما الحاضر أحدهما فقط. 5 - جاء في الحديث "بسعر يومها"، وهذا قيد غير مراد بالإجماع. قال الخطابي: وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلاَّ "بسعر يومه" ولم يعتبر غيره السعر، فقد جاء في صحيح مسلم (1587)، في حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذَّهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيدٍ".

* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تغير قيمة العملة: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع "تغير قيمة العملة"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأنَّ العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسَّلم وسائر أحكامها. قرَّر ما يلي: العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل، وليس بالقيمة؛ لأنَّ الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار، والله أعلم. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن موضوع التضخم وتغير قيمة العملة: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ/ 23 - 28 سبتمر 2000، بعد اطلاعه على البيان الختامي للندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم، بحلقاتها الثلاث بجدة، وكوالالمبور، والمنامة، وتوصياتها، ومقترحاتها، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع، وخبرائه، وعدد من الفقهاء. قرَّر ما يلي: أولاً: تأكيد العمل بالقرار السابق رقم (42)، ونصه: العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة، لأنَّ الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيًّا كان مصدرها

بمستوى الأسعار. ثانياً: يمكن في حالة توقع التضخم التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يعقد الدين بما يلي: (أ) الذَّهب أو الفضة. (ب) سلعة مثلية. (ج) سلعة من السلع المثلية. (د) سلعة عملات. (هـ) عملة أخرى أكثر ثباتاً. ويجب أن يكون بدل الدين في الصور السابقة بمثل ما وقع به الدين، لأنَّه لا يثبت في ذمة المقترض إلاَّ ما قبضه فعلاً. وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة، التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما، مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى "الربط بتلك العملة" أو بسلعة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم: (75) رابعاً. ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي: (أ) الربط بعملة حسابية. (ب) الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، أو غيره من المؤشرات. (ج) الربط بالذهب أو الفضة. (د) الربط بسعر سلعة معيَّنة. (هـ) الربط بمعدل نمو الناتج القومي. (و) الربط بعملة أخرى. (ز) الربط بسعر الفائدة. (ح) الربط بمعدل أسعار سلعة من السلع.

وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير، وجهالة فاحشة، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه، فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد، فإنَّه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما يطلب أداؤه، ومشروط في العقد، فهو رِبا. رابعاً: الربط القياسي للأجور والإجارات: (أ) تأكيد العمل بقرار مجلس المجمع رقم (75) الفقرة: أولاً: بجواز الربط القياسي للأجور تبعاً للتغير في مستوى الأسعار. (ب) يجوز في الإجارات الطويلة للأعيان تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى، والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معيَّن، شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة. * التوصيات: يوصي المجمع بما يلي: 1 - بما أنَّ أهم أسباب التضخم هو الزيادة في كمية النقود التي تصدرها الجهات النقدية المختصة لأسباب متعددة معروفة، ندعو تلك الجهات إلى العمل الجاد على إزالة هذا السبب من أسباب التضخم الذي يضر المجتمع ضرراً كبيراً، وتجنب التمويل بالتضخم، سواء كان ذلك لعجز الميزانية، أم لمشروعات التنمية، وفي الوقت نفسه ننصح الشعوب الإسلامية بالالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك، لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير والترف والإسراف، التي هي من النماذج السلوكية المولدة للتضخم. 2 - زيادة التعاون الاقتصادي بين البلدان الإسلامية، وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية، والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه

البلدان الصناعية. 3 - إجراء دراسات على مستوى البنوك الإسلامية لتحديد آثار التضخم على موجوداتها، واقتراح الوسائل المناسبة لحمايتها، وحماية المودعين والمستثمرين لديها من آثار التضخم، وكذلك دراسة واستحداث المعايير المحاسبية لظاهرة التضخم على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية. 4 - إجراء دراسة حول التوسع في استعمال أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي على التضخم، وما له من تأثيرات ممكنة على الحكم الشرعي. 5 - دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل من أشكال ارتباط العملة بالذَّهب، كأسلوب لتجنب التضخم. 6 - إدراكاً لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلاً من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنَّه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج، وتحسينه في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط، واتِّخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة. 7 - دعوة حكومات الدول الإسلامية للعمل على توازن ميزانياتها العامة، "بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة، التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها"، وذلك بالالتزام النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي، وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات، ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين. 8 - مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، منها ما يتعلَّق بالتغيير في الإيردات العامة، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك

بتأسيس تلك السياسات على مباديء العدالة، والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحميل عبء الإيراد العام للأفراد، حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثروة معاً. 9 - ضرورة استخدام جميع الأدوات المقبولة شرعاً للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع، والسياسات الاقتصادية والإدارية الأخرى، للعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن. 10 - وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي، ومحاربة التضخم، ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية، والمالية، من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة. 11 - دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة، إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنهج الإسلامي، لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية، وتقليل الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم. 12 - دعوة المسلمين أفراداً وحكومات إلى التزام نظام الشرع الإسلامي، ومبادئه الاقتصادية، والتربوية، والأخلاقية، والاجتماعية. توصية: وأما الحلول المقترحة للتضخم فقد رأى المجمع تأجيلها وعرضها لدورة قادمة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

683 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّجْشِ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - النَّجش: بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة، والنجش لغة، تنفير الصيد وإثارته من مكانه، يقال: نجشت الشيء أنجشته نجشاً: أي استثرته فالناجش الذي يحوش الصيد. وتعريفه شرعاً: هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، بل لنفع البائع، أو الإضرار بالمشتري، أو العبث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه النَّهى عن النجش، وذلك بأن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا ليشتريها بل ليضر المشتري بزيادة الثمن عليه، أو ينفع البائع بزيادة الثمن له، أو يقصد الأمرين، أو لا يقصد إلاَّ اللَّعب فقط. 2 - النَّهي في الحديث للتحريم، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنَّ الناجش عاص بفعله. 3 - المشهور من مذهب الإمام أحمد صحة العقد، ولكن إذا غبن المشتري في البيع غبناً يزيد عن العادة بزيادة الناجش، ثبت له الخيار بين الإمساك بثمنه الذي استقرَّ عليه العقد، وبين رده والرجوع بثمنه. 4 - أما إذا كانت الزيادة في الثمن غير فاحشة. فقال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الغبن في المبيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته. ¬

_ (¬1) البخاري (2142)، مسلم (1516).

5 - خيار الغبن في البيع له ثلاث صور: إحداها: تلقي الركبان، فمن تلقاه فاشترى منه فأتى البائع السوق، فهو بالخيار بين أن يمضي البيع بثمنه الذي باع به، أو يفسخ البيع ويرد ثمنه. الثانية: زيادة الناجش الذي لا يريد شراء، فتحرم زيادته، ويثبت للمشتري الخيار. الثالثة: المسترسل وهو من جهل القيمة، ولا يُحسن المماكسة في الثمن، بل يسترسل إلى البائع، وينقاد له بحسن نية، فيثبت له الخيار، ولا أرش لمغبون مع إمساك مبيع في صور الغبن الثلاث؛ لأنَّ الشرع لم يجعل له إلاَّ أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه، أو يمسكه بالثمن الذي اشترى به. 6 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: التحريم في الغبن ليس خاصًّا بالصور الثلاث، فهو في كثير من مبايعات الناس. وقال الشيخ تقي الدين: من البيوع ما نهي عنه لما فيه من ظلم أحد المتبايعين للآخر، كبيع المُصرَّاة، والمعيب، والنجش، ونحو ذلك، فالشارع لم يجعلها لازمة كالبيوع الحلال، بل جعل الخيرة إلى المظلوم إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها. ***

684 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُزَابَنَةِ، وَالمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ ابنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرج له الشافعي من طريق ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر، وعن الشافعي رواه الطحاوي والبيهقي. والحديث أصله في مسلم، وصححه الترمذي وابن حبان، وحسَّنه النووي في المجموع. قال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ولو عنعنه ابن جريج. * مفردات الحديث: - المحاقلة: بالحاء المهملة والقاف، مأخوذة من الحقل وهو الزرع، والمحاقلة: هي أن يبيع الحب المشتد في سنبله بحب من جنسه. - المزابنة: الزبن لغة: الدفع بشدة، ومنه الحرب الزبون، والمزابنة شرعاً: هي شراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر، سميت بذلك، لما يكثر فيها من الخصام بين المتابعين. - المخابرة: مشتقة من الخبَار بفتح الخاء، وهي الأرض اللينة، وهي المزارعة، وصفة المخابرة المنهي عنها: هو أن يعطي رب الأرض أرضه للمزارع، فيحرثها ويعمل عليها بجزء معيَّن من الزرع، كالذي على الجداول ¬

_ (¬1) أحمد (4393)، أبو داود (3405)، الترمذي (1290)، النسائي (7/ 37).

والسواقي، أو بقعة معينة. تنبيه: كل من المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، على وزن مفاعلة. - الثُّنيا: بالمثلثة المضمومة فنون ساكنة فمثناة تحتية آخر الحروف، مقصور على وزن دنيا، أي الاستثناء في الإقرار، وأصله من ثناه إذا رده، فكأنَّ البائع رد بعض المبيع إليه بالاستثناء، والمردود منها المجهول. - إلاَّ أن تُعْلَم: عائد للثنيا فقط، أي أن يكون الاستثناء معلوماً، كأن يقول: بِعتك هذه الأغنام إلاَّ هذه. ***

685 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُخَاضَرَةِ، وَالمُلاَمَسَةِ، وَالمُنَابَذَةِ، وَالمُزَابَنَةِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المخاضرة: هو بيع الحبوب والثمار قبل بدو صلاحها، بدون شرط القطع في الحال. - الملامسة: الأصل في باب المفاعلة المشاركة بين اثنين في الفعل، والملامسة: أن يقول لصاحبه: إذا لمست ثوبك، ولمست ثوبي فقد وجب البيع بغير تأمل. وفُسِّرت: بأن يقول البائع: أيَّ ثوب لمستُه فهو لك بكذَا. - المُنابذة: مفاعلة من النبذ، وتستدعي الفعل بين اثنين، بأن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر بدون نظر، وفسِّرت: بأن يقول البائع: أيَّ ثوب نبذته فهو لك بكذا. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - لدينا في هذين الحديثين سبع صور من صور المعاملات الجاهلية هي: المحاقلة، والمخابرة، والمزابنة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة، والثنيا إلاَّ أن تعلم. 2 - الأصل في المعاملات الحل، والجواز، والبقاء على البراءة الأصلية، لكن هناك بيوعات كانت جارية زمن الجاهلية مشهورة لديهم، ثم جاء الإسلام فأبطلها؛ لأنَّها مبنية على الجهالة، والغرر، والمخاطرة، فهي مجهولة ¬

_ (¬1) البخاري (2207).

العاقبة، فلا يعلم عن الغُنم أو الغُرم من نصيب أي العاقدين. والإسلام جاء بالعدل بين الطرفين، بأن لا يُقْدم أحد الطرفين إلاَّ على علم وبصيرة بالعقد، وما يؤول إليه أمره فيه. 3 - المُحَاقلة: بيع الحب بعد اشتداده في سنبله بحب من جنسه، فهذه الصورة جمعت محذورين الجهالة والربا، فأما الجهالة فإنَّ بيع الحب في سنبله مجهول غير معروف من حيث المقدار، ومن حيث الجودة والرداءة. وأما الربا فبيع الحب بحب من جنسه بغير معياره الشرعي، وهذا يفضي إلى الجهالة، والضابط الشرعي: "أنَّ الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم". - المخابرة: هي المخابرة الجاهلية المحرَّمة، فهم يُكرون الأرض للزراعة كراء جاهليًّا، بأن يكون لصاحب الأرض جانب من الزرع معيَّن، وللمزارع جانب آخر، وهذه مخابرة مجهولة؛ لأنَّه لا يعلم عاقبة الأمر، فربَّما صلح هذا، وتلف الآخر، فمنع من أجل جهالته وخطره. والمخابرة الصحيحة أن يكون لصاحب الأرض أو المزارع، جزء مشاع معلوم، ليشتركا في الغُنم والغُرم، ويسلما من الجهالة. 5 - المزابنة: فسَّرها الإمام مالك بأنَّها بيع كل مكيل لا يعلم كيله أو وزنه بشيء من جنسه، ومن ذلك بيع التمر على رؤوس النخل بتمر، فهذا يجمع أمرين ممنوعين: أحدهما: الجهالة والمخاطرة التي لم تدع إليها حاجة. الثانية: الربا، فإنَّ التمر على رؤوس النخل مجهول، فبيعه بتمر من جنسه لم يتحقق التماثل بينهما، فيفضي إلى ربا الفضل. "والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم". 6 - المزابنة: رخَّص من بيعها ما تدعو الحاجة إليه بقيود تقلل من الملكية

المباعة، وتخفف من الجهالة في العرايا، وتلك القيود هي: - أن يباع ما على رؤوس النخل بمثل ما يؤول إليه تمراً إذا جفَّ كيلاً. - أن يكون أقل من خمسة أوسق، وهي (300) صاع. - لمحتاج إلى الرُّطب. - لا نقود معه يشتري بها. - بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق. 7 - المخاضرة: هي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها، لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع". 8 - الملامسة: هي أن يشتري الرجل الثوب، ولا ينشره ولا يتبين ما فيه. 9 - المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعاً من غير نظر. والمحذور الشرعي في هاتين الصورتين من البيع الجهالة المفضية إلى الخصام والشِّجار. 10 - الثُّنْيا إلاَّ أن تعلم: وصورتها -مثلاً- أن يقول: بعتك هذه الشجرة إلاَّ بعضها، أو بعتك هذا القطيع من الغَنم إلاَّ عشراً غير مُعيَّنة. فمثل هذه الأشياء مجهولة، واستثناء المجهول من المعلوم يصير الباقي مجهولاً، أما إذا كان المستثنى معلوماً فيجوز. 11 - الإسلام دين محبة ومودة ووئام، يكره الخصومة، والشقاق، والعداوة، والبغضاء، ويدعو إلى ضمان البيوعات من الآفة. وهذه البيوعات وأمثالها مجهولة يحصل فيها التغابن بين الطرفين المتعاملين، مما يفضي إلى نزاع أحدهما مع الآخر، فجاء الإسلام بمنعها وإبطالها، كما أنَّ الإسلام دين العدل والمساواة. وهذه المعاملات تفضي إلى ظلم أحد الطرفين صاحبه، فالغابن يظلم

المغبون، ويأكل حقه بغير حقٍّ ولا مقابلٍ. وقد جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". فنسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين وولاتهم إلى الرجوع إلى هذا الدين العظيم، وإلى أحكامه العادلة، ليهتدوا إلى الصراط المستقيم، الذي يبلغ بهم رضا ربهم، وسعادتهم في دنياهم وأخراهم آمين. ***

686 - وَعَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَلَقَّوا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: وَلاَ يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ للبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تلقوا: بفتح التاء والقاف، وأصله "لا تتلقوا" بتاءين فحذفت إحداهما، أي لا تستقبلوا الذين يحملون السِّلع إلى البلد للشراء منهم قبل قدومهم البلد، ومعرفة السعر. قال ابن عبد البر: وأما قوله: "لا تلقوا الركبان" فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد. - الركبان: بضم الراء المهملة وسكون الكاف، جمع راكب، هم الجماعة من أصحاب الإبل في السفر، فهو في الأصل يطلق على راكب الإبل خاصة، ثم اتَّسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة. والمراد بهم هنا الذين يجلبون إلى البلدان المواشي، والطعام وغيره لبيعها، سواء كانوا ركباناً أو مشاة، جماعة أو واحداً، ولكن عبر بالغالب. - حاضر: حضَرَ المكان يحضر حضوراً: شهد، فالحاضر هو المقيم في المدن والقرى. - باد: بدا بألف من دون همزة يبدو بدْواً: سكن البادية، فالبادي: هو المقيم في البادية، أي الصحراء، جمعه بادون. ¬

_ (¬1) البخاري (2158)، مسلم (1521).

- سِمْسَاراً: بكسر السين المهملة وسكون الميم وفتح السين الأخرى آخره راء، وأصل السمسار هو القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، فمعناه هو الوسيط بين البائع والمشتري "الدلاَّل"، والمعنى منطبق عليه على الصحيح، سواء كان متولياً البيع، أو متولياً الشراء للمشتري. قال البخاري: قال ابن سيرين عن أنس: "لا يبع له شيئاً، ولا يبتاع له شيئاً". ***

687 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَلَقَّوا الجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالخِيَارِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الجلب: بفتحتين، مصدر المجلوب، يقال: جلب الشيء: جاء به من بلد إلى بلد للتجارة. - سيده: المراد به جالب السلعة. - الخيار: أي يختار أحد الخيارين، إما أن يختار إمضاء البيع، أو فسخه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان فيهما فقرتان لبيان نوعين من المعاملات المحرَّمة، قوله: "لا تلقوا الركبان" والرواية الأخرى: "لا تلقوا الجلب"، معناه النَّهي عن استقبال القادمين إلى البلد لبيع بضائعهم فيه، حينما يتلقاهم السماسرة والدلالون خارج السوق الذي تباع فيه السلع، إما ليشتروا منهم بضائعهم على جهل من القادمين بقيمها في السوق، وإما ليتولى السماسرة بيعها عن أصحابها على الناس. 2 - مذهب جمهور العلماء تحريم تلقيهم، والشراء منهم، وتركهم يبيعون سِلَعَهُم بأنفسهم على الناس. 3 - علة التحريم أمران: الأول: غبن القادمين بشراء سلعتهم منهم بأقل من قيمتها في السوق. ¬

_ (¬1) مسلم (1519).

الثاني: التضييق على الناس المحتاجين المستفيدين، وذلك باستقصاء جميع ثمنها، فقد جاء في مسلم والسنن عن جابر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". 4 - الفقرة الثانية: "فمن تُلقي، فاشتُري منه، فإذا وصل البائع السوق فهو بالخيار" ففيه إثبات الخيار للبائع بين إمضاء البيع، أو رده. قال شيخ الإسلام: أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- للركبان الخيار إذا تُلُقوا؛ لأنَّ فيه نوع تدليسٍ، وغشٍّ. وقال ابن القيم: نهى عن ذلك لِما فيه من تغرير البائع، فإنَّه لا يعرف السعر، فيُشْترى منه بدون القيمة، ولِذا أثبت له النبي -صلى الله عليه وسلم- الخيار إذا دخل السوق. جاء في حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: الحديث وإن كان ظاهره الإطلاق، فيقيد بما هو جارٍ متسامحٌ فيه، من التغابن اليسير. والعقد صحيح؛ لأنَّ النَّهي قُصِر على التلقي، ولم يقل: لا تشتروا، ولا نزاع في ثبوت الخيار للبائع من الغبن غبناً يخرج عن العادة. 5 - الإسلام يراعي المصالح العامة، فيقدمها على المصالح الخاصة، ولذا فإنَّ تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، فيه مصلحة خاصة للمتلقي الحاضر، ولكن لما كانت مصلحة أهل البلد -بشرائهم السلع رخيصة- قدمت على انتفاع الواحد. 6 - قال شيخ الإسلام: من البيوع ما نهي عنه لِمعنىً فيه، من ظلم أحد المتبايعين للآخر، كبيع المصراة، والمعيب، والنجش، ونحو ذلك، والشارع لم يجعلها لازمة كالبيوع الحلال، بل جعل الخيرة إلى المظلوم، إن شاء أبطلها، وإن شاء أجازها، فإنَّ الشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله، كما نهى عن الفواحش، ونكاح المحرَّمات، والمطلقة ثلاثاً، وبيع الربا. وبعض الناس يحسب أنَّ هذا النوع من جملة ما نهي عنه، والنَّهي يقتضي

الفساد، فأفسدوا بيع النجش، والبيع على أخيه، وبيع المدلس، والتحقيق أنَّ هذا النوع لم يكن النَّهي عنه فيه لحق الله، بل لحق الإنسان. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء إلى صحة شراء متلقي الركبان، للحديث رقم (686)، ولأنَّ النَّهي لا يعود إلى نفس العقد، ولا إلى ركنه، أو شرطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان. واختلفوا في ثبوت الخيار إذا قدم السوق. فذهب الشافعي وأحمد إلى ثبوته إذا غبن البائع غبناً يخرج عن العادة؛ للحديث رقم (686)، ولأنَّ هذا ضرر نزل به ولا يمكن تلافيه بغير الخيار. وذهب أبو حنيفة إلى عدم الخيار، والقول الأول أصح. واختلفوا في صحة بيع من باع على بيع أخيه، أو اشترى على شرائه. فذهب أحمد والظاهرية إلى أنَّ البيع والشراء غير صحيحين للنَّهي، والنَّهي يقتضي الفساد. وذهب الثلاثة إلى صحة البيع، لأنَّ النَّهي لا يعود إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارجٍ عنه. واختلفوا في صحة بيع الحاضر للبادي. فالمشهور عند أحمد البطلان بشروط أربعة: 1 - أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة. 2 - أن يقدم البائع لبيع سلعته بسعر يومها. 3 - أن يكون جاهلاً بسعرها. 4 - أن يقصده الحاضر لبيعها. ودليلهم: أنَّ النَّهي يقتضي الفساد. وذهب جمهور العلماء إلى صحة البيع، مع التحريم لمخالفته النَّهي.

688 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، ولاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا" متَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "لاَ يَسُومُ المُسْلِمُ عَلى سَوْمِ المُسْلِمِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يبيع: يروى برفع الفعل على أنَّ "لا" نافية، وبالجزم على أنَّها ناهية. - خِطبة: بكسر الخاء، طلب الزواج من المرأة، أو من ولي أمرها. - لِتَكْفأ: من كفأ الإناء إذا كبَّه، وقلبه، وأفرغ ما فيه. - سوم: مصدر سام يسوم سوماً وسُواماً، أي عرض السلعة، وذكر ثمنها. * ما يؤخذ من الحديث: في هذا الحديث ستة أمور منهىٌّ عنها: 1 - "أن يبيع حاضر لبادٍ ولا تناجشوا"، وهذان تقدما. 2 - الثالث: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه". ومعناه: أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيراً منها بمثل ثمنها، ليفسخ البيع، ويعقد معه. ومثله الشراء على شرائه، وذلك بأن يقول مثلاً لمن باع سلعة بتسعة: أنا أشتريها منك بعشرة، فهو في معنى البيع المنهي عنه، فالبيع يشمل البيع والشراء. ¬

_ (¬1) البخاري (2140)، مسلم (1515).

3 - قال الفقهاء: ومحل ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط، واختار الشيخ، وابن القيم، وابن رجب، وكثير من المحققين التحريم، ولو فات زمن الخيار؛ لأنَّ ذلك يورث العداوة بين المسلمين، وربَّما حمل من أُعطي الزيادة على التحيل على فسخ عقد البيع. 4 - قال في شرح الزاد: ويبطل العقد في البيع على بيعه، والشراء على شرائه، دون السوم على سومه فيحرم، ولا يبطل العقد إذا أجري. 5 - قال الشيخ تقي الدين: ومثل تحريم البيع على بيع أخيه سائر العقود، وطلب الولايات ونحوها لأنَّه ذريعة إلى التباغض والتعادي. 6 - الرابع: "السوم على سومه". ومعناه: أن يتَّفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر لمالك المبيع: استرده، فأنا أشتريه بأكثر، أو يقول للمستام: رده؛ لأبيعك خيراً منه بثمنه، أو مثله بأرخص منه. قال الحافظ: ليس المراد السوم في السلعة التي تباع في السوق بالمزايدة، فهذه لا تحرم بالاتفاق لما في الصحيحين من قصة المدبَّر "من يشتريه مني". * قرار مجمع الفقه الإسلام بشأن موضوع "عقد المزايدة": بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، برناوي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد المزايدة"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله: وحيث إنَّ عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات، دعت لضبط طريقة التعامل به، ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين، طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد. قرَّر ما يلي: 1 - عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد، ويتم عند رضا البائع. 2 - يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه، إلى بيع، وإجارةٍ، وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري، كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري، كالمزادات التي يوجبها القضاء، وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية، والأفراد. 3 - أنَّ الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط، وشروط إدارية، أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. 4 - طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعاً، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يَرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة. 5 - لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول "قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية" لكونه ثمناً له. 6 - يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره مشاريع استثمارية؛ ليحقق

لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء كان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف، أم لا. 7 - النَّجش حرام، ومن صوره: (أ) أن يزيد في ثمن السلعة مَن لا يريد شراءها، ليغري المشتري بالزيادة. (ب) أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها؛ ليغر المشتري، فيرفع ثمنها. (ج) أن يدَّعي صاحب السلعة، أو الوكيل، أو السمسار، ادعاء كاذباً أنَّه دُفِع فيها ثمن معيَّن؛ ليدلس على من يسوم. (د) ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغر المشتري، وتحمله على التعاقد. والله أعلم. 7 - الخامس: "أن يخطب على خِطبة أخيه". ومعناه: أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه المسلم بلا إذن الأول، وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك، فإن تزوج والحال هذه فقد عصى الله اتفاقاً، ويصح النكاح عند جمهور العلماء، ولم يبطله إلاَّ داود الظاهري. 8 - ذكر الفقهاء حالات يجوز فيها الخِطبة على الخِطبة، منها: - أن يكون الثاني استأذن الأول، فأذِن له إذناً صريحاً. - أن يكون الثاني غير عالم بخِطبة الأول. - أن ترد خِطبة الأول. - أن يترك الخاطب الأول، ويُعرض عن الخِطبة. ففي هذه الصور لا إثم على الخاطب الثاني إذا خطب. 9 - السادس: "أن تسأل المرأة طلاق الزوجة الأخرى". ومعناه: أن يخطب الرجل المرأة، فتشترط عليه طلاق زوجته،

والمشهور من مذهب الحنابلة صحة هذا الشرط ولزومه إذا شُرط، وعللوا ذلك بأنَّ لها حظًّا ومنفعة من هذا الشرط. والقول الثاني في المذهب: أنَّ الشرط ليس صحيحاً، وهو اختيار الشيخ تقي الدين؛ لأنَّه لا يحل اشتراطه، ولو شرطته فهو لاغ، لما في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". 10 - قوله: "لتكفأ ما في إنائها" تمثيل يقصد به التنفير، وتبشيع هذه الصورة التي تحرم بها الزوجة الجديدة رزق الزوجة الأولى، ونفقتها، وعشرتها مع زوجها. 11 - قوله: "على بيع أخيه" و"خِطبة أخيه" أي في الإسلام، فالعقيدة أقوى رابطة بين المسلم والمسلم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، ثم في هذا التعبير تقريب بين المسلم والمسلم مما لا ينبغي معه أن يشاحنه وينافسه على ما هو أولى، وأخص به. ***

689 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوب الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ فرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، والحاكم، وَلَكنْ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، وقد حسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم، وفي إسناده المعافري مختلف فيه. قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال البخاري: فيه نظر، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. وللحديث شاهدان أحدهما: عن علي، ورجال إسناده ثقات، والثاني: عن أبي موسى، وإسناده لا بأس به. قال الشوكاني عن حديث علي: رجال إسناده ثقات، كما قال الحافظ، وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن القطان، وأما حديث أبي موسى فإسناده لا بأس به. ... ¬

_ (¬1) أحمد (22413)، الترمذي (1283)، الحاكم (2/ 55).

690 - وَعنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أخَوَيْنِ، فبِعْتُهُمَا فَفرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَال: أدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا إِلاَّ جَمِيعاً" رَوَاهُ أَحمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وابنُ القَطَّانِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن لشواهده. قال المؤلف: رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن أبي حاتم، والحاكم، والطبراني، وابن القطان. وقال في التلخيص: حديث علي: أنَّه فرَّق بين جارية وولدها، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورد البيع" رواه أبو داود، وأُعِلَّ بالانقطَاع بين ميمون بن أبي شبيب، وعلي بن أبي طالب، ورواه الحاكم وصحَّح إسناده. ورجَّحه البيهقي لشواهده، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (689) يدل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها من الأرقاء، سواء كان ذلك عن طريق البيع، أو إزالة الملك بغيره. 2 - عموم الحديث يفيد تحريم التفريق بينهما، ولو بعد البلوغ، قال في شرح الإقناع: يحرم، ولا يصح أن يفرق بين ذي رحم ببيع، أو قسمة، أو هبة، أو نحوها، ولو بعد البلوغ، لعموم حديث أبي أيوب، فألحقوا ذوي الأرحام ¬

_ (¬1) أحمد (721)، ابن الجارود (575)، الحاكم (2/ 125).

بالوالدة والولد، وبعض العلماء قصَر تحريم التفريق على ما في النص، ولم يعده إلى غيره. 3 - الحديث رقم (690) يفيد عدم صحة العقد الذي تضمن التفريق، فإنَّ عليًّا -رضي الله عنه- باع الغلامين، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بردهما، ولم يعتبر البيع. 4 - استثنى العلماء العتق وافتداء الأسير، فأجازوا التفريق فيهما، قال في شرح الإقناع: "إلاَّ بعتق فيجوز عتق أحدهما دون الآخر، أو افتداء أسير مسلم بكافر، فيجوز التفريق بينهما للضرورة" 5 - مثل هذه الأحكام الإسلامية الحكيمة الرحيمة، يستدل بها على ما في الإسلام من رحمةٍ ورأفةٍ ونظرات كريمة لهذا الإنسان، الذي حتمت عليه ظروفه أن يكون التصرف فيه بأيدي المسلمين، فلم تَحُل عداوته للإسلام وأهله، ووقوفه في وجه دعوتهم، أن يقسوا عليه، ويعذبوه، ويهينوه، كما تفعل كثير من الدول بأسراهم، وإنما الإسلام يعاملهم بكل معاني الرحمة واللطف، واحترام الشعور. وسيأتي في باب العتق أوفى من هذا إن شاء الله تعالى. 6 - في الحديث أنَّ العقود التي تجري على خلاف المقتضى الشرعي أنَّها لاغية، غير معتبرة، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يعتبر عقد البيع في الغلامين لازماً معتبراً، وإنما اعتبره فاسداً لا ينفذ بمقتضاه حكم. ***

691 - وَعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "غَلاَ السِّعْرُ فِي المَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَال النَّاس: يَا رَسُولَ الله! غَلاَ السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الله هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلاَ مَالٍ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بمجموع طرقه. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والبزَّار من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس، وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي. وللحديث شواهد: 1 - حديث أبي هريرة: عند أحمد وأبي داود، وإسناده حسن. 2 - حديث أنس أيضاً: عند ابن ماجه والبزار، وإسناده حسن أيضاً. 3 - حديث علي: عند البزار. 4 - حديث ابن عباس: عند الطبراني في الصغير. * مفردات الحديث: - غلا السعر: يغلوا، الاسم الغَلاء بالفتح والمد، ومعناه ارتفاع السعر عن الثمن ¬

_ (¬1) أحمد (13545)، أبو داود (3451)، الترمذي (1314)، ابن ماجه (2200)، ابن حبان (4914).

المعتاد ارتفاعًا كثيرًا. - السعر: بكسر السين المهملة، وسكون العين المهملة، وهو ما يُقَوَّم عليه الثمن. - سعر لنا: أمر من التسعير، هو أن يلزم ولي أمر المسلمين، أو نائبه الناس سعرًا مقدرًا محدودًا، يتبايعون به بلا زيادة، ولا نقصان. - القابض: القابض للأرزاق المضيِّق بحِكمته وعدله. - الباسط: الباسط للأرزاق، والموسع فيها بحكمته وفضله. ومثل هذه الأسماء المتقابلة معانيها لا ينبغي أن يوصف الله تعالى بها إلا مقرونًا أحد الوصفين بالاَخرة لأنَّ الكمال المطلق هو من اجتماع الوصفين معًا. - بمظلمة: بفتح الميم وكسر اللام، هو ما يؤخذ بغير حق، وبفتح اللام مصدر ظلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - زادت أسعار المواد الغذائية في المدينة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعله بسبب القحط، وقلة الأمطار، وانقطاع السبل فيما بين المدينة والشام، التي ترد منها الأغذية. فجاء الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه أن يحدد قِيَمًا للأرزاق، ويجعل للتجَّار سعرًا معيَّنًا، وربحًا محددًا لا يزيدون عنه، فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- أرجع الأمور إلي أصلها، بأنَّ الله تعالى هو المتصرف، فهو القابض المضيق على عباده، الباسط الموسع رزقهم بحكمته التي اقتضت ذلك. وأنَّ التحجير على الناس، والحد من تصرفهم ظلمٌ لهم، وإني لأرجو الله تعالي أن يتوفَّاني في هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى، وليس أحد منكم يطلبني بمَظْلَمَةِ في دم، ولا مال.

2 - ففي هذا تحريم التسعير على الناس في أسواقهم وبيوعهم. 3 - فيه تعظيم ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، وأنَّ خطره عظيم يوم القيامة، حيث لا وفاء إلاَّ من الأعمال الصالحة. 4 - فيه إثبات تفرد الله تعالى بالملك والتصرف، فلا شريك له في ذلك، وأنَّ تصرفه بخلقه هو على وفق الحكمة في حال السعة والرخاء، وفي حال الضيق والشدة، فكلها حِكمة عالية، تناسب الحال الحاضرة للمخلوقين. 5 - فيه إثبات الجزاء الأخروي، وأنَّه حق، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. 6 - إذا كان تحديد السعر على الناس ظلمًا تبرأ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما بالك بالحكومات التي تدعي الإسلام، وتسلب أموال الرعية باسم الاشتراكية، وتأميم موارد رزقهم، ثم ترهقهم بالضرائب والرسوم والتعريفات الجمركية، التي ألحقت الفقر والفاقة بالمستهلكين من رعاياهم، ومع هذا لم تزدهم هذه الأعمال إلاَّ فقرًا وديونًا، واستعمارًا للدول الغنية. قال ابن القيم: التسعير منه ما هو محرَّم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بشيء لا يرضونه، أو منعهم مما أباح لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب، وجِماع الأمر أنَّ مصلحة الناس إذا لم تتم إلاَّ بالتسعير سعَّر عليهم بتسعير العدل، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل. قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: الذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا ما ذكره ابن القيم، من أنَّ التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل جائز.

فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب، فالتسعير جائز بشرطين: أحدهما: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس. ثانيًا: أن يكون الغلاء لقلة العرض، أو كثرة الطلب. فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلًا، وضربًا من ضروب رعاية المصلحة العامة، كتسعير اللحوم، والخبز، والأدوية، ونحو هذه الأمور. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تحديد أرباح التَّجار: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ، 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع "تحديد أرباح التجَّار"، واستماعه للمناهشات التي دارت حوله. قرَّر: أولًا: الأصل الذي تقرره النصوص، والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم، وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها، عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].

ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معئنة للربح يتقيد بها التجَّار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق، والقناعة، والسماحة، والتيسير. ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته، كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلاَّ حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار، ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإنَّ لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة، التي تقضي على تلك العوامل، وأسباب الخلل، والغلاء، والغبن الفاحش. والله أعلم. ***

692 - وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَيَحْتكِرُ إِلَّا خَاطِىءٌ" رَوَا مُسْلِمٌ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يحتكر إلاَّ خاطيء: من الاحتكار، وهو شراء الطعام وأقوات الناس للتجارة، وحبسه ليتربَّص به الغلاء، هذا هو تعريفه اللغوي، وقد اشترط الفقهاء له شروطًا ستأتي في الكلام على فقه الحديث إن شاء الله تعالى. - والخاطىء: آخره همزة، قال الراغب: الخطأ العدول عن الجهة، وذلك إضراب، فلفظته مشتركة مترددة بين معان، ومن تلك المعاني أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، قلت: وهو المراد هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الاحتكار هو شراء السلعة للتجارة، وحبسها لتقل في السوق فتغلو ويرتفع سعرها على المشترين. 2 - قسَّم العلماء الاحتكار إلى نوعين: أحدهما: محرَّم، وهو الاحتكار في قوت الآدميين، لِما روى الأثرم عن أبي أمامة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نهى أن يحتكر الطعام"، وهذا النوع هو المراد من الحديث، بأنَّ صاحبه خاطىء، أي عاصٍ آثمٌ مرتكبٌ للخطيئة. الثاني: جائز، وهو في الأشياء التي لا تعم الحاجة إليها، كالأدم، والزيت، والعسل، والثياب، والحيوان، وعلف البهائم، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) مسلم (1605).

3 - قال في شرح الإقناع: ويُجْبر المُحتكر على البيع كما يبيع الناس، دفعًا للضرر، فإن أبى أن يبيع ما احتكره من الطعام، وخيف التلف بحبسه على الناس، فرَّقه الإمام على المحتاجين إليه، ويردون مثله عند زوال الحاجة. 4 - قال شيخ الإسلام: عِوَض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمر لابد منه في العدل، الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو من أركان الشريعة، فقيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل ونحو ذلك محتاج إليه فيما يُضْمن بالإتلاف بالنفوس، والأبضاع، والمنافع، والأموال، وما يضمن بالعقود الفاسدة، والصحيحة أيضًا، وهو متَّفق عليه بين المسلمين، بل وبين أهل الأرض، وهو معنى القسط، الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل فيه الكتب، وهو مقابلة الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها، وهو مثل المسمى "العرف والعادة". فالمسمَّى في العقود نوعان: 1 - نوع اعتاده الناس وعرفوه، فهو العوض المعروف المعتاد. 2 - نوع نادر لفرط رغبة، أو مضرة، أو غيرها، ويقال فيه: "ثمن المثل" فالأصل فيه اختيار الآدميين، وإرادتهم، ورغبتهم. ***

693 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُصَرُّوا الإِبلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ امْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "فَهُوَ بالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَلَّقَهَا البُخَارِيُّ: "وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعامٍ، لاَ سَمْرَاءَ" قَالَ البُخَارِيُّ: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تُصَرُّوا الإبل: بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة وتشديد الراء المضمومة، مأخوذ من التصرية، يقال: صرى يصري اللبن في ضرعها، ومعناه يرجع إلى الجمع، والمصراة اسم مفعول، هي التي تُرْبط أخلافها؛ ليجتمع لبنها للتدليس على المشتري، قال ابن دقيق العيد: لم تأت رواية بحذف الواو من تصروا، قال البخاري: أصل التصرية حبس اللبن في الضرع لذوات الظلف. - فمَن ابتاعَها: أي من اشترى المصراة، فالبيع والشراء يطلق أحدهما على الآخر، والغالب أنَّ البائع باذل السلعة، والمشتري باذل الثمن. - فهو بخيْر النَّظرين: يقال: نظر في الأمر ينظر نظرًا تدبره وفكر فيه؛ ليختار بين الإمساك أو الرد، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها. - بعد أن يحلبها: وروي بكسر "إن" فتكون شرطية، ويحلبها مجزوم، وحلب ¬

_ (¬1) البخاري (2148)، مسلم (1524).

يحلب حلبًا من باب قتل. - بعد: قال الكرماني: بعد هذا النَّهي، أو بعد صر البائع، والثاني أوجه. - صاعًا من تمر: المراد به الصاع النبوي، وقدره بالموازين الحاضرة هو (3000) غرامًا من البر الجيد. وصاعًا من تمر: منصوب بفعل مقدر، تقديره: وردَّ معها صاع تمر. - لاَ سمْرَاء: بفتح فسكون، هي قمح مخصوص، فهي الحنطة الشامية، قال العيني: وكانت أغلى ثمنًا من البر الحجازي، وقال ابن الأثير في النهاية: السمراء هي الحنطة، ومعنى نفيها: أي لا يلزم أن يعطي الحنطة لأنَّها أغلى من التمر بالحجاز. ***

694 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَنِ اشْتَرى شَاةً مُحَفَّلَةً فردَّها، فَلْيُردَّ مَعَهَا صَاعًا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَزَادَ الإسْمَاعِيلِيُّ: "مِنْ تَمْرٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُحفَّلة: بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الفاء الموحدة، يقال: حفل اللبن في الضرع اجتمع. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الإسلام يريد بناء المعاملات على الصدق والأمانة والنصح، وينهى عن الخداع والتغرير، والتدليس لما يجره من غش يترتب عليه العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل. 2 - نهى في هذين الحديثين عن التدليس، وذلك بترك اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند إرادة بيعها، حتى يجتمع، فيظنه المشتري عادة لها، فيشتريها بما لا تستحقه من ثمن، ويكون البائع قد غشَّ المشتري وظَلَمَه. 3 - النَّهي يقتضي التحريم؛ لأنَّه أكل لأموال الناس بالباطل. 4 - البيع صحيح، لقوله: "إن رضيهَا أمسكها" ولكن له الخيار بين الإمساك الرد، إذا علم بالتصرية، سواء علمه قبل الحلب أو بعده. 5 - أن أمسكها فهو بثمنها الذي عليه العقد، وإن ردها رد معها صاعًا من تمر بدلًا من اللبن الذي اشتريت وهو في ضرعها، إذا حلبها المشتري، أما اللبن الحادث بعد حلبه التصرية فلا يرد عنه شيئًا؛ لأنَّ الخراج بالضمان. ¬

_ (¬1) البخاري (2149).

6 - يفيد الحديث أنَّ كل بيع فيه التدليس فهو محرَّم، وأنَّ المدلس عليه بالخيار. 7 - مدة خيار المشتري بالرد أو الإمساك ثلاثة أيام منذ علِم بالتصرية. 8 - أما البائع فالعقد لازم في جانبه، لأنَّه لا يوجد من قِبله ما يفسد العقد، ويوجب الرد. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، إلى رد صاع من تمر عن لبن المصراة عند ردها إلى البائع لحديث الباب. وذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى أن يردها، ولا يرد معها شيئًا، واللبن للمشتري بدل علفها، واعتذروا عن الأخذ بالحديث بأئَه مخالف لقياس الأصول، وهو أنَّ اللبن مثلي، فيقتضي الضمان بمثله. والجواب أنَّ خبر الشارع الثابت هو الأصل الذي يجب الرجوع إليه. قال الخطابي: الحديث إذا صح وثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليس إلاَّ التسليم له، وكل حديث أصل برأسه، ومعتبر بحكمه في نفسه، فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة، أو يتذرع إلى إبطاله بعدم النظير له، وقلة الأشباه في نوعه. والأصل إنما صارت أصولًا لمجيء الشريعة بها، وليس ترك الحديث بسائر الأصول، بأولى من تركها له. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مُجمع على صحته، واعتلَّ من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها. ***

695 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ علَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أصَابِعُهُ بلَلًا، فَقَال: مَا هَذا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أصَابتهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله! قالَ: أفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَام كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ، فَلَيْسَ مِنِّي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - صُبْرَة: بضم الصاد المهملة، وسكون الباء الموحدة. الصبرة: هي الكومة المجموعة من طعام وغيره، سميت صبرة، لإفراغ بعضها على بعض، وضم بعضها إلى بعض. - بلَلًا: بفتحتين، الندى والرطوبة. - أصابتْه السماء: أي المطر النازل من السماء. - غشَّ: الغِش بكسر الغين، وأصله من الغشش: وهو الماء المكدر، والغش ضد النصح، فهو الغدر والخديعة، فهو غاش، وجمعه غُشَّاش وغَشَشَة. - فَليس مني: قال النووي: كذا بالأصول بياء المتكلم، ومعناه ليس ممن اهتدى بهدي، واقتدى بحسن طريقتي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث دليل على تحريم غش الناس في البيع، وسائر المعاملات. 2 - أنَّ الواجب على البائع إذا كان طعامه أو غيره من السلع معيبًا، أو رديئًا، أن ¬

_ (¬1) مسلم (102).

يجعله هو الأعلى؛ ليشاهده المشتري، فلا يُقْدِم في الشراء إلاَّ على علم وبصيرة. 3 - يدل على جواز بيع الرديء والمعيب إذا رآه الناس، وعلموا به، ورضوا شراءه. 4 - وأما قوله: "من غشَّ فليس مني" فقد اختلف العلماء في تفسيره. قال سفيان بن عيينة: نمسك عن تأويله، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر. وقال النووي: معناه ليس ممن اهتدى واقتدى بعلمي، وحسن طريقتي، وشيخ الإسلام يرى استحقاقه الوعيد لو لم يقم بالشخص ما يدفعه أو يخففه من أعمال. 5 - هذا البيع من التدليس الذي يجعل للمشتري الخيار في إمساك المبيع، أو رده على البائع، والرجوع بثمنه. 6 - ومما يؤسف له أنَّ أكثر معاملات الناس الآن جارية على هذا، لا يرون فيه بأسًا، ولا يخشون من عمله عقابًا، مما سبب منع القطر والقحط، ونزع البركة. 7 - الغش محرم في كل عمل وصنعة ومعاملة، فهو محرَّم في الصناعات، ومحرَّم في الأعمال المهنية، ومحرَّم في المعاملات، ومحرَّم في العقود، ومحرَّم بما تحت يد الإنسان من أعمال حكومية، أو أعمال للناس. فالغش يدخل في عموم ما يقوم به الإنسان، فإن نصَحَ فيه، وأخلص فيما وجب عليه، أَكَلَ رزقًا حلالًا، وإن خان وغش، ظلم نفسه، وظلم غيره، وأكل حرامًا.

696 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَن أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَبَسَ العِنَبَ أَيَّامَ القِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، فَقَد تَقَحَّمَ النَّارَ عَلى بَصِيرَةٍ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الحافظ: إسناده حسن. قال في التلخيص: أخرجه الطبراني عن محمَّد بن أحمد بن أبي خيثمة بإسناده عن بريدة مرفوعًا. * مفردات الحديث: - حَبس العنب: أبقى العنب حينما جاء وقت قطافه حتى يكون زبيبًا. - القِطَافَ: بكسر القاف وفتحها هو أوان قطف الثمر من الشجر. - تقحَّم النار علن بصيرة: بفتح التاء والقاف وتشديد الحاء آخره ميم، رمى بنفسه في النار على علم بالسبب الموجب لدخوله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الخمرة تتخذ من أشياء كثيرة، لكن أكثر ما يتَّخذونها من الزبيب، فمن ترك العنب فلم يقطفه إبان قطافه ليصير زبيبًا، فيبيعه على الذين يتَّخذون منه خمرًا، فقد عمل السبب الذي يوجب له دخول النار. وذلك على علم منه بذلك وبصيرة، لأنَّه أقدم على المحرَّم عالمًا به. 2 - عموم الحديث يدل على تحريم ذلك، لو كان المشتري ممن يُقَرُّون على ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط (5356).

شربها، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك أنَّ الكفار مخاطبون، ومسؤولون عن أصول الشريعة وفروعها، وأوامرها ونواهيها. 3 - قال شيخ الإسلام: يحرم ذلك، ولو غلب على ظنه ذلك بالقرائن، وهو ظاهر نص أحمد، وصوَّبه في الإنصاف. 4 - قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. قال ابن القيم: قد تظاهرت أدلة الشرع على أن القصود في العقود معتبرة، وأنَّها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته. 5 - يقاس على ذلك كل ما أعان على معصية كآلات اللهو، وتأجير الحوانيت، لمن يبيع فيها خمرًا، أو دخانًا، أو تأجير بيته لمن يتَّخذه للبِغَاء والفساد، أو يعمل في مؤسسات تعمل في الربا، وغير ذلك من الأمور الكثيرة، فإنَّه يحرم ذلك عليه إذا تيقن الأمر، أو غلب على ظنه بطرقٍ أُخر. 6 - هناك أشياء يصلح أن تستعمل في الخير، ويصلح أن تستعمل في الشر، مثل الراديو والتلفاز، وأشرطة التسجيل، ونحو ذلك، فهذه لا تحرم؛ لأنَّها كما أنَّه يوجد فيها مفسدة، فإنَّه يوجد فيها مصلحة، أو مصالح، ووجود المفسدة والمصلحة في الشيء الواحد كثير جدًا، فمثل هذا لا يعطى حكم الحرمة مطلقًا، وإنما تعطى حكم الحرمة إذا علمتَ، أو غلب على ظنك أنَّ هذا المشتري لم يشتره إلاَّ للأمر المحرَّم. ***

697 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ القَطَّانِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم، وابن القطان. وضعَّفه البخاري وأبو داود ضعَّفه البخاري؛ لأنَّ فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ذاهب الحديث. قال في التلخيص: صححه ابن القطان، وقال ابن حزم: لا يصح. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. قال الألباني: ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير مخلد بن خفاف. وقد وثقه ابن حبَّان، وقال ابن حجر: مقبول بالمتابعة، وقد توبع في هذا الحديث، وقد تلقاه العلماء بالقبول. * مفردات الحديث: - الخراج: بفتح الخاء ثم راء مخففة، الغلة والكرا، أي الفوائد والمنافع الحاصلة من العين المباعة. ¬

_ (¬1) أحمد (3091)، أبو داود (3508)، الترمذي (1285)، النسائي (7/ 254)، ابن ماجه (2442)، ابن الجارود (627)، ابن حبان (1125)، الحاكم (2/ 15).

- بالضمان: بفتح الضاد الكفالة، والباء متعلقة بمحذوف، والتقدير: منافع المبيع، تكون للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بتلف المبيع، ونفقته ومؤنته. قال ابن الأثير في النهاية: الباء بالضمان متعلقة بمحذوف، وتقديره، الخراج مستَحق بسبب الضمان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من "أنَّ رجلًا اشترط غلامًا في زمن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان عنده ما شاء الله، ثم رده من عيب وجده، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الخراج بالضمان". 2 - الخراج بالضمان: يعني أنَّ ما خرج من المبيع من غلة ومنفعة فهو للمشتري، عوضَ ما كان يَلْزَمُه من ضمان المبيع لو تلف، فالغلة إذًا تكون له في مقابل الغرم، ولأنَّ من تحمل الخسارة -لو حصلت- يجب أن يحصل على الربح، وتقدم قول ابن الأثير أنَّ الباء في "بالضمان" متعلقة بمحذوف، تقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي بسببه. 3 - هذا الحديث الوجيز المفيد من جوامع الكلم لاشتماله على معانٍ كثيرةٍ، حتى أصبح، "قاعدةً" من قواعد الدين وأصوله، فتخرج عليها ما لا يحصى من المسائل، والصور الجزئية. 4 - فمن ابتاع أرضًا فاستعملها، أو ماشيةً فحلبها أو نتجها، أو دابةً، أو سيارةً. فركبها وحمل عليها، ثم وجد بشيء من ذلك عيبًا فله أن يرد الرقبة، ولا شيء فيما انتفع به؛ لأنَّها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت في ضمان المشتري، فوجب أن يكون له الخراج.

قال في المنتهى وشرحه: ولا يَرُدُّ مشترٍ -ردَّ مبيعًا لعيبه- نماءً منفصلًا منه، كثمرة، وولد بهيمة، وله كسبه من عقد إلى ردٍّ؛ لحديث: "الخراج بالضمان" فلو هلك المبيع لكان من ضمانه. 5 - في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، ولهم تفصيلات فيما يبقى للمشتري، وما يرده مع المبيع إذا رده على البائع، ولكن ما قررنا هنا هو مذهب الإمامين، الشافعي وأحمد، وهو الذي يدل عليه الحديث "الخراج بالضمان". ***

618 - وَعَنْ عُرْوَةَ البَارِقِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أعْطَاهُ دِينارًا لِيَشْتَرِي بِهِ أُضحِيَّهً أوْ شَاةً، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَّيْنِ، فَباعَ إِحْدَاهمَا بِدِيْنارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِيْنارٍ، فَدَعَا لَهُ بالبرَكةِ فِي بيعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابا لَرَبحَ فِيهِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وَقدْ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظهُ (¬1)، وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن. قال المؤلف: رواه الخمسة إلاَّ النسائي، وأصله في البخاري. قال في التلخيص: في إسناده سعيد بن زيد مختلف فيه، وقال المنذري والنووي: إسناده حسن صحيح، ومال كل من ابن القطان والخطابي والزيلعي إلى أنَّ الحديث منقطع، ذلك لأنَّ شبيب بن غرقدة يقول: إنَّ الحيَّ حدثوه، وقال ابن حجر في فتح الباري: الصواب أنَّه متَّصل، وفي إسناده مبهم، وهذا المبهم هو سعيد بن زيد بن درهم الأزدي، قال حرب: سمعتُ أحمد يثني عليه، وللحديث شاهد عند الترمذي عن حكيم بن حزام. وأما الشاهد من حديث حكيم بن حزام فراويه عن حكيم هو حبيب بن ثابت، وقد ضعَّف الحديث الترمذي، والبيهقي، والخطابي، وقالوا: إنَّه ¬

_ (¬1) أحمد (18549)، أبو داود (3384)، الترمذي (1257)، ابن ماجه (2402)، البخاري (3642). (¬2) الترمذي (1257).

منقطع، لأنَّ حبيب ابن ثابت لم يسمع من حكيم، وفيه راوٍ مجهول. قُلتُ: وَهَذا في الكلام عن الشاهد، فلا يطعن في أصل الحديث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز الوكالة فيما تدخله النيابة من الأعمال، كالبيع والشراء، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكَّل عروة البارقي بشراء الشاة. 2 - يدل الحديث على جواز تصرف الفضولي ونفاذ عقده بعد إجازة من تصرف له، ويصير التصرف لمن وقع له التصرف، وهذه رواية في مذهب الإمام أحمد. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ بيع الفضولي وشراءه صحيح، إذا أجازه من تصرف له. أما المشهور من المذهب، فإنَّ تصرف الفضولي لا يصح، ولو أجازه من تصرف له، ولكن الرواية أصح إن شاء الله تعالى، وحديث عروة البارقي صريح في جوازها. 3 - أنَّ شراء الشاة في هذا الحديث ليس تعيينًا لها أضحية فلا تبدل؛ لأنَّ الشراء يراد لأمور كثيرة، وإنما تتعيَّن بقوله: هذه أضحية، أو هذه لله؛ لأنَّها لو تعيَّنت بمجرد الشراء لم يجز بيعها، ولا هبتها؛ لتعلق حق الله تعالى بها. 4 - بركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بلغ بهذا الرجل أن لا يخسر في صفقة، حتى لو اشترى ترابًا لربح فيه. 5 - أنَّ الدعاء هو مكافأة لمن صنع للإنسان معروفًا، أو نفعه بشيء، أو أعطاه شيئًا. 6 - أنَّ الفرح بحصول الدنيا وزيادتها لا تنافي الاتجاه إلى الله تعالى، ما دام أنَّ الدنيا ليست هي هم من نالها، وإنما يُسرّ بها لقضاء واجباته ونفقاته، ولم يحرص على تحصيلها وجمعها للتكاثر، والتباهي بها.

7 - الحديث صريح في عدم تحديد الربح في البيع والشراء، وأنَّ هذا خاضع لنظام العرض والطلب في الأسواق، فهذا عروة ربح في بيعه الضعف، ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. قالت لجنة الفتوى في إدارة البحوث العلمية: الأصل في الأثمان عدم التحديد، سواء كانت في الحال أو المؤجل، فتترك لتأثير العرض والطلب، إلاَّ أنَّه ينبغي للناس أن يتراحموا فيما بينهم، وأن تسود بينهم روح السماحة في البيع والشراء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى". * قرار مجمعى الفقه الإسلامي بشأن تحديد الأرباح: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى، 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تحديد أرباح التُّجار، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرَّر: أولًا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم، وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها، عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيَّد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة، والسماحة والتيسير.

ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته، كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغلال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلاَّ حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار، ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإنَّ لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة، التي تقضي على تلك العوامل، وأسباب الغلاء، والغبن الفاحش، والله أعلم. ***

699 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعامِ حتَّى تَضَعَ، وَعنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ العَبْدِ وَهُو آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبضَ، وَعنْ ضَرْبه الغَائِصِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالبَزَّارُ، والدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن. قال البيهقي: وهذه المناهي داخلة في بيع الغرر الذي نهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن حجر: رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف؛ لأنَّه من حديث شهر بن حوشب، وقد تكلَّم فيه جماعة، كالنضر بن شميل والنسائي، وابن عدي وغيرهم، وقال البخاري: وشهر بن حوشب حسن الحديث، وقوى أمره، وروي عن أحمد أنَّه قال: ما أحسن حديثه. * مفردات الحديث: - آبق: أبق؛ بكسر الباء وفتحها وضمها في المضارع، هارب من سيده، وفرَّق الثعالبي بين آبق وهارب، فقال: آبق إذا هرب من غير كد، وهرب إذا فعل ذلك من كد. - المغانم: جمع غنيمة، وهي ما استُولي عليه قهرًا من أموال الكفَّار المحاربين. - ضربة الغائص: غاص في الماء غوصًا نزل تحته، وضربة الغائص، أي: نزلته في أعماق البحر؛ لاستخراج اللؤلؤ. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2196)، الدارقطني (3/ 44).

700 - وَعنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي المَاءِ فإِنَّهُ غَرَرٌ" رَوَاهُ أَحمَدُ، وأَشَارَ إِلى أنَّ الصَّوَابَ وقَفُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف، وروي مرفوعًا، والموقوف له حكم المرفوع، والله أعلم. قال في التلخيص: رواه أحمد مرفوعًا وموقوفًا من طريق يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عنه. قال البيهقي: فيه إرسال بين المسيب وعبد الله، والصحيح وقفه. وقال الدارقطني: الموقوف أصح، وكذا قال الخطيب وابن الجوزي. وفي الباب عن عمران بن حصين مرفوعًا رواه ابن أبي عاصم، وقال الهيثمي: رواه أحمد موقوفًا ومرفوعًا، والطبراني في الكبير كذلك، ورجال الموقوف رجال الصحيح، وفي رجال المرفوع شيخ أحمد، محمد بن السماك، ولم أجد من ترجمه، وبقيتهم ثقات اهـ. وهو أيضًا داخل في حديث النَّهي عن بيع الغرر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر". والغرر ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه، من مجهول، أو معدوم، ¬

_ (¬1) أحمد (3494).

أو معجوز عن الحصول عليه، أو غير مقدور عليه، فهذا كله غرر. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه لا يجوز بيع الغرر. 2 - البيوعات المذكورة في هذين الحديثين كلها بيوع غرر، ولذا نهى عنها الشارع الحكيم لما يجرّه الغرر والجهالة من مفسدتين كبيرتين: الأولى: أنَّ الجهالة والغرر يسببان أكل أموال الناس بالباطل، فأحد العاقدين إما غانم بلا غرم، أو غارم بلا غُنم؛ لأنَّها رهان ومقامرة. الثانية: إنَّ هذه العقود تجر العداوة والبغضاء، وتسبب الحقد والشحناء، والإسلام جاء للقضاء على هذه المفاسد. 3 - البيوعات المذكورة في هذين الحديثين النَّهي عن تعاطيها يعود إلى ثلاثة أمور: إما لجهالتها، وإما للعجز عن تسليمها، وإما لعدمها حين العقد. 4 - قوله: "شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع" وهو بيع الحمل في بطن أمه، فهذا هو بيع الملاقيح المنهي عنه، لأنَّه مجهول فهو من بيع الغرر، ولكن لو بيع الحمل مع أمه صحَّ؛ لأنَّه تابع وليس مستقلاً والقاعدة الشرعية: "يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا" منطبقة على هذا. 5 - قوله: "وعن بيع ما في ضروع بهيمة الأنعام" لأنَّه مجهول غير معلوم المقدار، فهو من بيع الغرر. 6 - قوله: "وعن شراء العبد وهو آبق" وذلك لعدم القدرة على تحصيله وتسليمه، فهو من أنواع بيع الغرر، ومثله الجمل الشارد، والطير في الهواء، ونحو ذلك. 7 - قوله: "وعن شراء المغانم حتى تقسم" لأنَّ نصيب الغانم مجهول المقدار، فإن كان باع معينًا من الغنيمة، فيزيد على الجهالة أنَّه باع ما لم يملكه، فقد باع ما ليس عنده. 8 - قوله: "وعن شراء الصدقات حتى تقبض" وعلة النَّهي هي الجهل بالمقدار،

والعلة الأخرى أنَّه باع ما لم يملكه، فإنَّ مستحق الصدقة لا يملكها إلاَّ بعد قبضها بإذن المتصدق، كالهبة. 9 - قوله: "عن ضربة الغائص" فضربة الغائص جَمَعَت من محاذير عدم صحة العقد: الجهل بقدر ما يحصله الغائص في ضربته التي يريد المشتري كسبها، وعدم ملك البائع لها حين العقد، ففيها غرر كبير. 10 - قوله: "عن شراء السمك في الماء" وعلَّة النَّهي هنا أمران: أحدهما: عدم القدرة على الحصول عليه، وتسليمه للمشتري. الثاني: الجهل به، فإنَّ السمك بالماء الغمر مجهول غير معروف القدر، وغير معروف الحجم، وغير معروف النوع، فهو مجهول، فبيعه غرر كبير. 11 - استثنى الفقهاء السمك إذا كان بماء مَحُوز، نحو بركة يسهل أخذه، والماء صافٍ يعلم فيه مقدار السمك وأحجامه، فإنَّه يجوز بيعه لإمكان أخذه ولمعرفته، فلا غرر في ذلك. 12 - أما بعد: فباب الغرر باب واسع لا يحاط بجزئياته، ولا تحصى مفرداته، ولكن تحكُمه ضوابط شرعية تحدد أفراده، وتميز معالمه، وهو باب خطر من أبواب المعاملات، كان في زمن الجاهلية يتمثل في بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، والجمل الشارد، وبيع الحصاة، والملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، وما زالت جزئيات منه وأنواع، تظهر في كل زمان ومكان، حسب ما يناسب حالة أهله، حتى ظهر في زمننا أنواع منه خطرة جدًا، أفقرت بيوتًا تجارية كبرى، وقضت علما مستقبل وحياة أفراد فُتِنُوا بالميسر والقِمار، الذي ظهر بوسائله وأدواته الحديثة، ومؤسسات اليانصيب، وألعاب: "أُطرقْ بابَ الحظِّ بِعِنَادٍ" (1)، و"الوتري"، وغير ذلك مما نسمع عنها أنَّها سببت ثراء قوم بلا جهد، وفقر آخرين بالباطل، وكل هذا من

أعمال الشيطان، التي قال تعالى عنها: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] اللَّهمَّ بصِّر المسلمين في أمر دينهم. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن موضوع عملية اليانصيب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وعليه آله وصحبه وسلم ... أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415هـ، 21/ 1/ 1995م قد نظر في هذا الموضوع وهو عملية اليانصيب، وهي المعرَّفة في القانون بأنَّها "لعبة يسهم فيها عدد من الناس بأن يدفع كل منهم مبلغًا صغيرًا ابتغاء كسب النصيب، وهو عبارة عن مبلغ كبير، أو أي شيء آخر، يوضع تحت السحب، ويكون لكل مساهم رقم، ثم توضع أرقام المساهمين في مكان، ويسحب منها عن طريق الحظ رقم، أو أرقام، فمن خرج رقمه كان هو الفائز بالنصيب. وبناء على هذا التعريف فإن عملية اليانصيب تدخل في القمار؛ لأنَّ كل واحد من المساهمين فيها، إما أن يغنم الينصب كله، أو يغرم ما دفعه، وهذا ضابط القمار المحرَّم. والتدبير الذي تذكره بعض القوانين لجواز لعبة اليانصيب إذا كان بعض دخلها يذهب للأغراض الخيرية، يرفضه الفقه الإسلامي؛ لأنَّ القِمار حرام أيًّا كان الدافع إليه، فالمَيسر وهو قمار أهل الجاهلية كان الفائز فيه يفرق ما كسبه على الفقراء، وهذا هو نفع الميسر الذي أشار إليه القرآن، ومع ذلك حرمه؛ لأنَّ إثمه أكبر من نفعه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم أنزل سبحانه قوله

تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة] ثم يوصي المجلس بأن تقوم إدارة المجمع بإجراء دراسة ميدانية لأنواع الجوائز والمسابقات والتخفيضات، المنتشرة في وسائل الإعلام، والأسواق التجارية، ثم استكتاب عدد من الفقهاء والباحثين، وعرض الموضوع على المجلس في دورته القادمة إن شاء الله. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ***

701 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ، وَلاَ يُبَاعُ صُوفٌ عَلى ظَهْرٍ، وَلاَ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ" رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ فِي الأوْسَطِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي المَرَاسِيلِ لِعِكْرِمَةَ وهو الرَّاجِحُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلى ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَرَجَّحَهُ البَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل صحيح، وروي بإسناد صحيح موقوفًا على ابن عبَّاس، لكن له حكم الرفع، إذ هو مما لا مجال للرأي فيه. قال المؤلف: رواه الطبراني والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة وهو الراجح، وأخرجه موقوفًا عن ابن عباس بإسنادٍ قوي، ورجَّحه البيهقي، قال في التلخيص: وللبزار بإسناد صحيح عن طاووس عن ابن عباس بلفظ: "نهى عن بيع الثمار حتى تطعم". قال الهيثمي: رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - ثمرة: بالمثلثة، وأكثر ما تطلق الثمرة على ثمرة النخل. - تُطعِم: بضم المثناة الفوقية وكسر العين المهملة، يبدو صلاحها، يقال: أطعمت البسرة صار لها طعم، والطعم ما تدركه حاسة الذوق. - الضَّرع: بفتح الضاد، جمعه ضروع مدر اللبن لذات الظلف، كما يسمى ثديًا للمرأة. ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط (3708)، الدارقطني (3/ 14)، أبو داود في المراسيل (182)، البيهقي (5/ 340).

702 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن بيعِ المَضَامِينِ وَالمَلاَقِيحِ" رَوَاهُ البَزَّارُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل صحيح، وروي بإسنادٍ قويٍّ موقوفًا على ابن عمر -رضي الله عنهما- له حكم الرفع، والله أعلم. قال في التلخيص: رواه إسحاق بن راهويه والبزَّار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وهو ضعيف. وقد رواه مالك عن الزهري، وعن سعيد بن المسيب مرسلاً، قال الدارقطني: وصله عمر بن قيس عن الزهري، والصحيح قول مالك، وفي الباب عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، وإسناده قوي. اهـ. وهذا الموقوف له حكم الرفع، والله أعلم. قال ابن القيم في زاد المعاد: الحديث صحيح. وقال الحافظ عن الشاهد: إسناده قوي. * مفردات الحديث: - المضامين: المضامين: هي ما في أصلاب الفحول، وهي جمع مضمون. - الملاقيح: جمع ملقوح، وهي ما في بطون النوق، ولقحت الناقة، قبلت ماء الفحل، فهي لاقح، وجمعها ملاقيح ولواقح. ¬

_ (¬1) البزار (1267).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - النَّهي عن بيع الثمرة من التمر، والعنب، والتين، وغيرها حتى يدخلها الطعم الحلو، ويبتدي فيها النضج، وتخف إصابة العاهات السماوية بها، وسيأتي الكلام عنها بأوسع من هذا. 2 - النَّهي عن بيع الصوف على ظَهر الدابة، لأنَّه مجهول، فيفضي إلى الغرر والخصومة، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. والرواية الأخرى، جواز بيع الصوف على الظَّهر بشرط القطع في الحال؛ لأنَّ المدار على الجهالة، والصوف يشاهد، ويعرف، فلا جهالة فيه. وهذا هو مذهب الإمام مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. 3 - الملاقيح والمضامين: قال أبو عبيد: المضامين ما في أصلاب الفحول، والملاقيح: ما في بطون الأمهات من الأجنة. قال شيخ الإسلام: ومن أنواع الغرر بيع الملاقيح والمضامين، فكل بيع غرر، فهو من الميسر الذي حرَّمه الله في القرآن. 4 - بيع اللبن في الضرع تقدم أنَّه من الغرر. ***

باب الخيار

باب الخيار مقدمة الخِيَار: بكسر الخاء المعجمة، وهو اسم مصدر اختار يختار، وليس مصدرًا، فاسم المصدر، هو ما ساوى المصدر في الدلالة على الحدث، ولم يساوه في اشتماله على جميع أحرف فعله، بل خلت هيئته من بعض أحرف فعله، لفظًا وتقديرًا. والخيار شرعًا: في بيع وغيره: طلب خير الأمرين، وهُما هنا فسخ البيع، أو إمضاؤه. وخيار المجلس ثابت بالسنة الصحيحة، ويقتضيه القياس. * اختلاف العلماء: اختلف العلماء في صحة البيع. فذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة إلى صحته، لأدلته الثابتة. وذهب المالكية إلى عدم صحته، واعتذورا عن العمل بأحاديثه بأعذار ضعيفة، منها أنَّه خلاف عمل أهل المدينة، فأجاب الجمهور عن أعذارهم. * حكمته: قال ابن القيم: أثبت الشارع خيار المجلس في البيع حكمةً ومصلحةً للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضا الذي شرطه الله تعالى فيه بقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فإنَّ العقد يقع بغتة من غير تروٍّ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد أمدًا يتروَّى فيه المتعاقدان، ويعيدان فيه النظر، ويستدرك كل واحد منهما ما فاته.

703 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَه" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححه من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال القشيري: هو على شرطهما، وصححه ابن حزم، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، وصححه المنذري، وابن دقيق العيد. * مفردات الحديث: - أقال مسلمًا بيْعَتَهُ: قال فلانًا البيع يقيله قيلًا: فسخه، كما يقال: أقاله إقالة فسخه، والإقالة في البيع هي فسخٌ للبيع، ورفع وإزالة للعقد، الواقع بين المتعاقدين. - عَثْرَتَه: بفتح العين وسكون الثاء المثلثة ثم راء ثم تاء، يقال: عثر يعثر عثرًا: زلَّ وسقط، والعثرة المرة، جعهما عثرات، أي غفر الله زلَّته وخطيئته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال في شرح الإقناع: الإقالة: فسخ للعقد، لأنَّها عبارة عن الرفع، والإزالة، فليست بيعًا. 2 - هي مستحبة للنادم، لما تقدم من حديث الباب "من أقال مسلمًا بيعته، أقال ¬

_ (¬1) أبو داود (3465)، ابن ماجه (2199)، ابن حبان (7/ 243)، الحاكم (2/ 45).

الله عثرته يوم القيامة". 3 - تصح الإقالة بلا شروط بيع، لأنَّها فسخ للعقد وليس بيعًا، فتصح في البيع، ولو قبل قبضه، وتصح في مكيلٍ، وموزونٍ، ومعدودٍ، ومذروعٍ، بغير كيلٍ ووزنٍ وعدٍ، وزرعٍ. والخلاصة: أنَّها لا تأخذ شروط البيع وأحكامه؛ لأنَّها رفع للعقد، وإزالة له فقط. 4 - لا تصح الإقالة بزيادة على الثمن المعقود به، أو بأنقص منه، أو بغير جنسه، لأنَّ مقتضى الإقالة رد الأمر إلى ما كان عليه. 5 - ما حصل في البيع من كسبٍ، أو نماءٍ منفصلٍ، فهو للمشتري لحديث: "الخراج بالضمان"، فما حصل من المبيع من نماء منفصل إنما مستحق بضمان المبيع مدة بقائه عند المشتري، قبل الإقالة. ***

704 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلى ذلِكَ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الخيار: خبر لقوله: "كل واحد" أي محكوم له بالخيار، والخيار اسم مصدر، حيث المصدر: الاختيار، وهو طلب خير الأمرين: إما إمضاء البيع، أو فسخه. - إذا تبايع: تفاعل، وباب التفاعل بمعنا المفاعلة، فيكون: "وكانا جميعًا" تأكيدًا له. - ما لم يتَفَرَّقَا: هكذا في أكثر الروايات بتقديم التاء وبتشديد الراء، وعند مسلم ما لم يفترقا بتقديم الفاء والتخفيف، وقد فرَّق بينهما بعض أهل اللغة بأن يفترقا بالكلام، ويتفرَّقا بالأبدان، فالرواية هنا تؤيد أنَّ المراد التفرق بالأبدان. - أو يخير أحدهما الآخر: في إعرابه وجهان: أحدهما: جزم، "يخير" عطفًا على "ما لم يتفرَّقا". الوجه الثاني: نصب "يخير"، بأن مضمرة بعد أو، والمعنى: إلاَّ أن يخير أحدهما الآخر. قال النووي: معنى أو يخير أحدهما الآخر أن يقول: اختر إمضاء البيع، فإذا اختار وجب البيع. ¬

_ (¬1) البخاري (2112)، مسلم (1531).

705 - وَعَنِ عَمْرِو بنِ شُعَيب عَنْ إبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "البَائِعُ وَالمُبْتَاعُ بِالخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ أَنْ تَكُون صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِيلَهُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ ابْنَ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابنُ الجَارُودِ. وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى يَتفَرَّقَا عَنْ مَكَانِهِمَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الألباني: أخرجه النسائي، والترمذي، وأبو داود، من طريق عمرو بن شعيب. قال الترمذي: حديث حسن، وقد استقر رأي جماهير المحدثين على الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، بعد خلاف قديم فيه. قال الدارقطني: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صحَّ سماع عمرو عن أبيه شعيب، وصحَّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. وعن البخاري، أنَّه سئل: هل سمع شعيب من عبد الله بن عمرو؟ قال: رأيتُ علي ابن المديني، وأحمد بن حنبل، والحميدي، وإسحاق يحتجون به. * مفردات الحديث: - صفقة: يقال: صفق يصفق صفقًا، ضرب البائع يده بيد المشتري عند عقد ¬

_ (¬1) أحمد (6434)، أبو داود (3456)، الترمذي (1247)، النسائي (7/ 251)، الدارقطني (3/ 50)، ابن الجارود (620)، البيهقي (5/ 271).

البيع، حتى يسمع لها صوت، وكانت هذه عادة العرب عند إيجاب البيع، ثم سمي عقد البيع صفقة. - صفقة الخيار: الصفقة هي أن يعطي الرجل الرجل عهده وميثاقه، فيضع يده في يده، والمراد هنا يتبايعان على أنَّ لا خيار مجلس بينهما، ويوجبان البيع. صفقة خيار: بالرفع على أنَّ "كان" تامة أي: إلاَّ أن توجد صفقة خيار، وبالنصب على أنَّ "كان" ناقصة، واسمها مضمر، والتقدير إلاَّ أن تكون الصفقة صفقة خيار. - خشْية أن يَسْتَقِيله: خوف أن يرجع في بيعته، ويفسخها معه. - البائع والمبتاع: هما متبايعان حقيقة، وقد ترتبت أحكام الملك وعهدته على كل واحد منهما؛ من الثمن والمثمن، وأما خيار المجلس فما هو إلاَّ فسحة لكل منهما لاستدراك ما قد غفل عنه، هذا ما لم يسقطا هذا الحق بإمضاء البيع بلا خيار. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - لما كان البيع قد يقع بلا تفكر ولا تروٍّ، فيحصل للبائع أو المشتري ندم على فوات بعض مقاصده، جعلَ له الشارع الحكيم أمدًا يتمكن فيه من فسخ العقد، وهذا الأمد هي مدة مجلس العقد، فما دام العاقدان في مجلس العقد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد، أو فسخه. 2 - إذا افترق العاقدان بأبدانهما عن مجلس العقد قبل فسخ العقد لزم البيع. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا وجب البيع، وتفرقا من المجلس من غير خيار، فليس لأحدهما الرد إلاَّ بعيب. 3 - أنَّ العاقدين لو اتَّفقا على إسقاط الخيار بعد العقد، وقبل التفرق سَقط، أو تبايعا على أن لا خيار بينهما لزم العقد؛ لأنَّ الحق لهما وكيفما اتَّفقا جاز، ولو أسقط أحدهما خياره بقي خيار الآخر.

4 - لم يحد الشارع حدًّا للتفرق فمرجعه إلى العرف، فما عده الناس تفرقًا أنيط الحكم به، ولزم البيع، فالتنحي في الصحراء يعد تفرقًا، والخروج من البيت الصغير، أو الصعود إلى أعلاه، يعد تفرقًا ملزمًا للبيع. 5 - تحريم التفرق خشية فسخ العقد، لقوله: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" ولأنَّه تحيل لإسقاط حق الغير الواجب. قال الإمام أحمد: يحرم التحيل لإبطال حق مسلم. قال ابن القيم: اتفق السلف على أنَّ من احتال على تحليل ما حرَّم الله، أو إسقاط ما شرع كان ساعيًا في دين الله بالفساد. 6 - قوله: "وكانا جميعًا" أي مجتمعين في موضع واحد، مما يؤكد أنَّ المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان لا بالكلام، كما ذهب إليه النَّخعي. قال الخطابي: وعلى هذا أمر الناس، وعرف أهل اللغة، وظاهر الكلام أنَّه إذا قيل: تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز بالأبدان. قال أبو برزة وابن عمر: التفرق بالأبدان، قال الحافظ: ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال النووي: ومَن قال بعدمه، ترد عليه الأحاديث الصحيحة. 7 - قال ابن القيم: أثبت الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضا الذي شرطه الله تعالى فيه بقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. فإنَّ العقد قد يقع بغتة من غير تروٍّ، ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد أمدًا يتروَّى فيه المتعاقدان، ويعيدان فيه النظر، وليستدرك كل واحد منهما ما فاته. 8 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ خيار المجلس لا يثبت في العقود التي هي غير

لازمة، كالشركة والوكالة، كما اتَّفقوا على أنَّه لا يثبت في العقود اللازمة، التي لا يقصد فيها العوض، كالنكاح والخلع. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ثبوت خيار المجلس. فمن الصحابة علي، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وطاووس، والشعبي، والزهري. ومن الأئمة: الليث، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والبخاري، وكثير من المحققين. ودليلهم: ما جاء فيه من الأحاديث الصحيحة الصريحة. وذهب الإمامان: أبو حنيفة ومالك إلى عدم ثبوته، واعتذروا عن العمل بالأحاديث بأعذار ضعيفة، أجاب عنها الجمهور بما ردها وأوهاها. فمن أعذارهم: أولاً: أنَّ الأحاديث على خلاف عمل أهل المدينة، وعملهم حجة. وأجيب بأنَّ كثيرًا من أهل المدينة يرون الخيار، ومنهم الصحابة المذكورون، ومن التابعين سعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر: لا تصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسالة؛ لأنَّ سعيد بن المسيب، وابن شهاب وهما من أجل فقهاء المدينة روي عنهما العمل بذلك، فكيف يصح لأحد أن يدَّعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، هذا لا يصح القول به. قلتُ: وعلى فرض أنَّهم مجمعون فليس إجماعهم بحجة؛ لأنَ الحجة إجماع الأمة التي ثبتت لها العصمة. قال ابن دقيق العيد: الحق إجماع أهل المدينة ليس بحجة، وقد أجاد

العلماء وأفادوا بالرد على شبههم، التي حاولوا بها رد أحاديث صحيحة صريحة واضحة، والله الموفق. ثانيًا: أوَّدوا التفرق بأنه تفرق بالأقوال، وهو الفراغ من العقد، وحمل المتبايعين على المتساومين. لأنَّهما على صدر البيع، وهذا غير محله، ذلك أنَّ علماء اللغة أطبقوا على أنَّ المفهوم من التفرق هو التفرق بالأبدان، وأيضًا فنص الحديث يأبى هذا التأويل. ففي بعض الروايات: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلاَّ بيع خيار" فهذا استثناء من مفهوم الغاية، والمعنى: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا سقط الخيار، ولزم البيع إلاَّ بيع خيار، أي: إلاَّ بيعًا شرط فيه الخيار، فإنَّ الخيار بعدُ باقٍ إلي أن يمضي الأجل المضروب للخيار المشروط. وعلى كل فالخلاف في المسألة قديم، وكتبت في صفحات طويلة ومناقشات، وأدلة لكل من الطرفين، ولكن ما تقدم هو ملخصها مع بيان الراجح منها. ***

706 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "ذَكرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَن يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَال: إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجل: هو حبَّان، بفتح الحاء والباء الموحدة المشددة وآخره نون، هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري الخزرجي المازني، وهو جد محمَّد بن يحيى بن حبَّان شيخ الإمام مالك، وكان في لسانه ثِقل، فقد شجَّ في أحد مغازيه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجر، فأصابته في رأسه مأمومة، فتغير بها لسانه وعقله، فإذا اشتركا يقول: لا خِلابة؛ لأنَّه كان يُخْدع في البيع لضعفٍ في عقله، وتوفي في خلافة عثمان. - لا خِلابة: بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام مفتوحة ثم باء مفتوحة أيضاً وآخره تاء، أي لا خديعة، يقال: خلبه يخلبه خلبًا وخلابة، ورجل خالب وخلاب: أي خداع، فالخلب، الخديعة باللسان. لا خلابة: "لا" نافية للجنس، وخبرها محذوف، والمعنى أنَّ الدين النصيحة، فلا خديعة في الإسلام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء في السنن عن أنس أنَّ رجلاً على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبتاع، وكان في عقله ضعف، فاتى أهله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله! احجر على فلان فإنه يبتاع، فدعاه ونهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله! إني لا أصبر عن ¬

_ (¬1) البخاري (2117)، مسلم (1533).

البيع، فقال: "إن كنتَ غير تارك للبيع فقل: ها ها، ولا خِلابة". 2 - فالحديث فيه إثبات خيار الغبن لمن كان لا يُحسن المماكسة، ولا يعرف القيمة، إذا غبن في البيع أو الشراء، فله حق إرجاع المبيع على صاحبه، والرجوع بثمنه، ومثله إذا باع سلعته، وغبن فيها. 3 - ثبوت خيار الغبن، والمراد بالغبن الذي يخرج عن العادة، أما الغبن بالشيء اليسير الذي يجري عادة بين المتبايعين، فليس له اعتبار. 4 - جمهور العلماء -ومنهم الحنفية والشافعية- ذهبوا إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن، لعموم أدلة نفوذ البيع من غير تفرقة بين الغبن وعدمه، وأجابوا عن الحديث بأنَّ الرجل في عقله ضعف، فتصرفه كتصرف الصبي المأذون له، فهي قصة خاصة، لا عموم لها. وذهب الإمامان: مالك وأحمد إلى ثبوت الخيار إذا غبن في البيع. أو الشراء، غبنًا يخرج عن العادة. أما الغبن اليسير الذي جرت العادة بالسماح به بين الناس، وهو يقع بين الناس كثيرًا في بيوعهم: فلا يثبت به خيارة فإنه لا عبرة به. 5 - الغبن محرَّم لما فيه من التغرير والغش المنهي عنه، ويحرم تعاطي أسبابه. 6 - عقد الغبن صحيح، فإن أمضى المغبون العقد فليس له أرش مع الإمساك، لأنَّ الشارع لم يجعل له ذلك، ولأنَّه لم يفته من جزء من المبيع. ***

باب الربا

باب الربا مقدِّمة الربا: بكسر الراء مقصور، من ربا يربو، فأصله الواو. وهو لغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] يعني زادت. وشرعًا: زيادة في شيء مخصوص. وهو محرَّمٌ بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. قال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وفي صحيح مسلم (1598) عن جابر -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتِبَه، وشاهِدَيْهِ، وقال: هم سواء". وأجمع المسلمون على تحريمه، وأنه من كبائر الذنوب. والربا ظلم بيِّن، والقياس في الشريعة العادلة تحريم الظلم. * أقسام الربا: أقسام الربا ثلاثة: ربا الفضل: وذلك بيع مكيل بمكيل من جنسه إذا كانا مطعومين، أو موزون جنسه إذا كانا مطعومين، ولو اختلف النوع إذا بيعا وأحدهما أكثر من الآخر.

ربا نسيئة: وهو بيع المكيل بالمكيل المطعومَينْ، والموزون بالموزون المطعومَين، ولو لم يكونا من جنسٍ واحد، فيحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة، أو غير مقبوضين بمجلس العقد، فإنَّه يحرم ذلك، ولا يصح العقد بإجماع العلماء المستند إلى النصوص الصحيحة الصريحة. ربا القرض: وهو أن يقرضه شيئًا مما يصح قرضه، ويشترط عليه منفعةً مقابل القرض، كسكنى داره، أو ركوب دابته، أو يَرُد أجود منه في القرض ونحو ذلك، فهذه أنواع الربا التي حرَّمها الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. وقسَّمه ابن القيم إلى خفي وجلي: الخفي: حرام؛ لأنَّه وسيلة إلى الجلي، فتحريمه من باب تحريم الوسائل إلى المقاصد، وهذا ربا الفضل، ذلك أنَّه إذا بيع درهم بدرهمين تدرج به إلى الربح المؤجل، وهو علة ربا النسيئة، فمن حكمة الله أن سدَّ عليهم هذه الذريعة، وهي حكمة معقولة. الجلي: هو ربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، والغالب أنَّه لا يفعله إلاَّ محتاج، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، حتى ترهقه الديون، فمن رحمة الله بخلقه أنَّه حرمه. ربا الجاهلية: قال الجصَّاص في تفسيره: الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان إقراض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة عليه مقدار ما استقرضه على ما تراضوا به، هذا المتعارف المشهور عندهم. قال تعالى مخاطبًا من يفعل هذا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة]. فهذا نصٌّ صريحٌ على أن الذي يستحقه صاحب الدين هو رأس ماله فقط، بدون زيادة، ذلك أنَّهم كانوا إذا حلَّ دين أحدهم على المعسِر، قالوا له:

إما أن توفي وإما أن تربي، فيزيد الدائن بالأجل، ويزيد المدين بالفائدة، يفعلون لك المرة بعد المرة حتى تتراكم الديون، فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} [آل عمران]. * مضار الربا: 1 - يقتل مشاعر الشفقة في الإنسان، فإنَّ المرابي لا يتردد في تجريد المدين من أمواله، لذا اعتبره الإسلام منكرًا اقتصاديًا غليظ الإثم؛ لأنَّه يتنافى مع تعاليمه التي تحض على التعاون. 2 - الربا يسبب العداوة والبغضاء بين الأفراد، ويوجِد الشحناء، ويوجب التقاطع والفتنة. 3 - الإسلام يرمي في تحريمه إلى تحقيق المساواة بين أفراد الأمة، ليكتفي الثري برأس ماله، ويسْلم للفقير جهده، وكدحه، وتعبه، وشقاؤه، فلا يمتص الثري جهد كده، ويضيفه إلى ثرائه، فتتسرَّب الأموال من الأيدي الفقيرة والعاملة إلى صناديق أفراد محدودين، فتتضخم ثرواتهم، وتعظم كنوزهم على حساب هؤلاء الفقراء الكادحين، فهو طريق لكسب مالٍ غير مشروع، فيسبب العداوات، ويثير الخصومات، ويحل بالمجتمع الكوارث والمصائب. 4 - الربا يجر الناس إلى أن يدخلوا في مغامرات ليس باستطاعتهم تحمل نتائجها، قد تأتي على حياة المرابي. وأضرار الربا لا تحصى، ويكفي أن نعلم أنَّ الله تعالى لا يحرم، ولا ينهى إلاَّ عن كلِّ ما فيه ضرر ومفسدة خالصة، أو ما ضرره ومفسدته أكثر من نفعه وفائدته، فنسأل الله تعالى العصمة.

* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن حكم التعامل المصرفي بالفوائد: رقم (10): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة، من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ، 22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر. وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة، أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث. وبعد التأمل: فيما جره هذا النظام من خراب، نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًّا وكليًّا تحريمًا واضحًا، دعا المجمع إلى التوبة منه، وإلى الاقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة، ولا نقصان، قل أو كثر، وبيَّن ما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين. قرَّر: أولًا: أنَّ كل زيادة أو فائدة على الدَّين الذي حلَّ أجله، وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة "أو الفائدة" على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربًا محرَّم شرعًا. ثانيًا: أنَّ البديل الذي يضمن السيولة المالية، والمساعدة على النشاط

الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام، هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية. ثالثاً: قرَّر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التي تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي؛ لتغطي حاجة المسلمين، كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته. والله أعلم. ***

707 - عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكلَهُ، وكَاتِبه، وَشَاهِدَيْهِ، وقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ (¬2). 708 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الرِّبَا ثَلاَثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُل المُسْلِم" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا، وَالحَاكِمُ بِتَمَامِهِ، وَصَحَّحَهُ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (708): الحديث ظاهر إسناده الصحة، ومتنه متكلم فيه. قال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه ابن ماجه، ورجاله رجال الصحيحين. ورواه الحاكم وقال: على شرطهما، ووافقه الذَّهبي. قال الصنعاني: وفي معناه أحاديث: منها حديث عبد الله بن حنظلة قال: قال رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية" [رواه أحمد (20951)]. ¬

_ (¬1) مسلم (1598). (¬2) البخاري (5962). (¬3) ابن ماجه (2275)، الحاكم (2/ 37).

قال الشوكاني: حديث عبد الله بن حنظلة أخرجه الطبراني، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، ويشهد له حديث البراء، وحديث أبي هريرة عند البيهقي (12447)، وحديث ابن مسعود عند الحاكم (2259)، وصححه. أما الذين طعنوا في هذا الحديث فمنهم البيهقي قال: إسناده صحيح، ومتنه منكر، ولا أعلمه بهذا الاسناد إلاَّ وهمًا. وقال الشيخ المعلمي: فيه محمَّد بن غالب التمتامي، وهو صاحب أوهام، والذي يظهر أنَّ الحديث لم يصح البتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وللحديث شواهد عن عدة من الصحابة لا تخلو جميعها من ضعف، وقد احتج بها بعض العلماء مثل المنذري والشوكاني. * مفردات الحديثين: - آكل الربا: المراد به المستفيد منه، وخصَّ الأكل من بين سائر الانتفاعات، لأنَّه أعظم المقاصد. - موكله: وهو المقترض. - الربا: مقصور، ويكتب بالألف والواو والياء، وهو لغة الزيادة، من ربا يربو إذا زاد، وأريد به زيادة في أمور معينة. - أيسرها: يقال: يسر ييسر يُسرًا: سهل وقل، والمعنى: أهونها أو أقلها إثمًا. - أربى الربا: أعظمه وأشده أن يزيد بالسب في عِرض المسلم بأكثر مما سبه الأول. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يفيدان تحريم الربا، وأنَّ آكله، وكاتبه، وشاهده ملعون، أي مبعدون ومطرودون عن رحمة الله تعالى. 2 - يدلان على أنَّ أبواب الربا وطرقه كثيرة، وكان من أفحش أبوابه ما كان

يتَّعاطاه أهل الجاهلية، من أنَّ الرجل يكون له الدَّين المؤجل على الآخر، فإذا حلَّ، قال صاحب الدين للمدين: إما أن تقضي ما عليك من الدين، أو تُرْبي، فإن أوفاه حقه، وإلاَّ زاد هذا في الأجل، وزاد الآخر الفائدة، حتى يتضاعف المال، فهذا الذي قال الله تعالى عنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. وكانت الطريقة المثلى هي إنظار المعسر، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. فلما أمر الله تعالى بإنظار المعسر، وحرم الربا المضاعف عَدَل المحتالون المرابون إلى: "مسألة قلب الدين"، وذلك أنَّه إذا حلَّ الدين، ولم يقدر المدين على الوفاء أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها للمدين في طعام أو غيره في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وأشد أنواع الربا "قلب الدين" وهو من الكبائر. والآن ظهر الربا مكشوفًا بفوائد البنوك، فالقرض الذي تقدمه البنوك لطالبه المحتاج، سواء كان قرضًا استثماريًا أو استهلاكيًا، ثم تؤخذ على قرضه مقابل التأجيل هي عين الربا الصريح، ففوائد الودائع البنكية التي ترتكز عليها البنوك، وهي أكبر مصدر دخْل مالي داخلة دائرة الربا المحرم؛ لأنَّها عين الربا. وقد أجمعت المجامع الفقهية الإسلامية على أنَّ هذه الفوائد محرَّمة وأنَّها عين الربا بأنواعه الثلاثة: رِبا الفضل، ورِبا النسيئة، ورِبا القرض. وهذه فقرات مما قالته بعض تلك المجامع الإسلامية: قال مجلسى مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة في 10/ 6/ 1406 هـ بعد أن عرضت عليه بحوث

مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر، وبعد التأمل فيما قدم، ومناقشته مناقشة مركزة، أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي واستقراره، خاصة في دول العالم الثالث. قرَّر: أنَّ كل زيادة "فائدة" على المدين الذي حلَّ أجله، وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تاجيله، وكذلك الزيادة "الفائدة" على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان رِبًا محرَّم شرعًا. كما أصدر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة فتوى جماعية، وأصدر المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، وأصدر المؤتمر للفقه الإسلامي في الرياض، فهؤلاء الشرعيون والاقتصاديون والقانونيون أجمعوا على أنَّ الفوائد هي الربا المحرَّم. وهناك فتاوى من كبار علماء المسلمين أمثال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن محمَّد بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ أبو الأعلى المودودي، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ أبو زهرة، والشيخ يوسف القرضاوي، كل هؤلاء وغيرهم من علماء المسلمين كتبوا، ووضحوا أنَّ هذه الفوائد البنكية محرَّمة، وأنَّها عين الربا المحرَّم. ولا يعارض في هذا ويجادل إلاَّ معاند، يريد الكيد للإسلام وأحكامه، إما لشيء في نفسه، وإما لطمع عاجل، باع من أجله دينه، نسال الله العافية. 3 - يدل الحديثان على أنَّ المُعِين على تعاطي الربا من كاتب له، أو شاهد فيه في الإثم والذنب، كإثم وذنب المباشر لعقد الربا والانتفاع به، قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 4 - ويدلان على أنَّ تعاطي الربا والإعانة عليه من كبائر الذنوب، فإنَّ اللعن لا يكون إلاَّ على كبيرة.

5 - ويدل الحديث رقم (758) على أنَّ الاستطالة بعِرض المسلم الفاضل من أشد أنواع الربا. 6 - فيه أنَّ الزنا بذوات المحارم أفحش الذنوب وأعظمها، لأنَّ فُحشه زائد على الزنا بالبعيدة. 7 - تخصيص الأكل بالذكر، لأنَّه الغالب في الانتفاع، فغيره من الانتفاع مثله. 8 - المراد بالربا في الحديث: "708" هو مجرَّد فعل الأمر المحرَّم، وإن لم يكن من أبواب الربا المعروفة في الاصطلاح الفقهي. 9 - النبي -صلى الله عليه وسلم- سوَّى بين آكل الربا وموكله، إذ لا يتوصل إلى أكله إلاَّ بمعاونته ومشاركته إيَّاه، فهما شريكان في الإثم، كما كانا شريكين في الفعل، وإن كان أحدهما مغتبطًا، والآخر منهضمًا، والضرورة لا تلحقه، لأنَّه قد يجد السبيل إلى حاجته بوجه مباح من وجوه المعاملة. * فوائد: الأولى: عُنِيَ الشارع بالنَّهي عن البيوعات المحرَّمة، لأنَّها على خلاف الأصل، أما الصحيحة فاكتفى بالعمل بالأصل فيها، والإقرار عليها؛ لأنَّ الأصل في ذلك هو الحل والإباحة. الثانية: ربا النسيئة حرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما ربا الفضل فحرم بالسنة والإجماع والقياس. الثالثة: أكثر مسائل المعاملات الممنوعة ترجع إلى ثلاث قواعد: 1 - قاعدة الرِبا. 2 - قائدة الغرر. 3 - قاعدة الخداع والتغرير. الرابعة: قال شيخ الإسلام: ما اكتسبه الإنسان من الأموال بالمعاملات التي اختلف العلماء فيها، وكان متأولاً في ذلك ومعتقدًا جوازه؛ لاجتهادٍ

أو تقليد، ثم تبيَّن له حرمانية فعله، فليس عليه إخراجها، فإنه قَبَضه بتأويل. الخامسة: قامت بنوك إسلامية على أساس نظام المضاربة، فتقبض رؤوس الأموال من أصحابها، فتعمل بها في مشاريع استثمارية، أو تعطيها من يستثمرها، ويكون وكيلاً عن صاحب رأس المال بأجر معلوم، فعلى المسلمين تشجيع هلذه البنوك ومساندتها؛ لتكون بديلاً عن البنوك الربوية. * قرار مجمعى الفقه الإسلامي بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء: قرار رقم (40، 41) إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في دورته الخامسة بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ، 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضعي "الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء" واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرَّرَ: أولًا: أنَّ بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز، طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع، وانتفت موانعه. ثانيًا: الوعد "وهو الذي يصدر من الآمر، أو المأمور على وجه الانفراد" يكون ملزمًا للواعد ديانة إلاَّ لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب،

ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثاً: المواعدة: "وهي التي تصدر من الطرفين" تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما، أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنَّها لا تجوز؛ لأنَّ المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذٍ أن يكون البائع مالكًا للمبيع، حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الإنسان ما ليس عنده. ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه من أنَّ أكثر المصارف الإسلامية اتَّجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد، ولاسيَّما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخر. ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق "المرابحة للآمر بالشراء" لدى المصارف الإسلامية؛ لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق، وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة، أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء، والله أعلم. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشان مشكلات البنوك الإسلامية: قرار رقم (76): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم

النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرَّم 1414 هـ، الموافق 12 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلا المجمع بخصوص موضوع: "مشكلات البنوك الإسلامية" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد استعراض مجلس المجمع ما جاء في الأوراق المقدمة بشأن مشكلات البنوك الإسلامية، والمتضمنة مقترحات معالجة تلك المشكلات بأنواعها من شرعية، وفنية، وإدارية، ومشكلات علاقاتها بالأطراف المختلفة، وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول تلك المشكلات. قرَّر: عرض القائمة التالية المصنفة على أربعة محاور: على الأمانة العامة للمجمع لاستكتاب المختصين فيها، وعرضها في دورات المجمع القادمة، بحسب الأولوية التي تراها لجنة التخطيط. المحور الأول: الودائع وما يتعلق بها: (أ) ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلاءم مع أحكام المضاربة الشرعية. (ب) تبادل الودائع بين البنوك على غير أساس الفائدة. (ج) التكييف الشرعي للودائع، والمعالجة المحاسبية لها. (د) إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عمومًا، أو في نشاطٍ محدد. (هـ) مصاريف المضاربة، ومن يتحملها "المضارب، أو وعاء المضاربة". (و) تحديد العلاقة بين المودعين والمساهمين.

(ز) الوساطة في المضاربة، والإجارة، والضمان. (ح) تحديد المضارب في البنك الإسلامي "المساهمون، أو مجلس الإدارة، أو الإدارة التنفيذية". (ط) البديل الإسلامي للحسابات المكشوفة. (ي) الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها. المحور الثاني: المرابحة: (أ) المرابحة في الأسهم. (ب) تأجيل تسجيل الملكية في بيوع المرابحة، لبقاء حق البنك مضمونًا في السداد. (ج) المرابحة المؤجلة السداد، مع توكيل الآمر بالشراء، واعتباره كفيلاً. (د) المماطلة في تسديد الديون الناشئة عن المرابحة، أو المعاملات الآجلة. (هـ) التأمين على الديون. (و) بيع الديون. المحور الثالث: التأجير: (أ) إعادة التأجير لمالك العين المأجورة، أو لغيره. (ب) استئجار خدمات الأشخاص، وإعادة تأجيرها. (ج) إجارة الأسهم، أو إقراضها، أو رهنها. (د) صيانة العين المأجورة. (هـ) شراء عين من شخص بشرط استئجار لها. (و) الجمع بين الإجارة والمضاربة. المحور الرابع: العقود: (أ) الشرط الاتفاقي على حق البنك في الفسخ في حال التخلف عن سداد الأقساط.

(ب) الشرط الاتفاقي على تحويل العقد من صيغة إلى صيغة أخرى، عند التخلف عن سداد الأقساط. ويوصي مجلس المجمع بما يلي: 1 - مواصلة البنوك الإسلامية الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية؛ لتمكين البنوك الإسلامية من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها، في ضوء المباديء الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك، وتلائم طبيعتها الخاصة. وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة، بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي، ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية. 2 - اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية، الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي. 3 - العناية بعقدي السَّلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية. 4 - التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء، وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف، ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها، والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى، من المضاربة، والمشاركات، والتأجير، مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري، وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في

المضاربة، مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها. 5 - إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية، بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لا تخلو من المخالفات الشرعية. 6 - توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة، وإنشاء المشاريع المشتركة. 7 - الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلاميًا، الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات. 8 - توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية، عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار، وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية. 9 - دعوة الجهات المنوط بها سن الأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة، والمشاركة، والمزارعة، والمساقاة، والسلم، والاستصناع، والإيجار. 10 - دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعًا للبنوك الإسلامية، وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين، والابتعاد عن سواهم. 11 - دعوة البنوك الإسلامية إلى تنسيق نشاط هيئات الرقابة الشرعية لديها، سواء بتجديد عمل الهيئة للرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، أم عن طريق إيجاد هيئة جديدة، بما يكفل الوصول إلى معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية. والله أعلم. ***

709 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِباً بِناجِزٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الذهب بالذَّهب: بيع أحدهما بالآخر هو ما يسمى بالصرف، سمي صرفًا؛ لانصرافه عن مقتضى البياعات من عدم جواز التصرف قبل التقابض، وقيل: من تسويتهما في الميزان. - مِثْلاً بِمثل: بكسر الميم فسكون الثاء، حال كونهما متماثلين متساويين. - ولا تُشِفوا بعضها على بعض: بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء، من أشف ثلاثي مزيد، والشف بالكسر: الزيادة والرِّبح، أي لا تفضلوا ولا تزيدوا بعضها على بعض. - الورق: بفتح الواو وكسر الراء آخره قاف، هو الفضة المضروبة، جمعه أوراق، قال الفارابي: الوَرِق المال من الدراهم، والرقَة مثل عدَة من الوَرِق. - بِنَاجز: بنون وجيم وزاي، من النجز، يقال: نجز ينجز نجزًا -من باب قتل- إذا حضر وحصل، وأنجز الوعد أحضره، والمراد به الحاضر، أما الغالب هنا فهو الذي لم يكن موجودًا عند العقد. - بعضها على بعض: الضمير راجع إلى الذَّهب والوَرِق، ولفظة "على" هي الفارقة بين الزيادة والنقصان. ¬

_ (¬1) البخاري: (2177)، مسلم (1584).

710 - وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذهِ الأَصْنَافُ فَبيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيدٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الذَّهب بالذَّهب: أي بيع الذَّهب بالذَّهب، وهكذا يقدر في البواقي. - البُرُّ بالبُرِّ: بضم الباء وتشديد الراء، هو حب القمح. - المِلح: قال الكيمائيون: الملح مركب يحصل من محلول معدن مكان الهيدروجين من أحد الحوامض، ويستخدم لتطبيب الطعام وحفظه، جمعه أملاح، وهو مؤنث وقد يذكر. - مثلاً بمثل سواء بسواء: التماثل أعم من أن يكون في القدر بخلاف المساواة، ولذا أكده بقوله: سواءً بسواء والمعنى: أنهما متساويان فلا فضل لأحدهما على الآخر. - يدًا بيد: اليد من أعضاء الجسم، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع، مؤنثة. والمراد هنا: أن يقبض كل واحد من المتبايعين عوض ما دفع من المال الربوي في مجلس العقد. قوله: "مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد" كل من مثل، وسواء، ويد، منصوبات على الحال، والعامل هو متعلق الجار، الذي هو قوله: "بالذَّهب" وصاحب الحال هو الضمير المستتر فيه، أي: الذَّهب بالذَّهب متماثلين مقبوضين يدًا بيد. ¬

_ (¬1) مسلم (1587).

711 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الذَّهبُ بِالذَّهبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالفِضَّةُ بالفِضَّةِ، وَزنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أوْ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الفضة بالفضة: الأول مرفوع على الابتداء على تقرير حذف المضاف، تقديره: بيع الفضة بالفضة. - الفضة: قال علماء الكيمياء الحديثة: الفضة بكسر الفاء، جمعه فضض وفضاض، هو عنصر أبيض قابل للسحب والطرق والصقل، من أكثر المواد توصيلاً للحرارة والكهرباء، وهو من الجواهر الثفيسة التي تستخدم في سك النقود، كما تستعمل أملاحها في التصوير. - وزنًا بوزن: هو مصدر في موضع الحال، أي الذَّهب يباع بالذَّهب موزونًا بموزن، ويصح أن يكون مصدرًا مؤكدًا، أي: يوزن وزنًا، قاله في فتح الباري. - استزاد: يقال: زاد يزيد زيادة: نما، فاستزاده: أي طلب الزيادة * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - هذه الأحاديث هي العمدة في هذا الباب، حيث عدَّ -صلى الله عليه وسلم- أصولاً، وصرَّح بأحكامها وشروطها، التي تعتبر في بيع بعضها ببعض جنسًا واحدًا، أو أجناسًا، وبيَّن العلة في كل واحد منها، ليتوصل المجتهد بالشاهد إلى الغائب، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- ذكر النقدين والمطعومات الأربع، إيذانًا بأنَّ علة الربا هي ¬

_ (¬1) مسلم (1588).

الثمنية أو الطعم، وإشعارًا بأنَّ الربا إنما يكون في النوعين المذكورين، وهما الثمن، أو الطعم. من البر والشعير والتمر، أو ما يقصد لغيره وهو الملح؛ ليعلم أنَّ الكل سواء في هذا الحكم. 2 - أنَّ هذه الأجناس الستة هي الأجناس الربوية المنصوص عليها، وما عداها ألحقه علماء القياس بها إلحاقًا. 3 - الجنس إذا بيع بجنسه، كالذَّهب بالذَّهب، والبُر بالبُر، يشترط لصحة العقد أمران: أحدهما: التماثل بينهما، بأن لا يزيد أحدهما عن الآخر، وهذا هو المراد بقوله: "مثلًا بمثل" و"لا تُشفوا بعضها على بعض". الثاني: التقابض بين الطرفين في مجلس العقد، وهذا هو المراد بقوله: "يدًا بيد" و"لا تبيعوا غائباً بناجز". 4 - أما إذا كان البيع بين الجنسين، كذهب بفضة، أو بر بتمر، فلا يشترط إلاَّ شرط واحد فقط، وهو التقابض بمجلس العقد، وهذا هو المراد بقوله: "يدًا بيد"، "ولا تبيعوا غائب بناجز". 5 - الجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعًا، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، وقد يكون النوع جنسًا، وبالعكس، والمراد هنا الجنس الخاص كالبر، لا العام الذي هو الحب، والمراد هنا النوع الخاص الذي هو -اللقيمي- مثلاً، لا العام الذي هو البر. 6 - أجمع العلماء على تحريم التفاضل في جنس واحد من هذه الأجناس الستة التي نصَّ عليها حديث عبادة بن الصامت. 7 - أجمع العلماء على جواز التفاضل بين جنسين إذا بيع أحدهما بالآخر، بشرط التقابض في المجلس؛ لقوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد".

8 - يراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء كانا جالسين، أو ماشيين، أو راكبين، ويراد بالتفرق ما يعدّه النَّاس تفرقًا، عُرْفًا بين الناس. 9 - إذا كان المبيعان من جنس واحد فلابد من تحقق التماثل بالمعيار الشرعي، وهو الكيل في الحبوب والثمار والمائعات. فلا يصح بيع رطْبه بيابسه، ولا بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع حبه بدقيقه، ونحو ذلك مما يحصل معه اختلاف الصفات التي لا ينضبط معها التماثل بين المبيعين الربويين، إذا كان من جنس واحد. قال الوزير: "اتَّفقوا على أنَّه لا يباع موزون بجنسه إلاَّ وزنًا، ولا مكيل بجنسه إلاَّ كيلاً، لعدم تحقق التماثل بغير معياره الشرعي، فأما ما لا يتهيَّأ فيه الكيل -كالتمور التي تغشاها المياه- فالوزن. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "التمر "المكنوز" فهذا لا يمكن بيعه بالكيل، فيعتبر بالوزن". 10 - قال شيخ الإسلام: الأظهر أنَّ علة الربا في الذَّهب والفضة هي الثمنية، لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء. وقال مجلس هيئة كبار العلماء في قرارهم: إنَّ القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلًا، والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة: مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وإنَّ مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في قراره رقم (6) في 10/ 4/ 1402 هـ بعد المناقشة في موضوع العملة الورقية، قرَّر ما يلي: بناءً على أنَّ الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناءً على أنَّ علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية، في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة، وبما

أنَّ الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذَّهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أنَّ العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذَّهب والفضة في التعامل بها، وبها تقَوَّم الأشياء في هذا العصر لاختفاء التعامل بالذَّهب والفضة، ويحصل الوفاء والإبراء بها، رغم أنَّ قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمرٍ خارجٍ عنها، وحيث إنَّ التَّحقيق في علة جريان الربا في الذَّهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهو متحقق في العملة الورقية، لذلك كله فإنَّ مجلس مجمع الفقهي الإسلامي يقرر: أنَّ العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعية فضلاً ونساء، كما يجري ذلك بالنقدين من الذَّهب والفضة تمامًا باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسًا عليها، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزمات التي تفرضها الشريعة فيها، ولا معول عليه، وأصبحت الثمنية هي العلة في كل عملة نقدية من أي نوع تكون. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة: قرار رقم (84): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتَّحدة، من 1 - 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1 - 6 نيسان "أبريل" 1995 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "تجارة الذَّهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة". وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.

قرَّر ما يلي: أولاً: بشأن تجارة الذَّهب: (أ) يجوز شراء الذَّهب والفضة بالشيكات المصدقة، على أن يتم التقابض بالمجلس. (ب) تأكيد ما ذهب إليه عامة الفقهاء من عدم جواز مبادلة الذَّهب المصوغ بذهب مصوغ أكثر مقدارًا منه؛ لأنَّه لا عبرة في مبادلة الذَّهب بالذَّهب بالجودة أو الصياغة، لذا يرى المجمع عدم الحاجة للنظر في هذه المسألة، مراعاة لكون هذه المسألة لم يبق لها مجال في التطبيق العملي؛ لعدم التعامل بالعملات الذهبية بعد حلول العملات الورقية محلها، وهي إذا قُوبلت بالذَّهب تعتبر جنسًا آخر. (ج) تجوز المبادلة بين مقدار من الذَّهب، ومقدار آخر أقل منه، مضموم إليه جنس آخر، وذلك على اعتبار أنَّ الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني. (د) بما أنَّ المسائل التالية تحتاج إلى مزيد من التصورات والبحوث الفنية والشرعية عنها، فقد أرجىء اتخاذ قرارات فيها، بعد إثبات البيانات التي يقع بها التمييز بينها، وهي: - شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذَّهب أو الفضة. - تملك وتمليك الذَّهب من خلال تسليم وتسلم شهادات تمثل مقادير معيَّنة منه موجودة في خزائن مُصْدر الشهادات، بحيث يتمكن بها من الحصول على الذَّهب أو التصرف فيه متى شاء. ثانيًا: بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة: (أ) الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعًا، سواء كان بدون مقابل، أم بمقابل في حدود الأجر

الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالًا لآخر لتوفيته للمعطي، أو لوكيله في بلد أخر، وإذا كانت بمقابل، فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس، فإنَّهم ضامنون للمبالغ، جريًا على تضمين الأجير المشترك. (ب) إذا كان المطلوب في الحوالة دفعها بعملة مغايرة للمبالغ المقدمة من طالبها، فإنَّ العملية تتكون من صرف وحوالة بالمعنى المشار إليه في الفقرة (أ). وتجري عملية الصرف قبل التحويل، وذلك بتسليم العميل المبلغ للبنك، وتقييد البنك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلَّم للعميل، ثم تجري الحوالة بالمعنى المشار إليه. والله أعلم. 11 - الورق النقدي: بعد أنْ علمنا أنَّ العلَّة الربوية للنقدين الذَّهب والفضة هي الثمنية، فقد قرَّرت المجامع الفقهية أنَّ العلة في الوَرَق النقدي هي "الثمنية". قالت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في قرارها رقم (10): إنَّ الورق النقد يعتبر نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدين في الذَّهب والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنَّه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أنَّ الورق النقدي السعودي جنس، وأنَّ الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: أولًا: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري بنوعيه في النَّقدين "الذَّهب والفضة"، وهذا يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه، بعضه ببعض، أو بغيره من

الأجناس النقدية الأخرى من ذهب، أو فضة، أو غيرهما نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلًا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية، أو أقل أو أكثر نسيئة. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلًا بيع عشرة أريلة سعودية ورق، بأحد عشر ريالًا ورقًا. (ج) يجوز بيع بعضه ببعض عن غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا، أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار أمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر، إذا كان يدًا بيد. ومثل ذلك كله في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدًا بيد، لأنَّ ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، وإنما لمجرد الاشتراك في الاسم مع اختلاف الحقيقة. وما قرَّره هيئة كبار العلماء هو ما قرَّره المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ثم قرَّره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، فلا حاجة إلى التطويل بنقل قراريهما. 12 - قال ابن القيم: ويجوز بيع المصوغ من الذَّهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة. أما مجلس هيئة كبار العلماء فأصدروا قرارًا بعدم جواز بيع المصوغ من الذَّهب والفضة بجنسه متفاضلًا لأجل الصنعة في أحد العوضين، وهذا هو ما يفهم من عموم الأحاديث. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على جريان الربا بالأجناس الستة المذكورة في حديث

عبادة؛ لوجود النَّص الصحيح الصريح، واختلفوا فيما عداها: هل يجري فيها الربا أم لا؟ فذهب الظاهرية إلى قصر الربا على هذه الأجناس الستة، وأنَّه لا يتعداها إلى غيرها؛ لنفيهم القياس. أمَّا جمهور العلماء القائلون بالقياس فقد عدَّوا الحكم إلى غيرها من الأشياء. واختلفوا في الأشياء التي تلحق بالأجناس، وذلك تبعًا لاختلافهم في العلة الربوية. فمن قال: إنَّ العلَّة هي الكيل والوزن،. قال: إنَّ الربا يجري في كل مكيل وموزون مطلقًا، ولو لم يكن مطعومًا. فمن قال: إنَّ العلة مع الكيل أو الوزن هو الطعم، جعل الربا في المكيلات والموزونات إذا كانت من المطعومات. والراجح: أنَّ علة الربا تتعدى ولا تقتصر على الستة المنصوص عليها، فأما النقدان فالعلة فيهما الثمنية، فكل ما أعد نقدًا من أي نوع فعلة الربا فيه الثمنية. وأما الأربعة الباقية فالعلة فيها هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم، فكل مكيل أو موزون لا يطعم فلا يدخله الربا. وكل مطعوم لا يكال ولا يوزن لا يدخله الربا، فإذا اجتمع الكيل مع الطعم أو الوزن مع الطعم، فهنا علة الربا، فإنَّ الوزن والكيل جاء ذكرهما في حديث أنس عند الدارقطني (3/ 18) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما وُزن مثلًا بمثل، وما كيل فمثل ذلك، فإذا ختلف النوعان فلا بأس به"، وجاء الطعم فيما رواه مسلم (1592) عن معمر بن عبد الله: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الطعام إلاَّ مثلًا بمثل". وبهذا القول تجتمع الأدلة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها

بالآخر. وهذا القول هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، وهي مذهب الشافعي في القديم، واختارها الموفق بن قدامة، وصاحب الشرح الكبير، وشيخ الإسلام ابن تيمية. قال في المغني: الحاصل أنَّ الأمور ثلاثة: 1 - أنَّ ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا روايةً واحدةً كالأرز والدهن. وهذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث. 2 - وما عُدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه، فلا ربا فيه، روايةً واحدةً، وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتبن والنوى. 3 - وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل والوزن من جنس، ففيه روايتان: الأولى: حله إن شاء الله، إذ ليس في تحريمه دليل موثوق فيه. اهـ. والصحيح ما تقدم من أنَّ الربا هو فيما اجتمع فيه الكيل أو الوزن مع الطعم، فإنَّ عدم هذان القيدان أو عدم أحدهما فلا رِبا، والله أعلم. ***

712 - وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ وَأَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أكُلُّ تَمْرِ خَيْبرَ هكَذَا؟ فَقَال: لاَ، واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بَالصَّاعَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَفْعلْ، بعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبَا، وَقَالَ فِي المِيْزَانِ مِثْلَ ذلِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "وَكَذلِكَ المِيْزَانُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - استعمل رجلًا: جعل عاملًا: هو سَوَاد بن غَزِيَّة الأنصاري، وَسَواد بفتح السين المهملة وتخفيف الواو، وغزية بوزن عطيَّة. - خيبر: بفتح الخاء ثم ياء معجمة تحتية ثم باء وآخره راء، بلدة تبعد عن المدينة المنورة شمالًا بـ (165) كيلومتر على طريق الأردن، وهي بلدة زراعية كثيرة النخيل. - جنِيبْ: بفتح الجيم المعجمة، وكسر النون، ثم ياء ساكنة، وآخره باء موحدة، والجنيب هو النوع الطيب، جمعه جنب. قال الخطابي: "هو أجود تمورهم". - بالصاعين والثلاثة: في بعض الروايات: "بالثلاث" بلا تاء، وكلاهما جائز؛ لأنَّ الصاع يذكَّر ويؤنث، والصاع مكيال تكال به الحبوب والثمار الجافة، ¬

_ (¬1) البخاري (4/ 399)، مسلم (1593).

والصاع النبوي بالحب الرزين حوالي (3000) غرام تقريبًا. - لا تفعل: "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها. - بعِ الجَمْع: أي التمر الذي يقال له: "الجمع" بالدراهم. - الجمع: بفتح الجيم المعجمة وسكون الميم آخره عين مهملة، والجمع يراد به التمر المختلط من أنواع متفرقة غير معروفة ومرغوبًا فيها. وقال الخطابي: هو كل لون من النخل لا يعرف اسمه. وهو محتمل لهذه المعاني. - ثم ابتع بالدراهم: أي: ثم اشتر بالدراهم جنيبًا. - الميزان: أي: الموزون حكمه حكم المكيل في عدم التفاضل. ***

713 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِن التَّمْرِ الَّتِي لاَ يُعْلَمُ مَكِيُلهَا بالكَيْلِ المُسَمَّى منَ التَّمْرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) 714 - وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ أسمَعُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بمِثْلٍ، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديثين: - الصُّبرة: بضم الصاد وسكون الباء، جمعها صُبَر مثل غرفة وغُرَف، هي الكومة من الطعام، سميت صبرة؛ لإفراغ بعضها على بعض. قال ابن دريد: اشتريتُ الطعام صبرة، أي بلا كيل، ولا وزن. - الشَّعير: نبات عشبي حبي من الفصيلة النجيلية، وهو دون البر في الغذاء. * ما يؤخذ من هذه الأحاديث: 1 - تحريم التفاضل ببيع نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية، وهي على القول الراجح المكيل أو الموزون من الطعام، والحديث (712) نصٌّ في التمر، وما عداه من المكيلات مثله. قال العيني: ويدخل في معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز في الجنس الواحد منه التفاضل ولا النَّساء بالإجماع. ¬

_ (¬1) مسلم (1530). (¬2) مسلم (1592).

2 - أنَّ التفاضل بينهما محرَّم، ولو كان أحدهما أجود من الآخر، فالعبرة بالتساوي قدرًا، لا جَوْدَةً أو رداءةً. 3 - أنَّ معيار الثمار هو الكيل، فلا يجوز بيع نوعي الجنس أحدهما بالآخر إلاَّ بمعياره الشرعي، إذ بغيره لا تتحقق المساواة بينهما، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم، ما لم يكن تغشاه الماء، أو صار مكنوزًا، أو معبوطًا، فيكون معياره الوزن إذ لا يمكن كيله. 4 - أنَّ ما يوزن له حكم ما يكال من الأشياء الربوية، فمعياره الشرعي الكيل، وهو إجماع العلماء. 5 - النَّهي عن بيع الصبرة من التمر بتمر آخر، ولو علم الآخر بمعياره الشرعي وهو الكيل، إذ أنَّه يجهل مساواته للصبرة، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم، والنَّهي يقتضي تحريم البيع، وفساد عقده. 6 - جواز الحيلة المباحة، التي لا تُحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، وإنما تكون وسيلة لاجتناب العقود المحرَّمة إلى العقود المباحة الصحيحة. قال ابن القيم: فصل: في أنواع من الحيل المباحة. القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما يفضي إليه مشروع، وهذه من الأسباب التي جعلها الشارع مفضية إلى مسبباتها، فيدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع، وعلى دفع المضار. وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولًا لهذا القسم، فمن لم يحتل، وقد أمكنته الحيلة أضاع فرصته، وفرط في مصالحه. 7 - وجوب التساوي بين نوعي الجنس الواحد فيما يدخله الربا، وهو من الطعام ما كان مكيلًا أو موزونًا، أما غير الأشياء الربوية فلا يشترط التماثل بينها، كما لا يشترط التقابض في مجلس العقد. 8 - أنَّ جابي الزكاة لا يأخذ الجيد إلاَّ برضا صاحبه، كما لا يأخذ الرديء، وإنما

يأخذ الوسط، لئلا يظلم المستحقين، أو يظلم أصحاب الأموال. 9 - الحديث يدل على جواز مسألة التورق التي صورتها: أن يشتري السلعة إلى أجل؛ لبيعها على غير البائع وينتفع بثمنها، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "أمر الجابي أن يبيع التمر الرديء؛ ليشتري بثمنه تمرًا جيدًا" [رواه البخاري (4/ 399)، ومسلم (1593)] فهو لم يقصد ببيعه إلاَّ الحصول على ثمن الرديء؛ ليستفيد منه فيما أراد وقصد، ومذهب الإمامين الشافعي وأحمد جوازها. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى أنَّها لا تجوز ويمنع منها، ويرى أنَّ المعنى الذي حرم لأجله الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بالشراء والبيع، والخسارة فيها. أما شيخنا عبد الرحمن بن سعدي فيرى جواز مسألة التورق. قال في أحد كتبه: "لأنَّ المشتري لم يبعها على البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى؛ لأنَّه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكلٍ أو شربٍ أو استعمالٍ، أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيها تحيل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها. وما دعت إليه الحانجة وليس فيه محظور شرعي لم يحرمه الشارع على العباد". وكذلك الشيخ عبد العزيز بن باز يجيزها فيقول: مسألة التورق اختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أنَّها ممنوعة. الثاني: جوازها؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [البقرة: 275]. ولأنَّ الأصل في الشرع حِل جميع المعاملات، إلاَّ ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.

قلْتُ: ينبغي على من يريد التعامل بها مع المستدينين أن تكون عنده السلع المناسبة، ومن جاءه مريدًا الشراء أخبره بالقيمة إذا كان الثمن نقدًا حاضرًا، وأخبره بالقيمة إذا كان مؤجلًا، وأن لا يعيدها بالشراء من المشتري بل يسلمه إيَّاها ليتصرف فيها حسب حاجته. فإن أعادها من المشتري بالشراء، فهذه مسألة العينة الآتية إن شاء الله تعالى. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن حكم بيع التورق: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد، صلى الله عليه وآله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، التي بدأت يوم السبت 11 رجب 1419 هـ، الموافق 31/ 10/ 1998 م قد نظر في موضوع حكم بيع التورق. وبعد التداول والمناقشة والرجوع إلى الأدلة والقواعد الشرعية وكلام العلماء في هذه المسألة، قرَّر المجلس ما يأتي: أولًا: أنَّ بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النقد "الورق". ثانيًا: أنَّ بيع التورق هذا جائز شرعًا، وبه قال جمهور العلماء؛ لأنَّ الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولم يظهر في هذا البيع ربًا لا قصدًا، ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج، أو غيرهما. ثالثًا: جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقعا

في بيع العينة المحرَّم شرعًا؛ لاشتماله على حيلة الربا، فصار عقدًا محرَّمًا. رابعًا: إنَّ المجلس وهو يقرر ذلك يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم طيبة به نفوسهم ابتغاء مرضاة الله، لا يتبعه منًّا ولا أذًى، وهو من أجلِّ أنواع الإنفاق في سبيل الله تعالى لِما فيه من التعاون، والتعاطف، والتراحم بين المسلمين، وتفريج كرباتهم، وسد حاجتهم، وإنقاذهم من الإثقال بالديون، والوقوع في المعاملات المحرَّمة، وإنَّ النصوص الشرعية في ثواب القرض الحسن والحث عليه كثيرة لا تخفى، كما يتعيَّن على المستقرض التحلي بالوفاء وحسن القضاء، وعدم المماطلة. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين. 10 - يدل الحديث رقم (712) على مشروعية بعث السعاة والجباة للزكاة إظهارًا لهذه الشعيرة العظيمة، وقيامًا من الوالي بما يجب عليه، وتخليصًا لذمم المتهاونين، وقبضًا واستحصالًا لحق المستحقين. 11 - جواز تصرف الفضولي إذا أجازه مالك التصرف، فهذا الجابي يقبض الزكاة، ويستبدل الرديء بالجيد بلا توكيل من ولي الأمر، ولم ينكر. 12 - فيه جواز الحلف الصادق على الشيء، ولو لم يستحلف الحالف. 13 - فيه مشروعية إشراف ولاة الأمور على أعمال عمالهم، ومناقشتهم فيها وتوجيههم إلى ما هو الحق والصواب. 14 - فيه جواز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر، ولو بعد مسافة قصر، وعدم وجوب تفريقها في البلد الذي قبضت منه، لاسيما مع وجود المصلحة في ذلك.

15 - الحديث يدل على جواز الترفيه على النفس بشراء المأكل والمشرب الطيب ونحو ذلك من متاع الدنيا وطيباتها المباحة، ما لم يصل إلى حد السرف، فله نصوص تنهى عنه. 16 - يدل الحديث على أنَّ من كان يتعاطى عقودًا غير صحيحة أو أعمالًا محرَّمة عن جهل بها، ثم عَلِمَ بحرمتها وفسادها أنَّه لا يجب عليه أن يرجع إلى تصحيح العقود الماضية، وإنما عليه الامتثال من جديد، وأن لا يُقدِم عليها بعد ذلك، فظاهر الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّه على عمله، وعَذَرَهُ بجهله عن الماضي، وإنما أعلمه للمستقبل حينما قال: "لا تفعل"، وهذه قاعدة الشريعة المحمديَّة السمحة: أنَّ المؤاخذة لا تكون إلاَّ بعد البلاغ والإعلام. 17 - أنَّ العالِم إذا سُئل عن مسألة محرَّمة، ونهى المستفتي عنها، فعليه أن يفتح أمامه أبواب الطرق المباحة التي تغنيه عنها. 18 - عظم معصية الربا وكيف بلغت من نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم- هذا المبلغ. ***

715 - وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قَال: "اشْتَرَيْتُ يَؤمَ خَيْبرَ قِلاَدَةً بِاثْنَى عَشَرَ دِيْنَارًا، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِيْنَارًا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لاَ تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَلَ" رَوَاهُ مُسلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قِلاَدَةَ: بكسر القاف وفتح اللام والدال المهملة آخره تاء، هي ما يُجعل في العنق من حلي ونحوه. - دينار: الدينار يزن من الذهب مثقالًا، وفي الميزان المعاصر المثقال وزنه (4.25) غرامات، وقد تكرر هذا التقدير. - خرز: بفتح الخاء والراء، جمع خرزة، هي حبات مثقوبة تصنع من أي نوع وتنظم في سِلك يُتَزيَّن بها. - ففصلتها: أي فرطت عِقدها، وميزت خرزها عن ذهبها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عدم جواز بيع الذهب بالذَّهب إلاَّ مثلًا بمثل، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت النَّهي عن بيع الذَّهب بالذَّهب إلاَّ مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. 2 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- منع بيع القلادة التي فيها ذهب لم يفصل، ولم يُعلم مقداره بذهب؛ لأنَّ التساوي بين اثني عشر دينارًا، وبيَّن ما في القلادة من ذهب مجهول، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم والتحريم. ¬

_ (¬1) مسلم (1591).

3 - أنَّ بيع نوعي الجنس أحدهما بالآخر، ومعهما أو مع أحدهما صنف آخر من غير جنسه، وهي ما يسميها الفقهاء "مُدّ عجوة ودرهم" وهو أقسام ثلاثة: الأول: أن يكون المقصود بيع رِبوي بجنسه متفاضلًا، أو يضم إلى الأقل غير جنسه حيلة، فالصواب الجزم بالتحريم. الثاني: أن يكون المقصود بيع غير الرِبوي، كبيع شاة ذات لبن بشاة ذات لبن، فالصحيح الجواز، وهو مذهب مالك والشافعي. الثالث: أن يكون كلاهما مقصودًا مثل مُدّ عجوة ودرهم بمثلها، فهذا فيه نزاع مشهور. فأبو حنيفة يجوزه، وحرَّمه مالك والشافعي وأحمد. 4 - عدم جواز بيع الشيء المجهول حتى يميز، ويفصل، ويعرف أفراده. 5 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم: العقد الفاسد لا ينقلب صحيحًا بحال، ومتى أراد تصحيحه فلابد من إعادته بشروطه المعروفة. وفي هذا الحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتبر البيع الأول، بل قال "لا تباع حتى تفصل" وبعد التفصيل يجري عقد جديد غير الأول. ***

716 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الحَيوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئةً" رَوَاهُ الخَمْسَةَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الجَارُودِ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه مالك وعن مالك روى الشافعي من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا، وهو عند أبي داود في المراسيل، ووصله الدارقطني عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه وصوَّب الرواية المرسلة التي في الموطأ، وتبعه ابن عبد البر وابن الجوزي، وله شاهد من حديث ابن عمر رواه البزار، وفيه ثابت بن زهير وهو ضعيف، وأخرجه من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع، وأبو أمية ضعيف. وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة، أخرجه الحاكم والبيهقي وابن خزيمة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. وقال ابن حجر في الفتح: رجاله ثقات، إلاَّ أنَّه اختلف في سماع الحسن، ثم ذكر له عدة طرق يقوي بعضها بعضًا. وجملة القول: أنَّ الحديث بهذه الطرق حسن على أقل الدرجات، لذلك احتجَّ به الإمام أحمد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أبو داود (3356)، الترمذي (1237)، النسائي (7/ 292)، ابن ماجه (2270)، أحمد (5/ 12)، ابن الجارود (611).

* مفردات الحديث: - نسيئة: بإثبات الهمزة بعد الياء على وزن كريمة، أو بالإدغام فهي على وزن عطية، منصوب على الحال. والنسيئة لغة التأخير، والمراد هنا بيع حيوان بحيوان آخر، مؤخرًا قبضه عن وقت البيع. ***

717 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَهُ أَن يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الإِبِلُ، فَأَمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلاَئِصِ الصَّدَقَةِ، قَالَ: فَكُنْتُ آخُذُ البَعِيرَ بِالبَعِيرينِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةَ" رَوَاهُ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده قوي، فقد صحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وصححه البيهقي والنووي. قال الشوكاني: حديث عبد الله بن عمرو في إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف، قال الخطابي: في إسناده مقال، ولكن قوَّى الحافظ في الفتح إسناده. اهـ. قال في التلخيص: لكن أورده البيهقي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وصحَّحه. * مفردات الحديث: - أن يجهز: فجهَّز المسافرَ أو الغازيَ هيَّأ له أدواته، جهاز المسافر أو الغازي ما يحتاج إليه. - جيشًا: الجيش هو الجند، جمعه جيوش، وأقله أربعمائة، وقيل: أربعة آلاف. - قلائص: على وزن مَفاعل جمع قلوص، وهي الناقة الشابة المجتمعة الخلق. وذلك السن من حين تُركب حتى السنة التاسعة، ثم تسمى بعد التاسعة ناقة. ¬

_ (¬1) الحاكم (2/ 56)، البيهقي (5/ 287).

- البعير: من الإبل بمنزلة الإنسان، يقع على الذكر والأنثى. - الصدقة: المراد بها هنا الزكاة التي من مصارفها الشرعية التجهيز في سبيل الله. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم لنا أنَّ الراجح في ضابط الربا أنَّه يقع بين المكيل والموزون إذا كانا مطعومين، فإذا فُقِد منه الكيل أو الوزن مع الطعم، فليس فيه ربا فضل ولا ربا نسيئة. 2 - وبناء عليه فلا ربا بين الحيوانات بعضها ببعض، ولا هي مع غيرها لفقد شرط الربا في ذلك. 3 - أما اللحم ففيه الربا؛ لأنَّه موزون ومطعوم، فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا إذا كانا من جنس واحد. 4 - مشروعية الاستعداد للجهاد في سبيل الله، وأخذ العُدَّة له. 5 - صحة التوكيل فيما تدخله النيابة من الأعمال. 6 - الصدقة هنا الزكاة المفروضة، والجهاد في سبيل الله أحد مصارفها، فهو -صلى الله عليه وسلم- ينفق عليه منها. 7 - جواز ادخار الزكاة لوقت الحاجة إليها، وهي مسألة خلافية، أجاز ذلك أبو حنيفة، ومنعه الأئمة الثلاثة. 8 - إباحة الاقتراض للحاجة، وأنَّه ليس من سؤال الناس أموالهم المذموم. 9 - جواز التأجيل في أدائه، ولو لم يكن الأجل محددًا بيوم معلوم. 10 - أنَّ بيع الحيوان الحي بالحيوان الحي الآخر -نسيئةً- لا يعد من باب الربا، ذلك أنَّ الربا في المكيلات والموزونات المطعومة، وهذا هو الشاهد من الحديث. 11 - أن الشراء بالثمن المؤجل له وقع في زيادة الثمن على المثمن.

12 - أنَّ الربح في التجارة ليس له حد يُحد به، وإنما هو أمر خاضع لباب العَرْض والطلب. 13 - يعارض هذا الحديث ما تقدم من حديث سمرة من أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" [رواه أحمد (5/ 12)]. فأجاب العلماء عن هذا التعارض بترجيح أحدهما على الآخر فإن هذا الحديث أرجح من حديث سمرة، فقد قال الإمام الشافعي: إنَّ حديث سمرة غير ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فراوي حديث سمُرة هو الحسن، وهو لم يسمع منه إلاَّ حديث العقيقة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رجاله ثقات، كما أنَّ معه الأصل وهو صحة المعاملات وجوازها. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في جواز قرض الحيوان على قولين: الأول: أنَّه جائز، وهذا هو مذهب الأئمة، مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف؛ عملًا بهذا الحديث، وبأنَّ الأصل جواز ذلك، فلا يعدل عن هذا الأصل إلاَّ بدليل صريح صحيح، ولم يوجد ذلك. الثاني: أنه لا يجوز، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو قول يعارِض هذا الحديث، ويعارض أصل الإباحة، ولذا فإنَّ الراجح هو القول الأول، والله أعلم. ***

718 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرْكْتُمْ الجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزَعُهُ، حَتَّى تَرْجِعُوا إِلى دِينِكُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنهُ، وَفِي إِسْنَادهِ مقَالٌ، وَلأحْمَدَ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَصَحَّحَهُ ابنُ القَطَّانِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: الحديث في إسناده مقال؛ لأنَّ في إسناده عطاء الخراساني. قال الذَّهبي: هذا من مناكيره. وأما الذي صححه ابن القطان فمعلول، لأنَّه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا، والحديث له طرق عديدة، بيَّن عللها البيهقي. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير: أصح ما ورد في ذم بيع العينة ما رواه أحمد والطبراني، وله طرق، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير، وقال ابن عبد الهادي في المحرر: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: له طرق يشد بعضها بعضًا. * مفردات الحديث: - العينة: بكسر العين المهملة وسكون المثناة التحتية وبعضهم ضبطها بفتح ¬

_ (¬1) أبو داود (3462)، أحمد (4825).

العين وسكون الياء، وفتح النون، وهي على الضبطين مأخوذة من العين، وهو النقد الحاضر؛ لأنَّ المشتري إلى أجل يأخذ بدلها نقذا حاضرًا، وصورتها: أن يبيع سلعة بنسيئة أو بثمن حال لم يقبضه، ثم إنَّ البائع يشتريها ممن اشتراها منه بنقد حال أقل مما باعها به، ويبقى الكثير في ذمة المشتري الأول. - أذناب البقر: مفرده ذنب بفتحتين، عضو من الحيوان في مؤخره يقابل رأسه، والمراد الكناية عن الانشغال -بالحرث والزرع- عن أمور الدين، والجهاد في سبيل الله تعالى. قلتُ: ومناسبة ذكر أذناب البقر مع ذكر الزرع، أنَّ الحارث يكون خلف البقر حال السواني، وساعة حرث الأرض بها. - ذُلاًّ: ذل الرَّجل يَذل ذُلاًّ بضم الذال المعجمة، هو الضعف والمهانة، فالذليل هو الضعيف المهين. - لا ينزعه: بكسر الزاي من باب ضرب، أي لا يرفعه ولا يزيله عنكم، حتى ترجعوا إلى دينكم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه تحريم الركون إلى الدنيا، والاشتغال بها عن أمور الدين، التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله تعالى، الذي هو ذروة سنام الإسلام. 2 - فيه أنَّ المسلمين إذا اشتغلوا بالحراثة ورضوا بها، وبجمع الأموال عن الجهاد في سبيل الله، فإنَّ الله يجازيهم بالذل والهوان من أعدائهم، فيكونون مستعَمرين مهانين أذلاء، جزاءً لهم على إعراضهم عن دينهم، الذي فيه عِزُّهم، وفيه مَنَعَتُهم، وفيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. 3 - أنَّ هذا الوعيد تحقق، فالمسلمون الآن يمثلون ثلث المعمورة كثرةً، فعندهم الثروة البشرية، والثروة الاقتصادية، والمساحات الزراعية، والعمرانية، والمواقع المسيطرة، وبلادهم وثروتهم أفضل وأحسن بلاد

العالم، ومع هذا لما أعرضوا عن دينهم سلَّط الله عليهم أعداءهم، فأهانوهم، وأذلوهم، وصاروا لعبة في أيديهم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. فمن ترك هذا الدين تجبرًا قَصَمَهُ الله، ومن ابتغى الهدى في غير كتابه أضلَّه الله، وقد تحقق وعيد الله تعالى في هذه الأمم التائهة ممن يدعون الإسلام، فهم في متاهات عما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم. 4 - أنَّه ليس للمسلمين طريق إلى عزهم، ولا إلى سيادتهم، ولا إلى سعادتهم في دنياهم وأخراهم، إلاَّ بهذا الدين المتين، وإنَّه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلاَّ ما صلح به أولها، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (4)} [الحج]. * نصيحة للشاب: إن كان شباب المسلمين جادين في التوجه إلى الله تعالى والإقبال عليه، ويريدون السعادة في الدنيا والرفعة فيها، كما يريدون في الآخرة جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتَّقين، فعليهم اتباع هذه النصيحة التي أوجزها بهذه الفقرات: أولًا: عليهم بالصدق والإخلاص لله تعالى في أقوالهم وأعمالهم؛ ليكون الله تعالى في عونهم، فيسدد خُطاهم، ويهديهم سبل الخير والنجاح. ثانيًا: عليهم باتباع كتاب الله تعالى، وما صحَّ من سنة محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فهذا هو الصراط المستقيم، الذي سلكه عباد الله الصالحون، وهذا هو النَّهج الصحيح، الذي يقلل الخلاف فيهم، ويقرب وجهة النظر بينهم، ويوحد كلمتهم واتجاههم. ثالثًا: أن ينبذوا الخلافات بينهم، فلا تكون المسائل العلمية الفرعية مثار جدل بينهم، يترتب عليها عداوة وبغضاء، وتخاصم وتهاجر، فالخلاف في

هذه المسائل الفرعية موجود زمن الصحابة، وزمن التابعين والأئمة المهديين، ولم يحدث بينهم عداوةٌ وبغضاءٌ. رابعًا: أن يدعوا إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالطريقة التي هي أحسن وأفضل، وأن لا يبتعدوا عن الجماعة، أو عن الأشخاص الذين يخالفونهم في بعض المسائل، وإنما يوالونهم، ويحاولون تقريب شقة الخلاف بينهم. خامسًا: أن يُحِذِّرُوا أصحابَ المباديء والأفكار المعادية للإسلام من يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار، ويُذكِّروهم بهذه الآية الكريمة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل]. وليحذر هؤلاء من عاقبة دعواتهم المضللة، وافتراءاتهم المزوَّرة، فالوعيد صادق، والأمد قريب: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت]. * العينة: صورتها: هي أن يبيع الرجل بألف ريال -مثلًا- مؤجِلًا الثمن، ثم إنَّ البائع يشتري المبيع نفسه ممن باعها عليه بأقل من ثمنها اشتراها به نقدًا؛ ليبقى الثمن الكثير في ذمة المشتري، فهذا ليس بيعًا ولا شراء حقيقةً، وإنما هو قرض ربوي، جاء بصورة البيع والشراء، فهو من الحِيل الظاهرة التي يلجأ إليها المرابون. قال ابن القيم: ان هذا ينطبق عليه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع". وقال أيضًا: إنَّ نهي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عن بيعتين في بيعة" هو الشرطان في البيعة، فإذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بثمانين حالَّة، فقد باع

بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ ربا، وإن أخذ بالناقص أخَذ بأوكسهما، وهذان أعظم الذرائع. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: الذي يدخل في النَّهي عن بيعتين في بيعة هي مسالة العينة. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة إلى تحريم العينة لحديث: "إذا تبايعتم بالعينة" ولأنَّها صريح الربا. وأجازها الشافعي لعموم حديث خيبر المتقدم، "بع الجَمع بالدراهم ثم اشتر بالدارهم جنيبًا". فعمومه يدل على أنَّه لا بأس أن يكون الذي اشترى منه التمر الرديء بدراهمه التي باع عليه بها التمر الطيب، فعادت دراهمه إليه. والجواب: أنَّ أحاديث النَّهي عن بيع العينة مخصِّصة لهذا العموم، وهذا هو الطريق بين العام والخاص، ولأنَّ حيلة الربا فيها واضحة مكشوفة والحيل إلى المحرمات محرَّمةٌ ممنوعةٌ باطلةٌ، والله أعلم. ***

719 - وَعنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- عَنِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَن شَفَعَ لأَخِيه شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: في إسناده مقال؛ لكنه محتج به، فقد رواه القاسم بن عبد الرحمن الشامي مولى بني أمية عن أبي أمامة، وفيه مقال. قال المنذري: قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن زيد أعاجيب، وما أراها إلاَّ من قِبل القاسم، قال ابن حبان: كان ممن يروي عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المُعضلات، ووثقه ابن معين، وصحح الترمذي حديثه، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: صدوق يغرب كثيرًا، وسكت عن الحديث أبو داود. * مفردات الحديث: - شفع له: يشفع شفاعة: سعى له وأعانه. - بابًا: أصله بوب، فالألف منقلبة عن واو، ويجمع على أبواب وبيبان، والأصل في الباب المدخل، ثم سمى به ما يتوصل به إلى شيء، والمراد هنا ما يتوصل به إلى أكل مالٍ بالباطل. - الربا: مقصور، وأصل ألفه واو، وهو لغة الزيادة، فيقال ربا يربو أي: زاد، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5]. وشرعًا: زيادة محرَّمة في مال مخصوص. ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 261)، أبو داود (3541).

720 - وَعَنْ عبد الله بنِ عَمْرِو بن العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِي والمُرْتَشِي" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذيُّ، وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه الطبراني، وقد قوَّاه النسائي، ورواه الحاكم مرفوعًا من طريق عطاء عن ابن عباس، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذَّهبي، كما حسَّنه الترمذي، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. زاد الإمام أحمد في مسنده: "والرائش". قال الحافظ: وله شواهد عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وثوبان، وعائشة، وأم سلمة. * مفردات الحديث: - الراشي: هو الذي يبذل المال؛ ليتوصل به إلى إبطال حق، أو الوصول إلى باطل، وهو مأخوذٌ من الرشا، وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر. - الرشوة: بكسر الراء وضمها، يقال: رشا يرشوا رشوًا: أعطاه الرشوة، هي بذل المال ليتوصل به إلى باطل. - المرتشي: آخذ الرشوة، وهو الحاكم. - الرائش: هو الذي يتوسط بإيصال الرشوة من معطيها إلى آخذها. ¬

_ (¬1) أبو داود (3580)، الترمذي (1337).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - إذا شفع الإنسان لغيره في أمر من الأمور فلا يخلو من حالات: الأولى: أن يشفع لغيره في إنقاذه وتخليصه من مظلمة وقعت عليه، فهذه شفاعة واجبة من القادر عليها، فيحرم أخذ شيء عليها. الثانية: أن يشفع لغيره في الحصول على أمر لا يستحقه، من وظيفة أو عمل، بل حصوله عليها وتوليه عليها ظلم له، وظلم لمن شفع عنده، وظلم للعمل، والمنتفعين به، فهذه شفاعة محرَّمة، وما أخذ عليها فهو حرام. الثالثة: أن تكون لحصول أمر مباح، ويحصل للمشفوع له فائدة منه، فالأولى أن يبذل الشافع ذلك بلا مقابل ولا عوض، إنما يجعله إحسانًا فإن أخذ فلا يظهر أنَّه حرام عليه، ويكون من باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صَنعَ إليكم معروفًا فكافئوه". الرابعة: الشفاعة في حدود الله فهي محرَّمة، وذلك بعد أن تبلغ ولاة الأمور أو نوابهم. قال شيخ الإسلام: وتحرم الشفاعة في حد من حدود الله لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره" وكذا يحرم قبولها في حد من حدود الله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فهلاَّ قَبْل أن تأتيني به". الخامسة: قال الشيخ عبد الرحمن سعدي: من أُهدي إليه ليكف شره فقبول الهدية حرام عليه؛ لأنَّه يجب عليه كف شره، أُهدي له أو لا. السادسة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ويوجد مسائل أخر لا يحرم قبول الهدية فيها، كمن أحسن إلى آخر فكافأه المحسَن إليه على ذلك، فإنَّه لا بأس بالمكافأة ولا بأس بقبولها. 2 - أما الرشوة فهي بذل المال؛ ليتوصل بذلك إلى إبطال حق، أو الوصول إلى باطل.

3 - آخذ الرشوة، ومعطيها، والوسيط بينهما، كلهم ملعونون؛ لما روى الترمذي (1337) بسند صحيح عن ابن عمرو: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشي -زاد أبو بكر-: والرائش وهو السفير بينهما". 4 - يدل الحديث على أنَّ ذلك من كبائر الذنوب؛ لأنَّ اللعن لا يكون إلاَّ على كبيرة. 5 - قال في شرح الإقناع: ويحرم بذلها من الراشي ليحكم بباطل، أو يدفع عنه حقًّا، كما يحرم قبول القاضي هدية إلاَّ ممن كان يهدي إليه قبل ولايته إن لم يكن له حكومة. قال شيخ الإسلام: أجمع العلماء على أنَّ الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، سواء حَكم بحق أو بباطل، فإن قبل الرشوة أو الهدية حيث حرم القبول، وجب ردها إلى صاحبها، قال الشيخ تقي الدين: فإن لم يعلم صاحبها، دفعها في مصالح المسلمين. 6 - في الحديث دليل على جواز لعن العصاة من أهل القبلة، وأما حديث: "المؤمن ليس باللعان" فالمراد: من لا يستحق اللعن. ***

721 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عنْ المُزَابَنَةِ: أن يَبِيْعَ ثَمَرَ حَائِطهِ، إِنْ كَانَ نَخْلًا، بِتَمْرٍ كيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا، أنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا، أنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذلِكَ كُلِّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْه (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المزابنة: يُقال: زبنه بزبنة زبنًا: دفعه، فالزبن هو الدفع، فتزابن المتبايعان تدافعا، كأنَّ كل واحد منهما يزبن صاحبه عن حقه. وشرعًا: بيعُ ربويٍّ معلوم بمجهولٍ من جنسه، ومثالها بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر مكيلًا. - حائطه: قال في النهاية: الحائط هاهنا البستان من النخيل، إذا كان عليه حائط: وهو الجدار، وجمعه حوائط. - كَرْمًا: بفتح الكاف وسكون الراء آخره ميم، شجر العنب، وأريد به هنا العنب نفسه. - زبيب: ما جفف من العنب. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2205)، مسلم (1542).

722 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسْأَلُ عَنِ اشْتِرَاءِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَال: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ: قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذلِكَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ المَدِيِنيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، كلهم من حديث زيد بن عياش، أنَّه سأل سعد بن أبي وقاص، وذكر الحديث. وقد أعلَّه جماعة، منهم الطحاوي، والطبري، وابن حزم، وعبد الحق، بجهالة حال زيد بن عياش، ولكن الإمام مالكًا اعتمده، وقال الدارقطني: إنَّه ثقة ثبت، كما صححه ابن المديني، والترمذي، والحاكم، وابن حبان، والمنذري، وابن الجوزي، وقال الحافظ: إنَّ المنذري قال: رواه عن زيد ثقتان. قد اعتمده مالك مع شدة نقده، وصححه الترمذي والحاكم وقال: لا أعلم أحدًا طعن فيه، فهو حديث صحيح، بإجماع أئمة النقل على إمامة مالك، وأنَّه محكم في كل ما يرويه، إذ لم يوجد في رواياته إلاَّ الصحيح، خصوصًا في حديث أهل المدينة، وله شاهد رواه البيهقي من حديث عبد الله بن أبي سلمة مرسلًا، وهو مرسل قوي، يعضد هذا الحديث المسند. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 175)، أبو داود (3359)، الترمذي (1225)، النسائي (7/ 268)، ابن ماجة (2264)، ابن حبان (4982)، الحاكم (2/ 38).

* مفردات الحديث: - الرُّطب: بالضم ثمر النخل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر، واحده رُطبة، والجمع أرطاب. - التمر: ثمر النخل إذا جفَّ، كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة، لأنَّه يُترك على النَّخل بعد إرطابه حتى يجف أو يقارب، ثم يقطع ويترك في الشمس حتى ييبس، الواحدة تمرة، والجمع تمور. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - المزابنة: أن يبيع تمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلًا. وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا. وإن كان زرعًا أن يبيعه بطعامٍ كيلًا. فهذا كله المزابنة المنهي عنها. قال ابن عبد البر: لا مخالف أنَّ هذا كله مزابنة، وإنما اختلفوا هل يلحق بذلك كل ما لا يجوز بيعه إلاَّ مثلًا بمثل؟، فالجمهور على الإلحاق في الحكم؛ للمشاركة في العلة، وهو عدم العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس والتقدير. 2 - علة النَّهي ربا الفضل، فإنَّه إذا بيع أحد نوعي جنس بالآخر، فلابد من التماثل كما جاء في الحديث: "مثلًا بمثل". وهنا لم يتحقق التماثل، فإننا إذا بعنا التمر على رؤوس النخل بتمر كيلًا، أو بعنا العنب بشجره بزبيب كيلًا، أو بعنا الحب في سنبله بحبٍّ كيلًا، فإنَّها لم تتحقق المماثلة بينهما، وبقي الأمر مجهولًا، فلا يصح البيع، وقد قال الفقهاء: "الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم". 3 - هذا الحديث مما يؤيد القول من أنَّ الربوي هو ما جمع الكيل أو الوزن مع الطعم، فإن لم يوجد هذان الشرطان فلا ربا.

4 - أما الحديث رقم (722) فيدل على أنَّه لا يجوز بيع أحد نوعي جنس بالآخر، إلاَّ أن يكونا في مستوًى واحدٍ، من حيث اليبس، أو الرطوبة، أو النعومة، أو الخشونة، أو الطبخ، والنيء، ذلك أنَّ النوعين إن لم يكونا في مستوًى واحدٍ من الصفة لم يحصل التساوي بينهما في القدر، فالرطب ينقص إذا جفَّ، والحب يربو إذا أنعم بالطحن، والمطبوخ تعقِد النارُ أجزاءَه فينقص، فلا يحصل التساوي بين النوعين فيحصل التفاضل المحرَّم. 5 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " ليس سؤالًا يقصد منه المعرفة، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- يعرف أنَّ الرطب ينقص إذا يبس، وإنما يقصد -صلى الله عليه وسلم- بيان مناط الحكم ووجه العلة بتحريم البيع. ***

723 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عنْ بَيْعِ الكَالِىءِ بالكَالِىءِ، يَعْنِي الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ" رَوَاهُ إِسْحَاقُ وَالبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. لكنه داخل في الحديث الثابت في النَّهي عن بيع الغرر، وضعفه؛ لأنَّ موسى بن عبيدة تفرد به عن نافع، وهو ضعيف، قال أحمد: لا تحل الرواية عن موسى بن عبيدة، ولا أعلم هذا الحديث لغيره، وقد ضعفه الإمام الشافعي، والبيهقي. قال الذَّهبي: ضعفوه، وقال الحافظ: ضعيف. وهذا الحديث وإن كان في سنده ضعف، فقد تلقته الأمة بالقبول، كما قال ابن عرفة، وتلقي الأئمة هذا الحديث بالقبول يغني عن طلب الإسناد فيه، وأيضًا قد أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز بيع الدين بالدين. كما قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنَّه لا يجوز بيع الدَّين بالدَّين. * مفردات الحديث: - الكالىء بالكَالىء: بفتح الكاف ثم لام مكسورة ثم همزة على ياء، من كلأ الدَّينُ كَلؤ فهو كالىء، إذ تأخَّر، وكلأه: إذا أنساه. وقال في النهاية: النسيئة بالنسيئة، والنسيئة هو التأخير. ¬

_ (¬1) كشف الأستار (1280).

قال في شرح الإقناع: هو بيع دينٍ بدينٍ مطلقًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيع الكالىء هو بيع الدين بالدين. قال ابن المنذر: ولا يجوز بيع الدين بالدين إجماعًا. وقال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ بيع الدين بالدين باطل. 2 - بيع الدين له صور: - منها: بيع ما في الذمة لمن هو عليه بثمن مؤجل، أو بحالٍّ لم يُقبض. - ومنها: بيع ما في الذمة لغير مَن هو عليه بمؤجل، أو بحالٍّ لم يُقبض. - ومنها: جعل ما في الذمة رأس مال سَلمِ. - ومنها: لو كان لكل واحد من الاثنين دين على الآخر من غير جنس دينه، كالذَّهب والفضة، فتصارفا، ولم يُحضرَا أحد العوضين. - ومنها: أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل لم يجد وفاءه، فيقول: بِعْنيه إلى أجل آخر بزيادة، فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض. * خلاف العلماء: قال شيخ الإسلام: الاعتياض عن الدين بغيره -ولو كان دين سَلَمِ- جائز عند مالك، ورواية عن أحمد، وهي أشبه بأصوله، وهو الصحيح. فالصواب الذي عليه جمهور العلماء أنَّه يجوز بيع الدين ممن هو عليه، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط الحلول والقبض. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: الصحيح أنَّ جميع الديون التي في الذمم يجوز التعويض عنها، سواء كانت دين سَلم أو غيره، ولكن بشرط قبض العوض قبل مفارقة المجلس، لعموم حديث ابن عمر: "كنَّا نبيع الإبل بالدنانير، ونأخذ عنها الدارهم، وبالدارهم نأخذ عنها الدنانير، فسألنا رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء" [رواه أحمد (5959)]. خلافًا لما منعه الأصحاب في دين السَّلم. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن صور القبض: إنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة يوم الأحد 13 رجب 1409هـ إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ، قد نظر فيما يلي: 1 - صرف النقود في المصارف، هل يستغنى فيه عن القبض بالشيك، الذي يتسلمه مريد التحويل؟ 2 - هل يُكتفى بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض، لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف؟ وبعد البحث والدراسة قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي: أولًا: يقوم تسلم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف. ثانيًا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودَعة فيه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمَّد. أعضاء المجلس * قرار المجمع الفقهي بشأن قضايا العملة: قرار رقم (75): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر

سيري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "قضايا العملة" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر ما يلي: 1 - يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدَّد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور، على ألا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام. والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية، تبعًا للتغير في مستوى الأسعار، وفقًا لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص، والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي، وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات. وذلك لأنَّ الأصل في الشروط الجواز، إلاَّ الشرط الذي يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا. على أنَّه إذا تراكمت الأجرة، وصارت دينًا تطبَّق عليها أحكام الديون المبينة في قرار المجمع رقم (4/ د5). 2 - يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد لا قبله على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معيَّنة الاتفاق يوم سداد أي قسط أيضًا على أدائه كاملًا بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم. ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة، مع مراعاة القرار الصادر عن المجمع برقم (55/ 1/ د 6) بشأن القبض.

3 - يجوز أن يتَّفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل، أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة، أو على أقساط محددة من عملات متعددة، أو بكمية من الذَّهب، وأن يتم السداد حسب الاتفاق، كما يجوز أن يتم حسب ما جاء في البند السابق. 4 - الدين الحاصل بعملة معيَّنة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذَّهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين باداء الدين بالذَّهب، أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها. 5 - تأكيد القرار رقم (4/ د 5) الصادر عن المجمع بشأن تغير قيمة العملة. 6 - يدعو مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين الشرعيين، والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرط المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي: (أ) إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي، وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية، ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي. (ب) السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار. (ج) مفهوم كساد النقود الورقية، وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة. (د) حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه.

باب الرخصة في العرايا

باب الرخصة في العرايا مقدمة الرخصة لغة: السهولة والتيسير. وشرعًا: ما يثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ. والعرايا: بفتح العين والراء، بعدها ألف، ثم ياء، ثم ألف، والكلمة إذا زادت عن ثلاثة أحرف تكتب بالياء، إلاَّ إذا لزم في كتابتها اجتماع ياءين فتكتب بالألف، مثل استحيا وزوايا وعرايا، ومفردها عرية، سميت بذلك؛ لأنَّها عريت من البيع المحرَّم، أي خرجت منه. وصورتها: أن يباع الرُّطب في رؤوس النخل بقدر ما يؤول إليه تمرًا يابسًا، فيباع بمثله من التمر فيما دون خمسة أوسق، بشرط التقابض في مجلس العقد، فالتمر على رأس النخلة بتخليته، وعوضه من التمر بكيله، وسيأتي بيانه بأوضح من هذا إن شاء الله تعالى. ***

724 - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَخَّصَ فِي العَرَايَا: أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "رَخَّصَ فِي العَرِيَّةِ، يَأْخُذُهَا أَهْلُ البَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكللُونَهَا رُطَبًا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رخَّص: الرخصة لغة: اليسر والسهولة. واصطلاحًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارضٍ راجحٍ، والترخيص بعد المنع من بيع التمر بالتمر إلاَّ مثلًا بمثل. - بِخَرْصِهَا: بفتح الخاء مصدر، وبكسرها اسم للشيء المخروص. خرص الشيء يخرصه خرصًا فهو خارص، حزره وقدَّره بالظن. يقال: خرص النخل والكرم: قدَّر ما عليه من الرطب تمرًا، ومن العنب زبيبًا. - العرية: فعيلة بمعنى مفعولة، والتاء فيها لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية، فنقل منها العقد الوارد عليها المتضمن لإعرائها، وسميت عرية؛ لأنَّها عريت من جملة التحريم، وجمعها عرايا. - تمرًا: يحتمل أن يكون تمييزًا، ويجوز أن يكون حالًا مقدرة. - رطبًا: منصوب على الحال، فالحال مشتقة، أو مؤولة بمشتق. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2192)، مسلم (1539).

725 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا بخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، فِيْمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ، أوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أو فيما دون خمسة أوسق: فيه شك، والشك وقع من أحد رواة الحديث، وهو داود بن الحصين، فاحتاط الإمام الشافعي وأحمد وجعلا الحد الأعلى لجواز بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق. - أوسق: جمع وَسْق، والوَسق بفتح الواو وسكون السين المهملة: هو مكيال قدْره ستون صاعًا نبويًّا وخمسة أوسق تكون ثلاثمائة صاع، وهو تسعمائة كيلو، وحكى بعضهم كسر الواو، وجمعه أوساق مثل حمل وأحمال، ولكن الفتح أفصح. - بخرصها: الباء للمعاوضة، فالشجر الجاف ثمن، والرطب على رؤوس النخل ثمن. - من التمر: متعلق بخرصها، و"من" بيان الجنس. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - سبب العرية أنَّ رجالًا احتاجوا إلى الرطب، وليس بأيديهم نقود يشترون بها الرطب، وعندهم تمر جاف، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم، فرخَّص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم؛ ليأكلوا رطبًا، وستاتي شروط صحة هذه المعاملة حسبما فهمه العلماء من أحاديثها. ¬

_ (¬1) البخاري (2190)، مسلم (1541).

2 - الأصل تحريم شراء ما على رؤوس النخل بتمر، سواء كان كيلًا أو جزافًا؛ لأنَّهما نوعا جنس واحد، يحرم بينهما التفاضل، وإذا جهلنا ما على رؤوس النخل لم نتمكن من معرفة التساوي بينهما، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم بالتحريم، وهذا من بيع المزابنة الذي مرَّ النَّهي عنه. 3 - رخَّص بيع المزابنة بيع العرية، فأجازها الشرع للحاجة إليها بشروط خمسة، استنبطها العلماء من النصوص الشرعية، وهي: - حاجة المشتري إلى أكل الرطب. - أن لا يكون عنده نقد يشتري به نخلة أو رطبًا، ولو كان غنيًّا، فلا يشترط الفقر في أصح قولي العلماء. - أن يكون المبيع من العرية فيما دون خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا نبويًّا. - يخرص الرطب بقدر ما يؤول إليه جافًا تمرًا، فالخرص قائم هنا مقام الكيل. - أن يحصل التقابض بمجلس العقد، فالنخلة بالتخلية، والتمر بالكيل، فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها لم يصح، لأنَّه يفضي إلى الربا، وإنما رخَّص في هذه الصورة لأجل الحاجة. 4 - الضرورة والحاجة تقدران بقدرهما، فلا تجوز الزيادة عما تندفع به الحاجة أو الضرورة؛ لأنَّ هذا جاء على خلاف الأصل وهو الحظر والمنع. 5 - سماح الشريعة ويسرها، وتلبيتها الرغبات والشهوات المباحة، وأنه لا عَنَت فيها، ولا مشقة. 6 - أنَّ المحرَّمات ليست على درجة واحدة في التحريم، فبعضها أشد من بعض، فلما كان ربا الفضل حُرِّم تحريم الوسائل، سومح في بعض صوره للحاجة.

7 - أنَّ غلبة الظن تقوم مقام اليقين إذا تعذر اليقين أو تعسر، فإنه لما تعذر علينا معرفة قدر ما على رأس النخلة بمعياره الشرعي وهو الكيل، اكتفينا بعلة الظن بتقديره خرصًا. 8 - إباحة الترفه والتنعم في المأكل والمشرب والملبس، ما دام أنَّ ذلك لم يصل إلى درجة السرف والتبذير. ***

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار مقدمة الأصول: جمع أصل، وهو ما يتفرع عنه غيره. والمراد هنا: الدُّور، والأرض، والدكاكين، والطواحين، والمعاصر، ونحوها، وكذلك الشجر. والثمار: جمع ثمرة، ويجمع على أثمار، وهو حمل الشجر، وهو أعم مما يؤكل. ***

726 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُو صَلاَحهَا، نَهَى البَائعَ وَالمُبْتَاع" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: "كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا، قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الثمار: بكسر الثاء المثلثة، جمع ثمرة بفتح الميم، وهو يتناول ثمار النخيل وغيره. - حتى يبدو: بدا بدون همزة يبدو بُدُوًّا: ظهر بعد أن لم يكن، وأما بدأت الشيء أو بالشيء بالهمزة فيهما، فمعناه ابتدأت به وقدمته. قال العيني: ومما ينبغي أن ينبه عليه أن يقع في كثير من كتب المحدِّثين وغيرهم: "حتى يبدوا" هكذا بالألف بعد الواو، وهو خطأ، والصواب حذفها. - عاهتها: يُقال: عاه المال يعوه عُووُهًا: أصابته العاهة، وأصل العاهة عوهة جمعها عاهات. والعاهة: هي آفة التي تصيب الزرع أو الثمرة فتتلفها، أو تعيبها. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1486، 2194)، مسلم (1534).

727 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بيعٍ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِي، قِيلَ: وما زَهْوُهَا؟ قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تُزهِيَ: من الرباعي، يقال: أزهى، ومعناه: بدأ نضجه بالاحمرار أو الاصفرار، ويقال: زهي النخل يزهو: إذا طال واكتمل، وأزها من يزهي: إذا احمرَّ أو اصفرَّ، وذلك علامة الصلاح منها، ودليل خلاصها من الآفة. والزهو: البسر إذا ظهرت فيه الحمرة أو الصفرة. - تحمارّ وتصفارّ: بفتح التاء فيهما وسكون ثانيهما، آخرهما راء مشددة. قال الخطابي: قوله "تحمار وتصفار" لم يرد بذلك اللون الخالص من الحمرة والصفرة، وإنما أراد بنالك حمرةً أو صفرةً بكمودة، والكمودة تغيَّر اللون وذهاب صفاته. وقال ابن التين: أراد ظهور أول الحمرة أو الصفرة عليها قبل أن تنضج. قال في الوسيط: الكُمْدة، بضم فسكون: تغير اللون وذهاب صفائه. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1488)، مسلم (1555).

728 - وَعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيعِ العِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بيعِ الحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ" رَوَاهُ الخَمْسةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صححه ابن حبان، وقال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه الحاكم من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس، وقال الترمذي والبيهقي: تفرد به حماد بن سلمة عن حميد. اهـ. ولكن حمادًا ثقة، ولذا حسَّن الحديث الترمذي، وقال الحاكم والذَّهبي: إنَّه على شرط مسلم. ... ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 221)، أبو داود (3371)، الترمذي (1228)، ابن ماجه (2217)، ابن حبان (4972)، الحاكم (2/ 19).

729 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيْكَ ثَمرًا، فَأَصَابتهُ جَائِحَةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمرَ بوَضْعِ الجَوَائِح" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جائحة: يقال: جاحتهم السنة، تجوحهم جوحًا وإجاحة. فالجائحة لغة: هي الآفة التي تسبب المصيبة العظيمة في مال الرجل، فتجتاحه كله، كالمطر الشديد، والبرد، والريح والحريق، والجراد. وشرعًا: ما أذهب الثمر أو بعضه، من آفة سماوية أو أرضية، لا صنع لآدمي فيها. - بم يأخذ: حذف الألف عند دخول حرف الجر على "ما" الاستفهامية، ولما كانت "ما" الاستفهامية متضمنة معنى الهمزة، وللهمزة صدر الكلام، فينبغي أن يقدر: أبم يأخذ، والهمزة للإنكار، ومثل "بم يأخذ"، "فبمَ، وعلامَ، وحتامَ" في حذف الألف عند دخول حرف الجر على "ما" الاستفهامية. - لو بعت .. فلا يحل لك: يجوز في ذلك إعرابان: أحدهما أنَّ "لو" شرطية، و"فلا يحل" هو جواب الشرط. الثاني: أنَّ "لو" بمعنى إِنْ. * ما يؤخذ من هذه الأحاديث: 1 - الأحاديث تدل على النَّهي عن بيع الثمار حتى تزهي، وزهوها أن تحمار أو ¬

_ (¬1) مسلم (1554).

تصفار، فإنَّها حينئذ تبدأ في النضج ويطيب أكلها. 2 - وتنهى عن بيع العنب في شجره حتى يسود، وإذا اسود بعض أنواعه دخل النضج، وطاب أكله. 3 - وتنهى عن بيع الحب في سنبله حتى يشتد، ويحين حصاده، والاستفادة منه. 4 - حكمة النَّهي عن بيعها قبل أن تطيب، ويبدأ فيها النضج ثلاثة أمور: الأول: أنَّها قبل النضج لا منفعة فيها، فبيعها لا يعود على المشتري بفائدة. الثاني: إنَّ تمام الملك بعد الشراء هو القبض، وقبض الثمار في شجره، والحب في زرعه وسنبله بالتخلية، قبض ناقص، وتوقف صحة البيع على نضج الثمار، واشتداد الحب تقليل لمدة بقاء الثمرة بعد بيعها إلى زمن أخذها، وحيازتها. الثالث: إنَّ التمر والزرع إذا بدا فيه النضج خفت عنه العاهات والآفات السماوية، فلوحظ بيعها في وقت تقل فيه إصابة الثمرة بالجوائح السماوية. 5 - قال الفقهاء: وصلاح بعض ثمرة شجرة صلاح لجميع نوعها، الذي في البستان إذا بيع صفقةً واحدةً. ولا يصح بيع الجنس الذي لم يبد صلاحه تبعًا للنوع الذي بدا صلاحه، هذا هو المشهور من المذهب. والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في بعضها صلاح للجنس كله، وهو اختيار كثير من أصحاب الإمام أحمد، وهو قول مالك والشافعي. 6 - وإن تلفت الثمرة بآفة سماوية، وهو ما لا صنع لآدمي فيها، كالريح، والبرد، والحر، فضمانها على بائعها؛ لأنَّ التخلية ليست قبضًا تامًّا. 7 - قال فقهاء الحنابلة واللفظ للشيخ منصور البهوتي: زرع البر ونحوه إذا تلف بجائحة فهو من ضمان مشترٍ، وليس كالثمرة. لكن قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ الجائحة موضوعة

عن المشتري في جميع الثمار والحبوب لعموم العلة، وهو اختيار المجد وحفيده شيخ الإسلام. 8 - أما إذا تلفت الثمرة أو الزرع بفعل آدمي، فإنَّ المشتري مخيَّرٌ بين فسخ البيع وأخذ الثمن، وبين إمضاء البيع ومطالبة متلفه ببدله، والله أعلم. 9 - قوله: "نهى البائع والمبتاع": نهى البائع لئلا يأخذ مال المشتري بدون مقابلة شيء، ونهى المشتري عن هذه المخاطرة والتغرير بماله. 10 - المنع من بيع الثمار قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه، هو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، والأئمة المتَّبعين، ذلك أنَّه لا يؤمن من هلاك الثمرة والحب، لورود العاهة عليها مع صغرها وضعفها، وإذا تلفت لا يبقى للمشتري في مقابلة ما دفع من الثمن شيء، وهذا معنى قوله: "نهى عن بيع النخيل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن من العاهة" [رواه مسلم (1535)]. ***

730 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ نَخلًا بَعْدَ أنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائعٍ الَّذِي بَاعَهَا، إِلاَّ أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ ... مفردات الحديث: - من ابتاع نخلًا: أي اشترى أصل النخل. النخل: اسم جنس يذكر ويؤنث، والجمع: نخيل. ويقول علماء الأحياء: النَّخلة شجرة من الفصيلة النخلية، كثيرة في بلاد العرب، لاسيما في العراق. - تؤبَّر: بضم التاء وفتح الواو المهموزة وتشديد الباء آخره راء. يقال: نخلة مؤبرة ومأبورة، والاسم منه الآبار، أما التأبير فهو التلقيح، وذلك بأن يشق طلع النخلة؛ ليوضع فيها شيء من طلع الفحال "ذكر النخل"، وفي ذكر النخل الذي يلقح به لغتان الأكثر "فُحَّال" وزان تفاح، والجمع فحاحيل، والثانية: "فحل" مثل غير، وجمعه فحول، مثل فلْس وفُلوس. - إلاَّ أن يشترطه المُبتَاع: أي المشتري، ولفظ "المبتاع" وإن كان عامًا للبائع والمشتري إلاَّ أنَّ الاستثناء يخصصه للمشتري، وأيضًا لفظ الافتعال يدل عليه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - منطوق الحديث أنَّ من باع نخلًا قد أُبِّر فثمرته لبائعه. 2 - ومفهوم الحديث أنَّ من باع نخلًا لم يؤبره، فثمره لمشتريه. ¬

_ (¬1) البخاري (2379)، مسلم (1543).

3 - أن استثنى البائع الثمرة التي لم تؤبر أو بعضها، فهي له بشرطه. 4 - أن اشترط المشتري دخول الثمرة المؤبرة بالعقد، فهي له بشرطه. 5 - أن كان بعض الثمرة مؤبرًا وبعضه لم يؤبر، فلكلٍّ حكمه؛ لأنَّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهذا هو القول الراجح. 6 - صحة اشتراط بعضر الثمرة مأخوذ من حذف المفعول به من قوله: "إلاَّ أن يشترط المبتاع"؛ لأنَّه صادق عليه كله وعلى بعضه. 7 - أن كان بعض التأبير في نخلة واحدة، فتكون كل ثمرتها للبائع؛ لأنَّ باقيها تبع لها. 8 - ألْحَق الفقهاء بالبيع جميع العقود الناقلة للملك، من جعل النخل المؤبر عوض صلح، أو جُعلًا، أو صداقًا، أو عوض خلع، أو جعَلَه صاحبه أجرة أجيرٍ، أو وهبه، أو غير ذلك مما فيه نقل الملك. 9 - دخول الثمرة في البيع إذا اشتريت قبل التأبير، أو اشترطها المشتري وهي مؤبرة، يُعد بيعًا للثمرة قبل بدو صلاحها، لكن رُخِّص فيه؛ لأنَّه تابع لأصله وليس مستقلًا، والقاعدة: "يثبت تبعًا ما لايثبت استقلالاً"، وهذه الصورة منها. قال شيخ الإسلام: بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء، وإن اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق. وإن باعه مطلقًا لم يجز عند جماهير العلماء، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الحب حتى يشتد. 10 - اعتبار الشروط في البيع التي يشترطها البائع أو المشتري ونفوذها، فالمسلمون على شروطهم، ومقاطع الحقوق عند الشروط. ***

باب السلم

باب السلم مقدمة قال الأزهري: السَّلَم والسَلَف بمعنى واحد، هذا قول جميع أهل اللغة، إلاَّ أنَّ السلف يزيد معنى آخر فيكون قرضًا، وسمي السلم سلمًا؛ لتسليم رأس المال في المجلس، وسمي سلفًا لتقديمه قبل أوان استلام المبيع. وتعريفه شرعًا: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد،، وبهذا التعريف فهو بيع عُجِّل ثمنه، وأُجِّل مثمَّنه. والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: أشهد أنَّ السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلَّه الله في كتابه، وأَذِن فيه، ثم قرأ هذه الآية. وأما السنة: فمنها حديثا الباب الآتيين. وأما الإجماع: فقال الشافعي: أجمعت الأمة على جواز السلم فيما علمت. وهو على وفق القياس، فإنَّ مصلحة البائع تقتضي قبض الثمن معجلًا، ليصلح أشجاره وزرعه، وفائدة المشتري تحصل بشرائه الثمرة رخيصة مقابل الأجل الطويل قبل قبض المبيع، والانتفاع به. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه يشترط للسلم ما يشترط للبيع.

واشتُرط لصحة عقده شروطًا زائدةً على شروط البيع، لتُبعده عن الجهالة في قدره ووقته ونوعه، مما ينفي عنه الضرر والعذر، ويحقق فيه المصلحة للمتعاملين. فمن ذلك اشتراط: 1 - العلم بالمسلم به. 2 - العلم بالثمن. 3 - قبض الثمن في مجلس العقد. 4 - كون المسلم فيه في الذمة. 5 - وصفه صفة تنفي عنه الجهالة. 6 - ذكر أجله، ومكان حلوله. 7 - كون المسلم فيه يتحقق وجوده وقت وجوب تسليمه. * ظنَّ بعض العلماء خروجه عن القياس وعده من "باب بيع ما ليس عندك" المنهي عنه في حديث حكيم بن حزام. ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب وليس بشيء، فإنَّ حديث حكيم بن حزام يراد به بيع عين معيَّنة، ليست في ملك البائع حينما أجرى عليها العقد، وإنما يشتريها من صاحبها فيسلمها للمشتري الذي اشتراها منه قبل دخولها في ملكه، وهذا هو صريح الحديث وقصته. فأما السلم فهو متعلق بالذمة لا العين، فهو بيع موصوف في الذمة. لذا فهو على وفق القياس، والحاجة داعية إليه، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ ثلاثًا فيهن بركة: ذكر منها: البيع إلى الأجل" والسلَّم منه، والله المستعان. ***

731 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِيْنَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ، فَقَال: مَنْ أسْلفَ فِي تَمْرٍ فَلْيسلِفْ فِي كَيلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أجَلٍ مَعْلُومٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: "مَن أَسْلَفَ فِي شَيءٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وهم يُسلفون: الواو فيه للحال. يُسلفون: بضم الياء من السَّلف وهو السلم، قال الأزهري: السلم والسلف واحد في قول أهل اللغة، إلاَّ أنَّ السلف يكون قرضًا أيضًا، وأما اسم السلم فهو أخص بهذا الباب، وهو بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق. - السَّنةَ: منصوب إما على رفع الخافض، أي إلى السنة، وإما على المصدر، أي إسلاف السنة. - من أسلف في تمر: بالتاء المثناة، ويروى بالثاء المثلثة. - في كيل معلوم: في بعض روايات الصحيحين: "في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم" والمراد اعتبار الكيل فيما يكال، واعتبار الوزن فيما يوزن. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2239)، مسلم (1604).

732 - وَعنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أَبْزَى، وَعَبْدِ الله بْنِ أِبِي أوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالاَ: "كُنَّا نُصِيبُ المَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَكانَ يَأتِيْنَا أنْبَاطٌ مِنْ أنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَالزَّيْتِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قِيل: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالاَ: مَا كُنَّا نَسْألهُمْ عَنْ ذلِكَ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المغانم: على وزن مفاعل، جمع مغنم هي الأموال التي يستولي عليها المسلمون قهرًا من الكفَّار في الحرب. - أنباط: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الباء ثم ألف وآخره طاء، هم قوم من العرب دخلوا في العجم فاستعجموا، فاختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك؛ لكثرة معرفتهم بإنباط الماء واستخراجه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - قدِم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجرًا إليها فوجد أهل المدينة يسلفون، وذلك بأن يقدموا الثمن ويؤجلوا المثمن في الثمار مدة سنة أو سنتين، فأقرَّهم -صلى الله عليه وسلم- على هذه المعاملة، ولم ينههم عنها، وإنما أرشدهم إلى كيفية عقدها عقدًا شرعيًّا، وهذا ما يسمى السلم. قال ابن عباس: أشهد أنَّ السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلَّه الله ¬

_ (¬1) البخاري (2254).

في كتابه وأذِنَ فيه ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. 2 - يشترط في السلم ما يشترط في البيع؛ لأنَّه بيع عُجِّل ثمنه وأُجِّل مثمنه، فشروط البيع المتقدمة لابد أن توجد في السلم. ثم يزيد السلم شروطًا ترجع إلى طلب الشارع الحكيم الزيادة في ضبطه، لئلا يفضي عقده إلى النزاع والخصومة، لتأخر تسليم مثمنه، وطول مدَّته، ودقة وصفه، وتعلقه بالذمة، لا بمعيّن. 3 - من هذه الشروط: الأول: قبض ثمنه في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل القبض لم يصح، وهذا الشرط مأخوذ من قوله: "يسلفون ومن أسلف في ثمر" فهذا معنى السلف والسلم لغة، وشرعًا: لئلا يصير بيع الدين بالدين المنهي عنه. 4 - الثاني: العلم برأس مال السلم، وهذا مأخوذ من تسليمه في مجلس العقد، فإئَه ما يقبض في المجلس إلاَّ شيء معلوم، وهو من شروط البيع فها هنا أولى. 5 - الثالث: أن يكون المسلَم فيه يمكن ضبط صفاته من مكيل وموزون ومذروع، وأما المعدود فلا يصح فيما اختلف أفراده كالرمان والخوخ والبَيض؛ لأنَّها تختلف بالكبر والصغر، فإن لم تختلف أفراد المعدود صحَّ السلم فيه، وهذا الشرط يشير إليه قوله: "في كيل معلوم". قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ السلم جائز في المكيلات، والموزونات، والمذروعات، التي يضبطها الوصف، واتَّفقوا على أنَّ السلم جائز في المعدودات التي لا تتفاوت آحادها، كالبيض والجوز. 6 - الرابع: ذِكر قدره بالكيل إن كان مكيلًا، وبالوزن إن كان موزونًا، وبالذراع إن كان مذروعًا، وأن يكون بمكيال وميزان وآلة ذرع متعارَف عليه عند

الناس؛ لأنَّه إذا كان مجهولًا تعذَّر الاستيفاء به، وهذا مأخوذ من قوله: "في كيل معلوم". قال ابن المنذر: "أجمع كل مَن نحفظ عنه على أنَّ السلم في الطعام لا يجوز بقفيزٍ لا يعرف عياره، ولا في ثوب بذرع فلان؛ لأنَّ المعيار لو تلف، أو مات فلان بطل السلم. 7 - المشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّه إن أسلم في مكيل وزنًا، أو في موزون كيلًا، لم يصح، والرواية الأخرى: يصح، اختارها الموفق. قال الأثرم: الناس هاهنا لا يعرفون الكيل في الثمر، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. 8 - الخامس: ذِكر أجل معلوم، فلا يصح إلى أجل مجهول، وهذا مأخوذ من قوله: "إلى أجل معلوم". قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمَّد: إذا باع إلى الحصاد والجذاذ، فهذا لازم للأجل المعلوم عند بعض العلماء، وهو مذهب الإمام مالك وغيره، وكان ابن عمر يبتاع إلى العطاء، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها صاحب الفائق، وشيخنا عبد الرحمن السعدي. 9 - السادس: أن يسلم في الذمة، فلا يصح السلم في عين كشجرة؛ لأنَّها ربما تلفت قبل أوان تمسلمها. وهذا مأخوذ من قوله: "قيل للراوي كان لهم زرع؟ قال: ما كنَّا نسألهم عن ذلك" فهذا يشير إلى أنَّ السلم وقع في الذمة، ولم يكن متعلَّقه الأعيان. 10 - السَّابع: وجود المسلم فيه -غالبًا- في وقت حلول الأجل لوجوب تسليمه، فإذا كان لا يوجد في ذلك الوقت، أو لا يوجد إلاَّ نادرًا لم يصح؛ لأنَّه لا يمكن تسليمه عند وجوبه، وهذا الشرط مأخوذ من قوله: "إلى أجل معلوم" فـ "إلى" لانتهاء الغاية التي يسلم فيها المسلم فيه. فإذا كان لا يوجد إلاَّ نادرًا لم يمكن تسليمه بهذه الغاية المعلومة.

فإن تعذر تسليمه أو بعضه، بأن لم تحمل الثمار تلك السنة، فمذهب الأئمة الأربعة أنَّ لصاحب السلم الصبر، أو فسخ العقدة لأنَّ الفسخ وقع على موصوف في الذمة فهو باقٍ على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة. فهذه شروط السلم تتبعها الفقهاء من نصوص الشريعة، ونحن أرجعنا كل شرط إلى اللفظ الذي يدل عليه من الحديثين. 11 - بيع المثليات من المكيل والموزون والمذروع جائز، ولو لم يؤجل؛ لأنَّه إذا جاز مع وجود الأجل، فبيعه حالاًّ جائز من باب أولى، وإنما لا يسمى سلمًا اصطلاحًا، فيكون معنى الحديث أنَّ من باع مكيلًا، أو موزونًا، أو مزروعًا، فليكن ذلك بكيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلوم، وزرعٍ معلومٍ، وإلاَّ صار البيع مجهولًا، سواء كان سلمًا أو حالًّا. 12 - ظهر في عصرنا البيع بالتقسيط، وهو أن يشتري الرجل السلعة ويدفع جزءًا من الثمن، وباقي الثمن يدفعه أقساطًا، ولكنه لا يبيع بالتقسيط إلاَّ بثمن أكثر من ثمن الدفع المعجل، وهو جائز؛ لأنَّه داخل تحت قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن البيع بالتقسيط: قرار رقم (51): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 -

20 آذار "مارس" 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "البيع بالتقسيط"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرَّر: 1 - تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقلًا، وثمنه بالأقساط لمدة معلومة، ولا يصح البيع إلاَّ إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتاجيل، بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدَّد، فهو غير جائز شرعًا. 2 - لا يجوز شرعًا في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال، بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتَّفق العاقدان على نسبة الفائدة، أم ربطها بالفائدة السائدة. 3 - إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط؛ لأنَّ ذلك رِبا محرَّم. 4 - يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء. 5 - يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد. 6 - لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة. ويوصي: بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبت فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها:

(أ) خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك. (ب) تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه، وهي مسألة "ضع وتعجل". (ج) أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بيع التقسيط: قرار رقم (64): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين على آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ، الموافق 9 - 14 مايو 1992 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "البيع بالتقسيط"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر: 1 - البيع بالتقسيط جائز شرعًا، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل. 2 - الأوراق التجارية "الشيكات، السندات لأمر، سندات السحب" من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة. 3 - أنَّ حسم "خصم" الأوراق التجارية غير جائز شرعًا؛ لأنَّه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم. 4 - الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء كانت بطلب الدائن، أو المدين، "ضع وتعجل" جائز؛ شرعًا، لا تدخل في الربا المحرَّم، إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجزة لأنَّها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق

التجارية. 5 - يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة ما لم يكن معسرًا. 6 - إذا اعتبر الدين حالاًّ لموت المدين، أو إفلاسه، أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي. 7 - ضابط الإعسار الذي يوجب النظارة ألاَّ يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدًا، أو عينًا. والله أعلم * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن عقد الاستصناع: قرار رقم (65): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 7 إلى 12 ذوالقعدة 1412 هـ، الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد الاستصناع". وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرًا لأنَّ عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل، والنهوض بالاقتصاد الإسلامي. قرَّر: 1 - أنَّ عقد الاستصناع، وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة، ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.

2 - يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: (أ) بيان جنس المستصنع، ونو عه، وقدره، وأوصافه المطلوبة. (ب) أن يحدد فيه الأجل. 3 - يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة الآجال محددة. 4 - يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتَّفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. والله أعلم * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن موضوع عقود التوريد والمناقصات: رقم (107): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورته الثانية عشرة بالرياض، في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ، إلى غرة رجب 1421 هـ الموافق 23 - 28 سبتمر 2000 م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع، بخصوص موضوع: "عقود التوريد والمناقصات"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع، بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه، وعدد من الفقهاء. قرَّر ما يلي: 1 - عقد التوريد: أولًا: عقد التوريد: عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة بصفة دورية، خلال فترة معيَّنة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معيَّن مؤجل كله أو بعضه. ثانيًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع تنطبق

عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم (65) (3/ 7). ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين: (أ) أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم، فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا، المبينة في قرار المجمع رقم (85) (9/ 2). (ب) إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإنَّ هذا لا يجوز، لأنَّه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين، وقد صدر قرار المجمع رقم (40 - 41) المتضمن أنَّ المواعدة الملزمة تشبه العقد نفسه، فيكون البيع هنا من بيع الكاليء بالكاليء، أما إذا كانت المواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين، أو لكليهما فتكون جائزة على أن يتم البيع بعقد جديد أو بالتسليم. 2 - عقد المناقصات: أولًا: المناقصة: طلب الوصول إلى أرخص عطاء، لشراء سلعة أو خدمة، تقوم فيها الجهة الطالبة لها دعوة الراغبين إلى تقديم عطاءاتهم، وفق شروط ومواصفات محددة. ثانيًا: المناقصة جائزة شرعًا، وهي كالمزايدة، فتطبق عليها أحكامها، سواء كانت مناقصة عامة، أم محددة، داخلية، أم خارجية، علنية أم سرية، وقد صدر بشأن المزايدة قرار المجمع رقم (73) (8/ 4) في دورته الثامنة. ثالثًا: يجوز قصر الاشتراك في المناقصة على المصنَّفين رسميًا، أو المرخص لهم حكوميًا، ويجب أن يكون هذا التصنيف، أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة. والله سبحانه وتعالى أعلم

باب القرض

باب القَرْض مقدمة القَرْض: بفتح القاف وسكون الراء. لغةً: الحدّ والقطع، والقرض اسم مصدر، بمعنى الاقتراض. واسم المصدر: هو ما ساوى المصدر في الدلالة على الحدث، ولم يساوه في اشتماله على جميع حروف فعله. فالقرض اسم مصدرة لخلوه من بعض أحرف فعله لفظًا وتقديرًا. والقرض شرعًا: دفع المال ارتفاقًا لمن ينتفع به، ويردّ بدله. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. فالكتاب: عموم قوله تعا لى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]. والسنة كثيرة: ومنها أحاديث الباب الآتية. وقال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ القرض قُربة ومثوبة. وأما القياس: فإنَّ القرض من جنس التبرع بالمنافع، كالعارية، وباب العارية أصله أن يعطيه أصل المال لينتفع به ثم يعيده إليه، فتارةً ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارةً يعيره ماشية ليشرب لبنها، وتارة يعيره شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها. والمستقرض يأخذ القرض لينتفع به، ثم يعيد إلى المقرض مثله. ولهذا نُهِيَ أنَّ يشترط زيادة على المثل، وليس هو من باب البيع، فإنَّ

عاقلًا لا يبيع درهمًا بمثله من كل وجه إلى أجل. فالقرض من باب الإرفاق والتبرع، لا من باب المعاوضات، ولهذا سمَّاه النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "منيحة"؛ لينتفع المقترض، بما يستخلف منه، يعيده بعينه، فإن أمكن وإلاَّ فنظيره أو مثله. قال في شرح الإقناع: وهو من المرافق المندوب إليها في حق المقرض لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفَّسَ عن مُؤمنٍ كُرْبةً من كرب الدنيا نفَّسَ الله عنه كُرْبة من كرب يوم القيامة" [رواه مسلم (2699)]. ولما فيه من الأجر العظيم، فقد روى أنس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "رَأَيتُ ليلة أُسري بي على باب الجنة مكتوبًا الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلتُ يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأنَّ السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلاَّ من حاجة" [رواه ابن ماجه (2431)]. والقرض ليس من المسألة المذمومة لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- له، ولا إثم على من سُئل فلم يُقرِض، لأنَّه ليس بواجب، بل مندوب. ***

733 - وَعَنْ أَبِي هُرَيَرْةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيْدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أخَذَهَا يُريدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ الله" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أدَاءَهَا: من أخذ أموال الناس بأي وجه من وجوه المعاملات، حال كونه يريد أداء هذه الأموال إلى أهلها أدَّى الله عنه، بأن ييسِّر له ما يؤديه من فضله لحسن نيته. - إتلافهَا: تلف الشيء تلفاً بمعنى هلك، فمن أخذها حال كونه يريد إتلافها على صاحبها أتلفه الله تعالى، بأن يُذهب ما في يده، فلا ينتفع به لسوء نيته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ القرض إرفاق وتبرع، لا معاوضة ومقاضاة؛ ولذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- منيحة، ينتفع بها المقترض، ثم يعيدها بعينها إن أمكن، وإلاَّ ردَّ مثلها، فهو ارتفاق. 2 - الحديث يدل على أنَّ من أخذ أموال الناس قرضًا، أو شركةً، أو إجارةً، أو عاريةً، أو غير ذلك، ونيته أداءها إليهم، أدى الله عنه في الدنيا، وفي الآخرة. فأما في الدنيا فذلك بأن يسهِّل أمره، ويربح عمله، فيؤديها، وأما في الآخرة إذا مات ولم يوف فبأن يُرضي الله عنه غريمه بما شاء الله تعالى. فقد أخرج ابن ماجة وابن حبان والحاكم أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم ¬

_ (¬1) البخاري (2387).

يُدان دينًا، يعلم الله أنَّه يريد أدَاءَهُ، إلاَّ أدَّاه الله عنه في الدنيا والآخرة". 3 - يدل الحديث على أنَّ من أخذ أموال الناس ليس لحاجة إليها، ولا لتجارة وعمل بها، وإنما يريد الاستيلاء عليها وحرمانهم منها، أو يكون لحاجة إليها ولكنه لم ينو وفاءهم، ولا أداء حقوقهم، فإنَّ الله تعالى يتلف ماله في الدنيا بهلاكه، فيصاب بالفاقة، أو يبقيه له ولكن بمحق بركته، وهلاك ماله. 4 - الحديث يدل على عِظم أثر النية في الأعمال، فمن صلحت نيته صلح عمله، ومن فسدت نيته فسد عمله: "إنما الأعمال بالنيات". 5 - فيه تعظيم حقوق العباد وأموالهم، ووجوب التحرز منها والابتعاد عنها إلاَّ بحق. 6 - فيه أنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما يدين العبدُ يُدان، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فليحرص المسلم أن يعامل الخلق بمثل ما يحب أن يعامل به. 7 - الحديث يدل على جواز الاستقراض بالنية الطيبة، من عزمه على أداء القرض؛ ليخرج من التبعة، وليحصل على معونة الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة، فقد روى ابن ماجه والحاكم بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله مع الدائن حتى يقضي دينه". ***

734 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِىَ اللهُ عنْهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلاَنًا قَدِمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتَ مِنهُ ثَوْبَيْنِ نَسِيئَةً إِلَى مَيْسَرَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ" أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الإمام أحمد قال: "حدثنا محمَّد بن جعفر حدَّثنا شعبة عن عمارة، يعني ابن أبي حفصة، عن عكرمة عن عائشة قالت: إنَّ فلانًا جاءه بزٌّ، فابعثْ إليه يبيعك ثوبين إلى الميسرة، فبعث إليه، فقال: قد عرفت ما يريد محمَّد، إنما يريد أن يذهب بثوبي -أي لا يعطيني دراهمي-. فبلغ ذلك النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "قد كذب، لقد عرفوا أني أتقاهم لله عزَّ وجل" أو قال: "أصدقهم حديثًا، وآداهم للأمانة" وأخرجه الحاكم وصححه، وأقرَّه الذَّهبي على ذلك. قال المؤلف: رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - فلانًا: هو يهودي بخيل شحيح، حاقدٌ على الإسلام ورسول الإسلام، يقال له: "حليق"، وليس هذا الرد الجاف بغريب عن تلك الطغمة اليهودية الفاسدة. - بزّ: بفتح الباء، والزاي المشددة نوع من الثياب الغليظة. - نسيئة: أنْ يؤخِّر تسليم الثمن. ¬

_ (¬1) الحاكم (2/ 23)، الترمذي (1213)، النسائي (7/ 294).

- إلى ميسرة: أي إلى وقت اليسار والسعة والغنى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - القادم إلى المدينة بالبز من الشام هو يهودي من يهود المدينة المنورة الحاقدين على الإسلام ونبي الإسلام، وإلاَّ فهو يعلم أنَّ الحبيب المصطفى أوفى الناس وأكرم النَّاس، ولكنَّ الحقد والحسد الَّذي ملأَ قلبه، جعله يعامل حبيبنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة الجافية، قبَّحه الله تعالى. 2 - من كرم نفسه وحسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه لم يعاتبه، ولم يؤنبه، وإنما عامله بما أدَّبه الله تعالى به في مثل قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف]. 3 - فيه دليل على جواز معاملة الكفار، والشراء منهم، والبيع لهم، وغير ذلك من التصرفات، وأنَّها لا تعتبر من موالاتهم والركون إليهم. 4 - فيه دليل على جواز الاستقراض، وأنه ليس من المسألة المذمومة، فهو استرفاق بالشيء؛ ليعيد مثله عند الميسرة. 5 - فيه دليل على أنَّ أجل القرض حال، ولكنه يصلح أن يوعد بوفائه عند الميسرة. 6 - كما أنَّ الحديث يدل على أنَّه لا يشترط العلم بآجَل القرض؛ لأنَّه حالٌّ في نفس الأمر، فبقاؤه عند المستقرض إرفاق. 7 - فيه دليل على أنَّ ما يأتي من الكفار من ثياب مصبوغة، أو أواني مُموَّهة، فالأصل في ذلك الطهارة. 8 - وفيه بيان لؤم اليهود وشحهم، وفساد طويتهم، وأنَّ هذه الأخلاق الذميمة والصفات الدنيئة متأصلة بأولهم وآخرهم، إلاَّ من أنقذه الله تعالى منهم باتباع الرسل، وهدي الأنبياء. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ

سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء]. 9 - وفيه دليل على جواز معاملة مَن في ماله شبهة حرام، فإنَّ المعروف عن اليهود التعامل بالربا، وأخذ الرشوة، هذا ما لم يكن المتصرف فيه هو عين المال الحرام. ***

باب الرهن

باب الرهن مقدمة الرهن: بفتح فسكون، هو لغة: الثبوت والدوام، يُقال: ماء راهن: أي راكد. وشرعًا: توثقة دينٍ بعينٍ، يمكن استيفاؤه منها، أو من ثمنها، إنْ تعذَّر الاستيفاء من ذمَّة المَدين. وهو جائزٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس، قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وأمَّا السنَّة فأحاديث الباب وغيرها، وأجمع العلماء على جوازه في السفر، وذهب الجمهور إلى جوازه ولزومه في الحضر. ولصحته ولزومه ستَّة شروط: 1 - إيجاب وقبول بما يدل عليهما. 2 - كون الرَّاهن جائز التصرف بلا نزاع. 3 - معرفة قَدر الرهن. 4 - معرفة جنسه. 5 - معرفة صفته؛ لأنَّه عقدٌ على مال، فاشترط العلم به. 6 - ملك المرهون، أو الإذن في رهن. فائدته: الرهن من الوثائق التي يحصل منها الاستيفاء عند تعذر ذلك من الذمم.

735 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الظَّهر: الظهر خلاف البطن، يجمع على أظهر وظهور، مثل فَلس وفلوس، والمراد هنا ظهر الحيوان المعد للركوب، من بعيرٍ، وحصانٍ، وحمارٍ، وغيرها. - لبن الدَّر: بفتح الدال المهملة، وتشديد الراء، هو اللبن، تسمية له بالمصدر، بمعنى الدارَّة: أي ذات الضرع واللبن. - بنفقته: أي بمقابل نفقته، فيُركب ويُنفَق عليه. - يُركب وَيُشرب: مبنيان للمجهول. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أصل الرهن، وأنَّه من العقود الشرعية التي تحفظ بها الحقوق، ويستحصل منها الدين عند تعذر الحصول عليه من المدين. 2 - يدل على جواز رهن الحيوان؛ لأنَّ شرط الرهن العلم بجنس الرهن وصفته وقدره، وهذه كلها متوفرة في الحيوان. 3 - أنَّ الرهن إذا كان حيوانًا مركوبًا، فإنَّ للمرتهن أن يركبه، ويحمل عليه بقدر نفقته، التي يجريها عليه، متحريًا للعدل في ذلك. 4 - أنَّ لا يركبه، أو يحمل عليه بما يُنْهِكه، لما فيه من الضرر به، وبصاحبه. ¬

_ (¬1) البخاري (2512). وهذا لفظ الترمذي (1175).

5 - إذا كان الحيوان محلوبًا فله حلبه، وأخذ لبنه بقدر نفقته، متحريًا للعدل في ذلك. 6 - هذا الحكم في الركوب والحلب إِذْنٌ من الشارع، لِذا فإنه لا يحتاج استئذان الراهن، ولا يحتاج إلى الاتفاق معه على ذلك. 7 - ما دام أنَّ الحلب يكون بقدر النفقة، فإذا زاد اللبن على النفقة باعه المرتهن؛ لقيامه مقام المالك. 8 - أما إذا لم يفِ اللبن، وصار أقل من النفقة رجع المرتهن به على الراهن إن نوى الرجوع عليه، أما إذا كان متطوعًا بزائد النفقة فلا يرجع. 9 - قال أصحابنا الحنابلة: وإن أنفق على الحيوان الذي لا يُحلب ولا يُركب بغير إذن الراهن مع إمكانه، لم يرجع على الراهن، ولو نوى الرجوع؛ لأنَّه متبرع، أو مفرِّط. أما ابن القيم فقال: من أدَّى عن غيره واجبًا عليه، رجع عليه؛ لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن]، فليس من جزاء المحسِن أن يضيع عليه معروفه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه" [رواه أحمد (5484)]. قال شيخ الإسلام: إن قال: الراهن: أنا لم أقم في النفقة، وقال: المنفق هي واجبة عليك، وأنا أستحق بها لحفظ المرهون، فهذا محض العدل، والمصلحة، وموجَب الكتاب. وهو مذهب أهل المدينة، وفقهاء الحديث. وقال أهل الحديث: إنَّ من أدى عن غيره واجبًا فإنه يرجع ببدله. 10 - قال ابن القيم: دلَّ هذا الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أنَّ الحيوان المرهون محترم في نفسه لحق الله تعالى، وللمالك فيه حق الملك، وللمرتهن فيه حق التوثقة، فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه

ذهب نفعه باطلًا، فكان مقتضى العدل، والقياس، ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان، أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب، ويعوّض عنهما بالنفقة، فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوَّض عنها نفقة، كان في هذا جمعًا بين المصلحتين، وبين الحقين. 11 - في الحديث الدلالة على وجوب العدل في جميع ما كان تحت ولاية الإنسان وتصرفه. 12 - يدل الحديث على أنَّ نفقة ومنفعة الرهن تكون على الراهن، فإنَّها لم تجب على المرتهن إلاَّ في حالة وجود منفعة في الرهن، يستوفيها المرتهن، وينفق عليه بقدرها. 13 - فيه أنَّ المنافع أن يستفاد منها، ولا تترك تذهب هدرًا، فإنَّ هذا من إضاعة المال المنهي عنه. * خلاف العلماء: في الحديث دليلٌ على أنَّ الرهن يكون بيد المرتهن مدة رهنه، كما قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وهل القبض شرط للزوم الرهن، أم لا؟ المشهور من المذهب أنَّه شرط، فلا يلزم إلاَّ بالقبض، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم أبو حنيفة والشافعي. والرواية الأخرى عن أحمد: أنَّ القبض ليس شرطًا في اللزوم، فيلزم بمجرد العقد. قال في الإنصاف: وعنه: القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بالعقد، نصَّ عليه. قال القاضي: هذا قول أصحابنا. قال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل

وغيره، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالبيع، وإن ردَّه المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه، أجبر الراهن على رده. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فوصف أغلبي، والحاجة داعية إلى عدم القبض. * فائدة: يدل الحديث على أنَّ المرهون لا تعطل منافعه بل ينبغي أن ينتفع به، وينفق عليه، وهذا لا ينافي أنَّ كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا، ذلك أنَّه بإجماع العلماء، فإنَّ مؤنة الرهن على مالكه، كما أنَّ نماءه وكسبه له إلاَّ هذين النفعين فإنَّهما مستثنيان لدلالة هذا الحديث، ولأنَّه مشروط -أيضًا- تحري العدل، وذلك بأن يكون انتفاع الراكب والحالب بقدر النفقة، وبهذا فإنه بعيد عن القرض الذي يجر نفعًا، ومع هذا لم يأخذ بهذا الحديث إلاَّ الإمام أحمد، أما الأئمة الثلاثة فلم يأخذوا به، وأجابوا عنه بأجوبة رُدَّ عليها. منها دعوى النسخ، ومنها أنَّ "الباء" في قوله: "بنفقته" ليست البدلية، وإنما هي للمعية، والمعنى أنَّ الظهر يُركب وننفق عليه، فلا يمنع الرهن الراهن من الانتفاع بالمرهون، ولا يسقط عنه الإنفاق. والصحيح هو ما يفهم من نص الحديث وظاهره، كما فهمه رجال الحديث، ومنهم الإمام أحمد. ***

736 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذي رَهَنه، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرمُهُ" روَاهُ الدَّراقُطْنِيُّ وَالحَاكِمُ، وَرجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّ المَحْفُوظَ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ إِرْسَالُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث رواه مالك، والشافعي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان. واختلف أصحاب الزهري في وصل هذا الحديث وإرساله: فرواه مالك، وابن أبي ذئب، ومعمر، ويونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلًا. وصحح إرساله أبو داود، والبزار، والدارقطني، والبيهقي، وابن القطان. وأما الذين رووه موصولًا، فهم زياد بن سعد، وإسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ لخلافٍ فيه على أصحاب الزهري، ووافقه الذَّهبي، وصحَّح اتصاله ابن عبد البر وعبد الحق. وقال الدارقطني: زياد بن سعد من الحفاظ الثقات. وهذا إسنادٌ حسن متَّصل. ونقله عنه البيهقي، وعقَّب عليه بقوله: قد رواه غيره عن سفيان عن زياد مرسلًا، وهو المحفوظ. ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 33)، الحاكم (2/ 51)، أبو داود في المراسيل (187).

قلتُ: والذي يظهر رجحان رواية مالك ومن معه؛ لأنَّ مالكًا أثبت أصحاب الزهري كما قال الإمام أحمد وابن معين وعمرو الفرس، هذا إذا كان بمفرده، فكيف إذا تابعه معمر، ويونس، وابن أبي ذئب. * مفردات الحديث: - الرهن: رهن الشيء يرهنه رهنًا ورهونًا: ثبت ودام، ورهنه وأرهنه بمعنًى واحد، ويجمع الرهن على رهان ورُهُن، والراهن الذي يرهن، والمرتهِن الذي يأخذ الرهن، والمرهون كل عين معلومة يمكن الاستيفاء منها، أو من ثمَنِها. والرَّهنُ لغة: الثبوت والدوام. وشرعًا: توثقة دين بعين يمكن أخذ الدين أو بعضه منها، أو من ثمنها. - لا يغلق الرهن من صاحبه: بفتح الياء وسكون الغين المعجمة ثم لام مفتوحة آخره قاف. قال الزهري: يقال: غلق الباب وانغلق واستغلق: إذا عسر فتحه، وانغلق الرهن ضد الفك، والمعنى لا ينغلق الرهن من صاحبه، فلا يفك. قال في النهاية: غلق الرهن إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تخليصه، وكان هذا من فعل الجاهلية، أنَّ الراهن إذا لم يؤدِّ ما عليه من الوقت المعيَّن ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام. - له غُنْمه: بضم الغين المعجمة وسكون النون، هي زيادته وثمرته وكسبه. - عليه غُرمه: بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة، هو هلاكه ونقصه ونفقته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - معنى الحديث: أنَّ المرتهن لا يستحق الرَّهن إذا عجز الرَّاهن عن أداء ما رهنه به؛ لأنَّ الرهن ملك للراهن لا يزال ملكه عليه، وإنما هو وثيقة بيد المرتهن؛ لحفظ ماله من الدين عند الراهن.

2 - الفائدة من الحديث بيان أنَّ نفقة الحيوان المرهون ومؤنته على الراهن، فليس على المرتهن شيء منها، كما أنَّ له غنمه من ثمرة وزيادة وكسب، كما جاء في الحديث السابق: "الخراج بالضمان". ولا يعارض الحديث الذي قبله، فتلك مسألة خاصة مستثناة للمصلحة؛ لئلا تضيع مصالح الحيوان المركوب والمحلوب على مالكه ومرتهنه. 3 - كما يشمل الحديث معنًى آخر: ذلك أنَّه إذا حل أجل الدين في الجاهلية، ولم يوف الراهن المرتهن دينه، فإنَّ المرتهن يملك الرهن بغير إذن الراهن. فأبطل الإسلام هذه المعاملة الظالمة، وأخبر أنَّ الرهن لمالكه أمانةً عند المرتهن، لا يجبر الراهن على بيعه إلاَّ إذا تعذر الوفاء، حينئذٍ تأتي الفائدة من الرهن فيباع ويوفى الدين، فإن بقي من الثمن شيء فهو للراهن، وإن لم يف ثمن الرهن بالدين، فبقية الدين لا تزال في ذمة الراهن. والله أعلم. ***

737 - وَعنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بكْرًا، فَقدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أبَا رَافِعٍ أنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بكْرَهُ، فَقَال: لاَ أجِدُ إِلاَّ خِيَارًا رَبَاعِيًّا، فَقَال: أعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهمْ قَضَاءً" رَواهُ مُسْلِمٌ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - استلف: استقرض، أي: أخذه نسيئة - بكْرًا: بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف، الفتي من الإبل، جمعه أبكر وبكار. - خيارًا: بكسر الخاء، أي جيد، فخيار الشيء أفضله. - رباعيًا: بفتح الراء، وأما الباء فيجوز فيها التخفيف والتشديد، والسن الرباعية هي التي بين الثنجة والناب، والرباعي من الإبل ما دخل في السنة السابعة، حينما تسقط رباعيته. - خيار الناس: اسم "إنَّ"، ويحتمل أنَّ يراد به المفرد بمعنى المختار، ويحتمل أن تكون جميعًا. - أحسنهم: خبر "إن"، والأصل التطابق بين المبتدأ والخبر في الإفراد وغيره، فإن كان المبتدأ مفردًا بمعن المختار فالمطابقة حاصلة، وإلاَّ فأفعل التفضيل المضاف المقصود منه الزيادة، يجوز فيه الإراد والمطابقة لمن هو له. - قضاءً: منصوب على التمييز. ¬

_ (¬1) مسلم (1600).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز القرض، وأنه ليس من المسألة المذمومة؛ لأنَّه ارتفاق بالشيء ليرد إلى صاحبه مثله. 2 - أنَّ العدل هو أن يرد المقترِض مثل ما اقترض، فإذا ردَّ أفضل منه بلا شرطٍ، ولا مواطأةٍ فلا بأس، ولا يعتبر من القرض الذي جرَّ نفعًا؛ لأن الزيادة لم تقصد، ولم يستشرف لها المقترِض. 3 - جواز قرض الحيوان، ورد بدله حيوانًا مثله. 4 - أنَّ خير الناس أحسنهم قضاءً، ممن يقضي بلا مماطلة، ويكافيء مقرِضه إحسانًا على إحسانه؛ لكنه إحسان غير مشترط. 5 - جواز القرض لحاجة ما تولى عليه الإنسان من وقفٍ، أو وصيةٍ، أو مال يتيمٍ، إذا كان في الاستقراض والاستدانة غبطةٌ أو مصلحةٌ لما تولى عليه. 6 - جواز التوكل في مثل هذه التصرفات التي تدخلها النيابة. 7 - أنَّ ربا الفضل وربا النسيئة لا يجريان بين الحيوانات، ولو كانا من جنس واحد؛ لأنَّ علة الربا على الراجح هي الكيل أو الوزن مع الطعم. 8 - أنَّ الحيوان مما تنضبط صفاته، فيجوز بيعه بالصفة، ويجوز السلم فيه. 9 - أنَّ من تولى على ما ليس له، من نظارة على وقفٍ، أو وصايةٍ على وصيةٍ، أو ولايةٍ على صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ، ونجوإ ذلك، له التصرف فيما يتولى عليه، ولو كان تصرفه يشبه المحاباة للغير، إذا كان التصرف يحقق مصلحةً لما تولى عليه من حق غيره. 10 - أنَّ والي المسلمين يتصرف في بيت المال بما يرى أنَّه الأحسن والأصلح. * فائدة: إن نقصت قيمة الدراهم مع بقاء التعامل بها، ردَّ المقترض مثلها على المذهب، وعليه أكثر الأصحاب؛ لأنَّ زيادة القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن

ذمة المقترض. واختار الشيخ تقي الدين وابن القيم رد القيمة كما لو حرَّمها السلطان. قال الشيخ عبد الله بن محمد: هو أقوى. وألحق الشيخ تقي الدين سائر الديون بالقرض، وتابعه كثير من الأصحاب. ***

738 - وَعنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا" رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ (¬1)، وَلَهُ شَاهدٌ ضَعِيفٌ عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ البَيْهَقِيِّ، (¬2) وَآخَرُ مَوْقُوفٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ البُخَارِيِّ. (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه البغوي قال: حدثنا سوار بن مصعب عن عمارة عن علي بن أبي طالب مرفوعًا، وهذا إسناد ضعيف جدًا، قال ابن عبد الهادي؛ هذا إسنادٌ ساقطٌ، وسوار متروك الحديث، وقال عمر الموصلي: لم يصح فيه شيء. وهو مع ضعفه لكن له شواهد موقوفة على ابن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، وفضالة بن عبيد، ويؤيده إجماع العلماء على ذلك، وعملهم به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغرض من القرض الحَسن هو الإرفاق، ونفع المقترض المحتاج إليه، وثمرته للمقرِض الإحسان، ورجاء الثواب من الله تعالى. 2 - لذا جاء التحريم برد الزيادة أو الانتفاع من المستقرض، لقاء ما قدَّمه ¬

_ (¬1) مسند الحارث بن أبي أسامة (437). (¬2) البيهقي (5/ 350). (¬3) البخاري (3814).

المقرِض من قرض. 3 - لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" وقال ابن مسعود: كل قرض جر نفعًا فهو ربا، وحكاه الوزير اتفاقًا، وقال الموفق: كل قرض بشرط زيادة فهو حرام بلا خلاف. وهذا الحديث إسناده متكلم فيه، لكن له شواهد كثيرة منها ما في البخاري (3814) عن عبد الله بن سلام: "إذا كان ذلك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبنٍ، أو حمل شعيرٍ، أو حمل قتٍّ، فلا تأخذه، فإنَّه ربا" وأورد غيره من الآثار، والأصول الشرعية تعضد ذلك. قال في شرح الزاد: ويحرم كل شرط جرَّ نفعًا، كأن يسكنه داره، أو يقضيه خيرًا منه. فالقرض الذي يجر نفعًا هو القسم الثالث من أقسام الربا. 4 - قال في شرح الزاد: وإن بدأ بما فيه نفع بلا شرط ولا مواطأة بعد الوفاء، أو إعطاه أجود بلا شرط جاز. وقال الموفق: تجوز الزيادة في القدر والصفة بلا شرط ولا مواطأة؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- استلف بَكْرًا فردَّ خيرًا منه، وقال: "خيركم أحسنكم قضاءً" [متَّفق عليه]. ذلك أنَّه من مكارم الأخلاق عرفًا وشرعًا. 5 - ما يؤخذ عند تحويل النقد من بلد إلى آخر، إذا كان بقدر أجرة البنك الذي عمل التحويل فلا بأس بأخذها؛ لأنَّها أجرة على ذلك. 6 - قال ابن القيم في تهذيب السنن: واختلفت الرواية عن أحمد فيما لو أقرضه دراهم، وشرط عليه أن يوفيه إياها ببلد آخر، ولا مئونة لحملها، فروي عنه أنَّه قال: لا يجوز، وكرهه مالك والشافعي، وروي عن أحمد الجواز؛ لأنَّه مصلحة لهما، ولم ينفرد المقترض بالمنفعة، وحكي عن علي، وابن

عباس، وابن الزبير، والثوري، وإسحاق وغيرهم. والصحيح جوازه، واختاره القاضي، وصاحب المغني، وذلك لأنَّ المستقرض إنما يقصد نفع نفسه، ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا، فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفائه إيَّاه في بلدٍ اَخر، من حيث إنَّه مصلحة لهما جميعًا، والمنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، وقبول هديته، فإنَّه لا مصلحة له في ذلك، بخلاف هذه المسائل، فإنَّ المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة. 7 - الودائع البنكية قسمان: بفائدة، أو بغير فائدة. وهي بحالتيها تعتبر قرضًا، واستثمارها عن طريق الفائدة يعتبر قرضًا ربويًّا، فالحاصل أنَّ ودائع البنوك: إما أن تكون ودائع بفوائد، فهو القرض الربوي المحرَّم، وهو في المرة الأولى ربا فضل ونسيئة، وأما في المدة التي بعد الأولى فهو ربا الجاهلية المضاعف. وأما إذا كان بغير فائدة، فتسمى ودائع بنكية، وهي في حقيقة الأمر قروض إلاَّ أنَّها محرَّمة. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الودائع المصرفية (حسابات المصارف): قرار رقم (86): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتَّحدة من 1 - 6 ذي القعدة 1415 هـ، الموافق 1 - 6 نيسان "أبريل" 1995 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الودائع المصرفية "حسابات المصارف"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت

حوله. قرَّر ما يلي: أولًا: الودائع تحت الطلب "الحسابات الجارية" سواء كانت لدى البنوك الإسلامية، أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إنَّ المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها، وهو ملزم شرعًا بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك "المقترض" مليئًا. ثانيًا: إنَّ الودائع المصرفية تنقسم إلى نوعين بحسب واقع التعامل المصرفي: (أ) الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية، هي قروض ربوية محرَّمة سواءٌ كانت من نوع الودائع تحت الطلب "الحسابات الجارية"، أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير. (ب) الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعليًا بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثمار على حصة من الربح هي رأس مال مضاربة، وتنطبق عليها أحكام المضاربة "القراض" في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب "البنك" لرأس مال المضاربة. ثالثًا: إنَّ الضمان في الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) هو على المقترضين لها (المساهمين في البنوك)، ما داموا ينفردون بالأرباح المتولدة من استثمارها، ولا يشترك في ضمان تلك الحسابات الجارية المودعون في حسابات الاستثمار، لأنَّهم لم يشاركوا في اقتراضها، ولا استحقاق أرباحها. رابعًا: إنَّ رهن الودائع جائزٌ، سواءٌ كانت من الودائع تحت الطلب "الحسابات الجارية" أم الودائع الاستثمارية، ولا يتم الرهن على مبالغها إلاَّ بإجراء يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن، وإذا كان البنك

الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري، بحيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض "المضاربة"، ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنبًا لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن. خامسًا: يجوز الحجز من الحسابات إذا كان متَّفقًا عليه بين البنك والعميل. سادسًا: الأصل في مشروعية التعامل الأمانة والصدق بالإفصاح عن البيانات بصورة تدفع اللبس أو الإيهام، وتطابق الواقع، وتنسجم مع المنظور الشرعي، ويتأكد ذلك بالنسبة للبنوك تجاه ما لديها من حسابات؛ لاتصال عملها بالأمانة المفترضة ودفعًا للتغرير بذوي العلاقة. والله أعلم * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن فرض الغرامة المالية على تأخر السَّداد: إنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ، إلى يوم الأحد 25 رجب 1409 هـ، قد نظر في موضوع السؤال المطروح من فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح المستشار الشرعي للبنك الإسلامي في الأردن، وصورته كما يلي: "إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل له -أي البنك- الحق بأن يفرض على المدين غرامة مالية جزائية، بنسبة معيَّنة، بسبب التأخير عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟ ". وبعد البحث والدراسة قرَّر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إنَّ الدائن إذا شرط على المدين، أو فرض عليه أن يدفع له مبلغًا من المال، غرامةً ماليةً جزائيةً محددةً، أو بنسبةٍ معيَّنةٍ إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، بل ولا يحل، سواء

كان الشارط هو المصرف أو غيره؛ لأنَّ هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أعضاء المجلس * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن السندات: قرار رقم (60): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة، في المملكة العربية السعودية، من 17 - 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار "مارس" 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة "الأسواق المالية" المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410 هـ/ 20 - 24/ 10/ 1989 م، بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريبات بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وبعد الاطلاع على أنَّ السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الإسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متَّفق عليها منسوبة إلى القيمة الإسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط، سواء كان جوائز توزع بالقرعة، أم مبلغًا مقطوعًا، أم حسمًا. قرر ما يلي: أولاً: إنَّ السندات التي تمثل التزامًا بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط، محرَّمة شرعًا، من حيث الإصدار، أو الشراء، أو التداول؛ لأنَّها قروض ربوية، سواءٌ كانت الجهة المصدرة لها خاصةً، أو عامةً ترتبط بالدولة.

ولا أثر لتسميتها شهادات، أو صكوكًا استثمارية، أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحًا، أو ريعًا، أو عمولة، أو عائدًا. ثانيًا: تحرم أيضًا السندات ذات الكوبون الصفري، باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الإسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسمًا لهذه السندات. ثالثًا: كما تحرم أيضًا السندات ذات الجوائز، باعتبارها قروضًا اشترط فيها نفع، أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار. رابعًا: من البدائل للسندات المحرَّمة إصدارًا، أو شراءً، أو تداولاً، السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع، أو نشاط استثماري معيَّن، بحيث لا يكون لمالكيها فائدةٌ، أو نفعٌ مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع، بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلاَّ إذا تحقق فعلاً، ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تمَّ اعتمادها بالقرار رقم (30) لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة. والله أعلم. ***

باب التفليس والحجر

باب التفليس والحجر مقدمة التفليس: مأخوذ من الفَلْس، فهي أقل أنواع النقود، وأخس مال الرجل، وأردأ العملات، قال في المصباح: أفلس الرجل أي صار ذا فلوس وزيوف، بعد أن كان ذا دراهم، فهو مفلس، وجمعه مفاليس. وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر. واصطلاح الفقهاء: مَنْ دَينه أكثر من ماله. وأما الحجر: فهو لغة: المنع والتضييق، ويسمى العقل حجرًا؛ لمنعه صاحبه من ارتكاب القبائح، ومنه قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 5]. وشرعًا: منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر ضربان: أحدهما: حجر لحظ غير المحجور عليه، كَحَجر على مفلس لحق الغرماء، وعلى مريض بما زاد على الثلث، وحجر على مشتري الشقص المشترك بعد طلب الشفيع وغير ذلك. والأصل في هذا الحجر ما في البخاري (2402) ومسلم (1559) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" وهذا مذهب جمهور علماء المسلمين. قال الاصطخري: لو قضا القاضي بخلافه نقض حكمه.

الثاني: حَجْرٌ لَحظ نفسه، وهو الحجر على الصغير، والمجنون، والسفيه، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]. والمؤلف هنا ذكر ما يشير إلى أحكام النوعين. *حكمته: والحَجر من محاسن الإسلام وعدالة أحكامه، ذلك أنَّ الرجل إذا أفلس وافتقر بعد غنًى اختلطت عليه أموره، فتصرف تصرفات فيها الحَيف والجَور، إذ ربما يوفي بعض غرمائه ويترك بعضهم، وقد يستولي أقوياء غرمائه على موجوداته ويستأثرون بها، ويتركون الضعفاء منهم، وربما أخفى أمواله، أو بعضها، وغير ذلك من التصرفات التي تضر بغرمائه أو بعضهم، ومن لطف الله تعالى بخلقه وبأصحاب الحقوق أن شَرَع الحَجر؛ ليمنع المفلس من التصرف في أمواله الموجودة، وجعل تصرفه فيها غير نافذة ليحفظ بذلك الحقوق، ويوزع المجودات توزيعاً عادلاً بين غرمائه بالنسبة لديونهم. أما المفلس: فسلمت ذمته من المحاباة والإيثار، ورضي عنه جميع غرمائه، وانقطع عنه الطلب، وسَلِمَ من ملازمة الغرماء، والله حكيم عليم. ***

739 - عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "مَنْ أدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِه مِن غَيْرِهِ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَمَالِكٌ مِن رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسَلاً بِلَفْظِ: "أَيُّمَا رَجُلٍ باعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَم يَقْضِ الَّذِي باعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِه، وَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي، فَصَاحِبُ المَتَاعِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ" وَوَصَلَهُ البَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ تَبَعًا لأَبِي دَاوُدَ. وَرَوَى أَبُو دَاود وَابْنُ مَاجَه مِنْ رِوَايَةِ عُمَر بن خَلْدَة، قال: أتينا أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- فِي صَاحِب لَنَا قَدْ أَفْلَسَ، فَقَالَ: لأقْضِيَنَّ فِيْكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَفْلَسَ، أَوْ مَاتَ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَضعَّفَ أَيْضًا هَذهِ الزِّيَادَةَ فِي ذِكْرِ المَوْتِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيح لغيره. هذا الحديث مجموع من عدة روايات، كلها تتصل بأبي هريرة عدا ¬

_ (¬1) البخاري (2402)، مسلم (1559)، مالك (2/ 678)، أبو داود (3520، 3523)، البيهقي (6/ 47)، ابن ماجه (2360)، الحاكم (2/ 50).

المرسلة، وهذه الروايات هي: الرواية الأولى: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" هذه متَّفقٌ عليها، فلا حاجة لبحثها، فقد رواها الجماعة. الرواية الثانية: هي المرسلة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بلفظ "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه" وصلها البيقهي، ورجَّح الارسالَ الشافعي وأبو داود. قال البيهقي: ولا يصح موصولاً. قلت: ولكن جاء ما يشهد للحديث من طرق أُخَر، فلذا فالحديث صحيح لغيره. *مفردات الحديث: - بعينه: بأن لم تتغير صفة من صفاته بزيادة، ولا نقص. - أُسوة: بضم الهمزة وكسرها، أي هو مساوٍ لهم كواحد منهم، يأخذ كما يأخذون، ويُحرم كما يحرمون. - الغُرَماء: بضم الغين وفتح الراء، جمع غريم، وهو الدائن أي الذي له الدين على غيره. *ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ من وجد متاعه عند إنسان قد أفلس، فله الرجوع بمتاعه، بشروط أخَذها العلماء من هذا الحديث وغيره، وأخذوا بعضها من فهمهم لمراد الشارع الحكيم. قال ابن دقيق: دلالته قوية، وبه أخذ أكثر أهل العلم. قال الاصطخري من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه نُقِضَ حكمه. 2 - يراد بصاحب المتاع في الحديث البائع، وغيره من مقرِض، ونحوه من أصحاب عقود المعاوضات، وعموم الحديث يشملهم.

3 - أن تكون موجودات المفلس لا تفي بديونه، وهذا الشرط مأخوذ من اسم "المفلس" شرعًا. 4 - أن تكون عين المتاع موجودة عند المشتري، وهذا الشرط هو نص الحديث الذي معنا وغيره. 5 - أن يكون الثمن غير مقبوض من المشتري، فإن قبضه كله أو بعضه فلا رجوع بعين المتاع، وهذا الشرط مأخوذ من بعض ألفاظ الأحاديث، كما يفهم من المعنى المراد. 6 - الذي يفهم من عموم لفظ الحديث أنَّ الغرماء لو قدَّموا صاحب المتاع بثمن متاعه، فلا يسقط حقه من الرجوع بعين متاعه. قلتُ: وأرى أننا إذا رجعنا إلى مراد الشارع، وهو "حفظ حق صاحب المتاع" فإننا نلزمه بأخذ الثمن الذي باعه به إذا قدمه الغرماء، وخصوصًا إذا كان في أخذه مصلحةً لعموم الغرماء، وللمفلس الذي يتشوف الشارع إلى التخفيف من ديونه. قال ابن رشد: تقدر السلعة، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضي بها للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه، ويتحاصّون الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. أما الشيخ عبد الرحمن السعدي فقال: الأولى أنَّه إذا حصل له ثمن سلعته على أي وجه كان، لم يكن له أخذها؛ لأنَّ الشارع إنما خصَّه وجعل له الحق في أخذها خوفًا من ضياع ماله، فينظر إلى المعنى الشرعي. 7 - أن تكون السلعة بحالها لم يتلف منها شيء، ولم تتغيَّر صفاتها بما يزيل اسمها، كنسْج الغزل، وخبز الحب، وجعْل الخشب باباً ونحو ذلك. فإن تغيرت صفاتها، أو تلف بعضها فصاحبها أسوة الغرماء. 8 - أن لا يتعلق بها حق من شفعة أو رهن، وأولى من ذلك أن لا تباع، أو

توهب، أو توقف، ونحو ذلك فحينئذ لا رجوع فيها، ما لم يكن التصرف فيها حيلةً على إبطال الرجوع، فإنَّ الحيل محرَّمة، وليس لها اعتبار. هذه هي الشروط المعتبرة لاستحقاق صاحب المتاع في الرجوع في عين متاعه الذي وجده عند المفلس، أخذها العلماء من لفظ الحديث، وبعضها من معناه المفهوم، والمراد من هذا الحكم. 9 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: ذكر الأصحاب لرجوع مُدْرِكِ عين ماله عند المفلس شروطًا، وأكثر هذه الشروط في استحقاق الرجوع في العين لا دليل عليه، وظاهر الحديث يدل على رجوعه ما لم يمنع مانع، كتعليق حق، أو انتقال ملك، أو تغيرها تغيرًا كثيرًا بزيادة. 10 - يرى الأحناف أنَّ صاحب السلعة لا يرجع؛ لأنَّ المشتري ملكها بالشراء، وتأولوا الحديث بتأويلات ضعيفة. منها: أنَّ الحديث مخالف للأصول، والحق ما ذهب إليه الجمهور من العمل بالحديث الذي هو أصل الأصول. قال الشوكاني: الاعتذار عن الحديث بأنه مخالف للأصول اعتذار فاسد، والله الهادي. * خلاف العلماء: جاء في بعض روايات الحديث قوله: "من أفلس أو مات". فذهب الإمامان مالك وأحمد إلى أنَّه إذا مات الميت فصاحب السلعة أسوة الغرماء، فلا يختص بها. وذهب الإمام الشافعي إلى أنَّه يختص بها، فله الرجوع بعين ماله بعد وفاة من هي عنده. وهذا القول أرجح قياسًا على المفلمس، واستئناسًا بهذه الرواية.

740 - وَعَنْ عَمْرِو بنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وَعلَّقَهُ البُخَارِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، وعلَّقه البخاري. قال في بلوغ الأماني: صححه ابن حبان، وحسَّنه الحافظ، فقال في فتح الباري: وإسناده حسن، وقال الحاكم: الحديث صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - لَيّ الواجد: بفتح اللام ثم ياء مشددة، مصدر لوى يلوي ليًّا، وهو التسويف والمَطْل بتأخير الأداء بلا عذر. - الواجد: بالجيم من الوجد، وهو الغني القادر على الوفاء. - يُحل: بضم الياء مبني للمجهول. - عِرضه: بكسر العين المهملة وسكون الراء وفتح الضاد، قال وكيع: عرضه شكايته. ¬

_ (¬1) البخاري معلقًا (5/ 62)، أبو داود (3628)، النسائي (7/ 316)، ابن ماجه (3627)، ابن حبان (1164).

- وعقوبته: حبسه، حتى يبيع القاضي ماله، ويقضي دينه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الواجد هو القادر على وفاء دينه، فمطله وليه ظلم لصاحب الحق. 2 - أنَّ هذا المطْل من الواجد يبيع ويُحِل لصاحب الحق عِرضه، بأن يقول: ظلمني ومنعني حقي، ونحو ذلك من شكواه، كما يحل عقوبته بالحبس حتى يوفي ما عليه من حق واجب. 3 - الحديث دليل على تحريم مَطل الواجد وليّه صاحب الحق عن حقه. 4 - اتَّفق العلماء على أنَّ كل من ترك حقًا واجبًا عليه، فإنَّه يستحق العقوبة حتى يؤدي ما يجب عليه أداؤه، من دينٍ، أو عاريةٍ، أو وديعةٍ، أو مال شركةٍ، أو نحو ذلك، فإن أبى عزَّره الحاكم مرة بعد أخرى حتى يؤدي الحق. قال شيخ الإسلام: وهذا ما عليه الأئمة، لا أعلم فيه نزاعًا. 5 - قال الشيخ: وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء، وَمطَل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك، فهو على الظالم المبطل إذا كان ما غرمه على الوجه المعتاد. 6 - مفهوم الحديث أنَّ مطل المعسر لا يُحل عِرضه ولا عقوبته، وإنما الواجب إنظاره، وترك ملازمته، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، كما لا يطالبُ مدِين بدين مؤجل. ***

741 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَال: "أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْلُغْ ذلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لغُرَمَائهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذلك" روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أصيب: قال في المحيط: أصابته المصيبة إصابة: حلَّت به وأدركته. والمصيبة تطلق على معانٍ متقاربة: البلية، والداهية، والشدة، وكل أمر مكروه يحل بالإنسان، جمعها مصائب، بالهمزة شذوذًا، وأصلها مصاوب، فكأنهم شبهوا الأصلي بالزائد فقلبوها همزة في مصائب. - ابتاعها: أي اشتراها، وتقدم شرحها. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1556).

742 - وَعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَن أَبِيهِ "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: حَجَرَ عَلى مُعَاذٍ مَالَهُ وباعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْه" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلاً، وَرَجَّحَ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. قال في التلخيص: رواه الدارقطني (4/ 230)، والحاكم، والبيهقي (1141) من طريق هشام بن يوسف عن معمرٍ عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه بلفظ: "حَجَر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه". وخالفه عبد الرزاق وعبد الله بن المبارك عن معمر فأرسلاه. ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلاً مطولاً. وصححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي. قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل، وقال ابن الطلاع: هو حديث ثابت. * مفردات الحديث: - حجر: يقال: حجر يحجر حجرًا، وهو لغة: المنع والتضييق، ومنه قوله تعالى: {حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} [الفرقان]. وشرعًا: منع الإنسان من التصرف في ماله، فإذا كان قاصرًا فالحجر لحظِّ نفسه، وإن كان رشيدًا فالحجر لحظ غيره من الغرماء. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحَجْر شرعًا: هو منع المفلس من التصرف في ماله الموجود الحادث بإرث ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 230)، الحاكم (2348)، أبو داود في المراسيل (1/ 162).

أو غيره، وهو مشروع بشرطه؛ لحفظ حقوق الغرماء، ونتيجة الحجر أنَّه لا يصح، ولا ينفذ تصرفه في ماله المذكور، ولا إقراره عليه. 2 - لا يصح الحجر إلاَّ من الحاكم بطلب كل غرماء المفلس، أو طلب بعضهم؛ لأنَّ الحجر يحتاج إلى اجتهاد في الحكم به، كما أنَّه إلى وجود ولاية تشريعية وتنفيذية، ولا يقوم بذلك إلاَّ الحاكم. 3 - لا يحجر على المدين حتى تكون ديونه أكثر من موجوداته. 4 - المفلس قبل حجر الحاكم صحيح التصرف في ماله؛ لأنَّه رشيد، لكن يحرم عليه التصرف بما يضر غرماءه، هذا المذهب. أمَّا ابن القيم فقال: إذا استغرقت الديون ماله، لم يصح تصرفه وتبرعه بما يضر أرباب الديون، سواءٌ حَجَر عليه الحاكم، أو لم يحجر عليه. هذا مذهب مالك واختيار شيخنا، وهو الصحيح الذي يليق بأصول المذهب، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأنَّ حق الغرماء قد تعلق بماله، والشريعة جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها. قلتُ: ونصر هذا القول غير واحد من أهل التحقيق، وجزم به ابن رجب وغيره، وصوَّبه في الإنصاف. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: عند الشيخ تقي الدين لا ينفذ تصرف المفلس التصرف المضر بالغريم، ولو لم يحجر عليه، وهو أرجح وأقرب إلى العدل، لأنَّ تصرفه ظلم محرَّم، فكيف ينفذ الظلم المحرَّم وحجر الحاكم ما هو إلاَّ إظهار لحاله، لإيجاب شيء لم يجب إلاَّ بحجره. 5 - على الحاكم أن يبيع مال المفلس، ويقسم ثمن ما باعه بين الغرماء بالمحاصَّة بقدر الديون. وطريق المحاصَّة أن تجمع الديون، وتنسب إلى مال المفلس، وَيُعطى

كل غريم من دينه بتلك النسبة. 6 - الحجر لا ينفك عن المفلس إلاَّ بوفائه دينه، أو حكم حاكم، ولو مع بقاء بعض الدين؛ لأنَّ حكمه مع بقاء بعض الدين، لا يكون إلاَّ بعد البحث عن نفاد ماله، والنظر في الأصلح من بقاء الحجر، أو فكِّه. 7 - يجوز إعطاؤه من الزكاة لوفاء دينه. قال فقهاء الحنابلة، واللفظ لصاحب نيل المآرب: من تَديَّن لنفسه في شراء مباح أو محرَّم، وتاب منه مع فقره، فإنَّه يُعطي ما يقضي به دينه، وكذا لو كان الدين لله تعالى. 8 - إذا وزعَّ الحاكم ماله الموجود انقطعت المطالبة عنه، فلا يجوز ملازمته، ولا طلبه، ولا حبسه بهذا الدين بل يخلى سبيله، ويمهل إلى أن يحصل له مال فيأخذه الغرماء، وليس معناه: أنَّه ليس لكم إلاَّ ما وجدتم، وبطل ما بقي لكم من الديون، وهذا ما يفهم من الحديث مع قوله تعالي: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. فالإفلاس لا يسقط حقوق أصحاب الديون، لكن يمنع من الملازمة والمطالبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لغرماء معاذ: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلاَّ ذلك". ***

743 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "عُرِضْتُ عَلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوْمَ أُحُدٍ، وَأنَا ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: "فَلَمْ يُجِزْنِيِ، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ" وَصَحَّحَها ابنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عُرِضت: مبني للمجهول، والعرض العسكري هو مرور فِرَق نموذجية من القوات المسلحة أمام رئيس الدولة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- استعرض أفراد رجال غزوته حينما أراد الغزو، فرد ابن عمر في الغزوة الأولى لما كان صغيرًا، وأجازه في الثانية لما بلغ. - أُحُد: جبل يحيط بالمدينة المنورة من الجهة الشمالية، وهو داخل حدود حرم المدينة المنورة، وغزوة أحد في سنة ثلاث من الهجرة. - وأنا ابن أربع عشرة سنة: قال الحافظ في التلخيص المراد بقوله: "وأنا ابن أربع عشرة" أي طعنت فيها. وبقوله: "وأنا ابن خمس عشرة" أي استكملتها. - الخندق: أما الخندق فهو أخدود عميق مستطيل، يحفر في ميدان القتال يكون جهة العدو؛ لتتقي به الهجمات المباغتة، وقد حفره النبي -صلى الله عليه وسلم- في شمال غرب ¬

_ (¬1) البخاري (2664)، مسلم (1868)، البيهقي (11081)، ابن حبان (4708).

المدينة جهة جبل سَلَع، لما حاصرت المدينة قُريش، وقبائل أسد وغطفان، فسميت الغزوة باسم هذا الخندق، الذي هو أول تدبير حربي حكيم عمل في جزيرة العرب، وغزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة. - فلم يُجِزْني: يقال: أجاز يجوز إجازة، والمعنى: لم يمضني، ولم يأذن لي في القتال. ***

744 - وَعَنْ عَطِيَّةَ القُرَظِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ، فَخلِّي سَبِيلِي" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه الإمام أحمد واللفظ له، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وسكوتهما دليل على صلاحيته عندهما. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الصحيح، وهو كما قال. * مفردات الحديث: - يوم قُرَيظة: بضم القاف وفتح الراء، بنو قُريظة قبيلة من قبائل اليهود، الذين كانوا يقيمون قرب المدينة النبوية، وكان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد، فنكثوا عهدهم، وأظهروا العداوة لما رأوا اجتماع القبائل يوم الخندق عند المدينة، ولما هزَم اللهُ الأحزاب، نزل حكم الله بأن تُقتلَ رجالهم، وتُسْبى نساؤهم وذراريهم، فكان من بلغ قُتل، ومن لم يَبْلُغ أُبقي. ¬

_ (¬1) أبو داود (4404)، الترمذي (1584)، النسائي في الكبرى (5/ 185)، ابن ماجه (2541)، أحمد (4/ 310)، ابن حبان (4760)، الحاكم (2/ 123).

- أنبتَ: أي من نبت الشعر الخشن الذي حول قُبُلِه وهو "العانة"؛ قُتِلَ؛ لأنَّه بالغ مكلف، ومن لم ينبت هذا الشعر فهو لم يبلغ فَمخلَّى سبيله ويترك. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - هذان الحديثان جاءا لبيان أحكام المحجور عليه لحظ نفسه، من صغيرٍ، وسفيهٍ، ومجنونٍ. 2 - المحجور عليه لصغره لا يُعطى ماله، ولا يجوز تصرفه فيه إلاَّ بعد بلوغه ورشده؛ لقوله تعالي {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. 3 - البلوغ يكون بواحد من أمور منها: البلوغ بتمام -الذكر أو الأنثى- خمسة عشر عامًا، وهذا معنى قوله: "وعُرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني" يعني أنَّه رآه بلغ لما وصل هذه السن. ويكون بنبات شعر خشن حول القُبُل، وهي "العانة"، وهذا ما يفيده الحديث رقم (744)، حينما أمر -صلى الله عليه وسلم- بقتل من بلغ من بني قُريظة، وترك من لم يبلغ، فمن اشتبه عليهم بلوغه من عدمه يكشف مئزره، فمن أنبت فقد بلغ، ومن لم ينبت لم يبلغ، فيخلى سبيله ولا يقتل. 4 - من علامات البلوغ الإنزال من الذكر والأنثى، فإذا أنزل منيًّا حكم ببلوغه، ولو لم يتم خمسة عشر سنة، أو ينبت حول قبله شعر خشن. 5 - تزيد البنت بعلامة رابعة للبلوغ هي الحيض، فمتى جاءها الحيض فهي بالغة لحديث: "لا يقبل الله صلاة حائض إلاَّ بخمار" رواه الخمسة، ولأنَّ الحيض علامة استعدادها للحمل، ولا تحمل إلاَّ بعد البلوغ. 6 - مع علامات البلوغ هذه كلها لابُدَّ من الرشد؛ لدفع ماله إليه، فلو بلغ وهو سفيه لم يرشد، فلا يفك عنه الحجر، ولا يصح تصرفه، لقوله تعالي:

{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، ولأنَّ الرشد هو إصلاح المال، والسفه إضاعته وتبذيره، وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]. 7 - وللصغير أحكام مذكورة في كتب الفقه في "باب الحَجْر"، كوجوب المحافظة على ماله وإصلاحه، وتثميره وتنميته، وأن لا يتصرف وليه له إلاَّ بما هو الأحظ، وكلها ترجع إلى العناية باليتيم وبماله. كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]. وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسَن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُسَاء إليه". والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة وشديدة، فإنَّ الله تعالى -جلَّت قدرته وتعالت حكمته- يعلم شح النفوس عند المال، ويعلم ضعف اليتيم وعجزه، فعني به وحذَّر من قرب ماله إلاَّ بالتى هى أحسن: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}. [النساء]. ***

745 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَجُوزُ لامْرَأةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بإِذْنِ زَوْجِهَا". وفِي لَفْظٍ: "لا يَجُوزُ لِلْمَرأةِ أمْرٌ فِي مَالِهَا إذا مَلَك زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بلفظيه، وقد صححه الحاكم ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - عصمتها: قال ابن فارس: العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدل على إمساك وملازمة. وقال في المصباح: الاسم العصمة، والجميع عِصم، والمراد: بذلك عقد النكاح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، فالرجل هو زعيم الأسرة، وهو سيد البيت، لما فضله الله به من سعةٍ في الفكر، وبُعْدٍ في النظر، وبصرٍ في العواقب، وهو صاحب الكد ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 179)، أبو داود (3547)، النسائي (5/ 65)، ابن ماجه (2388)، الحاكم (2/ 47).

والكدح، والكسب. 2 - المرأة في المنزل هي المدبرة؛ لِمَا لَها من المعرفة والخبرة، وهي المتولية شؤون منزلها، ومن ذلك تدبير مال زوجها الذي بين يديها. 3 - لا يجوز لها عطيةٌ، أو صدقةٌ، من مال زوجها إلاَّ بإذنه؛ لأنَّه صاحب الحق، فإن أذن أو علمت من حاله رضاه، فلها الصدقة بما جرت به العادة من الشيء القليل، من طعام البيت كالرغيف، وبقية الطعام والشراب، لما في الصحيحين عن عائشة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها، غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجر ما كسب، وللخازن مثل ذلك، لاينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا". فإن منعها من ذلك، أو علمت منه البخل، فيحرم عليها الصدقة بشيءٍ من ماله، ولو قليلاً. 4 - شراكتهم في الأجر من غير أن ينقص أجر بعضهم من أجر الآخر، وذلك من فضل الله تعالى وكرمه. 5 - المرأة البالغة الرشيدة جائزة التصرف حرَّة في مالها. وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" فقد حمله العلماء على أحد معنيين: أحدهما: حسن عشرتها، وطيب نفسها، وتقديرها لزوجها، وتقديمه في أمورها، فهي لا تتصرف إلاَّ بعد مراجعته. الثاني: أنَّ هذا خاصٌّ في الزوجة التي لم ترشد، فإذا كانت سفيهةً فيحرم تصرفها في مالها، ويجب على ولي أمرها حفظه، وأهم رجالها المحافظين على شؤونها هو زوجها الرَّشيد. ***

746 - وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ المسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحدِ ثَلاَثَةٍ: رجُل تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابتهُ جَائِحَة اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أصَابتهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِن قَوْمهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قبيصة: بفتح القاف، فموحدة، فمثناة تحتية، فصاد مهملة. - مخارق: بضم الميم، فخاء معجمة، فراء مسكورة. - المسألة: سؤال الناس من أموالهم. - حمالة: بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم، جمعه حمالات، ما يحمل من دين. - ثم يمسك: يكف عنه، ويمتنع. - جائحة: قال في النهاية: هي الآفة التي تهتك الثمار والأموال وتستأصلها، والجمع جوائح. قوامًا: يقال: قام يقوم قومًا وقيامًا: ضد قعد، والقِوام بكسر القاف: ما يقيم الإنسان من القوت. - عيش: يُقال: عاش يعيش عيشًا: صار ذا حياة، والعيش مصدر والمراد هنا ما ¬

_ (¬1) البخاري (1197)، مسلم (827).

يعاش به. - الفاقة: افتاق الرجل افتياقًا افتقر، ولا يقال فاق الرجلُ؛ لأنَّ ذل من الرفعةِ والعلو. فالفاقة هي الفقر والحاجة. - الحِجَا: بكسر الحاء: العقل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم سؤال الناس أموالهم بدون حاجة، فقد جاء في صحيح مسلم (1041) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "من يسأل الناس أموالهم تكثرًا فإنَّما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر". 2 - جواز السؤال للحاجة إليها، ومنها هذه الحالات الثلاث الملجئة إلى السؤال. 3 - الأولى: أن يقوم الرجل لإصلاح ذات البين بين قبائل، أو قبِيلتَين، أو عشيرتين، أو قريتين، فيتوسط بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً عوضًا عما بينهم من دماء أو خسائر؛ ليطفيء نار الفتنة، فهذا قد فعل معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حَمْله عنه من الصدقة؛ لئلا يجحف ذلك بالسادة المصلحين، ويوهن من عزائمهم، فجاء الشرع بإباحة المسالة له فيها، وجعل لهؤلاء السادة نصيبًا من الزكاة، ولو كانوا أغنياء. 4 - القدر الذي ياخذه هذا المصالح الغارم هو قدر ما التزم به وتحمله، ثم يمسك فلا يأخذ أكثر منه. 5 - الثاني: من أصابت ماله آفة سماوية أو أرضية، من بردٍ شديدٍ، أو حرٍّ شديدٍ، أو غرقٍ، أو حريقٍ، أو نحو ذلك من الآفات التي لا صنع لآدمي فيها، حتى لم يبق له ما يسد حاجته، فهذا تحل له المسالة حتى يصيب من العيش سداده، ثم يمسك، فلا يأخذ أكثر من كفايته، وكفاية من يمونه. 6 - الثالث: من عُرفَ بالغنى والمال، فأصابه الفقر والحاجة، فهذا تحل له

المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، يقوم بكفايته وكفاية من يمونه. 7 - القاعدة الشرعية تقول: "الأصل بقاء ما كان على ما كان" فالغني الذي أصابته الفاقة لا تحل له المسألة، ولا يعطى من الزكاة حتى يشهد له ثلاثة رجال عقلاء أمناء من قومه، الذين يعرفون حاله وصدق ما آل إليه أمره، فيشهدون بقولهم: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة. وبدون هذه الشهادة فالأصل أنَّه غنيٌّ غير مستحق للزكاة. 8 - أما الذي لم يُعرف بسابق غنى، فلا يحتاج في جواز إعطائه من الزكاة إلى هذه الشهادة. 9 - فهؤلاء هم الذين تحل لهم المسألة، ويجوز دفع الزكاة إليهم، وأما من عداهم ممَّن يسألها جمعًا وتكثرًا، فهذا يأخذها سحتًا تسحته وتسحت ماله معه، نسأل الله العافية. 10 - استثنى العلماء: سؤال ولي أمر المسلمين، فهذا لا بأس بسؤاله مع الغنى والحاجة؛ لأنَّ للسائل نصيبًا من بيت مال المسلمين. ***

باب الصلح

باب الصلح مقدمة الصُّلح: اسم مصدر صالحه مصالحة وصِلاحًا -بالكسر. الصلح لغة: قطع المنازعة. وشرعًا: معاقدة يتوصل بها إلى موافقة بين متخاصمين قطعًا للنزاع. وهو جائزٌ بالكتاب، والسنة, والإجماع، والقياس. قال تعالي: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء]، وقال -صلى الله عليه وسلم-:"الصلح جائز بين المسلمين، إلاَّ صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرم حلالاً" [رواه الترمذي (1352)]، وجاء في الترمذي من حديث أبي الدرداء أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قلنا: بلى، قال: إصلاح ذات البين". وأجمع المسلمون على جوازه، وتقتضيه المصلحة، فإنَّه من مساعي جلب الخير، ودفع الشر. وهو من أكبر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق، ولذا حسُن وأبيح فيه الكذب، فقد جاء في البخاري (2692) ومسلم (2605) من حديث أم كلثوم أنَّها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا". والصلح أقسام: منه الصلح بين المسلمين وأهل الحرب بعقد الذمة، أو الهدنة، أو الأمان.

ومنه ما يكون بين أهل البغي وأهل العدل، حينما يخرج البغاة على الإمام، فإنَّ عليه مراسلتهم، وإزالة ما يطلبون إزالته من الظلم، وعقد الاتفاق معهم. ومنه ما يكون بين زوجين إذا خيف الشقاق بينهما، بعثَ الحاكم حكَمًا من أهل الزوج، وحَكَمًا من أهل الزوجة، وأجريا ما يريان فيه الصلاح بينهما من جمع أو تفريق. ومنه الصلح بين المتخاصمين في الأموال، وهو المراد هنا في هذه الترجمة. والصلح في الأموال قسمان: 1 - صلح على إقرار. 2 - صلح على إنكار. ولكل قسم أحكام تخصه. فالصلح على إقرار نوعان: أحدهما: الصلح على جنس الحق، وذلك بأن يقر لخصمه بدين فيُسقط عنه بعضه، أو بعين فيهب له بعضها، فيصح ذلك؛ لأنَّه جائز التصرف، لا يمنع من إسقاط بعض حقه، أو هبته. الثاني: أن يصلح عن الحق المقرّ به بغير جنسه، فيصح، ويكون حينئذ معاوضة، إما بيع أو صرف، أو غيرهما فتجري فيه أحكام تلك المعاوضة. القسم الثاني: صلح على إنكار. وذلك بأن يدَّعي إنسان على الآخر عينًا في يده أو دينًا في ذمته، فينكره المدعى عليه، ثم يصالح على مال، فيصح الصلح، ويكون في حق منكر إبراء؛ لأنَّه بذل العوض لدفع الخصومة عن نفسه، وليس في مقابل حق ثابت عليه. وأما المدعي فيكون الصلح في حقه بيعًا، يأخذ أحكامه المعروفة.

والصلح كما تقدم من أنفع العقود؛ لما يتوصل به إلى إطفاء الفتن وإخماد الحروب، وإصلاح الأحوال، وإرضاء النفوس، ولما يثمر من استتباب الأمن، واستقرار الأمور، وصفاء النفوس، وقطع دابر الشر. ولذا قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]، وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة جدًا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. ***

747 - عَن عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "الصُّلحُ جَائِزٌ بينَ المُسْلِمِينَ، إلاَّ صُلحًا حرَّم حَلاَلاً، أوْ أحلَّ حَرَامًا، وَالمُسْلِمُونَ عَلى شُروطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حرَّم حَلاَلاً، أو أحلَّ حَرَامًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ رَاوِيَهُ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ (¬1) وَقَد صَحَّحَهُ ابْنْ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح لغيره. قال في التلخيص: رواه أبو داود. والحاكم من حديث الوليد بن رباح عن أبي هريرة، وضعفه ابن حزم وعبد الحق، وحسَّنه الترمذي، وزاد الحاكم من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده: "إلاَّ شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا" وهو ضعيف، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث أنس، وإسناده واهٍ، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث عائشة وهو واهٍ. وقال الألباني: الحديث صحيح، وقد روي من حديث أبي هريرة، وعائشة، وأنس وعمرو بن عوف ورافع بن خديج وعبد الله بن عمر، وجملة القول إنَّ الحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره. ¬

_ (¬1) الترمذي (1352). (¬2) ابن حبان (1199)، أبو داود (3594).

* مفردات الحديث: - بين: هي ظروف بمعنى وسط، فإذا أضيفت إلى ظرف زمان، كانت ظرف زمان وإذا أضيف إلى ظرف مكان كانت ظرف مكان. - المسلمون على شروطهم: أي ثابتون عليها، لا يرجعون عنها. - إلاَّ شرطًا: "إلاَّ" أداة استثناء، وهنا يجب نصب ما بعدها, لوقوعه بعد كلام تام موجب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جمع هذا الحديث الشريف بين أنواع الصلح والشروط، صحيحها وفاسدها، بهاتين الجملتين الجامعتين. 2 - الأصل في الصلح أنَّه جائز نافذ؛ لأنَّ الله قد مدحه في كتابه فقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؛ ولأنه طريق سليم إلى المصالحة بين المتخاصمين. 3 - يستثنى منه الصلح إذ حرَّم ما أحل الله تعالى، أو أحل ما حرَّمه، فإنَّ هذا مصادم لشرع الله ومنافٍ لأمره، فهو غير جائزٍ، ولا نافذٍ. 4 - يدخل في الصلح الجائز الصلح في الدماء، والأنكحة، والأموال، وغير ذلك من المعاملات التي تجري بين الناس، ويحصل فيها الاختلاف والتنازع، فالصلح هو سبيل حسمها. 5 - من ذلك الصلح على إنكار، بأن يدَّعي عليه حقًّا من دين، أو عين، فينكر المدعى عليه ثم يتَّفق مع المدعي على المصالحة، فيقنع المدعي بما يُعطى مقابل دعواه، فيحصل الصلح على ذلك. 6 - ومن ذلك الحقوق المجهولة، كان يكون بين متعاملين معاملة طويلة، جَهِلا ما على أحدهما للآخر، أو جَهِلا ما بينهما من الحقوق، فاصطلحا فيما بينهما على حسم الخلاف بينهما، وتمام ذلك أن يسامح كل منهما صاحبه بعد الصلح. 7 - ومن ذلك الصلح بين الزوجين المتخاصمين في حقوق الزوجية، من نفقةٍ،

أو كسوة، أو مسكنٍ، أو عشرةٍ، ويدخل بينهما من يحسن الصلح، وينهي النزاع بينهما ويحسمه، كما قال تعالي: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. 8 - ومن ذلك الصلح عن القصاص في النفوس، أو الأطراف، أو منافع الأعضاء، حينما يتفقان عليه بمعاوضة بقدر الدية، أو أكثر، أو أقل، فالصلح جائزٌ ونافذٌ، قال تعالي: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]. 9 - فإن تضمن الصلح تحريم حلال، أو تحليل حرام، فهو فاسد بنص هذا الحديث، أو عُقِد الصلح على ظلم أحد الطرفين فهو حرام، لقوله تعالي: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات]. 10 - ومن الصلح المحرم الإكراه عليه، وذلك مثل أنْ يضيق على زوجته، ويعضلها ظلمًا؛ لتفتدي نفسها منه، فتعيد إليه ما دفعه من صَداقٍ، أو بعض ذلك الصداق، الذي استحل به الاستمتاع بها، فهذا ظلم وجَور، قال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ثم قال تعالي: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء]. أما إذا كانت ظالمة كأن تقصر بحقوق الله من ترك الصلاة، أو الصيام، أو غير ذلك من شعائر الله، أو ارتاب منها ريبة تحفُّ بها القرائن القوية، أو كانت سيئة الخلق والعشرة معه، تمنعه أو تمطُله بحقوقه عليها، فلا مانع أن يعضلها لتفتدي منه، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. قال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارها حتى تفتدي منه. وقال بعض المفسرين: الفاحشة البذاءة باللسان. قلتُ: وهو عام لهذا كله، ولغيره من سوء حال المرأة مع ربها، أو مع زوجها.

12 - وأما الشروط: فأخبر -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: أنَّ المسلمين على شروطهم، إلاَّ شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً. وهذا أصلٌ كبيرٌ من أصول المعاملات، والمعاهدات، والعقود، فإنَّ الشروط هي التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر، مما له فيه حظٌّ ومصلحةٌ، فذلك جائزٌ ولازم، إذا اتَّفقَا عليه. 13 - من ذلك أن يشترط المشتري في المبيع وصفًا مقصودًا، كشرط البقرة لبوناً، أو الجارح صيوداً، أو الدابة هِمْلاَجَةً (أي حسنة السير في سرعة)، ممَّا فيه وصفٌ مقصود، فهو شرطٌ معتبرٌ لازمٌ نافذٌ. 14 - ومن ذلك أن يشترط المشتري أنَّ الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يشترط البائع نفعًا معلومًا في الثمن، كسكنى الدار المباعة سنةً ونحوه، أو شرط أن يستعمل السيارة المباعة مدةً معلومةً لعملٍ معلومٍ، فكلها شروطٌ جائزةٌ. 15 - ومن ذلك شروط مؤسسي الشركات والمشاريع، شروطًا معلومةً عادلةً، ليس فيها جهالةٌ، ولا ظلمٌ، ولا مخاطرةٌ، فهي لازمة. 16 - ومن ذلك شروط الواقفين والموصِين في أوقافهم ووصاياهم، من الشروط المعلومة المقصودة، التي لهم فيها نفع، فكلها شروط صحيحة لازمة. 17 - ومن ذلك شروط الزوجة على زوجها سكنى دارها، أو بلدها، أو نفقةً معينةً لها، أو شرطت عليه أولادها من غيره. فقد جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "إنَّ أحق الشروط أن يوفى به ما استحلَّت به الفروج". 18 - أما الشروط المحرَّمة، كأن تشترط المرأة طلاق ضرتها فهو محرَّم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكفأ ما في إنائها" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وسيأتي هذا بأوضح منه في باب النكاح، إن شاء الله تعالى.

748 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَمْنعُ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لأَرْمِينَّ بِهَا بَيْنَ أكتَافِكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يمنع: "لا" نافية، وقد روي لا يمنعنَّ، فتكون "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون توكيد، في محل جزم. - جاره: يفهم من لفظ الحديث أنَّ المراد به الجار الملاصق الذي يمكن وضع خشبة على جداره. - أن يغرز: بفتح الياء ثم غين معجمة ثم راء مهملة ثم زاي معجمة، يثبت أطراف خشبة في جداره ليسقف عليها، و"أن" وما دخلت في تأويل مصدر، تقديره: غرز خشبة في جدار جاره. - خشبة: جاءت في بعض روايات البخاري بالإفراد، والأكثر بالجمع، وقال ابن عبد البر: اللفظان في الموطأ، والمعنى واحد، لأنَّ المراد برواية الإفراد الجنس. - عنها: المراد بالضمير السنة المذكورة في خطبته، حينما كان أميرًا على المدينة النبوية. - لأرمين بها: يحتمل أنَّه يريد هذه السنة، ويحتمل إرادة الخشبة، والمعنى: إن لم تقبلوا هذا الحكم، وتعملوا به راضين، لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين، وأراد بذلك المبالغة حينما كان أميرًا عليهم. ¬

_ (¬1) البخاري (2463)، مسلم (1609).

- أكتافكم: بالمثناة الفوقية، جمع كتف، وهو العاتق، أي بينكم، ويروى بالنون "أكنافكم" جمع كنف بفتحها، ومعناها أيضا بينكم؛ لأنَّ الكنف الجانب. قال ابن عبد البر: قرأناه في الموطأ بالتاء والنون، يعني بالوجهين بأكتافكم، وبأكنافكم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - للجار حقوق كثيرة كبيرة على جاره تجب مراعاتها، فقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على صلة الجار، وبره، والإحسان إليه، وكف الأذى عنه، قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وجاء في البخاري (6015)، ومسلم (2625)، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنَّه سيورثه" وجاء في البخاري (6016) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه"، والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا. 2 - ومن حُسن الجوار، ومراعاة الحقوق، أن يبذل الجار لجاره المنافع التي لا تعود عليه بالضرر الكبير، وينتفع بها الجار. 3 - من ذلك أنَّه يجب على الجار أن يأذن لجاره أن يضع خشبة على جداره، إذا لم يكن عليه ضرر كبير من وضعها، وكان الجار في حاجةٍ إلى ذلك، ويحرم عليه منعه؛ لأنَّ النَّهي يفيد التحريم. 4 - فهِمَ بعض العلماء أنَّ النَّهي للكراهة فقط، أما أبو هريرة -رضي الله عنه- فقد فهِم من النَّهي التحريم من المنع؛ ولذا أنكر على أهل المدينة إعراضهم عن هذه السنة والأخذ بها، وفهم الصحابي مقدم على فهم غيره. 5 - هذه من حقوق الجار التي حثَّ عليها الشارع، وأمر ببره بها، والإحسان إليه، فيقاس على وضع الخشب غيره من الانتفاعات التي يكون في الجيران

حاجةٌ إليها، وليس على مالك المنفعة مضرةٌ كبيرةٌ في بذلها، فحينئذٍ يجب بذلها، ويحرم منعها، قياساً على التي قبلها. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على المنع من وضع الخشب على جدار الجار مع وجود الضرر إلاَّ بإذنه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار". واختلفوا فيما إذا لم يكن على صاحب الجدار ضرر، وكان بصاحب الخشب حاجة إلى وضعها، وذلك بأن لا يمكنه التسقيف إلاَّ بالوضع على جداره. فذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا يجوز، مستدلين بأصل المنع؛ لحديث: "لا يحل مال امريء مسلم، إلاَّ بطيبةٍ من نفسه"، وحديث: "أموالكم عليكم حرام" رواه مسلم (1218)، ونحو ذلك من الأدلة. وذهب الإمام أحمد وإسحاق وأهل الحديث إلى وجوب بذل الجدار لصاحب الخشب، مع حاجة الجار إليه، وقلة الضرر على صاحب الجدار، وأنَّ على الحاكم إجباره بطلب صاحب الخشب، إذا امتنع من ذلك. الدليل على ذلك: 1 - ظاهر الحديث الذي معنا، فإنَّه ورد بصيغة النَّهي المؤكد، والنَّهي يقتضي التحريم، وإذا كان حراماً فإنَّ البذل واجب. 2 - أبو هريرة راوي الحديث استنكر عدم الأخذ بهذه السنة، وتوعَّد على تركها، والإعراض عنها. وهذا يقتضي فهمه لوجوب البذل، وتحريم المنع، وراوي الحديث أعرف بمعناه. 3 - ورد مثل هذه القضية في زمن عمر بن الخطاب، فقد روى مالك بسند صحيح أنَّ الضحاك بن خليفة سأل محمَّد بن مسلمة أن يجري خليجًا له في

أرض محمَّد بن مسلمة فامتنع، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال عمر: والله ليمرنَّ ولو على بطنك، ولم يُعلم لعمر مخالفٌ من الصحابة، فكان اتفاقًا منهم. 4 - أنَّ الله عظَّم حق الجار، وأكَّد حرمته، فله على جاره حقوق، فإذا لم يبذل له ما ليس عليه فيه مضرة، فأين رعاية الحقوق. أما العمومات التي يستدل بها الجمهور على عدم الوجوب، فهي مخصَّصة بهذا الحديث الصحيح؛ للمصالح المذكورة. ***

749 - وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ لامْرِيءٍ أنْ يَأُخُذَ عَصَا أخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّان وَالحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه الدارقطني (3/ 25)، من طريق مقسم عن ابن عباس، ورواه البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي، وهو من رواية سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي حُميد، وقوَّى ابن المديني رواية سهيل، وله شاهد من حديث يزيد ابن أخت نمر، قال البيهقي: إسناده حسن، وحديث أبي حميد أصح ما في الباب. وقال الزيلعي: إسناده جيد. * مفردات الحديث: - لامريء: أصله المرء، مثلث الميم: الإنسان، مثناه مرآن، والنسبة إليه مريء، فإن جئت بهمزة الوصل صار فيه ثلاث لغات، فتح الراء أو ضمها، أو إعرابها. - العصا: العود، وما يتوكأ عليه، ويضرب به، وهو من الخَشب، مؤنث، وهو واوي، والدليل أنَّ مثنَّاه عصوان، جمعها عصي. - طيب النفس: يقال طاب عنها شيء نفساً تركه، والمعنى طابت نفسه عن شيء بحله ورضاه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء في خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، وهو يودع الناس، قوله: "إنَّ دماءكم ¬

_ (¬1) ابن حبان (1166)، ولم أجده في الحاكم.

وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت، اللَّهم اشهد" [البخاري (1654)]. 2 - فحديث الباب يفيد تحريم أخذ أموال الناس بغير رضا أنفسهم، وطيبة قلوبهم، فمن أخذها واستولى عليها بغير طريق الرضا، فهي عليه حرام. 3 - حقوق العباد عظيمة، فالذنوب التي بين العبد وبين ربه تكفرها التوبة النصوح، أما حقوق العباد فلا يكفرها مع التوبة إلاَّ البراءة منها بأدائها، أو استحلال أهلها، أو غير ذلك من التخلص من تبعاتها. 4 - الشهادة في سبيل الله تعالى تكفر الذنوب كلها إلاَّ الدين، كما جاء في مسلم (3497) من حديث أبي قتادة أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: أرأيتَ إن قُتِلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، إلاَّ الدين، فإنَّ جبريل قال لي ذلك". 5 - أما أموال الغير فمع طيب النفس حلال وطيبة، والرضا يكون بالإذن الصريح، ويكون بما يدل عليه من قرينة، أو من حالة صاحب الحق، وصِلته بالمستبيح، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] لأنَّ القرابة والصداقة مظنة الإذن والإباحة. 6 - هذه أمور الإباحة فيها أو عدمها ترجع إلى ما تعارف عليه الناس، واعتادوه بينهم، كما ترجع إلى ما يعرف عن أصحاب البيوت من السماح، وطيبة النفس أو عدم ذلك، فالمرجع هو طمأنينة القلب وراحة النفس في مثل هذه الأحوال التي تختلف باختلاف الناس، وباختلاف الوقت والمكان.

باب الحوالة

باب الحوالة مقدمة الحوالة: بفتح الحاء وكسرها، مشتقة من التحول وهو الانتقال، فهي تحول الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وهي ثابتة بالسنة كما في حديث الباب، وبإجماع العلماء، وبالقياس الصحيح، فإنَّ الحاجة داعيةٌ إليها. قال ابن القيم: قواعد الشرع تقتضي جوازها؛ لأنَّها على وفق القياس. وقال بعضهم: هي من بيع الدين، ولكن جاز فيها تأخير القبض من باب الرخصة، وتكون حينئذٍ على خلاف القياس، ولكن الصحيح خلاف ذلك، فإنَّها ليست من باب بيع الدين بالدين، وإنما هي من جنس إيفاء الحق؛ ولذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بها في معرض الوفاء، وأداء الدين. أما فائدتها: فهي تسهيل المعاملات بين الناس، لاسيَّما إذا كان الغريم في بلد، والمحال عليه في بلدٍ آخر، ويسهل على المحال الاستيفاء منه، وإذا أحال المدينُ غريمَه على من لا دين عليه، فهو توكيل في الاستقراض، وليس من الحوالة، وليس لها أحكامها. وكذا إحالة من لا دين له على من له عليه دين، فليست حوالة، وإنما هو توكيل في القبض من المدين. * التحويل البنكي: كان التجَّار في القرون القريبة يستعملون في تحويلهم النقود من بلد إلى

آخر ما يسمى "السَّفْتَجَة"، التي صورتها أنَّ شخصاً يسلم شخصًا آخر نقوداً؛ ليحيله بمثلها في بلدٍ آخر، فيكتب قابض النقود لدافعها خطابًا، ليقبض بدلها في بلدٍ آخر، يعملون ذلك ليأمن الدافع من خطر الطريق، ولغير ذلك من المقاصد. فهذه المعاملة منعها الحنفية والشافعية، واعتبروها من القرض الذي يجر نفعًا. وأجازها الحنابلة، وأيَّدهم شيخ الإسلام ابن تيمية، واعتبروها من نوع الحوالة، ولأنَّه ليس فيها محذور شرعي، والأصل في المعاملات الإباحة. وورد أنَّ عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- كان يقبض النقود من الرجل في مكة، ويكتب له خطاباً إلى أخيه مصعب في العراق ليسلمه بدلها. أما الآن فحلَّ محلَّ "السفتجة" التحويل البنكي، وذلك بأن تسلم بنكَ البلد الذي أنت فيه نقودًا ثم يعطيك "شيكاً" لتقبض بدل نقودك في بلد آخر، وقد يكون في نفس البلد الذي أنت فيه، فهذه المعاملة أجازتها "المجامع الفقهية الإسلامية"، وعليها العمل في جميع البلدان الإسلامية وغيرها، وسواء كانت النقود المحولة من جنسى النقود المدفوعة، أو من غير جنسها. * قرار المجمعى الفقهي بشأن التحويل البنكي: وقد أصدر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً في دورته الحادية عشرة برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعضوية مجموعة كبيرة من العلماء يمثلون الأقطار الإسلامية والمذاهب الاجتهادية، وقرَّروا ما يلي: 1 - يقوم تسليم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف. 2 - يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض، لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة مودَعة فيه.

750 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلى مَلِيءٍ فَلْيَتْبِعْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لأِحْمَد: "وَمَنْ أُحِيلَ فَلْيَحْتَلْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَطْلُ الغَنِيِّ: هذه من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمَطْل لغة: المد، مطل الحديدة يمطلها إذا ضربها لتطول، وكل ممدود، والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. - الغني: غني يغنى غنًى، مثل رضي يرضى رضا، والجمع أغنياء، وأصله السعة، والمراد بالغني القادر على الأداء. - أُتْبعَ: بضم همزة القطع وسكون التاء المثناة الفوقية وكسر الباء الموحدة، على البناء للمجهول. قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه بالتشديد، وصوابه بسكون التاء على وزن أكرم. - مليء: بالهمزة مأخوذ من الامتلاء بالهمز، يقال: ملؤ الرجل أي صار مليئًا، والمليء مهموز على وزن فعيل، وقد أولع الناس فيه بترك الهمزة وتشديد الياء، والمراد به الغني القادر على الوفاء. - فَلْيتْبع: بفتح الياء، ومعناه: إذا أحيل فليحتل، كما هو في الرواية الأُخرى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث الشريف أدبٌ من آداب المعاملة الحسنة، بأمر المدين ¬

_ (¬1) البخاري (2287)، مسلم (1564)، أحمد (2/ 463).

بحُسن القضاء، وأمر الدائن بحسن الاقتضاء. 2 - فالغريم إذا طلب حقه فإنَّ الواجب أداؤه، ويحرم على الغني مطله؛ لأنَّ الحيلولة دون حقه بلا عذر ظلم. 3 - لفظ "مَطْل" يشعر بأنه لا يحرم التأخير إلاَّ عند طلب الغريم، أو ما يدل على رغبته في استيفاء حقه. 4 - تحريم المَطل خاص بالغني، أما الفقير أو العاجز لشيء من الموانع فلا يحرم عليه، لأنَّه معذور. 5 - تحريم مطالبة المعسر، ووجوب إنظاره إلى ميسرة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة]. 6 - ظاهر الحديث أنَّ المدين إذا أحال غريمه على ملىء وجب عليه التحول، ويأتي الخلاف إن شاء الله. 7 - أما مفهوم الحديث فإنَّه إذا أحاله على غير مليء، فلا يجب على المحال قبوله. 8 - فسر العلماء "المليء" بأنَّه ما اجتمع فيه ثلاثة صفات: - أن يكون قادرًا على الوفاء، فليس بفقير. - صادقًا بوعده، فليس بمماطل. - يمكن جلبه إلى مجلس الحكم، فلا يكون ذا جاه يمتنع بجاهه، أو يكون أبًا للمحال، فلا يمكنه الحاكم من مرافعته. 9 - ظاهر الحديث انتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال إليه، والصحيح أنَّ المحال إن قَبِل برضاه عالمًا بفَلَس المحال عليه، أو موته، أو مماطلته، ونحو ذلك، ولم يشترط الرجوع عند تعسر الاستيفاء، فإنَّه لا يرجع، وإن لم يكن راضيًا بالحوالة على المعسر ونحوه، أو كان راضيًا لكن يجهل حاله، فله الرجوع عند تعذر الاستيفاء أو تعسره، والله أعلم.

10 - قال الشيخ عبد العزيز بن باز: إذا دعت الضرورة إلى التحويل من طريق البنوك الربوية، فلا حرج في ذلك إن شاء الله، وهكذا الإيداع للضرورة بدون اشتراط الفائدة، فإن دفعت الفائدة بدون شرط، فلا بأس من أخذها لصرفها في المشاريع الخيرية، كمساعدة الفقراء، ومن عليهم دين، ونحو ذلك. 11 - أما السَّفْتَجَة وهي خطاب مالي يكتبه الإنسان لمن دفع إليه مالاً علها سبيل التمليك، لكي يقبض بدلاً عنه في بلد آخر معيَّن. فقد اختلف العلماء في حكمها: الجمهور -ومنهم الحنفية والشافعية- على المنع؛ لأنَّهم يعتبرونها قرضًا جر نفعًا. ويرى الحنابلة وشيخ الإسلام أنَّها من قبيل الحوالة، ولا يوجد محذورٌ شرعيٌّ في جوازها. 12 - قال الشيخ علي بن أحمد السالوس: إذا استلم منك البنك نقودًا، وأعطاك بها شيكًا لتستلمها في بلدآخر، فهل ينطبق عليها حكم مايسمى في الفقه الإسلامي السفتجة. أفتى مجمع البحوث الإسلامي بالقاهرة أنَّها حلال. 13 - قال الشيخ تقي الدين: إذا أقرضه دراهم ليستوفي منه في بلد آخر، فقد اختلف العلماء في جوازه، والصحيح الجواز، واختاره القاضي والموفق في المغني. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على اعتبار المحيل في الحوالة. واختلفوا في اعتبار رضا المحال والمحال عليه. فذهب أبو حنيفة إلى اعتبار رضاهما؛ لأنَّها معاوضة يشترط لها الرضا من

الطرفين، فهما طرف، والمحيل هو الطرف الآخر. وذهب الجمهور -ومنهم المالكية والشافعية- إلى اعتبار المحال فقط. وذهب الإمام أحمد، والظاهرية، وأبو ثور، وابن جرير، إلى أنَّ الأمر للوجوب، وأنه يتحتَّم على من أُحيل بحقه على مليء أن يتْبع. لكن إن كانت الحوالة على غير مليء، فعند الظاهرية أنَّها حوالة فاسدةٌ لا تصح؛ لأنَّها لم تصادف محلها الذي ارتضاه الشارع، وهو الملاءة. وعند الحنابلة تصح؛ لأنَّ الحق للمحال إذا رضي بذلك. ***

باب الضمان

باب الضمان مقدمة الضمان: من التضمن؛ لأنَّ ذمة الضامن تتضمن الحق الذي في ذمة المضمون عنه. وشرعًا: التزام من يصح تبرعه دينًا، وَجَبَ أو سيجب على غيره، مع بقاء ما وجب، أو سيجب على المضمون عنه، فلا يسقط عنه بالضمان. وهو ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع ويقتضيه القياس الصحيح. قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف]. وأما السنة: فمثل حديث جابر، وحديث أبي هريرة في الباب. وأجمع على جوازه، ونفوذه العلماء. ويصح وينعقد بلفظ: أنا ضمينٌ، وكفيلٌ، وحميلٌ، وزعيمٌ، ونحوه مما دلَّ عليه. وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب أنَّ الضمان يصح بكل لفظ فُهِم منه الضمان عرفًا. ***

751 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا، فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكفَّنَّاهُ، ثُمَّ أتيْنَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطًا، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فَقُلْنَا: دِيْنَارَانِ فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أبُو قَتَادَةَ، فَأَتيْنَاهُ، فَقَالَ أبُو قَتَادَةَ: الدِّيْنَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: حَقَّ الغَرِيمَ، وَبَرِيءَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ" رَواهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح الإسناد، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، ابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. وللحديث شواهد منها: 1 - حديث أبي قتادة، رواه النسائي، وابن ماجة (2398)، وأحمد، وابن حبان. 2 - حديث سلمة بن الأكوع، في البخاري (2169). 3 - حديث أبي أمامة عند ابن حبان في الثقات (3059). وبين هذه الشواهد زيادات ونقص. * مفردات الحديث: - حَنَّطنَاه: الحنوط، ويقال الحِناط بكسر الحاء: هو أنواع من الطيب والكافور، ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 330)، أبو داود (3343)، النسائي (4/ 65)، ابن حبان (3064).

وذريرة القصب والصندل الأحمر والأبيض، يوضع في أكفان الميت خاصة؛ لتصليب جسده، شده من بعض هذه المواد. - فخطا خُطًا: أي مشى عدة خطوات، وخُطَا بالضم على وزن هُدى، جمع خطوة. - فَتَحمَّلهَا: فضمن أبو قتادة الدينارين عن الميت لصاحب الدين. - حق الغريم: منصوب على المصدر مؤكد لمضمون قوله: "الديناران عليَّ"، أي حقَّ عليك الحق، وثبت عليك، وكنت غريمًا. - وبريءَ الميت: أي وخلص الميت من الدين، ومن تبعته. ***

752 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوفَّى عَلَيْهِ الدَّينُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟ فَإِنْ حُدِّثَ أنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَالَ: صَلُّوا عَلى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ قَال: أنَا أوْلَى بِالمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عليه دين: جملة حالية. - من قضاء: أي هل ترك قدرًا زائدًا على مؤنة تجهيزه يكفي لقضاء دينه. - وإلاَّ: أي وإن لم يترك وفاء، قال: "صلوا على صاحبكم". - الفُتُوح: أي لما جاءت فتوح بلدان الكفار، وصار في بيت المال من أموال الفيء. - أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم: أي أحق وأقرب إليهم من أنفسهم، لما له -صلى الله عليه وسلم- عليهم من الحُكم النافذ فيهم، فكذلك هو ضامن لأداء ديونهم إذا كانوا معذورين ومعسرين. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - عِظَم خطر الدين، وأنَّه من أهم الواجبات على الميت، فإنَّ الشهادة في سبيل الله تكفر جميع الذنوب كبيرها وصغيرها إلاَّ الدَّين، كما جاء ذلك في صحيح ¬

_ (¬1) البخاري (2398، 6731)، مسلم (1619).

مسلم (1885) عن أبي قتادة أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أرأيتَ إن قُتِلت في سبيل الله، أتكَفَّر عني خطاياي؟ فقَال: "نعم إلاَّ الدَّين، فإنَّ جبريل قال لي ذلك". 2 - أنَّ ذمة الميت مشغولة بدينه والحقوق التي عليه حتى تؤدى عنه، فتجب المبادرة بأدائها، لما روى الإمام أحمد (9302) والترمذي وحسَّنه من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يُقْضى عنه". قال شيخ الإسلام: وهذا الدين سواء كان لله تعالى كالزكاة والحج ونذر الطاعة والكفارة، أو للآدمي كأمانةٍ، وغصبٍ، وعاريةٍ، وغير ذلك. وسواء أوصى بذلك أو لم يوص به؛ لأنَّها حقوق واجبة الأداء مطلقًا. 3 - الحديث أصل في جواز الضمان، حينما يلتزم المكلف الرشيد بذمته ما وجب على غيره من الحقوق المالية، مع بقاء تلك الحقوق بذمة المكفول. 4 - استحباب المبادرة في قضاء دين الميت؛ لتأخر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة عليه حينما علِمَ أنَّه مدين. 5 - جواز الضمان في الحقوق المالية حتى عن الميت، سواء ترك وفاء أو لم يترك؛ لأنَّ أبا قتادة لما تحمل دين الميت صلَّى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. 6 - أنَّ هذا التحمل عن الميت لا يبرئه براءة تامَّة من الدين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: نفس المؤمن معلقةٌ بدينه، حتى يُقضى عنه" رواه أحمد (9302) ولأنَّه لما أخبره أبو قتادة بأنه قضى عن الميت دينه قال: "الآن برَّدْتَ عليه جلدته" [رواه أحمد (14009)] ولكنه يخفف عنه ثقله. 7 - يترتب على هذا أنَّ الأفضل هو المبادرة بقضاء دين الميت، فإن لم يمكن يتحمل أحد عنه دينه، ويبادر أيضًا بقضائه؛ لتكمل راحة الميت من تبعاته. 8 - من عظم الدين وحقوق العباد -ولعله من "باب التعزير"- امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم-

من الصلاة عليه، فإنَّ في ذلك ردعًا لغيره عن التهاون بحقوق العباد. 9 - أما ما جاء في الحديث رقم: (752) من كونه -صلى الله عليه وسلم- يوفي دين من مات وعليه دين، ليس عنده ما يُوفَّى به عنه، فذلك بعد أن كَثُرت عنده أموال الفيء، أما الحالة الأولى فكانت في حال خلو بيت مال المسلمين من المال. 10 - النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأشفق عليهم من أنفسهم، فكان من تمام رأفته بهم، وشفقته عليهم أنَّه يتحمل عن موتاهم ديونهم، التي لا يوجد لها وفاء بعدهم، ويوفيها من بيت مال المسلمين. 11 - أنَّ الأحكام الشرعية تكون حسب المصالح والأحوال الراهنة، فولي أمر المسلمين إذا كان في خزينة الدولة شيء قام بواجبات الولاية وأمر الرعية، التي منها وفاء ديون المعسرين، وإذا لم يكن في الخزينة شيء، أو كانت النفقات الأخر أهم، ولا أمكن التوفيق بينهما فلا يلزم ولي الأمر شيء. 12 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ما يجب على بيت المال دفعه من الديات والديون: الأولى: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين من دية، أو غيرها من الديون ولم يخلف له وفاءً، فعلا ولي الأمر قضاؤه من بيت المال، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة. الثانية: إذا جنى إنسانٌ على آخر وقَتلَهُ، وكانت الجناية خطأً، أو شبه عمد، ولم يكن له عاقلةٌ موسرةٌ، فالدية في بيت المال. الثالثة: كل من جُهل قاتله بزحمة ونحو ذلك فديته في بيت المال. الرابعة: إذا حكم القاضي بالقسامة فنكل الورثة عن الأيمان، ولم يرضوا بيمين المدَّعى عليه، فداه الإمام من بيت المال.

* قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بشأن خطاب الضمان: قرار رقم (12): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ، الموافق 22 - 27 ديسمبر 1985 م. بحث مسألة خطاب الضمان: وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي: 1 - أنَّ خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فإن كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي، باسم: "الضمان" أو "الكفالة". وإن كان خطاب الضمان بغطاء، فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي "الوكالة"، والوكالة تصح بأجر، أو بدونه، مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد "المكفول له". 2 - أنَّ الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرَّر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة؛ لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جرَّ نفعًا على المقرض، وذلك ممنوع شرعًا.

ولذلك فإنَّ المجمع قرَّر ما يلي: أولاً: إنَّ خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان: "والتي يراعى فيها عادةً مبلغ الضمان ومدته" سواءٌ كان بغطاء أم بدونه. ثانيًا: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعية فجائزة شرعًا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء. والله أعلم * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن موضوع بطاقات الائتمان غير المغطاة: قرار رقم (108): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ، الموافق 23 - 28 سبتمبر 2000م. بناءً على قرار المجلس رقم: (65/ 1/ 7) في موضوع الأسواق المالية بخصوص بطاقة الائتمان، حيث قرَّر البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة. وإشارة إلى قرار المجلس في دورته العاشرة رقم (102/ 4/ 10)، وبعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "بطاقات الائتمان غير المغطاة" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم: (63/ 1/ 7) الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنَّه: مستند يعطيه مصدره "البنك المصدر" لشخص طبيعي أو اعتباري "حامل

البطاقة" بناء على عقد بينهما، يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممَّن يعتمد المستند "التاجر"، دون دفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد. قرَّر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولا التعامل بها، إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية، حتى ولو كان طالب البطاقة عازمًا على السداد ضمن فترة السماح المجاني. ثانيًا: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين. ويتفرع على ذلك: (أ) جواز أخذ مصدرها من العميل رسومًا مقطوعة عند الإصدار أو التجديد، بصفتها أجراً فعليًّا على قدر الخدمات المقدمة منه. (ب) جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه، شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد. ثالثًا: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مصدرها، ولا حرج فيه شرعًا، إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة، وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرَّمة؛ لأنَّها من الربا المحرَّم شرعًا، كما نصَّ على ذلك المجمع في قراره رقم: (13/ 10/ 2) و (13/ 1/ 3). رابعًا: لا يجوز شراء الذَّهب والفضة، وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة. والله سبحانه وتعالى أعلم

باب الكفالة

باب الكفالة مقدمة الكفالة: مصدر كفل، بمعنى التزم. وشرعاً: التزام رشيد برضاه إحضار من تعلق به حق مالى لرب الحق. وتنعقد الكفالة بالألفاظ التي ينعقد بها الضمان، نحو: أنا ضمين ببدنه وزعيم؛ لأنَّ الكفالة من نوع الضمان. والكفالة: ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. قال تعالى: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]. وقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: أنَّ رجلاً لزم غريمًا له حتى يقضيه أو يأتي بحميل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أحمل". وحكى غيرُ واحد الإجماع عليها، والحاجة داعية إلى استيثاق. * موضوع الكفالة: الكفالة لا تصح إلاَّ في حق مالي لا بدني، ولذا فإنَّها تصح بإحضار بدن كل إنسان عنده عين مضمونه كعارية؛ ليردها أو يرد بدلها إن كانت تالفة، كما تصح بإحضار بدن من عليه دين. فصحت الكفالة بذلك؛ لأنَّ كُلاًّ من العين والدين حق مالى. أما الحقوق المتعلقة بالبدن فلا تصح الكفالة فيها؛ لأنَّه لا يمكن استيفاؤها أو أداؤها إلاَّ من نفس بدن مَن وجب عليه الحق.

فمثل حدود الله تعالى كالزنا، أو حدٍّ حقه للآدمي كالقذف والقصاص، فلا تصح الكفالة فيه؛ لأنَّه لا يمكن استيفاؤه من الكفيل. كما لا تصح بالحقوق الزوجية البدنية من القَسْم والعِشرة ونحو ذلك من كل حق يتعلَّق ببدن المكفول خاصة. ***

753 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ كَفَالَةَ فِي حَدٍّ" رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث منكر. رواه البيهقي بإسناد ضعيف، وقال: إنَّه منكر، وقال الشيخ حامد الفقي في تعليقه على البلوغ: وفي الباب آثار لا تخلو من مقال، لكن أحاديث الأمر بإقامة الحدود تؤيد معناه. * مفردات الحديث: - في حد: جمعه حدود، وهو لغةً: المنع. وشرعًا: عقوبة مقدَّرةٌ؛ لتمنع من الوقوع في مثل الذنب الذي شُرع له الحد. والحد هنا يشمل العقوبات التعزيرية التي لم تُقَدَّر، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحد: يطلق شرعًا ويراد به: جميع أوامر الله تعالى ونواهيه. فيشمل جميع ما يلي: (أ) ما نهى الله تعالى عن فعله وحرَّمه، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، (ب) ما أمر الله تعالى بفعله وأوجبه، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا ¬

_ (¬1) البيهقي (6/ 77).

حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. (ج) ما نهى الله تعالى عن تجاوزه، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. 2 - أما الحد في اصطلاح الفقهاء فهو: عقوبة مقدرة؛ لتمنع من الوقوع في مثلها، وهو -أيضًا- حقيقة شرعية، قال -صلى الله عليه وسلم- لقاذف زوجته: "بيِّنةٌ، وإلاَّ حدٌّ في ظهرك". 3 - الحديث الذي معنا شاملٌ للأمرين: فالكفالة لا تصح فيمن عليه حد، سواء كان هذا الحد ممن عليه عقوبةٌ مقدرةٌ، أو كان ممن عقوبته مطلقةٌ راجعةٌ إلى نظر الحاكم الشرعي، فالكفالة خاصةٌ بالحقوق المالية عينًا أو دينًا؛ لأنها استيثاقٌ يمكن استيفاء الحق بها، أمَّا الحقوق البدنية المتعلقة ببدن الشخص فهي أمورٌ لا تُستوفى إلاَّ منه خاصة، فلا تصح الكفالة فيها. 4 - الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلاَّ أنَّ معناه صحيح، من حيث ثبوت أصل الكفالة، ومن حيث إنَّها لا تصح في الحدود. ***

باب الشركة

باب الشركة مقدمة الشركة: لها ثلاث أوزان: فهي بوزن: سَرِقَة، ونِعْمَة، وثَمَرَة. هي لغة: الاختلاط، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24]. يقال: شركتك في الأمر، وأشركته فيه، صِرتُ شريكًا فيه. وشرعًا: هي نوعان: الأول: شركة أملاك: وهي الاجتماع في استحقاف مالي، إما عقارٌ، وإما منقول، وإما منفعة دون العين، يكون ذلك مشتركًا بين اثنين فأكثر، ملكاه بطريقة الشراء، أو الهبة، أو الإرث، أو غير ذلك، فهذا النوع من الاشتراك كل واحدٍ من الشريكين أجنبيٌ في نصيب شريكه، لا يجوز له التصرف فيه إلاَّ بإذنه. الثاني: شركة عقود: وهي اجتماع في التصرف من بيع ونحوه، والقسم الأخير هو المراد هنا، فهنا ينفذ تصرف كل واحد من الشريكين بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه. والشركة: ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس: أمَّا الكتاب: قال تعالي: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24].

والسنة: كأحاديث الباب. والإجماع: أجمع العلماء عليها في الجملة. والقياس: والقياس الصحيح يقتضيها، فإنَّها عظيمة المصلحة، فهي على أصول العقود. * أنواع الشركات: حسب الاستقراء والتتبع، فإنَّ فقهاءنا الأقدمين قسَّموا شركات العقود إلى خمسة أنواع: الأول: شركة عنان: وهي أن يشترك اثنان فأكثر بمالَيْهِما؛ ليعملا فيه ببدنهما، أو يعمل أحدهما ويكون له من الربح أكثر من ربح الآخر. الثاني: شركة المضاربة؛ وهي أن يدفع شخصٌ مالاً معلومًا؛ ليتجر فيه شخصٌ آخر، بجزءٍ مُشاعٍ معلومٍ من ربحه. الثالث: شركة الوجوه: بأن يشترك اثنان فأكثر بربح ما يشتريانه بذمتيهما من عروض التجارة، من غير أن يكون لهما مال، فما ربحاه فهو بينهما، على حسب ما شرطاه. الرابع: شركة أبدان: بأن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بأبدانهما من مباح، أو يشتركا فيما يتقبلانه في ذمتيهما من عمل. الخامس: شركة المفاوضة: وهي أن يفوض كل منهما الآخر في كل تصرف مالي وبدني، بيغا وشراءً في الذمة، وفي كل ما يثبت لهما أو عليهما من غير أن يدخلا فيها كسبًا، أو غرامة مالية خاصة. وشركة المفاوضة تشبه ما يسمى في هذا العصر بالشركة المختلطة. * أقسام الشركات المعاصرة: تنقسم الشركة بالنسبة لتكوينها إلى قسمين: 1 - شركات أشخاص: هي التي يبرز فيها الشخص عند التكوين، بأن يكون

الاعتبار فيها لشخص الشريك. 2 - شركات أموال: هي التي يتضاءل فيها العنصر الشخصي، وإنما تكون الأهمية للمال في استغلال الشركة. * أنواع شركات الأشخاص: 1 - شركات التضامن: هي الشركة التي يعقدها شخصان أو أكثر بقصد التجارة، ويكون فيها جميع الشركاء ملزمين بالتضامن عن جميع التزامات الشركة في أموالهم العامة والخاصة. 2 - شركات التوصية البسيطة: هي الشركة التي تعقد بين شخص واحد أو أكثر من جانب، ويكونون مسئولين بالتضامن في جميع أموالهم عن ديون الشركة، وعن إدارة الشركة، ويسمون شركاء متضامنين، كما تكون شركة التوصية بين شريك واحد أو أكثر يكونون أصحاب حصص مالية، ولا يسألون إلاَّ بمقدار حصصهم، ولا يتدخلون في إدارة الشركة، ويسمون شركاء موصين. 3 - شركات المحاصة: هي شركة تقوم بين الشركاء وحدهم، ولا وجود لها بالنسبة للآخرين، فمن عقد من الشركاء المحاصين عقداً مع الغير يكون مسئولاً عنه وحده، والأرباح والخسائر بينهم بحسب الاتفاق. * أنواع شركات الأموال: 1 - شركة المساهمة: هي التي يقسم فيها رأس المال إلى أسهم متساوية القيمة، ويكون لكل شريك عدد من الأسهم. 2 - شركة التوصية بالأسهم: وهي شركة تشبه شركة التوصية البسيطة؛ لأنَّ فيها نوعين من الشركاء: شركاء متضامنين، وشركاء موصين لا يسألون إلاَّ بمقدار حصصهم، وتشبه شركة المساهمة؛ لأنَّ الحصص تقسم إلى أسهم. 3 - الشركة ذات المسؤلية المحدودة: هي شركة لها خصائص الشركات؛

ولكنها تمتاز بأنَّها أعفيت من أكثر قيود شركات المساهمة، وبقيت فيها مسؤولية الشركاء محدودة بمقدار الحصص التي يملكونها. وهناك نوعٌ من الشركات يجمع بين صفة الشركات المدنية، والشركات التجارية، وقد أطلق عليها اسم الشركات المدنية ذات الشكل التجاري، وذلك إذا اتَّخذت الشركة المدنية شكلاً من أشكال الشركات التجارية كشركة مساهمة أو شركة ذات مسؤولية محدودة. وكل ما تقدم من أنواع الشركات المعاصرة صحيحة، ذلك أنَّ الأصل في المعاملات الصحة. * قرار المجمع الفقهيى بشأن الأسواق المالية، والإسهام في الشركات: قرار رقم (63): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة، في المملكة العربية السعودية، من 7 إلى 12 ذوالقعدة 1412 هـ، الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: الأسواق المالية، الأسهم، الاختيارات، السلع، الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر: أولاً: الأسهم: 1 - الإسهام في الشركات: (أ) بما أنَّ الأصل في المعاملات الحل، فإنَّ تأسيس شركة مساهمة ذات

أغراضٍ وأنشطةٍ مشروعيةٍ، أمرٌ جائزٌ. (ب) لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرَّم، كالتعامل بالربا، أو إنتاج المحرَّمات، أو المتاجرة بها. (ج) الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أنَّ أنشطتها الأساسية مشروعة. 2 - ضمان الإصدار: (under writing) ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره، وهذا لا مانع منه شرعًا، إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الإسمية، بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه، غير الضمان، مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم. 3 - تقسيم سداد السهم عند الاكتتاب؛ لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه، وتأجيل سداد بقية الأقساط؛ لأنَّ ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجَّل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور؛ لأنَّ هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنَّه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة. 4 - السهم لحامله: بما أنَّ المبيع في "السهم لحامله" هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأنَّ شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.

5 - محل العقد في بيع السهم: إنَّ المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة. 6 - الأسهم الممتازة: لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح. ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلَّق بالأمور الإجرائية، أو الإدارية. 7 - التعامل في الأسهم بطرق ربوية: (أ) لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري، لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن، وهما من الأعمال المحرَّمة بالنص على لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه. (ب) لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع، وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنَّه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوي المنع، إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار؛ لينتفع به بإيداعه بفائدة، للحصول على مقابل الإقراض. 8 - بيع السهم أو رهنه: يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً، أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة. 9 - إصدار أسهم مع رسوم إصدار: إنَّ إضافة نسبة معيَّنة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع

منها شرعاً، ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً. 10 - إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم "خصم" إصدار: يجوز إصدار أسهم جديدة؛ لزيادة رأس مال الشركة، إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة "حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة"، أو بالقيمة السوقية. 11 - ضمان الشركة شراء الأسهم: يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة، لمزيد من البحث والدارسة. 12 - تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة: لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة، ذات مسؤولية محدودة، برأس مالها؛ لأنَّ ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة، وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة، كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودوا المسؤولية. 13 - حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها: يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم، بأن لا يتم إلاَّ بواسطة سماسرة مخصوصين، ومرخصين بذلك العمل؛ لأنَّ هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة. وكذلك يجوز اشتراط رسوم العضوية المتعامل بها في الأسواق المالية؛ لأنَّ هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة. 14 - حق الأولوية: يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة، لمزيد من

البحث والدارسة. 15 - شهادة حق التملك: يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدارسة. ثانيا: بيع الاختيارات: صورة العقد: إنَّ المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد، خلال فترة زمنية معيَّنة أو فى وقت آخر إما مباشرة، أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين. حكمه الشرعي: إنَّ عقود الاختيارات كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية هي عقود مستحدثة، لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة. وبما أنَّ المعقود عليه ليس مالاً، ولا منفعة، ولا حقًا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه، فإنَّه عقد غير جائز شرعًا. وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً، فلا يجوز تداولها. ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة: 1 - السلع: يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية: الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع، وتسلم الثمن في الحال، مع وجود السلع، أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه. وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع، وتسلم الثمن في الحال، مع إمكانهما بضمان هيئة السوق. وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة. الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة، في موعدٍ آجل، ودفع الثمن عند التسليم، وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم. وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز. وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سَلَمًا قبل قبضها. الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل، ودفع الثمن عند التسليم، دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعلين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس. وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً. 2 - التعامل بالعملات: يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرف الأربع المذكورة في التعامل بالسلع. ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة. أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.

3 - التعامل بالمؤشر: المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة، يقصد منه معرفة حجم التغير في سوقٍ معيَّنة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية. ولا يجوز بيع وشراء المؤشر؛ لأنَّه مقامرة بحتة، وهو بيع شيء خيالي، لا يمكن وجوده. 4 - البديل الشرعي للمعاملات المحرَّمة في السلع والعملات: ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية، وبخاصة بيع السلم، والصرف، والوعد، بالبيع في وقت آجل، والاستصناع وغيرها. ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل، وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة. رابعًا: بطاقة الائتمان تعريفها: بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناء على عقد بينهما، يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات ممن يَعتَمِد المستَنَد دون دفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور: - منها: ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف، وليس من حساب المصدر، فتكون بذلك مغطاة. - ومنها: ما يكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية. - ومنها: ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع، خلال

فترة محددة من تاريخ المطالبة. - ومنها: ما لا يفرض فوائد. - وأكثرها يفرض رسمًا سنويًّا على حاملها، ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسمَّا سنويًّا. وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدارسة. والله أعلم. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا: الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبيَّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415هـ 21/ 1/ 1995م، قد نظر في هذا الموضوع وقرَّر ما يلي: 1 - بما أنَّ الأصل في المعاملات الحِل والإباحة، فإنَّ تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة، أمرٌ جائزٌ شرعًا. 2 - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرَّم، كالتعامل بالربا، أو تصنيع المحرَّمات، أو المتاجرة فيها. 3 - لا يجوز لمسلمٍ شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها رِبًا، وكان المشتري عالماً بذلك. 4 - إذا اشترى شخصٌ وهو لا يعلم أنَّ الشركة تتعامل بالرِبا، ثم علم فالواجب عليه الخروج منها. والتحريم في ذلك واضح؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم

الربا؛ ولأنَّ شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك، يعني اشتراك المشتري نفسه في التعامل بالربا؛ لأنَّ السهم يمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة، أو تقترضه بفائدة، فللمساهم نصيب منه؛ لأنَّ الذين يباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه، وبتوكيل منه، والتوكيل بعمل المحرَّم لا يجوز. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين. * فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بشأن "البورصة": خلاصة الفتوى: أولاً: أصل معنى كلمة "بورصة" كيس نقود ثم استُعملت في المكان الذي يجتمع فيه تجار مدينة، وصيارفتها، وسماسرتها، تحت رعاية حكومة، في ساعاتٍ محدودةٍ؛ للمضاربة في السلع التجارية، والأسواق الآجلة للعملات الأجنبية، وفي أسواق الأوراق المالية (الأسهم والسندات). نشأت في رومانيا، ثم كانت في فرنسا في منتصف القرن السادس الميلادي تقريبًا، ثم انتشرت في الدول، وتطورت حتى انتهت إلى ما هي عليه اليوم. وبهذا يُعلم أنَّ أنواعها: (أ) مضاربة في السلع التجارية. (ب) مضاربة في العملات الأجنبية. (ج) مضاربة في الأوراق المالية "الأسهم والسندات". ثانيًا: أن تقلب الأسعار في هذه الأسواق ارتفاعًا وانخفاضًا مفاجئًا،

وغير مفاجيء بحدة، وغير حدة، لا يخضع لمجرد اختلاف حالات العرض والطلب، بل يخضع لعوامل أخرى مفتعلة، فإنَّ السياسة النقدية أو المالية للحكومات ذات العملة الرئيسية الدولارات، الإسترليني، التي تفرضها هذه الحكومات من خلال بنوكها المركزية، ومؤسساتها النقدية، تؤثر كثيرًا على تقلب أسعار العملات بين الدول، وعلى اقتصادها، أضف إلى ذلك قوَّة السياسة المالية الحكومية وبنوكها، على إنشاء نقد، واتخاذ عوامل تؤدي إلى تضخم، أو انكماش نقد ما، ويسري ذلك إلى عملات أخرى من خلال التبادل الدولي الكبير للسلع والخدمات. وبذلك يُعلم ما في أنواع البورصة من غرر فاحشٍ، ومخاطرة بالغة، وأضرار فادحة، قد تنتهي بمن يخوض غمارها من التجار العاديين، ومن في حكمهم إلى الإفلاس، وهذا ما لا تقره شريعة الإسلام، ولا ترضاه، فإنَّها شريعة العدل والرحمة والإحسان. ثالثًا: أنَّ كثيرًا مما ذكر في البورصة من المضاربات في السلع والأوراق المالية، فيه بيع كاليء بكاليء، دين بدين، وصرف آخر فيه أحد العوضين، وكلاهما دين بدين وصرف آخر فيه أحد العوضين وكلاهما ممنوع بالنص والإجماع. رابعًا: أنَّ كثيرًا ممَّا ذُكر في البورصة من المضاربات في السلع، بيعٌ للشيء قبل قبضه، وهو منهيٌّ عنه. خامسًا: أنَّ هذه الأسواق متوفرة في الدول الغربية، فالاستثمار فيها يترتب عليه نقل الثروة من البلاد الأخرى التي يسكنها المستثمر إلى الدول الغربية التي تقع فيها تلك الأسواق، مع أنَّ بلاد المستثمر في أشد الحاجة إليها، وقد تكون النتيجة نقل مدخرات المسلمين، واستثمارها في بلاد غير إسلامية، وفي هذا من الضرر والخطر ما فيه.

فعلى ولاة أمور المسلمين حماية شعوبهم من المغامرة في هذه الأسواق، حفاظاً على دينهم، وحماية لثروتهم، والله الموفق. هذا ما تيسر جمعه وترتيبه ومناقشته وتلخيصه في بحث البورصة وبيان حكمها، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ***

754 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ، مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ، خَرَجْتُ مِنْ بَيْنهِمَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، من طريق محمَّد بن الزبرقان، عن أبي حبان التميمي، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكر الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأقرَّه المنذري في الترغيب والترهيب. قال ابن عبد الهادي: قيل: إنَّه منكر. وأعلَّه ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حبان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال التهانوي في إعلاء السنن: وصله ابن الزبرقان، وهو من رجال الجماعة إلاَّ الترمذي، فهو صدوق، وقد زاد الوصل، والزيادة من الثقة مقبولة، فزالت العلة وصلح الحديث للاحتجاج. قال الألباني: هو ضعيف الإسناد وفيه علتان: الأولى: جهالة والد أبي حبان التيمي، فالذهبي في الميزان قال: لا يكاد يعرف. ¬

_ (¬1) أبو داود (3383)، الحاكم (2/ 52).

الثانية: الاختلاف في وصله، فرواه ابن الزبرقان موصولاً. وجملة القول: أنَّ الحديث ضعيف الإسناد للاختلاف في وصله وإرساله وجهالة راويه، فإن سلِمَ من الأولى فلا يسلم من الأخرى. اهـ. * مفردات الحديث: - أنا ثالث الشريكين: يعني أنا معهما بالحفظ والرعاية، بإنزال البركة في تجارتهما وعملهما، فإذا وقعت الخيانة، رفعت عنهما البركة والإعانة والرعاية. - خان: يخون خونًا وخيانة: أؤتمن فلم ينصح، فالخيانة خلاف الأمانة، وهي تدخل في أشياء سوى المال فالخائن الذي خان ما جعل عليه أمينًا. قال في الكليات: الخيانة تقال اعتبارًا في العهد والأمانة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على جواز عموم المشاركات في أي عمل، وفي أي عقد من العقود، فجميع الشركات سواء كانت في الأموال أو في الأبدان، أو في الوجوه، وسواء كانت شركات مساهمة، أو محدودة أو تضامنية، أو غير ذلك، فالأصل فيها الجواز، ما لم يمنع من ذلك مانع شرعي. 2 - الرغبة في عقود الشركات؛ لحصول بركة الله تعالى فيها، وكونه تعالى بإعانته وتوفيقه وتسديده مع الشريكين أو الشركاء، فإنَّ الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. ولما في عقد الشركة من التعاون بين الشركاء، والتناوب بينهم في الأعمال والتشاور والتفاهم على ما ينفع الشركة وأعمالهم فيها، فمن رحمته تعالى أن أباحها وأجازها، وكان معينًا وموفقاً لأصحابها. 3 - هذا ما لم تدخلها الخيانة، ويدخلها الغش من أحد الشريكين، أو الشركات لصاحبه، فحينئذٍ يدعهم الله تعالي بلا توفيق ولا تسديد، فتحل فيهم

الخسارة والبَوار؛ لأنَّ أصل العمل النية الصالحة والنصح، فإذا فُقد هذا، ودخل محله الغش والخيانة مُحِقَت البركة منهما أو منهم. 4 - فضيلة الصدق والنصح في المعاملة والعمل، سواء كان ذلك قطاعاً حكوميًّا، أو قطاعاً خاصًا، فإنَّ هذا سبب البركة، وعنوان النجاح والفلاح، وضده سبب الخسارة، وضياع الجهد، ومحق البركة. 5 - قال فقهاؤنا: شركة المفاوضة قسمان: أحدهما: صحيح، وهو تفويض كل من الشريكين فأكثر إلى صاحبه كل تصرف، مالي وبدني من أنواع الشركة، وهو الجمع بين عنانٍ، ووجوهٍ، ومضاربةٍ، وأبدانٍ، فتصح. الثاني: فاسدة، وذلك بأن يدخلا فيها كسبًا نادرًا كوجدان لُقَطَةٍ، أو حصول ميراثٍ، أو أرش جناية، أو يدخلا فيها غرامة نادرةً، كضمان عارية، وقيمة متلَفٍ، وضمان غصبٍ ونحوه. ***

755 - وَعَنِ السَّائِبِ المَخْزُومِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّهُ كَانَ شَرِيْكَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قبْلَ البِعْثَةِ، فَجَاءَ يَوْمَ الفَتْحِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم عنه، ورواه أبو نعيم، والطبراني، من طريق قيس بن السائب، والحديث صحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - مرحباً: يقال: رحب المكان يرحب رُحبًا ورحابة، من بابي علم وكرم، اتَّسع فهو رَحْبٌ ورَحِيبٌ، ومنه قيل في التحيَّة: مرحبًا وأهلاً: أي صادفتَ سعة، وأتيت أهلاً. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة جاءه الناس يُسْلِمُون، فكان ممن جاءه السائب بن أبي السائب المخزومي، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مرحباً بأخي وشريكي، لا يماري ولا يداري". 2 - ففيه أنَّ الشركة كانت موجودة في الجاهلية، ثم أقرَّها الإسلام وأثبتها؛ لأنَّ الإسلام يُبقي كل صالحٍ نافعٍ، ويُبطل كل فاسدٍ ضار. 3 - فيه أنَّ حسن المعاملة والنصح يبقى أثره، وسمعته الطيبة، مهما طالت ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 425)، أبو داود (4836)، ابن ماجه (2287).

أيامه، وبعد زمنه، بخلاف المعاملة السيئة وشراسة الخُلُق، فإنَّها لا تبقي إلاَّ الأثر السيء، والذكر القبيح. 4 - فيه أنَّ العرب في الجاهلية كانت عندهم مكارم أخلاق، وحسن معاملة، وخصال كريمة، جاءتهم من عنصرهم الطيب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث متممًا لمكارم الأخلاق الموروثة. 5 - وفيه حسن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاؤه، وأنَّه لم ينس لهذا الرجل طيب صحبته، وجميل عشرته، وحسن معاملته. 6 - المماراة: المجادلة، والمدارأة قال الخطابي: "لا يدريء" أي لا يدفع صاحب الحق عن حقه، قال أبو عبيد: المدارأة هنا مهموزة من درأت، وهي المشاغبة والمخالفة، وأما المداراة فهي حسن الخلق، فليست مهموزة، والمدارأة والمماراة خُلُقَان قبيحان يحصل منهما النفرة، ويسببان التفرق. أما السماح والملاطفة فيجلبان المودة، ويديمان الإخاء والصفاء، ولذا فإنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مدح شريكه بهذين الخُلُقين الكريمين، فيحسن لكل مسلم لاسيَّما الشركاء أن يتحلوا بهما. 7 - في الحديث الحث على الوفاء للجار القديم، والصاحب الأول بأنَّ الصلة الأولى التي طرأ عليها ما فَصَمها ينبغي للإنسان أن لا ينساها، ولا ينسى صاحبها، وأن يعرفها لعشيره الأول، فإنَّ هذا من الوفاء الذي تحلَّى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن أخذ الشريك ربحًا مقابل شركته باسمه فقط: قرار رقم (91) وتاريخ 22/ 5/ 1402 هـ: الحمد الله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمَّد، وعلى آله وصحبه. وبعد: فقد اطلَّع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة عشرة المنعقدة

بمدينة الرياض، من الحادي عشر من جمادي الأولى عام: 1402 هـ، حتى الثاني والعشرين منه على كتاب فضيلة الشيخ أحمد بن عبد العزيز المبارك، رئيس القضاء الشرعي بدولة الإمارات العربية المتَّحدة، الموجه إلى سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء برقم: م/ ش 2006/ 1981 وتاريخ 6/ 2/ 1401 هـ والذي يطلب فيه الإفادة عن حكم الشركة التي أسهم فيها الوطني باسمه فقط مع الأجنبي، وأخذ المواطن نسبة من الربح أو جزءًا منه، مقابل ذلك، ويقول في كتابه: أصدرت بعض الحكومات في الآونة الأخيرة قوانين تحظر فيها على الشركات الأجنبية العاملة في أراضيها العمل إلاَّ بشريك مواطن، فتلجأ هذه الشركات إلى إبرام اتفاق مع المواطنين، مقابل مبلغ معيَّن مقطوع، أو نسبة من الربح، في حين أنَّ المواطن لم يدفع شيئاً من المال ولا يقوم بأي عمل في هذه الشركات، ولا يخفى على سماحتكم أنَّ هذا النوع من الشركة لا يستند إلى القواعد الشرعية فيما أعلم. نرجو إفادتنا عن هذه المسألة، فلعلكم وقفتم على رأي لبعض المتقدمين فيها، أو عرضت عليكم فأفتيتم بها. وقد أحاله سماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بكتابة رقم: 1087/ 1 وتاريخ 17/ 6/ 1401 هـ، لعرضه على مجلس هيئة العلماء. ولما اطَّلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، وتأمل موضوع الشركة الواردة في السؤال المذكور، أي أنَّ تلك الشركة ليست من أنواع الشركات الجائزة لدى كثير من الفقهاء، وذلك لأنَّ شركة العنان التي هي محل وفاق من الفقهاء تكون بالمال والعمل من الجانبين، أو بالمال منهما والعمل من أحدهما، والشريك المواطن في الشركة محل السؤال ليس له مال في الشركة ولا عمل، وكذا الحال في

شركة المفاوضة، وشركة الأبدان، اشتراك في عمل من الجانبين، بربحٍ مقدَّر النسبة، ولا عمل للشريك المواطن في الشركة المسؤول عنها، وشركة الوجوه بالأبدان، والذمم، لا عمل ولا التزام للشريك المواطن المذكور بشيء من ذلك في الشركة المسؤول عنها، وشركة المضاربة بالمال من طرف والعمل من طرف، وشركة المواطن المذكور لا مال له فيها ولا عمل، فإن قيل إنَّ لهذا الشريك شيئًا من العمل في الشركة باسمه، أو بوجاهته، أو بالتزامه، قيل: أولاً: إنَّ هذه الشركة لها عقد ظاهر يقدم لولاة الأمور، وعقد باطن يختلف عنه فيما بين المواطن والشركة الأجنبية، والعقود الشرعية يجب أن يكون ظاهرها متفقًا مع باطنها. ثانيًا: الاعتبار في العقود بالمقاصد، لا بالألفاظ الظاهرة، وهذه الشركة مقصودها غير ما ظهر منها. ثالثًا: ما يذكر لهذا الشريك من وجاهةٍ، أو ضمانٍ، ليس من الأمور التي يشارك بها بدون مال ولا عمل. رابعًا: الشركة باتخاذها مواطناً شريكًا اسمًا لا حقيقة، مخالف لتعليمات ولي الأمر، ومعلوم أنَّ السمع والطاعة في المعروف من أهم الواجبات، كما أنَّه مخالف لما تهدف إليه تعليمات ولي الأمر من تشغيل الأموال والطاقات المحلية، وإحلالها محل الأموال والطاقات الأجنبية، بجانب مخالفته للواقع في باطن الأمور، ووقوعه تحت طائفة الوعيد الواردة في النصوص الناهية عن قول الزور وشهادة الزور. خامسًا: إنَّ تسمية الشركة باسم الشريك المواطن، وهو لا يملك منها شيئًا في حقيقة الأمر يغرر ويخدع من يتعاملون معها شخصيًا ببيع أو ضمان أو غير ذلك، وفي ذلك من الضرر والفساد ما لا يخفى على المتأمل. سادسًا: جعل مبلغ من المال مقطوع يدفع إليه، خسرت الشركة أو ربحت،

يعتبر مخالفًا لأحكام الشركات الجائزة شرعًا: لما في ذلك من الغرر والضرر على الشركة، وعلى تقدير أنَّه جعل له جزء مشاع معلوم من الربح دون أن يتحمل ما يقابله من الخسارة، يعتبر أخذًا له بدون مقابل؛ لأنَّه لم يبذل مالاً ولا عملاً، ولا يخفى ما فيه من الغرر والضرر. فإن قيل: إنَّ الأصل في المعاملات الإباحة. قيل: إنَّ ذلك صحيح، ما لم تثبت مخالفة تلك المعاملة للقواعد الشرعية، وفي صورة هذه الشركة من الضرر، والتغرير، والكذب، والتزوير، ومخالفة لتعليمات ولي الأمر، ومقاصده الحسنة، والسَّعي لكسب المال من غير حِله، مما ينقلها عن الأصل، ويجعلها ممنوعة وباطلة. وبناءً على ما تقدم، فإنَّ المجلس يرى عدم صحة عقد هذه الشركة، وأنَّه يجب على المسلمين الكف عن التعامل بها، الاكتفاء بالشركات والعقود المباحة في الشريعة الإسلامية، وبالله التوفيق. وصلى الله على عبده ورسوله محمَّد وعلى آله وصحابته أجمعين. هيئة كبار العلماء ***

756 - وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "اشْتَرَكْتُ أنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ .. " الحَديثَ روَاهُ النَّسَائِيُّ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث منقطع فيما بين ابن مسعود وبين ابنه أبي عبيدة. فقد قال المنذري: إنَّ أبا عبيدة لم يسمع شيئًا من أبيه ابن مسعود. وقال الشوكاني: إنَّ ابن المديني، والترمذي، والدارقطني لا يصححون ما رواه أبو عبيدة عن أبيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث أصل في جواز شركة الأبدان، بين اثنين فأكثر من الشركاء، فيما يحصلانه، أو يحصلونه من مباح، أو يكتسبانه ببدنيهما، أو يغنمانه في غزوة. 2 - يقسم ما حصل لهما من رزق الله بينهما بالسوية، ولو كسب أحدهما دون الآخر؛ لأنَّ عقد الشركة اقتضى ذلك. 3 - يلزم كل واحد منهما العمل فيما تقبَّله الآخر، لأنَّ مبناها التضامن والتكافل في الأعمال. 4 - قال الأصحاب: ولا تصح شركة دلالين؛ لأنَّ الشركة الشرعية لا تخرج عن أحد أمرين: إما وكالة أو ضمان، ولا وكالة هنا، ولا ضمان. ¬

_ (¬1) النسائي (7/ 319)، أبو داود (3388)، ابن ماجه (2288).

قال في الإقناع: هذا في الدلالة التي فيها عقد، كما دلَّ عليه التعليل المذكور، فأما مجرد النداء، والعرض وإحضار الزبون، فلا خلاف في جواز الاشتراك فيه. اهـ. قال الشيخ تقي الدين: ووجه صحتها أنَّ بيع الدلال وشراءه بمنزلة حياكة الخياط، ومحل الخلاف: في الاشتراك في الدلالة التي فيها عقد، فأما مجرَّد النداء والعرض، وإحضار الزبون فلا خلاف في جوازه. 5 - فيه جواز الاشتراك فيما يحصل الشريكان من الغنيمة، ويقاس عليها غيرها من الأعمال المباحة. 6 - فيه أنَّ الرغبة في الغنيمة في الجهاد لا تقلل من أجر الجهاد، ما دامت ليست هي المقصودة وحدها. 7 - فيه حل الغنائم لهذه الأمة واختصاصها بذلك من بين سائر الأمم، وأنَّها من أفضل المكاسب، فقد جاء في الحديث: "وقد جُعل رِزقي تحت ظل رمحي" [رواه أحمد (4868)]. وفي الحديث الآخر: "وَأُحِلَّتْ لِي الغَنائِمُ، ولم تحل لأحدٍ من قبلي" [رواه البخاري (335)]. 8 - فيه أنَّ عقد الشركة يقتضي استحقاق كل واحد من الشريكين أو الشركاء فيما كسبه الآخر، فإنَّ تمام الحديث: "فجاء سعد بأسيرين، ولم أجىء أنا وعمَّار بشيء" [رواه النسائي (7/ 319)]. 9 - فيه أنَّ الإسلام أقوى رابطة وأوثق صلة بين الإنسان والإنسان، فهؤلاء الثلاثة الذين ألَّف الإسلام بينهم وجعلهم أخوة يتساوون، ويشتركون في المغنم والمغرم، هؤلاء الثلاثة كل واحد منهم من قبيلة، ولكن الإسلام ألَّف بينهم، فعمار عبْسي من اليمن، وسعد زهري من قريش، وابن مسعود هُذَلِي من ضواحي مكة.

باب الوكالة

باب الوكالة مقدمة الوكالة: بفتح الواو وكسرها، والفتح أشهر، اسم مصدر بمعنى التوكيل، هي لغة التفويض والحفظ. واصطلاحًا وشرعًا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، وهي جائزة بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، فالحاجة داعية إليها إذ لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه. قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]. ووكَّل -صلى الله عليه وسلم- عروة البارقي في شراء الشاة، وأبا رافع في تزويج ميمونة، وكان يبعث عمَّاله في قبض الزكاة، كما يبعث في إقامة الحدود. قال ابن قدامة: وأجمعت الأمة على جوازها. وتصح الوكالة بكل قول يدل على الإذن بالتصرف بلا خلاف، ويصح قبولها على الفور والتراخي بكل قولٍ، أو فعلٍ، دالٍّ على القبول من الوكيل، بلا نزاع. * حكمتها: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: من سعة الشرع أن أباح للإنسان أن يفعل الأشياء بنفسه، أو يقيم مقامه من يتولى ذلك العمل، وهو مطرد في حقوق الله وحقوق عباده، إلاَّ ما لا يحصل المقصود إلاَّ بمباشرة الإنسان له وتوليه

بنفسه، فإنَّ هذا النوع لا تصح فيه الوكالة. * حُكْم الدُخول فيها: التحقيق: إنَّ من علم من نفسه القوة والأمانة فيها، وأنَّها لا تشغله عما هو أهم منها، فالمستحب له الدخول فيها، لِما فيه من قضاء حاجة المسلم، ولما يحصل له من الأجر والثواب. وأما من علم من نفسه عدم القدرة عليها، أو يخشى الخيانة من نفسه أو تشغله عما هو أهم منها فالبعد عنها أسلم. والوكالة من العقود الجائزة من الطرفين، فتنفسخ بفسخ أي واحد من الموكل والوكيل، كما تبطل بموت أحدهما، أو جنونه. ***

757 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أرَدْتُ الخُرُوجَ إِلَى خَيْبرَ، فَأَتيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي بِخَيْبَر، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا" رَوَاه أَبُو دَاوُدَ وصَحَّحَهُ (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أبو داود من طريق وهب بن كيسان عنه بسند حسن، وعلَّق البخاري طرفًا منه آخر كتاب الخُمس، وقد صحَّحه أبو داود. قال الشيخ حامد الفقي: وحسَّن الحافظ إسناده، ولكنه من حديث محمَّد بن إسحاق. قلتُ: ذكر ابن عبد الهادي أنَّه قد صرَّح في بعض طرقه بالتحديث، ونقل الحافظ تصحيح أبي داود للحديث. * مفردات الحديث: - وَسقاً: بفتح الواو وسكون السين المهملة آخره قاف، الوسق: ستون صاعًا نبويًا، والصاع النبوي زنته ثلاثة آلاف غرام (3000) تقريبًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أراد جابر بن عبد الله الخروج من المدينة إلى خيبر، وأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأعلمه بذلك، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يُعِينَ جابرًا على نفقات سفرته، فأمره أن يأتي وكيله على جبي الزكاة بخيبر؛ ليعطيه خمسة عشر وسقًا من التمر، لكون جابر هناك ابن سبيل من أهل الزكاة إذا انقطعت به النفقة، وقال -صلى الله عليه وسلم- لجابر: إن ¬

_ (¬1) أبو داود (3632).

طلب منك الوكيل أمارة وعلامة على صدقك فيما حولتك به عليه، فضع يدك على ترقوته. 2 - فيه دليل على على صحة الوكالة، وهو أمرٌ مجمَع عليه بين العلماء. 3 - فيه جواز التوكيل في قبض الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها. 4 - فيه جواز العلم بالأمارة، وقبول قول المرسَل، إذا عرف المرسَل إليه صدقه. 5 - وفيه جواز العلم بالقرينة في مال الغير إذا غلب على الظن صدقه. 6 - فيه دليل على استحباب اتخاذ أمارة بين الوكيل وموكله، لا يطلع عليها غيرهما، ليعتمد الوكيل عليها في تنفيذ أوامر موكله، ذلك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لجابر: "فإن طلب منك آية فضَع يدك على ترقوته" وما "الشفرة" في الأعراف السياسية الدولية، وكلمة السر عند الكشافة والجوالة إلاَّ من هذا القبيل. 7 - فيه إعطاء ابن السبيل من الزكاة، وهو أحد الأقسام الثمانية ممن يستحق الزكاة. ***

758 - وَعَنْ عُرْوَةَ البَارِقِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيَّةً .. " الحديث رَوَاهُ البُخَارِيُّ في أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم هذا الحديث في كتاب البيع برقم (698) وذكرنا ما تيسر من فوائده. 2 - فيه دليلٌ على جواز الوكالة في الشراء. 3 - فيه دليل على مشروعية الأضحية والتوكيل في شرائها. 4 - فيه دليل على صحة تصرف الفضولي، إذا أجازه المالك؛ ذلك أنَّ عروة البارقي اشترى بالدينار شاتين، ثم باع شاةً منهما بدينار، فجاء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة ودينار، فأقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما من لم ير جواز تصرف الفضولي بعد الإجازة، فإنه يؤوِّل هذا الحديث بأنَّ وكالة عروة كانت وكالة تفويضٍ وإطلاق، والوكيل المطلق يملك البيع والشراء، ويكون تصرفه صادرًا عن إذن المالك، ولكن الرَّاجح هو القول الأول، فإنَّ تصرُّفَ عروة مقيدٌ بشراء الشاة، التي صارت الحاجة إليها. 5 - فيه دليل على عدم حد قدر المكاسب في البيع؛ لكن ينبغي للمسلم أن يكون سمحاً إذا اشترى، قنوعًا بما يسَّر الله له من الرزق إذا باع، وأن يكون فيه رحمة وشفقة على إخوانه المسلمين. 6 - فيه دليل على أنَّ الأضحية لا تتعيَّن أضحية بمجرد الشراء، فإنَّ عروة باع واحدة من الشاتين، وأيضاً فإنَّ الشراء لا يقصد للأضحية فقط، وإنما يراد لأغراض كثيرة، فالشراء لا بعينها أضحية. ¬

_ (¬1) البخاري (3642).

759 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "بَعثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عُمَرَ عَلَى الصَّدقَةِ" الحَديثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 760 - وَعَن جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ، وَأمَرَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنْ يَذْبَحَ البَاقِي" الحَديثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث (760): - نحر: النحر طعن البعير في لبته بالسكين، وهو خاصٌّ بالإبل. - ثلاثًا وستين: بدنة مما أهدي إلى البيت الحرام، وكانت مائة بدنة. قال بعضهم: فيه إشارة إلى عمره الشريف. - يذبح الباقي: أي ينحر باقي البدن، وهي سبع وثلاثون. قال بعضهم: فيه إشارة إلى خلافته في تلك السنين. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1468)، مسلم (983). (¬2) مسلم (1218).

761 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- في قِصَّةِ العَسِيفِ، قَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" الحَديثَ مُتَّفَقٌ عَليْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - العسيف: عسف الطريقَ إذا سلكه على غير قصد، ومنه العسيف وهو الأجير, لأنَّه يعسف الطرقات مترددًا في الاشتغال، فالعسيف هنا هو الأجير، وزناً ومعنًى. - اغدُ: فعل أمر، من غدى يغدو غُدُوًّا، من باب قعد، ذهب غُدوة، جمعها غُدى، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. قال في المصباح: هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق. أي وقت كان. - أُنَيس: بضم الهمزة، وفتح النون، وسكون الياء، آخره سين مهملة، تصغير أنس. وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، من قبيلة أسلم. - فارجمها: رجمه يرجمه رجمًا، رماه بالحجارة حتى الموت. قال في المحيط: هذا هو الأصل في معناه، وباقي المعاني متفرعة منه. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - الحديث رقم (759) يدل على صحة الوكالة في قبض الصدقة ممن هي عليه. ¬

_ (¬1) البخاري (6859)، مسلم (1697).

2 - فيه دليل على جواز دفعها إلى الجابي، إذا علموا صِدقه بالولاية على ذلك. 3 - فيه دليل على وجوب اختيار الأمناء في مثل هذه الولايات المالية الهامة، فمن وكلائه -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. 4 - فيه دليلٌ على مشروعية بعث السعاة والجباة لقبض الزكاة، لأنَّ هذه شعيرةٌ كبيرة، يستحب إظهارها. 5 - في الحديث رقم (760) دليل على صحة التوكيل في ذبح أو نحر الهدايا والأضاحي، وتفريق لحومها، وجلودها، وجلالها على المساكين، كما جاء في بقية الحديث. 6 - هذه الأحاديث نماذج من الأعمال التي تدخلها النيابة، فتصح فيها الوكالة، وإلاَّ فجزئياتها كثيرة وصورها متعددة، ولكن الذي يميز بين ما تصح الوكالة فيه، وما لا تصح هذا الضابط، وهو أن يكون العمل مما لا يختص القيام به صاحبه، بل تدخله النيابة، فإن كانت النيابة لا تدخله بل يختص بصاحبه، كاليمين، واللعان والنذر، والقَسم بين الزوجات، ونحو ذلك، فلا يصح التوكيل فيه، وأنَّ للإنسان أن يوكِّل في الأعمال التي يستطيع القيام بها بنفسه. 7 - وفي الحديث رقم (761) دليل على جواز التوكيل في إثبات الحدود، وأخذ إقرار المتَّهمين. 8 - فيه دليل على أنَّ للإمام أن يوكل في إقامة الحدود، سواء كان قادرًا على إقامتها بنفسه، أو غير قادر. 9 - فيه دليل على أنَّ التوكيل من الموكل، والقبول من الموكَّل لا يتقيد بصيغة خاصة، وإنما يثبت ذلك بما دلَّ عليه من قول أو فعل؛ لأنَّه لم يذكر ذلك، ولو كان لازمًا لذكر. 10 - وفيه دليل على أنَّ الوكالة قد تكون في العبادات إذا كانت مما تدخله

النيابة، فإنَّ نحر الهدي، وتفريق لحمها عبادة وشعيرة. 11 - وفيه دليل على أنَّ الاعتراف من أقوى الإثبات على ثبوت الحكم، فإنَّه رتَّب رجمها على اعترافها، وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. 12 - وفيه دليل على استحباب الإكثار من الهدي إلى البيت الحرام، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى إليه مائة بدنة. 13 - وفيه استحباب تولي المهدي والمضحي نحر هديه أو ذبحه بيده؛ لأنَّه عبادة يتقرب بفعلها. 14 - وفيه حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسياسته الرشيدة، فإنَّ أُنيسًا من أقارب المرأة التي أقيم عليها الحد، وكون من يتولى ذلك رجل من أهلها أسهل على أهلها من أن يتولى ذلك إنسان ليس منهم. 15 - أنَّ الرجل أو المرأة إذا اعترف أحدهما دون الآخر، لا يسري اعترافه إلاَّ على المعترف نفسه، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف باعتراف الزاني على المرأة، وإنما أقام عليها باعترافها بنفسها. 16 - وفيه أنَّ حد الزَّاني المحصَن الرجم بالحجارة حتى الموت. 17 - وفيه أنَّه لا يشترط حضور ولي الأمر إقامة الحدود، بل تنفذ، ولو بغيبته، إذا أُمن الحَيْف. 18 - وفيه وجوب إقامة الحدود، وأن إقامتها منوطة بولي أمر المسلمين أو نائبه. ***

باب الإقرار

باب الإقرار مقدمة الإقرار: يقال قرَّ الشيء في مكانه قرارًا: ثبت وسكن. وشرعًا: إظهار مكلف مختار ما عليه، أو على موكله، أو موليه، أو مورثه، باللفظ، أو الكتابة، بما يمكن صدقه. وحجية الإقرار ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]. وأما السنة: فما في البخاري (6859) ومسلم (1697) قوله -صلى الله عليه وسلم-: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". وأما الإجماع: فإنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ الإقرار حجةٌ شرعيةٌ على المقِر. وأما القياس: فلأنَّ العاقل لا يقر على نفسه بشيء ضار بنفسه أو ماله، إلاَّ إذا كان صادقًا فيه. * الإقرار حجة قاصرة: الإقرار حجة قاصرة على نفس المقِر، لا يتعداه إلى غيره، وذلك لأنَّ المقِر لا ولاية له إلاَّ على نفسه، فيسري كلامه عليه دون غيره. والإقرار إخبار عما في نفس الأمر، لا إنشاء، ولا عذر لمن أقر، فمن أقرَّ بحق ثم ادَّعى الإكراه لم يقبل منه إلاَّ ببينة، إلاَّ أن تكون هناك دلالة على الإكراه كقَيد، وحبس، وترسيم عليه، ويكون قرينة على صدقه، والقول قول بيمينه، لكن إن كان هناك قرائن تدل على قوة التهمة بحقه، فلا ينبغي أن تهمل تلك القرائن، لاسيَّما إذا تضافرت، وحينئذِ يجوز أن يُمسَّ بشيءٍ من العذاب ليقر.

762 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "قُلِ الحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرًّا" صَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، مِنْ حَديثٍ طَوِيلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال في التلخيص: روى أحمد، والطبراني، وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أن أقول الحق وإن كان مرًّا". قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح، غير سلام وهو ثقة، وقال: أحد إسنادي أحمد ثقات. وللحديث شاهد هو: حديث علي بن أبي طالب: "قولوا الحق ولو على أنفسكم" قال في التلخيص: رويناه في جزء من حديث أبي علي بن شاذان بسنده إلى علي -رضي الله عنه-، وفيه ضعف وانقطاع، وقد جاء معنى هذا الحديث في عدد من الآيات الكريمات. * مفردات الحديث: - ولو كان مُرًّا: منصوب؛ لأنَّه خبر "كان" المحذوف اسمها. - المر: بضم الميم وتشديد الراء، ضد الحلو، وهو ما تدرك مرارته بحاسة الذوق، وقد تجاوزوا به المحسوسات إلى المعنويات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث ساقه المنذري في الترغيب والترهيب كما يلي: قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقول الحق ولو كان مرًا، وأن لا ¬

_ (¬1) ابن حبان (361).

أخاف في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، وألاَّ أنظر إلى من أعلى مني، وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم، وأن أصِلَ رَحمي وإن قطعوني وجفوني، وألاَّ أسأل أحدًا شيئًا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله، فإنَّها من كنوز الجنة". فهذه وصايا نبوية كريمة، وكل فقرة منها لها أصل من الكتاب أو السنة، فجمعت في هذا الحديث. 2 - الحديث فيه وجوب الإقرار بالحق، ولو لحق القائل المقر تبعات؛ لأنَّ في ذلك إظهارًا للحق، وإبراءً للذمة. وقول الحق هذا شاملٌ لما على المقر نفسه، وشامل أيضًا لما على غيره من أداء الشهادة وإنكار المنكَر. 3 - وفيه دلالة على قبول واعتبار قول القائل، وإقراره على نفسه في جميع الحقوق، فلو لم يكن لإقراره اعتبار ما أكَّد عليه بالإقرار به. 4 - وهذا عامٌّ لجميع ما يجب الإقرار به من دم، أو حدٍّ، أو مال، أو أي حقٍّ من الحقوق، فهو إخبارٌ بما على النفس، ممَّا يلزمها التخلص منه. 5 - ولكون الحق يصعب إجراؤه على النفس، وُصِف بالمرارة التي يُكره طعمها ويصعب استساغتها. 6 - الإقرار حجَّةٌ قويةٌ؛ لأنَّ العاقل لا يقر على نفسه بما يضره، إلاَّ صادقًا، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبِل من ماعز والغامدية إقرارهما بالزنا، وعاملهما بموجبه في إقامة الحد عليهما، فلو لم يكن حجة لما أخذها به في الحد، الذي من أخص صفاته أنَّه يُدرأ بالشبهات. 7 - الإقرار حجة قاصرة على نفس المقر دون غيره، فيقتصر إقراره عليه، ولا يؤخذ به غيره، لما روى الطبراني (10701) عن ابن عباس: "أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! أَقِم عليَّ الحد، فقد أتيتُ أمرًا حرامًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: انطلقوا به

فاجلدوه -ولم يكن تزوج- فقال -صلى الله عليه وسلم-: من هي صاحبتك؟ قال: فلانة، فدعاها فقالت: يا رسول الله! كذَّب عليَّ، والله إني لا أعرفه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: من شاهدك؟ فقال يا رسول الله! مالي شاهد، فأمر به فُجُلِدَ حدَّ الفرية ثمانين جلدة". 8 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: حديث "لا عذر لمن أقرَّ" يروى ولا أدري عن أصله، إلاَّ أنَّ معناه صحيح، وظاهره عند جميع العلماء اعتبار ذلك الإقرار من المقر بالحق الذي أنشأه. قلتُ: قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" عن هذا الحديث: قال شيخنا -يعني ابن حجر: "لا أصل له، وليس معناه على إطلاقه صحيحًا". 9 - قالت ندوة رؤساء المحاكم: إذا أقرَّ المتَّهم حال الامتحان بالحبس والضرب أو التهديد، إن وجد ما يصدق هذا الإقرار من وجود السرقة بعينها عنده، أو دلَّ على مكانها، وكيفية أخذها من حرز مثلها، فإنه لم يُقبل منه بل يؤاخذ بإقراره، أما إذا لم يظهر صدق ذلك الإقرار، وكان إقراره نتيجة تعذيب وإكراه، فإنَّه لا يعتبر مثل هذا الإقرار. 10 - قال شيخ الإسلام: الحقوق قسمان: - حقوق الله. - حقوق الآدميين. فأما حقوق الله، فإنَّ من شروط إقامتها البقاء على إقراره إلى تمام الحد، فإن رجع عن إقراره كفَّ عنه. وبهذا قال الأئمة الأربعة، والثوري، وإسحاق. وأما حقوق الآدميين، فهي مبنيَّةٌ على المشاحة، فإذا أقرَّ المكلف مختارًا، فلا يُقْبل رجوعه، ولا ادعاؤه غلطًا، أو نسيانًا بعد الإقرار، الذي يعتبر من أقوى الإثبات؛ ولهذا تلزم غرامة المسروق من أقرَّ ولو مرَّة

واحد. 11 - قال الشيخ تقي الدين: وأما ضرب المتَّهم إذا عرف أنَّ المال عنده، وقد كتمه ليقر بمكانه، فهذا لا ريب فيه، كما يضرب ليؤدي ما عليه من المال الذي يقدر على وفائه، كما جاء في الصحيح من قصة عم حُيي بن أخطب الذي عُذِّب حتى أخرج المال المخفي. 12 - قوله: "قل الحق ولو كان مُرًّا" أنَّ الله تعالى بكرمه ورحمته لا يؤاخذ على ما تهواه النفوس، ولو كان أمرًا مخالفًا للحق والعدل، ما دام أنَّه مضمر ذلك في نفسه، لم يتابع هواه وشهوته، وإنما عصى نفسه وألزمها الحق، بل إنَّه بهذه المجاهدة مأجور مثاب. ***

باب العارية

باب العارية مقدمة العارية: بتشديد الياء على المشهور، ويجوز تخفيفها. جمعها: عواري بالتشديد والتخفيف، يقال عاره الشيء، وأعاره إيَّاه. سميت عارية: من العُري، وهو التجرد؛ لتجردها من العِوض. وشرعًا: هي إباحة نفْع عين تبقى بعد استيفائها، ليردها على مالكها. وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها، وهي مشروعةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع. قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7]. وتدخل في قوله تعالي: {الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا} [المائدة: 2]. واستعار -صلى الله عليه وسلم- من صفوان بن أمية أدراعًا، [رواه أبو داود (3562)]. قال الوزير وغيره: "اتَّفقوا على أنَّها جائزة، وقُربة مندوب إليها، وأنَّ للمعير ثوابًا. قال الموفق: "الإعارة مستحبةٌ بإجماع المسلمين". وقال الشيخ تقي الدين: "تجب مع غنى المالك للآية، وهو قولٌ لأحمد". قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون] أي يمنعون إعطاء الشيء الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، كالإناء والفأس، ونحو ذلك مما جرت العادة ببذله والسماح به، ففيه الحث على فعل المعروف، وبذل الأموال الخفيفة؛ لأنَّ الله لام من لم يفعل ذلك، والله سبحانه أعلم.

763 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ والأرْبَعةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث معلول؛ لعنعنة فيما بين الحسن، وسمرة. قال في "التلخيص": رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث الحسن عن سمرة، والحسن مختلف في سماعه من سمرة. قال الترمذي: "حديث حسنٌ صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط البخاري" ذلك إذا صرَّح بالتحديث من سمرة، أما وهو لم يصرح به بل عنعنه فليس الحديث إذًا بصحيح الإسناد، وبهذا أعلَّه الحافظ في "التلخيص". * مفردات الحديث: - على اليد: اسم للجارحة، ولكن المراد منها هنا: أن تكون يداً حقيقة، أو يدًا معنوية، كالاستيلاء على حق الغير بغير حق. - ما أخذَت: "ما" موصولة مبتدأ، و"على اليد" خبره، والضمير الراجع محذوف، أي ما أخذته اليد ضمان على صاحبها، وأسند إلى اليد؛ لأنَّها هي المتصرفة. ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 8)، أبو داود (3561)، الترمذي (1266)، النسائي في الكبرى (3/ 411)، ابن ماجه (2400)، الحاكم (2/ 47).

764 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عنه- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أدِّ الأَمَانَةَ إِلى مَنِ ائْتَمَنكَ، ولاَ تَخُنْ مَن خَانَكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذيُّ وحَسَّنَهُ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَاسْتَنكرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَأَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الحُفَّاظِ، وَهُوَ شَامِلٌ للعَارِيَّة (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث أبي هريرة، وتفرَّد به طلْق بن غنام عن شريك، واستشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس، ولكن فيه أيوب بن سويد مختَلف فيه. قال الشافعي: هذا الحديث ليس ثابتًا، وقال ابن الجوزي: لا يصح من جميع طرقه، ونقل عن الإمام أحمد أنَّه قال: هذا حديثٌ باطل، لا أعرفه من وجهٍ يصح. أما الشيخ ناصر الدين الألباني فقال: الحديث صحيح، فقد روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأنس ورجل سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وجملة القول: إنَّ الحديث بمجموع طرقه ثابت، وما نقل عن بعض المتقدمين من أنَّه ليس بثابت فذلك باعتبار ما وقع له من طريق، لا بمجموع ما وصل منها إلينا، والله أعلم. * مفردات الحديث: - أدِّ الأمانة: أعط الأمانة. ¬

_ (¬1) أبو داود (3535)، الترمذي (1264).

الأمانة لغةً: الوفاء. وشرعًا: كل عين للغير في يد الشخص باختيار صاحبها. - لا تخُنْ: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم، والخيانة: عدم الوفاء بالأمانة، بأنْ لم يؤدها، أو لم يؤد بعضها، وتقدم معناها قريبًا. ***

765 - وَعنْ يَعْلى بنِ أُميَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلاَثينَ دِرْعًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَعَاريَةٌ مُضْمُونَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ: بلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ" رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بمجموع طرقه. قال في التلخيص: رواه أبو داود من حديث صفوان بن أمية. وأخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم، وأورد له شاهدًا من حديث ابن عباس ولفظه: "بل عارية مؤداة" ورواه البيهقي من حديث جعفر بن محمد، عن أمية بن صفوان مرسلاً، ورواه الحاكم من حديث جابر. وأعلَّه ابن حزم وابن القطان، زاد ابن حزم: إنَّ أحسن ما فيها حديث يعلى بن أمية، يعني الذي رواه أبو داود. وفي الباب عن ابن عمر عند البزار، وهو ضعيف، وعن أنس عند الطبراني، وهو ضعيف. قلتُ: وقد لخَّص الألباني طرق هذا الحديث ورتَّبها فقال: فالحديث مضطرب الإسناد؛ لكن له شاهدان. الأول: عن جابر بن عبد الله أخرجه الحاكم، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذَّهبي. الثاني: عن ابن عباس، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 222)، أبو داود (3566)، النسائي في الكبرى (3/ 409)، ابن حبان (1173).

قلتُ: كلا فإن فيه إسحاق بن عبد الواحد القرشي، قال أبو علي الحافظ: متروك الحديث، وقال الذَّهبي: بل واهٍ متروك. الثالث: رواية جعفر بن محمَّد عن أبيه أخرجه البيهقي. وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق الثلاث. * مفردات الحديث: - دِرعًا: بكسر الدال وسكون الراء آخره عين، هو قميصٌ من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس للوقاية من السلاح. - مضمونة: ضمن يضمن ضمنًا وضمانًا كفل، فهو ضامن وضمين، فالضمان الكفالة، أو هو أعم منها، هكذا قال اللغويون!! أما الفقهاء فقالوا: الضمان: التزام من يصح تبرعه ما وجب على غيره من مال، مع بقائه في ذمَّة الغير. أما الكفالة: التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لغريمه. ومعنى مضمونة: تضمن إن تلفت بقيمتها. - العارية المؤداة: بالهمزة من أدى دينه إذا قضاه، والاسم الأداء، وهو أداء الأمانة منك إذا طلبها صاحبها، فهي التي يجب أداؤها مع بقاء عينها، فهي الأمانة المردودة نفسها، فإن تلفت لم تضمن بالقيمة. - العارية: بتشديد الياء وتخفيفها تجمع على عواري، اختلف في اشتقاقها وأحسنها أنَّها مأخوذةٌ من العري، وهو التجرد؛ لتجردها من العوض. ***

766 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعًا يَوْمَ حُنينٍ، فَقَالَ: أغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1) وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا ضَعِيفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وتقدم الكلام عليه في الحديث الذي قبله، فقد نقلنا كلام الحافظ عنه من التلخيص في أول بحث الحديث الأول، وقد صحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وللحديث شواهد. قال البيهقي: وإن كان بعضها مرسلاً فإنَّه يقوى بشواهده. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - هذه الأحاديث من الأصول التي جاءت في بيان أصل حكم العارية، وأنَّها إباحة منافع العين مع بقائها، بلا عوض. 2 - أنَّ العارية مشروعة، فهي إما مستحبة كما هو قول الجمهور، أو واجبة كما هو قول بعضهم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يوجبها على الغني. قال تعالى عن مانعي الماعون: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون]. وهو يشمل كل ما جرت العادة بإعارته من الأواني ونحوها. 3 - وجوب أداء جميع الأمانات على أصحابها، ومنها العارية؛ لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 401)، أبو داود (3562)، السنائي في الكبرى (3/ 410). (¬2) الحاكم (2/ 47).

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" [رَواهُ أَبُو دَاوُدَ (3561)]. 4 - الأمانة هي كل عين بيدك برضا صاحبها، فهي أمانة سواء كانت عارية، أو عينا مؤجرة، أو وديعة، أو عينًا، في يد وكيل عليها، أو غير ذلك. ولها أحكام مفصَّلة ستأتي إن شاء الله تعالى في باب الوديعة. 5 - وجوب ضمان العارية إذا تلفت بتعدٍّ أو تفريط، بإجماع العلماء. 6 - إذا تلف بعض أجزائها فيما استعيرت له، فلا ضمان بالإجماع. 7 - التعدي: هو فعل ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب من الحفظ. 8 - أما إذا تلف بدون تعدٍّ ولا تفريط، وبغير ما استعيرت له، ففيها خلاف، سنذكره قريبًا إن شاء الله تعالى. 9 - وجوب حفظ الأمانة، ومنها العارية، وعدم التعدي والتفريط فيها. وهذا مأخوذ من الحديث رقم (764)، كما أنَّه مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والدليل من الآية: أنَّ الأداء لا يمكن إلاَّ بحفظها، فهو من لازمه. 10 - تحريم الخيانة فيها، وإن كان صاحبها قد خان مَن عنده الأمانة، ومنهم المستعير، لقوله: "ولا تخن من خانك" وهناك مسألة تسمى "مسألة الظفر" سيأتي الخلاف فيها إن شاء الله. 11 - جواز عارية السلاح ما لم يكن إعارته لكفارٍ يتقوون به على المسلمين، أو بغاة، وقطاع طريق، يستعينون به على إخافة المسلمين وترويعهم، وكذلك لا يجوز بيعه، أو إعارته زمن فتنة بين المسلمين. 12 - العارية مضمونة مطلقًا عند بعض العلماء، وغير مضمونة إلاَّ بالتعدي والتفريط عند آخرين، وسيأتي تحقيق الخلاف إن شاء الله تعالى. 13 - الحديث رقم (765) ذكر العارية المضمونة، والعارية المؤداة.

والفرق بينهما أنَّ المضمونة هي التي تضمن إن تلفت، وأما المؤداة فهي التي لا يجب أداؤها، إلاَّ مع بقاء عينها، فإن تلفت لم تضمن بالقيمة، وسيأتي خلافها إن شاء الله تعالى. 14 - استعار النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفوان بن أمية أدرعة وهو كافر، وهذا لا يعارض الحديث الآخر: "ارجع فلن أستعين بمشرك". لأنَّ المنهي عنه هو الاستعانة بذواتهم التي يخشى منها الخيانة، لاسيَّما في مأزق الحرب. أمَّا المعاملات المالية: من بيع، وشراءٍ، وإجارةٍ، واستعارةٍ، فلا تدخل فيها. 15 - عدل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وصفْحه وحِلمه، وإلاَّ فصفوان لا يزال حين استعار الأدرع منه على الشرك، وهو ممَّن استولى عليه عنوة، ومع هذا عفَّ عن الاستيلاء على أدراعه، وأخبره أنَّها عارية مضمونة إن تلفت، ولذا فإنَّه لما ضاع بعضها أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يضمنها لصفوان، ولكن صفوان قد أسلم فتركها برضاه. 16 - فقهاء الحنابلة يجعلون مؤنة الدابة المعارة على المالك، لكن قال شيخ الإسلام: قياس المذهب أنَّها تجب على المستعير، قلتُ: ووجه القياس وجوب أداء العارية، ولا يمكن أداؤها إلاَّ بمؤنتها. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصواب أنَّ مؤنة الدابة المستعارة على من استعارها، وهذا هو العرف الجاري. 17 - جواز التوكيل في الاستعارة، وقبضها من المعير. 18 - حسن أدب الإسلام، وأنَّه دين السلام والوئام، فإنه يمنع من الخيانة حتى مع من خان، فلم يبح مقابلته بمثل عمله من الخيانة، وإنما يدعو الإسلام إلى الصبر والمسالمة، فالإسلام يبيح للمظلوم أن يقتص بقدر حقه؛ لأنَّه

عدلٌ، فيقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ولكنه يدعو المظلوم إلى أفضل من القصاص، فيقول تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى]. 19 - قال الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب: في مسألة الظفر. - إن كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج لبينة، كالنكاح، والقرابة، وحق الضيف جاز الأخذ بالمعروف، كما أذِن لهند زوجة أبي سفيان. - وإن كان سبب الحق خفيًّا، وينسب الآخذ إلى خيانة أمانته، لم يكن له الأخذ، لئلا يعرض نفسه للتهمة والخيانة، ولعلَّ هذا القول أرجح الأقوال وبه تجتمع الأدلة. قال ابن القيم: وهذا القول أصح الأقوال، وأسدها، وأوفقها للشريعة، وبه تجتمع الأحاديث. أما شارح البلوغ فذكر تعليلاً آخر، فقال: مسألة الظفر الأقوال فيها كما يلي: أحدها: أنَّ من له حق، فليس له الأخذ من حق من عنده له الحق، إذا ظفر بماله، سواء كان من جنس ما عليه، أو من غير جنسه، وهو مذهب الشافعي، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تخن من خانك". الثاني: يجوز له الأخذ، إذا كان من جنسه، لا من غيره؛ لظاهر قوله تعالى: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. الثالث: لا يجوز ذلك إلاَّ بحكم حاكم؛ لظاهر النَّهي. الرابع: يجب عليه أن يأخذ بقدر حقه، سواء كان من نوع ما هو له، أو من غيره، ويبيعه ويستوفي حقه، فإن فضل ما هو له رده؛ لقوله تعالى:

{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وقال عليه الصلاة والسلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" [رواه البخاري]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" [رواه البخاري]، فهو يريد أن يبرئه، فهو مأجور. * اختلاف العلماء: اختلف العلماء في ضمان العارية إذا تلفت عند المستعير إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ المستعير يضمنها على كل حال، سواء شرط عليه الضمان، أو لم يشترط عليه. هذا هو المشهور عند أحمد والشافعي. قال في "الإنصاف": هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" [رواه أبو داود (3561)]. الثاني: أنَّها لا تُضمن بحالٍ كسائر الأمانات، وهو المشهور عند مالك. الثالث: لا تضمن إلاَّ إذا شرط ضمانها، اختاره جماعةٌ من أصحاب الإمام أحمد، منهم العكبري، وصاحب الفائق، وذُكِر للإمام أحمد ذلك، فقال: "المسلمون على شروطهم" [رواه الترمذي (1352)]. الرابع: أنَّها لا تضمن إلاَّ بالتَّعدي أو التفريط فيها، كسائر الأمانات. وهذا مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وهو قول الحسن، والنَّخعي، والشَّعبي، وعمر بن عبد العزيز، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس على

المستعير غير المغِل ضمان". قال في النهاية: أي: إذا لم يخن في العارية والوديعة، فلا ضمان عليه من الإغلال، وهو الخيانة. * فائدة: كثير من العلماء -ومنهم الحنابلة- يرون أنَّ العارية تضمن على كل حال، إلاَّ في أربع حالات، وهي: 1 - إذا كانت العارية وفقاً، لكون المستعير من جملة المستحقين. 2 - إذا أركب دابته منقطعاً لله تعالى، فتلفت تحته، إذ المالك هو الذي طلب ركوبه تقرباً. 3 - وكيل مالك العين إذا تلفت لا يضمنها؛ لأنَّه ليس بمستعير، وإنما هو أمين صاحبها. 4 - إذا تلفت أجزاؤها بمعروف فيما استعيرت له؛ لأنَّ الاستعمال تضمَّن الإذن في الإتلاف. لكن تقدم أنَّ الراجح أنَّ العارية لا تضمن إلاَّ بالتَّعدي عليها، وذلك بفعل ما لا يجوز أو بالتفريط فيها، وذلك بترك ما يجب في حفظها. ***

باب الغصب

باب الغصب مقدمة الغصب: مصدر غصب يغصب -بكسر الصاد- غصبًا، من باب ضرب، ويقال: اغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب. وتعريفه لغة: أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا. واصطلاحًا شرعيًّا: الاستيلاء عرفًا على حق غيره قهرًا بغير حق. والاستيلاء كالقبض يختلف باختلاف المستولى عليه. وهو محرَّم بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، ويقتضيه العدل والقياس. قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوَّقه من سبع أرضين يوم القيامة" [رواه البخاري (3198)، ومسلم (1610)]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" [رواه مسلم (1218)]. والنصوص في تحريم حقوق الناس من الكتاب والسنة كثيرةٌ جدًا. قال الموفق: أجمع المسلمون على تحريمه، والقياس يقتضي تحريمه. قال شيخ الاسلام: للمظلوم الدعاء على ظالمه، بقدر ما يوجبه ظلمه.

ويجب على الغاصب رد ما غصبه، فهو من رد المظالم إلى أهلها. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الأمور التي تضمن بها النفوس والأموال ثلاثة: الأول: يد متعدية، وضابطها كل من وضع يده على مال غيره ظلمًا. الثاني: اليد المباشرة، فمن أتلف نفسًا محترمة، أو مالاً بغير حق، عمداً أو سهواً أو جهلاً، فإنَّه ضامن. الثالث: اليد المتسببة، فمن فعل ما ليس له فعله في ملك غيره أو في الطريق، أو تسبب للإتلاف بفعل غير مأذون فيه، فتلف بسبب فعله نفسٌ، أو مالٌ ضمنه. لكن إذا اجتمع مباشر ومتسبب، فالضمان على المباشر، فإن تعذر تضمينه ضمن المتسبب. ***

767 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبع أَرَضِينَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اقْتَطع: أخذ من أرض غيره جزءاً، ولو يسيرًا. - شبرًا: بكسر الشين وسكون الباء بعدها راء، هو ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد بينهما، وهو مذكر، جمعه أشبار. - ظلمًا: حال من فاعل اقتطع، والظلم لغة: الجوْر، ومجاوزة الحد. وشرعًا: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، ومنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه. - طوَّقه الله: بفتح الطاء المهملة بعدها واو مشددة، جعل هذه الطبقات من الأرضين طوقًا يحيط بعُنُقِهِ، كالغِل. - أرضين: بفتح الراء، وجاز إسكانها، جمع أرض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إنَّ الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عظما حقوق الإنسان، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وقال -صلى الله عليه وسلم- "إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام" [رواه مسلم (1218)]. فلا يحل لأحدٍ أخذ شيءٍ من أحد، إلاَّ بطيبة من نفسه. 2 - لذا أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من اقتطع شبرًا من الأرض طوَّقه من سبع أرضين، جزءً له ¬

_ (¬1) البخاري (3198)، مسلم (1610).

على ظلمه صاحبَ الأرض، التي استولى عليها ظلمًا. 3 - أنَّ الظُّلم حرام في القليل والكثير، وهذا فائدة ذكر الشبر. 4 - أنَّ العقار يكون مغصوبًا مستولى عليه بوضع اليد. 5 - أنَّ مَنْ مَلك ظاهر الأرض مَلَكَ باطنها إلى تخومها، فلا يجوز أن يضع أحد تحت أرضه نفقًا، أو سربًا، ونحو ذلك إلاَّ بإذنه. 6 - يكون مالكًا لما فيها من أحجار ومعادن جامدة، وله أن يحفر فيها ما شاء. 7 - كما أنَّ العلماء جعلوا الهواء تابعًا للقرار، فمن ملك أرضًا ملك ما فوقها من أجواء وفضاء. 8 - قال العلماء: إنَّ الحديث صريحٌ بأنَّ الأرض سبع طباق، إذ لم يطوق من غصب شبرًا، إلاَّ أنَّه تابع له في الملك، ويعضده ما رواه الإمام أحمد (16913) من حديث يعلى بن مرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض، كلفه الله عزَّ وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه إلى يوم القيامة حتى يفض بين الناس"، وهذا موافق لقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. * فوائد: الأولى: قال الشيخ تقي الدين: إذا كان بيد الإنسان أموال مغصوبة، وسرقات، وأمانات للناس، وودائع، ورهون، ونحو ذلك، لا يعرف أصحابها، فله الصدقة بها، وله صرفها في مصالح المسلمين، ويبرأ من عهدتها. الثانية: قال الشيخ تقي الدين: من كسب مالاً حرامًا ثم تاب، كثمن خمر، ومهر بغي، فإن كان لم يعلم التحريم ثم علم، جاز له أكله. وإن كان يعلم التحريم أولاً ثم تاب، فإنَّه يتصدق به، كما نصَّ عليه الإمام أحمد. الثالثة: قال الشيخ تقي الدين: من اختلط في ماله حرام وحلال، ولم يعرف

أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي له حلال، كما فعل عمر بن الخطاب مع العمال، فإنه شاطَرَهم، فأخذ نصف أموال عماله، وإن عرف قدره تصدق به عن أصحابه. الرابعة: قال الشيخ تقي الدين: المال المغصوب إذا اتَّجر به الغاصب ونمَّاه فربح، فأعدل الأقوال أن يكون الربح مناصفة بينه وبين صاحب المال، وهذا قضاء عمر الذي وافقه عليه الصحابة، وقد اعتمد عليه الفقهاء، وهو العدل؛ لأنَّ النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح. الخامس: قال الشيخ عبد الله بن محمَّد: كل قوم لهم عادة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، يفعلون ذلك مستحلين له في جاهليتهم، فإنَّهم إذا علموا واستقاموا لم يطالبوا بما فعلوه في جاهليتهم مما تملكوه من المظالم، ونحوها. وأما الديون، والأمانات، فإنَّ الإسلام لا يسقطها، بل أداؤها إلى أربابها، والله أعلم. ***

768 - وعَنْ أَنَسٍ -رَضيَ اللهُ عنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحدى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيْهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ القَصْعَةَ، فَضَمَّنَهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعامَ وَقَال: كُلُوا، وَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ، وحَبَسَ المَكْسُورَةَ" رَواهُ البُخَارِيُّ، وَالتِّرمِذِيُّ وسَمَّى الضَّارِبَةَ عَائِشَةَ، وَزَادَ فَقَالَ: النَبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ" وصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بعض نسائه: عند عائشة -رضي الله عنها-. - إحدى أمهات المؤمنين: المرسلة زينب بنت جحش -رضي الله عنها-. - خادم: قال في المصباح: الخادم غلامًا كان أو جاريةً، والخادمة في المؤنث قليل، والجمع خدم وخدَّام. - قصعة: بفتح القاف، وسكون الصاد، وفتح العين، آخره تاء التأنيث، وعاء يؤكل فيه ويشرب، وكان يُتَّخذ من الخشب غالبًا، جمعه قصاع وقصع. - ضمَّها: أي جمع القصعة المكسورة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ من أتلف لغيره شيئًا، أنَّه يضمنه بمثله، سواء كان المتلف مثليًا، كالمكيل والموزون، أو غير مثلي، كالثوب والإناء، وسيأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البخاري (2481)، الترمذي (1359).

2 - وفيه بيان الغيرة الشديدة بين النساء، حتى ذوات الفضل العظيم، والشرف الكبير زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشدة الغيرة من الزوجة، دليل زيادة المحبة. 3 - فيه حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- من العفو، والصَّفح، والسماح، حيث لم يعاقب كاسرة القصعة اعتداء. وهذا راجعٌ إلى صفحه، وكرم خلقه، وإلى تقديره لحال النساء، وما جُبِلن عليه. 4 - قال شيخ الإسلام: عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمرٌ لابد منه، فهو من أركان الشريعة. فقيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، ونحو ذلك، وقد جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق شِرْكًا له من عبد، قوِّم عليه قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط" وقال -صلى الله عليه وسلم- في بِرْوَع بنت واشق: "لها مهر مثلها، لا وكس، ولا شطط". فهو محتاج إليه فيما يضمن بإتلاف النفوس والأموال والأبضاع، والمنافع. وما يضمن بالعقود الفاسدة والصحيحة، فهو نفس العدل، ونفس الوفاء، وهو متَّفق عليه بين المسلمين، بل وبين أهل الأرض، وهو معنى القسط الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل فيه الكتب، وهو مقابل الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها، فعوض المثل هو مثل المسمى في العرف والعادة. 5 - فيه أنَّ الإناء المكسور، والثوب المشقوق، ونحوهما، يكون للمعتدي بعد أن أُخِذ منه الصالح، بدل الذي كسر. هذا هو الظاهر من قوله: "ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحَبَس المكسورة" يعني في بيت الكاسرة التي أُخِذ إناؤها وأرسله إلا مُرسلة الطعام. 6 - فيه أنَّ بعث الطعام أو الشراب من زوجة لبيت زوجة أخرى، فيه الزوج تلك الليلة وذلك اليوم أنَّه جائز، ولا يعتبر من الميل لزوجة على أخرى، فإنَّ

النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ الإرسال، وأمر بأكل الطعام بعد أن جمعه. 7 - فيه جواز اتخاذ الخدم في البيوت؛ للقيام بما يناسبهم من الأعمال المنزلية. 8 - فيه فضيلة احترام نعم الله تعالى وأكلها، ولو سقطت في الأرض ما دام أنَّها لم تتلوث، وهذا خلاف ما عليه كثير من الناس من إلقاء نعم الله تعالى النظيفة الكثيرة في الأماكن القذرة، فهذا من المحرَّمات، ومن كفران نِعَم الله تعالى. 9 - فيه مؤاخذة الإنسان على إتلافه مال غيره وغُرمه إيَّاه، ولو صدر منه ذلك في حالة غضب وانفعال. 10 - فيه استحباب عدم الترفع عن الأكل، واستعمال الإناء المكسور. 11 - هذا الحديث لا علاقة له بباب الغصب حسب ما اصطلح على تعريفه الفقهاء، وإنما كان هذا من باب الإتلاف، لأنَّه ليس استيلاء؛ لذا فحقه أن يورد في باب ضمان المتلفات، ويحتمل أن تكون مناسبته لباب الغصب هو أنَّ عين المغصوب إذا تلفت تضمن بمثلها، والله أعلم. * خلاف العلماء: جمهور العلماء أنَّ المِثلي إذا أُتْلِفَ يُضْمن بمثله، والمثلي عند الحنابلة هو "المكيل والموزون". وبعضهم يزيد في المثلي أيضًا "المعدود والمذروع". وأما المتقوم فيضمن بقيمته. ويستدلون لضمان المثلي بمثله بقوله تعالي: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، والمماثلة لا تتحقق إلاَّ في المكيلات والموزونات. ودليل ضمان المتقوم بقيمته قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق شِركاً له في عبدٍ، قُوِّم عليه قيمة عدل" [مُتَّفقٌ عَليْهِ].

فأمر بالتقويم في حصة الشريك؛ لأنَّها متلفة بالعتق، ولم يأمره بالمثل. وذهب طائفة من العلماء ومنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، إلى أنَّ المغصوب يضمن بمثله مكيلاً كان، أو موزوناً، أو غيرهما حيث أمكن، وأنَّه لا يعدل إلى القيمة إلاَّ إذا أعوز المثل أو تعذر، واستدلوا على ذلك بأدلة منها قوله تعالى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11]. ولحديث الباب الذي معنا في ضمان القصعة بمثلها، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إناءٌ بإناءٍ" قال الشيخ تقي الدين: إنَّ القصاص مشروع في الأنفس والأطراف، وهي أعظم قدرًا من الأموال. وقال الشيخ أيضا: إنَّ ضمان المال بجنسه أقرب إلى العدل، من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير. وشيخنا عبد الرحمن السعدي يرجح هذا القول، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، رَحمَه الله تعالى. قال ابن موسى: إنَّ هذه الرواية هي المذهب. ***

769 - وَعنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِن الزَّرْعِ شَيءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُقالُ: إِنَّ البُخَارِيَّ ضعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: أخرجه أبو داود والترمذي من حديث رافع بن خديج مرفوعًا، وحسَّنه الترمذي لشواهده، وإلاَّ فإسناده ضعيف؛ لضعف بعض رجال سنده، كما أعلَّ بالانقطاع، بين عطاء بن أبي رباح، ورافع بن خديج. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب. ولكن له طرق تقوي بها هي: عن أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب قال: كان ابن عمر لا يرى فيها شيئًا ثابتًا، حتى بلغه عن رافع بن خديج أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى زرعاً في أرض ظهير بن رافع فأعجبه، فقال: "ما أحسن هذا الزَّرع! فقالوا: إنَّه ليس لظهير، ولكنه لفلان، قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة". فهذا الإسناد صحيح، لا علة فيه، وهو شاهدٌ قوىٌ لحديث شريك، وقد حسَّنه الترمذي، ونقل تحسينه عن البخاري، والله أعلم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم من غصب أرضًا وزرعها. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 465)، أبو داود (3403)، الترمذي (1366).

فذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الزرع للغاصب، وأنَّ لصاحب الأرض قلعه قبل الحصاد، وأما بعد الحصاد فليس له إلاَّ أجرة الأرض. وذلك لما في سنن أبي داود وغيره أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس لعِرق ظالمٍ حقٌّ" وذهب الإمام أحمد وإسحاق إلى أنَّ صاحب الأرض تملك الزرع بمثل بذره وقيمة لواحقه من حرث، وسقي، ونحوهما، وله إبقاء الزرع للغاصب، بأجرة مثله إلى الحصاد. هذا إذا أدرك الزرع قائمًا لم يحصد، وأمَّا بعد حصد الزرع، فليس له إلاَّ الأجرة. وحديث الباب من أدلة القول الذي ذهب إليه الإمام أحمد وأتباعه. وقال الشيخ تقي الدين: من زرع أرضًا بلا إذن شريكه، والعادة جارية بأنَّ من زرع فيها له نصيبٌ معلوم، ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. ثم قال: لو طلب أحد الشريكين من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فيها فأبى، فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة. وكذلك دارٌ بينهما فيها بيتان، سكَن أحدهما بيتًا منهما، فلا يلزمه شيء. وصوَّبه في الإنصاف، وقال: إنَّه لا يسع الناس غيره. * فوائد: الأولى: قال الشيخ تقي الدين: المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتى حصل منه نماء، ففيه أقوال للعلماء، هل النماء للمالك وحده أو يتصدق به، أو يكون بينهما كما يكون إذا عمل فيه بطريق المضاربة؟ كما فعل عمر لما أقرض أبو موسى ابنيه من مال الفيء فتوقف عمر، فقال له بعض الصحابة: تجعله مضاربة بينهما وبين المسلمين، لهما نصف الربح، وللمسلمين نصف الربح، فعمل عمر بذلك. وهذا ما اعتمده الفقهاء في المضاربة، فإنَّ النماء حصل بمال هذا

وبعمل الآخر، فلا يختص أحدهما بالربح. الثانية: قال الشيخ: وإن بقيت بيده غصوب لا يعرف أربابها، صرفها في مصالح المسلمين، وكذا حكم رهون، وودائع، وسائر الأمانات. قال في حاشية المقنع: ولا يجوز لمن هي بيده هذه الأشياء أن يأخذ منها شيئًا لنفسه، وخرَّج بعضهم جواز الأكل إذا كان فقيرًا. الثالثة: قال الشيخ: من كسب مالاً حراماً ثم تاب، فإن لم يعلم بالتحريم، ثم علم جاز له أكله، وإن علم بالتحريم أولاً، ثم تاب تصدق به، وإن كان فقيرًا أخذ كفايته منه. الرابعة: قال الشيخ: من اختلط ماله من حلالٍ وحرامٍ، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي حلال، كما فعل عمر مع العمال، وإن عرف قدر الحرام، فإن عرف مالكه رده إليه، وإلاَّ تصدق به عن صاحبه. الخامسة: قال الشيخ: إذا كان جميع ما بيد الإنسان مأخوذًا بغير حق فيرده إلى أهله، وإن كان كسبٌ فأعدل الأقوال أنَّ الربح بينه وبين أصحاب الأموال كالمضاربة. السادسة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الأيدي التي تضمن النفوس والأموال ثلاث: الأول: يد متعدية، وضابطها كل من وضع يده على مال غيره ظلمًا. الثانية: اليد المباشرة، فمن أتلف نفسًا، أو مالاً بغير حق، عمدًا أو سهوًا أو جهلاً، فإنَّه ضامن. الثالثة: اليد المتسببة، فمن فعل ما ليس له فعله في ملك غير، أو في الطرق، أو تسبب لإتلافه بفعل غير مأذون فيه، فتلف بسبب فعله شيء ضَمِنَهُ.

770 - وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أرْضٍ، غَرَسَ أحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلاً، وَالأرْضُ لِلآخرِ، فَقَضَى رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَأمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أنْ يُخرِجَ نَخْلَهُ، وَقَال: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَآخِرُهُ عنْدَ أصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي تَعْيِيْنِ صَحَابِيِّهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه النسائي والترمذي، وأعلَّه الترمذي بالإرسال، ورجَّح الدارقطني إرساله، ورواه أبو داود الطيالسي، من حديث عائشة، وفي إسناده زمعة وهو ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة من حديث كُثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وعلَّقه البخاري بقوله: ويروى عن عمرو بن عوف، وللحديث طرق قوي بها، تُروى عن سعيد بن زيد، وعائشة، وسمرة بن جندب، وعبادة بن الصامت، ورجل من الصحابة وغيرهم: 1 - حديث سعيد: أخرجه أبو داود وعنه البيهقي، والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريب، وهذه الطريق موصولة عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) أبو داود (3074).

والطريق الثاني: عن هشام عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، والطريق الأولى الموصولة رجالها كلهم ثقات رجال الشيخين، فهي صحيحةٌ، وقد قواها الحافظ في الفتح. 2 - أما حديث عائشة: فيرويه عروة عنها، فقد أخرجه الطيالسي والبيهقي والدارقطني، وفيها زمعة بن صالح ضعيف، لكن رواه القضاعي من طرقٍ أخرى، ورواته ثقات، وهذا يؤيد القول بصحته. 3 - أما حديث الرجل من الصحابة: فيرويه محمد بن إسحاف عن يحيي بن عروة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فذكره، أخرجه أبو داود وأبو عبيد، ورجال سنده ثقات، لولا أنَّ محمَّد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، ومع ذلك فقال الحافظ: إسناده حسن. 4 - أما حديث سمرة، فيرويه الحسن عنه مرفوعاً، فقد أخرجه البيهقي وأبو داود وعلته عنعنة الحسن البصري. 5 - أما حديث عبادة، فيرويه إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أخرجه أحمد والطبراني، قال الهيثمي: وإسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة وهو مجهول الحال، قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق الطرق المذكور كلها: وفي أسانيدها مقالٌ، ولكن يقوي بعضها بعضًا، وهذا بالنظر إلى قوله: "ليس لعرق ظالم حقٌّ"، وأما الشطر الأول من الحديث فصحيح قطعًا، فقد أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة. * مفردات الحديث: - لعِرْق ظالم: بكسر العين وسكون الراء آخره قاف. يروى بتنوين "عرق" فيكون "ظالم" نعت لـ"عرق"، وأسند إليه الظلم؛ لأنَّ الظلم حصل به، ويروى بغير تنوين، فيكون مضافا إلى ظالم، فمن نوَّن جعله ظالماً بنفسه تشبيهاً، ومن لم ينون فهو على حذف مضاف، أي لذي عرق ظالم.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم الاعتداء والاستيلاء على حقوق الناس، وإن اعتدى على أرض غيره، أو حقه فهو ظالمٌ آثمٌ، وحقوق العباد لا مفر من تبعتها إلاَّ بالبراءة منها. 2 - أنَّ غرس المعتدي، وبناءه لا حرمة لهما, لأنَّهما وضعا بغير حق، وليس لعرق ظالم حق إبقاء الغرس، أو البناء. 3 - أنه يجب في الحال رد الأرض المغصوبة إلى صاحبها، وإن كان فيه غرس، أو بناء تجب إزالته، وتسليم الأرض خالية مما يشغلها. 4 - إذا حصل ضرر من وضع الغرس كحفر، أو أكوام ترابية ونحو ذلك، فعلى المعتدي إزالة الضرر الحاصل من فعله العدواني؛ لأنَّ هذا أثر اعتدائه، فيجب عليه إزالته، ويلزمه أيضًا أرش نقص الأرض إن نقصت. 5 - قال ربيعة بن عبد الرحمن: العِرق الظالم يكون ظاهرًا، ويكون باطنًا، فأما الباطن فما حفر من الآبار، واستخرج من المعادن، والظاهر ما بناه أو غرسه. 6 - قال فقهاؤنا: وإن بنى في الأرض المغصوبة، أو غرس بلا إذن ربها، لزمه قلع الغرس، وإزالة البناء إذا طالبه المالك بذلك. قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أنَّ من غرس نخلاً أو كرمًا في غير أرضه، أنه يؤمر بالقلع، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس لعِرق ظالم حقٌّ" هذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وعليه الأصحاب. وعنه رواية أخرى: لا يقلع بل يملكه صاحب الأرض بالقيمة. ***

771 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَموَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بلَدِكُمْ هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إنَّ دماءكم: فيه حذفٌ، تقديره: سفك دماءكم، وكذا التقدير: أخذ أموالكم، وسلب أعراضكم. - كحرمة: يُقال: حرمه الشيء يحرمه حرمانًا: منعه إياه، والحرمة لها معانٍ عدة، والمراد هنا: هو ما لا يحل انتهاكه من المحرمات شرعًا. - يومكم هذا: عيد الأضحى، الذي هو اليوم العاشر من ذي الحجة. - في شهركم هذا: شهر ذي الحجة. - في بلدكم هذا: في منى، التي هي من حرم وضواحي مكة المكرمة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان في حجة الوداع حجَّ معه جمع كبير من المسلمين؛ ليكونوا في بركة صحبته، وليأخذوا عنه أحكام المناسك. 2 - أخذ يعظ الناس ويذكرهم في هذه المجامع الكبيرة، ليبلغ شاهدُهُم غائبهم، فصار يلقي عليهم في عرفات، وفي منى خطبًا، فيها جوامع الكلم، وفيها أصول الأحكام، وقواعد الدين، فكان ممَّا قال: 3 - أنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ¬

_ (¬1) البخاري (67)، مسلم (1679).

في بلدكم هذا. 4 - فأعظم المحرَّمات بعد الشرك بالله تعالى الدماء المعصومة، التي جاء في الحديث الصحيح: "أنَّه لا يحل دم امريء مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". 5 - فالدماء المعصومة هي أحد الضرورات الخمس، التي جاء الدين بحمايتها وصيانتها، وشرع القصاص، والديات، والحدود؛ للمحافظة عليها، وهي: الدين، والنفس، والعِرض، والعقل والمال. 6 - وفي الحديث تعظيم يوم النحر وأيام التشريق. قال شيخ الإسلام: عيد النَّحر أفضل من عيد الفطر، فإنَّه يجتمع فيه عيد المكان، وعيد الزمان. 7 - وفي الحديث تعظيم حرمة شهر ذي الحجة؛ لأنَّه أحد الأشهر الحرم، قال تعالى عنها: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. ويزيد ذو الحجة بأنَّ فيه هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو الحج. 8 - وفي الحديث تعظيم حرمة البلدة المقدسة، التي قال الله تعالى عنها: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]. وما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن عدي أنَّه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في سوق مكة: "والله إنَّك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خَرجتُ". 9 - الحسنات تضاعف بحسب الزمان، كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، والأشهر الحرم، وحسب المكان، وهي المساجد الثلاثة، والمشاعر المقدسة، كما أنَّ المعاصي والآثام يعظم جرمها وإثمها حسب مكانها

وزمانها. 10 - وفيه تعظيم حقوق المعصومين في الدماء والأعراض والأموال، وأنَّ أمرها كبير. 11 - وفيه أنَّ ما هو داخل في حدود الحرم حكمه، حكم مكة في مضاعفة الثواب، وعظم العقاب، ومن حيث التعظيم والاحترام فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خطب في منى فقال: "أليست البلدة". * قرار مجلس هيئة كبار العلماء بشأن ضمان البهائم: قرار رقم (111) في 2/ 11/ 1402 هـ: قرر ما يلي: عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالإسفلت، إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطرق المذكور، فصُدمت، فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها، لما يترتب على ذلك من أخطار جسيمة، تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرر الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق، والأخذ بالحيطة في حفظ الأموال والأنفس، تحقيقًا للمقتضى الشرعي، وتحرِّيًا للمصالح العامة، وامتثالاً لأمر ولي الأمر. ... انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله (باب الشفعة)

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الخامس مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

جَميع حُقوق الطَّبع محَفوظَة للِمؤَلّف الطبَعة الخامِسَة طبعَة مصححَّة وَمحققَّة وفيهَا زيَادَات هَامَّة 1423هـ - 2003م مكتَبة الأسَدى مَكّة المكرَّمة - العَزيزَيَّة - مَدخَل جَامِعة أم القُرَى هاتف: 557056 - فاكس: 5575241 صَ. بَ: 2083

باب الشفعة

باب الشفعة مقدمة الشفعة: بضم الشين، وسكون الفاء. والشفع لغة: الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضممت فردًا إلى فرد فقد شفعته، ومن هنا اشتقت الشفعة، لأنَّ الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته. والشفعة تطلق على التملك، وعلى الحصة المملوكة. فتعريفها شرعًا على المعنى الأول، -وهي المرادة في هذا الباب- هي: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي. وعلى المعنى الثاني هي: اسم للجزء المملوك المشفوع بملك الشريك الشافع. والشفعة ثابتة بالسنة، وإجماع العلماء، ويقتضيها القياس. أما السنة: فأحاديث الباب وغيرها. قال الموفق: ما كان عوضه المال، ففيه الشفعة بالإجماع. * حكمتها: لما كانت الشركة بالعقار يحصل منها أضرار عظيمة، ومشاكل جسيمة، وتطول مدة الشراكة فيها صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح.

فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشتري، منفعةٌ عظيمةٌ للشريك الشافع، ودفع ضرر كبير عنه بلا ضرر يلحق البائع ولا المشتري، فكل منهما أخذ حقه كاملاً غير منقوص، وبهذا يعلم أنَّ الشفعة جاءت على الأصل، ووفق القياس. قال ابن القيم: هي من محاسن الشريعة وعدلها، وقيامها بمصالح العباد، ومنها يعلم أنَّ التحايل لإسقاطها مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له. والشرع كله خير وبركة، فلا يأمر إلاَّ بما تكمل مصلحته، أو تزيد مصلحته على مفسدته. ولا ينهى إلاَّ عمَّا فيه مضرة كاملة، أو مضرته ومفسدته تزيد على مصلحته، فتبارك الله أحسن الحاكمين. ***

772 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَاريِّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَصْلُحُ -وَفِي لَفْظٍ: لاَ يَحلُّ- أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلى شَرِيكِهِ". وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: "قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيءٍ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية الطحاوي. قال عنها الحافظ وابن عبد الهادي: رجال سندها ثقات، وقال الحافظ أيضًا: لا بأس بها، ولها شواهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وقد أعلت بالإرسال. * مفردات الحديث: - قضى: القضاء له معنيان: أحدهما لغوي: وهو الإلزام والإجبار والفراغ والتقدير. الثاني: شرعي اصطلاحي: وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات على وجه خاص، صادر من ولاية عامة. - بالشُّفْعة: بضم الشين وسكون الفاء، قال بعض أهل اللغة: وغلط من حرَّكها، ¬

_ (¬1) البخاري (2257)، مسلم (1608)، الطحاوي (4/ 126).

واختلف في اشتقاقها في اللغة على أقوال. وهي هنا: من الشفع وهو الزوج؛ لأنَّ الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا، فهى خلاف الفرد. قال ابن حزم: هي لفظة شرعية لم تَعرِف العرب معناها قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. - وقعت: وقع الحق يقع وقوعًا ثبت. ومعنى وقعت الحدود أي: عُيِّنَتْ وصُرِّفت. - الحدود: جمع حد يقال: حد الشَّيء عن الشيء ميزه عنه، وهو هنا: ما تميز الأملاك بعضها عن بعض. - صُرِّفت الطرق: بضم الصاد وكسر الراء مشددة ومخففة، فعل ماضٍ، مبني للمجهول، بمعنى بينت المصارف والطرق والشوارع فيما بين العقارات. - رَبعْ: بفتح الراء وسكون الباء آخره عين مهملة، يقال: ربع المكان أي أقام واطمأنَّ، والربع: الدار بعينها حيث كانت، جمعها رباع وربوع. - حائط: حاطه يحوطه حوطًا وحيطة: حفظه وصانه، والحائط الجدار؛ لأنَّه يحوط ما فيه، ويطلق الحائط هنا على البستان من النخيل المحاط بجدار منيع، وجمعه حوائط. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه الشريعة الحكيمة الرشيدة جاءت لإحقاق الحق ووضع العدل، ولدفع الشر والضرر، ولتحقيق هذا المعنى السامي الكريم نُظُم مستقيمة، وأحكام عادلة. 2 - الشركة في العقار تسبب أضرارًا كثيرة، وتولد مشكلات كبيرة بين الشريكين أو الشركاء، والقسمة شاقة، وربما سببت ضررًا إذا توزع العقار إلى قطع صغار لا يستفاد منها، وتنقص القسمة قيمتها. لذا شرعت الشفعة للتخلص من الشركة وأضرارها، بأسهل طريق،

وأعدل منهج. 3 - هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة ومشروعيتها، وهو مستند الإجماع عليها. 4 - صدْر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في كل شيء حتى المنقولات، وأما آخره فيحدد مدلولها بالعقار، وما يتبعها من الشجر والبناء، إذا كانا في الأرض التي جرت بها الشفعة. 5 - تكون الشفعة في العقار المشترك الذي لم تميز حدوده، ولم تعرف طرقه، لإزالة ضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع. 6 - إذا ميزت الحدود، وصُرفت الطرق فلا شفعة؛ لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاف، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. 7 - بهذا يعلم أنَّ الشفعة لا تثبت لجارٍ ما لم يكن هناك مرافق مشتركة، فإنَّها تثبت، وسيأتي بيان الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. 8 - استدل بالحديث على أنَّ الشُّفعة لا تكون إلاَّ فى العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، وذلك أخذًا من قوله: "في كل ما لم يقسم"؛ لأنَّ الذي لا يقبل القسمة لا يحتاج إلى نفيه، وسيأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. 9 - أما رواية الطحاوي: "أنَّ الشفعة في كل شيء" فهي مقيَّدة بالروايات الأخر التي خصَّت الشفعة في العقار الذي تطول مدة شركته، ويطول ضررها ويكثر. 10 - تثبت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة، ولذا اختصت بالعقارات؛ لطول مدة الشراكة فيها، وأما غير العقار فضرر الشراكة فيه يسير، ويمكن التخلص منه بوسائل كثيرة من القسمة التي هي فيه، التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع وغير ذلك.

11 - الشفعة حق واجب للشفيع، والحقوق لا يجوز التحيل لإسقاطها، فمن أسقطها بطرق كاذبة، وتمويهات باطلة، فقد ظلم نفسه بارتكاب المعصية، وظلم الشفيع لحرمانه من حقه الذي أوجبه الله تعالى له، وتعدى على حدود الله تعالي التي شرعها لعباده، فأسقطها بأدنى الحيل. قال الإمام أحمد: يحرم التحيل لإسقاط الشفعة، ولإبطال حق مسلم. وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز باتفاق العلماء. وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع، والراجح أنَّه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرَّم فهي باطلة. 12 - فيه حسن أدب المشاركة، وهو أنَّ الشريك إذا أراد أن يبيع نصيبه، فيحسن أن يعرضه على شريكه، فإن رغب شراءه فهو أحق به من غيره؛ لحق الشراكة والجوار والصحبة بين الشريكين، ويزيل عن أخيه وشريكه عناء الشفعة. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم "قسمة إجبار"، وهو العقار الواسع الذي لا تمييز بين أجزائه فلا ضرر في قسمته، ولا رد عوض من أحد الشريكين أو الشركاء على الآخر، فهذا تثبت فيه الشفعة بالإجماع. واختلفوا في الدار الصغيرة، والحمام، والحانوت، ممَّا مساحته قليلة، ولا تجب قسمته قسمة إجبار. فالمشهور من مذهب الإمام أحمد عدم جواز الشفعة فيها، لما روى أبو عبيد في الغريب أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا شُفعة في فِناء، ولا طريق، ولا منقبة".

وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى ثبوت الشفعة في هذه الأمكنة الضيقة، ولو لم تجب قسمتها "قسمة إجبار". واختار هذا القول ابن عقيل، وابن الجوزي، وتقي الدين ابن تيمية، وشيخنا عبد الرحمن السعدي؛ لعموم الأخبار في ثبوت الشفعة، ولِما روى الترمذي والنسائي موصولاً ومرسلاً عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشريك شفيع في كل شيء"؛ ولأنَّ الشُّفعة ثبتت لإزالة ضرر الشراكة، وهي في هذا النوع من العقار أكثر ضررًا. * قرار مجلس هيئة كبار العلماء: رقم (44) في 3/ 4/ 1396 هـ ما نصه: "كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار، كالبيت والحانوت الصغيرين ونحوهما لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع، ولأنَّ النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك". أما الأماكن المذكورة في الحديث الذي رواه أبو عبيد فعلى فرض صحة الحديث، فإنَّ الفِناء هو الساحة العامة بين البيوت، والمنقبة هي الطريق الضيق بين الدارين، والطريق هو الدرب العام، وهذه الأشياء الثلاثة ليست مملوكة لتصح فيها الشفعة، وإنما هي مرافق مشتركة بين البيوت ينتفع فيها حسبما جرت به عادة السكان. ***

773 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بالدَّارِ" روَاهُ النَّسَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ عِلَّةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث معلول، والصواب فيه أنَّه عن سمرة بن جندب. قال الألباني ما خلاصته: الحديث روي من طريقين: 1 - الحسن البصري عن سمرة بن جندب، أخرجه أبو داود (3517)، والترمذي (1368)، والبيهقي وأحمد، وغيرهم، وهو صحيح. 2 - عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة عن أنس مرفوعًا، أخرجه ابن حبان والضياء، وعلقه الترمذي وقال: الصحيح عند أهل العلم، حديث الحسن عن سمرة، لا نعرف حديث قتادة عن أنس إلاَّ من حديث عيسى بن يونس. وقال الدارقطني: عن الحسن عن سمرة، وهو الصواب. ... ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى كما في "التحفة" (4/ 69) من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة.

774 - عَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، وَفِيهِ قِصَّةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - صقَبه: بفتح الصاد والقاف. قال في النهاية: الصَّقَب: القُرب والملاصقة، فهو ما قرب من الدار، فالصاقب: القريب. ويقال سقب بالسين، قال ابن دريد: اللغتان فصيحتان. أي تقاربت أبياتهم، وأبياتهم متساقبة: أي متدانية. قال في جامع الأصول: وهو بالصاد أكثر، وهما مصدر أسقبت الدار وصقبتها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حق الجار على جاره كبير، فقد جاء في الحديث الصحيح أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". 2 - من تلك الحقوق أنَّ الجار إذا أراد بيع عقاره، فيحسن أن يعرضه على جاره، إن أراد شراءه فهو أحق به من غيره؛ لأنَّه قد يحصل عليه من المجاورة ضرر وأذى، لا يزول إلاَّ بالشراء، وربما يشتريه من لا يرغب جواره ولا قربه، وكما قيل: "الجار قبل الدار"، فبشرائه يندفع عنه كثير من الأذى والضرر. * خلاف العلماء: ذهب أبو حنيفة إلى ثبوت الشفعة للجار مطلقًا، سواءٌ كان له مع شريكه مرافق مشتركة أو لا، لظاهر هذين الحديثين. ¬

_ (¬1) البخاري (2258).

وذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم إذا صرفت طريقه، لما في الصحيحين: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، ولأنَّ الشُّفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر، والجار ليس عنده من الضرر ما يحتم إثبات الشفعة له. وأما الحديثان فلا يقاومان الأحاديث المعارضة لها كثرة وقوة، ويمكن أن يراد بهذين الحديثين الجار الذي له مع جاره مرافق مشتركة من طريق واحد، أو مسيل، أو بئر مشتركة، أو نحو ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء، والراجح ثبوت الشفعة له، كما سيأتي تحقيقه قريبًا إن شاء الله تعالي. ***

775 - وَعَن جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِباً، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي من طرق عن عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبد الملك عن عطاء عن جابر، وعبد الملك ثقة، رُوِي عن ابن المُبَارك عن الثوري، قَال: عبد الملك بن أبي سليمان ميزان في العلم. قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر، قال الشافعي: يخاف ألا يكون محفوظًا، ومال البخاري إلى أنَّه منكر، لمعارضته حديث جابر في قوله: "إذا كان طريقهما واحدًا". قُلتُ: واعتبار هذا الحديث منكرًا من الأئمة المتقدم ذكرهم هو لهذه الزيادة، وهي لا توجب نكارته، فهي زيادةُ قيد ثابتة مقبولة، وجاءت مقيِّدة لطرفين من أحاديث الشفعة متباعدين: أحدهما: يثبت الشفعة للجار مطلقًا، والآخر: يمنع الشفعة عن الجار مطلقًا، فجاء هذا القيد يجمع بين الأحاديث، وبهذا فلا نكارة فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 303)، أبو داود (3518)، الترمذي (1369)، النسائي في "الكبرى" (2/ 229)، ابن ماجه (2494).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يُثْبت حق الشُّفعة للجار، لأنَّ الجار له حق كبير على جاره، ومن تلك الحقوق تقديمه وإيثاره ببيعه ما يليه من عقار جاره، ليزول عنه أذى الجوار ومزاحمته. 2 - ومثل هذا الحكم الرشيد يعلم به ما في الإسلام من رعاية كريمة للحقوق، ورغبة في إطفاء الشر والفتنة التي قد تقع بين الجارين، وذلك بحسم مادة الخلاف بينهما، حينما يكون العقاران المتلاصقان لشخصٍ واحد. 3 - كما أنَّ في الإسلام وفاءً وآدابًا سامية وحقوقًا فيما بينهم قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. فهذه حقوقٌ عشرة ابتدأت بأهمها وهو حق الله تعالي. 4 - مشروعية انتظار بيع العقار حتى يحضر جاره الغائب؛ لأنَّ في بيعه على غيره تفويتَ كثيرٍ من مصالحه، وإلحاق ضرر به، قد لا يتمكن من تلافيه، فاستحب للجار الذي يريد البيع انتظاره، فإنْ بِيع العقار في غيبة الشريك فهو على شفعته إذا حضر. 5 - إذا كان بين الجارين مرفق مشترك، كأن يكون طريقهما واحدًا، أو يكون مسيلهما واحدًا، أو بينهما فناء مشترك، أو نحو ذلك من المنافع والمرافق التي هم فيها شركاء، فهذه تؤكد حق الانتظار، وتوجب حق الشفعة للجار، سواء كان حاضرًا، أو إذا قدم وعلم. وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. 6 - قوله: "وإن كان غائبًا" قال الطيبي في شرح المشكاة: الواو أثبتها الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، وصاحب جامع الأصول، وسقطت في

نسخ مصابيح السنة، والأوَّل أوجه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في ثبوت الشفعة إذا كان بين الجارين مرفق أو مرافق مشتركة من طريق واحد أو مسيل أو فِناء أو غير ذلك. فذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا شفعة للجار بشيء من هذه المرافق، فإنَّه مما وقعت الحدود وصُرفت الطرق فلا شفعة، ولو وجد شراكة في الانتفاع بشيء منها. ودليلهم على هذا القول ما في الصحيحين: "فإذا وقعت الحدود، وصُرفت الطرق فلا شفعة". قال الإمام: إنَّه أصح ما روي في الشفعة. وذهب الإمام أبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه إلى ثبوت الشفعة بوجود شيء من هذه المرافق، واختار هذا القول شيخ الإسلام، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي، -رحمهم الله تعالى-. وهذا القول يجمع الأدلة كلها: فحديث: "فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق" منطوقه انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده، وإنَّ منطوق حديث: "الجار أحق بشفعة جاره يُنْتَظر بها، وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحدًا" إثبات للشفعة بالجوار عند اشتراك في الطريق، وانتفاؤها عند تصريف الطريق، فتوافق منطوقا الحديثين. قال شيخ الإسلام: أعدل الأقوال أنَّه إذا كان شريكًا في حقوق الملك ثبت له الشفعة، وإلاَّ فلا. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن الشفعة للجار: وقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا برقم (44) في 13/ 4/ 1396 هـ جاء فيه ما نصه:

"وبعد الاطلاع على البحث المعد لذلك من قِبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء، وبتبادل وجهات النظر قرَّر المجلس بالأكثرية: أنَّ الشفعة تثبت فيما لا يمكن قسمته من العقار كالبيت والحانوت الصغيرين، ونحوهما، لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع، ولأنَّ النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك". ***

776 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الشُّفْعَةُ كَحَلِّ العِقَالِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالبَزَّارُ، وَزَادَ: "وَلاَ شُفْعَةَ لِغَائِبٍ" وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص: رواه ابن ماجه والبزار من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف جدًّا، وقال البزار: رواه محمَّد بن عبد الرحمن بن السليماني ومناكيره كثيرة، وحكى ابن عدي تضعيفه، وتضعيف شيخه. وقال ابن حبان: لا أصل له، وقال أبو زرعة: منكر، وقال البيهقي: ليس بثابت. * مفردات الحديث: - كحَلِّ العِقَال: الحل بالفتح والتشديد، هو ضد الشدّ. - العِقَال: العقال بكسر العين وفتح القاف، وهو الحبل الذي يعقل به البعير، وغالباً يكون أنشوطة، وحل عقال البعير إطلاقه، والمراد أنَّ الشفعة على الفور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ظاهر الحديث يدل على أنَّ الشفعة تكون على الفور، فإذا علم بها من يستحقها، ولم يبادر بطلبها فاتته، وبطل حقه فيها. قال فقهاؤنا: الشفعة على الفور وقت علمه بها، فإن لم يطلبها إذا علم ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2500).

بلا عذر بطلت. 2 - أما حديث: "لا شفعة لغائب" فهو ضعيف، ولا يعارض الحديث الصحيح المتقدم "يُنْتَظر بها، وإن كان غائباً" [رواه الأربعة ورجاله ثقات]. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا كان الشفيع غائبًا؛ فله إذا قدم المطالبة بالشفعة، ولأنَّها حق مالي وُجِدَ سببه، فتعين له كالإرث. 3 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ حق الشفعة كغيره من الحقوق لا يسقط إلاَّ بما يدل على الرضا بإسقاطه؛ لأنَّ الشارع أثبته لدفع الضرر عن الشريك في العقار، فلا يسقط ما أثبته الشارع إلاَّ بما يدل على إسقاطه من قولٍ أو فعلٍ دال على الرضا بالإسقاط، فمن له حق الشفعة بحاجة إلى أن ينتظر في أمره ويتروى، وأما الحديثان: "الشفعة كحل العقال" و"الشفعة لمن واثبها" فلا يثبت بهما حكم، ولا يبقى الاحتجاج بهما على هدم حكم أثبته الشارع. 4 - قال شيخ الإسلام: وما وُجِد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل؛ لأنَّ الشفعة شرعت لدفع الضرر، فلو شُرع التحيل لإبطالها، لكان عوْداً على إبطال مقصود الشريعة. وقال ابن القيم: من له معرفة بالآثار، وأصول الفقه ومسائله، لا يشك أنَّ تقرير الإجماع من الصحابة على تحريم الحِيَل وإبطالها، ومنافاتها للدين، أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس. وقال ابن القيم أيضا: ومن الحيل الباطلة أن يهب الشقص للمشتري، ثم يهبه ما يرضيه، وهذا لا يسقط الشفعة، فهو بيع وإن لم يتلفظا به، وأنواع الحيل كثيرة والعبرة بالمقاصد. 5 - ذهب الأئمة الأربعة إلى أنَّ الشفيع لو أسقط شفعته قبل البيع لم تسقط، لأنَّه إسقاط حق قبل وجوبه، فلم يصح.

أما ابن القيم فقال؛ إسقاط الشفعة قبل البيع إسقاط لحقٍّ رَضِيَ صاحبه بإسقاطه، فالحق له وقد أسقطه، فإن أذن في البيع، أو قال: لا غرض لي فيه، لم يكن له بعد البيع حق الشفعة، وهذا مقتضى حكم الشرع، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به. وقال في حاشية المقنع: وهو الحق الذي لا ريب فيه. ***

باب القراض أو المضاربة

باب القِرَاض أو المضاربة مقدمة القِرَاض: بكسر القاف وتخفيف الراء المفتوحة، مأخذوة من القرض، هو القطع، فيقال: قارضه يقارضه قِراضًا ومقارضة: قطع له وأعطاه جزءًا من ماله ليعمل فيه بالتجارة. أما المضاربة: فهي مفاعلة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها من أجل الكسب. فهذا مأخذهما اللغوي. أما تعريفهما الشرعي أو الاصطلاحي: فمعناهما واحد. فالقراض: هو أن يعطي شخص شخصًا آخر ماله، أو جزءاً منه؛ ليعمل فيه بالتجارة، ويكون نسبة الربح بينهما على ما شرطاه. أما المضاربة: فهي عقد شركة بين اثنين من أحدهما المال ومن الآخر العمل؛ ليتجر فيه العامل، وما حصل من ربح فهو بينهما على ما شرطاه. وإن خسرت التجارة فصاحب المال خسر ماله أو بعضه، وخسر العامل جهده، وبهذا عرفنا أنَّ القِراض والمضاربة بمعنًى واحدٍ. والمضاربة أو القِراض جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، واستصحاب أصل الإباحة. فأما الكتاب؛ فقوله تعالي: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. وأما السنة: فمنها: ما رواه الإمام أحمد (16380) وأبو داود من حديث

رويفع بن ثابت الأنصاري، -رضي الله عنه- قال: "كان أحدنا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليأخذ نضْو أخيه، على أنَّ له النصف مما يغنم، ولنا النصف" وما رواه الدارقطني (3/ 63) وقوَّى سنده الحافظ ابن حجر "أنَّ حكيم بن حزام كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة: أن لا تجعل مالي في كبد رطْبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلتَ شيئًا من ذلك فأنت ضامن مالي" وغير ذلك من الأحاديث. قال في التلخيص: وفي المضاربة آثار عن كثير من الصحابة منهم: علي ابن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحكيم بن حزام -رضي الله عنهم-. والإجماع: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة. وقال الصنعاني: القِراض مما كان في الجاهلية فأقرَّه الإسلام. والمضاربة مما تدعو إليها الحاجة، وليس فيها محذور فالقياس الصحيح يقتضيها، لاسيما في هذا الزمن الذي توفرت فيه السيولة النقدية عند كثير ممن ليس لديهم الوقت لاستثمارها والاتجار بها. فالمضاربة شكل من أشكال الشركة يقدم فيها أحد الطرفين المتعاقدين قدرًا معلومًا من ماله، ويسمى "صاحب المال". ويتصرف الطرف الثاني بهذا المال بجهده، وعمله، وفكره، ويسمى "المضارب" أو يسمى "العامل". والعامل في هذه الشركة أمين في تصرفاته، ومقبولة أقواله فيما باع واشترى وتصرف، إلاَّ في إعادة المال إلى ربه أو وارثه، فلا يقبل قوله إلاَّ ببينة؛ لأنَّ له حظ نفس في بقاء المال عنده. وما تلف أو نقص من رأس المال أو الربح من غير تعدٍّ منه ولا تفريط فهو غير ضامن له، ومع التعدي أو التفريط فهو ضامن.

والتعدي فعل ما لا يجوز من التصرفات، والتفريط ترك ما يجب فعله في أعمال الشركة. أما المصاريف والنفقات التي تنفق على أعمال الشركة، فهذه يحكمها العرف والعادة، إن لم يكن نص على مَنْ تجب عليه من أحد الطرفين في الاتفاقية. والربح دائمًا وقاية لرأس المال في حال التلف، أو الخسارة، ما لم تنته الشركة وتنقضَّ، فحينئذٍ يبقى الربح سالمًا من تلك الوقاية، والعامل من حين عقد "شركة المضاربة" هو أمين ووكيل، فإن ظهر ربح، فهو مع هذين شريك. والمضاربة عقد جائز، ليس بلازم، فأي وقت أراد أحد الطرفين فسخها فسخت، ووجب على العامل تصفيتها نقودًا. والمضاربة من العقود المباركة، قال الله تعالى فيها في الحديث القدسي: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه" فيجب فيها الصدق والنصح والإخلاص؛ لتحل فيها بركة الله، والله الموفق. ***

777 - عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلاَثٌ فِيهِنَّ البَرَكَةُ: البَيْعُ إِلَى أَجَلٍ، وَالمُقَارَضَةُ، وَخَلْطُ البُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ، لاَ لِلْبَيْعِ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيف؛ ذلك أنَّ في إسناده كلاًّ من صالح بن صُهيب، وعبد الرحيم بن داود، ونضر بن قاسم، قال عنهم كل من البُوصيري والعقيلي والسندي: إنَّهم مجهولون. وقال ابن حزم: كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة، حاشا القراض، فما وجدنا له أصلاً فيهما. اهـ. والذي يقطع به أنَّ القراض كان في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأقرَّه، وهو مستند إجماع علماء المسلمين في ذلك على جوازه. * مفردات الحديث: - المقارضة: قرضت الشيء قرضًا، من باب ضرب، وقارض الرجل من ماله: قطع منه ما دفعه إلى الغير؛ ليعمل فيه، والربح بينهما على ما شرطاه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على وجود البركة في ثلاثة أشياء؛ الأولى: البيع إلى أجل إما عن طريق السَّلم، وإما عن طريق تقسيط قيمة المبيع على المشتري، وفيه بركة، وهذه البركة هي تسهيل المعاملة، وإعانة المشتري على تسليم ثمن ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2289).

المبيع بدون إرهاق له، وإنما يستلم الثمن منه شيئًا فشيئًا، وربما زاد الثمن قليلاً عن ثمن المبيع بالنقد الحاضر مقابل الأجل، فتحصل البركة أيضاً للبائع. الثانية: المقارضة؛ وهي شركة المضاربة، ووجه البركة فيها، وجود عمل للعاطل الفقير بمال غيره، حينما يشتركان، فيكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل، وما حصل من ربح اقتسماه على حسب ما اشترطاه، فكلٌّ منهما استفاد، والغالب أنهما لم يقدما على هذه الشركة إلاَّ في حالة يكون صاحب رأس المال غير قادر على العمل بماله، ويكون العامل قديرًا على العمل ويحسنه، وهو أيضاً عاطل بلا عمل، فتحصل البركة والخير للطرفين. الثالثة: خلط البر بالشعير قوتًا وطعاماً للبيت، ووجه البركة في هذا هو التوفير في النفقة، فإنَّ الشعير رخيص، فإذا خلط بالبر حصل اقتصاد في إنفاق البر الغالي، وفيه مع هذا تواضع في المأكل، يضادّ السرف، ويضادّ التمادي في التنعم، وفيه مشاركة الطبقة الفقيرة في نوع طعامهم، والله من وراء القصد. 2 - عند كثير من الأصوليين أنَّ مفهوم العدد غير مراد، فإنَّ البركة تحصل في كثير من الأشياء، زيادةً على هذه الأشياء الثلاثة المذكورة في هذا الحديث.

778 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ علَى الرَّجُلِ إِذَا اعْطَاهُ مَالاً مُقَارَضَةً، أَنْ لاَ تَجْعَلْ مَالِي فِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَلاَ تَحْمِلْهُ فِي بَحْرٍ، وَلاَ تَنْزِلْ بِهِ فِي بَطْنِ مَسِيلٍ، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذلِكَ، فَقَدْ ضَمِنْتَ مَالِي" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). وقال مالكٌ فِي المُوَطَّأ عَنِ العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أنَّه عَمِلَ فِي مَالٍ لِعُثْمَان عَلى أنَّ الرِّبح بيْنهُمَا" وَهُوَ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: رواه الدارقطني، ورجاله ثقات. قال في التلخيص: رواه البيهقي بسند قوي على شرط الشيخين، وهو موقوف صحيح. أما حديث عثمان فرجاله ثقات هم رجال مسلم، إلاَّ يعقوب المدني، فقال عنه الحافظ: مقبول. * مفردات الحديث: - كبِد: بفتح الكاف وكسر الباء الموحدة، الكبد: عضو في الجانب الأيمن من البطن تحت الحجاب الحاجز. ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 63). (¬2) مالك (2/ 688).

- رطبة: الرطبة هي الناعمة الغضة الطرية، جمعه رطاب، أي لا تشتر الحيوانات؛ لأنَّ ما كان له روح عُرضةٌ للهلاك. - بطْن مسيل: بفتح الباء وسكون الطاء، المراد بذلك بطون الأودية، ومجرى سيل الأمطار، لما في ذلك من تعريض المال لأن يحمله السيل، أو يفسده. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه إثبات أصل شركة المضاربة، وأنَّها من العقود الجائزة، لسيرها على أصول المعاملات الشرعية. 2 - وفيه دليل على جواز اشتراط كل واحد من المتضاربين على صاحبه ماله فيه منفعة، أو ما للعقد والشركة فيه منفعة. 3 - وفيه دليل على نفوذ هذه الشروط واعتبارها، ولولا اعتبارها ونفوذها ما شرطت، إذ لا فائدة من شرطٍ غير لازم. 4 - لكن أي شرط بين متعاقدين يجب أن لا يخالف كتاب الله، ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان مخالفًا لهما فهو باطلٌ، وإن كان مائة شرط. 5 - وفيه أنَّ الأصل عدم وجود الشروط في العقد؛ لأنَّه لا يوجد في العقد إلاَّ بذكره واشتراطه، فمن ادَّعاها فعليه البينة. 6 - من الشروط الجائزة النافذة المعتبرة أن يشترط صاحب المال، أن لا يضع العاملُ ماله في تجارة يخشى تلفها، أو تحتاج إلى زيادة كلفة ومؤنة، كأن يشتري بها حيوانات، أو يحملها في أمكنة مخيفة وخطرة كالبحار، أو في طرق يخشى فيها من قطاع الطريق، وأن يشترط عليه زيادة العناية بها، ومزيد الحفاظ عليها، فلا ينزل بها في بطن وادٍ مسيل، فقد جاء النَّهي عن النزول في بطون الأودية خشية الغرق المفاجيء. 7 - من الشروط المعتبرة النافذة أنَّه إذا شرط عليه تجنب المخاوف في عمله بالمال، أن يقول له: إن تعديت فيه، أو فرطت فيه بمخالفة تلك الشروط

الوقائية، فإنَّك ضامن للمال. فالمفرط والمتعدي ضامن مطلقًا شرطت عليه المحافظة أو لا، ولكن هذا فيه زيادة توثقة، وتأكيدٌ على العامل؛ لئلا يفرط، أو يعتدي فيه. 8 - القصد أي شرط من المالك، أو من العامل هو جائز نافذ، ما لم يخالف حكم الله بما يعود على الشركة بالظلم والغرر، والجهالة والمخاطرة، ونحو ذلك، فهاذه شروط باطلةٌ لاغيةٌ، والله أعلم. * فوائد: الأولى: سميت هذه الشركة شركة مضاربة من الضرب في الأرض، وهو السفر كما قال تعالى: {يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ} [المزمل] أي يطلبون رزق الله تعالى في المكاسب والمتاجر، والغالب على هذه الشركة أنَّ العامل يسافر بالمال للكسب وجلب السلع. الثانية: أنَّها من العقود التي أجازتها الشريعة في السنة، وإجماع العلماء، والحكمة تقتضي إباحتها؛ لأنَّ الناس بحاجة إليها فلابد من التجارة بالمال وتقليبه في التصرفات. الثالثة: أنَّ الربح بينهما على ما شرطاه، وزيادة أحد الشريكين، أو نقصه خاضع وراجع للوقت، وصفة العمل، وغير ذلك من الأمور. فإن قالا: الربح بيننا، فهو نصفان بينهما. الرابعة: إذا اختلف المالك والعامل لمن الجزء المشروط، فالمشهور من مذهب الإمامين، الشافعي وأحمد أنَّه للعامل قليلاً كان أو كثيرًا؛ لأنَّه مستحق بالعمل، وهو يقل ويكثر، ويختلف باختلاف حالة العامل من الحذق وعدمه. الخامسة: إذا خسرت الشركة، فالخسارة من رأس المال على المالك، وأما العامل فخسارته ضياع عمله وجهده.

وإن ربحت فرأس المال للمالك. وأما الربح فيقسم بينهما حسب شرطهما. السادسة: قال ابن القيم: المضارب أمين ووكيل وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وشريك إذا ظهر ربح. * قرار المجمع الفقهي بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار: قرار رقم (30): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وآله وصحبه وسلم. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع: "سندات المقارضة وسندات الاستثمار" والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع، بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، بتاريخ 6 - 9 محرَّم 1408 هـ الموافق 30/ 8 - 2/ 9/ 1978م، تنفيذًا لقرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع، وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه، وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية، وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه، للدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرات على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل. وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها.

قرَّر ما يلي: أولًا: من حيث الصيغة المقبولة شرعًا لصكوك المقارضة: 1 - سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض "المضاربة" بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة، على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصًا شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية "صكوك المقارضة". 2 - الصورة المقبولة شرعًا لسندات المقارضة بوجه عام لابد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصةٍ شائعةٍ في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هاذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعًا للمالك في ملكه، من بيعٍ، وهبةٍ، ورهنٍ، وإرثٍ وغيرها، مع ملاحظة أنَّ الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أنَّ شروط التعاقد تحددها "نشرة الإصدار"، وأنَّ "الإيجاب" يعبر عنه "الاكتتاب" في هذه الصكوك، وأنَّ "القبول" تعبر عنه موافقة الجهة المصدرة. ولابد أن تشمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعًا في عقد القراض "المضاربة" من حيث بيان معلومية رأس مال، وتوزيع الربح،

مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار، على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية. العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذونًا من المضارب عند نشوء السندات، مع مراعاة الضوابط التالية: (أ) إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب، وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودًا، فإنَّ تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد، وتطبق عليه أحكام الصرف. (ب) إذا أصبح مال القراض ديونًا تطبق على تداول المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون. (ج) إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود، والديون، والأعيان، والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقًا للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانًا ومنافع، أما إذا كان الغالب نقودًا أو ديونًا، فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة. وفي جميع الأحوال يتعيَّن تسجيل التداول أصوليًّا في سجلات الجهة المصدرة. العنصر الرابع: أنَّ من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها، وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلاَّ بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك، فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أنَّ المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة

الإصدار، وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأنَّ يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانةٍ، لا يضمن إلاَّ بسببٍ من أسباب الضمان الشرعية. 3 - مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول، يجوز تداول المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية، وذلك وفقًا لظروف العرض والطلب، ويخضع لإرادة العاقدين، كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معيَّنة بإعلان، أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعرٍ معيَّن، ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة، وفقًا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع، كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه. 4 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال، أو ضمان ربح مقطوع، أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة، أو ضمنًا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. 5 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار، ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع، ولو كان معلقًا، أو مضافًا للمستقبل، وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدًا بالبيع، وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلاَّ بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء، وبرضاء الطرفين. 6 - لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصًّا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلاً. ويترتب على ذلك: (أ) عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك، أو صاحب

المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. (ب) أنَّ محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة، ويعرف مقدار الربح إما بالتنضيض، أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقًا لشروط العقد. (ج) أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنًا وتحت تصرف حملة الصكوك. 7 - يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلاَّ بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادًا أو غلة فإنَّه يجوز أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض "التصفية"، يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8 - ليس هناك ما يمنع شرعًا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معيَّنة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد، أو الغلة الموزعة تحت الحساب، ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال. 9 - ليس هناك ما يمنع شرعًا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معيَّن، على أن يكون التزامًا مستقلاًّ عن عقد المضاربة، بمعنى أنَّ قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطًا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن

الوفاء بالتزاماتهم بها، بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أنَّ هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. ثانيًا: استعراض مجلس المجمع أربع صيغ أخرى، اشتملت عليها توصيات الندوة التي أقامها المجمع، وهي مقترحة للاستفادة منها في إطار تعمير الوقف واستثماره دون الإخلال بالشروط التي يحافظ فيها على تأبيد الوقف هي: (أ) إقامة شركة بين جهة الوقف بقيمة أعيانه، وبين أرباب المال بما يوظفونه لتعمير الوقف. (ب) تقديم أعيان الوقف "كأصل ثابت" إلى من يعمل فيها، بتعميرها من ماله بنسبة من الريع. (ج) تعمير الوقف بعد الاستصناع مع المصارف الإسلامية، لقاء بدل من الريع. (د) إيجار الوقف بأجرة عينية هي البناء عليها وحده، أو مع أجرة يسيرة. وقد اتَّفق رأي مجلس المجمع مع توصية الندوة بشأن هذه الصيغ من حيث حاجتها إلى مزيد من البحث والنظر، وعهد إلى الأمانة العامة الاستكتاب فيها، مع البحث عن صيغ شرعية أخرى للاستثمار، وعقد ندوة لهذه الصيغ لعرض نتائجها على المجمع في دورته القادمة. والله أعلم. * قرار المجمع الفقهيى الإسلامي بشأن موضوع: هل يجوز تحديد ربح رب المال في شركة المضاربة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في

دروته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415 هـ، الموافق 21/ 1/ 1995 م، قد نظر في هذا الموضوع، وقرَّر أنَّه لا يجوز في المضاربة أن يحدد المضارب لرب المال مقدارًا معيَّنًا من المال؛ لأنَّ هذا يتنافى مع حقيقة المضاربة، ويجعلها قرضًا بفائدة، ولأنَّ الربح قد لا يزيد على ما جعل لرب المال فيستأئر به كله، وقد تخسر المضاربة، أو يكون الربح أقل مما جعل لرب المال، فيغرم المضارب. والفرق الجوهري الذي يفصل بين المضاربة، والقرض بفائدة الذي تمارسه البنوك الربوية، هو أنَّ المال يزيد المضارب أمانة، لا يضمنه إلاَّ إذا تعدَّى أو قصر، والربح يقسم بنسبة شائعة متَّفق عليها بين المضارب ورب المال، وقد أجمع الأئمة الأعلام على أنَّ من شروط صحة المضاربة أن يكون الربح مشاعًا بين رب المال والمضارب دون تحديد قدر معيَّن لأحد منهما، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين. * قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن مدى مسؤولية المضارب ومجالس الإدارة عما يحدث من الخسارة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20 شعبان 1415هـ، الموافق 21/ 1/ 1995 م، قد نظر في هذا الموضوع، وأصدر القرار التالي:

الخسارة في مال المضاربة على رب المال في ماله، ولا يسأل عنها المضارب إلاَّ إذا تعدى على المال، أو قصر في حفظه؛ لأنَّ مال المضاربة مملوك لصاحبه، والمضارب أمين عليه ما دام يزيده، ووكيل في التصرف فيه، والوكيل والأمين لا يضمنان إلاَّ في حالة التعدي، أو التقصير. والمسؤول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية هو مجلس الإدارة؛ لأنَّه هو الوكيل عن المساهمين في إدارة الشركة، والممثل للشخصية الاعتبارية، والحالات التي يسأل فيها مجلس الإدارة عن الخسارة التي تحدث في مال المضاربة، هي نفس الحالات التي يسأل فيها المضارب "الشخص الطبيعي"، فيكون مجلس الإدارة مسؤولاً أمام أرباب المال عن كل ما يحدث في مال المضاربة، من خسارة بتعدٍّ، أو تقصيرٍ منه، أو موظفي المؤسسة، وضمان مجلس الإدارة يكون من أموال المساهمين، ثم إذا كان التعدي أو التقصير من أحد الموظفين، فعلى مجلس الإدارة محاسبته، أما إذا كان التعدي، أو التقصير من مجلس الإدارة نفسه فمن حق المساهمين أن يحاسبوه. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ***

باب المساقاة

باب المُساقاة مقدمة المساقاة: من السقي فهي مأخوذة من أهم أعمالها، فحاجة الشجر إلى السقي أكثر من غيره، ذلك أنَّ الماء في جزيرة العرب شحيح، فما كانوا سابقًا يسقون إلاَّ بالنضح، فسميت بأهم وأشق عمل فيها. وتعريفها شرعًا: أنَّها دفع شجر إلى آخر ليقوم بسقيه، وعمل سائر ما يحتاج إليه، بجزء مشاع معلوم من ثمره. والأصل في جوازها السنة، والقياس الصحيح. أما السنة: فمساقاته -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين من بعده أهلَ خيبر، بشطر ما يخرج منها من ثمر. وأما القياس: فإنَّ المساقاة أقرب إلى العدل والحل، فإنَّهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة فإنَّ صاحب الشجر تسلم له الأجرة، وأما المستأجر فقد يحصل له الثمر، وقد لا يحصل. والمساقاة من المشاركات التي مبناها العدل بين الشريكين، فإنَّ صاحب الشجر والأرض كصاحب النقود التي دفعها للمضارب في التجارة، والعامل الساقي كالعامل المضارب الذي يتجر بالمال، فهما داخلتان في أبواب المشاركات، فالغنم بينهما، والغُرم عليهما. وبهذا عُلِمَ أنَّها أحلُّ من الإجارة، وأقرب إلى القياس والعدل، ولذا فإنَّها جاءت على الأصل، لا كما زعم بعضهم أنَّها على خلاف القياس، لظنهم أنَّها من باب الإجارات التي يشترط فيها العلم بالعمل والأجرة، فهذا وهم

منهم. والمساقاة ومثلها المزارعة من أحل المكاسب وأفضلها، لمن ابتغى فضل الله تعالى ولم تشغله عن الأمور المطلوبة منه لربه ولأهله، والسنة مليئة بفضلها، ومن ذلك ما جاء في البخاري (6012) ومسلم (1553)، من حديث أنس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسانٌ، أو طيرٌ، أو دابةٌ إلاَّ كان له صدقة". ***

779 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَلَ أَهْلَ خَيْبرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلى أَنْ يَكْفُوا عمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمْرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذلِكَ مَا شِئْنَا، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-". وَلِمُسْلِمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلى أنْ يعْتَمِلُوهَا مِنْ أمْوَالِهِمْ، وَلَهُمْ شَطْرُ ثَمَرِهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عامَل: عمل يعمل عملًا: فعل ومَهَنَ. قال في الكليات: العمل يعم أفعال القلوب والجوارح. قال في المحيط: المعاملة المساقاة في لغة الحجازيين وهي المراد هنا. - بشطْر: بفتح الشين المعجمة وسكون الطاء آخره راء، يطلق على معان، والمراد به هنا النصف، ويستعمل في الجزء منه، فإنَّه يطلق ويراد به البعض، جمعه أشطر وشطور. - من ثمر: بالثاء المثلثة، والمراد هنا ثمر النخيل؛ لأنَّها شجر خيبر. - فقرُّوا: يقال: قرَّ في المكان يقرُّ قرارًا: إذا ثبت وسكن. قال في المحيط: قرَّر العامل على عمله تركه قارًّا فيه. - أجلاهم: جلا عن البلد جلاء بالفتح والمد: خرج منها، وجلا القوم عن ¬

_ (¬1) البخاري (2329, 2338) , مسلم (1551).

الوطن: خرجوا من الخوف أو الجدب، وجلوته وأجليته أتى لازمًا ومتعديًّا. - يعتملوها: يقال: اعتمل الرجل أي عمل عملًا متعلقًا بنفسه والمعنى أن يسعوا فيها بما فيه عمارة أرضها، وإصلاحها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز المساقاة والمزارعة بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الزرع والثمر، قال الطيبي: لم أر أحدًا من أهل العلم منع من المساقاة مطلقًا غير أبي حنيفة. والدليل على جوازها ما تواتر، أو كاد أن يتواتر، من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ساقى أهل خيبر بنخيلها على الشرط. وأما المزارعة فهي عندنا جائزة تبعًا للمساقاة؛ لحديث خيبر، ولا يجوز إفراده؛ لحديث رافع بن خديج أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها، ومنع منها الإمام مالك وأبو حنيفة مطلقًا، وذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى جوازها مطلقًا؛ لظاهر الحديمث، وعليه جمهور المحدثين. 2 - ظاهر الحديث أنَّه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض في المزارعة وسيأتي كلام ابن القيم قريبًا، وهو الصحيح خلافًا للمشهور من مذهبنا باشتراطه. 3 - أنَّه إذا علم نصيب العامل، أغنى عن ذكر نصيب صاحب الأرض والشجر، لأنَّ الغلة لا تخرج عنهما. 4 - جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستانٍ واحدٍ، بأن يساقيه على الشجر بجزء معلوم من الثمر، وبزرعه الأرض بجزء معلوم من الزرع. 5 - جواز معاملة الكفار بالفلاحة والتجارة والمقاولات على البناء والصنائع ونحو ذلك من أنواع المعاملات. 6 - ظاهر الحديث عدم اشتراط العلم بقدر مدة المساقاة أو المزارعة.

وقال الجمهور: لا تجوز المساقاة والمزارعة إلاَّ في مدة معلومة وتأولوا قوله "ما شئنا" على مدة العهد، وأنَّ المراد: نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا، ثم نخرجكم إذا شئنا. 7 - وأما المساقاة فإنَّ مدتها معلومة، وقد اتَّفقوا على أنَّها لا تجوز إلاَّ بأجلٍ معلوم. 8 - قال ابن القيم: في قصة خيبر دليل على جواز المزارعة بجزء من غلة الزرع، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر على ذلك, واستمر على ذلك إلى حين وفاته ولم ينسخ ألبتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرَّق بين متماثلين، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- دفع إليهم الأرض على أن يعتملوها من أموالهم، ولم يدفع إليهم البذر، فدلَّ على أنَّ هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، كما أنَّه وفق القياس، فإنَّ الأرض بمنزلة رأس المال في المضاربة، والبذر يجري مجرى سقي الماء؛ ولهذا يموت في الأرض، ولا يرجع إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس المال في المضاربة؛ لاشتراط عوده إلى صاحبه، وهذا يفسد المزارعة، فعلم أنَّ القياس الصحيح هو الموافق لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين. 9 - ذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنَّ المزارعة والمساقاة فاسدتان مطلقًا. وذهب أكثر أهل العلم إلى جوازهما مجتمعتين، ومنفردتين. قال النووي: هذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر ولا تقبل دعوى كون المزارعة في خيبر، إنما جاءت تبعًا للمساقاة، بل إنَّها مستقلة، ولأنَّ المعنى الموجود في المساقاة موجود في المزارعة، وقياسًا على القراض "المضاربة" فإنَّ القراض جائز بالإجماع وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأنَّ

المسلمين في جميع الأعصار والأمصار مستمرون على العمل بالمزارعة. وأما الأحاديث الناهية عن المخابرة فأجيب عنها: بأنَّها محمولة على ما إذا اشترط لكل واحد قطعة معيَّنة من الأرض. 10 - وفيه دليل على جواز بقاء الكفار في بلاد المسلمين مدة الحاجة إليهم، فإذا استغني عنهم وعن أعمالهم أُبعِدوا عن بلاد المسلمين، لأنَّ لهم تأثيرًا على العقائد، والأخلاق. ***

780 - وَعَن حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَن كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى المَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا، فَلِذلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلاَقِ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الأرْضِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خديج: قال في المغني للفتَّني: خديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة. - كراء الأرض: بكسر الكاف، وفتح الراء، ثم ألف، بعدها همزة. قال في المصباح: الكِرَاء بالمد: الأجرة، وهو مصدر في الأصل، من كريته، من باب قتل. - إنَّما كان إلخ: تعليل لجواز كراء الأرض، وعدم جواز إجارتها بجزء معيَّن منها، كما مثَّل. - المَاذِيَانَات: بذال معجمة مكسورة، وحكى عياض فتحها، ثم مثناة تحتية ثم ألف ونون ثم ألف ثم مثناة فوقية، جمع ماذية، وهي ما ينبت على حافة النهر ومسايل المياه، وليست الكلمة عربية ولكنها سوادية. ¬

_ (¬1) مسلم (1547).

- أقبال الجداول: بفتح الهمزة، فقاف، فباء موحدة، الأقبال: أوائل المسايل ورؤوسها، ومجاري المياه الصغار تُشَق في الأرض. - زجر عنه: زَجَره عن كذا يزجره زجرًا: منعه، ونهاه عنه نهيًا مؤكدًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيان جواز الإجارة الصحيحة للأرض، وبيان الإجارة الفاسدة، فأما الفاسدة فهي الكراء الجاهلي الذي يجعلون لصاحب الأرض ما على الجداول والسواقي، أو يجعلون له جانبًا معيَّنًا من الزرع، فهذه إجارة فاسدة؛ لأنَّ فيها غررًا وخطرًا وجهالة، فقد يصلح هذا، ويهلك هذا. 2 - هذا النوع من الإجارة الفاسدة التي تحفُّها الجهالة، والغرر، والمخاطرة محرَّمة لا تصح، فهي التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الأولى فهي بأجرٍ معلومٍ فهي صحيحة. 3 - عموم الحديث يجيز الأجر بالنقدين أو ما قام مقامهما من عملة نقدية، ويجيزه أيضًا ولو كانت الأجرة من جنس ما أخرجته الأرض أو مما أخرجته بعينه. 4 - النَّهي عن إدخال شروط فاسدة في الإجارة، كاشتراط جانب معيَّن من الزرع، وتخصيص ما على الأنهار ونحوها لصاحب الأرض أو لصاحب الزرع، فهي مزارعة، فاسدة لجهالتها وخطرها. 5 - كل الغرر والجهالات والمخاطرات محرَّمة باطلةٌ؛ لأنَّها نوعٌ من القمار والميسر، ففيها ظلم أحد الطرفين وتسبب العداوة والشحناء، والشرع الشريف جاء بالعدل والمساواة بين الناس، كما جاء بما يجلب المحبة والمودة والصفاء. 6 - ذهب عامة العلماء إلى جواز إجارة الأرض الزراعية بالذَّهب والفضة والعروض والطعام، إذا كان غير خارج منها، ومنهم الأئمة الثلاثة. وذهب الإمام مالك إلى المنع بالطعام مطلقًا، سواء كان من الخارج منها، أو من غيره؛ لحديث: "فلا يكريها بطعام".

781 - وَعَنْ ثَابِتِ بْن الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ المُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالمُؤَاجَرَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ أيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بالمؤاجرة: أي يستأجر الأرض فيحرثها ويستغلها، ويدفع لصاحبها أجرةً وكراءً من النقود لا جزءًا مما يخرج منها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المزارعة هي إعطاء الأرض الزراعية لمن يزرعها، بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ ممَّا يخرج منها، يُشْتَرط لصاحب الأرض أو للعامل. 2 - الحديث نهى عن المزارعة، والنَّهي يقتضي التحريم، كما يقتضي فساد العقد. 3 - ويدل الحديث على جواز إعطاء الأرض للزراعة بأجرةٍ معلومةٍ، وعمومه يفيد الجواز بأي أجرة كانت، ولو مما يخرج منها، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وأحمد والشافعي. 4 - يحمل هذا النَّهي على المزراعة الفاسدة التي يدخلها كثير من الجهالة، والغرر، والظلم لأحد الطرفين، كما جاء في حديث رافع بن خَدِيج، من أنَّهم كانوا في الجاهلية وصدر الإسلام "يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلاَّ هذا، فلذلك زجر عنه". 5 - أما المزارعة المعلومة فلم ينه عنها، ولذا جاء في حديث رافع أنَّها جائزةٌ؛ ¬

_ (¬1) مسلم (1549).

وذلك بقوله: "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به". هذا هو التوجيه الحسن المستقيم لبيان المزارعة الجائزة من المزارعة الممنوعة، وهذا هو الجمع الصحيح بين الأحاديث المتعارضة في ظاهرها بين جوازها ومنعها، والله أعلم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم المزارعة: فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم جوازها. ودليلهم على ذلك أحاديث رافع بن خديج منها: 1 - "كنا نخابر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنهى رسول الله عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنفع". 2 - حديث حنظلة بن قيس، وهو حديث الباب السابق. 3 - ما في البخاري (2343) ومسلم (1547) عن ابن عمر: "ما كنَّا نرى بالمزارعة بأسًا، حتما سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها". 4 - ما جاء في صحيح البخاري (2340) ومسلم (1566) عن جابر أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت له أرض فليزرعها إن لم يزرعها أخاه". فهذه الأحاديث حجة الذين يذهبون إلى عدم جواز المزارعة، ويرون أنَّها محرَّمة باطلة، وللأئمة على التحريم دليلٌ آخر، هو أنَّهم يعتبرون المزارعة إجارة، والإجارة لابد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا العوض مجهول معدوم، فتحرم ولا تصح. وذهب الإمام أحمد وأتباعه إلى جوازها، وأنَّها عقدٌ صحيحٌ ثابتٌ، كما ذهب إلى جوازها طوائفٌ من الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث، المتقدمين والمتأخرين، وكثير من الفقهاء.

فممَّن يرى جوازها علي بن أبي طالب، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وطاووس، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن سيرين، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والثوري، والبخاري، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن سريج، والخطابي، والظاهرية. قال النووي: هو الراجح المختار، والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار جارون على العمل بالمزراعة. أدلة المجوِّزين: 1 - الأصل في العقود الجواز والصحة، فلا يمنع منها إلاَّ ما وجد فيه محذورٌ شرعيٌّ من جهالةٍ، أو غررٍ، أومخاطرةٍ، أو ظلمٍ لأحد الجانبين، أما العقود الواضحة السالمة من تلك المحاذير، فإنَّ الشرع يجيزها، ولا يمنع منها شيئًا. 2 - معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليهود خيبر منذ أن استولى عليها حتى توفي، ثم مِن بعده أقرَّهم أبو بكر، وصدرًا من خلافة عمر، حتى أجلاهم منها، بمشهد من عموم الصحابة، وهذا دليلٌ على جوازها، وأنَّها لم تنسخ. ومن تلك الأحاديث ما في الصحيحين عن ابن عمر: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمرٍ أو زرعٍ، وقال نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر". 2 - أجابوا عن أحاديث رافع بن خديج بأنَّها مضطربة السند، فإنَّه تارةً يروي عن عمومته، وتارةً أخرى روى عن رافع بن ظهير، وثالثةً يحدث عن سماعه هو، وهي أيضًا مضطربة المتن، فإنَّه تارةً يروي النَّهي عن "كراء الأرض"، وتارةً "ينهي عن الجعل" وثالثةً "من الثلث والربع والطعام المسمى".

وبهذا حصل الاضطراب في المتن والسند، وحصل فيها الشك، حتى قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان وضروب، وقد أنكره الصحابة، ولم يعلم به عبد الله بن عمر إلاَّ في خلافة معاوية، فكيف مثل هذا الحكم يخفى عليهم، وهم يتعاطونها، وسيأتي قريبًا معنا آخر لهذا الاضطراب. وعلى فرض صحة أحاديث رافع، فقد أجاب العلماء عنها، وعن حديث جابر بأجوبةٍ مقنعةٍ. وأحسن تلك الأجوبة الجمع بين أحاديث رافع، وأحاديث خيبر، وذلك بحمل النَّهي عن المزارعة في أحاديث رافع على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيءٌ من الغرر والجهالة، وصار فيها شبه من الميسر والقمار والمغالبات المحرَّمة. وهو حملٌ وجيهٌ، بل قد صرَّح رافع بذلك في بعض طرق أحاديثه. قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمرٌ إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال، والحرام علم أنَّه لا يجوز؛ لما فيه من المخاطرة. وقال ابن المنذر: قد جاءت أخبار رافع بعللٍ تدل على أنَّ النَّهي لتلك العلل. وقال الخطابي: قد أعلمك رافع أنَّ المنهي عنه هو المجهول، دون المعلوم، وأنَّه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطًا فاسدة، وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول، فيكون خاصًّا لربِّ المال، وقد يسلم ما على السواقي، ويهلك سائر الزرع، فيبقى المُزارع لا شيء له، وهذا غررٌ وخطرٌ. والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المقصود أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام، إذا اشترط لرب الأرض منها زرعُ مكانٍ بعينه، والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد، فقد بيَّن أنَّ الذي نهى عنه النبي

-صلى الله عليه وسلم- إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علِمَ أنَّه حرام. وقال ابن القيم: إنَّ من تأمل حديث رافع بن خذيج وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مُجمَلها على مفسّرها، ومُطْلَقها ومقيّدها، علِمَ أنَّ الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أمر بين الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة، فإنَّه قال: "كنا نكري الأرض على أنَّ لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه". وفي لفظ له: "كان الناس يؤاجرون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بما على الماذِيَانَات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلاَّ هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به". وهذا من أبين ما في حديث رافع وأوضحه، وما فيها من مجملٍ أو مطلقٍ أو مختصر فيُحمل على هذا المفسَّر المبيَّن المتَّفق عليه لفظًا وحكمًا. اهـ كلامه -رحمه الله-. قال الطيبي في شرح المشكاة: أحاديث النَّهي عن المزارعة في ظاهرها تباينٌ واختلاف، وجملة القول في الجمع بينها أنَّ رافع بن خديج سمع أحاديث في النَّهي عن المزارعة متنوعة، فنظمها في سلك واحدٍ، ولهذا تارةً يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتارةً يقول: حدَّثني عمومتي، وتارةً يقول: أخبرني عماي، والعلة في بعض الأحاديث أنَّهم يشترطون شروطًا فاسدة، وفي بعضها أنَّهم كانوا يتنازعون في الكراء، وفي بعضها أنَّه كره لهم الافتتان بالحراثة، فيقعدوا عن الجهاد. وعلى هذا المعنى يجب أن يحمل الاضطراب المروي عن الإمام أحمد، لا على الاضطراب المصطلح عليه عند أهل الحديث، فإنَّه نوعٌ من أنواع الضعف، وحاشا لصاحبي الصحيح البخاري ومسلم أن يوردا شيئًا من هذا النوع.

باب الإجارة

باب الإجارة مقدمة الإجارة: بكسر الهمزة، مصدر أجره أجرًا، فهو مأجور، هذا هو المشهور، وحكي آجره بالمد، فهو مؤجر، وهي مشتقةٌ من الأجر، وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرًا؛ لأنَّ الله تعالى يعوض العبد على طاعته، أو صبره عن معصيته، فهي لغة: المجازاة. وشرعًا: عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ معلومةٍ، تُؤخَذ شيئًا فشيئًا. وتكون على ضربين: أحدهما: على مدَّةٍ معلومةٍ، من عينٍ معلومةٍ معيَّنةٍ، أو من عينٍ موصوفةٍ في الذمة. الثاني: عملٌ معلومٌ بعوضٍ معلومٍ، راجعٌ للفرق بين الضربين. وهي ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع والقياس. قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وفي قصة الهجرة: "استأجر رجلًا من بني الديل". وقال ابن المنذر: اتَّفق على جواز الإجارة كل من نحفظ قوله من علماء الأمة. وأما القياس: فإنَّ الحاجة داعيةٌ إلى الحصول على المنافع، كما دعت الحاجة إلى الحصول على الأعيان، فهي من الرُّخص المستقر حكمها على وفق القياس.

وتنعقد بلفظ "الإجارة"، وبلفظ "الكراء"، وما في معناهما. قال الشيخ تقي الدين: التحقيق أنَّ المتعاقدين إنْ عرفا انعقدت بأي لفظ كان، من الألفاظ التي عرف بها المتعاقدان أنَّه مقصودهما، وهذا عامٌّ في جميع العقود، فإنَّ الشارع لم يحدّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: العقود ثلاثة أقسام: أحدها: عقودٌ لازمةٌ، وهي نوعان: الأول: يثبت بمجرد عقده، فلا خيار فيه، كالوقف، والنكاح، ونحوهما. الثاني: لازمٌ، لكن جعل الشارع فيه خيار مجلس وخيار شرط، ذلك كالبيع، والإجارة، والصلح، ونحوها. القسم الثاني: جائزٌ من الطرفين، لكلٍّ منهما فسخه، وذلك كالوكالة والولاية والجعالة والشركات. القسم الثالث: لازمٌ من أحد الطرفين، جائزٌ في حق الآخر، وضابط هذا أن يكون الحق لواحد على الآخر، كالرَّاهن، والضامن، والكافل، فإنه لازمٌ بحق هؤلاء، جائزٌ بحق المرتهن، ولمضمون عنه، والمكفول له، والله أعلم. ***

782 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَعْطَى الَّذي حَجَمَهُ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أعطى الذي حجمه: "أعطى" تنصب مفعولين، الأول: "الذي حجمه"، والثانى: "أجره". - الحجامة: مأخوذٌ من الحجم: أي المص، والحجَّام: المصاص، والحجامة صنعته، والحجامة في كلام الفقهاء قيدت عند البعض بإخراج الدم من القفا بواسطة المص بعد الشرط، ومنهم من قال: لا تختص بالقفا، بل تكون من سائر البدن. ***

783 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - كسْب الحجام: كسب يكسب كسبًا: طلب المال فجمعه، فكسب الحجام: ما يكسبه من عمله في الحجامة. - خبِيث: خبث يخبث خبثًا ضد طاب، الخبيث ضد الطيب من الرزق وغيره، وجمعه خباث وخُبثاء، ويطلق على الحرام، ويطلق على المباح الدنيء وهو المراد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديثان على أصل جواز الإجارة، وأنَّها من العقود المباحة النَّافعة وهي ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. قال ابن المنذر: اتَّفق على جوازها كل من نحفظ عنه من علماء الأمة. والحاجة داعيةٌ إليها؛ لأنَّ الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان. 2 - الحديث رقم (782) يدل على إباحة كسب الحجام، وأنَّه غير محرَّم، ولو كان محرَّمًا لم يعط -صلى الله عليه وسلم- الحاجم أجرته على الحجامة. 3 - أما الحديث رقم (783) فيدل على أنَّ كسب الحجام خبيث. 4 - لكن الخبيث يطلق على الرديء من الطعام، كما قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. كما يطلق على الكسب الدنيء، فالخبيث هنا دناءة الكسب، ولذا صحَّ ¬

_ (¬1) مسلم (1568).

أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاجم أن يعلفه ناضحه، أو رقيقه. 5 - فالخبيث لا يراد به خبيث الحرمة، وإنما يراد به خبث الدناءة. قال ابن القيم في زاد المعاد ما خلاصته: صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حكم بخبث كسب الحجام، وأمر الصحابي أن يعلفه ناضحه، أو رقيقه، وصحَّ عنه أنَّه احتجم وأعطى الحجام أجره، فإعطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجام أجره لا يعارض قوله: "كسب الحجام خبيث" فإنَّه لم يقل إن إعطاءه خبيث إلى آخذه وآكله، ولا يلزم من ذلك تحريمه، فقد سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الثوم والبصل خبيثَيْن، ولم يحرِّم أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجام أجره حِل أكله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارًا" وقد أعطى المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفيء، مع غناهم وعدم حاجاتهم؛ ليبذلوا للإسلام والطاعة ما يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض، وهذا أصلٌ معروفٌ من أصول الشرع أنَّ العقد والبذل قد يكون جائزًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا، من أحد الطرفين، مكروهًا أو محرَّمًا من الطرف الآخر، فيجب على الباذل أن يبذل، ويحرم على الآخذ أن يأخذ. وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل، لكن هذا خبيث الرائحة، وهذا خبيث لكسبه. 6 - قال ابن القيم: اختلف الفقهاء في أطيب المكاسب على ثلاثة أقوال: التجارة، أو الزراعة، أو عمل الرجل بيده. والراجح أنَّ أحلَّها كسب الغانمين، وما أبيح للغانمين على لسان الشارع. 7 - وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الحجامة من العلاج النافع لبعض الأمراض. 8 - وفي الحديث دلالةٌ على إباحة التداوي بالأدوية النافعة المباحة، وأنَّ هذا لا ينافي التوكل على الله تعالى.

9 - وفيه تفاوت المكاسب من حيث الطيب والخبث، ومن حيث الرفعة والدناءة، وأنه ينبغي للإنسان أن يتلمس معالي الأمور. 10 - جاء في رواية أحمد وأصحاب السنن بسند رجاله ثقات من هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال للحجام عن كسبه: "أعْلِفْه نَاضِحك" فدلَّ على أنَّ الحجام إذا كان مستغنيًا, فإنَّه يتخلص من هذا الكسب بإنفاقه، بطرقٍ بعيدةٍ عن نفقاته، وحاجاته الخاصة به، وعلى أهله، وإنما يتخلص منه بإنفاقه على دوابه، أو وضعه في مشروع مفيدٍ، غير ديني، لا أنَّه مكروه شرعًا، ولكن التماسًا لمعالي الأمور، وابتعادًا عن وضيعها ودنيئها. قال شيخ الإسلام: المشتبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة، فالأبعد فالأقرب ما دخل في البطن، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما عرض من الركوب، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجام أن يطعم كسبه الرقيق والناضح. ***

784 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللهُ عَزَّ وَجلَّ: ثلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الِقيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُل بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثلاثة: أي ثلاثة أنفس، وذِكر الثلاثة ليس للتخصيص؛ لأنَّ الله تعالى خَصْمٌ لجميع الظالمين ولكن لمَّا أراد التشديد على هؤلاء صرَّح بهم. - خصمهم: خصمه يخصمه خصمًا: غلبه في الخصومة، فالخصم مصدر، والمخاصم جمعه خصوم، وقد يطلق الخصم للاثنين، والجمع، والمؤنث. - أعطى بي: حذف فيه المفعول، وتقديره: أعطى العهد والأمان باسمي، وحلف بي. - غدر: يغدر غدرًا: ضد وفى، أي نقض عهده وخان. قال في المحيط: قيل: الغدر موضوع لمعنى الإخلال بالشيء وتركه، ومعنى نقض العهد مأخوذ منه. - حُرًّا: الحر خلاف العبد، والحرَّة خلاف الأمة، ولفظ الحر موضوع لغة لمن لم يمسه رق، وهو حقيقة في بني آدم، وقد يستعمل في غيرهم مجازًا. - فأكل ثمنه: خصَّ الأكل بالذكر؛ لأنَّه أعظم مقصود. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على تحريم فعل هذه الأمور الثلاثة، وبيان أنَّها من أشد ما ¬

_ (¬1) لم يروه مسلم، بل البخاري (2227).

حرَّم الله تعالى؛ ذلك أنَّه تعالى هو الذي سيتولى يوم القيامة مخاصمة هؤلاء الثلاثة، ثم يخصمهم، وما ذاك إلاَّ لشدة جرمهم، وقبح فعلهم، وعظم ما اقترفوه. الأول: حلف بالله تعالى، وعاهد باسمه، وأعطى الأمان والعهد بالله، ثم خان عهد الله وأمانته، فغدر، وفَجَرَ، ونكث العهد، والميثاق. وقد أجمع العلماء على تحريم الغدر، وأنَّه من كبائر الذنوب، ولقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. كما نهى عن نكث العهد والميثاق, فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول لبعض قواد الجنود: "وإذا حاصرت أهل الحصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، فإنَّكم أن تخفروا ذممكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله". الثاني: من باع حرًّا، فأكل ثمنه، فاسترقاق الأحرار بلا موجبه الشرعي حرام، وفي بيعهم كما تباع السلع وأكل ثمنهم، إثمٌ مضاعف. وعبَّر بالأكل؛ لأنَّه الغالب، وإلاَّ فغير الأكل مثله. الثالث: من استأجر أجيرًا فاستوفى منه ما استأجره عليه من عمل، ولم يعطه أجره، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يَجِفَّ عرقه" [رواه ابن ماجه (2443)]، مبالغةً في سرعة إعطائه حقه، وأجر تعبه وعمله. وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُغْفر لأمتي لآخر ليلةٍ من رمضان، قيل يا رسول الله: أهِي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنَّما يوفَّى أجره إذا قضى عمله". 2 - ويدل الحديث على أنَّ تسليم الأجرة يكون عند فراغ الأجير من عمله، فهذا

هو زمن استقرارها في الذمة. 3 - في الحديث دليلٌ على أصل جواز الإجارة، وأنَّها من العقود الجائزة المفيدة النافعة. 4 - وفيه إثبات الجزاء في الآخرة، وإثبات يوم القيامة، وهو ممَّا عُرِف من الدِّين بالضرورة. 5 - وفيه جواز معاهدة الكفار، وإعطائهم الأمان، لمصلحةٍ تخصُّ الإسلام والمسلمين. 6 - وفيه أنَّ الأحرار من بني آدم لا تثبت عليهم اليد الغاصبة. 7 - قوله: "ثلاثة" العدد لا مفهوم له، فيوجد من يتولى الله تعالى خصومتهم، غير هؤلاء من أصحاب الذنوب الكبار. 8 - قوله: "رجل" لا مفهوم له، وإنما جرى مجرى الغالب في الخطاب، فالوعيد للذكر والأنثى من المكلفين. 9 - فيه أنَّ الأجير لا يستحق أجرته حتى يتم ما استؤجر عليه من عملٍ أو مدةٍ. ***

785 - وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إِنَّ أَحقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كتَابُ اللهِ" أَخْرَجَهُ البُخَاريُّ (¬1)، ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أجرًا: هو جزاء العامل على عمله، يسمَّى الكراء، ومنه قولهم في التعزية: "آجرك الله": أي أعطاك الله أجره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لاسيَّما إذا كان قصد المعلم الخير، وأخذ الأجرة؛ للتقوي بها على القيام بهذا العمل وأمثاله، ممَّا فيه طاعةٌ لله تعالى، ونشر العلوم النافعة. 2 - قال شيخ الإسلام: وقد اتَّفق الفقهاء على الفرق بين الاستئجار على القُرب، وبين رزق أهلها، فرزق المقاتلة، والقضاة، والمؤذنين، والأئمة، جائزٌ بلا نزاع، وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم. 3 - قال في الروض المربع: ويجوز أخذ رزق على ذلك الحج، والإمامة، والأذان، وتعليم القرآن، من بيت المال وجعالة وأخذ بلا شرط. قال الشيخ: ما يؤخذ من بيت المال ليس عوضًا وأجرة، بل رزقًا للإعانة على الطاعة. ومثله الموقوف على أعمال البر، والموصى به، والنذور له، ليس كالأجر. ¬

_ (¬1) البخاري (5737).

* خلاف العلماء: ذهب الإمامان: أبو حنيفة وأحمد وأتباعهما إلى عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وعلى أي عمل يختص أن يكون القائم به مسلمًا كالقضاء وإمامة الصلاة، والأذان. مستدلين بما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت، قال: علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة القرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن سرَّك أن يقلدك قوسًا من نار فاقبلها". وذهب جمهور العلماء، ومنهم الإمامان مالك والشافعي، إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأخذ الأجرة على إمامة الصلاة، والأذان، ونحو ذلك من أعمال القُرب. مستدلين بحديث الباب، وبما في البخاري من حديث أبي سعيد في الرُّقية، ولِمَا جاء في الصحيحين من أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- زوَّج رجلًا امرأةً بما معه من القرآن. وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وبه أفتى متأخرو الحنفية، وجوَّزه الشيخ تقي الدين للحاجة، وتبعه شيخنا عبد الرحمن السعدي. وأما حديث عبادة فلا يقاوم ما جاء في الصحيحين من هذه الأحاديث الثلاثة وغيرها. على أنَّ العلماء طعنوا في هذا الحديث، فقالوا في راوية "المغيرة بن زياد" قال في التقريب: له أوهام، واستنكر أحمد حديثه. ***

786 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ انْ يَجِفَّ عرَقُهُ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (¬1). وفي البَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ أَبِي يَعْلَى وَالبَيْهَقِيِّ (¬2) وَجَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ (¬3) وَكُلُّهَا ضِعَافٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده. قال الطحاوي: وحديث عبد الرحمن عند أهل العلم بالحديث، في النهاية من الضعف، ورواه الطبراني من حديث جابر، وفيه شرقي بن قطامي، وهو ضعيف، ورواه أبو يعلى وابن عدي والبيهقي من حديث أبي هريرة. قال في البلوغ: وكل طرقه ضعاف. أما الشيخ الألباني فإنه استعرض طرقه وناقشها، ثم انتهى به القول إلى أن قال: وجملة القول أنَّ الحديث صحيح الإسناد عندي من الطريق الأولى طريق أبي هريرة، فإذا انضم إليه مرسل عطاء بن يسار، وبعض الطرق الأخر الموصولة التي لم يشتد ضعفها، فلا يبقى عند الباحثين العارفين بهذا العلم أي شك في ثبوت الحديث، وهو ما أفصح عنه المنذري في الترغيب بقوله: ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2443). (¬2) البيهقي (6/ 121)، أبو يعلى (6682). (¬3) الطبراني في الصغير (34).

وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرفه قوَّة، والله أعلم. ولهذا قال المناوي في فيض القدير: وبالجملة فطرقه كلها لا تخلو من ضعيف أو متروك، بمجموعها يكون حسنًا. * مفردات الحديث: - قبل أن يجف عَرَقُه: ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو حثٌّ على المسارعة في إعطائه أجرته، التي هي مقابل عمله وتعبه. - عرقه: عرِق الرجل يعرق عرقًا، من باب علم، شح جلده فهو عرقان، والعَرَق -بفتحتين-: ما رَشَحَ من مسام الجلد من غدد خاصة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب إعطاء الأجير أجره بعد أن أدَّى العمل الذي استؤجر عليه. 2 - المبادرة والسرعة بإعطائه أجره؛ لأنَّه لم يعمل إلاَّ من الحاجة إلى الأجرة، ولأنَّ نفسه تائقة إلى استلام عوض عمله وجهده. فالتأخير في إعطائه حقه من أعظم المَطل، ومن أشنع أنواع الظلم. 3 - فيه جواز المبالغة في الكلام من أجل الحث، والتهييج على فعل الخير، أو الكف عن فعل الشر، وقد جاء في نصوص كثيرة. 4 - أما عدم إيفائه أجرته، فهو يسبب غضب الله تعالى، بحيث يتولى مخاصمة من استأجر أجيرًا، فاستوفى منه ولم يعطه أجره، كما جاء في الحديث المتقدم. 5 - وإذا من الوفاء بالعهود والعقود، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. ومن الأمانة التي يأمر الله تعالى بأدائها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. 6 - الله تعالى أمر بأداء الحقوق، وينهى عن أكل أموال الناس بالباطل، ولكنه

يشدد في ذلك، ويكثر منه في جانب الضعيف، من امرأة، أو يتيم، أو فقير، فهنا الغالب أنَّ الأجير فقيرٌ ضعيف، وأنَّ صاحب العمل غنيٌّ قوي، فحثَّ الله تعالى على ذلك، كما في الحديث القدسي: "قال الله عزَّ وجل: ثلاثة أنا خصمهم ... " إلخ، وهنا أمر علما لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "أن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وهذا كله من عناية الله تعالى بالضعفاء، وإنصافهم من الأقوياء. ***

787 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مَنِ اسْتأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ" رَوَاهُ عبدُ الرزَّاقِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ البَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أِبي حَنِيفَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص: رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، ورواه أيضًا من طريق إبراهيم النَّخعي عن أبي سعيد، وهو منقطع، وهو عند أحمد وأبي داود في المراسيل من وجهٍ آخر، وعند النسائي غير مرفوع. اهـ. قال أبو زرعة: الموقوف هو الصحيح. ومع وإذا فالإجماع قائمٌ على اشتراط كون عوض الإجارة معلومًا. * مفردات الحديث: - فليُسَم: من التسمية، أي: فليعين له أجرته ويبينها؛ لئلا تكون مجهولة فتفضي إلى النزاع والخصومة، وفي بعض نُسَخِ سبل السلام: "فليتم أجرته" من الإتمام، ومعناه: فليعطها إيَّاه كاملة، من غير نقص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه دليل على وجوب معرفة قدر الأجرة؛ لأنَّ الجهالة بها بين المؤجر والمستأجر تُفْضي إلى النزاع، والشقاق الذي ينافي الإسلام. 2 - وكما تجب معرفة الأجرة، تجب أيضًا معرفة المنفعة المعقود عليها. لأنَّها أحد العوضين المعقود عليهما، فاشترطت معرفتها. ¬

_ (¬1) عبد الرزاق (8/ 235)، البيهقي (6/ 120).

3 - قال فقهاؤنا: وتصح الإجارة بثلاثة شروط: أحدها: معرفة المنفعة كسكنى دار، أو خدمة آدمي. الثاني: معرفة الأجرة بما تحصل به معرفة الثمن؛ لأنَّه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا. الثالث: الإباحة في نفع العين، فلا تصح على نفع محرَّم، كالغناء، وجَعل داره كنيسةً أو لبيع الخمر. 4 - الخلاصة: إنَّ الإجارة عقدٌ على المنافع، كما أنَّ البيع عقد على الأعيان والمنافع أيضًا، فاشترط في الإجارة شروط البيع، من رضا العاقدين، وكونهما جائزي التصرف، ومن إباحة العين، وكونها مشتملة على المنفعة المقصودة منها، وكون العين المؤجرة ملكًا للمؤجر، ومن القدرة على تسليمها ومعرفتها، ومعرفة قدر الأجرة، وانتفاء الشروط الفاسدة بنفسها، والشروط المفسدة للعقد، وغير ذلك من الأحكام التي ذكرها الفقهاء أحكامًا للبيع. 5 - أفتى الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: أنَّ التأجير مدة غير معلومة، وهو ما يسمى في الحجاز بالحكر، ويسمى في نجد بالصُّبرة، يعتبر بيعًا لرقبة الأرض، لا إجارة، فهي ملك لمن اشتراها أرضًا وبناءً، وأنَّ له التصرف فيها. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الإيجار المنتهيى بالتمليك: قرار رقم (110): إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في دورته الثانية عشرة بالرياض، في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ الموافق "23 - 28 سبتمر 2000".

بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع "الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء. قرَّر ما يلي: الإيجار المنتهي بالتمليك: أولًا: ضابط الصور الجائزة، والممنوعة ما يلي: (أ) ضابط المنع: أن يرد عقدان مختلفان في وقت واحد، على عين واحدة في زمن واحد. (ب) ضابط الجواز: 1 - وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر، زمانًا لحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة والخيار يوازي الوعد في الأحكام. 2 - أن تكون الإجارة فعلية، وليست ساترة للبيع. (ج) أن يكون ضمان العين المؤجرة على المالك، لا على المستأجر، وبذلك يتحمل المؤجر ما يلحق العين، من غير ناشيء من تعد المستأجر، أو تفريطه، ولا يلزم المستأجر بشيء إذا فاتت المنفعة. (د) إذا اشتمل العقد على تأمين العين المؤجرة، فيجب أن يكون التأمين تعاونيًّا إسلاميًّا، لا تجاريًّا، ويتحمله المالك المؤجر، وليس المستأجر. (هـ) يجب أن تطبق على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة وأحكام البيع عند تملك العين. (و) تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجر، لا على المستأجر، طوال مدة الإجارة.

ثانيًا: من صور العقد الممنوعة: (أ) عقد إجارة ينتهي بتملك العين المؤجرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة، دون إبرام عقد جديد، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعًا تلقائيًّا. (ب) إجارة عينٍ لشخصٍ بأجرةٍ معلومةٍ، ولمدةٍ معلومةٍ، مع عقد بيعٍ له معلَّق على سداد جميع الأجرة المتَّفق عليها، خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت في المستقبل. (ج) عقد إجارة حقيقي، واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر، ويكون مؤجلًا إلى أجلٍ طويلٍ محدَّدٍ، "هو آخر مدة عقد الإيجار". وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من هيئاتٍ علميةٍ، ومنها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية. ثالثًا: من صور العقد الجائزة: (أ) عقد إجارة يُمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به عقد هبة العين للمستأجر، معلقًا على سداد كامل الأجرة، وذلك بعقد مستقل، أو وعد بالهبة بعد سداد كامل الأجرة، وذلك وفق ما جاء في قرار المجمع بالنسبة للهبة رقم 13/ 1/ 3 في دورته الثالثة. (ب) عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة، وذلك وفق قرار المجمع رقم (44) 6/ 5، في دورته الخامسة. (ج) عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به وعد ببيع العين المؤجرة للمستأجر بعد

سداد كامل الأجرة، بثمن يتَّفق عليه الطرفان. (د) عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة، في مدة معلومة، ويعطي المؤجر للمستأجر حق الخيار في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء على أن يتم البيع في وقته بعقد جديد بسعر السوق، وذلك وفق قرار المجمع السابق رقم: (44) 6/ 5، أو حسب الاتفاق في وقته. رابعًا: هناك صور من عقود التأجير المنتهي بالتمليك محل خلاف، وتحتاج إلى دراسة، تعرض في دورة قادمة إن شاء الله تعالى. صكوك التأجير: يوصي المجمع بتأجيل موضوع صكوك التأجير لمزيد من البحث والدراسة ليطرح في دورة لاحقة. والله سبحانه وتعالى أعلم. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بدل الخلو عند خروج المستأجر: قرار رقم (31): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 18 - 23 جمادي الآخرة 1408هـ، الموافق 6 - 12 فبراير 1988م، بعد اطلاعه علما الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع، بخصوص "بدل الخلو" وبناءً عليه.

قرَّر ما يلي: أولًا: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور، هي: 1 - أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد. 2 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 3 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 4 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد، وبين كل من المالك والمستأجر الأول، قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها. ثانيًا: إذا اتَّفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغًا مقطوعًا، زائدًا عن الأجرة الدورية "وهو يسمى في بعض البلاد خلوًّا"، فلا مانع شرعًا من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءًا من أجرة المدة المتَّفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. ثالثًا: إذا تمَّ الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة، على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغًا مقابل تخليه عن حقِّه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإنَّ هذا بدل خلو جائز شرعًا؟ لأنَّه تعويضٌ عن تنازل المستأجر برضاه، عن حقه في المنفعة، التي باعها للمالك. أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة، أو ضمنًا عن طريق التجديد التلقائي، حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأنَّ المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. رابعًا: إذا تمَّ الاتفاق بين المستأجر الأول، وبين المستأجر الجديد، أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد، لقاء مبلغٍ زائدٍ عن الأُجرة الدورية، فإنَّ بدل الخلو وإذا جائزٌ شرعًا، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة

المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنَّه في الإجارات الطويلة المدة، خلافًا لنص عقد الإجارة، طبقًا لما تصوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها، إلاَّ بموافقة المالك. أما إذا تمَّ الاتفاف بين المستأجر الأوَّل، وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو, لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. والله أعلم. ***

باب إحياء الموات

باب إحياء المَوَات مقدمة الموات: بفتح الميم والواو المخففة، فهي على وزن سَحَاب، وهو ما لا روح فيه، وأرض لا مالك لها، شبهت عمارتها بالحياة، وتعطيلها بالموت، لعدم الانتفاع بالأرض الميتة بزرع وغيره، وإحياؤها عمارتها. واصطلاحًا: هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فالاختصاصات كالطرق، والأفنية، والساحات، ومسايل المياه، وكل ما يتعلق بمصلحة المملوك. والإنسان المعصوم هو المسلم، أو الكافر المالك للأرض بسببٍ شرعي، من شراء أو غيره. فالأرض المختصة، أو المملوكة لا تملك بالإحياء. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قد حد الفقهاء ضابطًا لما يملك بالإحياء، فقالوا: الذي يُحْيَا هيَ الأرض الخالية من الاختصاصات، ومن ملك المعصومين. فدخل في هذا كله أرض لا مالك لها، وليس لها اختصاص بالأملاك، ولا للناس فيها اشتراك، وخرج من هذا ما لا يُملك، فالأرض المملوكة، أو التي جرى عليها ملكٌ لمعصومٍ معلومٍ لا تُملك بالإحياء، حتى ولو كانت دراسة عائدة مواتًا، وكذلك ما تعلق بمصالح الأملاك، كالمتعلق بمصالح الدور والبلدان، مما يحتاجون إليه في مسيل مياههم، ودفن أمواتهم، ومحتطباتهم ونحو ذلك، وكذلك ما الناس فيه شركاء، كالمعادن الجارية أو الظاهرة،

فوجود الإحياء في هذه الأشياء بخلاف الأول، فإنَّ من أحياه ملَكه. قال في الإقناع: ولا يملك بإحياء ما قَرُب من عامر، وتعلَّق بمصالحه، كطرقه، وفِنائه، ومجتمع ناديه، ومسيل مائه، ومطرح قيامته، وملقى ترابه، ومرعاه، ومحتطبه، ومرتاض الخيل، ومدافن الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعدة للمسافرين حول المياه والبقاع المرصدة لصلاة العيد ونحو ذلك، فكلُّ مملوكٍ لا يجوز إحياء ما تعلَّق بمصالحه. والأصل في إحياء الموات السنة، والإجماع. فالسنة: ما في الباب من أحاديث وغيرها. وأما الإجماع: فقد حكى الوزير ابن هبيرة الاتفاق على جواز إحياء الأرض الميتة العادية، كما قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنَّ ما عرف بملك مالك أنَّه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. قال في شرح الإقناع: وإحياء الأرض الموات هو أن يحوزها بحائطٍ منيعٍ، وبناء ما جرت عادة أهل البلد البناء به من لِبنٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ، ونحوه، سواءٌ أرادها لبناءٍ، أو لزرعٍ، أو أرادها حظيرة غنم، أو حظيرة خشبٍ، ونحوهما، ولا يعتبر التسقيف، ولا نصب الباب ... إلخ. وعن أحمد: إحياء الأرض ما عدَّه الناس إحياء؛ لقوله: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" [رواه أبو داود (3074)]. واختاره ابن عقيل والموفق وغيرهما؛ لأنَّ الشرع ورد بتعليق الملك عليه، ولم يبيِّنه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياءً في العرف، والله أعلم. ***

788 - عَنْ عُروَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، قَالَ عُروَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلاَفَتِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَنْ عمر أرضًا: بتشديد الميم وتخفيفها، والمراد بتعميرها: إحياؤها بما جرت به العادة، من أنواع إحياء الأراضي الميتة "البور". - فهو أحق بها: أي فهو صاحب الحق فيها، والملك عليها. ***

789 - وعَنْ سَعِيدِ بْن زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَحَيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ" رَوَاهُ الثَّلاَثَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: رُوِيَ مُرْسَلاً، وَهُوَ كَمَا قَالَ، واخْتُلِفَ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقِيلَ: جَابِرٌ، وَقِيلَ: عَائِشَةُ، وَقِيلَ: عبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَالرَّاجِحُ الأوَّلُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْيَا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حَقٌّ" قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب، وفي الباب عن عائشة، وسمرة بن جندب، وعبادة بن الصامت، قال الحافظ في الفتح: وفي أسانيدها مقال، لكن يتقوَّى بعضها ببعض. وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير. * مفردات الحديث: - من: شرطية و"أحيا" فعل الشرط، وجوابه "فهي له"، وإحياء الأرض الموات يكون بزرعها، أو غرسها، أو بنائها، ونحو ذلك، شبَّه تعطيلها بالإماتة. - ميِّتَة: أصله "ميوتة" اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فهي "ميِّتة" بتشديد الياء، ولا تخفف؛ لأنَّه لو خففت لحذف تاء التأنيث. - والأرض الميِّتة: هي الأرض التي لم تُعمَر، وإحياؤها عمارتها، شبهت ¬

_ (¬1) أبو داود (3074)، الترمذي (1378)، ولم يروه النسائي.

العمارة بالإحياء. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على جواز إحياء الأرض الموات، وأنَّ الإحياء من أسباب الملك الشرعي. 2 - أنَّ من أتمَّ إحياء الأرض الإحياء الشرعي ملكها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فهي له". 3 - يدل عموم الحديث على أنَّ المُحيِي يملك ما أحياه، سواءٌ كان المُحْيِي مكلفًا، أو غير مكلفٍ، مسلمًا كان أو كافرًا، إذا كان ذميًّا. 4 - يدل على أنَّ الإحياء يحصل ولو بغير إذن الإمام، قال في كشاف القناع: ولا يُشترط إذن الإمام، وهو مذهب جمهور العلماء. 5 - لابد أن تكون الأرض المحياة مواتًا، بأن لم يجر عليها ملك معصوم، ومنفكة عن الاختصاصات، أما المملوكة فلا يصح إحياؤها، وكذلك الأرض المختصة لصاحبها بتحجيرها، وشروعه في إحيائها، فإنَّها لا تملك، وكذلك مصالح ومرافق المكان العامر، الذي يتعلق بمصالحه ومرافقه، فلا يجوز إحياؤها، وكذا ما تعلق بمصالح البلدان من طرقٍ، وشوارعَ، وميادين، وحدائق، ومقابر، ومغالي، ومسايل مياه، وغير ذلك فلا يصح إحياؤه. قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: ولا شكَّ أنَّ منع ولي الأمر إحياء بعض الأراضي معناه اختصاصه بها، لما يعود على المسلمين بالمصلحة العامة، وعليه فالإحياء على هذه الصورة غير صحيح. 6 - لم يقيَّد الإحياء بمساحة معيَّنة، فما أحياه إحياء شرعيًّا ملكه، ولو كثر. قال الشيخ محمد بن إبراهيم: إنَّ مساحة الإحياء لا تحديد فيها، بخلاف الإقطاع فيقدر بحسب حاجة المقطع، وسيأتي إن شاء الله. 7 - ضابط الإحياء ما قاله الإمام أحمد: إحياء الأرض ما عُدَّ إحياء عرفًا، لقوله

-صلى الله عليه وسلم-: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له". وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: الإحياء كالحرز، يرجع فيه إلى العرف، وأما أنواعه فكثيرة، منها: - من أحاط أرضًا مواتًا بحائطٍ منيع، بأنَّ أداره حوله بما جرت به العادة، من لَبِنٍ، أو طوبٍ، أو حجرٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ، ونحوه فقد أحياه وملكه، وقدر ارتفاع الجدار الذي يحصل به الإحياء بارتفاع متر ونصف متر، وما دونه يكون متحجرًا لا محييًا. قال في الشرح الكبير: تحجر الموات مثل أن يدير حول الأرض ترابًا، أو أحجارًا، أو يحيطها بجدارٍ صغيرٍ، فلا يملكها بذلك، لكن يصير أحق الناس به. - إذا حفر بئرًا فوصل ماؤها فقد أحياها، وله حماها، ومرافقها المعتادة، إذا كان ما حولها مواتًا، فإن كانت في حيٍّ عامر فيتصرف كل واحد منهم في المرافق بما جرت به العادة. - من أجرى الماء إلى الأرض الموات من نحو عينٍ، أو موارد فقد أحيا تلك الأرض. - من حبس الماء عن أرض موات قد غمرتها المياه، إذا كانت لا تزرع معه، فحبسه ليزرعها فقد أحياها. - إذا عمد إلى أرضٍ موات ذات حجارةٍ، أو أشجارٍ، فأزال حجارتها، وقطع أشجارها، وسوَّاها وعدَّلها؛ ليعلوها السيل؛ لتكون بعلاً فقد أحياه. والخلاصة أنَّ ما عده الناس إحياءً اعتبر إحياءً، وهو يختلف باختلاف المقاصد من الانتفاع، وباختلاف أعراف البلدان. 8 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم: وأما الأرض البيضاء التي لا يوجد فيها أثر إحياءٍ أصلًا، فإنَّها لا تملك بمجرد دعوى عليها، ولو كان بيد مدَّعيها

صكوك استحكام، بل هي باقية مواتًا على الأصل. 9 - وإذا أحيا الأرض بنوعٍ من الإحياءات الشرعية، استحق مرافقها، ومنافعها، من الطرق، والميادين، والساحات، والمسابل، ونحو ذلك. 10 - وإذا كانت الأرض المحياة لزراعةٍ، أو سكنٍ، محفوفةً بملك الغير من كل جانب، فلا حريم لها، ولا مرافق خاصة، وإنما ينتفع ويستفيد كل واحد من المجاورين في ملكه، بحسب ما جرت به العادة. 11 - قال في الإقناع: ولا يُملك بإحياء ما قَرُب من عامر، وتعلق بمصالحه، كطرقه، وفنائه، ومجتمع ناديه، ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه، ومرعاه، ومحتطبه، وحريم البئر، ومرتكض الخيل ومدفن الموتى، والمنازل المعدة للمسافرين، والبقاع المرصودة لصلاة العيد، ونحو ذلك، فكلُّ مملوك لايجوز إحياء ما تعلَّق بمصالحه. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: الأرض التي ينحدر سيلها إلى أرضٍ مملوكة، يكون مسيل سيلها تبعًا لها على وجه الاختصاص، فلا يسوغ إحياؤها، ولا إقطاعها لغير أهل الأرض المملوكة إلاَّ بإذنهم. 12 - أما التحجر فلا يفيد الملك، وإنما يفيد صاحبه الاختصاص به، فلا يصح لأحد إحياؤها، ومن أنواع التحجر ما يأتي: - أن يحيط الأرض بجدار ليس بمنيع أو يبني الجدار ببعض الجوانب دون بعض. - أن يحيط الأرض بشبكٍ، أو خندقٍ، أو حاجزٍ ترابي، ونحو ذلك. - أن يحفر بئرًا، فلا يصل إلى الماء. 13 - فكل هذه وأمثالها تحجرات، لا تفيد التملك، وإنما تفيد من تحجرها الاختصاص بها، والأحقية من غيره، فلا يتعدى عليها غيره ممن يريد الإحياء وهي تحت يده، وإذا وُجِد متشوف لإحيائها ضرب ولي الأمر له

مدة لإحيائها، فإن أحياها وإلاَّ نُزِعَت من يده لمن يريد إحياءها. 14 - أفتى زعيم الدعوة السلفية بعد أبيه الشيخ عبد الله بن محمد، ومفتي البلاد السعودية عن المسايل بما يأتي: المسايل قسمان: أحدهما: فيه عمل لأرباب الأملاك، وهو ما يحفرونه لتجري معه السيول، فهذا القسم يملك بالإحياء، فحفره وتوجيه السيل معه تغييرٌ فيه، وإحياءٌ له. الثاني: ليس لأرباب الأملاك فيه عمل بالحفر ونحوه، وإنما وجده صاحب الملك ينحدر سيله من الجبل بطبعه إلى جهة ملكه، فهذا إذا استغنت الأرض المملوكة عن مسيل سيلها، ولم يبق لها حاجة إلى مائة، كأن جعلت هذه الأرض المملوكة بيوتًا، ونحو ذلك، فالذي يظهر أنَّ حق اختصاص أصحابها بهذا السيل يزول، ويكون حكمه حكم الأرض الموات، ما لم يكن لهم فيه سبب اختصاص آخر، من تحجرٍ، أو حفر بئرٍ، لم يصل إلى الماء. وتأيدت هذه الفتوى من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي البلاد السعودية السابق. ***

790 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثَّامَةَ اللّيْثِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لاَ حِمَى إِلاَّ للهِ وَلرَسُولِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا حِمَى: الحِمَى بكسر الحاء، وفتح الميم، بلا تنوين مقصورٌ، تقول: حميته حماية: أي دافعت عنه ومنعته، فهو محمي: أي محظور، فيكون اسمًا غير مصدر، وإنما هو على وزن "فعل" بكسر الفاء بمعنى مفعول. هذا تعريفه اللغوي. أما معناه الاصطلاحي: فهو ما يحميه الإمام من الموات لمواشٍ بعينها، ويمنع عنه سائر الناس من الرعي فيه. - إلاَّ لله ولرسوله: أي لا حمى لأحد يخص نفسه فيه، فيرعى فيه ماشيته دون سائر الناس، إنَّما هو لله ولرسوله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحمى هو خلاف المباح، ومعناه أن يمنع الإمام الرعيَ في أرضٍ مخصوصة، لتخص برعيها إبل الصدقة، وإبل بيت مال المسلمين. 2 - الحديث يدل على أنَّ ما حماه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو يبقى ولا يغير، ولا يجوز إبطاله، ولا نقضه، ولا تغييره، لا مع الحاجة إليه، ولا مع عدمها؛ لأنه حمى بنص، والاجتهاد لا يبطل النص، ولا ينقضه. 3 - أما مَن بعده من الخلفاء والأئِمة والملوك، فلهم أن يحموا الأرض ¬

_ (¬1) البخاري (2370).

الموات؛ لرعي دواب المسلمين، ما لم يضيق على المسلمين، لما روى أبو عبيد أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال: "لولا ما أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت من الأرض شبرًا في شبر" وقد اشتهر حمى عثمان -رضي الله عنه- ولم يُنْكر، فكان كالإجماع. 4 - كان رؤساء القبائل في الجاهلية، يحمون المكان الخصيب لخيلهم، وإبلهم، وسائر مواشيهم، وكانوا يختصون به عن أفراد قبائلهم، فأبطله النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا حمى إلاَّ لله ولرسوله"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" وما كان حماه لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو حماه لإمام المسلمين، فهو للصالح العام، لا يختص به الإمام لمصالحه الخاصة. 5 - ليس لغير إمام المسلمين أن يحمي شيئًا، فإنَّ إمام المسلمين قائم مقامهم فيما هو من مصالحهم، دون غيره، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الناس شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار". 6 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم: الحكم الشرعي يقضي بأنَّ جميع الأحمية باطلة، إلاَّ حمى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله: "لا حمى إلاَّ حمى الله ورسوله" [رواه البخاري]، ولا نزاع بين أهل العلم في ذلك. 7 - هذه نبذة عن حمى "النقيع" الذي حماه النبي -صلى الله عليه وسلم-، نلخصها من قرار من هيئة التمييز، ومن بحث للأستاذ "علي بن ثابت العمري" أحد أبناء ضواحي المدينة المنورة. النَّقِيع: بالنون المفتوحة، والقاف المكسورة، والياء التحتية الساكنة، والعين المهملة، اسم جنس لكل موضع يستنقع به الماء، فسمي به هذا "الحمى" لذلك. يحده من الغرب: جبل قدس "أوقيس"، وعرض هذا الحد (15) كيلو.

من الشرق: حَرة بني عمرو من قبائل حرب، وكانت في السابق لقبيلة سليم، وعرض هذا الحد (12) كيلو. من الشمال: مضيق النقيع، وعرض هذا الحد (6) كيلو. من الجنوب: جبلان أسودان، يقال لأحدهما: عبود، والثاني: برام، وعرض هذا الحد (8) كيلو. ويبعد حمى النقيع عن المدينة غربًا بمسافة (75) كيلو، وهو تابعٌ لمقاطعة تسمى وادي الفرع. النصوص فيه: - ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حمى لخيل المسلمين". - جاء في صحيح البخاري قال ابن شهاب الزهري: "بلغنا أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حمى النقيع". - وروى الزبير بن بكار عن المرواع المزني: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نزل بالنقيع وقال: نِعْمَ مرتع الأفراس، يحمى لهن ويجاهد بهن في سبيل الله، حماه النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعملني عليه". - وجاء في تاريخ المدينة لابن شبَّة بسنده إلى ابن عمر: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حمى النقيع للخيل ترعى فيه" والآثار فيه كثيرة. 8 - قال في الشرح الكبير: وما حماه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحد نقضه، ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه؛ لأنَّ ما حكم به النبي -صلى الله عليه وسلم- نص، لا يجوز نقضه بالاجتهاد. وقال في شرح الإقناع: وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقط دون غيره أن يحمي لنفسه؛ لقوله: "لا حمى إلاَّ لله ولرسوله" [رواه أبو داود]، وروى أبو عبيد: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حمى النقيع لخيل المسلمين". قال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك بأنَّه إذا حكم الله ورسوله بشيءٍ، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيارٌ، ولا رأىٌ، ولا قولٌ. 9 - صار مرافعة شرعية بخصوص "وادي النقيع" عند قاضي وادي الفرع الشيخ "محمد بن أحمد الراضي"، ودرس الموضوع من جميع جوانبه، ورجع إلى المصادر، واستعان بأهل الخبرة من أهل المنطقة، ثم حكم ببقاء حمى النبي -صلى الله عليه وسلم- للمصلحة العامة، التي كانت تجري زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتأيد حكمه من محكمه التمييز للمنطقة الغربية، والصك الذي أصدره الشيخ الراضي برقم (7) وتاريخ 29/ 1/ 1406 هـ، وصلَّى الله على نبينا محمَّد. ***

791 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه (¬1). وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَهُوَ فِي المُوَطَّأ مُرْسَلٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. حديث ابن عباس رواه أحمد، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، والطبراني، والدارقطني، ومداره على عكرمة عن ابن عباس. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسلاً، وأخرجه أحمد، وابن ماجة والبيهقي من حديث: عبادة بن الصامت، وفيه انقطاع. وله شواهدُ عن أبي هريرة، وجابر، وعائشة، وثعلبة القرظي، وأبي لبابة. فالحديث متعدد الطرق، ولم يطعن بشيء منها إلاَّ من حيث الوصل أو الإرسال، فهو قوي بمجموع هذه الطرق. وقد حسَّن الحديث الإمام النووي في الأربعين، وكذلك السيوطي. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي بمجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 313)، ابن ماجه (2341). (¬2) مالك (2/ 745).

* مفردات الحديث: - لا ضرر: ضره يضره ضرًّا ضد نفعه، أو جلب إليه الضرر، والضَّر -بالفتح- مصدرٌ، وبالضم اسمٌ للفعل، ومعناه: لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئًا من حقه. - ولا ضرار: فعال من الضر، أي لا يجازيه على ضرره أكثر مما ضرَّه، فالأول ابتداء، والثاني جزاءٌ عليه متجاوزًا حقه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث أحد القواعد الكبرى، التي يندرج تحتها الكثير من الصور والمسائل. 2 - معنى "لا ضرر": أي منع إلحاق أيّ مفسدة بالغير مطلقًا، سواء كان ضررًا خاصًّا، أو ضررًا عامًّا، ودفع الضرر قبل وقوعه بطريقة الوقاية الممكنة، كما يشمل رفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدبير. 3 - وبهذا فإنَّ إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه القاعدة، وإن ترتَّب عليها ضرر بهم؛ لأنَّ فيها عدلاً، ودفعًا ووقايةً، من ضرر أعمَّ وأعظم. 4 - معنى "ولا ضرار" هو نفس الضرر بقصد الثأر الذي يزيد في الضرر، ويوسع دائرته، فالإضرار -ولو كان على سبيل المقابلة- لا يجوز أن يكون مقصودًا، وإنما يُلجأ إليه عند الضرورة، فإنَّ المشروع هو دفع الضرر بدون ضرر أصلًا، فإن لم يمكن فيدفع بالقدر الممكن منه. فمن أتلف مال غيره -مثلًا- لا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله؛ لأنَّ في ذلك توسعة للضرر بلا منفعةٍ، وأفضل منه تضمين المتلِف قيمة ما أتلف، وذلك

بخلاف الجناية على النفس أو الطرف، ممَّا شُرع فيه القصاص؛ لأنَّ الجنايات لا يقمعها إلاَّ عقوبةٌ من جنسها. 5 - فالحديث يفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل، والإمكانيات الممكنة، وفقًا للسياسة الشرعية، ويكون دفعه بدون ضرر أصلًا، وإلاَّ فيدفع بالقدر الممكن. 6 - الشرع إنَّما جاء ليحافظ على الضروريات الخمس، فيحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، وأعراضهم، فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة، يجب إزالتها ما أمكن، وفي سبيل تأييد مقاصده، يدفع الضرر الأعم، بارتكاب الضرر الأخص، ولهذه الحكمة شُرعَ القصاص وقتل المرتد، صيانةً للأنفس والأديان، وشُرعَ حد الزنا والقذف، صيانةً للأعراض، وشُرع حد شرب الخمر، حفظًا للعقول، وشُرع القطع في السرقة، حمايةً للأموال. ***

792 - وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: حديث سمرة رواه أحمد، وأبو داود عنه، والطبراني، والبيهقي من حديث الحسن عنه، وفي صحة سماعه منه خلافٌ. ورواه عبد بن حميد من طريق سليمان اليشكري عن جابر، وسكت عنه الحافظ في التلخيص، وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أحد أنواع الإحياء، وهو إحاطة الأرض الموات بحائط يمنع الحيوانات من القفز من أعلاه، فمن أحاط أرضًا بجدار منيع فقد أحيا تلك الأرض. 2 - وإذا أحيا الأرض فقد ملكها ملكًا شرعيًّا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فهى له". 3 - قال الفقهاء: من أحاط مواتًا بأن أدار حوله حائطًا منيعًا بما جرت به عادة أهل البلد بالبناء، من لبنٍ، أو طوبٍ، أو حجرٍ، أو قصبٍ، أو خشبٍ ونحوه، فقد أحياه سواء أرادها للبناء أو غيره. والمقدار المعتبر ما يسمى حائطًا في اللغة. قال الطيبي في شرح المشكاة: قوله: "أحاط" يدل على أنَّه بنى حائطًا ¬

_ (¬1) أبو داود (3077)، ابن الجارود (1015).

مانعًا محيطًا بما يتوسطه من الأشياء. والعمل في المحاكم في المملكة أنَّه إذا كان ارتفاع الجدار مترًا ونصف المتر فهو إحياءٌ؛ لأنَّه منيع، وما كان دون ذلك فهو تحجرٌ، وليس إحياءً. 4 - وإحاطة الأرض الموات بالجدار المنيع يعتبر إحياءً، ولو لم يُرِدها للبناء، فمجرَّد الإحاطة كافٍ في الإحياء، والملك. ***

793 - وَعَنْ عَبدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَفَرَ بئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، عَطَنًا لِمَاشِيتَهِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص: رواه ابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف، وقد أخرجه الطبراني من طريق أشعت عن الحسن، وقد ضعفه ابن الجوزي، وابن عبد الهادي. وقواه الزيلعي، وقال البوصيري في الزوائد: مدار هذا الحديث على إسماعيل بن مسلم الحكمي، وقد اختلفوا في توثيقه. اهـ. وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد (2/ 494). * مفردات الحديث: - ذراعًا: بكسر الذال، وذراع الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى، وأشهر أنواعه الذراع الهاشمية وهي (32) إصبعًا أو (64) سنتيمترًا. - عطنًا: يُقال: عطنت النَّاقة عطونًا: روت ثمَّ بركت، فهي عاطنة، فالعطن بفتحتين: جمع معاطن، وهو مبارك الإبل، ومربض الغنم حول الماء؛ لتشرب عَلَلاً بعد نَهَلٍ. - ماشيته: هي الإبل والبقر، والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم جمعها مواش. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2486).

* ما يؤخذ من الحديث: يتعلق بحفر الآبار ثلاثة أحكام: أحدها: متى تُحْيا، وتكون ملكًا بالحفر؟ الثاني: تقسيمها حسب إرادة من حفرها. الثالث: حريم الآبار يختلف باختلاف المراد منها. الحكم الأول: إذا حفر إنسان بئرًا، فوصل في حفره إلى الماء فقد أحياها، فإن حفرها، ولم يصل إلى الماء فليس حفره إحياءً، وإنما يعتبر تحجرًا، فهو أحق بها من غيره، فإن وُجد متشوف لإحيائها والانتفاع بها، ضَرَبَ ولي الأمر مدَّة للتحجر، فإِن أتمَّ إحياءها في تلك المدة المضروبة، وإلاَّ نزعها منه وأعطاها المتشوفَ لإحيائها. الحكم الثاني: إذا حفرها ووصل إلى الماء لا يخلو قصده من ثلاثة أمور: - إما أن يريد تملكها لزراعةٍ، أو سقايةٍ خاصَّةٍ به، فهذه محياة مملوكة. - وإما أن يكون حفرها لنفع المجتازين، فهذه يشترك الناس في مائها، لا فضل لأحد على أحد، والحافر لها كأحدهم في السقي والشرب؛ لأنَّ الحافر لم يخص بها نفسه ولا غيره. - وإما أن يحفرها لا ليملكها، بل ليرتفق بمائها، ما دام مقيمًا عليها، فإذا رحل عنها انتفع بها غيره، فهذه لا يملكها، وإنما هو أحق بمائها ما دام باقيًا عندها، فإذا رحل صارت سابلة لعموم الناس، فإذا عاد عاد إليه حقه بالاختصاص بالارتفاق بمائها. وهذه طريقة البادية الرحّل الذين يقيمون إقامة مؤقتة، ويظعنون تجاه المراعي، وحسب فصول السنة. الحكم الثالث: ما قدر حريمها؟

إذا حفر الإنسان بئرًا فوصل إلى مائها، فلا يخلو من ثلاثة أمور: الأول: أن تكون البئر محاطة من جميع جوانبها بأملاك الغير، فهذه ليس لها حريمٌ، ولا مرافقُ، وإنما كل واحدٍ ينتفع بما جرت به العادة. الثاني: أن يريدها الحافر لسقي الماشية ونحو ذلك، فهذه إن كانت البئر قديمة ثم جذد حفرها، فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب من جوانبها، وإن كانت بدية محدثة، فحريمها خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، وذلك بذراع اليد، وجعلت القديمة أكثر حرمًا؛ لأنَّ ماءها غالبًا أغزر، وحاجتها إلى الساحة أكثر، وذلك لما روى أبو عبيد في الأموال، عن سعيد بن المسيب، قال: "السُّنَّة في حريم القليب العادي خمسون ذراعًا"، وبعض العلماء جعل حريم البئر أربعين ذراعًا، كما في حديث الباب، وهذا الحريم هو معاطن للإبل، ومجرٌّ للبئر، ومرافقُ لها. وقال القاضي وغيره: ليس هذا على طريق التحديد، بل حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها، وهذا قول جيد. الثالث: وإن كانت البئر تراد للزراعة، فقد جاء في سنن الدارقطني من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "وَعين الزرع ستمائة ذراع" وهذا قول أكثر العلماء. وقيل: قدر الحاجة، اختاره القاضي والموفق وغيرها. قال مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "الحافر لغير الشرب كمريد إحياء الأرض للفلاحة، فله ما حواليه مقدار الزرع؛ لأنَّه جاء ليزرع، فما كان حواليه فلا يعترضه أحد؛ لأنَّه سبق إليها، فيترك له ما جرت العادة به أن يزرع، وفَرْقٌ بين من حفر على الارتوازي، والذي على الحيوان". اهـ. قُلتُ: وكلام المفتي -رحمه الله تعالى- هو عين الصواب، والله أعلم.

794 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صححه الترمذي، وابن حبَّان. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، ورواه البيهقي، والطبراني، وابن حبان، وصححه. * مفردات الحديث: - أقطعه: أي ملكه أرضًا يستبد بها، وينفرد بها، والإقطاع يكون تمليكًا، وغير تمليك، وإنما هي للارتفاق والمنفعة. وإقطاع الإمام هو لمن يراه أهلاً لذلك، وأكثر ما يستعمل في إقطاع الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم. - بحضْرموْت: والتركيب مزجي، منطقة بجنوب الجزيرة العربية مشهورة، عاصمتها مدينة المكلا. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (3058)، الترمذي (1381).

795 - وَعَنِ ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ، فَقَال: أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السَّوطُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيه ضعْفٌ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أصل الحديث في الصحيح. قال في التلخيص: رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، وفيه العمري ضعيف، وله أصل في الصحيح من حديث أسماء بنت أبي بكر. * مفردات الحديث: - أقطع الزبير: الإقطاع تعيين قطعة من الأرض لغيره، يقال: أقطع الإمام إقطاعًا: جعلها للمقطع، وهو مأخوذٌ من القطع، كأنه يقطع له قطعة من الأرض، وإقطاع الإمام نوعان: إقطاع إرفاق، وإقطاع تمليك، كما سيأتي إن شاء الله. - حُضر فرسه: بضم الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، الحُضر: عدْوٌ، ووثبٌ والمراد قدر عدو فرسه، ولكنه أقام المصدر مقام الاسم، ومعناه موضع حُضر فرسه. - حُضْر: منصوب على حذف المضاف، أي: قدر ما يعدو عدوة واحدة. - السَّوط: بفتح السين، ما يضرب به من جلد، سواء أكان موضونًا، أم لم يكن، جمعه أسواط وسياط. ¬

_ (¬1) أبو داود (3072).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - إقطاع الإمام هو تسويغه من مال الله شيئًا لمن يراه أهلاً لذلك. 2 - ففي الحديثين جواز إقطاع الإمام أرضًا مواتًا لمن يحييها. 3 - ويكون الإقطاع هو تسويغ من مال الله تعالى العائدة مصالحه إلى المسلمين، والإمام هو نائب المسلمين أنيط الإقطاع به، فلا يكون من غيره أو نائبه ولأنَّ الإقطاع راجع إلى رأي الإمام في المصلحة العامة. 4 - ففي الحديثين إقطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- وائلَ بن حُجر أرضًا بحضرموت، ومناسبة إقطاعه هناك أنَّها بلاده، وهو قادر على إحيائها، والانتفاع بها، وإقطاع الزبير بن العوام قدر عدو فرسه. 5 - وفيهما جواز إقطاع المساحة الكبيرة للشخص الواحد، إذا رأى الإمام في ذلك مصلحةً، بأن يكون عنده القدرة على إصلاحها، واستثمارها. 6 - وفيهما أنَّه لا يذم الإنسان، -وإن كان فاضلاً- على الرغبة في الحصول على الدنيا من طرقها المشروعة، ومن تلك الطرف عطايا الإمام. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أقرَّ الزبير على حُضْر فرسه حتى وقف، ثم زاد على حُضْر الفرس أن رمى سوطه فأعطاه ما رغب فيه، وهو منتهى ما وصل إليه سوطه. * فوائد: الأولى: قسَّم الفقهاء الإقطاع إلى ثلاثة أقسام: 1 - إقطاع قصد به تمليك المقطع لما أُقطع. 2 - إقطاع استغلال: بأن يقطع الإمام أو نائبه من يرى في إقطاعه مصلحةً، لينتفع بالشيء الذي أقطعه، فإذا فقدت المصلحة فللإمام استرجاعه. 3 - إقطاع إرفاق: بأن يقطع الإمام أو نائبه الباعة الجلوس في الطرف الواسعة، والميادين، والرحاب، ونحو ذلك. فأما إقطاع التمليك: فالمذهب أنَّ المقطع لا يملك الموات بالإقطاع،

وإنما يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء، فإن أحياه ملكه، وحينئذٍ لا يجوز استرجاعه منه بعد إحيائه؛ لأنَّه ملكه بالإحياء، فإن لم يُحْيه وَوُجد متشوف لإحيائه، ضرب الإمام أو نائبه للمقطع مدةً حسب ما يراه، إن أَحياه فيها، وإلاَّ استرجعه. قال في الإنصاف: يثبت الملك بنفس الإقطاع، فيبيع، ويورَث عنه. وهو الصحيح، وبهذا القول أفتت الهيئة القضائية بالديار السعودية. قال في الإقناع وشرحه: وإن أحياه غير المتحجر في مدة المهلة أو قبله لم يملكه، لأنَّ حق المتحجر أسبق فكان أولى، ولمفهوم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحيا أرضًا ميتة غير حق مسلم فهي له". ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلاَّ ما قدَّر المقطع على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حقٍّ مشتركٍ بينهم، وقد استرجع عمر في خلافته من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العَقِيق الذي أقطعه النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يقطع كل فردٍ إلاَّ الشيء الذي يقدر على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حقٍّ مشتركٍ بينهم. قال في شرح الإقناع وغيره: ولا يجوز للإمام إقطاع ما لا يجوز إحياؤه ممَّا قَرُب من العامر، وتعلَّق بمصالحه؛ لأنَّه في حكم المملوك لأهل العامر. وقالت الهيئة القضائية في الديار السعودية: إقطاع الأرض الموات لا يسري على أملاك الآخرين، ومرافق البلد، ومصالحها، وما تحتاج إليه. الثانية: قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا من علماء المسلمين من الأئمة الأربعة ولا غيرهم قال: إجارة الإقطاعات لا تجوز، حتى حدَث بعض أهل زماننا، فابتدع القول بعدم الجواز.

796 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: غَزوْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الكَلأِ، وَالمَاءِ، وَالنَّارِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود بسند صحيح. والحديث بلفظ "الناس" شاذٌّ، تفرَّد به يزيد بن هارون عند أبي عبيد، فخالفه كلٌّ من علي بن الجعد، وعيسى بن يونس عند أبي داود، وثور الشامي عند أحمد والبيهقي، وكلهم عن حريز بن عثمان حدثنا أبو خداش، عن رجل من الصحابة، وفيه "المسلمون" بدل "الناس". وللحديث شواهدُ منها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار" أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ صحيح، قاله الحافظ وصاحب الزوائد. * مفردات الحديث: - في ثلاث: لما كانت الأسماء الثلاثة في معنى الجمع أنَّثها بهذا الاعتبار. - الكلأ: بفتح الكاف واللام، مهموز في آخره، مقصور، هو العشب رطبًا كان أو يابسًا، جمعه أكلاء، قال الصاغاني: وأما الحشيش فمختصٌّ باليابس. - الماء: أصله ماه بالهاء، فأبدلت همزة؛ لأنَّها أقوى على الحركة، ويدل على ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 364)، أبو داود (3477).

هذا الأصل ظهورها في الجمع فتقول: مياه وأمواه، وفي التصغير: مويه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على عدم اختصاص أحد من الناس بواحد من الأشياء الثلاثة، وإنما تبقى مشاعة عامة بين الناس؛ لأنَّ هذه الأشياء الثلاثة من الأمور الضرورية، المبذولة لعامة المنتفعين، فلا يجوز لأحد أن يختص بها، ويمنع منها أحدًا محتاجًا إليها. 2 - وهذا من أحكام الإسلام العادلة، وإباحته الشاملة، وإفضاله على أهله، فأمورهم الضرورية، وحاجتهم المشاعة هي شركة للجميع، من حازها ملكها وانتفع بها، وهذا مبدأ اقتصادي هام، وهذه الثلاث هي: أولًا: الكلأ الذي هو الحشيش، سواءٌ كان رطبًا أو يابسًا، فهو نبت الفيافي والقفار، وهو علف المواشي من الإبل والبقر والغنم، وغيرها من الحيوانات، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54،53]. وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حمى إلاَّ لله ولرسوله". وقال الفقهاء: ولايصح بيع ما نبت بأرضه من كلأٍ وشوكٍ لقوله -صلى الله عليه وسلم- "الناس شركاء في ثلاث" ثانيًا: الماء، فلا يجوز بيعه ما لم يَحُزه في بِركته، أو قِربته، أو إنائه ونحوه، وأما الذي لم يحز من ماء السماء، أو ماء العيون، أو نقع الآبار، فلا يملك، ولا يصح بيعه، قال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر] وقال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقعة].

وجاء في صحيح مسلم عن جابر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع فضل الماء". ثالثًا: النار، فهي من الأشياء المشاعة العامة، ولا يجوز بيعها، وإنما يجب بذلها لمحتاجها، سواءٌ في ذلك وقودها كالحطب، أو جذوتها كالقبس، أو الاستدفاء، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} [الواقعة]. 3 - فهذه الأشياء الثلاثة من المرافق العامة التي يجب بذلها لمحتاجها، ويحرم منع أحد عنها؛ لأنَّها أمور أشاعها الله تعالى بين خلقه، والضرورة تدعو إليها، فمنعها أو منع أحد محتاج إليها منها، لا يجوز، وهو من الدناءة التي يكرهها الإسلام السمح. ***

باب الوقف

باب الوقف مقدمة الوقف: مصدر وقَفَ الشيء، وحَبَسَه وسبله بمعنى واحد، وأوقفه لغة شاذة. قال ابن فارس: الواو والقاف والفاء أصل يدل على مكث، ثم يقاس عليه. قلتُ: ومن هذا الأصل المقيس يؤخذ الوقف، فإنه ماكث الأصل. وتعريفه شرعًا: حبس مالكٍ مالَه المنتفَع به، مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنول القُرب، ابتغاء وجه الله. حكمه: الاستحباب، وقد ثبت بالسنة بأحاديث كثيرة: منها حديث أبي هريرة أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إذَا مَاتَ ابْن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية ... " إلخ. وأجمع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، على جوازه ولزومه. قال الترمذي: لا نعلم أحدًا من الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خالف في جواز وقف الأرضين. قال جابر: لم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا مقدرةٍ إلاَّ وقف. وبهذا يُعلم إجماع القرن المفضل، فلا يُلتَفت إلى خلافٍ بعده، كما جاء عن شريح أنَّه أنكر الحبس. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه.

فضله: فهو أفضل الصدقات التي حثَّ الله عليها؛ لأنَّه صدقةٌ دائمةٌ ثابتةٌ. وهذا الفضل المترتب عليه إذا كان وقفًا شرعيًّا، مقصودًا به وجه الله تعالى، موجهة مصارفه إلى وجوه البر والإحسان، من بناء المساجد، والإعانة على علمٍ نافع، والدعوة إلى الله، والمشاريع الخيرية، وصرفه إلى ذوي القربى والفقراء والمساكين، ومساعدة أهل الخير والصلاح على طاعة الله تعالى. أمَّا أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف لئلا يبيعوه، فمثل هذا لا يُعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء. وأما أن تكثر ديونه فيقف العقار خشية أن يباع لإيفاء أصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحابي بعضهم، ويحرم بعضهم، أو يفضل بعضهم على بعض بلا مسوِّغ شرعي. فمثل هذا لا يعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء، وبهذا يدخل في باب الظلم بدلاً من باب البر؛ لأنَّه ليس على مراد الله تعالى. وكل ما أحدث في غير أمر الله تعالى فهو مردودٌ غير مقبولٍ. فالوقف برٌّ وإحسانٌ على الموقوف عليهم، إما لقرابتهم، وإما لحاجتهم، وإما للحاجة إليهم. وهو صدقةٌ مؤبدةٌ للواقف يجري عليه ثوابها بعد انقطاع أعماله، وانتهاء آماله، بخروجه من دنياه إلى آخرته. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس].

796 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإنْسَان انْقَطَع عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، اوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ" روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المؤلف ذكر هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ الوقف من الصدقة الجارية. 2 - أول من وقف في الإسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، كما أخرج ابن أبي شيبة: "إنَّ أول من وقف في الإسلام وقف عمر" وسيأتي إن شاء الله. 3 - الدنيا جعلها الله تعالى دار عمل يتزود منها العباد من الخير، أو يحملون معهم من الشر للدار الأخرى، التي هي دار الجزاء، وسيفلح المؤمنون، كما سيخسر المفرطون. 4 - إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاَّ من هذه الأعمال الثلاثة، التي هي من آثار عمله، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. 5 - الأول: الصدقة الجارية كوقف العقار الذي ينتفع به، والحيوان المنتفع بركوبه، والأواني المستعملة، وكتب العلم، والمصاحف الشريفة، والمساجد والربط، فكل هذه وأمثالها أجرها جار على العبد ما دامت باقية، وهذا أعظم فضائل الوقف النافع الذي يعين على الخير، والأعمال الصالحة من علمٍ وجهادٍ وعبادةٍ، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) مسلم (1631).

6 - من هذا نستدل على أنَّ الوقف الشرعي الصحيح هو ما كان على جهة بر من قريبٍ، أو فقيرٍ، أو جهةٍ خيريةٍ نافعة. 7 - الثاني: العلم الذي يُنتفع به بعد وفاته من طلاب محصلين ينشرون العلم، وكتب مؤلفة يستفاد منها، أو كتب طبعها وأعان على نشرها بين الناس، ففي الحديث الصحيح؛ "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لكَ من حُمْر النَّعَم". 8 - الثالث: الولد الصالح، سواء كان ولد صلب، أو ولد ولد، ذكرًا كان أو أنثى، فينتفع بدعائه وإهدائه القُرب والأعمال الصالحة إليه، وإذا عبد الله تعالى استفاد والده، أو جده من عمله. 9 - قد يجتمع للعبد الثلاثة كلها، بأن يجعل صدقة جارية، ويستفاد من عليه، أو نشره الكتب، ويكون له ذرية صالحون، يدعون له، ويهدون إليه الأعمال الصالحة، ففضل الله واسع. 10 - قال ابن الجوزي: من علم أنَّ الدنيا دار سباق، وتحصيل الفضائل، وأنَّه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت مرتبته في دار الجزاء، أنهب الزمان، ولم يُضِعْ لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلاَّ حصلها، ومن وُفِّق لهذا فليغتنم زمانه بالعلم، وليصابر كل محنةٍ وفقرٍ إلى أن يحصل له ما يريد. ***

798 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَصَابَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يسْتأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبرَ، لَم أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَقَال: إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ لاَ يُباَعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُوْرَثُ، وَلا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ، وَفِي القُرْبىَ، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيل، والضَّيفِ، لاَ جُنَاحَ عَلى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "تَصَدَّقَ بأَصْلِهَا، لاَ يُباَعُ، وَلاَ يُوهَب، وَلكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أرضًا بخيبر: اسم تلك الأرض "ثمغ" بفتح الثاء المثلثة، وسكون الميم، وآخره غين معجمة. - يستأمره: أي يستشيره فيها. - أنفس عندي: يقال: نفُس، -بضم الفاء- نفاسة، والمراد: أجودُ وأعجبُ مالٍ عندي. ¬

_ (¬1) البخاري (2764، 2772)، مسلم (1632).

- القربى: قرابة الإنسان الشاملة لجهة الأب، وجهة الأم، والمراد قربى الواقف. - الرقاب: وهم الأرقاء، الذين كاتبهم أسيادهم، ولا يجدون وفاء كتابتهم وديْنهم. - في سبيل الله: هم الغزاة، وجميع ما أعان على إعلاء كلمة الله، ونشر دينه. - ابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة في غير بلده، فالسبيل هو الطريق، سمي ابن السبيل لملازمته له. - الضيف: النزيل ينزل على غيره، دعي أو لم يدع، يكون للواحد والجمع؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وقد يجمع على أضياف وضيوف. - لا جُنَاح: بضم الجيم، وهو الإثم على من وليها أن يأكل من رَيعها بالمعروف. - غير مُتمول: حال من قوله "من وليها"، أي أكله وإطعامه غير متَّخذ من الوقف ملكًا له، فليس له سوى ما ينفقه، بلا مجاوزة للمعتاد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أصاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أرضًا بخيبر هي أغلى مال عنده، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيره في صفة الصدقة بها، فأشار عليه بتحبيس أصلها عن التصرفات، والصدقة بِغَلَّتها، ففعل، فكان هو أول من وقف في الإسلام -رضي الله عنه-. 2 - ففي الحديث بيان معنى الوقف، من أنَّه تحبيس الأصل عن التصرف بالرقبة بما ينقل ملكها، أو يكون سببًا لذلك، وتسبيل المنفعة. 3 - قوله: "غير أنَّه لا يُباع أصلها" فيه بيان حكم التصرف في الوقف، فإنَّه لا يجوز بما ينقل الملك، كالبيع والهبة، وإنما يجب بقاء الرقبة يعمل فيه حسب الشرط الشرعي من الواقف.

4 - أنَّ الوقف لا يكون إلاَّ في الأشياء التي ينتفع بها، وتبقى أعيانها، فأما الذي يذهب بالانتفاع به فهو صدقةٌ، وليس وقفًا. 5 - قوله: "فتصدَّق بها في الفقراء" فيه بيان مصرف الوقف، ذلك بأن يكون في وجوه البر العام أو الخاص، كالقرابة، والفقراء، وطلاب العلم، والمجاهدين، ونحو ذلك. 6 - قوله: "لا جناح علما من وَلِيَهَا" فيه مشروعية وجود ناظر للوقف، ينفذ شرط الواقف، ويصلح الوقف، ويصرفه مصارفه. 7 - قوله: "أن يأكل منها بالمعروف" فيه بيان أنَّ الناظر له قدر نفقته من الوقف بالمعروف، وذلك مقابل عمله، ومقابل حبسه نفسه على إصلاحه وأعماله. 8 - وفيه أنَّ للواقف أن يشترط شروطًا عادلةً جائزةً شرعًا، وأنَّه يجب إنفاذها، والعمل بها، ولولا ذلك ما كان لاشتراطها فائدة. 9 - فيه فضيلة الوقف، وأنَّه من الصدقات الجارية، والإحسان المستمر. 10 - وفيه أنه ينبغي أن يكون الوقف من أطيب المال وأحسنه، طمَعًا في ثواب الله تعالى، حيث قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] , قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة]. 11 - وفيه وجوب النصح لمن استشار، وأن يدله على أفضل الطرق، وأحسن الوجوه. 12 - وفيه فضيلة استشارة العلماء، وأهل الرأي والنصِج، وأنَّ الإنسان لا يستبد بأموره الهامة، فقد قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا} [الشورى: 38] ففي هذا السداد، والرشاد، والنجاح في الأمور غالبًا.

13 - فيه ما يدل على أنَّه يجب أن تكون شروط الواقف من الشروط العادلة الصحيحة الشرعية؛ لأنَّه جاء في الحديث الذي في الصحيحين أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط". أما الشروط الجائرة الظالمة، مثل الشروط التي يقصد بها حرمان بعض الورثة، ومحاباة بعضهم بلا مسوغ، فهذه شروطٌ باطلةٌ محرَّمةٌ، لا تصح. 14 - فيه أنَّه يجب على العلماء، والقضاة، وكتَّاب العدل، ونحوإ لك ممن يتولون كتابة وثائق الناس في أوقافهم، ووصاياهم، أن يدلوهم على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله، وأن يجنبوا الواقفين والموصين الظلم والحَيف، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من اشترط في الوقف، أو الهبة، أو البيع، أو النكاح، أو الإجارة، أو النذر، أو غير ذلك، شروطًا تخالف ما كتبه الله على عباده، بحيث تتضمن الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النَّهي عما أمر الله به، أو تحليل ما حرَّمه الله، أو تحريم ما حلَّله، فهذه الشروط باطلة باتفاف المسلمين في جميع العقود الوقف وغيره. 15 - فيه بيان بعض جهات البر التي ينبغي أن يكون مصرف الوقف فيها وهي: - الفقراء: ويدخل معهم المساكين، وهم من لا يجدون كفاية عامهم من النفقات. قال الشيخ: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب، مع التساوي في الحاجة. - القُربى: وهم قرابة الإنسان من النسب أو المصاهرة، والأفضل أن تكون بالأقرب فالأقرب، مع الاستواء في الحاجة، وإلاَّ فتقدَّم الحاجة.

- الرقاب: من عتق الأرقاء، وفكاك الأسرى. - وفي سبيل الله: من المرافق العامة النافعة للمسلمين، من الدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله، والملاجيء، والمساجد، وغير ذلك. - ابن السبيل: المسافرون المنقطعون عن بلدانهم وأموالهم وعن بعضهم، فيعطون ما يبلغهم إلى أوطانهم. - والضيف: بره والإحسان إليه، والواجب يوم وليلة، والمستحب أدناه ثلاثة أيام. 16 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اشتراط البر والقربة في الوقف يدل على أنَّ الوقف على بعض الورثة دون البعض الآخر يحرم، ولا يصح. 17 - وقال الشيخ تقي الدين: اتَّفق العلماء على أنَّه لا يجوز بذل المال إلاَّ لمنفعة تعود على الدِّين أو الدنيا، والوقف لا يعود على الدنيا لصاحبه، وحينئذٍ فلا ينتفع به الدِّين إلاَّ لما يقفه في سبيل طاعة الله تعالى. 18 - وقال الشيخ: اتَّفق العلماء على أنَّ شروط الوقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كما في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إنَّ شروط الواقف كنصوص الشارع، فمراده في الدلالة على المراد، لا في وجوب العمل بها، مع أنَّ التحقيق في هذا أنَّ لفظ الحالف، والموصي، وكل عاقد يُحمل قوله على عادته في خطابه، ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية الفصحى، أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقه، فإنَّ المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نرجع في معرفة كلام الواقف إلى معرفة لغته وعرفه وعادته. وقال ابن القيم: إنَّ أحسن حمل لقول: "نص الواقف كنص الشارع" بمعنى تخصيص عامها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيَّدها، واعتبار

مفهومها كاعتبار منطوقها، وأما وجوب الاتباع فلا يظن ذلك من له نسبة إلى العلم، وإذا كان حكم الحاكم يرد منه ما خالف حكم الله ورسوله، فنص الواقف أولى. * خلاف العلماء: يرى الإمام أبو حنيفة جواز بيع الوقف والرجوع فيه إلاَّ أن يحكم به الحاكم، أو يعلقه بموته، فيقول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فيلزم حينئذٍ، وخالفه أصحابه في ذلك، قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة "حديث عمر" لقال به، ورجع عن بيع الوقف، والمفتى به في المذهب الحنفي هو قول أبي يوسف -رحمه الله-. قال القرطبي: الرجوع في الوقف مخالفٌ للإجماع، فلا يلتفت إليه. وذهب مالك والشافعي إلى لزوم الوقف، وعدم جواز بيعه بحال، أخذًا بعموم الحديث: "غير أنَّه لا يُباع أصلها". وذهب أحمد إلى قول وسط، وهو أنه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال به، إلاَّ أن تتعطَّل منافعه، فيجوز بيعه، واستبداله بغيره. استدل على ذلك بفعل عمر حينما بلغه أنَّ بيت المال الذي بالكوفة نقب، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة: "أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلى". وكان هذا بمحضر من الصحابة، فلم يُنْكر، فهو كالإجماع. وشبَّهه الإمام أحمد بالهَدي الذي يعطب قبل بلوغه محله، فإنَّه يذبح بالحال، وتترك مراعاة المحل لإفضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية. قال ابن عقيل: الوقف مؤبد، ولما لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة". وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إذا نقص الموقوف، أو قلَّت منافعه، وكان غيره أصلح منه، وأنفع للموقوف عليهم، ففيه عن أحمد روايتان: المذهب: المنع، والأخرى: الجواز، وهو اختيار شيخ الإسلام. قُلتُ: وعليها العمل في الديار السعودية، ولكن بعْد نظر الحاكم الشرعي وحكمه، ثم تمييز الحكم من محكمة التمييز. ***

799 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "بعثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عُمَرَ عَلى الصَّدَقَةِ ... الحَديثَ، وفِيهِ: فَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وَاعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - احتبس: التحبيس ابتغاء وجه الله تعالى بوقف عين ينتفع بها، ويبقى أصلها. - أدْرَاعه: مفرده درع، والدرع قميص من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس وقايةً من السلاح، يذكَّر ويؤنَّث. - أَعْتاده: مفرده عتاد، بفتح العين، والعتاد آلات الحرب من سلاح وغيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب لجباية الزكاة، فجاء إلى خالد بن الوليد، وإلى ابن جميل، فمنعا أداءها، فشكاهما عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَقال -صلى الله عليه وسلم- "أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فلا زكاة عليه، وأما ابن جميل فليس له من العذر، إلاَّ أنَّه كان فقيرًا فأغناه الله". 2 - ففيه مشروعية بعث الإمام السعاة لجباية الزكاة من أهلها. 3 - جواز شكوى من امتنع من أداء الواجبات إلى من يقدر على إجباره على أدائها، وأنَّ هذا لا يُعدُّ من الغيبة المحرَّمة. 4 - قبيح فعل من جحد نعمة الله عليه شرعًا وعقلاً؛ لأنَّه جعل كفر النعمة مكان شكرها. 5 - أنَّ الأشياء الموقوفة على جهة برٍّ، كالمساجد، والربط، والمدارس، ¬

_ (¬1) البخاري (1468)، مسلم (983).

والفقراء، ليس فيها زكاة؛ لأنَّه ليس لها مالك معيَّن. 6 - أما الموقوفة على معيَّن ففيها الزكاة، إذا بلغت حصة كل واحد منهم نصابًا. 7 - جواز جعل الأعيان المنقولة وقفًا لله تعالى، فلا يختص الوقف بالعقار، وجواز وقف الحيوان، فقد فسرت الأعتاد بالخيل. 8 - إن الوقف جهة برٍّ، ثوابه كبير، وأجره عظيم. 9 - إنَّ الحقيقة الشرعية "في سبيل الله" هي الغزو وقتال الكفار، لا جميع المرافق التي ينتفع المسلمين، كما أدخلها بعضهم. 10 - وفيه فضيلة الوقف والتحبيس على الجهاد في سبيله، وأنَّ هذا من جهات البرِّ النَّافعة. 11 - الجهاد الغرض منه نشر الدعوة، وإعلاء كلمة الله تعالى، وهذا كما يكون بالقتال يكون أيضًا بالدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها. 12 - قوله: "في سبيل الله" دليلٌ على أنَّ الوقف لا يُشرع، ولا يصح، إلاَّ إذا كان على قُربة، وبر، يرجو الواقف ثوابه عند الله تعالى؛ لأنَّه صدقةٌ، والصدقة يقصد بها الثواب. قال ابن القيم: الوقف على المَشَاهد باطلٌ، وهو مالٌ ضائعٌ فيصرف في مصالح المسلمين، فإنَّ الوقف لا يصح إلاَّ في قربةٍ وطاعة الله ورسوله، فلا يصح على قبور تُسْرج وتعظَّم، وتُتَّخذ من دون الله، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة المسلمين، ومن اتَّبع سبيلهم. ***

باب الهبة والعمرى والرقبى

باب الهبة والعمرى والرقبى مقدمة الهبة: بكسر الهاء، وتخفيف الباء، يقال: وهبت له شيئًا وَهْبًا، -بإسكان الهاء وفتحها- وهبة، والاسم الموهوب. وهي مشتقةٌ من هبوب الريح، أي مرورها. وشرعًا: تمليك جائز التصرف غيره مالاً معلومًا، أو مجهولاً مقدورًا على تسليمه، غير واجب في الحياة، بلا عوض. قال النووي: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع، أنواع من البر متقاربة، يجمعها: "تمليك عين بلا عوض". العُمْرى: بضم العين نوع من الهبة مأخوذة من العُمُر، لأنَّها توهب مدة عمر الموهوب له. الرُّقْبى: بضم الراء، مأخوذة من المراقبة، قال في النهاية: هو أن يقول الرجل للرجل: قد وهبت لك هذه الدار، فإن متَّ قبلي رجعت إليَّ، وإن مُتُّ قبلك فهي لك، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وهي نوع من الهبة أيضًا يعلق الرجوع بها بموت الموهوب، فهو يترقب وفاته، وهذا مأخذ اشتقاقها. والهبة أنواع: 1 - الهبة المطلقة: ما قصد بها التودد.

2 - الصدقة: ما قصد بها محض ثواب الآخرة. 3 - العطية: هي الهبة في مرض الموت المخوف، وتشارك الوصية في أكثر أحكامها. 4 - هبة الدَّين: هو الإبراء من الدَّين. 5 - هبة الثواب: يقصد بها ثواب الدنيا، وعوضها في الدنيا، وهي نوع من البيع، ولها أحكام البيع. وإذا أطلقت الهبة فالمراد بها الأولى من هذه الأنواع. وللهبة فوائد كثيرةٌ، وحِكَمٌ عظيمةٌ، من إسداء المعروف، وجلب المحبة والمودة، لاسيَّما إذا كانت على قريب، أو جار، أو ذي عداوة، فإنَّها تحقق من المصالح والمنافع الخير الكثير، وتكون من أنول العبادات الجليلة المتعدي نفعها، والجالبة لكل خير. فالشارع الحكيم حينما قال: "تهادوا تحابوا" إنَّما قصد كل ما فيه الخير والصلاح، والله الموفق. ***

800 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غَلاَمَا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَال: لاَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَأَرْجِعهُ". وَفِي لَفْظٍ: "فَانْطَلَقَ أَبِي إِلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي, فَقَالَ: افَعَلْتَ هَذَا بولَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لا، فَقَالَ: اتَّقُوا الله واعْدِلُوا بينَ أَوْلاَدِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: "فَأَشْهِدْ عَلى هَذَا غَيْرِي، ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي البِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَلاَ إِذَنْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نحلت: نحلته نُحلاً، بضم النون وسكون الهاء المهملة، أعطيته شيئًا من غير عوض بطيب نفسٍ، والاسم النِحل بكسر النون، والمراد بها هنا: عطية يخص الرجل بها أحد أولاده. - غلامًا: رقيقًا شابًّا. - أكُلَّ وَلدك نَحَلْتَه: الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، و"كل" منصوب بفعل محذوف تقديره: "نحلت" مفعول به. وقال بعض النحاة: الأفضل فيه الرفع على أنَّ "كل" مبتدأ. ¬

_ (¬1) البخاري (2586)، مسلم (1623).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي بابنه النعمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليُشْهِدَه على أنَّه نحله غلامًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "أكل ولدك نحلته غلامًا، مثل هذا الابن؟ فقال: لا، فقَال النَّبي-صلى الله عليه وسلم-: اتَّقُوا الله واعدلوا بين أولادكم, فرجع والده، وردَّ تلك النِّحلة ولم يُمْضِهَا". 2 - وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم تفضيل بعضهم على بعض، أو تخصيص بعضهم دون بعض. 3 - أنَّ التخصيص أو التفضيل من الجَوْر والظلم، لا تجوز الشهادة فيه، لا تحمُّلاً ولا أداءً. 4 - قال العلماء: يجب الإنكار على من خالف، ففضَّل بعض أولاده على بعضهم في الهبة؛ لأنَّه حيْفٌ وظلمٌ, والنبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على بشير. 5 - هذا ما لم يكن التخصيص أو التفضيل لمسوغٍ شرعيٍّ يدعو إلى ذلك، فإن كان ثَمَّ مسوغ فلا بأس، كأن يكون أحد الأولاد فقيرًا، والباقون أغنياء، أو يكون ذا عاهةٍ، لا يعمل معها، أو يكون متفرِّغًا لطلب العلم، والباقون منشغلون بالدنيا، ونحو ذلك، فهذا يجوز فيه التخصيص، فقد فضَّل أبو بكر عائشة بجذاذ عشرين وسقًا، نَحلها إياها دون سائر أولاده، وفضَّل عمر ابنه عاصمًا بشيءٍ أعطاه، وفضَّل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم، وكان هذا على علمٍ من الصحابة فلم ينكروا، فكان إجماعًا، وهم لم يفضلوهم إلاَّ لمعنًى رأوه، وإنما الذي لا يجوز التفضيل أو التخصيص به إذا كان على سبيل الأثَرة فقط. قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا فضَّل بعض أولاده لمعنًى فيه، كفقرٍ أو زمانةٍ فهذه المسألة فيها خلاف، واختار الموفق الجواز، واستدل عليه بقضية عائشة مع أبيها، وقوَّى هذا القول في "الإنصاف".

6 - قال شيخ الإسلام: ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، فإنْ خصَّ بعضهم لمعنًى يقتضي ذلك من حاجةٍ، أو زمانة، أو لانشغاله بالعلم، أو صرف عطيته عن بعض ولده؛ لفسقه، أو بدعته، فقد روي عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنَّه قال: لا بأس إذا كان التخصيص لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. قال في الإنصاف: وهذا قويٌّ جدًّا. واختاره علماء الدعوة السلفية. 7 - أنَّ الحكم الذي يجري على خلاف الشرع، فإنه محرَّمٌ غير نافذ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل من بشير ما نفذ من الوصية، وإنما زجره، وردها. ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". 8 - قال شيخ الإسلام أيضًا: الحديث والآثار تدل على وجوب العدل، ثم هنا نوعان: - نوعٌ يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير. - نوع حاجتهم إليه متساوية من عطية أو تزويج، فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه بينهم. - نشأ نوعٌ ثالث: هو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة، مثل أن يقضي عن أحدهم دينًا وجب عليه من أرش جناية، أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك. ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر. اهـ من الاختيارات. 9 - ظاهر الحديث التسوية بين الذكر والأنثى، "سوِّ بينهم" وهو قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل والحارثي. والمشهور من مذهب أحمد أن يقسمه بينهم على حسب ميراثهم، للذَّكَر مثل حظ الأُنثيين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، والشيخ

محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمهم الله تعالى-. 10 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الابن في عمل والده له حال عالية، وهي: أن يسعى في خدمة والده، والقيام بأعماله، يرجو ثواب الله تعالى، والبر بوالده وإخوانه، وله حالة أخرى لا حرج عليه فيها هي: أن يعقد مع والده عقد إجارة، فهذا يكون مثل الأجير. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: أما إذا كان ابنه يعمل معه فيجعل له أجرة مقابل عمله، فلا أرى بأسًا، وليس هذا من باب التخصيص بل هو إجارة. 11 - قال الموفق والشيخ تقي الدين وغيرهما: لا يجب على الإنسان التسوية بين أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم؛ لأنَّ الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء، ولا يصح قياسهم على الأولاد. قال الحارثي: وهو المذهب عند المتقدمين، أما المشهور من المذهب عند المتأخرين: فيجب إعطاؤهم بقدر إرثهم، قياسًا لحال الحياة على حال الموت. والقول الأول أرجح. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية العدل، والتسوية بين الأولاد في الهبة. واختلفوا في وجوب التسوية بينهم. فذهب أحمد والبخاري وإسحاق والثوري وجماعة إلى وجوبها، وإلى تحريم التفضيل بينهم، أو تخصيص بعضهم دون بعض، أخذًا بظاهر الحديث. وذهب الجمهور إلى أنَّ التسوية بينهم سنة وأنَّها غير واجبة، وأطالوا الاعتذار عن الأخذ بالحديث بما لا مقنع فيه. والحق الذي لا شكَّ فيه وجوب التسوية بينهم؛ لظاهر الحديث، ولما فيه

من المصالح الكبيرة، ودفع المضار والمفسدة الوخيمة. واختلفوا فيما إذا خصَّ الوالد بعض أولاده دون بعض، أو فضله دون البعض الآخر، بلا مسوِّغٍ شرعي، ثمَّ مات الوالد قبل أن يرجع فيما خصَّ به، ولا بما زاد به بعضهم على بعض، فهل تمضي العطية لمن أُعطِيَها، والإثم على الوالد المفضل بينهم؟ أم يرجع الورثة على المُعْطَى، ويكونون فيها سواء؟ ذهب جمهور العلماء إلى القول الأول، ومنهم الأئمة الأربعة. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، أنَّ العطية لا تثبت، وللباقين الرجوع، واختاره ابن عقيل، والعكبري، والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، واختاره الشيخ عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهاب، وهو قول عروة بن الزبير، وإسحاق. ***

801 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "العَائِدُ فِي هِبِتَهِ كَالكَلْبِ, يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ" (1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفرادت الحديث: - العائد في هبته: الراجع في الهبة التي أعطاها. - قيْئه: القيء ما قذفته المعدة، والتشبيه من حيث إنَّه ظاهر القبح مروءةً وخُلُقًا. - ليس لنا مثل السوء: أي لا ينبغي لنا نحن المسلمين، أن نتصف بصفةٍ ذميمة، يساهمنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحواله. - ليس: فعل ماض جامد ناقص للنفي، ترفع الاسم وتنصب الخبر، فاسمها "مثل السَّوء" وخبرها متعلق الجار والمجرور "لنا". ***

802 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُمْ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعطِيَ العَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيْهَا، إِلاَّ الوَالِدَ فِيْمَا يُعْطِي وَلَدَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث طاووس عن ابن عباس. وقد رواه الشافعي عن طاووس مرسلاً، وقال: لو اتصل لقلنا به. قال الحافظ: صحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تحريم العَوْد في الهبة والصدقة، وأنَّ هذا من لُؤم الطبع والدناءة، مما يدل على أنَّ قلبه متعلق بما أخرج، وأنَّه لم يعطه من نفس سمحة طيبة. 2 - التعبير عن ذلك بهذا المثل الكريه المستقذر، الذي هو الغاية في البشاعة والدناءة والخسة، للإقلاع عن هذا الخلق اللئيم. 3 - الإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، ورفيع الصفات، ويحذِّر وينهى عن سفاسف الأمور ووضيعها، فهو دين الكمال والسمو. 4 - استثنى جمهور العلماء من تحريم العود في الهبة ما يهبه الوالد لولده، فإنَّ له ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 27)، أبو داود (3539)، الترمذي (2132)، النسائي (6/ 267)، ابن ماجه (2377)، ابن حبان (5101)، الحاكم (2/ 46).

الرجوع في ذلك؛ عملًا بالحديث رقم (802)، ولأنَّ هذا ليس فيه دناءة، فمال الأب والابن واحد، فكأنه نقل ماله من مكان إلى مكان آخر. 5 - قال الفقهاء يشترط لصحة رجوع الأب فيما وهبه لولده أربعة شروط: - أن يكون ما وهبه عينًا باقية في ملك الولد. - أن تكون باقية في تصرفه ببيع، أو رهن لم ينفك، أو غير ذلك. - أن لا تزيد عند الولد زيادة متصلة كسِمَن وحمل، فإنَّ الزيادة للموهوب له، فيمتنع الرجوع فيها حينئذٍ، كما يمتنع الرجوع في الأصل. - أن لا يكون الأب قد أسقط حقه من الرجوع، أو أفلس الابن، وحجر عليه، فلا رجوع، قال الحارثي: هو الصواب بلا خلاف، وصرَّح به الموفق. ***

803 - وَعنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْبلُ الهَدِيَّهَ، وَيُثِيِبُ عَلَيْهَا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). 804 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: لاَ، فَزَادَهُ، فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: لاَ، فزَادَهُ فَقَالَ: رَضِيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (804): الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أحمد وابن حبان من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم وصححه، وقال: على شرط مسلم، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل. * مفردات الحديث (804): - يُثيِبُ عليها: يقال: أثاب الرجل مثوبة: أعطاه إيَّاه. قال في المحيط: والثواب مطلق الجزاء على أعمال خيرًا أو شرًّا وأكثر استعماله في ثواب الأخرة، فالمراد في الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يكافىء على الهدية صاحبها بمثلها أو بأحسن منها. ¬

_ (¬1) البخاري (2585). (¬2) أحمد (2/ 295)، ابن حبان (1146).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الهبة نوعان: أحدهما: هبة مطلقة لا تقتضي عوضًا؛ لأنَّها عطيَّة على وجه التبرع، يقصد بها التودد، سواء كانت لمن دونه، أو أعلى منه، أو مثله، وهي الأصل. الثاني: هبة يقصد بها ثواب الدنيا، فهذه حكمها حكم البيع، والغالب أنَّ المهدي يقصد بها أن يُعطى أكثر مما أهدى، وفيها نزل قوله تعالى: {لَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر] أي لا تعط شيئًا؛ لتأخذ أكثر منه. 2 - النبي -صلى الله عليه وسلم- يثيب على الهدية بأكثر منها وأفضل، فقد روى ابن أبي شيبة عن عائشة: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يثيب عليها ما هو خير منها"، لما جُبِل عليه -صلى الله عليه وسلم- من مكارم الأخلاق وحسن المكافأة. 3 - وفيه مشروعية قبول الهدية؛ لأنَّ في قبولها إرضاء للمهدي، وإفهامه بوجود المحبة والصلة، وفي ردها عليه كسر قلبه، وإضعاف نفسه، ويحمل الرد على محامل كثيرةٍ، وظنونٍ بعيدةٍ. 4 - مشروعية الإثابة عليها بما يناسب الحال والمقام، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه". 5 - وفيه أنَّ المهدي إذا قصد بهديته الثواب والعوض، فالأفضل أن يُعطى حتى يرضى؛ لأنَّه لم يقدم هديته إلاَّ رجاءً لأفضل منها، والغالب أنَّ المهدي فقير وصاحب حاجة، وأنَّ المهدى إليه في سعة وفي غنًى. 6 - تمام الحديث: "لقد هممت أن لا أقبل إلاَّ من قرشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثقفيٍّ" وهو يشير بهذا إلى أهل المدن والحاضرة، فهم أطيب نفوسًا من البادية المصابين بداء الطمع، ففيه دليلٌ على استحباب القناعة، وأنَّ المهدي إذا أُعطي مقابل هديته أىَّ شيء عليه أن يقنع بذلك، ولا يجعل الهدية طريقًا إلى ابتزار أموال الناس.

805 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "العُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ" مُتَّفَقٌ عَليْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالَكُمْ، وَلاَ تُفْسِدوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَميِّتًا، وَلِعَقبِهِ". وفَي لَفْظٍ: "إِنَّمَا العُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَقُولَ: هيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا". ولأَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: "لاَ تُرْقِبُوا، وَلاَ تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أبي داود والنسائي: قال عنها ابن عبد الهادي في المحرر: رواته ثقات، وقال ابن دقيق العيد: صحيح على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - العُمْرَى: بضم العين، وسكون الميم على الأشهر، وحكي بضم الميم، مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، مقصورة، مأخوذة من العمر. - الرُّقْبى: بزنة العمرى، مأخوذة من المراقبة؛ لأنَّ كل واحد منهما يرقب موت الآخر؛ لترجع إليه. ¬

_ (¬1) البخاري (2625)، مسلم (1625)، أبو داود (3556)، النسائي (6/ 273).

- حيًّا وميتًا: أي في حال حياته، وبعد مماته تكون إرثًا لمن خلفه، ولا ترجع إلى الأول أبدًا. - عقبه: بفتح العين، وكسر القاف، هو الولد وولد الولد ما تناسلوا، وله معانٍ أخرى. - أجازها: يقال: أجاز العطية يجيزها إجازة، والمعنى: نفذها، وجعلها جائزة. - ما عشت: "ما" مصدرية ظرفية يقال: عاش يعيش عيشًا: صار ذا حياةٍ، فهو عائش. والمعنى: مدة عيشك في هذه الحياة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العمرى ثلاثة أنواع: - أن تؤبد كقوله: هي لك، ولعقبك من بعدك. - أن تطلق كقوله: هي لك عمرك أو عمري. - أن يشترط الواهب الرجوع فيها بعد موت أحدهما. فهل يصح الشرط، أو يلغى، وتكون مؤبدة؟ أما النوعان الأولان: فمذهب جمهور العلماء على صحة الهبة، وتأبيدها للموهوب له، ولورثته من بعده. أما النوع الثالث: فذهب إلى صحة شرط الرجوع جماعة من العلماء، منهم الزهري، ومالك، وأبو ثور، وداود، وهو رواية عن أحمد، اختارها الشيخ تقي الدين، وغيره من الأصحاب، لحديث "المسلمون على شروطهم". والمشهور من مذهب الإمام أحمد إلغاء الشرط، ولزوم الهبة، وتأبيدها، قال الشيخ عبد الله بن محمَّد: وأما العمرى والرقبى ففيهما خلاف مشهور، والأحاديث فيهما متعارضة، والذي نختاره أنَّه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها.

806 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ انَّهُ بَائِعُهُ برُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذلِكَ, فَقَالَ: لاَ تَبتْعْهُ, وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ الحَدِيثَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حمَلْتُ عَلى فرس: أي جعلت فرسًا حمولة لمن لم يكن له حمولة من المجاهدين، وملكته إيَّاه، ولذا ساغ بيعه. - في سبيل الله: المراد به جهة الغزاة، والجهاد. - فأضاعه صاحبُهُ: أساء سياسته بإهماله، ترك علفه، وخدمته حتى هزل، فصار كالشيء الهالك. - لا تبتعه: لا تشتره. - وإن أعطاكه بدرهم: متعلق بـ"لا تبتعه" مبالغة في رُخصه، وكان رخصه هو الحامل على الشراء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وهب عمر -رضي الله عنه- رجلًا من المجاهدين فرسًا؛ ليجاهد عليه، فأهمل الرجل الفرس، وأضاعه حتى هزل، فأراد أن يشتريه منه؛ لأنَّه بهذه الصفة سيكون رخيص الثمن، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حكم ذلك، فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد. 2 - ففي الحديث أنَّه لا ينبغي للواهب والمتصدق أن تتعلَّق نفسه بما وهب ¬

_ (¬1) البخاري (2622)، مسلم (1620).

وأعطى، أو تصدق به، فهو من الترفع والتنزه المحمود. 3 - وفيه أنَّ صاحب الخُلق الكريم، وصاحب الإخلاص في العمل لا ينتظر من الموهوب له، أو المحسَن إليه أي مكافأة على إحسانه، ولا ردّ معروف، وإنما يجعل فعله خالصًا لله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان]. 4 - ظاهر النَّهي التحريم في شراء الصدقة، وإليه ذهب بعض العلماء، والجمهور حملوه على الكراهة والتنزيه. أما الرجوع في الهبة أو الصدقة، فإنَّه محرَّم، كما تقدم في الحديثين السابقين. 5 - أما هبة الثواب فتقدم أنَّها نوع من البيع، وبهذا فإن الواهب إذا لم يرض بالعوض الذي يكافئه به الموهوب له، فإنَّ له الرجوع بهبته. 6 - الإسلام في أحكامه وآدابه يريد أن يرفع من نفوس وأخلاق متبعية، حتى يصل بهم إلى قمة الفضائل، ويسمو بهم في أجواء عالية كريمة، من الخلق الرفيع، والمستوى العالي الحميد. ***

807 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأدَبِ المُفرَدِ، وَأَبُو يَعْلَى بِإسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن. رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه أبو يعلى بإسنادٍ حسن. وله شاهدٌ من حديث أنس، عند ابن منده، وفيه بكر بن بكار، وهو ضعيف، ولكن قال ابن القطان: ليست أحاديثه بالمنكرة. وقال الحافظ في التلخيص: حديث حسن. وللحديث شواهد: عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعائشة. * مفردات الحديث: - تهادوا: فعل أمر جاء من باب المفاعلة التي هي في الأصل المشاركة بين اثنين. الهدية: ما قصد بها المودة والمحبة. قال في المصباح: أهديت الرجل كذا "بالألف"، بعثت به إليه إكرامًا، فهو هدية بالتثقيل لا غير. قال الفقهاء: الهدية ما قصد بها إكرامًا وتوددًا. ... ¬

_ (¬1) البخاري في الأدب (594)، أبو يعلى (6148).

808 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَهَادَوْا، فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ" رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف؛ لأنَّ في سنده بكر بن بكار، وهو ضعيف، على أنَّ أحاديثه ليست منكرة، كما ضعَّفه في مجمع الزوائد برواية عائذ بن شريح. وللحديث شواهد كلها ضعيفة. * مفردات الحديث: - الهدية: بتشديد الياء من أهدى هدية، ولا يأتي الفعل إلاّ متعديًا بالهمزة، وهي العطية يقصد بها الإكرام والمودة. - تسل: سلَّ الشيء يسله سلاًّ، من باب قتل، بمعنى نزعه وأخرجه برفق وخفية، قال في النهاية: سل البعيرَ وغيره في جوف الليل إذا انتزعه من بين الإبل، فمعناه -هنا- إزالة الحقد بطرقٍ خفيَّةٍ رقيقة. - السَّخيمة: اسم مصدر جمعها سخائم، والأصل في السُّخْمَة أنَّها السواد، والمراد هنا الحقد والضغينة، ولعلَّ هناك علاقة بين السواد الحسي، وبين ما تسببه هذه المعاني القلبية من أثر يكون في الوجوه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (857) يدل على أنَّ الهبة وثيقة في جلب المودة والمحبة بين الناس، ذلك أنَّ النفوس مجبولةٌ على حب من أحسن إليها. 2 - لذا فإنَّ الهدية مشروعة لما تجلبه من الخير والألفة، فإنَّ دين الإِسلام هو ¬

_ (¬1) البزار (1937).

دين الألفة والمحبة قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. 3 - ينبغي للمهدي أن ينظر إلى حال المهدى إليه؛ لتقع الهدية موقعها، فالفقير له هدية يقصد بها نفعه، وإعانته على مؤنته ونفقاته. والغني له هديةٌ تناسب حاله من التحف اللطيفة، كالطيب، ونحوه، فكلٌّ يقدَّم إليه ما يناسبه ويناسب مقامه. 4 - أما الحديث رقم (808) فهو يدل على أنَّ الهدية تُذْهب الحقد والعداوة بين المتعادين، وتجلب السرور والمودة في نفس المهدي إليه، فصار من فوائدها: جلب المودة ورفع العداوة، وكفى بهذا فائدة، فإنَّ هذا هو هدف الإِسلام في نهجه إلى جلب الخير ومنع الشر، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. 5 - ومحاولة سل السخائم والعداوات بين الناس لاسيَّما بين الأصدقاء والأقرباء هذا خلق سام كريم، وهو صعب على النفوس، لا يوفق له إلاَّ أصحاب النفوس العالية، والقلوب الكريمة الطيبة. قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]، والله الموفق. ***

809 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "يَانِسَاءَ المُسْلمَاتِ! لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتهَا، وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تحقرنَّ: لا تقَالّ الشيء وتستصغره. - فِرْسَن: بكسر الفاء الموحدة، وسكون الراء المهملة، ثم سين مهملة، آخره نون، الفرسن من البعير كالحافر من الفرس والقدم للإنسان، وربما يستعار للشاة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث الترغيب في فعل الخير، والحث عليه، وأنَّ هذا من خلُق المسلمين، والمسلمات، فهم الذين ينبغي أن يتَّصفوا بهذه الصفة الكريمة. 2 - وفي الحديث فضل الهدية لما تُحْدِثه في نفوس المتهادين من سل السخائم والعداوات، وجلب المودة والمحبة. 3 - وفيه أنَّ المهدي لا يستحقر تقديم الهدية، وإن كانت قليلة حقيرة، فالمدار على معناها، والمقصود منها أثرها المعنوي لا ذاتها ونفعها المادي فقط، لأنَّها مهما قلَّت وضؤُلت فإنَّها تشعر بالمودة والإخاء. 4 - وفيه دليل على أنَّ المعروف والعمل الصالح إذا قصد به وجه الله تعالى، وقصد منه معانيه الكريمة، فإن أثره عند الله عظيم. قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة]. ¬

_ (¬1) البخاري (2566)، مسلم (1030).

5 - وإذا كانت صدقةً على فقير، فإنَّها تنفع الفقير، وإن قلَّت، وتزيد حسنات المحسِن بحسب ما يصحبها من نية صالحة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]. وجاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة". 6 - وفيه بيان حق الجار وما ينبغي له من البر والإحسان, فإنَّ له حق الجوار، فإن كان مسلمًا فله -أيضًا- حق الإِسلام، وإنْ كان قريبًا فله -أيضًا- فله أيضًا حق القرابة، فللأول حقٌّ واحدٌ، وللثاني حقان، وللثالث ثلاثة حقوق. قال تعالى: {ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]. وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثِر ماءَها وتعاهد جيرانك". 7 - وفي الحديث جواز المبالغة في الكلام إذا ناسب مقتضى الحال، فإن القصد هنا هو التهييج على البر والإحسان إلى الجار، وأنَّ المهدي لا يحتقر شيئًا يقدمه، ولو قليلاً. 8 - جواز تصرف المرأة في بيت زوجها بالأشياء اليسيرة التي جرت العادة بإعطائها، كالرغيف، وقليل الطعام والشراب، ونحو ذلك، إلاَّ أن يمنعها من ذلك، أو تعلم منه الشح فلا يجوز إلاَّ بإذنه. ***

810 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا" رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، والمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: قَولُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوف على عمر -رضي الله عنه -. قال ابن حجر في التلخيص: رُوِيَ عن عمر -رضي الله عنه-، وروي مرفوعًا، وهو وهم، وصححه الحاكم، وابن حزم. وروى الموقوف: مالك في الموطأ (2/ 754)، بسند صحيح: "من وهب هبة لصلة الرحم، أو على وجه الصدقة، فإنَّه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يُرضَ منها". * مفردات الحديث: - من وهب هبة: وهب يهب هبةَ، ووَهبًا بفتح فسكون، إعطاءٌ بلا عوض، وأصل الهبة معلولة الفاء، فلما حذفت الواو تبعًا لفعله عُوِّض عنها الهاء فقيل: هبة. واصطلاحًا: تمليك المال بلا عوض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم أنَّ الهبة نوعان: الأوَّل: هبة لمحض الثواب الأخروي مع قصد الواد والتآلف، كما جاء في الحديث: "تهادوا تحابوا" وهذا هو الأصل في الهبة، وهذه تلزم بالقبض، فلا يجوز الرجوع فيها. ¬

_ (¬1) الحاكم (2/ 52).

الثاني: هدية يقصد بها مهديها ثواب الدنيا، والمكافأة عليها، وصاحبها هو المراد بقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر]، يعني لا تعط العطية تطلب بإعطائها أكثر منها عوضًا. 2 - إذا فعل الإنسان هذا بأن وهب الهبة، لأجل أن يُثاب عليها من المهدي إليه، فإنَّ هذه حكمها حكم البيع، فإن أُعطي عنها ما يرضيه، وإلاَّ فله الرجوع فيها، بخلاف الهبة المطلقة الأولى، فليس له الرجوع فيها، كما تقدم. 3 - الهبة في هذا الحديث من النوع الذي أباح الشارع لصاحبها أن يستردها، إذا لم يُثَب عليها، فهي من النوع الثاني، هبة الثواب الدنيوي والله أعلم. ***

باب اللقطة

باب اللقطة مقدمة اللُّقَطة: فيها لغاتٌ، أشهرها: أنَّها بضم الَّلام، وفتح القاف، أو سكونها. وقال الخليل: قافها ساكنة، وأما بفتحها فهو اللاقط، كثير الالتقاط كضحكة؛ لكثير الضحك، وهذا هو القياس، إلاَّ أنه أجمع أهل اللغة والحديث على فتح القاف، حتى قيل؛ لا يجوز غيره. وشرعًا: هي مال، أو مختص ضلَّ عنه ربُّه، وَتَتْبَعُه همة أوساط الناس. حُكْمها: الأفضل لمن أَمِن نفسَه عليها، وقوي على تعريفها، والبحث عن صاحبها هو أخذها، ففي هذا حفظ مال الغير عن الضياع، أو تعرضه لأخذ من لا يقوم بواجب حفظه، والبحث عن صاحبه، وأما من عرف من نفسه التدني إلى الخيانة والعجز عن تعريفها، والبحث عن صاحبها، فهذا يحرم بحقه أخذها؛ لأنَّه يعرض نفسه للحرام ويَحْرِم صاحبها من العثور عليها. فالالتقاط أشبه شيء بالولايات، فمن قام بها وأدَّى حقَّ الله فيها، أُثيب على ذلك، ومن لم يقم بواجب العمل، أثِم وَعرَّض نفسه للخطر. * أقسام اللقطة: تنقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: ما لا تتبعها همة أوساط الناس كالسوط والرغيف، والنقد اليسير، فهذا يُملك بلا تعريف، وإن وَجد صاحبَه قبل إنفاقه، واستهلاكه، أعطاه إيَّاه. الثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع كالإبل، والظباء، والطيور، فهو محصن، وممتنع، إما بقوته كالإبل، وإما بعدْوه كالغزال، وإما بطيرانه، فهذا يحرم التقاطه. الثالث: لقطة الحرم، فهذه يحرم التقاطها إلاَّ لمن يريد تعريفها أبد الدهر، لحديث: "وَلا تحل ساقطتها إلاَّ لمنشد". وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وأما مذهب الثلاثة فإنَّها كغيرها. الرابع: ما عدا ما تقدم من الأموال الضائعة عن أهلها من حيوان، وأثمان، ومتاع، فهذه يحل التقاطها، ويعرَّف عليها, ولها أحكام اللقطة الآتية، إن شاء الله تعالى. ***

811 - عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَال: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكلْتُهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث الدلالة على أنَّ قليل المال الساقط يملك بمجرد وجوده والتقاطه، ولا يجب تعريفه إن لم يُعْلم صاحبه، فإن عُلِم صاحبه وهو باقٍ رده إليه، وإن لم يكن باقيًا، فلا يلزم رد بدله. 2 - وفيه تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو مع جلالة قدره، وعلو مقامه، لا يترفع عن أن يجد قليلاً حقيرًا فيأخذه ويأكله؛ لأنَّه من نِعم الله تعالى. 3 - الزكاة محرَّمة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله من بني هاشم، كما جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد، إنما هي أوساخ الناس". 4 - وفيه ورع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالتمرة مباحة له -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّها من حيث الملك لقطة يسيرة، ومن حيث الصدقة لم تتحقق، ولكن ورعه كفَّه عمَّا فيه شبهة، وإن قلَّت. قال بعضهم: الورع مجتمع في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ حُسْنِ إِسلام المرء تركه ما لا يعْنِيهِ" فالحديث يعم الكلام، والنظر، والاجتماع، والبطش، والمشي، وسائر الحركات الباطنة والظاهرة، فهذه الحكمة النبوية الشافية في الورع كافية. قال الإِمام الخطابي: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه. ¬

_ (¬1) البخاري (2431)، مسلم (1071).

وحديث: "دع ما يريبُك إلى مَا لاَ يَرِيبُك" معناه أنَّك إذا شككت في شيء فدعه. وقال شيخ الإِسلام: الورع ترك ما يُخاف ضرره في الآخرة. 5 - وفيه أنَّ الورع لا يكون إلاَّ مع خوفٍ ووجود شبهة، أما الورع من دون ذلك فلا يسمى ورعًا، وإنما هو وسواس. قال في الإحياء: ورع الصالحين هو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين. ***

812 - وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكاءَهَا، ثُمَّ عرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأنُكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أوْ لأَخِيكَ أَوْ للذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبل؟ قَالَ: مَالَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤهَا وَحِذَاؤهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اعْرِف: بكسر الهمزة من المعرفة. - عِفَاصَهَا: بكسر العين، ففاء، ثم ألف، فصاد مهملة، هو وعاؤها، وفي رواية خِرْقتهَا، وَقال بعضهم: العِفَاص من جلد، يلبس رأس القارورة، وأما الذي يدخل في فيها، فهو الصمام. - وَوِكاءَهَا: بكسر الواو، ممدودًا، أصله من أوكيت إذا شددت، وفي الحديث: "لا توكي، فيوكي الله عليك" فهو ما يربطه به. قال ابن منظور: الذي يستخلص من كلام اللغويين أنَّ العفاص والوِكاء يشتركان فيما يطلقان عليه، فمرة على ما يربط أو يشد به الوعاء، ومرَّة على الوعاء نفسه. -عرِّفْهَا: بالتشديد، أمرٌ من التعريف، وهو أن ينادي عليها في الموضع الذي وجدها فيه، وفي الأسواق، والشوارع، وأبواب المساجد، ويقول: من ضاع ¬

_ (¬1) البخاري (91)، مسلم (1722).

له شيء، فليطلبه عندي. - فإن جاء صاحبُها: الجزاء محذوف وتقديره، فوصفها، فأعطِها إيَّاه. - فشأنك: يجوز فيها الرفع على الابتداء، والنصب على أنَّها مفعول لفعل محذوف. - سِقَاؤها: بكسر السين، وفتح القاف ممدوداً، جوفها الذي بمثابة السقاء الذي يحمل الماء. - حِذَاؤهَا: بكسر الحاء المهملة، فذال معجمة، خُفَّها الذي بمنزلة الحذاء. - تَرِدُ المَاء: هذه الجملة يجوز أن تكون بيانًا لما قبلها، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن يكون محلها الرفع، على أنَّها خبر مبتدأ محذوف، أي هي ترد الماء. - فضالَّة الإبل: مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: ما حكمها؟ - مالكَ وَلَها: أي مالك ولأخذها، والحال أنَّها مستقلة بأسباب تَمْنَعُها من الهلاك. - معها سقاؤها: على تقدير الحال، والمعنى مالك ولأخذها، والحال أنَّها مستقلة بأسباب تعيشها. - هي لك أو لأخيك أو للذئب: "أو" هنا للتقسيم والتنويع، والمعنى: هي لك إن أخذتَها وعرَّفتها, ولم تجد صاحبها، وهي لأخِيكَ إن جاء صَاحِبُهَا، فَهِي له، وهي للذئب إن تركتهَا ولم يأخذها أحدٌ غيرك فهي طعْمَة للذئب. - ربها: أي مالكها ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلاَّ مضافًا مقيَّدًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- للسائل أنَّ اللقطة نوعان: أحدهما: يجوز التقاطها لحفظها لصاحبها، أو دخولها في ملكه، إن لم يوجد صاحبها، وهي غالب الأموال من المتاع، والنقدين، والحيوان الذي

لا يمتنع من صغار السباع. الثاني: هي ضالة الإبل، ويقاس عليها البقر لقوتها، والغزلان لعدْوها، والطير لطيرانها، فهذه الأشياء الممتنعة عن السباع تُتْرك، ولا تلتقط حتى يجدها ربُّها، فليس بحاجة إلى الحفظ. 2 - استحباب أخذ اللقطة لحفطها لصاحبها، والبحث عنه لترد إليه، وهذا أرجح القولين لِمن أمِنَ على نفسه من الخيانة، وقوي على التعريف. 3 - أن يعرف وَاجدُها وكَاءَها، ووِعَاءَها، وجنسها، وعددها؛ ليميِّزها من ماله، وليعرف صفاَتها؛ لاختبار مدعي ضياعها منه، فإنَّ ذلك من تمام حفظها وأدائها إلى ربِّها. 4 - أن يعرِّفها سنة كاملة، ويكون تعريفها في مجامع الناس، كأبواب المساجد، والأسواق؛ والنوادي، والمدارس، ويكون قرب المكان الذي وجدها فيه؛ لأنَّه مكان بحث صاحبها عنها، أو يبلغ الجهات المسؤولة عنها، كدوائر الشرطة والإمارات، وفي زمننا وسائل الإعلام من الصحف والإذاعة والتلفاز إذا كانت لقطة هامة. 5 - إذا مضى العام، ولم يعرف صاحبها ملكها واجدها ملكًا قهريًّا، فله إنفاقها مع عزْمه على تعويض صاحبها عنها إن وجده، فترد له بمثل المثلي، وقيمة المتقوم، وله بيعها, وله إبقاؤها، وهذا التخيير هو تخيير مصلحي، فينظر في ذلك إلى مصلحة اللقطة وصاحبها, وليس تخيير شهوة له، فإنَّ عمله فيها عمل يتْبع المصلحة حيث وجدت. 7 - إن جاء صاحبها, ولو بعد مدة طويلة، فوصَفَها دفعت إليه بلا بينة ولا يمين، فوصْفها هو بينتها, لعموم قوله: "فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه". فالبينة ما أبان الحق وأظهره، ووصْفُها كافٍ لأن يكون بيِّنة، ما لم يكن له منازع فيها.

قال في مغني ذوي الأفهام: وإن وصفها اثنان قسمت بينهما، وإن وصفها واحد، وأقام الآخر بينة، فهي لصاحب البينة. وقال في المنتهى: إذا وصفها اثنان، أُقرع بينهما، فمن قرع حُكم له بيمينه. 8 - أما ضالة الإبل ونحوها مما يمتنع بقوته، أو بعدوه، أو بطيرانه فلا يجوز التقاطها؛ لأنَّ لها بما ركَّب الله في خلْقها ما يحفظها ويمنعها، فإن أخذها ضمنها بتلفها، فرَّط أو لم يفرِّط؛ لأنَّ يده يد متعدية كيد الغاصب، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لَكَ وَلَها، معها سِقَاؤها وحِذَاؤُها، تَرِدُ المَاء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربُّهَا". 9 - أمَّا ضالَّة الغنم فيفعل فيها ما هو الأصلح، من أكلها مقدِّرًا قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو إبقائها مدة التعريف محفوظة، فإن جاء صاحبها رجع بها إن كانت موجودة، أو بثمنها إن كانت مباعة، وإن لم يأت فهي لمن وجدها، يملكها ملكًا قهريَّا كالإرث. وأفتى الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ بأنَّ الضوال واللقطة إذا باعها أمراء البلدان للمصلحة، وحفظوا ثمنها، وجاء صاحبها فليس له إلاَّ ذلك الثمن؛ لأنَّ الإِمام أو نائبه قائمان مقام الغائب في ماله. 10 - يستدل بقوله: "اعرف عِفَاصها ووكَاءها" على وجوب المحافظة على اللقطة، والعناية بها كسائر الأمانات، فإذا كان الأمر بالمعرفة للحفظ جاء في العفاص والوكاء، ففي اللقطة نفسها أهم وأولى. 11 - بناء على أنَّ اللقطة مدَّة التعريف أمانة عند الملتقط، ولا تكون ملكًا للملتقط إلاَّ بعد حول التعريف، فإنَّها لو تلفت بلا تفريط، ولا تعدٍّ في مدة التعريف، فلا ضمان على الملتقِط، أما بعد حول التعريف، فيجب عليه ضمانها، تلفت بتفريط، أو تعدٍّ أو دونهما، لدخولها في ملكه، فتلَفُهَا من

ماله، أما ملكه فهو مراعى يزول بمجيء صاحبها. 12 - قوله: "عرِّفْهَا سنة" ظاهره أنَّه لا يجب التعريف بعد السنة، وهو إجماع. 13 - قال الفقهاء: يكون التعريف فور وجودها أسبوعًا كل يوم؛ لأنَّ طلبها والبحث عنها فيه أكثر، ثم بعد الأسبوع عادة النَّاس في ذلك، فيقول المُنادي: من ضَاع منه شيء أو نفقة ونحو ذلك. واتَّفقوا على أنَّه لا يصفها؛ لأنَّه لا يؤْمَن أن يدَّعيها بعضُ من يسمع صفاتها فتضيع على مالكها. 14 - قال الوزير: الجمهور على أنَّ ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة. 15 - قال الموفق: إذا التقطها عازمًا على تملكها بغير تعريف، فقد فعل محرَّمًا، ولا يحل له أخذها بهذه النية، فإن أخذها لزمه ضمانها, ولا يملكها، وإن عرفها؛ لأنَّه أخذ مال غيره على وجه ليس له أخذه، فهو كالغاصب. ***

813 - وعَن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - آوى ضالَّة: أوى يأوي مأوى، كرمى يرمي، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10]. وأما آوى بالمدَّ، فمعناه ضم غيره إليه، قال تعالى: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] أي ضمه إلى نفسه، يقال: آواه وأواه. - ضالَّة: قال الأزهري وغيره: لا يقع اسم الضالة إلاَّ على الحيوان، فهي الضوال، وأما الأمتعة فيقال لها: لقطة، ولا يقال: ضالة. - فهو ضال: المراد بالضال هنا أنَّه غير رشيد، بل بعيد عن الصواب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّه لا يجوز التقاط ضوال الإبل، فإنَّ معها سِقاءها وحِذاءها، ترِدُ الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها صاحبها. 2 - أنَّ من التقطها فتلفت معه فهو غارم لها، سواء تلفت بتعدٍّ، أو تفريط، أو بدون ذلك؛ لأنَّ يده يد غصب. 3 - وصف الملتقط بالحديث بأنَّه "ضال"؛ لأنَّه عمل عملًا بغير بصيرة، فإنَّ ترك الضوال في مكانها أقرب لأن يجدها مالكها؛ لأنَّه سيبحث عنها في المواطن التي ضلت عنه فيها، فهو حري بأن يجدها، وأما الملتقط فقد أخفاها، ¬

_ (¬1) مسلم (1725).

وأضلها عن صاحبها. 4 - وهو ضال من حيث إنَّه فعل معصية باعتدائه على مال غيره بطريق الظلم والاعتداء، والضلال هو فعل على غير هدى. 5 - إنَّ من اعتدى على حق غيره فهو ضال، فلا يحل مال امريءٍ إلاَّ بطيب نفسه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: "إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". 6 - قوله: "ما لم يعرفها" التعريف هنا مطلق لم يقيد بسنة، كالحديث الذي قبله، ولا يصلح حمل المطلق هنا على المقيَّد، لاختلاف الحكم، فإنَّ اللقطة في الحديث الأول مباحة الالتقاط، وفي الثاني: محرَّمة الالتقاط، فحينئذ يجب على ملتقط الضوال التعريف أبدًا حتى يجد صاحبها؛ لأنَّ الضوال لا يملكها الملتقط بعد حول التعريف، فطلب صاحبها على الدوام واجب، ولأنَّ ملتقطها معتد بالتقاطها، فكفارة اعتدائه استمرار تعريفه. ***

814 - وَعنْ عِيَاضِ بن حِمَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "منْ وَجَدَ لقَطَةً فَلْيشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لاَ يَكْتُمْ، وَلاَ يُغَيِّبْ، فَإنْ جَاءَ رَبُّهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بهَا، وَإِلاَّ فَهُوَ مَالُ اللهِ، يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، قال في التلخيص: وله طرق. قال ابن عبد الهادي؛ رجاله رجال الصحيح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز أخذ اللقطة بالشرطين السابقين: الأمانة في حفظها، والقوة على تعريفها. 2 - مشروعية الإشهاد عليها عند وجودها، فبعض العلماء قال: يجب ذلك، ومنهم الحنفية، وبعضهم قال: يستحب. وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة. 3 - حِكمة الإشهاد هو الحفاظ عليها؛ لئلا تضيع في ماله، فيجحدها وارثه، أو ينساها، وينسى أوصافها، فلا يؤديها كما التقطها. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 261)، أبو داود (1709)، النسائي في الكبرى (3/ 418)، ابن ماجه (2505)، ابن الجارود (671)، ابن حبان (1169).

4 - وليعرف عِفاصها، وهو وعاؤها، أو خِرقتها. 5 - ويعرف وكاءها، وهو صفة شدِّها، وما ربطت به، فإنَّ معرفة ذلك من طالبها هو البينة على صحة دعواه، أنَّها لقطته وضالته. 6 - ولا يحل لواجدها أن يكتم شيئًا منها، أو من صفاتها, ليضل صاحبها، إذا وصفها، كما لا يحل أن يغيِّب منها شيئًا، فإن فعل فهو ظالم في أمانته. 7 - كون كتمان الملتقط بعض صفاتها محرَّمًا، دليل على أنَّ جحده وكتمانه لها معتبر، وأنَّ القول قوله في هلاكها، وفي قدرها وفي نقصها؛ لأنَّه أمين، والأمين مقبول القول، فيما اؤتمن عليه مع يمينه. 8 - وجوب ردها على صاحبها إذا جاء، سواءٌ قبْل تمام الحول من التقاطها، أو بعده، فالحديث عام في ذلك، ولما جاء في الترمذي وأبي داود بلفظ: "عرِّفها سنة، فإن عرفت فأدِّها، وإلاَّ فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها ثم كُلْها، فإن جاء صاحبها فأدها" فهذا يقتضي بقاء حق مالكها فيها بعد الحول إذا وُجِدَ. 9 - فإن تَمَّ الحول من التقاطها، والتعريف عليها, ولم يجد صاحبها، فهي رزق من الله تعالى ساقه إلى الملتقط، فإنَّه يملكها ملكًا قهريًّا من حين تمَّ الحول على التقاطها. 10 - الأمر بالإشهاد عليها، وحفظ عفاصها ووكائها، وتحريم كتمانها وتغييبها، كل هذا دليل على وجوب العناية بحفظها وصيانتها حتى يعثر على صاحبها، فإنَّ هذه الوصايا إنما جاءت من أجل حفظها لصاحبها، فالشرع الحكيم بجانب الضعيف المحق، أما صاحب الحق الخاص به فعنده من الحرص عليه ما يكفيه عن التوصية والتأكيد. 11 - إذا جاء طالبها، فوصفها, لزم دفعها إليه بلا بينةٍ، ولا يمينٍ، لأمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقام وصفها مقام البينة واليمين، ولما روى مسلم من حديث زيد

ابن خالد الجهني أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها فأعطها إيَّاها". واتَّفق الأئمة الأربعة على أنَّها لا تدفع إليه إلاَّ إذا وصف العفاص والوكاء؛ لأنَّها أمانة في يد الملتقط، فلا يجوز له دفعها إلاَّ إلى من يُثْبِت أنَّه صاحبها. ***

815 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ" رواهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ينص الحديث على أنَّ لقطة الحاج لا يحل التقاطها، وقد حُكي الإجماع على ذلك؛ لظاهر حديث الباب. 2 - لقطة الحاج لا تخص الحرم وحده، بل تشمل الحرم، وأمكنة الحجاج من الحل كعرفات، والمواقيت، وطرق الحج. 3 - لعل الحكمة في ذلك خدمة الآمّين إلى البيت الحرام، وأن في الإمكان عثور صاحب اللقطة عليها, لتحدد مكانها، كما يمكن حفظها عند المسؤولين عن أمن الحجاج، حتى يراجعهم صاحبها. 4 - ويمكن تمييز لقطة الحاج عن لقطة غيره بقرائن الأحوال، كوجودها زمن اجتماعهم، أو وجودها في مكان ازدحامهم، كأن تكون عند الجمار، أو في المطاف والمسعى، وأماكن ازدحام الحجيج في تلك الأزمنة التي لا يكون فيها غالبًا إلاَّ الحجاج، والأحكام الشرعية إذا لم يوجد اليقين بنيت على غالب الظن. * خلاف العلماء: أما لقطة مكة وحرمها التي في غير مكان وجود الحجاج. فقد اختلف العلماء في جواز التقاطها لغير منشد عليها أبد الدهر. فذهب جمهور العلماء إلى إباحة التقاطها كسائر البقاع، ومن هؤلاء ¬

_ (¬1) مسلم (1724).

الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور من مذهبه. وقد روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب. مستدلين على ذلك بعموم أحاديث إباحة الالتقاط. وذهب الإِمام الشافعي إلى أنَّه لا يجوز أخذها للتعريف، ثم بعده للتملك، وإنَّما يجوز عند أخذها لحفظها أبدًا. وهذا القول روايةٌ عن الإِمام أحمد اختاره من الحنابلة الحارثي، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وصاحب الفائق وغيرهم. مستدلين على ذلك بما جاء في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولاَ تَحل ساقطتها إلاَّ لمنشد" قال أبو عبيد في كتابه الأموال: المنشد هو المعرف. واعتبروا هذا من خصائص مكة لشرفها، وحرمها، وهذا القول راجح. وقد تمَّ والحمد لله بيان حدود الحرم من الحل في هذه السنة (1421 هـ) والاستعدادات من قبل الحكومة السعودية -وفقها الله تعالى- مستمرة لإحاطة ما بين الحل والحرم بأعلام بارزة من جميع جهاته؛ ليميز الحرم بأحكامه من الحل بأحكامه، وقد منَّ الله تعالى عليَّ بأن كنت أحد المشاركين في التحديد، وسأشارك -إن شاء الله تعالى- في الإشراف على وضع الأعلام من قبل المهندسين والفنيين، والله الموفق. ***

816 - وَعَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعديكَرِبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ألاَ لاَ يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، ولاَ الحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلاَ اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صالح غريب. الحديث رواه أبو داود، وسكت عنه، وأما المنذري فقال: ذكره الدارقطني مختصرًا، وأشار إلى غرابته. * مفردات الحديث: - ذو ناب: الناب هو السن الذي بجانب الرباعية، وهو للسَّبُع بمنزلة المخلب للطير الجوارح، جمعه أنياب ونيوب. - السِّباع: بكسر السين. السبع: كل ما له ناب، ويعدو على الناس والدواب، فيفترسها كالأسد والنمر. - الحِمار الأهلي: بكسر الحاء، نُسِب إلى الأهل؛ لكونه مستأنسًا مع الناس، وأليفًا لهم. - معاهد: المعاهد هو من أقرَّرناهُ من الكفار على دينه، بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة. - أن يسْتَغْنِيَ: مثل أن تكون حقيرة مرغوبًا عنها. ¬

_ (¬1) أبو داود (3804).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ اللقطة من مال المعاهد، كاللقطة من مال المسلم في الحكم، فحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم، فلا يحل لمسلم أن يجترىء عليه، فيستحل ماله متوسلاً إلى ذلك بكفره، فإنَّ له عهدًا وذمة، ولا يجوز خفر الذمة والعهد. 2 - مثل هذه الأحكام الرشيدة تُظْهر ما في الإِسلام من عدالةٍ ومواساة، فإنَّ لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ما داموا ملتزمين. 3 - لقطة المعاهد ليس فيها أمارة تدل عليها, ولكن وجودها في حيّ أهله أو غالبهم، أهل ذمة، قرينةٌ قويةٌ على أنَّ هذه اللقطة من أموالهم، فيجب أن تعرَّف، كما تعرف لقطة المسلم، فإذا وجد صاحبها سلمت له، كما تسلم لقطة المسلم. 4 - قوله: "إلاَّ أن يستغني عنها" دليلٌ على أنَّ اللقطة التي لا تتبعها همة أوساط الناس، مثل السوط، والرغيف، والتمرة، والنقد القليل، وكذا ما تركه صاحبه رغبةً عنه لا يجب تعريفه كله، وإنما تملك بمجرد الالتقاط. 5 - تقدم أنَّ اللقطة اليسيرة التي لا تتبعها همة أوساط الناس، إذا وجد صاحبها -وهي موجودة- سُلِّمتْ له، وإن لم يعرف إلاَّ بعد إنفاقها، فإنَّها لا تضمن له. 6 - أما تحريم أكل ذي الناب من السباع، والحمار الأهلي، فسيأتي الكلام عليه في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى. ***

باب الفرائض

باب الفرائض مقدمة الفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة، والمفروض المقدر؛ لأنَّ الفرض التقدير، فكأنَّ اسمها ملاحظ فيه قوله تعالى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء]، أي مقدرًا معلومًا. وسماها النبي -صلى الله عليه وسلم- فرائض في قوله: "تعلموا الفرائض". وتعريفها شرعًا: العلم بقسمة المواريث بين مستحقيها. والأصل فيها الكتاب لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11, 12]. والسنة: لحديث ابن عباس الآتي، وإجماع الأمة على أحكامها في الجملة. ولما كانت الأموال وقسمتها محط الأطماع، وكان الميراث في معظم الأحيان بين كبار وصغار، وضعفاء وأقوياء، تولى الله تبارك وتعالى قسمتها بنفسه في كتابه مبينةً مفصلةً، حتى لا يكون فيها مجال للآراء والأهواء، وسوَّاها بين الورثة على مقتضى العدل، والمصلحة، والمنفعة التي يعلمها. وأشار إلى ذلك بقوله تعالى: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]. فهذه قسمةٌ عادلة مبنيةٌ على مقتضى المصالح العامة والخاصة. والقياس: وبيانه يخرج بنا عن موضوع الكتاب، ويطيله علينا.

وعلم الفرائض علم شريف جليل، وقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعلمه وتعليمه في أحاديث منها: حديث ابن مسعود مرفوعًا: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس". وقد يُراد بالفرائض هنا عامَّةُ الأحكام الشرعية. وقد أفرد العلماء هذا العلم بالتصانيف الكثيرة من النَّظم والنَّثر، وأطالوا الكلام عليه، ويكفي في تعلم أحكامه فهم الآيات الثلاث من سورة النساء وحديث ابن عباس الآتي، فهذه النصوص الكريمة قد أحاطت بأمهات مسائله ولم يخرج عنها إلاَّ النَّادر. ونورد هنا بعد الكلام عن حديث ابن عباس مقدمات تتعلَّق بهذا الباب؛ لتكمل الفائدة من هذا الكتاب. ***

817 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بقيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ألحقوا: بفتح الهمزة، وكسر الحاء: أي أوصلوا. - بأهلها: أي: أعطوا أهل الفرائض أنصباءهم. - أولًا: المراد بالأولى الأقرب والأدنى، فهو بإسكان الواو. - رجل ذكر: قال في فتح الباري: هكذا في جميع الروايات، وأشكل التعبير بقوله: "ذكر" بعد التعبير بـ"رجل". قال البقري في حاشيته على الرحبية: إنَّما أتى بـ"ذَكر" بعد "رجل" ليفيد أنَّ المراد بالرجل الذكر؛ لأنَّ الرجل أصالةً هو الذكر البالغ من بني آدم، وليس مرادًا، وحينئذٍ فالذكر أعم ممَّا قبله، فهو وصف الرجل بالذكر؛ تنبيهًا على -صلى الله عليه وسلم- سبب استحقاقه، وهي الذكورية، التي هي سبب العصوبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث الجامع العظيم اشتمل على جُل أحكام المواريث، فقد فصَّلها الله تبارك وتعالى تفصيلاً تامًّا واضحًا، وأعطى كل ذي حق حقه. 2 - أمر الله أن تُلْحق الفرائض بأهلها، فيقدمون على العصبات، ثم ما بقي بعدهم فهو لأولى رجل ذكر، وهم العصبة من الفروع المذكور، والأصول الذكور، وفروع الأصول الذكر، والوَلاء. ¬

_ (¬1) البخاري (6732)، مسلم (1615).

3 - وجهات العصوبة خمس: الأبوَّة، ثم البنوَّة، ثم الأخوَّة وبنوهم، ثم الأعمام وبنوهم، ثم الولاء. فإذا اجتمع عاصبان فأكثر قُدِّم الأقرب جهة، فإن كانوا في جهة واحدة، قُدِّم الأقرب منزلة، فإن كانوا في القرب سواء قُدِّم الأقوى, ولا يتصور ذلك إلاَّ في فروع الأصول، كالإخوة، والأعمام، وأبنائهم. وهذا هو معنى قوله: "فلأولى رجلٍ ذكرٍ" أي أقربهم جهةً أو منزلةً أو قوَّةً. 4 - عُلِمَ من هذا الحديث أنَّ صاحب الفرض مقدم على العاصب في البداءة، وأنَّه إذا استغرقت الفروض التركة سقط العاصب في جميع مسائل الفرائض حتى في المُشَرَّكَة. 5 - ويدل قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" على أنَّ أصحاب الفروض إذا كثروا وتزاحمت فروضهم، ولم يحجب بعضهم بعضًا أنَّه يعول عليهم، وتنقص فروضهم بحسب ما عالت به. 6 - ويدل الحديث على أنَّه إذا لم يوجد صاحب فرض، فالمال كله للعاصب، أو للعصبات. وإذا لم يوجد عاصب فإنه يردُّ على أصحاب الفروض على قدر فروضهم، كما تعال عليهم إذا تزاحموا، عدا الزوجين فلا يرد عليهم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. 7 - الحكمة في أنَّ العصوبة صارت في الرجال دون النساء، وزاد نصيبهم عليهنَّ هو أنَّ الرجال متحملون للنفقات، والمهور، والديات في العاقلة والضيقات وغير ذلك من الأمور، أما النساء فمكفيَّات النفقة، ومعفيَّات من كثير من الإلزامات المادية، فهذا هو العدل والإنصاف بين الجنسين، والله أعلم.

* خلاصة عن الإرث: نبدأ بما بدأ الله به من توريث ذوي الفروض، الذين نصَّ الله تعالى على توريثهم، وقدَّر فرضهم، حتى إذا علمنا ما لهم، ذكرنا الذين يأخذون ما أبقت فروضهم، وهم العصبات. فالفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة هي: 1 - النصف. 2 - الربع. 3 - الثمن. 4 - الثلثان. 5 - الثلث. 6 - السدس. ولكل فرض صاحبه أو أصحابه. 1 - النصف: ويكون للبنت، ولبنت الابن، وإن نزل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، وبنت الابن بنت. وهذا التوريث بالإجماع، بشرط أن لا يكون معها أحد من الأولاد. - وهو "أي النصف" فرض الزوج أيضًا، بشرط أن لا يكون للزوجة ولد من ذكر أو أنثى؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]. - وهو "أي النصف" فرض الأخت الشقيقة، وإن لم توجد، فالأخت لأب، مع عدم الفرع الوارث، وعدم الأصول من المذكور، ومع انفراد كل واحدة منهما عن أخ أو أخت في قوتها؛ لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وهذا في ولد الأبوين، أو لأب بالإجماع.

2 - الربع: ويكون للزوج مع وجود الفرع الوارث؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12]. وهو "أي الربع" فرض الزوجة فأكثر، معِ عدم الفرع الوارث للزوج؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12]. 3 - الثمن: للزوجة فأكثر، مع وجود الفرع الوارث للزوج، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. 4 - الثلثان: للبنتين ولبنتي الابن وإن نزل إذا لم يُعصَّبْن. ودليل توريثهما الثلثين، حديث امرأة سعد بن الربيع، حين جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: هاتان ابنتا سعد، قُتِل أبوهما معكم يوم "أحد" شهيدًا، وإنَّ عمَّهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما شيئًا من ماله، ولا ينكحان إلاَّ بمال. فقال: "يقضي الله في ذلك" ونزلت آية المواريث. فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك" رواه أبو داود وصححه الترمذي. وتأخذان الثلثين أيضًا بالقياس على الأختين المنصوص عليهما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فالبنتان، وبنتا الابن أولى بالثلثين من الأختين، وأما الثلاث من البنات، وبنات الابن فلهنَّ الثلثان بنص قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]. والثلثان فرض الأختين الشقيقتين فأكثر، وفي حال فقدهما يكون للأختين لأب فأكثر؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] وذلك بإجماع العلماء، والمراد بالاثنين بنتا الأبوين، وبنتا الأب، وقاسوا ما زاد على الأختين عليهما.

5 - الثلث: فرض الأم مع عدم الفرع الوارث للميت، وعدم الجمع من الإخوة، فدليل الشرط الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. ودليل الشرط الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. وهو "أي الثلث" فرض الإخوة لأم، من الاثنين فصاعدًا، يستوي ذكرهم وأنثاهم؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وأجمع العلماء على أنَّ المراد بالأخ والأخت: ولد الأم. وقرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص: {وله أخ أو أخت من أم}. 6 - السدس: فرض الأم، مع وجود الورثة من الأولاد، أو وجود الجمع من الإخوة أو الأخوات، لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} إلى قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. - وللجدة أو الجدات وإن علون بمحض الأمومة، وكذا من أدلى منهن بأب وارث، وقد ورد في إرثهن آثار، وشرط إرثهن عدم الأم، ويشتركن إذا تساوين، وتحجب القربى منهن البعدى. - وهو "أي السدس" فرض ولد الأم الواحد، ذكرًا كان أو أنثى، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] وتقدمت قراءة عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وهو إجماع العلماء. -وهو "أي السدس" فرض بنت الابن فأكثر مع بنت الصلب، لحديث ابن مسعود، وقد سئل عن بنت وبنت ابن، فقال: "أقضي فيهما قضاء رسول الله

-صلى الله عليه وسلم-: للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت" رواه البخاري. وكذا حكم بنت ابن ابن، مع بنت ابن، وهكذا. - والسدس فرض الأخت لأب فأكثر، مع الشقيقة الواحدة، وكل هذا بالإجماع. - والسدس للأب -أو للجد عند عدم الأب-، مع وجود الفرع الوارث. * هذه هي الفروض الستة المذكورة في القرآن الكريم، وهؤلاء هم أصحابها، وكيفية أخذهم لها. فإن بقي بعد أصحابها شيء، أخذه العاصب؛ عملًا بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فإنه يعني والباقي لأبيه تعصيبًا, ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الباب: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ" وفي إرث أخي سعد بن الربيع: "وما بقي فهو لك". وللتعصيب جهات بعضها أقرب من بعض، فيرثون الميت بحسب قربهم منه، وجهات العصوبة: بنوة، ثم أبوة، ثم أخوة، وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم، ثم الوَلاء وهو المعتِق وعصباته الأقرب فالأقرب، كالنسب. فيقدم الأقرب جهةً، كالابن، فإنَّه مقدم على الأب. فإن كانوا في جهةٍ واحدة، قُدِّم الأقرب منزلة، على الميت كالابن، فإنَّه يقدم على ابن الابن، فإن كانوا في جهةٍ واحدةٍ، واستوت منزلتهم من الميت، قُدِّم الأقوى منهم، -وهو الشقيق- على مَن لأبٍ من إخوة، وأبنائهم، أو أعمام، وأبنائهم. * ويحجب الورثة بعضهم بعضًا حرمانًا، ونقصانًا. فالنقصان يدخل على جميعهم، والحرمان لا يدخل على الزوجين

والأبوين والولدين؛ لأنَّهم يُدْلون بلا واسطة، والأب يُسقِط الجدَّ، والجدُّ يُسقِط الجدَّ الأعلى منه. والأمُّ تُسقط الجدات، وكل جدة تُسقط الجدة التي فوقها. والابن يُسقط ابن الابن، وكل ابن ابن أعلى يُسقط من تحته من أبناء الأبناء. ويسقط الإخوة الأشقاء، بالابن وبابن الابن وإن نزل، وبالأب وبالجد وإن علا على الصحيح، والإخوة لأب يسقطون بمن يسقط به الأشقاء، وبالأخ الشقيق. - وبنو الإخوة يسقطون بالأب، وبكل جد لأبٍ، وبالأخوة. الأعمام يسقطون بالإخوة وأبنائهم. وأولاد الأم يسقطون بالفروع مطلقًا، وبالأصول من الذكور. وبنت الابن تسقط ببنتي الصلب، فأكثر. وكل بنتِ ابن نازل تسقط باثنتين، فأكثر ممن فوقها، ما لم يكن مع بنات الابن النازل من هو مساوٍ لهنَّ، أو أنزل منهن ممن يعصبهن من ولد ابن. وتسقط الأخوات لأب بالشقيقتين فأكثر، ما لم يكن معهن من يعصبهن من إخوانهن. هذه خلاصةٌ سقناها لبيان أحكام المواريث، بمناسبة شرح هذا الحديث الجامع. وقد أطال العلماء الكلام على هذا الباب من أبواب الفقه، وأفردوه بالتصانيف الكثيرة، والله ولي التوفيق. ***

818 - وَعنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 819 - وَعَنْ عَبدِ اللهِ بن عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ" رَوَاهُ أَحْمدُ وَالأرْبَعَةُ، إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ (¬2) وَأَخرَجَهُ الحَاكِمُ بِلَفْظِ أُسَامَةَ (¬3) وَرَوى النَّسائِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ بِهَذا اللَّفْظِ (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (811): الحديث سنده جيد. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، وأصله في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا يرث الكافرُ المسلم، ولا المسلم الكافر"، وله شواهد منها: 1 - حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" أخرجه أبو داود وابن الجارود والدارقطني، وأحمد من طريق عمرو وإسناده حسن. 2 - حديث جابر أخرجه الدارقطني موقوفًا، وقال: وهو المحفوظ، ورواه شريك عن الأشعث عن الحسن عن جابر به مرفوعًا. قال الساعاتي في الفتح الرباني: سنده جيد. ¬

_ (¬1) البخاري (6764)، مسلم (1614). (¬2) أحمد (2/ 178)، أبو داود (2911)، النسائي في الكبرى (4/ 82)، ابن ماجه (2731). (¬3) الحاكم (2/ 240). (¬4) النسائي في الكبرى (4/ 82).

* مفردات الحديثين: - الكافر: الكفر لغة الستر والجحود، فمن جحد نعمة الله فقد كفرها. وشرعًا: قول أو اعتقاد أو فعل يعتبر به الإنسان كافرًا خارجًا من الإِسلام. - ملتين: تثنية مِلة، والملة بكسر الميم، جمعها مِلَل، وهي الديانة، كاليهودية والنصرانية. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - القول الصحيح من أقوال أهل العلم أنَّه لا توارث بين المسلم والكافر، ولو بالوَلاء، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء، مستدلين بحديث الباب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، والرواية الآخرى عن الإِمام أحمد. ذلك أنَّ الإِسلام أقوى رابطة، فإذا اختل هذا الرباط المقدس بين القرابة في النسب، فقد فُقِدت الصلات والعلاقات، فاختلت قوة رابطة القرابة فمنَع التوارث. أما المشهور من مذهب أحمد فإنَّ الكفر لا يمنع التوارث بالولاء. 2 - ظاهر الحديث رقم (819) أنَّهُ لا توارث بين أهل ملتين كافرتين، فلو كان أحد القريبين يهوديًّا، والقريب الآخر نصرانيًّا، فلا توارث بينهما لاختلاف الدين بينهما، وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا إن شاء الله. 3 - في الحديثين إثبات أصل التوارث بين الأقارب، ما لم يمنع من ذلك مانعٌ من موانع الإرث. 4 - أنَّ الكفر أحد موانع الإرث مع وجود سببه. 5 - اختلاف الملل الكافرة مانعٌ من موانع الإرث فيما بينهم. 6 - أنَّ العقيدة الإِسلامية أقوى من رابطة النسب، والنكاح، والولاء، فإن فقدت العقيدة انفصمت عرى رابطة القرابة، فمَنَع التوارث بينهم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في توريث أهل الملل المختلفة في الديانة، كاليهود،

والنصارى، والمجوس، والبوذيين، وغيرهم. والخلاف مبنيٌّ على أنَّ الكفر: هل هو ملة واحدة أو ملل شتى متعددة؟ فذهب الحنفية والشافعية، ورواية للحنابلة أنَّ الكفر ملةٌ واحدةٌ، فعلى هذا القول يتوارث الكفار فيما بينهم، ولو اختلفت أديانهم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. فالآية عامة، ولأنَّ توريث الأقارب جاء في كتاب الله وهو عام، فليبق على عمومه. وذهب المالكية إلى أنَّ الكفر ثلاث ملل: فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، وبقية الكفر ملة واحدة؛ لأنَّهم يجمعهم أنَّهم لا كتاب لهم. وبناءً على هذا القول فلا يرث اليهودي من النصراني، ولا العكس، ولا يرث أحدهما من الوثني، فصار ضابط الملة هو وجود الكتاب مع وجدته، وعدم وجوده. وذهب الإِمام أحمد إلى أنَّ الكفر ملل متعددة، فلا يرث أهل كل ملة من الملة الآخرى، وكأن ضابط الملة على هذا القول هو النحلة، مع قطع النظر عن وجود الكتاب وعدمه. واستدلوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتَوَارَثُ أهل ملتين شتَّى". وهذا هو القول الراجح لهذا الحديث، الذي هو نصٌّ في التوارث بين أهل ملتين، ولأنَّ كل ملَّةٍ لا موالاة بينها وبين الملة الآخرى، ولا اتفاق في الدين، فلم يرث بعضهم بعضا كالمسلمين مع الكفار، وأما عمومات النصوص في التوريث، فهي مخصَّصة بمخصصات أخر، فلم تبق على عمومها، فيُخَص منها محل النزاع بهذا الخبر، والقياس.

820 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ: "قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- للاِبْنَةِ النِّصْفُ، وِلابْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ تكمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بقي فَلِلأُخْتِ" روَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إن البنت لها النَّصف ما دامت واحدة، ولم يعصبها أخوها أو إخوتها. 2 - إنَّ بنت الابن لها مع البنت السدس، تكملة الثلثين، إذا لم تعصَّب بأخٍ لها، أو إخوة، والسدس لبنات الابن مع البنت ولو كنَّ أكثر من واحدة. 3 - إنَّ الباقي بعد فرضي البنت، وبنت الابن، يكون للأخت، شقيقةً كانت أو لأب، تعصيبًا. 4 - إنَّ الأخوات مع البنات عصبات، ويصفهنَّ علماء الفرائض بأنَّهنَّ عصبات مع الغير؛ لأنَّ العصبة بالنفس لا تكون إلاَّ من الرجال عدا المعتِقة. قال الرَّحبي: وليس في النساء طُرًّا عصبةْ ... إلاَّ التي منَّت بعتق الرقبةْ ... ¬

_ (¬1) البخاري (6736).

821 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَال: "إنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ، فَمَا لِي مِنْ مِيْرَاثِهِ؟ فَقَال: لَكَ السُّدُسُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَال: لَكَ سُدُسٌ آخَرُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَال: إِنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ" روَاهُ أَحْمدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ، وقيل: إنَّه لم يسمع منه (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه الإِمام أحمد، والأربعة، وصحَّحه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري، عن عمران بن حصين، وفي سماعه خلاف. قال في بلوغ الأماني: قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. * مفردات الحديث: - طُعْمَة: بضم الطاء، وسكون العين، جمعها طُعم، هي الرِّزق. قال في النهاية: "إنَّ السدس الآخر طُعْمَة" أي زيادة على حقه. ... ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 428)، أبو داود (2896)، الترمذي (2099)، النسائي في الكبرى (4/ 73)، ولم يروه ابن ماجه.

822 - وَعنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عنْ أَبيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ للْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَها أُمٌّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الجَارُودِ وَقوَّاهُ ابْنُ عَدِي (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود من طريق عبيد الله أبي المنيب العتكي، قال الحافظ: صدوق يخطيء، وقد صحح الحديث ابن السكن. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (821) يدل على أنَّ الجد الذي ليس دونه أب أنَّ له من ابن ابنه السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، ذلك أنَّ ابن ابنه مات عنه، وعن بنتين، فالبنتان لهما الثلثان فرضًا، والجد له السدس فرضًا، والباقي يأخذه تعصيبًا وهو السدس. 2 - وأما الحديث الثاني، ففيه بيان أنَّ الجدة لها السدس، بشرط أن لا توجد، أُمٌّ تحجُبُهَا. 3 - قاعدة الإرث: أنَّ الورثة المتساوين في الجهة والدرجة يتساوون في الميراث، فبناءً عليه إذا اجتمع جدات وارثات، في درجةٍ واحدةٍ، اشتركن في السدس. 4 - كما أنَّ قاعدة التوارث الآخرى: أنَّ الأقرب من الورثة يُسْقِط الأبعد منه، فالجدة القريبة تسقط التي هي أبعد منها، من أي جهة جاءت على الرَّاجح. ¬

_ (¬1) أبو داود (2895)، النسائي في الكبرى (4/ 73)، ابن الجارود (960)، ابن عدي (4/ 1637).

823 - وَعَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الخَالُ وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَه" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، سِوَى التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وللحديث طريقان: الأولى: أخرجها أحمد، وسعيد بن منصور، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، كلهم عن بديل بن ميسرة عن علي بن أبي طلحة، وإسناده حسن. الطريق الأخرى: أخرجها أبو داود والبيهقي عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده، وهذا سند ضعيف. قُلْتُ: وقد حسَّنَهُ أبو زرعة، وصححه الحاكم، وابن حبَّان. قال الألباني: الحديث صحيح بلا ريب، لهذه الشواهد. ... ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 131)، أبو داود (2899)، النسائي في الكبرى (4/ 76)، ابن ماجه (2738)، ابن حبان (1225)، الحاكم (4/ 344).

824 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلى أَبِي عُبَيْدَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الترمذي: حديث حسن، وهو من شواهد الحديث السابق. قال الحافظ في التلخيص: قال البزار: أحسن إسناد فيه حديث أبي أمامة ابن سهل، والحديث له عدة شواهد، وصححه ابن حبان. * مفردات الحديث: - الله ورسوله مولى من لا مولى له: أي وارثان من ليس له وارث، والمراد بميراثهما إدخال ماله في بيت مال المسلمين. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الورثة ثلاثة أقسام: أصحاب الفروض، والعصبة، وذوو الأرحام، عند من يقول بتوريث ذوي الأرحام. 2 - ذوو الأرحام لا يرثون إلاَّ إذا لم يوجد أصحاب الفروض ولا العصبة، ولذا جاء في هذين الحديثين: "الخال وارث من لا وارث له". فمتى عدم الورثة ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 28)، الترمذي (2103)، النسائي في الكبرى (4/ 76)، ابن ماجه (2737)، ابن حبان (1227).

من ذوي الفروض، والعصبة، ورثه ذوو الأرحام من خال، وجد لأم ونحوهما. 3 - أما قوله: "الله ورسوله مولى من لا مولى له" فالمراد بيت مال المسلمين، فإنه وارث من لا وارث له عند المالكية مطلقًا، وعند الشافعية إن انتظم وصار عليه إمامٌ عادلٌ، وعند الحنفية والحنابلة أنَّه حافظ، وليس بوارث، وبناءً على توريثه وعدمه جاء الخلاف في توريث ذوي الأرحام، كما يلي: * خلاف العلماء: اختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام إذا لم يوجد صاحب فرض غير الزوجين، ولم يوجد عاصب. فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنَّهم يرثون. وذهب المالكية والشافعية إلى عدم توريثهم. والرَّاجح هو توريثهم؛ لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ومعناه أحق بالتَّوارث في حكم الله تعالى. ولحديثي الباب: "الخال وارث من لا وارث له" فقد جعل الخال وارثًا عند عدم الوارث بالفرض أو التعصيب، والخال من ذوي الأرحام فيلحق به غيره منهم. قال ابن القيم: جاء توريثهم من وجوه مختلفة، وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها، وجمهور العلماء يورثونهم، وهو قول أكثر الصحابة، وأسعد الناس من ذهب إليه. واختلف القائلون بتوريثهم في طريقة توريثهم. والراجح أنَّهم يرثون بتنزيلهم منزلة من أدلوا بهم، وهذا مذهب الجمهور. قال الشيخ تقي الدين: والمنقول عن الصحابة والتابعين وجمهور العلماء

ومنهم الإِمام أحمد تنزيل كل واحد من ذوي الأرحام منزلة من أدلى به، قريبًا كان أو بعيدًا, ولا يعتبر القرب إلى الوارث. قال في المنتهى وشرحه: ويرثون بتنزيلهم منزلة من أدلوا به، فينزل كل منهم منزلة من أدلى به من الورثة بدرجة أو درجات، حتى يصل إلى من يرث، فيأخذ ميراثه، ثم يجعل نصيب كل وارث بفرض أو تعصيب لمن أدلى به من ذوي الأرحام، فإن أدلى جماعة من ذوي الأرحام بوارث، بفرضٍ أو تعصيب، واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأولاده، وإخوته المتفرقين، الذين لا واسَطة بينه وبينهم، فنصيبه لهم كإرثهم منه، لكنه يستوي الذكر والأنثى؛ لأنَّهم يرثونه بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم كولد الأم، وإن اختلفت منزلتهم ممَّن أدلوا به، جعلت المدلى به كالميت، وقسمت نصيبه بين من أدلوا به على حسب منازلهم منه، كثلاث خالات متفرقات وثلاث عمات متفرقات فالثلث الذي للأم بين الخالات على خمسة، والثلثان اللذان كانا للأب تعصيبًا بين العمات على خمسة. وإن أدلى جماعةٌ من ذوي الأرحام، بجماعةٍ من ذوي الفروض أو العصبات، جعلت كأن المدلى بهم أحياء، وقسمتَ المال بينهم، وأعطيت نصيب كل وارث بفرض أو تعصيب لمن أدلى به من ذوي الأرحام؛ لأنَّهم ورثته، وإن أسقط بعضهم بعضًا عملت به، ويسقط بعيد من وارث بأقرب منه إليه، كبنت بنت، وبنت بنت بنت بنت، المال للأولى، وكخالة وأم أبي أم، المال للخالة؛ لأنَّها تلتقي بالأم بأول درجة، بخلاف أُم أبيها. * وجهات ذوي الأرحام ثلاث: أبوة، وأمومة، وبنوة؛ لأنَّ طرفه الأعلى الأبوان؛ لأنَّه نشأ منهما، وطرفه الأسفل ولده؛ لأنَّ مبدأه منه نشأ، فكل قريب إنما يدلي بواحد من هؤلاء. قال الموفق في المغني: وهم أحد عشر صنفًا.

1 - ولد البنات سواءٌ أكان لصلب، أو بنات بنات. 2 - أبناء الأخوات لأبوين، أو لأب. 3 - بنات الأخوات لأبوين، أو لأب. 4 - بنات الأعمام لأبوين، أو لأب. 5 - ولد ولد الأم ذكرًا، أو أنثى. 6 - العم لأم، سواء كان عم الميت أو عم أبيه أو عم جده. 7 - عمات الميت، أو عمات أبيه، أو عمات جده. 8 - الأخوال والخالات، سواء أكانوا ذكورًا أو إناثًا. 9 - أبو الأم، وإن علا. 10 - كل جدة أدلت بأب بين أُمَّين. 11 - من أدلى بصنف من هؤلاء، كعمة العمة، وخالة الخالة، وعمة العم لأم، أخيه كأب أبي الأم، وعمه، وخاله، ونحو ذلك، يورثون بتنزيلهم منزلة من أدلوا به. قال في الإنصاف: هذا المذهب وعليه الأصحاب. ***

825 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَا اسْتَهَلَّ المَوْلُودُ وَرِثَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وصَحَّحَهُ ابنْ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث الباب صحيح. صححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وله شاهد عن أبي هريرة. قال ابن عبد الهادي في المحرر: إسناده جيد. وقد أخرجه أبو داود، وعنه البيهقي، وصححه ابن حبان، ورجال إسناده ثقات، إلاَّ أنَّ فيه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، وله طرق أخر عن أبي هريرة، وشواهد أخر يزداد بها قوةً. الشاهد الأول: عن ابن عباس، وسنده ضعيف. الشاهد الثاني: عن مكحول، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكره مرسلاً، وإسناده مرسل صحيح. * مفردات الحديث: - استهل المولود: استهل الصبي: رفع صوته بالبكاء، وصاح عند الولادة، فالاستهلال: هو رفع الصوت. - ورِثَ: بفتح الواو وكسر الراء، الإرث لغة: البقاء، فالوارث هو الباقي. وشرعًا: حق يثبت لمستحق بعد موت من كان له ذلك؛ لقرابة بينهما، أو نحوها. ¬

_ (¬1) الترمذي (1032)، ابن ماجه (2750)، ابن حبان (1223)، ولم يروه أبو داود.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحمل إذا ولد لا يرث إلاَّ بشرطين: الأول: تحقق وجوده في الرحم حين موت مورِّثه، ولو نطفةً. الثاني: انفصاله حيًّا حياةً مستقرَّةً. والحياة المستقرة هي المشار إليها بهذا الحديث، من وجود أمارة من أمارات الحياة، التي منها رفع صوت، أو رضاع، أو طول تنفس، أو طول حركة، أو عطاس، ممَّا يدل على وجود الحياة المستقرة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. فالاستهلال المذكور في الحديث هو رفع صوته بالبكاء عند الولادة، ونحوه ممَّا يدل على الحياة المستقرة. 2 - إذا فُقِد هذان الشرطان، بأنْ لم يتحقَّق وجوده حين موت مورثه، أو تحقق وجوده، ولكنه مات قبل الولادة، أو ولد بحياةٍ غير مستقرَّةٍ، وإنما بنَفَسٍ ضعيف، أو اختلاجٍ ونحوه، فهذا لا يرث؛ لأنَّه في عداد الأموات. 3 - قال الفقهاء: إذا مات الميت وخلَّف ورثة فيهم حمل، فإن رضي الورثة ببقاء التركة لم تقسم حتى وضع العمل فهو أولى؛ لتكون القسمة مرةً واحدةً، وإن طلبوا القسمة واختلف إرث الحمل بالذكورة والأنوثة، وُقِف له الأكثر من إرث ذكرين، أو الأكثر من إرث أنثيين؛ لأنَّ ولادة الاثنين كثيرة معتادة، وما زاد عليها نادر فلم يوقف له شيء. 4 - إذا ولد وورث كما تقدم بيانه فيأخذ حقه الموقوف، والباقي لمستحقه. ***

826 - وَعنْ عمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَن جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ المِيرَاثِ شَيءٌ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، والدَّارقُطْنِيُّ، وَقَوَّاهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، وَأَعلَّهُ النَّسَائِيُّ، وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ عَلى عُمَر (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه ابن عدي، والدارقطني، والبيهقي من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس للقاتل من الميراث شيء". وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته، ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه أبو داود، والبيهقي، من طريق محمَّد بن راشد قال: حدثنا سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب به. فالحديث نفسه صحيحٌ لغيره، فإنَّ له شواهدَ يتقوى بها، منها: حديث عمر، وحديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس، كما قال الألباني. قال ابن عبد الهادي: قوَّاه ابن عبد البر، وذكر له النسائي علَّة مؤثرة. اهـ. والعلة هي الانقطاع، كما قال ابن حجر في التلخيص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قتل الوارث لمورثه هو أحد موانع الإرث، كما تقدم، فإن كان القتل عمدًا فهذا من قاعدة: "من تعجَّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه"، وإن كان القتل ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (6737)، الدارقطني (4/ 96).

غير عمدٍ، فمنعه من الإرث من قاعدة "سد الذارئع". 2 - فهذا كله من الصيانة والحصانة للدماء؛ لئلا يكون الطمع سببًا لسفكها، ويؤكد حديث الباب ما روى مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده, وابن ماجه عن عمران عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس لقاتل ميراث". وفي الباب أحاديث كثيرة تقصد هذا المعنى. 3 - ولا شكَّ أنَّ منع القاتل من ميراث مورثه فيه حكمةٌ رشيدةٌ، ومبدأٌ سامٍ حكيمٌ، فحب المال، والرغبة في الاستيلاء عليه، قد يطغى على جانب الرحمة والمودة، فيستبطيء الوارث حياةَ مورثه، فيُقدم على قتله؛ ليستأثر بالثروة، فالشارع الحكيم سدَّ عليه هذا الطريق، وقفل بوجهه هذا الباب فقال: "لا يرث القاتل شيئًا" كما أنَّ منعه من الميراث هو عقوبةٌ، وتعزيرٌ له على إقدامه على هذه الفعلة الشنيعة، بإزهاق النفس البريئة، وقطيعة الرحم. * خلاف العلماء: اختلف الأئمة في صفة القتل الذي يمنع من الإرث: فذهب الشافعي إلى أنَّ القاتل لا يرث من قتيله بحال من الأحوال، حتى ولو كان القتل بحق، كقصاص، وكونه حكم عليه بالقتل قصاصًا، أو حدًّا، أو كونه جلادًا لولي الأمر، أو مزكِّيًّا للشهود الذين شهدوا بجناية الوارث لقتله، أو كان القتل بانقلاب نائمٍ، أو كونه مجنونًا، أو قصد تأديب ابنه فمات، أو كونه بطّ جرحه للعلاج فمات من البط، كل هذه الصور وغيرها من القتل وأسبابه عند الإِمام الشافعي، مانعةٌ من الإرث؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرث القاتل شيئًا". وذهب مالك: إلى أنَّ القتل نوعان: أحدهما: العمد العدوان، فهذا لا يرث صاحبه مطلقًا. الثاني: أن يكون القتل خطأً، فهذا يرث من ماله، ولا يرث من دِيته؛

لأنَّه لم يتعجَّل المال، وأما الدية فهي واجبة عليه، ولا معنى لكونه يرث شيئًا وجب عليه. وذهب أبو حنيفة: إلى أنَّ القتل المانع من الإرث، هو ما أوجب قصاصًا، أو كفارةً، وهو العمد، وشبه العمد، والخطأ، وما جرى مجراه، كانقلاب النائم على قريبه، أو سقوطه عليه. بخلاف القتل بحفر بئرٍ، ووضع حجر في الطريق، أو كان القاتل صبيًّا، أو مجنونًا، وكذا القتل قصاصًا ونحوه، فهذه الأنواع لا تمنع الإرث؛ لأنَّها لا توجب قصاصًا, ولا كفارة، وهما الأساس في القتل المانع من الإرث عند الحنفية. وذهب أحمد: إلى أنَّ القتل المانع من الإرث هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقَوَدٍ، أو ديةٍ، أو كفارةٍ، كالعمد، وشبه العمد، والخطأ، وما جرى مجرى الخطأ، كالتسبب في القتل، وقتل الصبي، والمجنون، والنَّائم. وأما القتل الذي لا يضمن بشيء مما ذكر، فلا يمنع من الإرث، كالقتل قصاصًا، أو حدًّا، أو دفاعًا عن النفس، وقتل العادل الباغي، ونحو ذلك، فلا يمنع من الإرث؛ لأنَّ المنع من الإرث تابع للضمان، فإن لم يكن القتل مضمونًا على القاتل بشيء فلا يمنع. فهذا هو الضابط عند الحنابلة، وهذا القول أرجح الأقوال؛ لأنَّه يتمشى مع الأدلة، ولأنَّه وسط بين قول المالكية وبين قول الشافعية، والله أعلم. ***

827 - وَعنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا أحْرَزَ الوَالِدُ أوِ الوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ المَديْنِيِّ وَابْنُ عَبْدِ البرِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن المديني، وابن عبد البر. وقال ابن القيم: قال ابن عبد البر: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. * مفردات الحديث: - أحرز الوالد: بفتح الهمزة، وسكون الحاء، آخره زاي، أحرز المال: حازه وحفظه وادخره لوقت الحاجة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث بطوله في سنن أبي داود، هو: أن رئاب بن حذيفة تزوَّج امرأةً، فولدت له ثلاثة غلمة، فماتت أمهم، فورثها أبناؤها الثلاثة رباعها، وولاء مواليها، وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها، فأخرجهم إلى الشام، فماتوا، ومات مولى لها، وترك مالًا، فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحرز الولد، أو الوالد فهو لعصبته من كان" فكتب له كتابًا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، ورجلٌ ¬

_ (¬1) أبو داود (2917)، النسائي في الكبرى (4/ 75)، ابن ماجه (2732).

آخر. 2 - فالحديث دليل على أنَّ الولاء لا يورث، وإنما يورث به، فما جمعه العتيق من مال وخلفه، فإنَّه يصير بعد موته ميراثًا لعصبة مولاه المتعصِّبين بأنفسهم إذا لم يوجد له قرابة في النسب؛ لأنَّ الولاء لُحْمة كلُحمة النسب، فقد شبَّه الولاء بالنسب، والنسب يورث؛ به فكذا الولاء إجماعًا. ***

828 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحمَةُ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ" رَوَاهُ الحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَعلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه, وكذلك الحاكم والشافعي عن محمَّد بن الحسن عن أبي يوسف، قال ابن حجر في التلخيص: جمع أبو نعيم طرق حديث "النَّهي عن بيع الولاء، وعن هبته" في مسند عبد الله بن دينار له، فرواه عن نحو من خمسين رجلًا أو أكثر من أصحابه عنه، ورواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر إسناده الصحة. اهـ وصححه السيوطي في الجامع الصغير, وصححه الألباني في الإرواء. * مفردات الحديث: - الولاء لُحمة كلُحْمَة النسب: الوَلاَء -بفتح الواو- لغة؛ السلطة، والمراد به هنا ولاء العتاقة، الذي سببه نعمة المعتق على عتيقه بالعتق والحرية. - لُحْمَة كلُحْمَة النسب: بضم اللام، وسكون الحاء، يعني عُلْقَةٌ وارتباط، كعلقة وارتباط النسب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الولاء -بالفتح والمد- المراد به هنا ولاء العتاقة الذي هو عصوبة، سببها ¬

_ (¬1) الشافعي (1232)، ابن حبان (4929)، الحاكم (4/ 231)، البيهقي (10/ 292).

نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق، سواءٌ كان العتق منجزًا أو معلقًا، تطوعًا أو واجبًا, ولو بالكتابة، كما في حديث بريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما الولاء لمن أعتق" [متَّفق عليه]. 2 - فالولاء لُحْمة وارتباط، كارتباط النسب بدوامه وآثاره، ولا يوهب، ولا يُورث، وإنما يورث بهِ، فالرقيق كان في حال الرق كالمعدوم؛ لأنَّه لا يملك، ولا يتصرف، فلما أعتقه سيده صيَّره موجودًا كاملًا؛ لأنَّه أصبح يملك ويتصرف، فملك حقوقه بعد أن كان مملوكًا. 3 - إذا لم يوجد للميت العتيق ورثة من النسب، لا من ذوي الفروض ولا من العصبة، فإنَّ الذي يرثه معتقه إن وجد، وإلاَّ فعصبةُ معتقه المتعصبون بأنفسهم، لا بالغير، ولا مع الغير، وإذا انتقل الإرث بالولاء إلى عصبة المعتق من بعده، فإنَّه للأقرب فالأقرب من ذكور العصبة دون الإناث، فإنه لا يرث من النساء بالتعصيب بالنفس إلاَّ من أعتقن، أو أعتقه من أعتقن. 4 - تقدم أنَّ الإرث بالولاء يكون إن لم يوجد للعتيق عاصب من النسب، ولم تستغرق الفروض كل المال، فحينئذٍ يرث المال كله تعصيبًا، وإن كان للعتيق ورثة هم أصحاب فروض فقط، ولم يوجد عاصب بالنسب، فإنَّ للمعتق ما أبقت الفروض، وإن لم تُبْقِ شيئًا سقط شأنه، كأي عاصب. 5 - جمهور العلماء يرون أن الولاء يورث به من جانبٍ واحدٍ، وهو جانب المعتِق؛ لأنَّه صاحب النعمة على عتيقه، فاختصَّ الإرث به، وقال شيخ الإِسلام: ويرث المولى من أسفل -يعني العتيق- عند عدم الورثة، وقال به بعض العلماء، وبه قال شيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-، لما روى الخمسة إلاَّ النسائي، وحسَّنه الترمذي عن ابن عباس أنَّ رجلًا مات على عهد النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يترك وارثًا، إلاَّ عبدًا هو أعتقه، فأعطاه ميراثه، ولعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الولاء لحمة كلحمة النسب" فحيث شبَّهه بالنسب، فإنَّه يأخذ حكمه.

6 - تقدم أنَّ الإرث بالولاء إنما يكون إذا لم يوجد للعتيق عاصب بالنفس من النسب، ولم تستغرق الفروض تركته، فإن كان له عاصب بالنفس من النسب فإنَّه مقدم على عصوبة الولاء، أو كان له ورثة أصحاب فروض فقط، واستغرقت فروضهم التركة، سقط كأي عاصب. 7 - المشهور من مذهب الإِمام أحمد أنَّ الكفر ليس مانعًا من الإرث بالولاء، ذلك أنَّ الولاء ثابت مع اختلاف الدين بلا نزاع بين العلماء، والولاء شعبة من الرق. والرواية الآخرى عن الإِمام أحمد: أنَّ اختلاف الدين مانع من التوارث حتى بالولاء، قال الموفق: هو مذهب جمهور العلماء؛ لعموم ما في الصحيحين من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم" وإذا كان اختلاف الدين مانعًا مع النسب وهو أقوى من الولاء، فإنَّه يمنع التوارث بالولاء من باب أولى. 8 - قال الشيخ تقي الدين. الزنديق منافق يرث ويورث؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا، ولا جعله فيئًا، فعُلِم أنَّ التوارث مداره على الفطرة، واسم الإِسلام يجري عليه في الظاهر إجماعًا. ***

829 - وَعنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، سِوَى أِبي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابن حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالإِرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم. قال في التلخيص: رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث أبي قلابة عن أنس فذكر الحديث، وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان، وقد أعلَّ بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنس صحيح، إلاَّ أنَّه قيل: لم يسمع منه هذا الحديث، ورجَّح الدارقطني والبيهقي والخطيب أنَّ الموصول منه: "ولكل أمة أمين، وأمين هذا الأمة أبو عبيدة بن الجراح" وأما الباقي فمرسل، وله طرقٌ أخر، لا تخلو من مقال، إلاَّ أنَّه يشد بعضها بعضًا. * مفردات الحديث: - أبي قِلابة: بكسر القاف، وابن زيد الجرمي البصري، تابعي، ثقة، هو أكثر من أخذ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. - أفرضكم زيد: أفرض أفعل تفضيل، ومعناه أنَّ زيد بن ثابت الأنصاري أعلم الصحابة بعلم الفرائض. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 184)، الترمذي (3790)، النسائي في فضائل الصحابة (155)، ابن حبان (7131)، ابن ماجة (154).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، ثم النجاري، كان عمره حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة إحدى عشرة سنة، فكانت أولى مشاهده من الغزوات على الراجح الخندق، ووفاته سنة خمس وأربعين، وكان من كُتَّاب الوحي، ومن حفظة القرآن، ومن أوعية العلم. أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- راية بني النجار يوم تبوك، وقال: إنَّه أكثر أخذًا للقرآن، واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات، وكان عثمان يستخلفه، وروى عنه جمعٌ كبيرٌ من الصَّحابة والتابعين. وهو الذي كتب المصحف في عهد أبي بكر، وفي عهد عثمان -رضي الله عنهما-، ولمَّا مات، قال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس خلفاً عنه. قال ابن عمر: اليوم مات عالم المدينة. 2 - وجاء في المسند، والترمذي، وابن ماجه، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وأفرضهم زيد ابن ثابت" ومن أجل هذه الشهادة النبوية، وهذه الميزة العلمية، فإنَّ الإِمام الشافعي نحا نحوه، ومال إلى أقواله موافقة له بعد التحري والاجتهاد، وإمعان النظر، وظهور الصواب. 3 - هذا الحديث قطعةٌ من حديثٍ طويل، رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". والمؤلف لم يأت منه إلاَّ بما تعلق بالباب، وهو: "أفرضكم زيد"؛ لأنَّه شهادة لزيد بن ثابت بأنه أعلم المخاطبين بالمواريث، فيؤخذ عنه ويرجع

إليه عند الاختلاف، ولذا اعتمد أقواله الإِمام الشافعي، ورجحها على غيرها. 4 - هذا الحديث أُعِلَّ بالإرسال، وذلك أنَّ أبا قلابة -وإن كان سمع من أنس عدة أحاديث-، إلاَّ أنَّه لم يسمع منه هذا الحديث، فيكون مرسلاً أي منقطعًا. لكن قال المؤلف في التلخيص: صححه الترمذي، والحاكم، وابن حبان، وله طريق أخرى عن أنس، أخرجها الترمذي، ورجح ابن الموَّاق وغيره أنَّه موصول، أما الدَّارقطني، والبيهقي، والخطيب، فرجحوا أنَّ الموصول منه ذِكر أبي عبيدة، والباقي مرسل. 5 - الخلاف بين العلماء في مسائل الفرائض قليل، وقليله موجود في مسائله التي لم تذكر في القرآن الكريم، وأما أصول مسائله، والهام منها، فمجمعٌ عليها بين العلماء، ذلك أنَّ الله تبارك وتعالى تولَّى قسمتها بنفسه في كتابه العزيز؛ لأنَّها أمورٌ ترجع إلى تقسيم الأموال، والنفوس مجبولة على حب المال، والاستئثار به، كما أنَّ التركة غالبًا تكون بين أقوياء وضعفاء، ومن هنا يأتي الخوف أيضًا من عدم العدل في قسمتها. ***

باب الوصايا

باب الوصايا مقدمة الوصايا: جمع وصية، مثل هدايا جمع هدية، قال الأزهري: مأخوذةٌ من وصيت الشيء أصيه إذا وصلته، سميت وصية؛ لأنَّ الموصي وصل ما كان له في حياته بما كان بعد مماته. ويقال: وصَّى بالتشديد، وأوصى يوصي أيضًا، وهي لغة: الأمرُ، قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]. وشرعًا: عهدٌ خاصٌّ بالتصرف بالمال، أو التبرع به بعد الموت. وهي مشروعةٌ بالكتاب؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]. ومشروعة بالسنة لهذه الأحاديث الآتية، وعليها إجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار. وهي من محاسن الإِسلام، إذ جعل لصاحب المال جزءًا من ماله، يعود عليه ثوابه وأجره بعد موته. وهي من لطف الله بعباده، ورحمته بهم، حينما أباح لهم من أموالهم عند خروجهم من الدنيا أن يتزودوا لآخرتهم بنصيبٍ منها. ولهذا جاء في بعض الأحاديث القدسية قول الله تعالى: "يا ابن آدم جعلت لك نصيبًا من مالك حين أخذتُ بكَظْمِكَ؛ لأُطَهِّرك بهِ وأُزكيك" وتجري في الوصية الأحكام الخمسة: 1 - تجب على من عليه حق بلا بينة.

2 - تحرم على من له وارث، إذا وصَّى بأكثر من الثلث، أو وصَّى لوارث بشيءٍ، ما لم تُجز الورثة. 3 - تسن لمن ترك خيرًا كثيرًا بالثلث فأقل. 4 - تكره لفقير، وارثه محتاج. 5 - تباح لفقير إن كان ورثته أغنياء. ***

830 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصَي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ما حق امريءٍ: "ما" نافية بمعنى ليس، و"حق" مبتدأ، وخبره المستثنى. - مسلم: صفة أولى. - له شيء: صفة ثانية، يريد أن يوصي، صفة لشيء. - يبيتُ ليْلَتَيْن: صفة ثالثة، ومفعول يبيت "ليلتين"، وقُيَّد بالليلتين تأكيدًا، وليس تحديدًا، وهو تسامح في إرادة المبالغة، أي سامحناه في هذا المقدار، فلا ينبغي أن يتجاوزه. - ووصيته: جملة حالية، مربوطة بالواو والضمير. والوصية: في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يحضُّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمته على المبادرة إلى فعل الخير باغتنام الوصية قبل فواتها، فأرشدهم إلى أنه ليس من الحق والحزم لمن عنده شيء يريد أن يوصي به أن يهمله، حتى تمضي عليه المدة الطويلة، بل عليه أن يبادر إلى كتابته وبيانه، وغاية ما يسمح به من التأخير الليلة والليلتان؛ فإنَّ الإنسان لا يدري ما يعرض له في هذه الحياة. فكان من حرص ابن عمر وأمثاله أنَّه كان يتعاهد وصيته كل ليلة، قال ¬

_ (¬1) البخاري (2738)، مسلم (1627).

الشافعي: معناه ما الحزم والاحتياط لمسلم إلاَّ أن تكون وصيته مكتوبة عنده. 2 - مشروعية الوصية، وعليها إجماع العلماء، وعمدة الإجماع الكتاب والسنة. 3 - أنَّها قسمان: (أ) مستحب. (ب) واجب. فالمستحب: ما كان للتطوعات، والقربات. والواجب: في الحقوق الواجبة، التي ليس فيها بينة تثبتها بعد وفاته؛ لأنَّ "ما لا يتم الواجب إلاَّ به، فهو واجب" وذكر ابن دقيق العيد أنَّ هذا الحديث محمول على النوع الواجب. 4 - قوله: "يريد أن يوصي به" استدل به جمهور العلماء على أنَّ الوصية بشيء من المال، صدقةً لوجه الله تعالى، مستحبة، وليست بواجبة. قال ابن عبد البر: الإجماع على عدم وجوبها، وأنه لو لم يوص لقسِّم ماله بين ورثته بالإجماع، أما الوصية بأداء الدَّين، وردِّ الأمانات والودائع، فهي الوصية الواجبة، كما تقدم تفصيله. 5 - مشروعية المبادرة إليها بيانًا لها، وامتثالاً لأمر الشارع فيها، واستعدادًا للموت، وتبصرًا بها، وبمصرفها قبل أن يشغله عنها شاغل. 6 - أنَّ الكتابة المعروفة تكفي لإثبات الوصية، والعمل بها؛ لأنَّه لم يذكر شهودًا لها، والخط إذا عرف بيِّنةٌ ووثيقةٌ قويةٌ. 7 - فضل ابن عمر -رضي الله عنه- ومبادرته إلى فعل الخير، واتباع الشارع الحكيم، فقد روى مسلم عنه أنَّه قال: "ولم أبت ليلة إلاَّ ووصيتي مكتوبة عندي".

8 - قال ابن دقيق: والترخيص في الليلتين والثلاث دفع للحرج والعسر. 9 - فيه استحباب استعمال الحزم، وتدارك الأمور التي يخشى فواتها، وذهاب فُرْصتها ووقتها. 10 - وفيه بيان فائدة الكتابة، وأنَّه تُحفظ بها العلوم، وتُوثق بها العقود والأمانات، وقد نوَّه الله تعالى بذكرها، فقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1]. 11 - وفيه المحافظة على الوصية بعد كتابتها، بأن تكون عند الموصي، فلا يهملها. 12 - قال شيخ الإِسلام: تنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب أحمد، وقال: إذا كان الميت يكتب ما عليه للناس في دفتر ونحوه، وله كاتب يكتب بإذنه ما عليه ونحوه، فإنَّه يرجع في ذلك إلى الكتاب الذي بخطه، أو خط وكيله، وإقرار الوكيل فيما وكل فيه مقبول. 13 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم في موضوع القسامة: فإن قال قائل كيف يحلف على شيء ما رآه ولا شهده؟ قيل: هذا يدل على أنَّه يجوز للإنسان أن يحلف إذا غلب على ظنه أنَّه الأمر. ومن أمثلة ذلك إذا وجد كتابة أبيه على أحدٍ دَيْناً، فيجوز له أن يحلف بناء على غلبة الظن. 14 - قال شيخ الإِسلام: تجوز الشهادة على الخط أنَّه خط فلان إن كان يعرفه يقينًا, ولو لم يعاصره، فالناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها على أنَّ هذا خط فلان، فمن عرف خطه عمل به. ***

831 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أفَأتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالي؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: أفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: أفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّك أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشطر: بفتح الشين، وسكون الطاء المهملة، آخره راء، الشطر له عدة معانٍ، والمراد به النصف. - الثُّلث والثلث: الأول يجوز فيه الرفع على أنَّه مبتدأ، والتقدير: الثلث يكفيك، أو على أنه فاعل يكفيك، ويجوز فيه النصب على الإغراء، أو على تقدير: أعط الثلث، وأمَّا "الثلث" الثاني فهو مبتدأ، وخبره كثير. - كثير: أكثر الروايات بالثاء المثلثة، وهو المحفوظ، وفي رواية للبخاري: كثير أو كبير، قال: إنَّه شكٌّ من الراوي. - إنَّك: "إنَّ" مشددة من نواصب الاسم، والكاف اسمها. - أنْ تَذَرَ: بفتح الهمزة، و"أنْ" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، محله الرفع مبتدأ، أي تركك أولادك أغنياء، وخبره خير، والجملة بأسرها خبر "إنَّ"، وروي بكسر الهمزة على أنَّها شرطية جوابها محذوف، وتقديره: إن تركت ورثتك أغنياء فهو خير. قال النووي: الروايتان صحيحتان، وأيَّد هذا الإعراب الإِمام النحوي ابن ¬

_ (¬1) البخاري (1295)، مسلم (1628).

مالك، وهو شيخ الإِمام النووي. - تَذَر: قال في المصباح وغيره: هذا فعل أماتت العرب ماضيه ومصدره، فإذا أريد الماضي قيل: ترك، فيكون تأويل مصدره هنا مع أنَّ: تَرْكك ورثتك. - عالة: بفتح العين، جمع عائل: فقراء، من عال يعيل إذا افتقر، والعيلة الفقر، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]. - يتكففون الناس: مأخوذ من الكف، وهي اليد، أي يسألون الناس بأكفهم، أو يسألون ما في أكف الناس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مرض سعد بن أبي وقاص بمكة عام حجة الوداع، فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر له سعد بأنَّه صاحب مالٍ كثير، وليس له من الورثة إلاَّ بنت واحدة، فهل يتصدق بماله كله؟ كما في رواية أحمد والنسائي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، فقال: بالثلثين؛ فقال: لا، فقال: بالنصف؛ فقال: لا، قال: بالثلث؟ فقال: الثلث، والثلث كثير. ثم بيَّن له أن ترْكه ورثته أغنياء لهم ما يكفيهم ويغنيهم عن الناس، خير من أن يدعهم فقراء، يسألون النَّاس، ويعيشون على إحسانهم إليهم. 2 - سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري من السابقين إلى الإِسلام، ومن المهاجرين الأولين، شهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها بدر، وكان له بلاءٌ عظيمٌ يوم أحد، حتى قال له النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فداك أبي وأمي"، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الستة أصحاب الشورى، وهو قائد جيوش المسلمين التي هزمت الفرس، وفتحت القادسية، والمدائن، وغيرها، وهو ممَّن اعتزل فتنة الصحابة لما قُتِل عثمان -رضي الله عنهم-، وعاش إلى عام (54) من الهجرة، ولم يمت حتى صار له من الأبناء خمسة، والسادسة بنت، رحمه الله، ورضي عنه.

3 - استحباب عيادة المريض، وتتأكد فيمن له حقٌّ من قريبٍ، وصديقٍ، وجارٍ، ونحوهم. 4 - جواز إخبار المريض بمرضه، وبيان شدته، إذا لم يقصد التشكي والتسخط، وينبغي ذكره للفائدة، كطبيبٍ يعينه على تشخيص مرضه، أو مسعف يتسبب له في العلاج. 5 - استشارة العلماء، واستفتاؤهم في أموره. 6 - إباحة جمع المال إذا كان من طرقه المباحة. 7 - استحباب الوصية، وأن تكون بالثلث من المال، فأقل، ولو ممن هو صاحب مال كثير. 8 - الأفضل أن يكون بأقل من الثلث، وذلك لحق الورثة. 9 - أنَّ إبقاء المال للورثة مع حاجتهم إليه، أفضل من التصدق به على البعيدين؛ لكون الوارث أولى ببره من غيره. 10 - أنَّ النفقة على الأولاد والزوجة عبادةٌ جليلةٌ مع النية الحسنة. وذكر ابن دقيق: أنَّ الثواب في الإنفاق مشروطٌ في حصول النية بابتغاء وجه الله، وهذا دقيقٌ عسر؛ لأنَّه بمقتضى الطبع والشهوة، فلابد من أن يمازجه ذلك عند معظم الناس، ثم بيَّن -رحمه الله- أنَّ الواجبات المالية إذا أُدِّيت على وجه أداء الواجب، وابتغاء وجه الله، أُثيب فاعلها، وإن أُشربت نيته -مع إرادة وجه الله- الرغبة في أداء الواجب، فإنَّ أداء الواجب امتثالٌ، وبراءةٌ، وعبادةٌ. 11 - وفيه مذمَّة مسألة النَّاس أموالهم، وإظهار الحاجة إليهم، وأنَّه على الإنسان أن يسعى بأي عملٍ يغنيه عنهم، وعمَّا في أيديهم. 12 - وفيه حسن جمع المال من حله؛ للاستغناء به عن الحاجة إلى الناس، ومن حسن توفير المال الاقتصاد في النفقات.

13 - وفيه أنَّ حق الورثة متعلق بمال قريبهم، الذي يرثونه حتى في حال حياته، فلا يحل له أن يحتال على إنفاقه أو التصرف فيه تصرفات يقصد بها حرمانهم من الميراث. 14 - في الحديث حثٌّ على صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، والشفقة على الورثة، فإنَّ صلة القريب الأقرب، والإحسان إليه، أفضل من الأبعد. 15 - وفيه فضل الإنفاق في وجوه الخير، وإنما يثاب على عمله بنيته، وأنَّ الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى، وأنَّ المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة. ***

832 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْها؟ قَالَ: نَعَمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجلًا: هو سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي -رضي الله عنه-، سيد الخزرج، اسم أمه عَمْرة بنت مسعود الأنصارية، من بني النجار. - افْتُلِتَتْ: بضم الهمزة، وسكون الفاء، وضم التاء المثناة، ثم لام مكسورة، مبني للمجهول، ومعناه ماتت بغتة وفجأة. - نفْسُهَا: فيها إعرابان: إمَّا مرفوعةٌ على أنَّها نائب فاعل، وإما منصوبة على أنَّها مفعول ثانٍ، بمعنى سلبت نفسها، قال في النهاية: ماتت فجأة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الصدقة عن الميت جائزة، وأنَّ ثوابها يصل إليه، وهذا لا يعارض قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]. فإنَّه إذا منحه أحد من سعيه كان له زيادة على ماله من السَّعي. 2 - استحباب الصدقة عن الميت، ولو لم يوص بذلك، لاسيَّما إذا عرف أنه لو تكلَّم، أو حصلت له مهلةٌ لأوصى بالصدقة. 3 - فضيلة بر الوالدين، وأنَّ من برِّهما بعد مماتهما الدعاء لهما، والصدقة عنهما، وفعل القُرب الصالحة، وإهداءَها إليهما. ¬

_ (¬1) البخاري (1388)، مسلم (1004).

4 - أنَّه ينبغي لمن أراد الوصية أن يبادر بها؛ لينفذ وصيته بنفسه، ليحرز ثوابه كله، وليخرجها حسب رغبته فيها، من قدْرها، ونوعها، وطريق مصرفها. 5 - المبادرة بتنفيذ وصايا الميت؛ ليحرز أجرها، وأهم من ذلك المبادرة بأداء الواجبات، والحقوق التي عليه، سواء كانت لله كالحج والزكاة، والكفارات والنذور، أو كانت للناس كالديون. 6 - مبادرة الحياة بفعل الطاعات، وعمل الخيرات، فالدنيا سباق في تحصيل الفضائل، واقتناص الثواب، فمن عَلَت مرتبته في الفضائل، زادت مرتبه في دار الجزاء. * خلاف العلماء: أجمع العلماء علماً أنَّ الدعاء، والاستغفار، والعبادات المالية، من الصدقات، والحج، والعمرة، أنه يصل ثوابها إلى الميت. فالدعاء والاستغفار دليله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "استغفروا لأخيكم فإنَّه الآن يسأل" [رواه أبو داود]. وأما الصدقة فدليلها حديث الباب. وفي الحج ما في البخاري أنَّ امرأةً من جهينة قالت: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، اقضوا الله، فإنَّه أحق بالوفاء". والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة جدًّا. وقد ساق منها ابن القيم في "كتاب الروح" جملة صالحة. قال شيخ الإِسلام: أئمة الإِسلام متَّفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له، وبما يُعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإِسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف فيه كان من أهل البدع.

وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله"؛ لأنَّ ذلك من عمله. وذلك بأن يثيب الساعي على سعيه وعمله، ويرحم الميت بسعي هذا الحي ويزيد في حسناته. واختلف العلماء في العبادات البدنية كالصلاة والصيام وقراءة القرآن. فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى وصول ثوابها. وذهب مالك والشافعي إلى عدم وصولها، والاقتصار على العبادات المالية، والدعاء، والاستغفار. ومن أدلة أبي حنيفة وأحمد. 1 - أنَّ الدعاء والاستغفار من العبادات البدنية وغيرها مثلها. 2 - أنَّ الصيام من العبادات البدنية، وقد جاء في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات وعليه صيامٌ، صام عنه وليه". 3 - ما جاء في البخاري أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله! إنَّ أمي ماتت، وعليها صيام نذر، فقال: "صومي عن أمك". وأما دليل مالك والشافعي فقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]. وأُجيب بأنَّ كون الإنسان لا يملك إلاَّ سعيه، لا ينافي أنَّ غيره يهدي إليه من سعيه، فيزيد في حسناته. وقد أجاب ابن القيم عن أدلتهما في "كتاب الروح" بما لا مزيد عليه.

833 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" رَواهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائيَّ، وَحسَّنَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ (¬1)، وَرَواهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ في آخِرِهِ: "إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الوَرَثَةُ"، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد جاء عن جماعةٍ كبيرةٍ من الصحابة، منهم أبو أمامة، وعمرو بن خارجة، وابن عباس، وأنس، وابن عمر، وجابر، وعلي، وعبد الله بن عمرو، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم. قال الشيخ الألباني: وخلاصة القول أنَّ الحديث صحيح، لا شكَّ فيه، فهو من رواية شراحيل بن مسلم الخولاني قال: سمعتُ أبا أُمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وجلال الدين السيوطي وغيره من المتأخرين جعلوا هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، وذلك بانضمام طرقه بعضها إلى بعض، وإن كان في ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 267)، أبو داود (3565)، الترمذي (2120)، ابن ماجه (2713)، ابن الجارود (949). (¬2) الدارقطني (4/ 98).

بعضها ضعفٌ فهو ضعف محتمل، وبعضه حسن لذاته، لاسيَّما أنَّه لا يشترط في الحديث المتواتر سلامة طرقه من الضعف؛ لأنَّ ثبوته إنَّما هو بمجموعها، لا بفردٍ منها. أما رواية: "إلاَّ أن يشاء الورثة" فهي من رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وعطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس، قاله البيهقي، وقد جاء من وجهٍ آخر عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، لكن عطاء الخراساني غير قوي، ولذا رجَّح الحافظ ابن حجر المرسل، أما ابن القطان فحسَّنه مرفوعًا موصولًا. قال الشيخ الألباني: ينبغي أن تكون هذه الزيادة منكرة، على ما تقتضيه القواعد الحديثية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كانت الوصية في صدر الإِسلام للأقارب فرضًا، وذلك قبل نزول آية الميراث، فلما نزلت بطلت الوصية لهم إلاَّ برضا الورثة الراشدين، وذلك لما جاء في بعض روايات الحديث: "لا وصيَّة لوارث، إلاَّ أن يشاء الورثة" ولأنَّ الحق لهم، فإذا رضوا، فلا مانع. 2 - يدل الحديث على صحة الوصية ومشروعيتها، ما دام أنَّه جاءها التعديل والتوجيه من الشارع الحكيم، فيدل على أنَّ أصلها صحيح. 3 - فالمسلم في حياته قد جعل الله له أن ينفق من ماله بعد مماته بقدر ثلث تركته في سُبُل الخير، وأن يدع الباقي لورثته، ومن هم أولى النَّاس ببرِّه من أقاربه الوارثين فروعًا وأصولاً، أو حواشي، فلا يزيد في وصيته عن الثلث؛ لئلا يجحف بنصيب الورثة. 4 - وإذا وصَّى فلتكن وصيته لمن لا يرثه من أقاربه، أو من الفقراء، أو أهل العلم، أو المجاهدين، أو سائر طرق الخير والبر، أما من جعل وصيته

لورثته أو لبعضهم فقد تعدى حدود الله فيها، وظلم نفسه وظلم غيره، فإنَّ الوصية لا تجوز، إذ لا وصية لوارث. 5 - كما أنَّ محاباة بعض الورثة، وإعطاءَهُ ما لم يعط الباقين، أو حرمان بعضهم من إرثه بحيلة من الحيل: من تعدي حدود الله تعالى، سواء كان ذلك هبةً، أو بيعًا صوريًّا، أو إقرارًا كاذبًا. 6 - والوصية بالثلث للأجنبي، والأجنبي هنا من ليس بوارث، أو للجهات الخيرية النافعة من مساجد، وربط، ومدارس، ونشر دعوة الله تعالى، فيجوز بالثلث، وما زاد على الثلث لا يجوز إلاَّ بموافقة الورثة البالغين الراشدين، فإن أذنوا جاز، وإن لم يأذنوا فالحق لهم، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلاَّ أن يشاء الورثة"، إن صحَّت هذه الزيادة. ***

834 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ، زِيَادَةً في حَسَنَاتِكُمْ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬1)، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبي الدَّرْدَاءِ (¬2)، وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬3)، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، لكِنْ قَدْ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَاللهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث الباب حسن لغيره، وله شواهد منها: ما أخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وكلها ضعيفة، ولكن يقوي بعضها بعضًا، فقد جاء الحديث من عدَّة طرق حيث روي من حديث أبي هريرة، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي بكر الصديق، وخالد بن عبيد السلمي. قال الشيخ الألباني عن هذه الطرق: إنَّ جميع طرق الحديث ضعيفة شديدة الضعف، إلاَّ أنَّ ضعف طريق أبي الدرداء، وطريق معاذ بن جبل، وطريق خالد بن عبيد يسير، لذلك فالحديث بمجموع هذه الطرق الثلاث يرتقي إلى درجة الحسن، وسائر الطرق إن لم تزده قوَّة لم تضره، والله أعلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الله تعالى لطيف بعباده، لاسيَّما بعباده المؤمنين، فقد سهل لهم من سبل ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 150). (¬2) أحمد (6/ 440)، البزار (1382). (¬3) ابن ماجه (2709).

الخير، وطرق البر ما تزداد به حسناتهم، وتنمو به أعمالهم الصالحة، من الأيام المباركات، والليالي الفاضلات، والساعات ذات النفحات، والأمكنة المقدسة، والأذكار الجامعة. ومن ذلك أنْ تفضل عليهم بثلث أموالهم، لتكون صدقة لهم بعد مماتهم تزيد بها حسناتهم. 2 - فالصدقة الكاملة والإحسان الحقيقي هو ما يخرجه الإنسان في حياته، وحال صحته وقوته، ورغبته في المال، كما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان]، وكما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت شحيحٌ صحيح، تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان". 3 - لكن الله جلَّ وعلا من فضله على عباده، وبره بهم، وعلمه بحبهم المال، وشدتهم عليه، جعل لهم الصدقة بثلث أموالهم عند وفاتهم، زيادة في حسناتهم. 4 - جواز الوصية بالمال بقدر الثلث للأجنبي، والأجنبي هنا: معناه غير الوارث. 5 - تحريم الزيادة عن الثلث إلاَّ بإذن الورثة البالغين الراشدين، وموافقتهم. 6 - أنَّ زمن قبول الوصية وتنفيذها يكون بعد الموت؛ لأنَّ ذلك الوقت هو وقت ثبوت حق الموصى له. 7 - أنَّ الوصية بثلث التركة يعتبر بعد مؤن التجهيز، وبعد وفاء جميع الديون، سواءٌ كانت لله، أو للنَّاس. 8 - أنَّ الوصيَّة بالمال فيها فضل، وفيها أجر، فإنَّ الله لم يشرعها لخلقه، وتفضل بها على عباده، إلاَّ لما فيها من الثواب الكبير؛ لأنَّها إحسانٌ، وصدقةٌ جاريةٌ، قال تعالي: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ

أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس]. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في صحة الوصية للوارث، إذا أجاز ذلك الورثة. فذهب جمهور العلماء إلى صحة الوصية للوارث، إذا أجاز الورثة، ذلك أنَّهم قد أخذوا بهذه الزيادة "إلاَّ أن يشاء الورثة"، وإسنادها حسن. قال الشيخ تقي الدين: لا تصح لوارث بغير رضى الورثة: قال في الروض؛ ولا تجوز الوصية لوارث بشيء إلاَّ بإجازة الورثة بعد الموت؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث"، فإنْ أجاز الورثة، فإنَّه تصح تنفيذًا؛ لأنَّها إمضاءٌ لقول وارث. وقال الشيخ عبد الله بن محمد: اتَّفق العلماء أنَّه لا وصية لوارث، إلاَّ إذا أجاز الورثة، وكانوا راشدين، وعلَّق الفقهاء جوازها باعتبار إجازتهم؛ لأنَّ المنع من الوصية للوارث لحقهم، فإذا أجازوا، نُفِّذ ذلك؛ لأنَّ الحق لهم. وذهب الظاهرية إلى أنَّ الوصية للوارث، لا تصح، ولو أجاز الورثة، فإنَّه لا أثر لإجازتهم. وقال الشيخ الألباني عن حديث: "إلاَّ أن يشاء الورثة" ينبغي أن يكون حديثًا منكرًا على ما تقتضيه القواعد الحديثية. اهـ. وحديث: "لا وصية لوارث" جزم الشافعي في الأم أنَّه متنٌ متواتر، وأنَّه متلقًّى بالقبول من كافة الأمة. وقد ترجم له البخاري فقال: "باب لا وصية لوارث" وإن لم يكن على شرطه. وقال شيخ الإِسلام: اتَّفقت الأمة عليه. وقال المجد: مَن حفظنا عنهم مِن أهل العلم لا يختلفون أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال

عام الفتح: "لا وصيَّة لوارث". قال الحافظ: أجمع العلماء على مقتضاه. وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح؛ لأنَّ المنع لحقهم وحدهم، وقد أجازوا. * فوائد: الأولى: إنَّ الموصي ما دام حيًّا فهو حر التصرف في وصيته، والتغيير والتبديل فيها، وفي مصرفها, وله الزيادة والنقص ما دام في حدود الثلث، ولا يزيد عليه. الثانية: الوصية تبطل بوجود واحد من خمسة أشياء: 1 - برجوع الموصي يقول أو فعل يدل على الرجوع، كبيع العين الموصى بها. 2 - إذا مات الموصى له قبل موت الموصي. 3 - إذا قتل الموصى له الموصي، سواء كان عمدًا أو خطأ، للقاعدة الشرعية: "من تعجَّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه" هذا في حق العامد، ومن باب "سد الذرائع" في حق غير العامد. 4 - إذا ردَّ الموصى له الوصية بعد موت الموصي، ولم يقبلها. 5 - إذا تلفت العين الموصى بها. الثالثة: الأفضل أن تكون الوصية للأقارب المحتاجين، الذين لا يرثون الموصي؛ لأنَّهم أولى الناس ببرِّه، ولما جاء في مسند الإِمام أحمد عن أنس قال: جاء أبو طلحة إلي النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إنَّ الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحبَّ أموالي إليَّ ببيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو برها، وذُخرها عند الله تعالى، فضعْها حيث أراك الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بخٍ بخٍ، ذاك مالٌ رابحٌ، ذاك مالٌ رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

ولما في الصحيحين من حديث زينب امرأة ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". الرابعة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: تجري في الوصية الأحكام الخمسة: 1 - تجب على من عليه حق بلا بينة. 2 - تحرم على من له وارث، إذا وصى بأكثر من الثلث، أو وصى لوارث بشيءٍ، ما لم تُجِز الورثة. 3 - تسن لمن ترك خيرًا كثيرًا بالثلث فأقل في الطرق النافعة. 4 - تكره لفقير، وارثُه محتاج. 5 - تباح للفقير إذا كان وارثه غنيًّا. وقد تقدم هذا قريبًا. * فائدة: قال كل من الشيخ عبد الله أبابطين، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ حسن ابن حسين، والشيخ عبد العزيز بن حسن: إنَّ وصيَّة الرجل لأُمه، وأبيه، وأخته، ونحوهم، بحجَّة، أو أضحية، وهم أحياء، لا مانع منها؛ لأنَّ هذا من باب البر والإحسان إليهم بالثواب، وليس من الوصية الممنوعة شرعًا، التي يقصد بها تمليك الموصى له، بحيث إنَّ الموصى له يتصرَّف فيها تصرف الملاك بالبيع وغيره. ***

باب الوديعة

باب الوديعة مقدمة الوديعة: فعيلة بمعنى مفعولة، من الوَدْع، وهو الترك؛ لأنَّها متروكة عند المودع، والإيداع: توكيل في الحفظ، والاستيداع: فيه توكيل كذلك. والوديعة شرعًا: توكيل المودع من يحفظ ماله بلا عوض. وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. ومن الكتاب: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وأما السنة: فمثل حديث الباب. وأما الإجماع: فأجمع العلماء على جوازها. وهي من القُرب المندوب إليها باتفاق أهل العلم. وفي حفظها ثوابٌ جزيل، ففي الحديث: "والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه" والحاجة داعيةٌ إلى ذلك، فهي من الإعانة على الخير. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] كما اتَّفقوا على أنَّها عقدٌ جائزٌ، غير لازمٍ، فإنْ طلبَها صاحبها، وجب ردها إليه، وإن ردَّها المستودع، لزم صاحبها قبولهَا. ويستحب قبولها لمن وثق من نفسه الأمانة عليها، والقدرة على حفظها. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الوديعة أمانة محضة لا تضمن إلاَّ بالتَّعدي، أو التفريط، وأنَّه إذا أودعه على شرط الضمان لا يضمن بالشرط، وحكى ذلك إجماعًا.

835 - وَعَنْ عَمْرِو بْنُ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ (¬1). وبابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ تَقَدَّمَ في آخِرِ الزَّكَاةِ، وَبَابُ قَسْمِ الفَيءِ وَالغَنِيمَةِ يَأْتِي عَقِبَ الجِهَادِ، إِنْ شَاءَ اللهُ تعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن لغيره. أخرجه ابن ماجه من طريق أيوب بن سويد عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... فذكر الحديث، وهذا سندٌ ضعيف، فالمثنى ضعيف، أورده الذَّهبي في الضعفاء. وقال: ضعَّفه ابن معين، وقال النسائي: متروك، وللحديث ثلاثة طرق أخر ضعيفة، إلاَّ أنه يحصل له بمجموعها قبول، فيكون حسنًا لغيره. * مفردات تتعلَّق بالوديعة: - المودع: بكسر الدال، هو من صاحب الوديعة، ومؤمنها. - المودع: بفتح الدال، هو من وضعت عنده الوديعة؛ لحفظها بلا عوض. - الودِيعة: هي المال المودع عند من يحفظه بلا عوض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الوديعة أمانة من الأمانات، والأمانة لا يضمنها المؤتمَنُ عليها إلاَّ بالتَّعدي ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2401).

عليها، أو التفريط فيها. 2 - التعدي: هو فعل ما لا يجوز، والتفريط: هو ترك ما يجب، فمن تعدى على الأمانة، أو فرط فيها فهو ضامن؛ لأنَّ يده يد معتدية، ومن لم يتعد، ولم يفرط فلا ضمان عليه؛ لأنَّه أمين. 3 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الوديعة أمانة محضة، غير مضمونة إلاَّ بالتَّعدي، أو التفريط، واتَّفقوا على أنَّه إذا أودعه على شرط الضمان أنه لا يضمن بالشرط، حكى ذلك إجماعًا. قال في شرح الإقناع: وإن شرط ربُّ الوديعة على المودعَ ضمان الوديعة لم يصح الشرط، ولا يضمنها الوديع؛ لأنَّه شرطٌ ينافي مقتضا العقد، فلم يضمنها. 4 - قال في شرح الإقناع أيضًا: المودعَ أمين، والقول قوله مع يمينه فيما يدَّعيه من رد؛ لأنَّه لا منفعة له في قبضها، ويقبل قوله أيضًا في نفس ما يدعى عليه من خيانةٍ، أو تفريطٍ؛ لأنَّ الأصل عدمها؛ ولأنَّ الله تعالى أمره بأدائها إلى أهلها؛ ولو لم يكن قوله معتبرًا مقبولاً ما وُجِّه الأمر إليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. قال ابن هبيرة: اتفقوا على قبول قول المودع في التلف، والرد مع يمينه. 5 - ويجب حفظ الوديعة في حرز مثلها عرفا، كما يحفظ ماله؛ لأنَّه تعالى أمر بأدائها, ولا يمكن ذلك إلاَّ بالحفظ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. * فوائد: الأولى: قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أنَّ المستودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنَّها ضاعت، قُبِل قوله بيمينه. الثانية: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ القول قول المستودع في التلف والرد مع

يمينه. الثالثة: يقبل قول المودع في عدم التفريط والخيانة؛ لأنَّه أمين، والأصل براءته، وهكذا حكم سائر الأمانات. قال ابن القيم: إن لم يكذبهم شاهد الحال. الرابعة: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه متى طلب الوديعة صاحبُهَا، وجَبَ على المودع أن لا يمنعها مع إمكان الرد، وإن لم يفعل فهو ضامن، فإن طلبها في وقتٍ لا يمكنه دفعها إليه، لم يكن متعديًا. ... انتهى كتاب البيوع

كتاب النكاح

كتاب النكاح مقدمة النكاح لغة: الضم، وهو حقيقة الوطء، ويطلق مجازًا على العقد من إطلاق المسبب على السبب. وكل ما ورد في القرآن من لفظ النكاح فالمراد به العقد، إلاَّ قوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فالمراد به الوطء. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وغيرها من الآيات. وأما السنة: فآثارٌ كثيرةٌ، قوليةٌ، وفعليةٌ، وتقريريةٌ، ومنها: حديث الباب: "يا معشر الشباب .. إلخ". وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعيته، وقد حثَّ عليه الشارع الحكيم؛ لما يترتب عليه من المصالح الجليلة، ويدفع به من المفاسد الجسيمة، فقد قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وهذا أمرٌ، وقال: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وهذا نهي. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "النكاح سُنَّتي فمن رغب عن سُنتي فليس منِّي". وقال: "تناكحوا تكثُرُوا، فإني مباهٍ بكُم الأُمم يوم القيامة". والنصوص في هذا المعنى كثيرة. كل هذا لما يترتب عليه من المنافع العظيمة، التي تعود على الزوجين،

والأولاد، والمجتمع، والدين بالمصالح الكثيرة. فمن ذلك: ما فيه من تحصين فرْجَي الزوجين، وقصر نظر كل منهما بهذا العقد المبارك على صاحبه عن الخِلان والخليلات. ومن ذلك: ما فيه من تكثير الأمة بالتناسل؛ ليكثر عباد الله تعالى، ويعظم سوادهم، ولما فيه من اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحقيق المباهاة، ولِما فيه من التساعد على أعمال الحياة، وعمار الكون. ومنها: حفظ الأنساب التي يحصل بها التعارف والتآلف والتعاون والتناصر، فلولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب والأصول، ولأصبحت الحياة فوضى لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، ولا فروع. ومنها: ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة، والرحمة بين الزوجين، فإنَّ الإنسان لابد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره، وفي عقد الزواج سرٌّ ربانيٌّ عظيم، تتم عند عقده إذا قدر الله الألفة، فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة ما لا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلاَّ بعد الخلطة الطويلة، وإلى هذا المعنى أشار تبارك وتعالى بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم]. ومنها: ما يحصل في اجتماع الزوجين من قيام البيت والأسرة الذي هو نواة قيام المجتمع وصلاحه. فالزوج يكد ويكدح ويتكسب، فينفق ويعول. والمرأة تدبر المنزل، وتنظم المعيشة، وتربي الأطفال، وتقوم بشؤونهم، وبهذا تستقيم الأحوال، وتنتظم الأمور. وبهذا نعلم أنَّ للمرأة في بيتها عملًا كبيرًا، لا يقل عن عمل الرجل في خارج البيت، وأنَّها إذا أحسنت القيام بما نيط بها، فقد أدَّت للمجتمع كله

أعمالًا كبيرةً وجليلة. فتبيَّن أنَّ الذين يريدون إخراجها من بيتها ومقر عملها, لتشارك الرجل في عمله، قد ضلوا عن معرفة مصالح الدين والدنيا ضلالاً بعيدًا، أو عرفوا وأرادوا الإضلال. وفوائد النكاح كثيرة يصعب عدها وإحصاؤها؛ لأنَّه نظامٌ شرعي إلهيٌّ، سُنَّ ليحقِّق مصالح الآخرة والأولى. - وللزواج آدابٌ وحدودٌ لابُدَّ من مراعاتها، والقيام بها من الجانبين؛ لتتم به النعم، وتتحقَّق السعادة، ويصفو العيش، وهي أن يقوم كل واحدٍ من الزوجين بما لصاحبه من حقوق، ويراعي ماله من واجبات. فعلى الزوج القيام بالإنفاق، وما يتبعه من كسوةٍ وسكنٍ بالمعروف، وأن يكون طيب النفس، وأن يحسن العشرة باللطف، واللين، والبشاشة، والإنس، وحسن الصحبة. وعليها أن تقوم بخدمته، وإصلاح بيته، وتدبير منزله ونفقته، وتحسن إلى أولاده بتربيتهم، وتحفظ زوجها في نفسها وبيته وماله، وأن تقابله بالطلاقة والبشاشة، وتهيىء له أسباب الراحة، وتُدخل على نفسه السرور؛ ليجد في بيته السعادة والانشراح، والراحة بعد نصب العمل وتعبه، وهو يبادلها الاحترام والبشاشة، والطلاقة وحسن العشرة، والقيام بالواجبات. فإذا قام كل من الزوجين بما لصاحبه من الحقوق والواجبات، صارت حياتهما سعيدة، واجتماعهما حميدًا، ورفرف على بيتهما السرور والحبور، ونشأ الأطفال في هذا الجو الهادىء الوادع، فتربَّوا علَى كَرَم الطباع، وحسن الشمائل، ولطيف الأخلاق. وهذا النكاح الذي أتينا على شيءٍ من فوائده، ثم ذكرنا ما يحقِّق من السعادة، هو النكاح الشرعي الإِسلامي الذي يكفل صلاح البشر، وعمار

الكون، وسعادة الدارين، فإن لم يحقق المقاصد فإنَّ النُّظُم الإلهية التي أمر بها، وحثَّ عليها, لم تراع فيه، وبهذا تدرك سمو الدين، وجليل أهدافه ومقاصده. * فائدة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: عقد النكاح يفارق غيره من العقود بأحكام منها: 1 - له من الفضائل والمصالح بها ليس لغيره. 2 - جميع العقود لا حَجْر على الإنسان في الإكثار منها، أما النكاح فالنهاية أربع في وقت واحد. 3 - النكاح لابد في عقده من الصيغة القولية؛ لخطره، بخلاف غيره فينعقد بما دلَّ عليه. 4 - الإشهاد على النكاح شرطٌ في صحته، وأما غيره فالإشهاد سنة لا واجب. 5 - لابدَّ في تزويج المرأة من ولي، ويجوز أن تباشر المرأة بقية العقود بلا ولي. 6 - العقود يجوز أن تُعقد بلا عوض، وأما النكاح فلابد فيه من الصداق. 7 - المعاوضات لا يصح جعل شيء من العوض لغير الباذل، وأما النكاح فيجوز جعل بعضه لأبيها. 8 - لا يجوز للأب أن يبيع شيئًا من مال ولده القاصر بدون المثل، ويجوز أن يزوج ابنته الصغير بأقل من صداق مثلها. 9 - ليس في النكاح خيار مجلس، ولا خيار شرط، بخلاف البيع وما في معناه. 10 - العقود على المنافع لابد لها من مدة معيَّنة، بخلاف النكاح فلا يحل أن يحدد بمدة معيَّنة، وإلاَّ صار نكاح متعة. 11 - العوض المؤجل في العقود لابد أن يكون أجله معلومًا، بخلاف الصَّداق

المؤجل، فلا يشترط كون أجله معلومًا، وإذا لم يشترط له أجل فحلوله الفراق بالحياة أو الممات. 12 - جميع العقود الفاسدة لا تحتاج إلى فسخ لفسادها، بل يصير وجودها كعدمها، إلاَّ النكاح الفاسد فلابد فيه من طلاقٍ أو فسخٍ. ***

836 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فَلْيتزَوَّجْ، فَانهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْج، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوم، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - معشر: المعشر: هم الجماعة الذين أمرُهُم واحد، مختلطين كانوا، أو غير مختلطين، كالشباب، والشيوخ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، ويُجمَع على معاشر. - الشباب: جمع شاب، ويجمع علماً شُبَّان، بضم أوله، وتشديد الباء. قال الأزهري: إنَّه لم يجمع فاعل على فعلان غيره، وأصل المادة الحركة والنشاط، وهو من البلوغ إلى بلوغ الأربعين، هذا أحسن تحديدٍ له. وإنَّما خص الشباب بالخطاب؛ لأنَّ الغالب وجود قوَّة الداعي فيهم إلى الجماع، بخلاف الشيوخ. - من استطاع: قال القرطبي: الاستطاعة هنا عبارة عن وجود ما به يتزوج، ولم يرد القدرة على الوطء. - الباءة: فيه أربع لغات، المشهور منها هو المد وتاء التأنيث، والمعنى اللغوي للباءة: هو الجِماع، ولكن المراد هنا مؤن النكاح من المهر والنفقة. والمعنى: من استطاع منكم أسباب الجماع، ومؤنه فليتزوج. - فإنَّه: أي التزوج ويدل عليه: فليتزوج. ¬

_ (¬1) البخاري (1905)، مسلم (1400).

- أغض: بالغين والضاد المعجمتين، يقال: غض طرفه يغض غضًّا: خفضه، وكفه ومنعه مما لا يحل له رؤيته، والمعنى أنَّه أدعى إلى خفض البصر، وأدفع لعين المتزوج عن النظر المحرم. - أحصن: يقال: حصن المكان حصانة: منع، فهو حصين، وأحصن الزواج الرجل: عصمه، وأحصن البعل زوجته: عصمها، والمعنى أنه أدعى إلى إحصان الفرج. - فعليه بالصوم: قيل إنَّه إغراء لغائبٍ، وسهَّل ذلك فيه أنَّ المغرى به تقدم ذكره، وقيل: إنَّ الباءة زائدة، فيكون بمعنى الخبر. - الوِجَاء: يقال: وجأه يجؤه وَجْئًا، ضربه بالسكين في أي موضع كان، والاسم الوجاء، بكسر الواو والمد، وهو رض الخصيتين، وقيل رض العرق، والخصيتان باقيتان بحالهما؛ لتذهب بذلك شهوة الجماع، وكذلك الصوم فإنَّه مُضْعِف للشَّهوة، أي أنَّ الصوم حماية ووقاية من شرور الشهوة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العفة واجبة، وضدها محرَّم، وهي تأتي من شدَّة الشهوة مع ضعف الإيمان, والشباب أشد شهوة من الشيوخ، ولذا أرشدهم -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق العفة، وذلك أنَّ من يجد مؤنة النكاح من المهر والنفقة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنَّ له أجرًا، ويقيه عن الوقوع في المعصية، حيث يقمع شهوة الجماع ويضعفها، وذلك بترك الطعام والشراب، فكان الصوم وِجَاء له عن شدة الشَّهوة. 2 - قال شيخ الإِسلام: استطاعة النكاح هي القدرة على المؤنة، وليس هو القدرة على الوطء، فإنَّ الخطاب إنَّما جاء للقادر على الوطء، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن لم يستطع، فعليه بالصوم فإنَّه له وجاء". 3 - من المعنى الذي خوطب لأجله الشباب يكون الأمر بالنكاح لكل مستطيع

لمؤنته، وقد غلبته الشهوة من الكهول والشيوخ، ولكن خص الشباب لما لديهم من الدافع في هذه الناحية. 4 - التعليل بأنَّه أغض للبصر وأحصن للفرج، دليل على وجوب غضّ البصر، وإحصان الفرج، وتحريم النظر، وعدم إحصان الفرج، وهو أمرٌ مجمع عليه، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5]. 5 - قال شيخ الإِسلام: من لا مال له هل يستحب له أن يقترض؟ فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، وقد قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]. 6 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: النكاح من نِعم الله العظيمة، حيث شرعه لعباده، وجعله وسيلةً وطريقًا إلى مصالح ومنافع لا تحصر، ورتَّب عليه من الأحكام الشرعية والحقوق الداخلية والخارجية أشياء كثيرة، وجعله من سنن المرسلين. 7 - وقال الأستاذ طبارة: الزواج في الإِسلام يختلف عن القوانين الوضعية التي تجرده من الصفة الدينية، بينما الشريعة الإِسلامية تعتبر الزواج من المسائل الدينية، على معنى أنَّه استمد قواعده من الدين، لا على أنَّه لابد من حضور رجال الدين وإقامة المراسم الدينية، وإنما هو عقدٌ وعهدٌ بين الرجل والمرأة، يعتمد على الإيجاب والقبول، وتوثيقه بالشاهدين، وشهرته وإعلانه ليخالف السفاح. 8 - أنَّه ينبغي للواعظ والمرشد والخطيب وكل داعية أن يوجه المخاطبين إلى الحال التي تنفعهم، وتناسب حال وضعهم الذي هم فيه. 9 - وفيه رحمة الله تعالى بخلقه وعنايته بهم بإبعادهم عن كل شرٍّ ومحظور، وأنَّه إذا حرَّم عليهم شيئًا فتَح لهم بابًا مباحًا يغنيهم ويكفيهم عنه.

10 - وفيه درء المفاسد بقدر المستطاع، وبما يمكن وقفها به، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- حضَّهم على الزواج، ومن لم يجد دلَّه على طريق أخرى. 11 - يفهم من الحديث وجوب المهر ونفقة الزوجة على الزوج، فإنَّه المخاطَب بذلك. 12 - في الحديث وجوب درء الأخطار، ومحاولة دفعها من الطريق التي يخاف أن تأتي منها، فإنَّ الفساد يخشى أن يأتي من الشباب الذين لديهم دوافعه؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عني بهم في هذه الناحية. فكل مصْلِح ينبغي له أن يتفقد أمكنة الخطر والثغور التي يخشى أن يأتي منها. 13 - الأمر بالنكاح لمن استطاعه، وتاقت إليه نفسه، ولم يخف الفتنة، هو على سبيل الندب عند جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ...} إلى قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فلو كان النكاح واجبًا لما خيَّره بين النكاح والتسري، وممن أوجبه داود الظاهري، ورواية عن الإِمام أحمد؛ للأمر به هنا. ***

837 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَمِدَ الله، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "لَكِنَيِّ أنَا أصَلِّي، وَأنَامُ، وَأصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لكني: استدراك عما قبله، حذفه المؤلف للاختصار. - فمنْ رغِب: الرَّغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري، فليس مني، ولمَّح بذلك إلى طريق الرهبانية الذين ابتدعوا التشديد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث وفيه بيان سببه كما ذكره البخاري في صحيحه, أنَّه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أُخبروا، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلِّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدَّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم، وأفطر ... إلخ". 2 - بنيت هذه الشريعة السامية على السماح واليُسر، وإرضاء النفوس والغرائز بطيبات الحياة المباحة، وكرهت العنت والشدة، وحرمان النفس ممَّا أباح الله تعالى. 3 - أنَّ الخير والبركة في الاقتداء، واتباع أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو الخير والبركة، ¬

_ (¬1) البخاري (5063)، مسلم (1401).

وهي العدل والوسط في الأمور. 4 - أنَّ أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان ليس من الدين في شيء، بل هو من سنن المبتدعين المخالفين لسنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-. 5 - أنَّ ترك لذائذ الحياة المباحة زهادةً وعبادةً، خروجٌ عن السنَّة المطهَّرة، واتباعٌ لغير سبيل المؤمنين. 6 - في مثل هذا الحديث الشريف بيان أنَّ الإِسلام ليس دين رهبانيةٍ وحرمان، وإنَّما هو الدِّين الذي جاء لإصلاح الدين والدنيا، وأنَّه أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلله تعالى حقه من العبادة، وللبدن حقه من طيبات الحياة، وللنَّفس حقها من الراحة. 7 - الله جلَّت حكمته هو الذي ركَّب في الإنسان الغرائز والمطالب، فأشبع تلك الغرائز بمطالبها المباحة، ولم يكبحها ويحرمها ممَّا طُبِعَت عليه؛ لأنَّ في هذه المتنفسَّات المباحة عمارة الكون، وبقاء النوع، وصلاح الأمور. 8 - السنة هي الطريقة، ولا يلزم من الرغبة عن السنة بهذا المعنى، الخروج من الملة، لمن كانت رغبته عنها لنوع من التأويل، يُعْذر فيه صاحبه. 9 - الرغبة عن الشيء معناه الإعراض عنه، والممنوع أن يكون ترك ذلك إمعانًا في العبادة، واعتقادًا لتحريم ما أحلَّ الله تعالى. 10 - قال شيخ الإِسلام: الإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، وليس هو من دين الأنبياء والرسل، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. 11 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ من تاقت نفسه إلى النكاح، وخاف العنت، فإنه يتأكَّد في حقه، ويكون أفضل من حجٍّ وصلاةٍ وصومٍ وتطوعٍ. وقال الشيخ تقي الدين: يجب النكاح على من خاف على نفسه العنت في قول عامَّة الفقهاء، إذا قدر على المهر.

838 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا بِالبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، ويَقُولُ: "تَزَوَّجُوا الوَلُودَ الوَدُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأَنْبيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1)، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه ابن حبان، وأحمد، والطبراني، وسعيد بن منصور، والبيهقي، من طريق خلف بن خليفة، عن حفص، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا" وللحديث شواهدُ كثيرةٌ هو بها صحيح، كما قال الألباني. وقال الهيثمي: إسناده حسن. ومن شواهده حديث معقل بن يسار، صححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، ومنها حديث ابن عمر عند الخطيب في تاريخه، وسنده جيد، وصححه السيوطي في الجامع الكبير. * مفردات الحديث: - التبتل: بتل بتلاً من باب قتل، قطعه وأبانه. فالبتل أصله الانقطاع، والمراد به الانقطاع عن الزواج، وعما أباح الله ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 158)، ابن حبان (1228). (¬2) أبو داود (2050)، النسائي (6/ 65)، ابن حبان (1229).

تعالى من الطيبات تعبدًا وإقبالاً على الطاعة، وامرأة بتول منقطعة عن الرجال فلا شهوة لها فيهم. - الولود: كثيرة الولادة، فإذا لم يتقدم لها زواج؛ فيعرف ذلك منها بقريباتها من أمٍّ وجدَّات، وخالات وأخوات، ونحو ذلك. - مكاثر: التكاثر هو التباهي والتفاخر بكثرة الأتبَاع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشارع الحكيم يأمر بالزواج، لما فيه من المصالح الكبيرة، والمنافع الكثيرة، والأمر يقتضي الوجوب، وإنما العلماء قالوا: إن كان يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة فيجب عليه النكاح؛ حفظًا لفرجه وغضًّا لبصره، وإن كان لا يخشى فيستحب في حقه، بل هو أفضل من نوافل العبادات، لما يحقق من المصالح الكبيرة الكثيرة. 2 - التبتل والانقطاع عن النساء، وترك النكاح انقطاعًا إلى العبادة منهيٌّ عنه، والنَّهي يقتضي التحريم، لاسيَّما والنَّهي في هذا شديد؛ لأنَّه مخالفٌ لسنن المرسلين؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وفيه تعطيل لإرادة الله تعالى الكونية من عمَارة هذا الكون. 3 - الدِّين الإِسلامي دين السماح واليسر، فهو يكره التنطع والتشدد في الأمور، ويأمر بالتوسط والاعتدال فيها؛ ليؤدي الإنسان جميع الأعمال المطلوبة منه، والتي أعدَّ للقيام بها. وكان التبتل من شريعة النصارى، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته عنه؛ ليكثر النسل، ويعظم سواد المسلمين، ويقوم الجهاد ويدوم. 4 - قال تعالى عاتبًا على النصارى غُلوَّهم في العبادة، وتنطعهم في دينهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] أي أنَّها مبتدعة من قِبل أنفسهم لم يشرعها الله لهم، ولم يأمرهم بها، بل ساروا عليها غلوًّا في

العبادة، وحمَّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم، والمشرب، والمنكح. 5 - وفي الحديث الترغيب في نكاح المرأة الولودة ليكثر نسل المسلمين، ويعظم سَوادهم، ويكونوا قوة في وجه أعداء الله وعدوهم، وليعمروا الأرض، ويخرجوا خيراتها، ويبحثوا عن كنوزها، فيحققوا مراد الله تعالى من عمرانها. 6 - من فوائد كثرة النسل تحقيق مباهاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومكاثرته بأمته الأنبياء يوم القيامة، فهي مفخرة كبيرة، ومباهاة عظيمة، فإنَّ الله تبارك وتعالى أنجح رسالته، وأيَّد دعوته، وأظهره على الدين كله، فصارت أمته أكثر الأمم، وأفضل الأمم، وخير الأتباع، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط هو الخيار. 7 - الدين الإِسلامي دين حركةٍ وعمل، وليس دين عزلةٍ وانقطاعٍ وبُعدٍ عن معترك الحياة، على ألاَّ تطغى أعمال الدنيا على أعمال الآخرة، وعلى أن تكون أعمال الدنيا مقصودًا بها رفعة الإِسلام وعزه، والنَّفع المتعدي، فإنَّ الإِسلام دينٌ ودولة، وليس يقتصر على العبادات، ثم إنَّ أعمال الدنيا وعاداتها إذا قصد بها الإصلاح، والنفع العام أو الخاص أصبحت عبادات. 8 - فيه دليل على أنَّ المسارعة إلى فعل الخير والتسابق إليه والتنافس فيه لا يعد من الرياء المذموم، ما دام العبد يقصد وجه الله تعالى والدار الآخرة. 9 - وفيه دليل على استحباب إيثار العبد نفسه بفعل الخيرات، ومحاولة سبق أقرانه في ذلك، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون] وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21].

10 - في الحديث حث العلماء والدعاة إلى أنَّه ينبغي لهم أن يستكثروا من المستفيدين من علمهم ودعوتهم، وأعظِمْ بذلك فإنَّ هذا فضلٌ كبير، فقد وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحداً خيرٌ لك من حمر النعم" [متفق عليه]. * نبذة عن تحديد النسل: ظهر في القرن الثامن عشر الميلادي عالم اقتصادي إنجليزي اسمه "مالتس" اشتهر بنظريته في تحديد النسل، خشية من نمو السكان وزيادته تزيد بكثير على نسبة زيادة المواد الغذائية، فيحل بالعالم مجاعة، وأن توازن السكان مع قدر ما يتوقع إنتاجه من المواد الغذائية، أمان من كارثة المجاعة. وما زالت هذه النظرية تتسع وتروج حتى أخذ بها مبدأ اقتصاديًّا كثير من الدول. ثم إنَّ هذه النظرية دخلت علينا نحن المسلمين من أعداء الإِسلام، الذين يكيدون للإسلام، ويريدون أن يقلِّلوا من عدده، ويضعفوا من كيانه، فراقت لكثير من أتباع الغربيين، فأخذوا بها معجَبين بآراء أصحاب العقول القاصرة، والأنظار القريبة، ومعرِضين عما جاء من لدُن حكيم خيبر، هو الذي خلق الخلق وتكفَّل برزقهم، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقال تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] وقال تعالى عاتبًا على الكفار الجفاة الجهلة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]. والنصوص في هذا الباب كثيرة. وخشية من وقوع بعض البسطاء بهذه الفكرة الضالة، فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء أصدر فيها قرارًا. وكذلك أصدر فيها مجلس المجمع الفقهي بمكة التابع لرابطة العالم الإسلامي.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد النسل: رقم (42) وتاريح 14/ 4/ 1396 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء، المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام: 1396 هـ، بَحَثَ المَجلس موضوع منع الحمل، وتحديد النسل وتنظيمه، بناءً على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام: 1395 هـ، من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطَّلع المجلس على البحث المعد في ذلك مِن قِبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي، والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر، قرَّر المجلس ما يلي: - نظرًا إلى أنَّ الشريعة الإِسلامية ترغب في انتشار النَّسل، وتكثيره، وتعتبر النسل نعمةً كبرى، ومنَّةً عظيمة منَّ الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية، من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ممَّا أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، والإفتاء في بحثها المعد للهيئة، والمقدم لها. ونظرًا إلى أنَّ القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، مصادمٌ للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الخلق عليها, وللشريعة الإِسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة، حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها، وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوءَ ظنٍّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإِسلامي، المتكون من كثرة اللَّبنَات البشرية وترابطها. لذلك كلِّه فإنَّ المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا, ولا يجوز

منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين، وما من دابَّة في الأرض إلاَّ على الله رزقها. أما إذا كان منع الحمل لضرورة محقَّقة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما، لمصلحةٍ يراها الزوجان، فإنه لا مانع حينئذٍ من منع الحمل، أو تأخيره، عملًا بما جاء في الأحاديث "الصحيحة" وما روي عن جمع الصحابة -رضوان الله عليهم- من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حال ثبوت الضرورة المحققة، وقد توقف الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلى الله على محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء * قرار مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي بشأن تحديد النسل: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه. وبعد: فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي في موضوع تحديد النسل، أو ما يسمى تضليلاً بـ "تنظيم النسل"، وبعد المناقشة، وتبادل الآراء في ذلك، قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي: نظرًا إلى أنَّ الشريعة الإِسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى، ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عزَّ وجل، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ودلَّت على أنَّ القول بتحديد النسل، أو منع الحمل يصادم الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها, وللشريعة الإِسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا

إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلا الكيد للمسلمين؛ لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة، والشعوب المستضعفة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها، والتمتع بثروات البلاد الإِسلامية، وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإِسلامي المتكون من كثرة اللَّبنَات البشرية، وترابطها. لذلك كله فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي يقرر بالإجماع أنَّه لا يجوز تحديد النسل مطلقاً, ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرزاق ذو القوَّة المتين، وما من دابة في الأرض إلاَّ على الله رزقها، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا. أما تعاطي أسباب منع الحمل، أو تأخيره في حالاتٍ قهريةٍ؛ لضررٍ محقَّقٍ، ككون المرأة لا تلد ولادةً عاديةً، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية؛ لإخراج الجنين، فإنَّه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّةٍ أو صحيَّةٍ، يُقرِّرها طبيبٌ مسلمٌ ثقةٌ، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أمه، إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير ممن يوثق به من الأطباء المسلمين. أما الدعوة إلى تحديد النسل، أو منع الحمل بصفة عامة، فلا تجوز شرعًا؛ للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم إلزام الشعوب بذلك، وفرضه عليها، في الوقت الذي تُنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير. مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي

* قرار المجمع الفقهي الإِسلامي حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. وبعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء، حول التلقيح الاصطناعي، وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل النَّاس، وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم، واستعرض المجلس ما تحقَّق في هذا المجال من إنجازات طبية، توصَّل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر؛ لإنجاب الأطفال من بني الإنسان، والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد. وقد تبيَّن للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أنَّ التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد -بغير الطريق الطبيعي، وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة- يتم بأحد طريقين أساسيين. 1 - طريق التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموقع المناسب من بطن المرأة. 2 - وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل، وبويضة المرأة في أنبوب اختبار، في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة "اللقيحة" في رحم المرأة. ولابد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية. وقد تبيَّن لمجلس المجمع من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع، وممَّا أظهرته المذاكرة والمناقشة، أنَّ الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه: الداخلي والخارجي؛ لأجل الاستيلاد، هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمتها شرعًا، وهي

الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي: الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجلٍ متزوج، وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته، أو رحمها، حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيًّا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما، ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور؛ لسبب مانعٍ من إيصال مائه في المواقعة، إلى الموضع المناسب. الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل، وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر، حتى يقع التلقيح داخليًّا، ثم العلوق في الرحم، كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. في طريق التلقيح الخارجي: الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي، بشروط فيزيائية معيَّنة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره، وتنمو، وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلده الزوجة طفلاً أو طفلة، وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسَّره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية، ووسائل الإعلام المختلفة، ويلجأ إلى هذا

الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها، ورحمها "قناة فالوب". الأسلوب الرابع: أنْ يجري تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة، ليست زوجته -يسمونها متبرعة- ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلاً أو معطلاً، ولكن رحمها سليم، قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل، وبويضة من امرأة ليس زوجة له -يسمونهما متبرعين- ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة، ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيمًا، بسبب تعطل مبيضها, لكن رحمها سليم، وزوجها أيضًا عقيم، ويريدان ولدًا. الأسلوب السادس: أن يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل؛ لسبب في رحمها, ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفُّهًا، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها. الأسلوب السابع: هو السادس نفسه، إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة، فتتطوع لها ضرَّتها, لحمل اللقيحة عنها، وهذا الأسلوب لا

يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات، بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد. هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي، الذي حقَّقه العلم؛ لمعالجة أسباب عدم الحمل. وقد نظر مجلس المجمع فيما نشر وأذيع، أنَّه يتم فعلا تطبيقه في أوربا وأمريكا، من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري، ومنها ما يجري تحت عنوان: "تحسين النوع البشري"، ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة، لدى نساء غير متزوجات، أو نساء متزوجات لا يحملن؛ لسبب فيهن، أو في أزواجهنَّ، وما أنشيء لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال، بصورة تقنية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معيَّنين، تبرعًا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال: إنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم المتمِّدن. النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإِسلامية: هذا، وإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلوماتٍ موثقة، ممَّا كُتِب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإِسلامية ومقاصدها, لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة، وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي: أولًا: أحكام عامة: (أ) أنَّ انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل شرعًا بينها وبينه الاتصال الجنسي، لا يجوز بحالٍ من الأحوال، إلاَّ لغرضٍ مشروع، يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف. (ب) أنَّ احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالةٍ غير طبيعية في جسمها، تسبب لها إزعاجًا، يعتبر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها

الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذٍ يتقيَّد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة. (ج) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا؛ لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلاَّ فامرأة غير مسلمة، وإلاَّ فطبيب مسلم ثقة، وإلاَّ فغير مسلم بهذا الترتيب. ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالج، إلاَّ بحضور زوجها، أو امرأة أخرى. ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي: 1 - أنَّ حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد تعتبر غرضًا مشروعًا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي. 2 - أنَّ الأسلوب الأول: -الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج، ثمَّ تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي- هو أسلوب جائز شرعًا بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أنْ تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل. 3 - أنَّ الأسلوب الثالث -الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة، زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحها خارجيًّا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة- هو أسلوب مقبول مبدئيًّا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تمامًا من موجبات الشك فيما يستلزمه، ويحيط به من ملابسات، فينبغي أن لا يلجأ إليه، إلاَّ في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفة الذكر. 4 - أنَّ الأسلوب السابع -الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين

وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار، تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الآخر للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرَّتها المنزوعة الرحم -يظهر لمجلس المجمع أنَّه جائز عند الحاجة، وبالشروط العامة المذكورة. 5 - وفي حالات الجواز الثلاث يقرر المجمع أنَّ نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين، ويتبع الميراث، والحقوق الآخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل، أو المرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد، ومن التحق نسبه به. أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرَّتها -في الأسلوب السابع المذكور- فتكون في حكم الأم الرضاعية للمولود؛ لأنَّه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر ممَّا يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب. 6 - أما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه، فجميعها محرَّمة في الشرع الإِسلامي، لا مجال لإباحة شيء منها؛ لأنَّ البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأنَّ المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين. هذا، ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي بوجهٍ عامٍ من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف، أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيَّما إذا كثرت ممارسته، وشاعت فإنَّ مجلس المجمع ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلاَّ في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح. هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو من الله أن يكون صوابًا. والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وولي التوفيق.

839 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تُنْكَحُ المَرْأة لأِرْبعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِيْنِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يَدَاكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ بَقِيَّةِ السَّبْعَةِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تُنكح المرأة: مبني للمجهول، فهو مضموم بتاء المضارع، والمراد يُرغبُ في نكاحها، ويعقد عليها. - تُنكح: نكَحَ من باب ضرب، وأصل المادة الانضمام والاختلاط، واختلف أهل اللغة، فقال بعضهم: هو حقيقةٌ في العقد، مجازٌ في الوطء، وقال بعضهم: بالعكس، وقال بعضهم: حقيقة فيهما، وهو الذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية. ولذا لا يعرف هذا من هذا إلاَّ بالقرينة، فإن قيل: نكح بنت فلان، فالمراد العقد، وإن قيل: نكح امرأته، فالمراد الوطء، أما صاحب المصباح فيقول: النكاح مجاز فيهما, لأنَّ أصله الانضمام، ولكن الحقيقة هي الأصل، وقال العلماء: إنَّه لم يأت في القرآن لفظ النكاح بمعنى الوطء إلاَّ في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. - تُنكح المرأة لأربع: الفعل مبني للمجهول، والمرأة نائب فاعل مرفوع. - لأربع: أي: يرغب في نكاحها لأربع خصال. - حسَبها: بفتح الحاء والسين المهملتين، العز والشرف للمرأة، أو لأهلها وأقاربها، و"لمالها" تكون بدلًا من "أربع"، بإعادة العامل، وقد جاءت اللام ¬

_ (¬1) البخاري (5090)، مسلم (1466)، أبو داود (2047)، النسائي (6/ 68)، ابن ماجه (1858)، أحمد (2/ 428)، ولم يروه الترمذي.

مكررة في الخصال الأربع في رواية مسلم، وليس في صحيح البخاري اللام في "جمالها"، وتكريرها مؤذِن بأنَّ كل واحدةٍ منهنَّ مستقلة في الغرض. - فاظفر بذات الدِّين: جزاء شرط محذوف، أي: إذا تحقق ما فصلت لك تفصيلًا بيِّنًا، فاظفر بذات الدين، ومعنى الظفر: تمكَّنْ من ذات الدين، وفز بالحصول عليها، واغلب غيرَك بالسبق إليها. - تَرِبَتْ يَداك: أي التصقت يداك بالتراب من الفقر، وهذه الكلمة خارجة مخرج ما يعتاده الناس في المخاطبات، لا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قصد بها الدعاء. قال في المصباح: قوله: "تربت يداك" كلمة جاءت في كلام العرب على صورة الدعاء، ولا يراد بها الدعاء، بل يراد بها الحث والتحريض. كما يقصد بها أيضًا المعاتبة والإنكار، والتعجب وتعظيم الأمر، والمراد بها هنا: الحث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الذي يدعو الرِّجال إلا اختيار المرأة زوجةً هو أحد أربعة أمور: (أ) فبعض الرجال يريد في المرأة الحَسَب، والشرف الباقي لها، ولآبائها، فالحسب هو الأفعال الجميلة للرجل ولآبائه. (ب) وبعض الرجال يرغب في المال والشراء، فنظرته مادِّيةٌ بحتة. (ج) وبعض الرجال يطلب الجمال، ويهيم في الحسن الظاهري، ولا ينظر إلى ما سواه. (د) وبعض الرجال يبحث عن الدين والتقى، فهو مقصده ومراده، وهذه الصفة الأخيرة هي التي حثَّ عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فاظفر بذات الدِّين تربت بداك" كلمة يؤتى بها للحث على الشيء، والأخذ به، وعدم التفريط فيه، واللائق بذوي المروءة، وأرباب الصلاح، أن يكون الدِّين هو مطمح

نظرهم فيما يأتون ويذرون، لاسيَّما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره، فلذلك اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم- بآكد وجهٍ وأبلغه، فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار. 2 - وفي الحديث ما يدل على استحباب صحبة الأخيار، ومجالستهم، للاقتباس من فضلهم، وحسن القدوة بهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، والابتعاد عن الشر وأهله. قال تعالى حكايته عن موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} [الكهف: 66]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]. وجاء في الصحيحين من حديث أبي موسى أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مَثَل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إمَّا أن يحذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحةً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة". والنصوص في هذا المعنى كثيرة وظاهرة. 3 - قال النووي: معناه أنَّ الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربع، فاحرص أنتَ على ذات الدِّين، واظفر بها، واحرص على صحبتها. 4 - قال الرافعي في الأماني: يرغب في النكاح لفوائد دينية ودنيوية، ومن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد نهى عن تزوج المرأة الحسناء، وليس المراد النَّهي عن رعاية الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة، ولكن النَّهي محمولٌ على ما إذا كان القصد مجرَّد الحسن، واكتفى به عن سائر الخصال. 5 - ومن الدواعي الغالبة المال، وهو غادٍ ورائحٌ، فلا يوثق بدوام الألفة، لاسيَّما إذا قلَّ، وقد قيل: عظَّمك عند استغلالك، واستقلَّك عند إقلالك.

6 - وأما إذا كان الداعي الدين، فهو الحبْل المتين، الذي لا ينفصم، فكان عقْده أدوم، وعاقبته أحمد. 7 - جاء في معنى الحديث ما أخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنكحوا النساء لحسنهنَّ، فلعله يرديهن، ولا لمالهنَّ فلعلَّه يطغيهن، وانكحوهن للدِّين، ولأمةٌ سوداء خرقاء ذات دين أفضل". قال ابن كثير: فيه الإفريقي ضعيف، ولكن قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، والإفريقي الذي في إسناده ثقة، وقد أخطأ من ضعَّفه. وقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} [البقرة: 221]. فهذه المقارنة يقصد بها فضل صاحب الدين والخلق. 8 - في الحديث أنَّ الإنسان لا ينبغي له أن يكون الناس هم قدوته، ولا أن تكون أعمالهم هي المرغوبة عنده، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكَر في هذا الحديث أنَّ ثلاثة أصناف من الناس مخطئون في اختيارهم لصفات الزوجة، وأنَّ صنفًا واحدًا هو المصيب. 9 - وفيه أنه ينبغي للإنسان أن ينظر في أموره لمستَقْبلها، وألاَّ تكون النظرة الحاضرة العاجلة هي هدفه، فإنَّ الزوجة الصالحة في دينها هي التي تحفظه في نفسها، وتحفظه في بيته، وتحفظه في ماله، وهي القرين الصالح الأمين. 10 - فيه أنَّ الرجل لا يحرم عليه إذا كان من رغبته في الزوجة الحسب والجمال والمال مع الدين، وإنما يعاب عليه إن أهمل أهم صفات الزوجة، وهي الدين.

11 - النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما يفعله النَّاس في العادة، فإنَّهم يقصدون هذه الخصال الأربع، ويؤخرون "ذات الدين" فأمر -صلى الله عليه وسلم- أن يقدَّم ما يؤخرون فقال: فاظفر أنت أيُّها المسترشد بذات الدين، وفُزْ بها. روي أنَّ رجلًا جاء إلا الحسن البصري، وقال له: إنَّ لي بنتًا أحبها، وقد خطبها الكثير، فمن تشير عليَّ أن أزوجها له؟ قال: زوِّجها رجلًا يخاف الله، فإنه إن أحبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. 12 - في الحديث أنَّ الإتيان بالكلمات التي ظاهرها الدعاء، أو مدلولها الذم والتقبيح، مما هو جارٍ على ألسنة العرب، أو على ألسنة الناس، أنه لا إثم على قائلها إذا لم يقصد حقيقتها، وإنما ساقها كما يسوقها الناس مثل: "تربت يداك"، و"ثكلتك أمك"، ومثل: "ويل أمه مِسعر حرب" ونحو ذلك. ***

840 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَان إذا رفَّأ إنْسَانًا إذَا تَزوَّجَ قَالَ: "بارَكَ اللهُ لَكَ، وَبارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا في خَيْرٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي، ورجاله ثقات، وقد روي من طريقين: إحداهما: عن الحسن البصري عن عقيل بن أبي طالب بالعنعنة، فليس فيه تصريح بالسماع، فهو في حكم المنقطع. الثانية: رواه الإِمام أحمد عن عقيل من طريق أخرى، فالحديث قوي باجتماع هذين الطريقين، وقد صحَّحه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، وابن دقيق العيد. * مفردات الحديث: - رَفَّأ إنسانًا: بفتح الراء، وتشديد الفاء، يجوز فيه الهمز، وعدمه. الرفاء: الموافقة، وحسن العشرة، وهو من رَفَأَ الثوب، أي أصلحه. والمعنى: دعا له بالتوفيق، وحسن العشرة، وهنَّاء بزواجه. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 381)، أبو داود (2130)، الترمذي (1091)، النسائي في عمل اليوم والليلة (259)، ابن ماجه (1905).

- بارك: يقال: بارك الله لك، وفيك، وعليك: جعلك مباركًا، ووضع فيك البركة، والبركة: الخير والزيادة، حسيَّة أو معنوية، والبركة أيضًا: ثبوت الخير الإلهي، وداومه في الشيء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عقد النكاح صفقة هامة جدًّا، هذا العقد بحتاج من أصحابه إلى النصح الخالص، والدعاء الصالح. وعاقبة هذا العقد مجهولة خطرة، فهي إما من أكبر السعادات، وإما من أخسر الصفقات. 2 - لذا كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا لإنسان قد تزوج دعا له بهذه الدعوات الطيبات الكريمات، أن تحل فيه بركة الله، وأن تنزل عليه، وأن يجمع الله بينه وبين زوجته في خير. 3 - والخير كلمةٌ جامعةٌ لمعاني السعادة، من العشرة الحسنة، والرَّغد في العيش، وحصول الأولاد الصالحين. 4 - فيستحب لمن حضر عقد النكاح أن يدعو للمتزوج بهذا الدعاء، وهذا أفضل من دعاء الجاهلية: "بالرفاء والبنين"، فإنَّه دعاء قاصر، قليل البركة، ولا يكفي ما تعارفه الناس الآن من قولهم للمتزوج أو الخاطب: "مبروك"، ونحوه، فالأفضل أن يكون بهذه الصيغة النبوية الكريمة، فإنَّها جامعةٌ لمعاني الخير والسعادة. 5 - أما المتزوج فالسنة في حقِّه ما رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أفاد أحدكم امرأة، فليأخذ بناصيتها, وليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جُبِلت عليه، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما جُبلت عليه" ومعنى أفاد، أي: استفاد. 6 - استحباب دعاء المسلمين بعضهم لبعض، لاسيَّما عند المناسبات، أو عند

الأزمات، وفائدة الدعاء أنَّه وسيلةٌ قويةٌ لحصول المطلوب، إذا توفَّرت شروطه، وانتفت موانعه. 7 - روى الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخلْت على أهلك فصلِّ ركعتين، ثم خُذ برأس أهلك، ثم قل: اللَّهمَّ بارك في أهلي، وبارك لأهلي فيَّ، وارزقني منهم". ***

841 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- التَّشَهُّد في الحَاجَةِ: "إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينه، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَاشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأ ثَلاَثَ آياتٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح: هذا الحديث يسمى "حديث الحاجة"، قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذا في خطبة النكاح، أو في غيرها؟ قال: "في كل حاجة"، وفي شرح السنة للبغوي: عن ابن مسعود في خطبة النكاح وغيره. قال الترمذي: حديثٌ حسن، وصحَّحه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، وابن خزيمة. قال في التلخيص: وروى البيهقي من حديث أبي داود الطيالسي، عن شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يحدث عن أبيه، قال: علَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة الحاجة: "الحمد لله، أو إنَّ الحمد لله" ورواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، والحاكم، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وهناك رواية موقوفة، رواها أبو داود والنسائي أيضًا من هذا الوجه، وهناك طرق أخر ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 392)، أبو داود (2118)، الترمذي (1105)، النسائي (3/ 104)، ابن ماجه (1892)، الحاكم (2/ 182).

مروية من غير طريق أبي عبيدة، وقراءة الآيات الثلاثة جاءت في رواية النسائي. * مفردات الحديث: - الحاجة: ما يفتقر إليه الإنسان ويطلبه، جمعه حوائج، زاد ابن كثير في الإرشاد: في النكاح، أو غيره. - إنَّ الحمد: "إنَّ" مثقلة مكسورة الهمزة وجوبًا؛ لأنَّه لا يصح أن يقوم مقامها ومقام معموليها مصدر، فهي هنا جاءت في ابتداء الكلام. - الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، واللام فيه لاستغراق الحمد؛ ليفيد أنَّ جميع المحامد له تعالى، كما يفيد أنَّها مختصة بالرب تعالي، فالَّلام أفادت الأمرين: الاستغراق والحصر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث هو خطبة، تسمى خطبة الحاجة، يستحب الإتيان بها عند الابتداء بكل حاجة هامَّة، ومن ذلك عند عقد النكاح. 2 - أما الآيات الثلاث، فهي قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ...} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ...} [النساء: 1]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} والآية التي بعدها إلا قوله: {عَظِيمًا (71)} [الأحزاب]. 3 - الحديث اشتمل على إثبات صفات المحامد لله، واستحقاقه لها، واتصافه بها. 4 - واشتمل على طلب العون من الله تعالى، والمساعدة على طلب التسهيل، والتيسير على الحاجة، التي سيُقدِم عليها الإنسان، لاسيَّما النكاح بكلفه ومؤنته. 5 - واشتمل على طلب المغفرة منه تعالى، وستر العيوب والذنوب، والاعتراف بالقصور والتقصير، وأن يمحو ذلك ويغفره. 6 - واشتمل على الاستعاذة به، والاعتصام به، من شرور النفس الأمارة

بالسوء، التي تنازعه إلى فعل ما يحرم، وترك ما يجب، إلاَّ من عصمه الله تعالى وأعاذه. 7 - واشتمل على الإقرار بأنَّه تعالى صاحب التصرف المطلق في خلقه، وأنَّ هداية القلوب وضلالها بيده: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها من طلب الاستعاذة، والعصمة من الله وحده. 8 - واشتمل على الإقرار بالشهادتين اللتين هما مفتاح الإِسلام، وهما أصله وأساسه، فالإنسان لا يكون مسلمًا إلاَّ بإقراره بهما، إقرارًا نابعًا من قلبه. 9 - قال النووي: واعلم أنَّ هذه الخطبة سنة، لو لم يأت بشيء منها صحَّ النكاح باتفاق العلماء. 10 - وحكي عن داود الظاهري وجوبها, ولكن العلماء المحققين لا يعدون خلاف داود خلافًا معتبرًا, ولا ينخرم به الإجماع. قال إمام الحرمين؛ الذي ذهب إليه أهل التحقيق أنَّ منكري القياس لا يُعَدُّون من علماء الأمة، وحملة الشريعة؛ لأنَّهم معاندون فيما ثبتت استفاضته وتواتر؛ لأنَّ معظم الشريعة صادرةٌ عن الاجتهاد، ولا تقي النصوص بعشر معشارها. أما ابن الصلاح فقال: الذي اختار أبو منصور، وذكر أنَّه الصحيح من المذهب، أنَّ خلاف دواد معتبر، وهو الذي استقرَّ عليه الأمر، فالأئمة المتأخرون من الشافعية، كالغزالي والمحاملي، أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم، فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم. انتهى من الطبقات الكبرى لابن السبكي. 11 - أنَّ هذه الخطبة الهامة، الجامعة لمحامد الله، وطلب عونه، والالتجاء إليه من الشرور، وتلاوة تلك الآيات الكريمات، ينبغي للإنسان أن يقدمها بين

يدي أعماله، وأقواله؛ لتحلها البركة، وليكون لها الأثر الطيب فيما تقدمته من الأعمال، فهي سنَّةٌ مؤكَّدة، ولكنَّها أُهمِلَت وهُجِرت، فمن أحياها فله أجرها، وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجر عملهم شيء. 12 - الأعمال تكون بأسباب العبد وبإرادته المرتبطة بإرادة الله، ولكنْ وراء هذه الأسباب، وهذه الإرادة، ربٌّ مدبِّرٌ، متصرفٌ بجميع الأُمور، فإذا اقترنت هذه الأسباب المادية، وتلك الإرادة الإنسانية، بالاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، وقدم العبد أمام هذه الأعمال وأسبابها المادية قوَّةً روحيةً، وشحنةً إيمانيةً، تستمد من الاعتماد على الله تعالى، والتوكل عليه، وإسناد الأمور إليه، حصلت البركة، وحصل النجاح في الأعمال بإذن الله تعالى. 13 - قال شيخ الإِسلام: الأركان الثلاثة التي اشتملت عليها خطبة ابن مسعود هي: الحمد لله -نستعينه- نستغفره. قال الشيخ عبد القادر والشاذلي: إنَّ جوامع الكلام النَّافع هي: الحمد لله، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله. والتحقيق أنَّ الثلاث الأُوَل هي جوامع الكلم. وهذه الخطبة تُستحَب في مخاطبة الناس بالعلم من تعليم الكتاب والسنة، والفقه، وموعظة الناس، فهي لا تخص النكاح وحده، وإنما هي خطبة لكل حاجة، والنكاح من جملة ذلك. وإنَّ مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم. اهـ. 14 - قوله: من شرور أنفسنا: نسب الشرور إلى الأنفس، ولم ينسبها إلى الله تعالى، مع أنَّ الأمور كلها بتقدير الله وتدبيره، إلاَّ أنَّ ما يصدر من الله ليس في ذاته شر.

842 - وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا خَطَبَ أحَدُكُمُ المَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ المُغِيرَةِ (¬2)، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والطحاوي، وابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي، من طريق محمَّد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن واقد بن عبد الرحمن، عن جابر به، وصحَّح الحديث ابن حبان، وحسَّنه الترمذي، وقال البوصيري: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، أما حديث محمَّد ابن مسلمة فقد صحَّحه ابن حبان، وله طرق لا تخلو من مقال، إلاَّ أنَّه يجبر بعضها بعضًا. قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبِي، وحسَّن سنده الحافظ ابن حجر، وقال: رجاله ثقات. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 334)، أبو داود (2082)، الحاكم (2/ 165). (¬2) الترمذي (1087)، النسائي (3225). (¬3) ابن ماجه (1864).

* مفردات الحديث: - ما يدعوه إلى نكاحها: تقدم أنَّ الدَّاعي إلى النكاح، هو المال، أو الحسب، أو الجمال، أو الدين، وعليه فمن كان غرضه الجمال، فليتحرَّ في النَّظر إلى ما قصده بأن ينظر إليها بنفسه، أوأن يبعث من ينعتها له. ***

843 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال لِرَجُلٍ تزَوَّجَ امْرَأَةً: "أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تزوَّج: أي خَطَبَ، عبَّر عن الخِطبه باعتبار ما يكون، وهذا متعيَّن؛ ليفيد الأمر بالنظر إليها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدَّم أنَّ الجمال الظاهري مطلبٌ من مطالب النكاح، وأنه وإن كان الأفضل هو البحث عن الدِّين والخُلق، إلاَّ أنَّه أيضًا أمرٌ مرغوبٌ فيه، قد يقدِّمه بعض الراغبين في الزواج على غيره من الصفات، وحينئذٍ يكون الجمال مطلوبًا، إذ يحصل التحصين به، كيف والغالب أنَّ حسن الخَلق والخُلق لا يفترقان، وأنَّ ما روي أنَّ المرأة تُنكَح لجمالها, ليس زجرًا عن رعاية الجمال، بل هو زجرٌ عن النكاح لأجل الجمال المحض مع عدم مراعاة غيره. 2 - إذا كان الجمال أمراً مطلوبًا مرغوبًا فيه، وأنَّ الرجل قد يكره المرأة لدمامتها، أو هي تنفر من منظره، فإنَّ المستحب هو أن ينظر إليها إذا عزم على خطبتها، واعتقد إجابته إلى ذلك، وهي أيضًا تنظر إليه وتسمع منه. 3 - قال في "نيل المآرب": ويباح لمريد النكاح نظر ما يظهر غالبًا من المرأة، كوجهٍ، ورقبةٍ، ويدٍ، وقدمٍ، إذا أراد خِطبتها، وغَلَب على ظنِّه إجابته، وَيُكرِّر النظر بلا خلوة. ¬

_ (¬1) مسلم (1424).

والمشهور من المذهب هو الإباحة فقط، أما مذهب جمهور العلماء فهو الاستحباب؛ لأنَّه أقل أحوال الأمر، وممَّن يرى الاستحباب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ من أراد أن يتزوج امرأةً، فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة، وقيل: يسن، وصوَّبه في الإنصاف، وظاهر الحديث استحبابه. 4 - واختلفوا في الأعضاء التي ينظر إليها، والحديث مطلق لم يخصص موضعًا، فيحمل على المحل المقصود من معرفة جمالها، ويدل على ذلك فهم الصحابة وعملهم، فقد روى عبد الرزاق وسعيد بن منصور: "أنَّ عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي، لما بعث بها عليٌّ إليه، لينظر إليها". 5 - قال في نيل المآرب: ولا يحتاج إلى إذنها، ويدل على ذلك فعل جابر، فقد روى أحمد، والشافعي، والحاكم، وفيه: "فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها". 6 - الحكمة في هذا ما جاء في المسند عن المغيرة بن شعبة، أنَّه خطب امرأة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظر إليها، فإنَّه أحرى أن يُؤدَم بينكما" فنظرُ الرجل إليها، وتروِّي فكره فيها، قبل الخطبة، أقرب إلى الوفاق والاتفاق بينهما؛ لأنَّه يقدم على بصيرة من أمره. 7 - قال بعضهم: ويثبت هذا الحكم للمرأة، فإنَّها تنظر إلى خاطبها، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ويفهم هذا المعنى المراد من الحديث، ويؤيده إجابة طلب زوجة ثابت بن قيس فراقَه، لما علَّلت من دمامته. فقد أخرج ابن أبي خيثمة، والطبراني عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: يا جميلة! ما كرهت من ثابت؟ فقالت: والله ما كرهتُ منه شيئًا إلاَّ دمامته، فقال: أتردِّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، ففرَّق بينهما. وحينئذ فالمرأة أولى بالنظر؛ لأنَّه يباح لها أن تنظر إلى الرجل، ولو بلا

حاجة إذا لم يكن لشهوة، أما الرجل فلا ينظر إليها إلاَّ لحاجة، فإباحة النظر لها في هذه المسألة أولى. 8 - المسلمون في هذه المسألة بين طرفي نقيض، فبعضهم متشددون متعصبون، عطَّلوا هذه السنَّة المجمع عليها، فيمنعون الخُطَّاب من رؤية بناتهم ومولياتهم، وهذا مخالفة للشرع الظاهر الصريح الصحيح. وبعضهم يرخون للخطَّابين العنان، ويدعونهما يخلوان، ويتنزهان في المواطن البعيدة الخالية، وهذا حرامٌ لا يجوز. والخير كله بالاقتصار على الأمور الشرعية، فلا تعطل السنة، ولا تتعدى إلى ما حرَّم الله تعالى. 9 - جاء في بعض ألفاظ الحديث: "إذا خطب أحدكم فلا جناح عليه أن ينظر منها" والرواية الأخرى عند أحمد وابن ماجه: "إذا ألقى الله في قلب امريءٍ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". فهذا دليلٌ على تحريم النظر إلى وجه الأجنبية، وإلى ما يباح للخاطب النظر من جسمها، وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى ولا عبرة بالأقوال الضعيفة التي لا تستند إلى حقٍّ وصواب. 10 - إذا علمنا أنَّ النظر إلى الأجنبية محرَّم إلاَّ لحاجة، فقد قسَّم الفقهاء النظر إلى ثمانية أقسام، هي ما يأتي: الأول: نظر الرجل البالغ للحرَّة البالغة الأجنبية لغير حاجة، فلا يجوز له نظر شيء منها حتى شعرها المتَّصل. الثاني: نظر الرجلالبالغ لمن لا تُشتهى كعجوز، وقبيحة، فيجوز لوجهها. الثالث: نظر الرجل للشهادة على الأجنبية أو لمعاملتها، فيجوز نظره إلى وجهها وكفَّيها.

الرابع: نظره لحرَّةٍ بالغةٍ ليخطبها، فيجوز للرقبة والوجه واليد والقدم. الخامس: نظره إلى ذوات محارمه، أو لبنت تسع، أو كان هو لا شهوة له، أو كان مميزًا وله شهوة، فيجوز لوجهٍ ورقبةٍ ويدٍ وقدمٍ ورأسٍ وساق. السادس: نظره للمداوة، فيجوز إلى المواضع التي يحتاج إليها. السابع: نظره لحرة مميِّزة دون تسع، ونظر المرأة للرجل الأجنبي، ونظر المميز الذي لا شهوة له للمرأة، ونظر الرجل ولو أمرد، فيجوز إلى ما عدا ما بين السرة والركبة. الثامن: نظره لزوجته وبالعكس، ولو لشهوة، فيجوز لكل منهما نظر جميع بدن الآخر، وكذا يجوز النظر إلى جميع بدن مَن دون السابعة. ويحرم النظرة لشهوة، أو مع خوف ثورانها، إلى أحد ممن ذكرنا، ولمسٌ كنظر، ويحرم التلذذ بصوت الأجنبية ولو بقراءة، وتحرم خلوة رجل غير محرم بالنساء وعكسه. 11 - قال ابن القطان المالكي: أجمعوا على أنه يحرم النظر إلى الأمرد، لقصد التلذذ بالنظر إليه، وأجمعوا على جواز النظر إليه بغير قصد اللذة. 12 - يحرم تزين امرأة لمَحرم غير زوج وسيد. 13 - سئل أحمد عن تقبيل ذوات المحارم منه؟ فقال: إذا قدم من سفر، وأمن الفتنة، ولا يفعله على الفم. 14 - قال شيخ الإِسلام: النظر داعيةٌ إلى فساد القلب، ولهذا أمر الله بغض الأبصار، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زنا العين النظر"، وفي الطبراني من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ النظر سهمٌ من سهام إبليس، مسموم، فمن تركه من مخافة الله أبدله الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه".

* قرار المجمع الفقهي بشأن مداواة الرجل للمرأة: قرار رقم (81): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندرسيري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرَّم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "مداوة الرجل للمرأة"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر ما يلي: 1 - الأصل أنَّه إذا توافرت طبيبة متخصصة، يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك، فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم، يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطَّلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم، أو زوج، أو امرأة ثقة، خشية الخلوة. 2 - يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها؛ لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية، والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظرًا لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا تضطر إلى قاعدة الاستثناء، والله أعلم.

844 - وَعَن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلى خِطْبةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ، أوْ يَأذَنَ لَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يخطب: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها، وهو من باب قتل، والخِطبة بكسر الخاء: طلب المرأة للزواج، والخطيبة: المرأة المخطوبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن خِطبة المرأة على خِطبة آخر تقدم، والنَّهي أصله التحريم. 2 - قال في الكشاف ما خلاصته: ولا يحل لرجل أن يخطب امرأة على خِطبة مسلم إن علم الخاطب الثاني بخطبة الأول. فإن خطب على خِطبته صحَّ العقد؛ لأنَّ التحريم ليس في صلب العقد، فلم يؤثر فيه، وفيه خلاف سيأتي. 3 - فإن لم يعلم الثاني جاز؛ لأنَّه معذور، أو رُدَّت خِطبة الأول جاز، أو أذِن الأول للثاني في الخِطبة جاز؛ لأنَّه أسقط حقه، أو ترك الأول الخِطبة جاز للثاني أن يخطب. 4 - ولا يكره للولي ولا للمرأة الرجوع عن الإجابة لغرض صحيح؛ لأنَّه عقد يدوم الضرر فيه، فكان لها الاحتياط لنفسها، والنظر في حظها، أما رجوعها بلا غرض صحيح فيكره منه ومنها, لِما فيه من إخلاف الوعد، ولكنه لا يحرم؛ لأنَّ الحق لم يلزم بعد. ¬

_ (¬1) البخاري (5142)، مسلم (1412).

5 - وتحريم الخِطبة على الخِطبة وقايةٌ إسلاميةٌ كريمةٌ عن وقوع العداوات، والشحناء بين المسلمين، فإنَّ الإِسلام يحث على الألفة والمودة، ويبعد كل ما من شأنه إحداث التباغض، والتعادي بين المسلمين. و {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. و"المؤمن للمؤمن كالبنيان". و"لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخِيه ما يحب لنفسه". فهذه هي آداب الإِسلام، وأهدافه الكريمة، ومقاصده الحسنة، جعلنا الله تعالى ممَّن اتَّصف بهذه الأوصاف الحميدة، آمين. * خلاف العلماء: قال شيخ الإِسلام: اتَّفق الأئمة الأربعة على تحريم الخِطبة على خِطبة الرجل، وتنازعوا في صحة نِكاح الثاني على قولين: أحدهما: ذهب مالك إلا أنه باطل، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. الثاني: أنَّه صحيح، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، مع اتفاقهم على أنَّ فاعل ذلك عاصٍ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتجب عقوبته. ***

845 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! جِئْتُ أهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبه، ثُمَّ طَأطَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأتِ المَرْأةُ أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامِ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ: فَهَلْ عِنْدَك مِنْ شَيءِ؟ فَقَالَ: لاَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟ فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لاَ، وَاللهِ! مَا وَجَدْتُ شَيئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ، تمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لاَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! وَلاَ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي -قَالَ سَهلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ- فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا تَصْنعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّا إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ لَه، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَهُّ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وفِي رِوَايَةٍ لَهُ: انْطَلِقْ، فَقَدْ زوَّجْتكهَا، فَعلِّمْهَا مِن القُرْآنِ".

وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: "أمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬1). وَلأبي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "مَا تَحْفَظُ؟ قَالَ: سُورَةَ البَقَرَةِ، وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ: قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أبي داود ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح في زيادات الباب، فهي صحيحةٌ، أو حسنةٌ على قاعدته. أما الألباني فقال: هذه الزيادة منكرة؛ لمنافاتها للرواية الصحيحة, ولتفرد عِسْل بن سفيان بها، وهو ضعيف. * مفردات الحديث: - امرأة: قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها، وقال العيني: الصحيح أنَّها خولة بنت حكيم، أو أم شريك الأزدية. - أهب لك نفسي: أي ملَّكتك المتعة بنفسي، وكان هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] أي قد أحللناها لك. - صعَّد النظر: بفتح الصاد، وتشديد العين المهملة: رفع بصره، أي نظر إلى أعلاها، وتأملها. - صوَّب النظر: بفتح الصاد، وتشديد الواو، أي خفض رأسه ضدّ صعَّده، فنظر إلى أسفلها، وتأمَّلها. ¬

_ (¬1) البخاري (5030)، مسلم (1425). (¬2) أبو داود (2112).

- طأطأ رأسه: خفض رأسه، وصاغره، وطامنه. - رجل: قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. - خاتمًا: يقال: ختم عليه يختم ختمًا أي طبع عليه، والخاتم: حلقة ذات فص، تلبس في الأصبع، وقد يحفر عليه اسم اللابس، جمعه: خواتم. - حديد: عنصر فلزي يجذبه المغناطيس، يصدأ، هو مادة صلبة يضرب به المثل في الصلابة، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه منيع، ومن أنواعه الحديد الزهر والمطاوع والصُّلب، جمعه حدائد. - إزاري: الملحفة، وكل ما ستر أسفل البدن يذكر ويؤنث فيقال: هو إزار وهي إزار، وربما أنث بالهاء: إزارة، هو كساء صغير، جمعه آزر وأزر. - رداء: بكسر الراء، وفتح الدال المهملة، وجمعه أردية، ما يلبس فوق الثياب كالجبة والعباءة وقيل: هو الملحفة تغطى أعلى البدن، ولعلَّه المراد هنا. - عن ظهر قلبك: يقال قرأ القرآن عن ظهر قلبه، أي: من حِفظه، لا كتابة. - ملكتُكَها بما معك من القرآن: اختلفت الروايات في هذه اللفظة، قال الدارقطني: الصواب رواية "زوجتكها بما معك من القرآن" فهي أكثر وأحفظ، قال النووي: ويحتمل صحة اللفظين، ويكون جرى لفظ التزويج أولًا فملكها، ثم قال له: اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق. - بما معك: قال بعضهم: إن الباء للبدل والمقابلة والمعاوضة، وبعضهم قال: إنَّ الباء للسببية، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز عرض المرأة نفسها على رجل من أهل الصلاح والخير لزواجه بها. 2 - جواز نظر الرجل إلى المرأة لإرادة الخطبة وإن لم يخطب، بل قد استحبه بعضهم هنا قبل أن يقدم على الخِطبة، حتى لا يخطب إلاَّ بعد وجود الرغبة. 3 - ولاية الإِمام على المرأة التي لا ولي لها، إذا أذنت ورغبت في الزواج.

4 - أنَّه لابد من الصداق في النكاح، وأنه يصح أن يكون شيئًا يسيرًا جدًّا، فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان، أو مَن إليه ولاية العقد. قال عياض: أجمع العلماء عليها أنَّه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له، وأنه لا يحل به النكاح. 5 - أنَّه يستحب تسمية الصداق في العقد؛ لأنَّه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير صداق صحَّ العقد، ووجب لها مهر المثل بالدخول. 6 - أنه يجوز الحَلف، وإن لم يُطلَبْ منه، ولم يتوجه عليه. 7 - أنَّه لا يجوز للإنسان أن يُخرج من ملكه ما هو من ضرورياته، كالذي يستر عورته، أو يسد خلته، من الطعام والشراب. 8 - التحقيق مع مدَّعي الإعسار، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يصدقه في أول دعواه الإعسار، حتى ظهرت له قرائن صدقه. 9 - أنَّ خُطبَةَ العقد لا تجب؛ لأنَّها لم تذكر في شيء من طرق الحديث. 10 - أنه يصح أن يكون الصداق منفعة، كالتعليم والخدمة، كقصة موسى مع صاحب مدين، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فعلمها من القرآن" أي قدرًا معيَّنًا منه، وذلك صداقها. 11 - أنَّ النكاح ينعقد بلفظ التمليك لقوله في بعض الروايات؛ "ملَّكتها". قال شيخ الإِسلام: الذي عليه أكثر أهل العلم أنَّ النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج. وقال ابن القيم: أصح قولي العلماء أنَّ النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، ولا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج، وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل نصوصه لا تدل إلاَّ على هذا الوجه. 12 - فيه جواز زواج المعسر المعدَمِ، إذا رضيت المرأة بعسرته وعدمه.

13 - فيه أنَّه يستحب لمن طُلب منه حاجة، أن لا يسارع في رد طالبها، بل يسكت، لعلَّ السائل يفهم هذا من سكوته، فيعرض بدون خجل. 14 - فيه أنَّه تجوز الخِطبة إذا ظنَّ الخاطب الثاني بالقرينة أنَّه لم يحصل اتفاق مع الخاطب الأول. 15 - جواز هبة المرأة نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي خاصة له -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. 16 - أنه لا يتم العقد بعد الإيجاب إلاَّ بالقبول، ذلك أنَّ المرأة وهبت، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سكت ولم يقبل، ثم زوجها من الرجل الآخر، ممَّا يدل على أنَّ سكوته خلق كريم منه، وليس قبولاً، وقد فهم الحاضرون ذلك؛ ولذا قال الخاطب: "إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجنيها". 17 - فيه حسن خطاب هذا الخاطب، وجميل طلبه، فإنَّه علَّق خِطبته ورغبته فيها على عدم رغبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المرأة. 18 - فيه جواز لبس الخاتم من الحديد للحاجة، فهو مكروه أزالت كراهيته الحاجة، والدليل على كراهته ما جاء في السنن أنَّه حلية أهل النار. 19 - فيه شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته، فإنَّه لما رأى عُدم هذا الرجل وفقره، وحاجته إلى الزواج، زوَّجه بما لم تجر العادة اتخاذه عوضًا وأجرة. ***

846 - وعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أحمد، وابن حبان، والطبراني، والضياء المقدسي، عن عبد الله بن الأسود، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه مرفوعًا، وسنده حسن، ورجاله ثقات معروفون، وصحَّحه الحاكم، وابن دقيق العيد في الإلمام الذي اشترط فيه أن لا يورد فيه إلاَّ ما كان صحيحًا. * مفردات الحديث: - أعلنوا: علن الأمر يعلن علنًا: ظهر وانتشر، خلاف خفي، وأعلن الأمر: أظهره وجهر به، ومنه إعلان النكاح وإظهاره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث: "أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغِربال" الغربال هو الدف. 2 - الإعلان هو خلاف الإسرار، وقد دلَّت الأحاديث على الأمر بإعلان النكاح، وعلى الأمر بضرب الغربال؛ لأنَّ ضرب الدف أبلغ في الإعلان. 3 - تدل الأحاديث على مشروعية إعلان النكاح، والضرب عليه بالدف، بشرط أن لا يصحبه محرم، من التغني بصوتٍ رخيم من أنثى، يسمعه أغلب المجاورين، أو يكون الغناء بقصائد فيها مجون وغزل مكشوف. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 5)، الحاكم (2/ 183).

4 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إعلان النكاح بالدف سنة، وفيه مصلحة لا تخفى، فهو مشروع لإظهار النكاح. 5 - وقال أيضًا: الأغاني التي تصدر في الإذاعات والحفلات قسمان: الأول: ما اشتمل على حِكم، ومواعظ، ونصائح، وحماسٍ، ونحو ذلك مما لا غرام فيه، ولا يشتمل على صوت مزمار ونحوه، فهذه لا محذور فيه، لما فيه من المصلحة. الثاني: ما فيه غرام، ويشتمل على صوت مزمار وما أشبه ذلك، فهو حرام، والأصل في ذلك الكتاب والسنة، وقد حكى ابن الصلاح الإجماع على تحريم الغناء إذا اقترن به شيء من آلات اللهو. 6 - إعلان النكاح مشروع، فقد جاء في السنن عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح" ولكن الناس أسرفوا في هذه الناحية، فأحيوا الليل بغناء امرأة يبلغ صوتها بمكبرات الصوت إلى أقصى الحي، ممَّا يقلق الناس ويزعجهم، ويَحرِمهم من النوم والراحة، وهي تتغنى بهذا الصوت الناعم الرخيم، وقد جُلِبَتْ لهذا الحفل بعشرات الألوف من الريالات، مما يعد إسرافًا في النفقة، وارتفاعًا لصوت امرأة أجنبية بغناء محرَّم، بألفاظه الماجنة، ورخامته المثيرة، وقد حصل به من الأذية، وحرمان المجاورين من الراحة. 7 - من إعلان النكاح الإشهاد عليه عند عقده، وهو بهذا فارق سائر العقود، فإنَّ الإشهاد عليه شرط لصحته عند جمهور العلماء، وأما الإشهاد على غيره من العقود، فهو مستحب غير واجب. 8 - قال في نيل المآرب: الشرط الرابع: الشهادة، فلا يصح النكاح إلاَّ بحضرة شاهدين ذكرين عدلين مكلَّفين. 9 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ:

(أ) إذا كان النكاح معلنًا مشهودًا عليه من اثنين، فلا نزاع في صحته. (ب) وإن كان خاليًا من الشاهدين، ومن الإعلان، فلا نزاع في عدم صحته. (ج) وإن كان معلنًا فيه فقط بدون شاهدين فهذا صحيح، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، فإنه يرى أنَّ الإشهاد على النكاح ليس له أصل في الكتاب والسنة، وأنَّ الإشهاد وحده بدون إعلان النكاح لا يصح معه النكاح، فيقول: الذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح، وإن لم يشهد شاهدان. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في اشتراط الشهادة لصحة النكاح: فذهب إلى اشتراطها جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والحسن، والنَّخعي، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وذلك احتياطًا للنسب، وخوف الإنكار والخلاف، ولما روى الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا نكاح إلاَّ بولي، وشاهدي عدل" وذهب الإِمام مالك ورواية عن الإِمام أحمد اختارها شيخ الإِسلام إلى أنَّه إذا أعلن النكاح فلا يشترط الشهادة، وطعنوا في صحة الحديث، فقد قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين خبر. قال الشيخ تقي الدين: لا يشترط في صحة النِّكاح الإشهاد على إذن المرأة قبل النكاح في المذاهب الأربعة، بل إذا قال الولي: أذنت لي، جاز عقد النكاح. ولكن وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية ألزمت مأذوني عقود الأنكحة بالإشهاد احتياطًا، وسلامةً من الخلافات، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد.

847 - وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أِبي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابنُ المَدِينِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأُعِلَّ بِالإِرْسَالِ (¬1). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ مَرَفْوعًا: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والترمذي، والطحاوي، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، وقد صحَّحه كل من ابن المديني، وأحمد، وابن معين، والترمذي، والذهلي، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، وقال ابن الملقن في الخلاصة: إنَّ البخاري صحَّحه، واحتجَّ به ابن حزم، وقال الحاكم: قد صحت الرواية فيه عن زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلاث: عائشة، وزينب، وأم سلمة، ثم سرد ثلاثين صحابيًّا، كلهم رواه. قال الألباني: الحديث صحيحٌ بلا ريبٍ، فإنَّ حديث أبي موسى صحَّحه جماعةٌ من الأئمة، فإذا انضم إليه متابعة من تابعه، وبعض الشواهد التي لم يشتدَّ ضعفها، فإنَّ القلب يطمئن إليه. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 394)، أبو داود (2085)، الترمذي (1101)، ابن ماجه (1881)، ابن حبان (1243)، ولم يروه النسائي. (¬2) رواه البيهقي (7/ 125)، والدارقطني (3/ 225). والسند فيه عبد الله بن محرَّر، وهو ضعيف متروك، لا يحتج به. ولم أجده في المطبوع من المسند.

848 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَه" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد، والشافعي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، من طرق عديدة، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، ورجال الحديث كلهم ثقات من رجال مسلم. وقد صحَّحه ابن معين، وحسَّنه الترمذي، كما صحَّحه أبو عوانة، وابن حبان، وقال الحاكم: إنَّه على شرط الشيخين، وقوَّاه ابن عدي، وصحَّحه ابن الجوزي، وأعلَّ بالإرسال، ولكن البيهقي قوَّاه وردَّ على من أعلَّه، وعلى هذا فالحديث حسن الإسناد، والله أعلم. * مفردات الحديث: - أيُّما: من ألفاظ العموم، فهي تفيد طلب الولاية عن المرأة مطلقًا من غير تخصيص. ¬

_ (¬1) أبو داود (2083)، الترمذي (1102)، ابن ماجه (1879)، ابن حبان (1248).

- اشتجروا: شجر الأمر بينهم يشجر شجورًا، تنازعوا فيه، ومنه في سورة النساء: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] أي فيما وقع بينهم من الاختلاف، فاشتجر القوم، أي: تنازعوا. - بما: "الباء" للسببية، أو المعاوضة، و"ما" اسم موصول بمعنى الذي. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الولي في النكاح شرط لصحته، فلا يصح النكاح إلاَّ بولي، يتولى عقد النكاح، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء. 2 - ودليل اشتراط الولي حديث: "لا نكاح إلاَّ بولي"، قال المناوي في شرح الجامع الصغير: إنَّه حديث متواتر، وأخرجه الحاكم من نحو ثلاثين وجهًا، وحديث عائشة رقم (848) صريح في بطلانه بدون ولي، ونصه: "أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل". 3 - عقد النكاح عقد خَطِر، يحتاج إلى كثير من المعرفة بمصالح النكاح ومضاره، ويفتقر إلى التروِّي والبحث والمشاورة، والمرأة ناقصة قاصرة قريبة النظر والفكر، فاحتاجت إلى ولي يحتاط لهذا العقد، من حيث مصلحته، ومن حيث الاستيثاق فيه، لذا صار شرطًا من شروط العقد، للنص الصحيح، ولقول جماهير العلماء. 4 - يشترط في الولي التكليف، والذكورية، والرشد في معرفة مصالح النكاح، واتفاق الدين بين الولي والموليِّ عليها، فمن لم يتَّصف بهذه الصفات فليس أهلاً للولاية في عقد النكاح. 5 - الولي هو أقرب الرجال إلى المرأة، فلا يزوجها ولي بعيد مع وجود أقرب منه، وأقربهم أبوها، ثم جدها من الأب، وإن علا، ثم ابنها، وإن نزل، الأقرب فالأقرب، ثم شقيقها، ثم أخوها لأب، وهكذا على حسب

تقديمهم في الميراث، ذلك أنَّ ولاية النكاح تحتاج إلى الشفقة، والحرص على مراعاة مصلحتها، واشتراط القرب، وتوفر الشروط المذكورة في الولي: للحرص على تحقيق مصالح النكاح، والابتعاد عن مضاره. 6 - إذا زوج المرأةَ الوليُّ الأبعد مع وجود الأقرب فاختلف العلماء: فبعضهم قال: النكاح مفسوخ، وبعضهم قال: جائز، وبعضهم قال: للأقرب أن يجيز أو يفسخ، وسبب هذا الاختلاف هل الترتيب بين الأقارب في ولاية النكاح حكم شرعي محض حق الله، فيكون النكاح غير منعقد ويجب فسخه، أو أنَّه حكم شرعي وهو أيضًا حقٌّ للولي، فيكون النكاح منعقدًا، فإن أجازه الولي جاز، وإن لم يجزه ينفسخ؟ 7 - إذا علمنا فساد النكاح بدون ولي، فإنَّه إذا وقع بدونه، فإنه لا يعتبر نكاحًا شرعيًّا، ويجب فسخه عند حاكم، أو الطلاق من الزوج. لأنَّ النكاح المختلف فيه يحتاج إلى فسخ أو طلاق، بخلاف الباطل، فلا يحتاج إلى ذلك. والفرق بين الباطل والفاسد في النكاح: أنَّ الباطل ما أجمع العلماء على عدم صحته، كزواج خامسة لمن عنده أربع، أو الزواج بنحو أخت زوجته، فهذا مجمع على بطلانه، فلا يحتاج إلى فسخ. أما النكاح الفاسد فهو الذي اختلف العلماء في صحته، كالنكاح بلا ولي، أو دون شهود، فهذا لابد من فسخه عند حاكم، أو الطلاق من الزوج. 8 - إذا وطئها بالطلاق الباطل، أو الفاسد فلها مهر مثلها، بما استحلَّ من فرجها. 9 - إذا لم يوجد للمرأة وليٌّ من أقاربها أو مواليها، فوليها الإِمام أو نائبه، فإنَّ السلطان ولي من لا ولي له.

* خلاف العلماء: تقدم أنَّ الولي شرط لصحة عقد النكاح، وأنَّ هذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة. وذهب الإِمام أبو حنيفة وأتباعه إلى أنه لا يشترط. وحجتهم أدلة كثيرة، وهي مسألة خلافية طويلة. ومن أدلتهم: قياس النكاح على البيع، فإنَّ للمرأة أن تستغل وتبيع ما تشاء من مالها، فكذلك لها أن تزوج نفسها, لكن قال العلماء: إنَّه قياس فاسد لثلاثة أمور: الأول: أنه قياس في مقابلة النص، وهذا لا يجوز ولا يعتبر أصوليًّا. الثاني: أنه يشترط المماثلة بين الحكمين. وهنا لا مماثلة، فإنَّ النِّكاح وخطره، وما يحتاج إليه من نظرٍ، ومعرفةٍ للعواقب، يخالف البيع في بساطته، وخفة أمره، وضعف شأنه. الثالث: أنَّ عقد النكاح على بعض الأزواج قد يكون مسبَّةً وعارًا على الأسرة كلها, وليس على الزوجة وحدها، فأولياء أمرها لهم حظٌّ من الصهر، طيبًا أو ضده. وقد رَدَّ الحنفية هذا الحديث تارةً بالطعن في سند الحديث بأنَّ الزهري قال لسليمان بن موسى: لا أعرف هذا الحديث، ورُدَّ هذا بأنَّ الحديث جاء من طرق متعددة عن أكابر الأئمة، وأعيان النقلة. وتارةً يقولون: إنَّ "باطل" مؤوَّل، والمواد به: أي بصدد البطلان ومصيره إليه، وهذا تأويلٌ بعيدٌ، وأحيانًا يقولون: إنَّ المراد بالمرأة هنا هي المجنونة، أو الصغيرة، إلى غير ذلك من استدلالاتٍ بعيدةٍ رُدَّ عليهم فيها، والنُّصوص واضحة، لا تحتاج إلى مثل هذه التأويلات، والله أعلم. أما الأدلَّة على اشتراط الولي فمنها حديث الباب.

قال عنه ابن المديني: صحيح، وقال الشارح: صحَّحه البيهقي، وغير واحدٍ من الحفاظ، وقال الضياء: إسناد رجاله كلهم ثقات. وقد أخرجه الحاكم عن ثلاثين صحابيًّا. وقال المناوي: إنه حديثٌ متواتر. ومن تدبَّر حال عقد النكاح، وما يحتاج إليه من عنايةٍ، وطلب مصالح، وابتعادٍ عن مضارِّ العشرة، وعن حال الزوج، وكفاءته من عدمها، وقصر نظر المرأة، وقرب تفكيرها، واغترارها بالمناظر، وعلم حرص أوليائها ورغبتهم في إسعادها، وبُعد نظر الرجال، علمنا الحاجة إلى الولي. واختلف العلماء في اشتراط عدالة الولي: فذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد في المشهور منْ مذهبيهما إلى اشتراط العدالة الظاهرة؛ لأنَّها ولايةٌ نظريةٌ، فلا يستبد بها الفاسق. وذهب الإمامان: أبو حنيفة، ومالك، إلى عدم اشتراطها، وأنَّها تجوز ولاية الفاسق؛ لأنَّه يلي نكاح نفسه، فصحَّت ولايته علي غيره. وهي إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها صاحب المغني، وصاحب الشرح الكبير، وشيخ الإِسلام، وابن القيم، وممَّن صرَّح باختيارها من علمائنا المتأخرين، الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. وقال في الشرح الكبير: والصحيح في الدليل والذي عليه العمل أنَّ أباها يملكها, ولو كانت حالته حالة سوء، إذا لم يكن كافرًا، قلتُ: وعليه عمل المسلمين. ***

849 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الأيم: بفتح الهمزة، وتشديد الياء التحتية المثنَّاة، بعدها ميم، هي المرأة التي زالت بكارتها بوطء، ولو زنا. - تُسْتَأْمَر: بضم التاء المثنَّاة الفوقية، مبني للمجهول، وأصل الاستئمار طلب الأمر، فلا يعقد عليها إلاَّ بعد طلب أمرها وإذنها بذلك. - البكر: بكسر الباء الموحدة، العذراء التي لم تفتض بكارتها. - حتى تُسْتَأذن: بطلب إذنها، وموافقتها على النكاح. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5136)، مسلم (1419).

850 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: "لَيْسَ لِلوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَاليتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ" رواهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أبو داود، والنسائي، وصحَّحه ابن حبان، وقال ابن حجر في التلخيص: رجاله ثقات، قاله أبو الفتح القشيري. * مفردات الحديث: - الثَّيِّب: قال في النهاية، أصل الكلمة الواو؛ لأنَّه من ثاب يثوب إذا رجع، وهو يطلق على الذكر والأنثى، وهو من ليس ببكر. - أحق بنفسها: صيغة التفضيل المقتضية للمشاركة في الحق. - البكر: بكسر الباء جمعه أبكار، مثل حِمل وأحمال، وهو الذي لم يتزوج من ذكر وأنثى، وأصل مادة بكر، تدل على أول الشيء وبدئه، ومنه بكر: عمل والبكور: أول النهار، والباكورة: أول ما يدرك من الثمار، والبَكر: الفتيُّ من الإبل، والبِكْر: هو المولود الأول، وغير ذلك. - اليتيمة: اليتيم من الناس من فقد أباه قبل البلوغ، والجمع أيتام، والصغيرة: يتيمة، وجمعها: يتامى، والمراد باليتيمة هنا: البالغة، باعتبار ما كانت عليه وفائدة تسميتها يتيمة في هذا السن مراعاة حقها، والشفقة عليها في تحري الكفء الصالح. ¬

_ (¬1) مسلم (1421)، أبو داود (2100) النسائي (6/ 84)، ابن حبان (1241).

851 - وَعنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، وَلاَ تُزَوِّجُ المَرْأةُ نَفْسَهَا" رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، ورِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الألباني: أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من طريق جميل بن الحسن العتكي، حدثنا محمَّد بن مروان العقيلي، حدَّثنا هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة به. وهذا إسنادٌ حسن، رجاله كلهم ثقات، غير محمَّد بن مروان. قال الحافظ: صدوقٌ له أوهام. اهـ. قلت: لكن قد توبع بسندٍ رجاله ثقات، كما قال ابن دقيق العيد، وصحَّحه السيوطي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن نكاح الثيب قبل استئمارها، وإذنها في ذلك إذنًا صريحًا، وقد ورد النَّهي بصيغة النفي، ليكون أبلغ، فيكون عقد النكاح الخالي من إذنها باطلًا. 2 - النَّهي عن نكاح البكر قبل استئذانها، ويقتضي طلبُ إذنها فيه، أنَّ نكاحها بدونه باطل أيضًا. 3 - يفيد طلب إذنها أنَّ المراد بها البنت البالغة التي عرفت أمور النكاح، والزوج ¬

_ (¬1) ابن ماجه (1882)، الدارقطني (3/ 227).

الصالح من غيره؛ ليكون لإذنها اعتبارٌ ومعنى، هذه هي التي يؤخذ إذنها. 4 - أنَّ الصغيرة لا تُسْتَأْمر، ولا تستأذن؛ لعدم الفائدة من ذلك. قال ابن دقيق العيد: الاستئذان إنَّما يكون في حق من له إذن، فيختص الحديث بالبالغات. 5 - قال شيخ الإِسلام: الصحيح أنَّ مناط الإجبار هو الصغر، وأنَّ البكر البالغ لا يجبرها أحدٌ على النكاح، وأما جعل البكارة موجبة للإجبار، فهذا مخالفٌ لأصول الإِسلام. 6 - البكر يكفي في إذنها السكوت؛ لحيائها غالبًا عن النطق، والأحسن أن يجعل لموافقتها بالسكوت أجلاً، تعلم به أنَّها بعد انتهاء مدته راضية، يعتبر سكوتها إذنًا منها وموافقةً. قُلتُ: "وإذنها سكوتها"؛ هذا في أجيال مضت، وقد أصبح الآن البنات لهن رأي في زواجهن. 7 - قال شيخ الإِسلام؛ إذا زالت البكارة بوثبة، أو بإصبع، أو نحو ذلك، فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة، وإن كانت ثيبًا من زنا، فمذهب الشافعي، وأحمد أنَّها كالثيب في نكاح، وعند أبي حنيفة، ومالك كالبكر، وقال صاحبا أبي حنيفة: كالثيب من نكاح. 8 - لا يكفي في استئمار الثيب واستئذان البكر مجرد الإخبار بالزواج، واسم الزوج، بل لابد من تعريفها بالزوج تعريفًا كاملًا، في خُلُقه، ودينه، وسِنه، وجماله، ونسبه، وغناه، وعمله، وغير ذلك ممَّا فيه لها مصلحة، وممَّا يزيدها في الرغبة فيه، أو العدول عنه. 9 - قال شيخ الإِسلام: من كان لها وليٌّ من النسب، وهو العصبة، فهذه يزوجها الولي بإذنها, ولا يفتقر إلى حاكم باتفاق العلماء، وأما من لا ولى لها، فإن كانت ليس لها قريب زوَّجها كبير المحلة، أو نائب الحاكم، أو أمير

الأعراب، أو رئيس القرية. 10 - قال الشيخ: ليس للأبوين إلزام الولد بنكاح من لا يريد، ولا يكون عاقًّا كأكل ما لا يريد. 11 - اختار الشيخ عدم إجبار بنت تسع، بكرًا كانت أو ثيبًا، فلا يجبرها أبوها ولا غيره، وهو رواية عن أحمد قال: إذا بلغت الجارية تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلاَّ بإذنها، قال بعض المتأخرين: وهو الأقوى. 12 - قال شيخ الإِسلام أيضًا: الإشهاد على إذن المرأة ليس شرطًا في صحة العقد عند جماهير العلماء، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد والشافعي والمشهور من المذهبين كقول الجمهور أنَّ ذلك لا يشترط، والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد لوجوه ثلاثة: 1 - ليكون العقد متَّفقًا على صحته. 2 - ليأمن من الجحود. 3 - خشية أن يكون الولي كاذبًا في دعوى الإذن والرضا. 13 - تقدم أنَّ الولي شرط من شروط صحة عقد النكاح على الصحيح، وأنَّ النكاح بلا ولي فاسد، لما جاء من النصوص التي بلغت حد التواتر، ولأنَّ المرأة قاصرة النظر، ولا يرعى مصالحها مثل ولي أمرها، فهو الذي يحتاط لها بالزوج الصالح، ويتحرى لها الخير فيمن يقبله زوجًا لها، وإنَّ من شرط الولي الذكورة، وأنَّ المرأة لا تصلح أن تكون وليًا في النكاح، فإنَّها إذا كانت لا تلي أمر نفسها، فكيف تلي أمر غيرها. * خلاف العلماء: ليس هناك نزاعٌ بين العلماء في أنَّ البالغة العاقلة الثيب لا تُجبر على النكاح، ودليل ذلك واضحٌ من النصوص. وليس هناك نزاعٌ أيضًا في أنَّ البكر التي دون التسع ليس لها إذن، فلأبيها

تزويجها بكفئها بلا إذنها, ولا رضاها. قال شيخ الإِسلام: فإنَّ أباها يزوجها, ولا إذن لها. ودليلهم: زواج عائشة -رضي الله عنها- من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي ابنة ست. واختلفوا في البكر البالغة: فالمشهور من مذهب الإِمام أحمد: أنَّ لأبيها إجبارها، وهو مذهب مالك والشافعي، وإسحاق. ومذهب الإِمام أبي حنيفة، والرواية الأخرى عن الإِمام أحمد عدم إجبار المكلفة، بكرًا كانت أو ثيبًا، اختاره أبو بكر عبد العزيز، والشيخ تقي الدين، قال في الفائق: وهو الأصح. قال الزركشي: وهو أظهر؛ فإنَّ مناط الإجبار الصغر. وكذا بنت تسع، بكرًا كانت أو ثيبًا، فقد اختار الشيخ عدم إجبارها، وهو رواية عن أحمد، قال بعض المتأخرين: هو الأقوى. قال الوزير وابن رشد وغيرهما: أجمع العلماء على أنَّ للأب إجبار من دون التسع على النكاح في كفء؛ ما ثبت من أنَّ أبا بكر زوَّج النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة، وهي بنت ست سنين. ***

852 - وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشِّغَارِ، والشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنتهُ، علَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَا أَنَّ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ مِنْ كَلاَمِ نَافِعٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشِّغَار: الشِّغار بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الغين المعجمة، لغة: الرفع، يقال: شغر الكلب رجله ليبول. وشرعًا: هو أن يزوجه موليته، على أن يزوجه الآخر موليته، ولا مهر بينهما، أو بينهما مهر لأجل الحيلة. قال الخطابي: سمي شِغَارًا؛ لأنَّه رفع للعقد من أصله، فارتفع النكاح، والمهر معًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن نكاح الشغار، والنَّهي يقتضي الفساد، فهو غير صحيح. 2 - إنَّ العلة في تحريمه وفساده، هو خلوُّه من الصداق المسمى، ومن صداق المثل، وأشار إليه بقوله: "وليس بينهما صداق". 3 - وجوب النصح للمولية، فلا يجوز تزويجها بغير كفء، لغرض الولي ومقصده. 4 - بما أنَّهم جعلوا العلة في إبطال هذا النكاح هي خلوه من الصداق، فإنَّه يجوز أن يزوِّجه موليته، على أن يزوجه الآخر موليته، بصداق غير قليل، مع الكفاءة بين الزوجين، والرضا منهما. 5 - قوله: "والشغار: أن يزوج الرجل ... إلخ" قال ابن حجر: اختلفت ¬

_ (¬1) البخاري (5112 , 6960)، مسلم (1415).

الروايات عن مالك، فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، وبهذا قال الشافعي، فقد قال: لا أدري التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك، وجعله بعضهم من تفسير نافع، وليس خاصًّا بالابنة، بل كل مولية. وقال القرطبي: تفسير الشغار صحيح، موافق لما ذكر أهل اللغة، فإن كان مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضاً؛ لأنَّه أعلم بالمقال، وأفقه بالحال. 6 - أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح، واختلفوا في بطلانه: فعند أبي حنيفة: أنَّ النكاح يصح، ويُفرض لها مهر مثلها. وعند الشافعي وأحمد: أنَّ النكاح غير صحيح؛ لأنَّ النَّهي يقتضي الفساد، وحكى في الجامع رواية عن الإِمام أحمد بطلانه، ولو مع صداق، اختارها الخِرَقِي؛ لعموم ما روى الشيخان عن ابن عمر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الشغار" ومثله في مسلم عن أبي هريرة، ولأنَّ داود، جعل التفسير -وهو قوله: "وليس بينهما صداق"- من كلام نافع. قال الشيخ تقي الدين: حرَّم الله نكاح الشغار؛ ولأنَّ الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفء، نصَّ عليه أحمد، ونظره لها نظر مصلحة، وعلى هذا فلو سمى صداقًا حيلة، والمقصود المشاغرة، فلا يصح النكاح، واختار هذا القول العلامة الأثري الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في رسالةٍ له في الأنكحة الباطلة، والله أعلم. 7 - في الحديث وجوب النصح والاجتهاد لمن تولَّى ولاية صغيرٍ أو سفيه، أو نظارة وقف، أو وظيفة، أو أي عمل بسند إليه، فيجب النصح فيه والإخلاص. 8 - وفي الحديث: تحريم استغلال الموظف والوالي ما تحت يده من عمل لمصلحته الخاصة.

853 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا، وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأُعِلَّ بِالإِرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وقد طُعِن بصحة الحديث بأنَّه مرسل، ولكن الحافظ أجاب بأنَّه قد روي من طريق أيوب بن سويد، عن الثوري، عن أيوب موصولًا، وكذلك رواه معمر بن جدعان الرقي، عن زيد بن حبان، عن أيوب موصولًا. وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله، فالحكم لمن وصله، ولذا قال المصنف: الطعن في الحديث لا معنى له؛ لأنَّ له طرقًا يقوي بعضها بعضًا. * مفردات الحديث: - جارية: هي البنت الشابة، سميت جارية؛ لخفَّتها. - بِكْرًا: هي التي لم تفض بكارتها، وقيَّدها بالبكارة دون الصغر؛ لاعتبار كراهتها، فلو كانت صغيرةً لما اعتبر كراهتها ما دام المزوِّج الأب. - وهي كارهة: جملة حالية لبيان هيئة المفعول عند التزويج. كارهة: قال في المحيط: الإكراه فعل يوقعه الإنسان بغيره، فيفوِّت رضاه، أو يفسد اختياره، مع بقاء أهليته للفعل. - خيَّرها: يقال: خيَّره يخيِّره تخييرًا: فوَّض إليه الخِيار، والمراد أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أحمد (2469)، أبو داود (2096)، ابن ماجه (1875).

خيَّرها بين قبول النكاح، أو ردِّه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث يفيد ما أفادته الأحاديث السابقة، من أنَّ المرأة التي تعرف مصالح النكاح لا تجبر على النكاح، لا من أبيها، ولا من غيره من الأولياء، وأنَّ أمرها بيدها، وإن كانت بكرًا. وقد تقدم تحرير الخلاف في هذه المسألة قريبًا. 2 - قال شيخ الإِسلام: إنَّ مناط الإجبار هو الصغر، لا أنَّ مناطها البكارة، فإنَّ الكبيرة لها معرفة بحقوقها، وما يصلح لها وما لا يصلح، وإن كانت بكرًا. قال ابن القيم: جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: "والبكر يستأذنها أبوها" وهذا هو الذي ندين به، ولا نعتقد سواه، وهذا الموافق لحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمره ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته. 3 - وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: لا يخفى أنَّ من شروط صحة النكاح الرضا، ولو كانت البنت بكرًا، فليس لأبيها إجبارها، وأدلة هذا القول واضحة، وقد اختاره شيخ الإِسلام، وابن القيم. قال في الفائق: وهو أصح، قال الزركشي: وهو أظهر. وهو مذهب الأوزاعي، والثوري، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، وهو الصحيح. 4 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّه ليس للأب إجبار ابنته البالغة العاقلة على النكاح ممن لا ترضاه، فإنَّه إذا كان لا يجبرها على بيع شيء من مالها، فكيف يجبرها على بُضعها، الذي ضرر إكراهها عليه أعظم من ضرر المال، وللأحاديث المشهورة في هذا الباب. 5 - وفي الحديث دليل على أنَّ النكاح إذا لم يعقد على الوجه الشرعي، فإنَّه يجب فسخه، وأنَّ الذي يفسخه هو الحاكم الشرعي.

6 - وفيه دليلٌ على أنَّ المرأة لا تجبر على البقاء مع زوج لا ترضاه، وأنَّه يجب تلبية طلبها، إذا طلبت فسخ نكاحها. ومن أدلة هذه المسألة ما جاء في صحيح البخاري: "أنَّ امرأة ثابت بن قيس أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خُلقٍ ولا دين، ولكنِّي أكره الكفر في الإِسلام، فقال: أتردِّين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أقْبل الحديقة، وتطلقها تطليقة". قال شيخ الإِسلام: الشَّارع لا يُكْرِه المرأة على النكاح إذا لم تُرِدْهُ، بلْ إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنَّه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع النظر في المصلحة من أهلها، فيخلصها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبدًا بدون أمرها. ***

854 - وَعَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ, فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ, وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد، والدارمي، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، من طرق كثيرة عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة به، قال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذَّهبي، وصحَّحه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم. وقال الحافظ: صحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة، فإنَّ رجاله ثقات، ويروى عن علي نحوه موقوفاً عند البيهقي من طريق خلاس بن عمرو الهجري، وخلاس لم يسمع من علي، ولكن مع انقطاعه، فإنَّ رجال إسناده ثقات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ولاية النكاح مرتَّبة من الأب، فالجد وإن على، فالابن وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من العصبة، على حسب تقديمهم في الميراث. 2 - فإذا وُجد وليَّان فيِ جهةٍ واحدةٍ، ودرجةٍ واحدةٍ، ومن حيث القوَّة في مستوَى واحد، وتوفرت فيهما شروط الولاية، قُدِّم منهما من أذنت له منهما ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 8)، أبو داود (2088)، الترمذي (1110)، النسائي (7/ 314)، ولم يروه ابن ماجه.

في تزويجها، وإن استويا في الإذن، صحَّ عقد الأول منهما، وصار العقد الثاني باطلًا؛ لأنَّه لم يصادف محلًّا، وهذا بإجماع العلماء. 3 - وإن لم تأذن إلاَّ لولي واحد من أوليائها، أُنيط الحكم به، فلا يصح تزويج غيره ممن لم تأذن لهم. 4 - وإذا استوى للمرأة وليان فأكثر من حيث القرابة، كأخوين شقيقين، سُنَّ تقديم الأفضل، فالأسن، فإن تشاحوا أقرع بينهم. 5 - ولاية عقد النكاح من جملة الولايات التي يُختار لها الأكْفاء، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص]. فإذا كانوا في درجةٍ واحدةٍ من القرابة، قدِّم الأصلح، لهذه الولاية، من حيث معرفة مصالح النكاح، واختيار الزوج الكفء، والمصاهرة الصالحة؛ لأنَّ هذا عقد سيدوم، فيُحتَاط له بطلب الأصلح، والله المستعان. 6 - يفيد الحديث أنَّه لو زوَّجها البعيد من الأولياء، مع وجود الأقرب أنَّ العقد لا يصح؛ لأنَّ البعيد لا يسمى وليًّا مع وجود أقرب منه، وتقدم خلاف العلماء في ذلك عند الكلام على حديث (847). 7 - الحديث مطلق في بطلان نكاح العاقد الثاني، وصحة عقد الأول من دون ذكر إذنها لهما أو عدمه، ولكنه يقيد بالأحاديث المتقدمة من وجوب استئذان الثيب، واستئمار البكر.

855 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، أَوْ أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ, وَكَذَلِكَ ابْنِ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحسَّنه، والحاكم وصحَّحه من حديث ابن عقيل عن جابر، ووافقه الذَّهبي، وأخرجه ابن ماجه من رواية ابن عقيل عن ابن عمر. وقال الترمذي: لا يصح، إنَّما هو عن جابر، ولكن صحَّحه من طريق أخرى عن ابن عقيل عن جابر. وله شاهدٌ، رواه أبو داود من حديث العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وتعقَّبه بالتضعيف، وبتصويب وقفه، وصوَّب الدارقطني وقفه على ابن عمر. * مفردات الحديث: - عبد: هو الرقيق. - مواليه: أسياده الذين لا يزال في رِقهم. - عاهر: عهر الرجل عهرًا، أتى المرأة للفجور، فهو عاهر، وجمعه عُهَّار، وهي عاهر أو عاهرة، وجمعها عواهر أو عاهرات، فالعاهر: الفاجر الزاني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العبد ناقص عن الأحرار، من ذلك أنَّه لا يملك المال، ولو أُعطي مالًا، ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 301)، أبو داود (2078)، الترمذي (1111).

صار ذلك المال لسيده، وحيث إنَّ النكاح عقد له تبِعَاتٌ ماليةٌ من المهر، والنفقات، فإن أمر تزويجه جُعِل إلى سيده. 2 - فإذا تزوج العبد بدون إذن سيده، فزواجه غير صحيح، وعقده فاسد، وسميناه فاسدًا لا باطلًا؛ لأجل خلافٍ ضعيف في صحته، وهو خلف داود الظاهري. 3 - وبناءً على أنَّه عقدٌ فاسدٌ، فإنَّه يجب فسخه، والتفريق بين الزوج وبين من عقد عليها، فقد روى ابن حبان موقوفاً: "أنَّ عبد الله بن عمر وجد عبدًا له تزوَّج بغير إذنه، ففرَّق بينهما، وأبطل عقده، وضربه الحد"؛ لأنَّه جاء في الحديث أنَّه عاهر، والعاهر هو الزاني. 4 - جمهور العلماء يدرأون عن العبد الحد إذا كان جاهلًا التحريم، ويلحقون به النسب؛ لأنَّه وطء شبهة. 5 - قال في شرح الإقناع: ويملك السيد إجبار عبده الصغير على الزواج، لتمام ولايته عليه. ولا يملك إجبار عبده العاقل الكبير؛ لأنَّه مكلف يملك الطلاق، فلا يجبر على النكاح كالحر، ولأنَّ النكاح خالص حقه ونفعه، فلا يجبر عليه، والأمر بإنكاحه مختص بحالة طلبه. ***

856 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا, وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشريعة الإِسلامية جاءت بكلِّ ما يدعو للمحبَّة والألفة، ونهت وحذَّرت من كل ما يسبب الشقاق والعداوة والبغضاء. 2 - فالله أباح تعدد الزوجات إلى أربع للحر، لِما في التعدد من المصالح، وما يحقق من المنافع للنوعين: الذكور والإناث. وتعديد تلك الفوائد والمصالح مما يفوت الحصر، ويحتاج إلى مؤلفات، وقد تناوله كثير من العلماء والمفكرين بالبيان والتحليل، وشرح مثل هذا ليس هذا مجاله. 3 - لمَّا أباح الشَّارع الحكيم تعدد الزوجات، نهى أن يكون ذلك بين الأقارب، الذين يجمعهم نسبٌ قريبٌ؛ لما يجر من قطيعة الرحم، والعداوة بين الأقارب؛ فإنَّ الغيرة بين الضرات شديدة جدًّا. 4 - نهى في هذا الحديث عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، كما نهى الشَّارع عن الجمع بين الأختين، فقال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. والنَّهي يقتضي التحريم والبطلان، فالعقد باطل بإجماع العلماء. 5 - تحريم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها ¬

_ (¬1) البخاري (5109)، مسلم (1408).

مجمع عليه. قال ابن المنذر: "لست أعلم في تحريمه وبطلانه خلافًا، فقد اتَّفق أهل العلم على القول بذلك"، ونقل ابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع عليه. 6 - قال شيخ الإِسلام: أما المحرَّمات بالنسب، فالضَّابط فيه: أنَّ جميع أقارب الرجل من النسب حرامٌ عليه، إلاَّ بنات أعمامه، وبنات أخواله، وبنات عماته، وبنات خالاته، فهذه الأصناف الأربعة أحلهنَّ الله تعالى. قُلتُ: وأما تحريم الجمع بين المرأتين، فضابطه ما قاله بعضهم: أنَّه يحرم الجمع بين كل امرأتين، لو كانت إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرُم نكاحه لها. * فوائد: الأولى: قال ابن رشد: اتَّفقوا على أنَّ الرضاع يحرم منه ما يحرم من النسب، أعني أنَّ المرضعة تتنزَّل منزلة الأم، وكل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاعة، قال الموفق: لا نعلم في هذا خلافًا. الثانية: قال الموفق: من تزوج امرأة حرم عليه كل أمٍّ لها من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة، وذلك بمجرد العقد، وهو قول الأئمة الأربعة، وأكثر أهل العلم. الثالثة: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الرجل إذا دخل بزوجة حرمت عليها بنتها على التأبيد، وإن لم تكن في حِجره، فالقيد في الآية خرج مخرج الغالب. وقال ابن المنذر: أجمع علماء الأمصار على أنَّ الرجل إذا تزوج امرأةً ثم طلَّقها أو ماتت قبل أن يدخل عليها، حلَّت له بنتها. الرابعة: قال الشيخ: وتحريم المصاهرة لا يثبت مثله من الرضاع، فلا يحرم على الرجل: (1) أم زوجته من الرضاع.

(2) وبنت زوجته من الرضاع، إن كان بلبن غيره. (3) ولا زوجة ابنه من الرضاع. (4) ولا زوجة أبيه من الرضاع التي لم ترضعه. فهؤلاء حَرُمن بالمصاهرة، لا بالنسب، فلا نسب بينه وبينهنَّ، لكن قال القرطبي في تفسيره: وحرمت حليلة الابن في الرضاع، وإن لم يكن للصُّلب بالإجماع المستند إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وقال ابن كثير: فإن قيل فمن أين تحرم امرأة ابنهِ من الرَّضاع -كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعًا- وليس من صلبه، وهذا هو الصَّواب؟ فالجواب: من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: أمَّا تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من صريح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بأنَّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، والمحرَّمات بالصهر أربع: 1 - حليلة الأب وإن علا. 2 - حليلة الابن وإن نزل. 3 - أمهات الزوجة وإن علون. 4 - بناتها وإن نزلن. وهؤلاء يحرمن بالعقد إلاَّ الربيبة، فإنَّها لا تحرم حتى يدخل بأمها. الخامسة: قال الشيخ عبد الله أبابطين: نكاح المرأة في عدة أختها ونحوها مثل نكاح الخامسة في عدة الرابعة، فإن كان الطلاق رجعيًّا فباطل عند جميع العلماء، وإن كانت العدة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور، والمذهب التحريم.

857 - وَعَنْ عُثْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ, وَلَا يُنْكَحُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَلَا يَخْطُبُ". زَادَ ابْنُ حِبَّانَ: "وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ" (¬1). 858 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَهَا، وَهُوَ حَلَالٌ" (¬3) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يَنكح: بفتح ياء المضارعة، مبني للمعلوم، أي لا يتزوَّج. - لا يُنْكَح: بضم ياء المضارعة، مبني للمجهول، أي لا يزوج غيره. - لا يخطب: بفتح ياء المضارعة، مبني للمعلوم، أي لا يطلب المرأة لنفسه. - لا يُخْطب عليه: بضم ياء المضارعة، مبني للمجهول، أي لا يطلب منه أن يزوِّج غيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإحرام هو عبادة لله تعالى، وانقطاعٌ إليه، فالمحرم ليس في حالة ترفُّهٍ ¬

_ (¬1) مسلم (1409)، ابن حبان (1274). (¬2) البخاري (1837)، مسلم (1410). (¬3) مسلم (1411).

وتلذذٍ وتمتع، وإنَّما هو أشعث، أغبر، مشتغلٌ بطاعة الله عن الترفه والتنعم. 2 - وإنَّ من أبلغ أنواع التنعم هو مقاربة النساء، والتمتع بهنَّ، لذا حُرِّم على المُحرِم أن يتزوَّج بنفسه، أو يزوِّج موليته، أو يخطب مجرد خِطبة لنفسه؛ لأنَّه وسيلة إلى التمتع بالنساء، وإذا حرِّمت الغاية وهو الجِماع، حرمت الوسيلة وهي العقد والخِطبة. 3 - فإن عقد المحرِم لنفسه، أو عقد لموليته، حرم ذلك، ولم يصح النكاح؛ لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم والفساد. قال الوزير: أجمعوا على أنَّ المحرِم لا يعقد عقد نكاح لنفسه ولا لغيره، سواء تعمَّد أو لا؛ لصريح الخبر، ولأنَّ الإحرام يمنع الوطء ودواعيه، فمنع صحة عقده؛ فيقع فاسدًا. قال فقهاؤنا: ويحرم على المحرم عقد النكاح، فلو تزوج المحرم، أو زوَّج مُحْرمة، أو غير محرِمة، أو كان وليًّا، أو وكيلًا في النكاح، حرم ولم يصح، وهو مذهب الأئمة الثلاثة؛ مالك والشافعي وأحمد. 4 - أما ما جاء في الحديث رقم: (858) من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- تزوَّج ميمونة وهو محرِم، فقال الأئمة: إنَّ هذا وهم من ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال أبو رافع: "كنتُ السفير بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وميمونة، فتزوَّجها وهو حلال، وبنى بها حلالًا" وذكر بعضهم أنَّ القصة متواترة. وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنَّه -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال جاءت من طرق شتَّى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، ولكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم إلى الجماعة. قال الإمام أحمد: قال ابن المسيب: وهم ابن عباس، فميمونة تقول: "تزوجني وهو حلال". وقال الألباني: اتفاق الصحابة على العمل بحديث عثمان، ممَّا يؤيد

صحته وثبوت العمل به عند الخلفاء الراشدين، فذلك يدل على خطأ حديث ابن عباس. وقد أخذ بحديث ابن عباس أبو حنيفة، فأجاز نكاح المُحرِم، وهو قول ضعيف. ***

859 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إنَّ أحق الشروط: "أحق" منصوب على أنَّه اسم "إنَّ"، قال صاحب الإكمال: إنَّ أحق هنا بمعنى أولى عند كافة العلماء. - الشروط: جمع شرط، والمراد بها الشروط المباحة، المتعلقة بالنكاح، ممَّا لا ينافي مقتضى العقد، كقدر المهر، ونوعه، والسكن، ونحو ذلك. - ما استحللتم به: خبر "إنَّ" أي: صارت لكم بها حلالًا، نقيض الحرام. - الفروج: جمع فَرْج، مثل فلس وفلوس، الأصل في هذه المادة أنَّها تدل على انفتاحٍ في شيء، كالفرجة في الحائط، ففرج بين شيئين، جاء في الأمور المعنوية، كتفريج الشدة، وهي الخلوص منها، ومن ذلك الفَرْج من الإنسان يطلق على القُبُل والدبر؛ لأنَّ كل واحد منهما منفرج. قال في المصباح: وأكثر استعماله في العرف في القُبُل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشرط هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر -بسبب العقد- ما له فيه منفعةٌ وغرضٌ صحيح، ويجب الوفاء بالشروط؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم". 2 - قال شيخ الإِسلام: الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ¬

_ (¬1) البخاري (2721)، مسلم (1418).

منها ويبطل، إلاَّ ما دلَّ الشرع على تحريمه وإبطاله، وأصول أحمد أكثرها تجري على هذا القول، ومالك قريب منه. قال ابن القيم: الضابط الشرعي أنَّ كل شرطٍ خالف حكم الله تعالى فهو باطل، وما لم يخالف فهو لازم. 3 - قال الفقهاء: والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد. وقال الشيخ تقي الدين: وكذا لو اتَّفقا عليه قبل العقد، وهو قول قدماء أصحاب أحمد. قال في الإنصاف: وهو الصواب الذي لا شكَّ فيه. قُلتُ: وقطع به في الإقناع والمنتهى، فيكون هو المذهب. 4 - الحديث يفيد وجوب الوفاء بالشروط، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولو لم تكن معتبرة ما أمَر بالوفاء بها. 5 - ويدل على أنَّ أحق ما يوفَّى به هي شروط النكاح؛ لأنَّ أمره أحوط، والبذل فيه لأجل تلك الشروط هو أغلى ما تملكه المرأة، وتحافظ عليه، فيتعيَّن الوفاء به. 6 - الشروط التي يجب الوفاء بها، هي الشروط التي لا تخالف كتاب الله وسنة رسوله، فإن خالفتهما فتحرم ولا تصح، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط". قال الإمام الشافعي: أكثر العلماء حملوه على شرطٍ لا ينافي مقتضى النكاح، ويكون من مقاصده، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق عليها وكسوتها، هذا؛ ومن جانب المرأة أن لا تخرج من بيته إلاَّ بإذنه. وأما الشرط الذي يخالف مقتضى النكاح، كشرط ألا يقسم لها، فلا يجب الوفاء به، بل يكون لغوًا.

7 - من الشروط الصحيحة أن يُصْدِقَها شيئًا معينًا، أو أن لا يخرجها من بلدها، أو أن لا يفرق بينها وبين أبويها أو أولادها، فمثل هذه الشروط صحيحة لازمة. 8 - من الشروط الفاسدة أن تشترط عليه طلاق ضرَّتها. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكفأ ما في إنائها". قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: إذا شرطت طلاق ضرتها صحَّ عند أبي الخطاب، وعليه أكثر الأصحاب. والقول الثاني: أنَّه ليس صحيحًا، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا يحل أن تشترطه، ولو شرطته فهو لاغٍ؛ لحديث: "كلُّ شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل". 9 - قال الخطابي: الشروط في النكاح أنواع: 1 - بعضها يجب الوفاء به، وهو ما أمر الله تعالى به، من إمساكٍ بمعروفٍ، أو تسريحٍ بإحسان. 2 - وبعضها لا يوفَّى به، كطلاق أختها، لما ورد من النَّهي عنه. 3 - وبعضها مختلفٌ فيه، كاشتراط أن لا يتزوَّج عليها، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله، وما يشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصَّداق، وبصحة هذه الشروط وأمثالها قال الشافعي وأحمد وإسحاق. 10 - الله تبارك وتعالى عظَّم أمر عقد النكاح، وأوصى بهذه الرابطة الزوجية أن تُراعى، وأن يُحافظ عليها، وإنَّ استحلال الفروج أمرٌ ليس بالسَّهل، ولا بالهيِّن، فقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وسَمَّيَ العقد ميثاقًا غليظًا، فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ

مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء]. وقال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع يعظ الناس: "اتَّقوا الله في النساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، فاستوصوا فيهنَّ خيرًا". 11 - قال ابن القيم: الوفاء بشروط النكاح الصحيحة، هي أحق أن يوفى بها، وهو مقتضى الشرع، والعقل، والقياس الصحيح، فإنَّ المرأة لم ترض ببذل بُضْعها للزوج، إلاَّ على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراضٍ. ***

860 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: "رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أوطاس: بفتح الهمزة، وسكون الواو، ثم طاء مهملة، بعدها ألف، وآخره سين مهملة، لمَّا هزم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هوازن في حُنين، انتهى بعضُ فُلولهم إلى أوطاس، وتجمعوا فيه، فبعث في أثرهم سرية عليها أبو عامر الأشعري، فحصلت معركة، هي امتدادٍ لغزوة حنين في الزمان والمكان، ولا يوجد الآن مكان بهذا الاسم، وإنما قال لي بعض الثقات المطلعين من سكان تلك المنطقة أنَّ أوطاس والمسماة الآن بـ"البهيتة" الواقعة بين السيل الكبير "قرن المنازل" وبين نخلة اليمانية، تبعد عن مكة شرقًا بنحو ستين كيلو، ولا تبعد صحة هذه التسمية، فإنَّ هذا المكان يتلاءم مع أحوال الغزوة، ووصف دريد ابن الصمة له بقوله: "نِعْمَ مَجَالُ الخَيْلِ؛ لا حزْنٌ ضَرسٌ، ولا سَهْلٌ دَهِسٌ" - المتعة: يقال: تمتع تمتعًا، من التمتع بالشيء، وهو الانتفاع به، والاسم المتعة، وهو النكاح: المؤقت بأمدٍ معلومٍ، ويرتفع النكاح بانقضاء الزمن المؤقت. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1405).

861 - وَعَنْ عَلَيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (¬1) 862 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ أكْلِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يوْمَ خَيْبرَ" أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، إلاَّ أَبا داوُدَ (¬2). 863 - وَعَنْ رَبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الاسْتِمْتاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ حرَّمَ ذلِكَ إلَى يوْمِ القِيامَةِ، فمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَها، ولا تَأْخُذُوا إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وابْنِ حِبَّانَ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - المتعة مشتقةٌ من التمتع بالشيء، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ الغرض أن يتمتع الرجل بالمرأة المعقود عليها إلى مدة. وتعريف عقدها: أنَّ الرجل يتزوَّج المرأة إلى مدة معلومةٍ أو مجهولةٍ. ¬

_ (¬1) البخاري (5115)، مسلم (1407). (¬2) البخاري (4216)، مسلم (1407)، الترمذي (1794)، النسائي (6/ 126)، ابن ماجة (1961). (¬3) مسلم (1406)، أحمد (2/ 404)، أبو داود (2072)، النسائي (3368)، ابن ماجة (1962). ابن حبان (4146).

2 - ونظامها عند الرافضة هي نكاح مؤقت بأمدٍ معلومٍ أو مجهول، وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا، وينتهي العقد بانقضاء الزمن المؤقت. 3 - وهو عندهم لا يوجب نفقة، ولا يحصل به توارث، ولا نسب، وليس له عدة، وإنَّما فيه الاستبراء. 4 - رُخِّص في المتعة زمن يسير للضرورة، ثم حرِّمت تحريمًا مؤبدًا، فهذا الترخيص المؤقت أوجد شبهةً عند نفرٍ قليلٍ، رخَّصوا فيها أيضًا عند الضرورة، ثم رجعوا أيضًا عن هذا الترخيص، ومنهم ابن عباس، فقد رجع وقال بالتحريم، ثم انعقد إجماع المسلمين على تحريمها تحريمًا مؤبدًا مطلقًا. قال ابن هبيرة: أجمعوا على أنَّ نكاح المتعة باطل، لا خلاف بينهم في ذلك. قال شيخ الإِسلام: الروايات المتواترة متواطئة على أنَّ الله تعالى حرَّم المتعة بعد إحلالها، والصواب؛ أنَّها بعد أن حرمت لم تحل، وأنَّها لمَّا حُرِّمت عام فتح مكة، لم تحل بعد ذلك. قال القرطبي: الروايات كلها متَّفقة على أنَّ زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنَّه حرمت بعد ذلك، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها، إلاَّ مَن لا يلتفت إليه من الروافض. 5 - الحديث رقم (860) يدل على تحريم المتعة عام أوطاس، وذلك في شوال من عام ثمانية من الهجرة، وأنَّ الرخصة فيها ثلاثة أيام فقط. 6 - أما الحديث رقم (863) فإنه يفيد أنه حصل في المتعة ترخيص، وأنَّها بعد هذا الترخيص حرمت تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة. 7 - ويدل حديث رقم (863) على وجوب الإقلاع في الحال عن هذه الرخصة، وإخلاء سبيل هؤلاء المستمتع بهنَّ، ليذهبن إلى أهلهن.

8 - ولم يذكر في هذا الإخلاء طلاق ولا فسخ، مما يدل على أنَّه ليس بعقد حقيقي، يوجب الطلاق والفسخ، وإنما المرأة أشبه بالأجير تنتهي مدته، فيترك يذهب إلى أهله. 9 - نهى عن الأخذ ممَّا أُعطيت من أجر؛ لأنَّه عوض عن استمتاعه بها هذه المدة التي أقامت عنده. 10 - أما الحديث رقم (861) والحديث رقم (862) فإنَّهما يدلان على أنَّ المتعة أُبيحت قبل خيبر، ثم حرِّمت فيها. قال الإمام النووي: الصحيح المختار أنَّ تحريم المتعة وإباحتها كانا مرَّتين، وكانت حلالًا قبل خيبر، ثُمَّ حُرِّمت يوم خيبر، ثمَّ أبيحت يوم فتح مكَّة، وهو يوم أوطاس، لاتصالهما، ثمَّ حرمت بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، ولا يجوز أن يُقال: إنَّ الإباحة مختصةٌ بما قبل يوم خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأنَّ الذي كان يوم فتح مكة مجرَّد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح؛ لأنَّ الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة يوم الفتح صريحةٌ في ذلك، فلا يجوز إسقاطها، ولا مانع يمنع من تكرير الإباحة. 11 - قال الشيخ صديق حسن خان في الروضة الندية: قال في شرح السنة: اتَّفق العلماء على تحريم المتعة، والأحاديث في هذا متواترة، ورواية تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب، ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة أنَّهم ثبتوا على المتعة في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وبعد موته إلى آخر أيام عمر، فإنَّ من علم النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم، واستمرار من استمرَّ عليها إنَّما كان لعدم علمه بالناسخ. وأما ما يقول به جماعة من المتأخرين من أنَّ تحليل المتعة قطعي، وحديث تحريمها على التأبيد ظني؛ والظني لا ينسخ القطعي، فالجواب:

أن كون التحليل قطعيًّا؛ لكونه منصوصًا عليه في الكتاب العزيز، فذلك، وإن كان قطعي المتن، فليس بقطعي الدلالة لأمرين: أحدهما: أنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح. الثاني: أنَّه عموم، وهو ظني الدلالة. على أنَّه قد روى الترمذي عن ابن عباس أنَّه قال: "إنَّما كانت المتعة حتى نزل قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]. قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام، وهذا يدل على أنَّ التحريم بالقرآن، فيكون ما هو قطعي المتن ناسخًا لما هو قطعي المتن. وإن كان التحليل قطعيًّا لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر، فيقال: قد وقع الإجماع أيضًا على التحريم في الجملة من الجميع، وإنَّما الخلاف في التأبيد: هل رُفِعَ أم لا؟ وكون هذا التأبيد ظنيًّا، لا يستلزم ظنية التحريم، الذي رفع النسخ به، فالحاصل أنَّ الناسخ للتحليل المجمَع عليه هو التحريم المجمع عليه، المقيَّد بقيد ظني، وهو التأبيد؛ فالناسخ قطعي، فهذا على التسليم أنَّ ناسخ القطعي لا يكون إلاَّ قطعيًّا، كما قرَّره جمهور أهل الأصول. ***

864 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1)، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ. (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وهو من حديث عبد الله بن مسعود، ولحديثه طريقان: الأولى: أخرجها أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن أبي شيبة، والبيهقي. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وصحَّحه ابن القطان، وقال ابن دقيق العيد: على شرط البخاري. الثانية: عن أبي الواصل عنه به، أخرجها إسحاق ورجال السند ثقات، رجال مسلم، غير أبي واصل، وهو مجهول. وأما شواهده فمنها: 1 - حديث أبي هريرة أخرجه أحمد، وإسحاق، والترمذي في العلل، وابن الجارود، والبيهقي، وحسَّنه البخاري. 2 - حديث علي بن أبي طالب أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقيُّ من طرقٍ عن الشعبي عن الحارث عنه، وعند أحمد من طريق أبي إسحاق عنه، وفي السند الحارث الأعور ضعيف، فهو متَّهم ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 448)، الترمذي (1120)، النسائي (6/ 149). (¬2) أبو داود (2076)، الترمذي (1119)، ابن ماجه (1935).

بالكذب. 3 - حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه مرفوعًا من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس وزمعة وسلمة كلاهما ضعيف. وهذه أحاديثُ تواردت على معنًى واحد، بعضها جيدٌ وبعضها ضعيف، ولكنَّه ضعفٌ خفيف، ولذا فهي شاهدةٌ بطرقها على صحة ما جاء في هذا الباب. أهـ ملخصًا من إرواء الغليل للألباني. ولصحته فقد احتجَّ به ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن حجر، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم. * مفردات الحديث: - المحلِّل: بكسر اللام، اسم فاعل، سمي محلِّلًا لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل. - المحلَّل له: بفتح اللام، اسم مفعول، هو الذي يُراد إجراء التحليل من أجله، ونكاح التحليل أن يتزوج المحلِّل -بكسر اللام المطلقة- البائنة بينونةً كبرى، بشرط أنَّه متى أحلَّها للزوج الأول طلَّقها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نكاح التحليل هو أن يتزوج المطلقة ثلاثًا، بشرط أنَّه متى أحلَّها الثاني للأول طلَّقها. 2 - قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وهو قول فقهاء التابعين، لما روى الحاكم وابن ماجه من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل، والمحلَّل له". 3 - الحديث يدل على تحريم التحليل، والنَّهي يقتضي البطلان. قال الشيخ تقي الدين: أجمعوا على تحريم نكاح المحلل.

واتَّفق أهل الفتوى على أنَّه إذا اشتُرط التحليل في العقد كان باطلًا. قال في شرح الإقناع: نكاح المحلِّل هو أن يتزوجها بشرط أنَّه متى أحلَّها للأول طلَّقها، أو نوى المحلِّل أنَّه متى أحلَّها للأول طلَّقها، ولم يرجع عن نيته عند العقد، والنكاح في الصورة المذكورة حرامٌ غير صحيح. 4 - ولا يحصل بنكاح المحلل الإباحة للزوج الأول؛ لبطلانه. 5 - قال الموفق؛ فلو شُرِط عليه قبل العقد أنْ يحلِّلها لمطلقها ثلاثًا، ثم نوى عند العقد غير ما اشترط عليه، وأنَّ نكاحه نكاح رغبة، صحَّ نكاحه. 6 - قال شيخ الإِسلام: التحليل الذي يتواطئون عليه مع الزوج لفظيٌّ أو عرفيٌّ، على أن يطلِّق المرأة أو ينوي الزوج ذلك، فقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعله في أحاديث متعددة، ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد، ولا يحل للمحلِّل إمساكها بل يجب عليه فراقها، وهذا ما اتَّفق عليه الصحابة والتابعون واتَّفق عليه أئمة الفتوى كلهم، على أنَّه إذا اشترط التحليل في العقد، صار باطلًا بلا فرقٍ عندهم، بين هذا العرف أو اللفظ. 7 - قال ابن القيم في إعلام الموقعين: نكاح المحلِّل لم يُبح في ملة من الملل فقط، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم. 8 - قال الشيخ صديق حسن: حديث لعْن المحلل مرويٌّ من طرقٍ عن جماعةٍ من الصحابة، بأسانيد بعضها صحيحٌ، وبعضها حسن، واللعن لا يكون إلاَّ على ذنبٍ هو أشد الذنوب. ***

865 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن حجر: رجاله ثقات، وقال ابن عبد الهادي في المحرر: إسناده صحيح إلى عمرو، وهو ثقة محتج به عند الجمهور. اهـ، وصحَّحه الحاكم، وأقرَّه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - الزاني المجلود: الزاني: هو من اقترف فاحشة الزنا، وأما المجلود: فهو الذي أُقيم عليه حد الزنا، وهو وصفٌ أغلبي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النكاح لغة: الوطء والعقد، وسمي هنا ما يفعله المجلود نكاحًا مجازًا، لا حقيقة؛ لأنَّه جُعِل طريقًا إلى الوطء. 2 - فالراجح أنَّ المراد بالحديث هو تشنيع الزنا، وأنَّه لا يقع من رجل عفيفٍ على امرأةٍ عفيفة، وإنما يقع من رجلٍ عادته الزنا، على امرأةٍ مثله مسافحةٍ زانيةٍ. 3 - وهذا المعنى في الحديث هو الراجح في معنى الآية الكريمة: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور] ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 324)، أبو داود (2052).

قال ابن كثير: هذا خبرٌ من الله تعالى بأنَّ الزاني لا يطأ إلاَّ زانيةً، أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلاَّ زانيةٌ عاصية، أو مشركةٌ لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية: {لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] أي عاصٍ بزناه، أو مشركٌ لا يعتقد تحريمه. قال النووي: عن حبيب بن أبي عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ليس هذا بالنكاح، وإنَّما هو الجماع، لا يزني إلاَّ زانٍ أو مشركٌ. وهذا إسنادٌ صحيح، وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينكح الزاني المجلود إلاَّ مثله". وقال ابن جزي: معنى الآية ذم الزناة، وتشنيع الزنا، وأنَّه لا يقع فيه إلاَّ زانٍ أو مشركٌ، ولا يوافقه عليه من النساء إلاَّ زانيةٌ أو مشركةٌ. و"ينكح" على هذا بمعنى يجامع. قال شيخ الإِسلام: مَنْ أوَّل هذه الآية إلى العقد، فبطلان قوله ظاهر. 4 - وحمل الحديث أكثر العلماء على معنى: أنَّ الزاني المجلود لا يرغب عقد زواجه إلاَّ على مثله، وكذلك الزانية، لا ترغب في الزواج إلاَّ من عاصٍ مثلها. 5 - الذي يدل عليه الحديث هو النَّهي عن ذلك -لا الإخبار عن مجرَّد الرغبة- وأنَّه يحرم أنْ ينكح زانٍ عفيفةً، كما أنَّه يحرم أن تنكح عفيفةٌ زانيًا، وصرَّح بالتحريم بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور]، أي كاملي الإيمان الذي هم ليسوا بزناة، فإنَّه "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الزاني لا يُقْدِم على نكاحه من النساء إلاَّ أنثى زانيةٌ، يُناسب حاله حالها، أو مشركة بالله، والزانية كذلك، لا ينكحها إلاَّ زانٍ أو مشركٌ. وهذا دليلٌ صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك إنكاح

الزاني حتى يتوب. 6 - وقال في نيل المآرب: وتحرم الزانية على زانٍ وغيره حتى تتوب وتنقضي عدَّتها. قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: لا يجوز زواجه بامرأةٍ حاملٍ منه بالزنا، حتى تقضي عدَّتها بوضع حملها. قال شيخ الإِسلام: نكاح الزانية حرامٌ حتى تتوب، سواء كان زنى بها هو أو غيره، هذا هو الصواب بلا ريب، وهو مذهب طائفةٍ من السلف والخلف، منهم أحمد بن حنبل، وغيره، ويدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. وإذا كانت المرأة تزني، لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال، بل يفارقها، وإلاَّ كان ديوثًا؛ لاختلاف المادتين، نجاسةً وطهارة، وطيبًا وخُبْثًا، ولاختلاف الوطء، حلالًا وحرامًا. ***

866 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا, فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ, ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا, فَأَرَادَ زَوْجُهَا الأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا, فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ, فَقَالَ: لَا. حَتَّى يَذُوقَ الْآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - رجل: هو رِفَاعَة بن شمول القرظي، ورِفَاعة: بكسر الراء، وتخفيف الفاء. - الرجل الثاني: عبد الرحمن بن الزَّبِير بن باطيا القرظي أيضًا، والزَّبِير بفتح الزاي، وكسر الباء الموحدة. - يَدْخُل بهَا: المراد بالدخول هنا ليس مجرَّد الخلوة، وإنَّما هو الوطء. - يذوق: يُقال: ذاق يذوق ذوقًا: اختبر الطعم، والذوق هو الحاسة التي يتميز بها خواص الأجسام الطعمية، بواسطة الجهاز الحسِّي في الفم، ومركزه اللسان. قال في المحيط: الأصل في الذوق تعرُّف الطعم، ثمَّ كثر حتى جعل عبارة عن كل تجربة، ومنه معنى الحديث. - عُسيلتها: بضم العين، وفتح السين بعدها ياء مثناة، تصغير عسلة، والعسل فيه لغتان: التأنيث والتذكير، فأتت العُسيلة لذلك؛ لأنَّ المؤنث يُرَدُّ إليه الهاء إذا صغر. قال في النهاية: شبَّه لذَّة الجِماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقًا، وقد ¬

_ (¬1) البخاري (5261)، مسلم (1433).

روت عائشة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "العسيلة الجِماع". - طلَّق رجلٌ ... فسأل: جاء في البخاري أنَّ التي سألت هي امرأة رِفاعة، وجاء في فتح الباري أنَّ اسم المرأة السائلة المطلَّقة هي تميمة بنت وهب القرظية ولا مانع من أن يكون كلٌّ من المطلِّق والمطلَّقة جاءا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الطَّلاق بلفظ الثلاث، سواءٌ أكانت مجموعة بلفظٍ واحدٍ، أو مفرقةً بكلمات مكررات، لم يتخللهن رجعة ولا نكاح: هو طلاق بدعي محرَّم، وسيأتي بحثه إن شاء الله في كتاب الطلاق. 2 - المطلقة ثلاثًا لا يحل لمطلِّقها الرجوع بها حتى تنكح زوجًا غيره، ويجامِعها الزوج الثاني، ثم يطلقها، وتعتد منه، قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا} [البقرة: 230]. 3 - لابُدَّ أنْ يكون زواج الثاني زواج رغبةٍ، لم يقصد به التحليل، فإذا تزوجها الثاني راغبًا بها، ثمَّ طلَّقها، واعتدت، حلَّت للزوج الأول، قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]. 4 - أما إنْ قصد الثاني بزواجه التحليل للأوَّل، فإنَّ العقد غير صحيح، بل هو باطلٌ، ونكاحه ووطؤه محرَّم، ولم تحل للزوج الأول؛ فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". 5 - ولابُدَّ لصحة حِلِّها للزوج الأول، وطء الزوج الثاني، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول" وهو كنايةٌ عن الجماع. 6 - اتَّفق العلماء على أنَّ النِّكاح الذي يحلها هو الإصابة، وذلك بإيلاج الحشفة -أو قدرها من مجبوبٍ-في فرج المرأة المطلَّقة، مع انتشار، وإن لم ينزل، فلا يكفي مجرَّد العقد، ولا الخلوة، ولا المباشرة دون الفرج، ولا كون العقد الثاني باطلًا أو فاسدًا، بل لابُدَّ أنْ يكون بعقدٍ صحيح.

ولا يُشترَط بلوغ الزوج الثاني، ما دام إنَّه يجامع مثله، وهو ابن عشر سنين. 7 - قال ابن القيم: شريعتنا أجمل الشرائع، وأقوم بمصالح العباد، فله أن يعاف زوجته، فإن تاقت نفسه إليها وجد السبيل إلى ردها، فإذا طلَّقها الثالثة لم يبق له عليها سبيل، إلاَّ بعد نكاح زوجٍ ثانٍ، نكاح رغبة، فإباحتها بعد الزوج الآخر من أعظم النعم. 8 - قال الرازي: الحكمة في إثبات حق الرجعة أنَّ الإنسان ما دام يكون مع صاحبه، لا يدري أنَّه هل يشق عليه مفارقته أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعَظُمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة. ثمَّ لما كان كمال التجربة لا يحل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرَّتين، وبعد ذلك فقد جرَّب الإنسان نفسه في تلك المفارقة، وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرَّحها على أحسن الوجوه، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعباده. 9 - وقال سيد قطب: إنَّ الطلقة الأولى محكٌّ وتجربة، فأما الثانية فهي تجربةٌ أخرى، فإن صَلُحت الحياة بعدهما فذاك، وإلاَّ فالطلقة الثالثة دليلٌ على فسادٍ أصيلٍ في حياة الزوجية، لا تصلح معه حياة، فيحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريكٍ جديد. فإن طلَّقها الزوج الآخر فلا جناح عليهما أن يتراجعا، ولكن بشرط: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]. فليسا متروكين لشهواتهما ونزواتهما، في تجمعٍ أو تفرق، وإنما هي حدود الله تقام بينهما.

باب الكفاءة

باب الكفاءة مقدمة الكفاءة: بفتح الكاف، هي لغةً المساواة، ومنه الحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى، فالكُفءُ والكُفُوء، بوزن قُفْل، وقفول، هو المثل والنظير، ومنه الكفاءة في النكاح. قال في كشاف القناع ما خلاصته: وشرعًا: الكفاءة معتبرةٌ في خمسة أشياء: 1 - الدِّين؛ فليس الفاجر والفاسق كفوءًا لعفيفة. 2 - الحرية: فلا يكون العبد كفوءًا للحرَّة. 3 - الصناعة: فلا يكون صاحب صناعةٍ دنيئةٍ -كحجَّامٍ، وحائكٍ- كفوءًا لبنت تاجر. 4 - اليسار بمال: حسب ما يجب لها من النفقة والمهر، فلا يكون المعسر كفوءًا لموسرة. 5 - النسب: فلا يكون الأعجمي كفوءًا لعربية. والعرب من قرشيٍ وغيره، بعضهم لبعضٍ أكْفَاء، وسائر الناس بعضهم لبعض أكفَاء. قال شيخ الإِسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أنَّ جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأنَّ قريشًا أفضل

العرب، وأنَّ بني هاشم أفضل قريش، وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني هاشم. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرَّد كون النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم، بل هم في أنفسهم أفضل. قال الكرماني: هذا مذهب أئمة أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، فمن خالف هذا المذهب، أو عابه، فهو مبتدعٌ، خارجٌ عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السنة وسبيل الحق، الذي عليه أحمد، وإسحاق، والحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، فتعرف للعرب مقامها، وفضلها، وسابقتها، وحسْبهم حديث: "حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق" وهو حديثٌ ضعيف؛ لكنه في الفضائل. وسبب هذا الفضل -والله أعلم- هو ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك أنَّ الفضل إما بالعلم النافع، وإمَّا بالعمل الصالح، والعرب أفهم من غيرهم، وأحفظ، وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم لسانٍ، بيانًا وتمييزًا للمعاني. وأمَّا العمل: فإنَّهم جُبِلوا على الأخلاق الكريمة، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب إلى السخاء، والحلم والشجاعة، والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإِسلام قابلين للخير، معطَّلين عن فعله، ليس عندهم علمٌ منزَّل من السماء، ولا شريعةٌ موروثةٌ عن نبي، ولا هم أيضًا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة، فلما بعث الله محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى، وتلقَّوه عنه، زال ذلك الرَّين عن قلوبهم، واستنارت بهداية الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجديدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم، فصار السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم مَن تبعهم

بإحسان إلى يوم القيامه، ومن تشبه بهم. والله تعالى خص العرب بأحكامٍ تميَّزوا بها، ثم خصَّ قريشًا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النُّبوَّة، وغير ذلك من الخصائص، ثم خصَّ بني هاشم بتحريم الصدقة، واستحقاق قسط من الفيء، إلى غير ذلك من الخصائص، فأعطى سبحانه وتعالى كلاًّ درجة من الفضل بحسبه، والله أعلم. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اختار الله من بني آدم العرب، واختار من العرب مضرًا، واختار من مضر قريشًا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيارٌ من خيار، فمن أحبَّ العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أحبُّوا العرب لثلاث: لأنِّي عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي" حديث حسن، أي حسن: متنه على الاصطلاح العام، لا حسن إسناده على طريقة المحدثين؛ فإنَّ في الحديث ضعفًا. قال سلمان: "نفضلكم يا معشر العرب؛ لتفضيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيَّاكم، لا ننكِحُ نساءكم، ولا نؤمكم في الصَّلاة". ولما وضع عمر ديوان العطاء، كتب النَّاس على قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم نسبًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا انقضت العرب ذكر العجم. هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء إلى أن تغير الأمر. اهـ من كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-. وقد جاء في الحدث الصحيح أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإِسلام إذا فَقُهُوا" والتفاوت بين مخلوقات الله تعالى جَوْدَةً ورداءةً موجود، فهذا هو سنته في خلقه في كل شيءٍ من جمادٍ ونباتٍ وحيوانٍ وإنسانٍ، بحسب ما أودع فيه

من خصائص، فالله جلَّ وعلا يفضل بعض الأشياء على بعض. أما من حيث الواجبات، فالمسلمون أمامها سواء، لا فضل لأحد على أحد. وكذلك هم أمام الحقوق سواء، فلا تفضيل لبعضهم على بعض، وهم أمام الله تعالى على حسب تقواهم، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وإِذنْ فليس هنا تفاوت بين النصوص، وإنما كل منها في ناحية. والله أعلم. ***

867 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ, وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ, إِلَّا حَائِكًا، أَوْ حَجَّامًا". رَوَاهُ الْحَاكِمُ, وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ, وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ (¬1)، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ. (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف جدًا. وقد روي من حديث ابن عمر، وعائشة، ومعاذ. قال الشيخ الألباني؛ إنَّ طُرَق الحديث أكثرها شديدة الضعف، فلا يطمئن القلب لتقويته بها، لاسيَّما وقد حكم عليه بعض الحفَّاظ بالوضع، ومنهم ابن عبد البر. * مفردات الحديث: - العرب: قال في الوسيط: العرب أمَّةٌ من النَّاس، سامية الأصل، كان منشؤها جزيرة العرب، جمعه أعراب، والنسب إليه عربي. - أكفاء: بفتح الهمزة، وسكون القاف: جمع كُفء، مثلَّث الكاف، والكُفْء: هو المثيل والنظير، قال في الميحط: الكفاءة حال يكون بها الزوج نظيرًا للزوجة. اهـ. فالمراد بالكفاءة في النكاح: المساواة بين الزوجين في أمورٍ مخصوصةٍ، منها النسب. ¬

_ (¬1) البيهقي (7/ 134)، وانظر: العلل لابن أبي حاتم (1/ 412، 423). (¬2) البزار (2677).

- الموالي: جمع مولى، وهو من انحدر من أصلٍ أعجمي. - حائكًا: حال الثوب يحوكه حوكًا وحياكة: نسجه، فالحياكة هي نسج الثياب، والحائك هو الذي ينسج الثياب، جمعه حاكة. - أو حجامًا: الحِجامة: امتصاص الدم بالمِحجم، والحجَّام محترِف الحجامة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على اعتبار الكفاءة في النكاح بالنسب، وأنَّ العرب بعضهم أكفاء بعض، بلا فرق بين قريش وبين غيرهم من بقية العرب. قال في شرح الإقناع: فلا يكون من ليس من العرب كفوءًا لعربية؛ لأنَّ العرب يعتبرون الكفاءة في النسب، ويأنفون من نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصًا وعارًا، ويؤيده حديث: "إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". 2 - قال علماء الدرعية: وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائزٌ إجماعًا، فقد زوَّج علي بن أبي طالب ابنته لعمر بن الخطاب، وكفى بهما أسوة. 3 - ويدل على أنَّ الموالي بعضهم أكفاء بعض، وأنَّهم غير أكفاء للعرب، وتقدَّم في المقدمة، النصوص وكلام العلماء في ذلك. 4 - ويدل الحديث على اعتبار الكفاءة في المهنة، فإنَّ الحائك والحجام والزبَّال ليسوا أكفاء لأصحاب الأعمال الرفيعة، والمناصب الكبيرة. 5 - هذا الحديث متكلَّمٌ فيه، فقد استنكره أبو حاتم، وقال الدارقطني: لا يصح، وقال ابن عبد البر: منكرٌ، موضوعٌ، وله طرقٌ كلُّها واهية. والحديث مع ضعفه، فإنَّه معارض بأحاديث أصح منه ستأتي إن شاء الله. 6 - الكفاءة معتبرة في حق الرجل دون المرأة، ففقد صفات الكفاءة في المرأة غير معتبر، والكفاءة هي الدين، والمنصب، والحرية، والصناعة غير المزرية، واليسار، ولا تعتبر في الأم؛ لأنَّ الولد إنما يشرُف بشرف أبيه، لا

بشرف أمه، فليست الكفاءة معتبرة في حق المرأة للرجل. 7 - الكفاءة معتبرة للزوم عقد النكاح، لا لصحته، وهي معتبرةٌ في خمسة أشياء: (أ) في الدين: بأداء الفرائض، واجتناب النواهي، فلا يكون الفاسق كفوءًا للعفيفة. (ب) النسب: فليس العجمي كفوءًا للعربية. (ج) الحريَّة: فليس العبد كفوءًا للحرَّة. (د) الصناعة: فليس الحجَّام والحائك والزبَّال أكفاءً لذوي الأعْمال الرَّفيعة. (هـ) اليسار: فليس الفقير المُعدم كفوءًا لذوي اليسار والغنى. فالكفاءة في هذه الأشياء شرط للزوم النكاح، فإن لم يرض أولياء المرأة بالزوج لعدم كفاءته انفسخ النكاح؛ لأنَّ العار عليهم، فقد أخرج أحمد، والنسائي، وابن ماجه، بسند رجاله رجال الصحيح، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت فتاة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إنَّ أبي زوَّجني ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها". وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لأمنعنَّ تزويج ذوات الأحساب إلاَّ من الأكْفَاء" [رواه الدارقطني]. وليست الكفاءة شرطًا لصحة النكاح لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس القرشية أن تنكح أسامة بن زيد، وهو مولى، وقد زوَّج أبو حذيفة -وهو من بني عبد مناف- ابنة أخيه لسالم وهو مولى لامرأة من الأنصار. [رواه البخاري]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فأنكحوه، إلاَّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض، وفسادٌ كبير"، وغير ذلك من الأدلة. واشتراط الكفاءة في لزوم النكاح دون صحته، هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، قال الموفق: وهو قول أكثر أهل العلم.

868 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "انْكِحِي أُسَامَةَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (¬1) 869 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَا بَنِي بَيَاضَةَ, أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ, وَانْكِحُوا إِلَيْهِ" وَكَانَ حَجَّامًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. (¬2) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المصنف -رحمه الله-: رواه أبو داود، والحاكم بسند جيد. كما حسَّنه المصنف في التلخيص الحبير، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - بني بياضة: بنو بياضة بن عامر بطن من بطون الخزرج، إحدى قبيلتي الأنصار، أصلهم من الأزد من قحطان. - أبا هند: أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي، واسمه عبد الله، وكان حجَّامًا حَجَم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - هذان الحديثان: الأوَّل صحيح، والثاني جيد الإسناد، وهما يعارضان ¬

_ (¬1) مسلم (1480). (¬2) أبو داود (2102)، الحاكم (2/ 164).

الحديث الذي قبلهما، من حيث اعتبار الكفاءة في النسب، ومن حيث الكفاءة في المهنة: فأسامة بن زيد الذي كان أصله عربيًّا، إلاَّ أنَّ الرق قد مس أباه، وهو يسري عليه؛ لأنَّه لُحمة كلُحمة النسب، قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس القرشية إحدى المهاجرات -مع فضلها، وجمالها، وشبابها، وكمال دينها، وعقلها- أن تنكح أسامة بن زيد المولى، مما يدل على عدم اعتبار الكفاءة في النسب، ولا فيما أصله الحريَّة، وأصله الرق. 2 - والحديث رقم (869) يدل على عدم اعتبار الكفاءة لا في النسب، ولا في المهنة. ذلك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر إحدى قبائل الأنصار، وهم القبيلة القحطانية الأزدية العربية أن يُنكِحُوا أبا هند، وهو من أحد موالي بني بياضة المذكورين، وكان مع ما مسَّه من الرق حجَّامًا، والحجامة عند العرب صناعة دنيئة. 3 - فهذان الحديثان يدلان على عدم اعتبار الكفاءة في النسب أو المهنة، وتدل النصوص الأخر على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق. قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، كلهم لآدم، وآدم من تراب". والأحاديث في هذه المسألة كثيرة. 4 - وهذا لا ينافي ما تقدَّم في المقدمة من بيان فضل العرب، وميزاتهم، وخصائصهم، وما جَبَلَهم الله تعالى وهيَّأهم له. فتلك أمور خُصُّوا بها، وامتازوا بها، وفَضَلُوا غيرهم بها، ولكنَّها لا

تجعل منهم طبقة مترفِّعةً على غيرها، ومتميزةً ترى لها من الحقوق أكثر من غيرها، وتتخلَّى عن التزاماتها الشرعية والعرفية، إنَّما هم وغيرهم في هذا سواء، كما أنَّهم أمام الله تعالى سواء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. 5 - قال شيخ الإِسلام: ولا يصح لأحد أن يُنكح موليته رافضيًّا، ولا من يترك الصلاة، ومتى زوَّجوه على أنَّه سني يصلي، ثم بان بخلافه فإنهم يفسخون نكاحه. وليس للعمِّ ولا غيره من الأولياء أن يزوج موليته بغير كفء إذا لم تكن راضية بذلك باتفاق الأئمة، وإذا فعل ذلك، استحق العقوبة الشرعية، التي تردعه وأمثاله عن ذلك. ***

باب الخيار

باب الخيار مقدمة الخيار: اسم مصدر، واسم المصدر هو ما خَلا مِن بعض حروف فعله، وساوى المصدر في الدلالة على الحدث. والخيار هو طلب خير الأمرين من إبقاء النكاح أو فسخه، وعقد النكاح من العقود اللازمة، التي لا خيار فيها ولا رجعة، وذلك لما روى أصحاب السنن من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث جدهنَّ جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة" فإذا تم عقد النكاح بالإيجاب والقبول، بعد أنْ توفرت أركانه وشروطه، لزم، ولم يبق لأحد من العاقدين خيار مجلس، ولا خيار شرط، ولا غيرهما من الخيارات، وإنما لكل من الزوجين خيار العيب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ولكن هناك أفراد مسائل، يطلب فيها اختيار أحد الزوجين، كما ستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى. والسبب -والله أعلم- في لزوم النِّكاح من حين العقد، وعدم الخيار فيه يرجع إلى أمرين: الأوَّل: أنَّهُ لا يتم العقد إلاَّ بعد مشاورةٍ وتروٍّ في الأمور، وسؤال كل واحدٍ من الزوجين عن الآخر، فلا حاجة إلى الخيار، كما يُحتاج إليه في البيع الذي يتكرر، وكثيرًا ما يقع فجأةً، بلا سابق فكرٍ وتأمُّل، فيحصل فيه غبن، ونحو ذلك، فجُعِل له الخيار.

الثاني: أنَّ الرجوع فيه بعد إتمامه، واختيار الفسخ بعد العقد، يُحدث سمعة عند الناس للطرفين سيئة، وتشعُّب الظنون، والتخرصات، كما يحصل بين الزوجين والأسرتين من النفرة والعداوة الشيء الكثير، والله أعلم. ***

870 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "خُيِّرَتْ بَرِيرَةُ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا -رضي الله عنها- "أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: "كَانَ حُرًّا". وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ (¬1). وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: "أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خُيِّرَتْ: مبني للمجهول، جعل لها الخيار بين بقائها مع زوجها، أو فسخ نكاحها حينما عتقت تحته، وهو عبد. - بَريرة: بفتح الباء، وكسر الرَّاء، كانت مولاة لبعض بيوت الأنصار، فاشترتها عائشة -رضي الله عنها- منهم، وأعتقتها لها؛ فهي مولاة لها. - كان عبدًا: اسمه مُغِيث -بضم الميم وكسر الغين المعجمة- وكان عبدًا مشتَرَكًا بين جماعةٍ من قريش. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرقيق ناقص المعنوية، مملوك التصرف، هو وما ملك لسيده، فإذا عتَقَ وَجَد كماله من جديد، فأصبح حرًّا مالكًا لأعماله، مستفيدًا من جهده، لا ¬

_ (¬1) البخاري (5097)، مسلم (1504). (¬2) البخاري (9/ 406 فتح).

يسيطر عليه أحد. فإذا عتقت الرقيقة، وهي زوجةٌ لرقيق، صارت أفضل منه، وأكمل منه، وفُقِدت الكفاءة الزوجية بينهما، حيث أصبحت حرَّةً وهو رقيق، فحينئذٍ صار لها الخيار بأن تبقى عند زوجها، وإن كان رقيقًا؛ لأنَّ الاستدامة أقوى من الابتداء، أو تفسخ نكاحها منه. 2 - وهذه قصة بريرة مولاة عائشة، كانت عند زوجها مُغيث، فأعتقتها عائشة -رضي الله عنها- فأعلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكم؛ وخيَّرها بأن تبقى مع زوجها، أو تفسخ نكاحها، فاختارت الفسخ على بقائها معه. 3 - مذهب الإمام أحمد فيه روايتان في الكفاءة: إحداهما: أنَّ الكفاءة شرطٌ للزوم النكاح، لا لصحة النكاح مع فقدها؛ لأنَّها حقٌّ للأولياء، وهذه الرواية هي المشهور من المذهب عند المتأخرين. والرواية الأخرى: أنَّها شرطٌ لصحة النِّكاح، فلا يصح النِّكاح مع فقدها، وهدذه الرواية هي المذهب عند المتقدمين من أصحاب أحمد، والحديث دليل للرواية الأولى، التي هي المشهور من المذهب؛ لأنَّه لو كان لا يصح مع فقدها، ما خيَّرها بالفسخ أو البقاء، ولفَسخَها بالحال. 4 - قال ابن القيم: إنَّ مأخذ تخييرها أنَّ السيد عقد عليها بحكم الملك، حيث كان مالكًا لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضي ملك الرقبة والمنافع للمعتَق، وهذا مقصود العتق وحكمته، فإذا ملكت رقبتها، ملكت بُضْعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البُضْع، فلا يُملك عليها إلاَّ باختيارها أحد الأمرين: البقاء تحت الزوج، أو الفسخ منه. 5 - وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة: "ملكْتِ نفسك فاختاري". 6 - جواز بيع أحد الزوجين الرقيقين دون الآخر.

7 - أنَّ بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقًا لها. 8 - أنَّ عتقها لا يكون طلاقًا، ولا فسخًا. 9 - أنَّ الكفاءة معتبرة في الحريَّة، ولكنها شرطٌ للزوم النكاح لا لصحته. 10 - فضيلة الحرية على الرق، وفضل الحر على الرقيق. 11 - أنَّ المتعيِّن على القاضي والمفتي، تبيين الحكم الذي يجهله الخصم أو المستفتي، إذا كان يترتب على إخباره حكمٌ شرعيٌّ يستفيد من معرفته. 12 - أنَّ التخيير في الأمور إذا كان لَحظِّ المختار وحده، راجعًا إليه، فيختار ما يشاء، بخلاف ما إذا كان الخيار لمصلحة غيره، فيجب عليه اختيار الأصلح. ***

871 - وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ, عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ, وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبَّان، وصحَّحه من حديث فيروز الديلمي، وقد أعلَّه العقيلي وابن القيم، لكن صحَّحه البيهقي والدارقطني. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وله طرق كثيرة تعضده، والآية الكريمة خير عاضد في ذلك. قال تعالى عند ذكر المحرَّمات: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيروز الديلمي اليماني أسلم وعنده زوجتان، هما أختان، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختار منهما واحدة، لتبقى له زوجة، ويطلق الأخرى؛ لأنَّه لا يجوز الجمع بين الأختين. قال ابن رشد: اتَّفق المسلمون على أن لا يُجمع بين الأختين بعقد نكاح، ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 232)، أبو داود (2243)، الترمذي (1129)، ابن ماجه (1951)، ابن حبان (1376)، الدراقطني (3/ 273)، البيهقي (7/ 184).

سواء كانت الأخوَّة بنسب أو رضاع، حُرَّتَيْنِ أو أمَتَيْن، أوْ إحداهما أَمَة، قبل الدخول أو بعده، قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] يعني إلاَّ ما كان من أمر الجاهلية. قال السيوطي: ويلحق بالأختين ما جاء في السنة من النَّهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. قال الوزير: أجمعوا على أنَّه لا يجوز أن يتزوَّج بكل واحدة، ممَّن يحرم عليه الجمع بينها، وبين المعتدة منه، إذا كنَّ معتدات من طلاق رجعي، أو بائن. كما أجمعوا على أنَّ عمَّة العمَّة تنزل في التحريم منزلة العمة، إذا كانت العمة الأولى أخت الأب لأبيه. وأجمعوا على أنَّ خالة الخالة تنزل في التحريم منزلة الخالة، إذا كانت الأولى أخت الأم لأمها. 2 - قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أنَّ الرجل إذا طلَّق زوجته طلاقًا يملك به رجعتها، أنَّه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدَّة المطلقة. واختلفوا إذا طلَّقها طلاقًا لا يملك به رجعتها: فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدَّة التي طلق؛ وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وجماعة من السلف. وقالت طائفة: له أنْ ينكح أختها، وهو مذهب الشَّافعي ومالك، وجماعةٍ من السلف. وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان الطلاق رجعيًّا، لم يكن له تزوج الأخرى عند عامة العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة. وإنما تنازعوا إذا كان الطلاق بائنًا، فالجواز عند مالك والشافعي، والتحريم عند أبي حنيفة وأحمد. ***

قال الشيخ عبد الله أبابطين: نكاح المرأة في عدَّة أختها ونحوها، ونكاح خامسة في عدة رابعة إن كان الطلاق رجعيًّا: باطل عند جميع العلماء، وإن كانت العدة من طلاق بائن، ففيه خلاف، والمذهب التحريم. 3 - الحديث يدل على اعتبار أنكحة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وأنَّها صحيحة، ولو أسلموا عليها، وأنَّها كأنكحة المسلمين، فيما يجب فيها من صداقٍ، ونفقةٍ، وقَسْمٍ، وإحصانٍ، ووقوع طلاقٍ، وظهارٍ، وإيلاءٍ، ولحوق النسب، وثبوت الفراش، والإرث، وغير ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأبعة. قال تعالى: {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11]، وقال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)} [المسد]. وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة. قال شيخ الإِسلام: معنى صحة نكاحهم حل الانتفاع إذا أسلموا، وإن لم يسلموا عوقبوا عليها، فيكون الإِسلام هو المصحح لها، كما أنَّه المسقط لقضاء ما وجب عليهم من العبادات، أمَّا إذا كانوا مقيمين على الكفر، فمعنى الصحة إقرارهم على ما فعلوا، فمعنى الصحة في أحكامهم غير معناها في عقود المسلمين. فإذا تقرَّر صحة نكاحهم، فإنَّها إن حلَّت الزوجة وقت الإِسلام، أو الترافع إلينا، كعَقْدهِ في عدة فرغت، أو على أخت زوجة ماتت، أو كان العقد قد وقع بلا صيغة، أو ولي، أو شهود -فالزوجان على نكاحهما. وأما إن كانت الزوجة ممَّن لا يجوز ابتداء نكاحها حال الإِسلام، أو الترافع، كذات محرم أو معتدة لم تَنْقَض عدَّتها، أو مطلقته ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا غيره -فُرِّق بينهما؛ لأنَّ ما منع ابتداء العقد منع استدامته من باب أولى.

4 - أنَّ المرأة لا تخرج عن عصمة الزوج بعد الإِسلام إلاَّ بطلاق ونحوه، فالنكاح يبقى بعد الإِسلام بلا تجديد عقد. وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. أما الحنفية، فلا يقر عندهم من النكاح، إلاَّ ما وافق الإِسلام، وظاهر الحديث يشهد لقول الجمهور. ***

872 - وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- "أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ، وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ, فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ, فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالتِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَالحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ, وَأَبُو زُرْعَةَ, وَأَبُو حَاتِمٍ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح لغيره. أخرجه الشافعي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طرق عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر. قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: هذا حديث غير محفوظ. وقال في التلخيص: وحكم الإمام مسلم على معمر بالوهم فيه، وحكى الحاكم عن مسلم أنَّ هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة. قال أحمد: هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعلَّه بتفرد معمر بوصله، وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. قال الحافظ بعد أن ذكر الحديث من طريق النسائي بإسناده: ورجال إسناده ثقات، ومن هذا الوجه أخرجه الدارقطني. قلتُ: فهو شاهد جيد، ودليل قوي على أنَّ الحديث موصول عن سالم عن ابن عمر، ثم قال الحافظ: واستدل به ابن القطان على صحة حديث معمر. قال ابن كثير: روى الحديث الشافعي وأحمد، وهذا الإسناد رجاله ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 13)، الترمذي (1128)، ابن حبان (1377)، الحاكم (2/ 192).

رجال الشيخين، وقد جمع الإمام في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند. وقال الأثرم عن أحمد: هذا الحديث غير صحيح، والعمل عليه. قال الألباني: وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع طرقه عن سالم عن ابن عمر، وقد صحَّحه ابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وابن القطان، وفي معناه أحاديث أُخَر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ نهاية ما يباح للحر جمعه من الزوجات هو أربع زوجات، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. قال الشوكاني في تفسيره: استدلَّ بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وهو خطاب لجميع الأمة، وأنَّ كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد. 2 - يدل الحديث على أنه لو أسلم رجل ممَّن يبيحون الزيادة على أربع زوجات، فإنَّه يؤمر أن يختار منهن أربعًا، ويطلق الباقيات؛ لأنَّ الأربع نهاية عدد الحر المسلم. 3 - يدل الحديث على اعتبار أنكحة الكفار، وأنَّها تبقى على حالها بلا تفتيش عن صفة ما عقدت عليه في كفرهم. هذا إذا كانت أنكحتهم حال إسلامهم، أو حال ترافعهم إلينا حلالًا، أما إذا كانت حال الترافع، أو إسلامهم لا يجوز ابتداؤها كذات مَحرم، أو معتدة لم تَنْقض عدَّتها، فُرِّق بينهما؛ لأنَّ ما منع ابتداء العقد منع استدامته، وقد تقدم. 4 - والدليل على اعتبار أنكحتهم عند الإِسلام أو الترافع بشرطه، هو أنَّه لم يؤمر بتجديد العقد لمن اختار الدخول في الإِسلام، وأنَّه أمر أن يطلق التي لم يختر منهنَّ، فهذا دليل على اعتبار العقد.

873 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "رَدَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ, بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ, وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: صحَّحه الإمام أحمد، والحاكم، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي، والحاكم، والبيهقي، من طرق عن محمَّد ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قِبَلِ داود بن حصين من قبل حفظه. قال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير، ومع ذلك صحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، ومِن قبله الإمام أحمد. وروى ابن سعد عن عامر قال: قدم أبو العاص وقد أسلمتِ امرأته زينب، ثم أسلم بعد ذلك، وما فرَّق بينهما، وإسناده مرسل صحيح، ثم روى نحوه عن قتادة، والإسناد صحيح مرسل. فالحديث بهذين الإسنادين المرسلين صحيح، كما قال الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) أحمد (1876)، أبو داود (2240)، الترمذي (1143)، ابن ماجه (2009)، الحاكم (2/ 200).

874 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ, عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنهم- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَجْوَدُ إِسْنَادًا, وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والطحاوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو ضعيف، وعلته الحَجَّاج، فإنَّه كان مدلسًا. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: هذا حديثٌ ضعيف، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنَّما سمعه من محمَّد بن عبيد الله العرزمي، ولا يساوي حديثه شيئًا، والحديث الصحيح أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقرَّهما على النكاح الأول. وقال البيهقي والدارقطني: هذا حديث لا يثبت، وحجَّاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس. قال البخاري: إنَّ حديث ابن عباس أجود منه وأصح. وضعَّف حديث عمرو بن شعيب كل من الترمذي، والخطابي، والبيهقي، والمجد ابن تيمية. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 207)، الترمذي (1142)، ابن ماجه (2010).

875 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجَتْ, فَجَاءَ زَوْجُهَا, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ, وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي, فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ زَوْجِهَا الآخَرِ, وَرَدَّهَا إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان، من طريق سِماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال الترمذي: حديث صحيح، ورواه ثلاثة عن سماك بن حرب وهم: 1 - عبيد الله بن موسى، أخرجه ابن الجارود، والبيهقي، من طريق الحاكم، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي. 2 - سليمان بن معاذ العنبري عن سماك به مثل حديث وكيع، أخرجه الطيالسي، وعنه البيهقي. 3 - عبد الرزاق في المُصنف. وإسناده ضعيف؛ لأنَّ مداره على سِماك عن عكرمة. قال الحافظ: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصةً مضطربة. ¬

_ (¬1) أحمد (2059)، أبو داود (2238)، الترمذي (1144)، ابن ماجه (2008)، ابن حبان (1280)، الحاكم (2/ 200).

* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أكبر بناته -رضي الله عنهنَّ- وكانت زوجة لأبي العاص بن الربيع، فأسلمت، وهاجرت قبل إسلام زوجها وهجرته، فلما أسلم، وهاجر، ردَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه. 2 - حديث ابن عباس وهو رقم (873) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ردَّ ابنته زينب على زوجها أبي العاص بعد ست سنين من فراقهما بالنكاح الأول، وأنه لم يُحدِث نكاحًا جديدًا بينهما. أما حديث عمرو بن شعيب: وهو رقم (874) ففيه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ردَّ ابنته زينب على أبي العاص بنكاح جديد. 3 - كلام العلماء عن الحديثين: قال الترمذي: حديث ابن عباس حسن، وليس بإسناده بأس، وإسناده أجود من حديث عمرو بن شعيب. أما حديث عمرو بن شعيب فقال الإمام أحمد: ضعيف، والصحيح حديث ابن عباس، وهكذا قال البخاري، والترمذي، والبيهقي، وحكاه عن حفَّاظ الحديث. وقال ابن عبد البر: حديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول. 4 - إذا أسلم الزوجان معًا بأنَّ تلفَّظا بالإِسلام دفعةً واحدةً، بقي نكاحهما بإجماع أهل العلم؛ لأنَّه لم يوجد منهما اختلاف دين. وإن أسلم زَوْج كتابية بقي أيضًا على نكاحه؛ لأنَّ للمسلم ابتداء نكاح الكتابية، فاستدامته واستمراره أقوى وأولى. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه إن أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول، بَطَلَ النكاح، وأنَّ الكتابية إذا أسلمت، وهي تحت كافر غير كتابي،

انفسخ النكاح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ من أهل العلم. وأما إذا أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الأول، وكان بعد الدخول، وُقِف الأمر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم الثاني قبل انقضائها، فهما على نكاحهما. والأظهر لنا: أنَّ الفرقة بينهما وقعت حين أسلم الأول، وإذن: فلا نكاح بينهما، وهذا قول جمهور العلماء، والمشهور عند أحمد. وذلك لحديث عمرو بن شعيب أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "ردَّ ابنته على أبي العاص بنكاح جديد" فهذا عمدة الجمهور. والرواية الآخرى عن الإمام أحمد: أنَّها ترد إليه، بدون عقد جديد، وإن طالت المدة، وانقضت العدة، ما لم تتزوج، لما روى ابن عباس "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ردَّ ابنته علي أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يُحدِث نكاحًا"، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، وصحَّحه أحمد. والحديث رقم (875) من أدلة هذه الرواية عن أحمد، فإنَّ هذه المرأة تزوجت بعد أن أسلم زوجها، وإسلامه قبل زواجها يعتبر بقاء لنكاحهما الأول، ويكون زواجها الثاني باطلًا، ولذَا فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- انتزعها من الثاني، ولم يأمره بطلاقها، وردَّها إلى زوجها الأول بدون تجديد عقد بينهما، وحديث ابن عباس أجود إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. واختار الشيخ تقي الدين بقاء النكاح بين الزوجين إذا أسلمت قبله، سواء كان الإِسلام قبل الدخول، أو بعده، ما لم تنكح زوجًا غيره. وقال ابن القيم: إنَّ أحد الزوجين إذا أسلم قبل الآخر، لم ينفسخ النكاح بإسلامه، فرَّقت الهجرة بينهما أو لم تفرق، فإنَّه لا يعرف أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جدَّد نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قط، ولم تزل الصحابة يُسلم الرجل قبل امرأته، أو تسلم قبله، ولم يعلم عن أحد منهم البتة أنَّه تلفظ بإسلامه هو

وامرأته حرفًا بحرف، هذا مما لم يقع البتة، وقد ردَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع وهو قد أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة. وأما قوله: "كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين" فوَهَم، إنَّما أراد بين هجرتها وإسلامه. وتحريم المسلمات على المشركين بقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] إنَّما نزل بعد الحديبية، ولما نزل التحريم أسلم أبو العاص فردت إليه. وأما اعتبار زمن العدة فلا دليل عليه من نصٍّ ولا إجماعٍ، ولا ريب أنَّ الإِسلام لو كان بمجرده فرقة لم تكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا يكون أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير، وأما تنجيز الفرقة، أو مراعاة العدة، فلا نعلم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بواحدةٍ فيهما، مع كثرة من أسلم في حياته من الرِّجال. وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخلَّال، وأبي بكر عبد العزيز، وابن المنذر، وابن حزم، وبه قال حماد، وسعيد بن جبير، وعمر ابن عبد العزيز، والشَّعبي، وغيرهم، وتقدَّم أنَّه اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمهم الله جميعًا-. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الذي حقَّقه الدليل، أنَّه إذا أسلم أحد الزوجين، وتأخَّر إسلام الآخر، فإن أسلم المتخلف في العدة، فهما على نكاحهما، وإن انقضت العدة جاز للزوجة أن تتزوج، فإنْ لم تتزوج وأسلم الزوج بعد ذلك وأرادها واختارته، ردَّت إليه بغير نكاح. وقال الشيخ تقي الدين: إذا ارتد الزوج ولم يعُد إلى الإِسلام حتى انقضت عدَّة امرأته، فإنَّها تبين منه عند الأئمة الأربعة، وإن طلَّقها بعد ذلك لم

يقع طلاقه، فإن عاد إلى الإِسلام فله أن يتزوجها. وقال شيح تقي الدين أيضًا: الكافر إذا أسلمت امرأته فالمسألة فيها أقوال: أحدها: أنَّها إذا خرجت من العدة فلها أن تتزوج، فإن أسلم قبل أن تتزوج ردت إليه، فالأحاديث تدل على هذا القول، ومنها: حديث زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ الثابت في الحديث أنَّه ردَّها بالنكاح الأول بعد ست سنين. ومنها: ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس قال: كانت إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهَّرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجُها قبل أن تنكح رُدَّت إليه. * قرار المجمع الفقهي الإِسلامي بشأن حكم تزيج الكافر بالمسلمة، وتزوج المسلم بالكافرة: إنَّ مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي بعد أن اطَّلع على اعتراض الجمعيات الإِسلامية في سنغافورة وهي: (أ) جمعية البعثات الإِسلامية في سنغافورة. (ب) بيراينز. (ج) المحمَّدية. (د) بيرتاس. (هـ) بيرتابيس. على ما جاء في ميثاق حقوق المرأة من السماح للمسلم والمسلمة بالتزوج ممن ليس على الدين الإِسلامي، وما دار في ذلك، فإنَّ المجلس يقرر بالإجماع ما يلي: أولًا: إنَّ تزوج الكافر للمسلمة حرام، لا يجوز باتفاق أهل العلم، ولا شكَّ فى ذلك لما تقتضيه نصوص الشريعة، قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، وقال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]، والتكرير في قوله تعالى:

{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] للتأكيد والمبالغة بالحرمة، وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك، وقوله تعالى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] أمر أن يعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت، فلا نجمع عليه خسران الزوجية والمالية، فإذا كانت المرأة المشركة تحت الزوج الكافر، تحرم عليه بإسلامها، ولا تحل له بعد ذلك، فكيف يقال بإباحة ابتداء عقد نكاح الكافر على المسلمة، بل أباح الله نكاح المرأة المشركة بعدما تسلم، وهي تحت رجل كافر لعدم إباحتها له بإسلامها، فحينئذ يجوز للمسلم تزوجها بعد انقضاء عدتها، كما نص عليه قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. ثانيًا: وكذلك المسلم لا يحل له نكاح مشركة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ولقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وقد طلَّق عمر -رضي الله عنه- امرأتين له كانتا مشركتين، لما نزلت هذه الآية. وحكى ابن قدامة الحنبلي أنَّه لا خلاف في تحريم نساء الكفار غير أهل الكتاب على المسلم. أما النساء المحصنات من أهل الكتاب، فيجوز للمسلم أن ينكحهن لم يختلف العلماء في ذلك، إلاَّ أنَّ الإمامية قالوا بالتحريم، والأولى للمسلم عدم تزوجه من الكتابية، مع وجود الحرَّة المسلمة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: يكره تزوجهن مع وجود الحرائر المسلمات، قال في الاختيارات: وقاله القاضي، وأكثر العلماء؛ لقول عمر -رضي الله عنه- للذين تزوَّجوا من نساء أهل الكتاب "طلِّقوهن"، فطلقوهن إلاَّ حذيفة امتنع عن طلاقها، ثم طلَّقها بعد؛ لأنَّ المسلم متى تزَّوج كتابيةً، ربَّما مال إليها قلبه ففتنته، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها، والله أعلم.

باب العيوب في النكاح

باب العيوب في النكاح مقدمة العيوب: جمع عيب، والقصد: بيان العيب الذي يثبُت به الخيار، والعيب الذي لا يثبت به خيار. والعيوب من حيث هي تنقسم إلى قسمين: أحدهما: عيوب جنسية تمنع الاستمتاع، كالجب، والعُنَّة، والخِصَاء في الرَّجل، والرَّتَق، والقَرَن، والعَفَل في المرأة. الثاني: عيوب لا تمنع الاستمتاع، ولكنها أمراضٌ منفِّرةٌ من كمال العِشرة، بحيث لا يمكن معها بقاء الزوجية إلاَّ بضرورة، ذلك كالجنون، والبَرص، والزُّهري، والأمراض المُعْدِيَة. أمَّا من حيث انقسام العيوب بين الزوجين، فهي تنقسم إلا ثلاثة أقسام: أحدها: خاص بالرجل، الجب: وهو قطع الذكر، حتى لا يبقى منه ما يكفي للجِماع، والعُنَّة، والخِصاء، وهو قطع الخصيتين. الثاني: خاص بالمرأة، وهو الرَّتق: أن يكون فرجها مسدودًا بأصل الخلقة، والقرَن، والعفل: ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة ممَّا يسبب ضيق فرجها، فلا يسلك فيه الذكر. الثالث: مشتركٌ بين الجنسين، وهذا هو الجنون، والجذام، والبرص، وسيلان بول، أو غائط، وباسور، وناسور. وقال ابن القيم: الصحيح أنَّ النكاح يُفْسخ بجميع العيوب، كسائر

العقود؛ لأنَّ الأصل السلامة، فكانت هذه الشروط في العقد نقص شيء من الأشياء، كالأطراف، أو العمى، أو الخرس، أو الطرش، وكل عيبٍ ينفِّر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة، فإنَّه يوجب الخيار. قال في الإنصاف: وما هو ببعيد. قال الشيخ تقي الدين: ولو بان الزوج عقيمًا، فقياس قولنا: ثبوت الخيار للمرأة؛ لأنَّ لها حقًّا في الولد، فالصحيح: أنَّ كل عيبٍ نَفَر منه أحد الزوجين، فلمن لم يرض به الخيار في الفرقة. ***

876 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَالِيَةَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ, فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَوَضَعَتْ ثِيَابَهَا, رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْبَسِي ثِيَابَكِ, وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ, وَفِي إِسْنَادِهِ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي شَيْخِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أحمد بسنده إلى كعب بن زيد، أو زيد بن كعب، فذكر الحديث. قال الألباني: وجملة القول أنَّ الحديث ضعيف جدًّا؛ لأنَّ فيه جميل بن زيد، وقد تفرَّد به، وقد أكثر العلماء من الطعن في جميل بن زيد، فقال البخاري: لا يصح حديثه، وقال ابن عدي: ليس بثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال البغوي: ضعيف الحديث؛ ولأجل اضطرابه فقد قال الحافظ: اضطرب كثير على جميل بن زيد، وقد صحَّ الحديث بلفظٍ آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري: "أنَّ ابنة الجون لما دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عُذْت بعظيم، الحَقِي بِأَهلِكِ". * مفردات الحديث: - عُجْرَة: بضم العين، وسكون الجيم المعجمة، وكعب بن عجرة صحابيٌّ، ¬

_ (¬1) الحاكم (4/ 34).

أصله من قبيلة بلى، فحالف الأنصار، فعُدَّ منهم بالحلف، وقال الواقدي: إنَّه من الأنصار. - غِفَار: بكسر الغين المعجمة، غفار: قبيلة من قبائل عدنان، هم بنو غفار بن مليل بن صخرة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنازلهم قرب مكة. - كَشْحهَا: بفتح الكاف، وسكون الشين المعجمة، فحاء مهملة، هو بين الخاصرة والضلوع. - بياضًا: المراد به البرص، وهو مرض يحدث في الجسد بياضًا. - الحَقِي بِأهلِك: هذه الصيغة من كنايات الطلاق الظاهرة، يقع بها الطلاق مع نيته، أو قرينة تدل على إرادة الطلاق. ***

877 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً, فَدَخَلَ بِهَا, فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ, أَوْ مَجْنُونَةً, أَوْ مَجْذُومَةً, فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا, وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا" أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ, وَمَالِكٌ, وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا: عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- نَحْوَهُ, وَزَادَ: "وَبِهَا قَرَنٌ, فَزَوْجُهَا بِالخِيَارِ, فَإِنْ مَسَّهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا" (¬2). وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا قَالَ: "قَضَى عُمَرُ -رضي الله عنه- فِي العِنِّينِ, أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الحافظ: رجاله ثقات، وهو موقوف على عمر -رضي الله عنه-. وأخرجه مالك، والدارقطني، وابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: فذكره، ورجاله ثقات، فهم رجال الشيخين، لكنَّه منقطع بين سعيد بن المسيب رحمه الله، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ورواية علي رجالها ثقات، إلاَّ أنَّ الشعبي لم يسمع ¬

_ (¬1) سعيد بن منصور (1/ 212)، مالك (2/ 526)، ابن أبي شيبة (2/ 4). (¬2) سعيد بن منصور (1/ 213). (¬3) ابن أبي شيبة (2/ 4).

من علي -رضي الله عنه- ولكن صحَّ عن ابن مسعود بلفظ: "يؤجل العنين سنة، فإن جامع وإلاَّ فُرِّقَ بينهما" رواه ابن أبي شيبة (2/ 4) بسند صحيح. * مفردات الحديث: - بَرْصَاء: بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء، ممدود، هو بياضٌ في الجسد يكون من أثر علَّة. - مجنونة: الجنون: زوال العقل، أو فساده. - مجذومة: الجُذَام بضم الجيم، علَّة تتآكل منها الأعضاء وتتساقط، وهو من الأمراض المُعدية. - مَسِيسِه: كنايةٌ عن الجماع واستمتاعه بها، كما جاء في الرواية الآخرى: "فإن مسَّها، فلها المهر بما استحلَّ من فرجها". - مَن غرَّه بها: من خدعه وغشَّه بها. - قَرَن: بفتح القاف، وسكون الراء وفتحها، آخره نون، هو ورمٌ مدور، يخرج من رحم المرأة، فيكون بين مسلكيها يمنع الجِمَاع أو كماله. - العِنِّين: العُنَّة عجزٌ يصيب الرَّجل، فلا يقدر على الجماع؛ لعدم انتشار ذكره، وهو مأخوذٌ من عنَّ الشيء إذا اعترض؛ لأنَّ ذكره يعن إذا أراد إيلاجه. - يؤجَّل: بالبناء للمفعول من التأجيل، أي يُمهل، ويؤخَّر سنة؛ ليبين أمره بمرور الفصول الأربعة. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يفيدان صحة عقد النكاح، مع وجود العيب في أحد الزوجين، ولو لم يعلم عنه الزوج الآخر، ذلك أنَّ العيب لا يعود على أصل العقد، ولا على شرط من شروط صحته. 2 - ويفيد أنَّ إثبات خيار العيب للزوج الذي لم يعلم بعيب صاحبه إلاَّ بعد العقد، ولم يرض به العقد، فيثبت له حق فسخ النكاح.

3 - الفسخ إن كان قبل الدخول فلا مهر للزوجة المعيبة، ولا متعة لها، سواء أكان الفسخ منه أو منها؛ لأنَّ الفسخ إن كان منها، فقد وُجِدت الفرقة من قِبلها، وإن كان منه، فإنَّما فسخ لعيبها الذي دلَّسته عليه، وإن كان الفسخ بعد الدخول أو الخلوة، فلها المهر؛ لأنَّه استقرَّ بالدخول، ولكنه يرجع به الزوج على من غرَّه من زوجةٍ عاقلةٍ، أو ولي، أو وكيلٍ. 4 - الحديثان فيهما أنواعٌ من العيوب هي: البرص، والجذام، والجنون. 5 - جمهور العلماء يحصرون العيوب في النكاح في نوعين: أحدهما: عيوبٌ تمنع الوطء، ففي الرَّجل جب ذكره، وقطع خصيته، وعُنَّته، وفي المرأة الرَّتَق والقَرَن والعَفَل. الثاني: عيوبٌ منفِّرة، أو مُعدية، وهي الجُذام، والبَرص، والجنون، والباسور، والناسور، والقروح السيالة في الفرج، فجمهور العلماء يقصرون عيوب النكاح على هذين النوعين، والاختلاف بينهم يسيرٌ في اقتصار بعضهم على بعضها، أو اعتبارها كلها عيوبًا. 6 - قوله: "أيما رجل" ليس له مفهوم، فالرجل إذا وجد الزوجة معيبة فله الفسخ، والزوجة إذا وجدت الرجل معيبًا فلها الفسخ أيضًا. 7 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الصحيح أنَّ العُقم عيب؛ فإنَّ أهم مقاصد المرأة من النكاح تحصيل الولد، والمتبادر أن لا تكون الزوجة كالرجل لفروق؛ لأنَّ له التزوج بأخرى، ويبقيها معه. 8 - أما ابن القيم فيرى أنَّ كل عيب ينفر منه الزوج الآخر، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة والألفة، فإنه يوجب الخيار، وأنه أولى من البيع الذي يجيز للمشتري الفسخ بكل عيب ينقص قيمة البيع، فمن تدبر مقاصد الشرع، وعدله، وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح، لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول، وقربه في قواعد الشريعة.

أما الاقتصار على عيبين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة، أو ثمانية، دون ما هو أولى منها، أو مساويها، فلا وجه له، فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين والرجلين، أو إحداهما من أعظم المنفرات، والسكوت عن بيانه من أقبح التدليس والغبن، وهو مخالف للدين، وهذا القول قال به الثوري، وشريح، وأبو ثور، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. 9 - أنَّ العيب إذا لم يعلم به إلاَّ بعد الدخول أو الخلوة، فإنَّ لها الصداق كما هو صريح الحديثين؛ لأنَّه استقرَّ بالدخول؛ لقوله: "بمسيسه إيَّاها"، وبقوله: "فإن مسَّها، فلها المهر بما استحلَّ من فرجها"، ولكنه يرجع به على من غرَّه بالعيب. 10 - لابدَّ للتفريق بالعيب من أمور: أولًا: طلب صاحب المصلحة ودعواه؛ فإنَّ الحق له وحده، فلا يفسخ إلاَّ بطلبه. ثانيًا: الفسخ بالعيب مختلَف فيه بين العلماء، فلا ينظر فيه ولا يفسخه إلاَّ حاكم. ثالثًا: ثبوت العيب بأحد وسائل الإثبات. رابعًا: إذا ثبتت عُنَّة عند الزوج، أُجِّل سنة هلالية؛ لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن مرَّت عليه، ولم تزُلْ عُنَّتُهُ، عُلِم أنَّ ذلك خِلقة، فيفسخ النكاح. ***

باب عشرة النساء

باب عِشرة النساء مقدمة العِشرة: بكسر العين وسكون الشين المعجمة، هي المخالطة والمصاحبة من العشيرة، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]. وشرعًا: هي ما يكون بين الزوجين من الألفة، والوِئام، والمحبَّة، وحُسن الصُّحبة والعِشرة، وقد جاء الحث عليها، والأمر بها، والترغيب فيها، بنصوص الكتاب العزيز، والسنة المطهَّرة: قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". أما حقه عليها فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، وقال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أَمَرْت أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها". فيلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، فلا يمطله حقه، ولا يتكره لبذله، ولا يُتْعبه أذًى ومِنة، فيحرم المطل بما يلزم والتكره، ويجب بذل الواجب والحق المشروع. قال الشيخ تقي الدين: حقوق الزوج على زوجته أن تجله وتوقره، وأن تعاشره بالحسنى، وأن تطيعه في غير معصية الله، وأن تُجيب مطالبه العادلة، ورغباته الممكنة، وأن تشاركه في أفراحه وأتراحه، وأن تحفظه في نفسها

وماله، وأن تصون بيته، فلا تُدْخله أجنبيًّا، ولا تخرج منه إلاَّ بإذنه، وأن لا تتزيَّن لسواه، وتتجنَّب ما يغضبه، وأن لا تلح عليه في طلب مرهق. وأن تحافظ على كرامة أهله، وأن تقوم بخدمة أولادهما، وأن تعينه على ما أمكن عند مرضه أو عجزه، وأن لا تُنكر خيره وبره. وأما حقوق الزوجة على الزوج فأن يعاشرها بالمعروف، ويعاملها بالإحسان، ويحفظ حرمتها، ويراعي راحتها وفطرتها، ويعينها في خدمة بيتها، ويشاركها في سرورها وحزنها، ويقابلها بطلاقةٍ وبشاشةٍ، ويخاطبها برفقٍ ولينٍ، ويوسِّع في الإنفاق عليها، ويصون شعورها، ويرعى أهلها، ويحفظ كرامتها، ولا يمنعها عنهم، ولا يكلِّفها من الأمور ما لا تطيق، ولا يحرمها ما تطلب من الممكنات المباحة، ويشركها في المصالح المشتركة، ويعلِّمها إن جهلت طاعة الله، أو أهملت، ويحلم إن غضبت، ولا يحرمها حقًّا مشروعًا لها، ويرعى حريَّتها ضمن نطاق الشرع والدين، ويتحمَّل الأذى عنها، ويُعنَى بمداواتها إن مرضت. ***

878 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ, وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ, وَلَكِنْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الشافعي، وقوَّاه، وأخذه عنه البيهقي، والطحاوي، والخطابي، وسنده صحيح، وله طريق أخرج جيِّدة، كما قال المنذري، وهذه الطرق عند النسائي، والطحاوي، والبيهقي، وابن عساكر، وصحَّحه ابن حبان، وابن حزم، ووافقهما الحافظ في فتح الباري. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2162)، النسائي في الكبرى (9015).

879 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَأُعِلَّ بِالوَقْفِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. هذا الحديث بلفظه جاء من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، منهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والبراء، وأنس وأبو ذر، وعقبة بن عامر، وعلي بن طلق، وطلق بن علي. وهذه الطرق كلها فيها كلام، ولكن مع كثرة الطرق، واختلاف الرواة، يشدُّ بعض طرقها بعضًا، فهو حسن أو صحيح، وقد احتجَّ به ابن حزم. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يدل الحديثان على تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وإلى هذا ذهبت الأمة، لقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، ولهذين الحديثين اللَّذين استفاضت طرقهما، ولأنَّ الأصل في الفروج الحرمة إلاَّ ما أمر الله به، وأذن فيه. 2 - أما الاستمتاع من الزوجة بما دون دبرها من جسدها فهو جائز، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض". وأمره -صلى الله عليه وسلم- عائشة بالاتزار للمباشرة وقت الحيض اتقاءٌ للفرج. ¬

_ (¬1) الترمذي (1165)، النسائي في الكبرى (9001)، ابن حبان (4203).

3 - فالحديثان يدلان على أنَّ إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب؛ لأنَّ اللَّعن لا يكون إلاَّ على كبيرة. 4 - قال ابن القيم في الطب النبوي ما خلاصته: دلَّت الآية الكريمة على تحريم الوطء في دبرها من وجوه: أحدها: أنَّه أباح إتيانها في موضع الولد؛ فقال تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] لا في الحشِّ الذي هو موضع الأذى. الثاني: للمرأة حق على الزوج في الوطء، والوطء في دبرها يفوتها حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصِّل مقصودها. الثالث: الوطء بالدبر مضرٌّ بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء. الرابع: يوجب النفرة والتباغض بين الفاعل والمفعول به. واستطرد رحمه الله في ذكر المضار والمفاسد التي تجلبها هذه الفعلة الشنيعة. ***

880 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ, وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا, فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ, وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ مِن الضِّلَعِ أَعْلَاهُ, فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ، كَسَرْتَهُ, وَإِنْ تَرَكْتَهُ، لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ, فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَلِمُسْلِمٍ: "فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، اسْتَمْتَعْتَ وَبِهَا عِوَجٌ, وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا, وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - استَوْصوا: يعني: ليُوصِ بعضكم بعضًا خيرًا وإحسانًا في نسائكم. أو معناه: اقبلوا وصيَّتي إيَّاكم فيهن، فإني أوصيكم بهنَّ خيرًا وإحسانًا. - ضِلَع: بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام، آخره عين مهملة، هو عظم قفص الصدر، وهو منحن، والمراد أنَّ حواء أصلها خلقت من ضلع آدم، كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]. - أعلاه: هو ما يكون عند الترقوة، فإنَّه مدور كنصف الدائرة، فهو عظم شديد الاعوجاج. - تقيمه: تعدله وترده إلى الاستقامة. - عِوَج: بكسر أوله على الأرجح، وقال أهل اللغة: العوج بالفتح في كل منتصب كالعود، وبالكسر ما كان في بساطٍ، أو أرضٍ، أو دِينٍ، فيُقال: في ¬

_ (¬1) البخاري (9/ 252)، مسلم (1468).

دِينه عِوج، بالكسر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيان حق الجار، وأنَّ حقَّه على جاره كبير، فقد جاء في الحديث الصحيح: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننتُ أنَّه سيورثه". 2 - ويدل على أنَّ من آذى جاره بأذى قولي أو فعلي، فليس بكامل الإيمان بالله تعالى، ولا باليوم الآخر؛ فإنَّ الإيمان بالله يحمل صاحبه على اتِّقاء محارمه، والإيمان باليوم الآخر يوجب الخوف من أهوال ذلك اليوم، فلا يؤذي جاره، أما من آذى جاره، فلو كان حين آذاه يتَّصف بالإيمان ما صدر منه أذى لجاره؛ فإنَّ الإيمان يحمل صاحبه على القيام بالواجبات، وترك المحرَّمات. 3 - ويدل الحديث على الوصية بالنساء خيرًا، فقد جاء في خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع قوله: "فاتَّقوا الله في النساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله". فالله تعالى من رحمته ولطفه بخلقه، يوصي ويحث على العناية والرعاية بالجنس الصغير والضعيف من خلقه، فاليتامى أمر بحفظ أموالهم، ونهى عن إضاعتها، وتوعدَّ على أكلها فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء] وهذه المرأة الضعيفة الأسيرة في بيت زوجها يوصي بها تعالى فيقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". 4 - ولما وصَّى -صلى الله عليه وسلم- بالنساء ذكر "أنَّهنَّ خُلِقن من ضِلع، وأنَّ أعوج شيء في الضِّلَعِ أعلاه" وهذا بيان لطبيعة النساء وخلقهن، وهو تمهيد للأمر

باحتمالهن، والصبر عليهنَّ ولذا قال: "فإن ذهبتَ تقيمُهَا، كسرتها، وكسرها طلاقها، وإن استمتعت؛ بها استمعت بها على عِوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا". فهذا الوصف الرائع، والتصوير البارع، والوصية الكريمة منه -صلى الله عليه وسلم-، يحدِّد موقف الرجل من زوجته، فيسلك معها سبيل الحكمة، والرحمة، والبر، والإحسان. والمراد بخلقها من الضِلع، يعني: خلق أُمنا حواء من ضِلع آدم، عليهما السلام. 5 - إذا تدبرنا أحكام الإِسلام الرشيدة، وآدابه السامية، ووصاياه الكريمة، وجدنا من صفاته الكريمة الإيثار، فهو يشعر النفس بحبِّ الخير للإنسانية كلها، لاسيَّما أصحاب الحقوق من مسلمٍ، وقريبٍ، وجارٍ، وغيرهم ممَّن تربطهم بالإنسان علاقةٌ وصلةٌ، وهذا الإيثار له أكبر الأثر في توثيق المحبة بين أفراد المجتمع، وجعلهم متعاطفين متعاونين، بِعَكس الأثرة، وحب النفس، والأنانية، فإنَّها تجعل صاحبها مكروهًا، منبوذًا من المجتمع؛ لأنَّه لا يرغب أن يؤدي حق غيره. فمن أهم مكتشفات علم النفس الحديث: ما ثبت من أنَّ سعادة الإنسان لن تأتي بغير تضحية في سبيل الغير، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر]. وما أجمل الإيثار وأحسنه إذا كان فيمن لا تطمع منه في مكافأة، ولا ترجو منه جزاء ولا شكورًا، من امرأة ضعيفة أو يتيم فاقد لراعيه وواليه، فالإِسلام دائمًا يوصينا بهؤلاء وأمثالهم ممن ليس لهم حول ولا طَوْل، فالموفَّق البار بنفسه وبإخوانه لا تفوته هذه المواقف الكريمة من الإحسان، والمفرِّط المهمل هو من فاتته الفرص، وضاعت منه الغنائم.

6 - الحديث قرن بين حق الجار، وبين حق الزوجة، كما قرنت بينهما الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] فقد ذكر المفسرون أنَّ الجار الجنب هو الجار في الدار، والصاحب بالجَنب هو الزوجة. 7 - تشبيه الطلاق بكسر العظم تشبيه بليغ جدًّا، ففيهما شبَهٌ كبيرٌ من حيث الإيلام، وصعوبة جبره وعلاجه، ومن أجل أنَّه قد يعود على غير خِلقته الأولى. 8 - وفيه بيان أنَّ الناس ليست حقوقهم عليك سواء، بل بعضهم آكد حقًّا من بعض، كما في الحديث: "إنَّ الجار له حق، فإذا كان الجار مسلمًا فله حقان، فإذا كان جارًا مسلمًا قريبًا فله ثلاثة حقوق". 9 - وفيه دليل على نقص عقول النساء وكمال عقول الرجال، فإنَّه لم يوص بهن إلاَّ لضعفهنَّ، وعدم احتمالهنَّ، وأنَّهنَّ بحاجة إلى ملاطفة ومداراة، وإلاَّ فلا يمكن البقاء معها. 10 - وفيه دليل على أنَّ الرجال هم القوامون على النساء، فإنَّه لم يوص الرجل بالمرأة إلاَّ لِما له عليها من الرئاسة. 11 - وفي الحديث دليل على أنَّ أحوال الدنيا ناقصة، وأمورها لا تأتي على المطلوب والمراد، وأنَّ الواجب على الإنسان التحمل والصبر، والقناعة بما يحصل من خيرها. 12 - الزوجان ما داما في انسجام ووئام، فهذه هي العِشرة الطيبة التي حثَّ عليها الشرع المطهر. أما إذا دبَّ الخلاف والشقاق بينهما، فسبيلهما الإصلاح، ببعث حكمين بينهما؛ أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة، فيعملان ما يريانه الأصلح من جمع أو تفريق، وفي هذه الحال يجوز

الإلزام بالفراق، إما بالخلع والفسخ، أو الطلاق إذا لم يمكن الإصلاح بينهما. وممَّن اختار إلزام الزوج شيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن مفلح، وذكر أنَّه ألزم به بعض حكام الشام من المقادسة الفضلاء. واختار الشيخ محمَّد ابن إبراهيم المشهور من المذهب، وهو عدم إجبار الزوج على الخلع؛ ولكن نصوص الشريعة تدل على القول بالإلزام لإزالة الضرر والشقاق، قال -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس: "خُذْ الحديقة، وطلِّقها تطليقة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر، ولا ضرار". ***

881 - وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةٍ, فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ, ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا -يَعْنِي عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ, وَتَسْتَحِدَّ الْمَغِيبَةُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَإِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ, فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أمْهِلُوا: انتظروا، ولا تستعجلوا. - عِشاءً: بكسر العين، الظلام، أو من صلاة المغرب إلى العتمة. - تَمْتَشِط: مَشَّطت المرأة شعرها بالمشط: سرَّحته، والمِشط بالكسر: آلةٌ يُمشط بها، جمعها أمشاط. - الشَّعِثَة: بفتح الشين، وكسر العين، معناه: التي انتشر شعرها وتفرَّق. - تسْتحِد: بسين وحاء مهملتين، أي تزيل المرأة الشعر المرغوب في إزالته بالحديدة، أو بأي وسيلةٍ أخرى. - المُغِيبَة: بضم الميم، وكسر المعجمة، ثم مثناة تحتية ساكنة، فموحدة مفتوحة، هي التي غاب عنها زوجها. - فلا يطرق أهله ليلًا: قال أهل اللغة: الطروق المجيء بالليل من سفر وغيره على غفلة، فذكر الليل من باب التبيين والتأكيد. ¬

_ (¬1) البخاري (5079، 5244)، مسلم (715).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث فيه توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ، في كيفية مقابلة الزوجة لزوجها، والحال التي يحسن أن يراها عليها. ذلك أنَّ الزوجة إذا غاب عنها زوجها قد تهمل نفسها، فتكون شَعِثة الرأس، قليلة العناية بنظافة بدنها، فتكره أن يفاجئها زوجها على هذا الحال، وتود أن تستعد لمقدمه عليها على أحسن هيئة، فأمر -صلى الله عليه وسلم- الغزاة معه إذا قربوا من المدينة المنورة، وعُلِم بقُربهم أن لا يدخلوا بيوتهم حتى تستعد لهم نساؤهم، لاستقبالهم بالحالة اللائقة بمقابلة الزوجة لزوجها الغائب. 2 - وهذا التوجيه الكريم، والتعظيم الحكيم، مع ما في أثره من متعةٍ حسيةٍ بين الزوجين، فإنَّ فيه بقاء للعِشرة الكريمة، وتمام انسجام ووئام، فإنَّ كلًّا من الزوجين إذا رأى من الآخر ما يسره، ويمتع نفسه، تزداد رغبته، وتنمو محبته؛ فتطول الحياة الزوجية بسعادةٍ وهناءةٍ، وقد أباح لها الشارع من اللِّباس ما هو محرَّمٌ على الرِّجال، وهو لبس الحرير، والتَّحلي بمصاغ الذَّهب والفضة. 3 - الأفضل للرجل الغائب أنْ يُعلم أهله بقدومه عليهم، بوعدٍ محدَّدٍ من ليلٍ أو نهارٍ، والآن -والحمد لله- سُهِّلت الاتصالات، فبإمكانه تحديد السَّاعة التي سيقدَم فيها، بواسطة الهواتف، وغيرها من وسائل الاتصالات. 4 - إنَّ هذه الآداب النبوية هي من حسن العشرة، ومراعاة الأحوال، والإشعار بمدى الاهتمام، ممَّا يزيد في المحبّه والمودَّة. 5 - ظاهر الرِّوايتين التَّعارض، وجمع بينهما الحافظ في فتح الباري فقال: الجمع بينهما: أنَّ الأمر بالدخول ليلًا لمن أعلم أهله بقدومه فاستعدوا له، والنَّهي لمن لم يفعل ذلك.

882 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَشَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ, ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُفْضي إلى امْرَأته، وَتُفْضي إليه: قال القرطبي: أصل الإفضاء في اللغة: المخالطة. قال الهروي والكلبي وغيرهما: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإنْ لمْ يجامِعْها، وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: الإفضاء: الجِمَاع. اهـ. قال محرره: ومِن لازِمِ الجِمَاع الخلوة، فهذا أحسن. - سِرَّها: السِّرّ، بكسر السين، ما يسره الإنسان في نفسه، ويكتمه من الأمور، جمعه أسرار، ويطلق السر على الجِماع؛ لأنَّه يفعل سرًّا، وعلى ما يجري بين الزوجين عند فعله. - أشرَّ: قال القاضي عياض: هكذا وقعت هذه الرواية، والنحويون لا يجوزون "أشَرّ"، و"أَخْيرَ"، ولكن قد جاءت الأحاديث الصحيحة باللفظين جميعًا، وهي حجة في جوازهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الزوج مع زوجته لديهما أسرارٌ جنسية، هذه الأسرار هي في الغالب مداعباتٌ تحصل بين الزوجين أثناء العملية الجنسية، أو أنَّها أمورٌ من عيوب الأعضاء التناسلية. ¬

_ (¬1) مسلم (1437).

هذه أشياءٌ هي في غاية السرِّية بينهما، فيكرهان أن يطلع عليها أحد. 2 - لذا فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وصف الذي يخون أمانته من أحد الزوجين، فيُطلع الناس على ما دار بينه وبين زوجه في تلك الحال، أو ما رآه من زوجه من عيب، أنَّه شر النَّاس عند الله تعالى وأحطهم منزلة. 3 - فالحديث يدل على تحريم إفشاء أسرار الزوجين الخاصَّة عند إفضاء أحدهما إلى الآخر؛ لأنَّ المفضي بهذا السر شرُّ النَّاس عند الله تعالى. 4 - يعتبر الإِسلام العلاقات الجنسية بين الزوجين أمرًا محترمًا له اعتباره، فيجب أن يحافظ عليه، وأن لا يفرط فيه أحدهما، بحيث يأتمن أحدهما الآخر، ثم يفشي سرَّه. 5 - من ناحيةٍ أخرى فإنَّ هذه المداعبات بين الزوجين أثناء الجماع هي شيءٌ مطلق الحرية في هذه الحال؛ لأنَّها ترغِّب أحد الزوجين بالَآخر وتنشِّطه، ولهذا سُمِحَ فيها بالكذب، لكن إذا علِمَ أحَدهما أنَّ هذه الأسرار ستُفشى، وتظهر أمام الناس، وتصير موضع سخريةٍ وانتقادٍ، أقْصر عنها وكتمها، ثم يكون التلاقي الجنسي فاترًا باردًا، قد ينتهي إلى فشل الزواج، أو الاتصال الجنسي. 6 - قال العلماء: ذكر مجرَّد الجِماع يُكره لغير حاجة، ويباح للحاجة كذكره إعراضها عنه، أو هي تدَّعي عليه العجز عن الجِماع، ونحو ذلك. * قرار مجمع الفقه الإِسلامي بشأن السر في المِهن الطبية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر

سيري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرَّم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "السر في المهن الطبية". وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر ما يلي: 1 - (أ) السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتمًا إيَّاه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان، إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطَّلع عليها الناس. (ب) السر أمانةٌ لدى من استودع حفظه؛ التزامًا بما جاءت به الشريعة الإِسلامية، وهو ما تقضي به المروءة، وآداب التعامل. (ج) الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مُقْتَضٍ معتبرٍ موجبٌ للمؤاخذة شرعًا. (د) يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المِهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح، وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه. 2 - تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين: (أ) حالات يجب فيها إفشاء السر بناءً على قاعدة ارتكاب أهون الضررين

لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعيَّن ذلك لدرئه. وهذه الحالات نوعان: - ما فيه درء مفسدة عن المجتمع. - وما فيه درء مفسدة عن الفرد. (ب) حالات يجوز فيها إفشاء السر لِما فيه: - جلب مصلحة للمجتمع. - أو درء مفسدة عامة. وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها، من حيث حفظ الدين، والنَّفس، والعقل، والمال، والنسل. (ج) الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء، أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية، وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصًا عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولِمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن. 3 - يوصي المجمع نقابات المهن الطبية، ووزارات الصحة، وكليات العلوم الصحية، بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات، والاهتمام به، وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع. والله أعلم ***

883 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ? قَالَ: تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ, وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ, وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ, وَلَا تُقَبِّحْ, وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، وصححاه، وعلَّق البخاري طرفًا منه، وصححه الدارقطني، وقد ساقه أبو داود في سننه من ثلاث طرق، في كل واحدٍ منها بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد اختلف الأئمة في نسخة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، فمنهم من احتج بها، ومنهم من أبى ذلك، وخرَّج الترمذي منها شيئًا وصحَّحه. * مفردات الحديث: - ما حق: "ما" لها عدة معانٍ، والمراد هنا الاستفهام، ومحلها الرفع على الابتداء، و"حق" خبرها. - لا تُقَبِّح: بضم التاء، وفتح القاف، وتشديد الباء، وآخره حاء: قبحه الله عن ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 447)، أبو داود (2142)، النسائي في عشرة النساء (289)، ابن ماجه (1850)، ابن حبان (1286)، الحاكم (2/ 187).

الخير، أي: أبعده، والمعنى: لا تشتم وتسب، كأن تقول: قبَّح الله وجهك. - ولا تهجر: "لا" ناهية، و"تهجر": فعلٌ مجزومٌ بلا، الهجر: الترك والإعراض، وسيأتي تفصيله في معنى الحديث إن شاء الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث فيه بعض حقوق أحد الزوجين على الآخر، أمَّا الزوج فعليه لزوجته النفقة، والسكنى، وكذلك عليه كسوتها. 2 - وعليه أن يكف عنها أذاه، فلا يضربها، وإذا جاء ما يوجب تأديبها بالضرب، فعليه اجتناب الوجه؛ لكرامته، ولحساسيته، ولئلا يقع فيه من ضربها ما ينفره منها من أثر شين وتشويه. 3 - وعليه أن يقابلها بالبشاشة والطلاقة، فإذا وجد ما يوجب توبيخها، فليكن بالكلام والتوجيه، فلا يكون بالألفاظ القبيحة، والسباب المكروه. 4 - وعليه إيناسها بالكلام الطيب، والمباسطة من الأحاديث، لاسيَّما الأحاديث الودية، وإذا احتاج الأمر إلى تأديبها بهجرها وبترك كلامها، فليكن هذا في البيت فقط ليس أمام الناس؛ لئلا يجرح شعورها، ويخجلها أمام الناس، وأمام الشامِتِين بها، فتظهر بمظهر المَقْلِيَّة المتروكة. هذه بعض الأمور المتعلِّقة بسلوك الزوج مع زوجته. 5 - يدل الحديث عليها وجوب نفقة المرأة على زوجها، وكسوتها، وسُكناها. 6 - ويدل على جواز تأديب الزوج زوجته عند الحاجة إلى ذلك، ولكنه تأديبٌ تراعى فيه الآداب العامة والرحمة: فإن هجرها: فليكن هجرًا سريًّا بينهما، لا يكون أمام الناس، وإذا ضربها، فلا يكون في الوجه، ولا يكون في مواضع مؤلمة أو مواضع شريفة، وإذا عاتب ووبَّخ، فلا يستعمل الألفاظ البذيئة، والكلمات الجارحة، والشتم، والسب.

7 - سيأتي الكلام على نفقة الزوجة وقدرها في "باب النفقات"، إن شاء الله تعالى. 8 - قال في الإنصاف: ليس على الزوجة عجنٌ ولا طبخٌ، ونحو ذلك على الصحيح من المذهب، نُصَّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب. أما الشيخ تقي الدين فقال: يجب عليها المعروف من مثلها لمثله. قال في الإنصاف: والصواب أن يُرجع في ذلك إلى عرف البلد. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّه تجب معاشرة كل من الآخر بالمعروف، وأنَّ الطبخ والخبز وخدمة الدار ونحو ذلك واجبٌ عليها مع جريان العادة بذلك. قال الشيخ عبد الله بن محمد: كلام الشيخ تقي الدين "أنَّه يجب عليها المعروف من مثلها لمثله" من أحسن الكلام. 9 - عالج الحديث مشكلة النشوز؛ لأن الزواج في الشريعة الإِسلامية ميثاقٌ غليظ، وعهدٌ متين، ربَطَ الله به بين رجلٍ وامرأةٍ، وأصبح كل منهما يسمى زوجًا، بعد أن كان فردًا، قال تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء] والميثاق الغليظ هو العقد، فهو أمتن عقد. ثم هناك علاقةٌ بين الزوجين، حيث جعل الله كلَّ واحدٍ منهما موافِقًا للآخر، مُلبيًا لحاجته الفطرية: نفسية، وعقلية، وجسدية، بحيث يجد عنده الرَّاحة، والطمأنينة، والاستقرار، ويجد أنَّ في اجتماعهما السَّكن، والاكتفاء، والمودة، والرحمة؛ لأنَّ تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي، مرادٌ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما، وامتزاجهما في النهاية؛ لإنشاء حياةٍ جديدةٍ، تتمثَّل في جيلٍ جديد. ويصوِّر هذهِ المعاني قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم] هذه الرابطة الكريمة بين الزوجين عُنِيَ بها الإِسلام عنايةً فائقةً، من المعاشرة بالمعروف، ومن الأمر بالصبر والاحتمال. فإذا طرأ عليها ما غير جوَّها، فإنَّ الإِسلام أرشد إلى تصفية الجو، باتخاذ أمورٍ يتدرج فيها المصلح، حتى ينتهي إلى النتيجة: أولًا: الوعظ والإرشاد، فبعض النساء يُؤثِّر فيهنَّ هذا اللون من التأديب؛ قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34]. ثانيًا: الإعراض عنها في الفراش، وهَجرها، وقد يُنتج هذا النوع من العلاج نتائج طيبة، فالهَجر في المضجع علاجٌ نفسيٌّ بالغ، يفوِّت عليها السرور والمتعة التي هي عندها من أصعب الأمور، قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]. ثالثًا: الضرب غير المُبرِّح؛ قال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] والضرب دواءٌ لا يلجأ إليه إلاَّ عند الضرورة، والحالات الصعبة. رابعًا: إذا تعذَّر نجاح هذه الوسائل، وأصرَّت على نشوزها وترفعها وسوء عشرتها، فإنَّ الحاجة تدعو إلى دَرْءِ الصدع بحَكَمٍ من أهله وحَكَمٍ من أهلها {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. خامسًا: إذا لم يحصل الجمع بين الزوجين، وتعذَّر التوفيق بينهما، فالمذهب: أنَّ الزوج لا يُجبر على الفراق. والقول الثاني: أنَّه يُجبر على خلعها، أو فسخها، أو طلاقها، بعوضٍ أو بدونه، وممَّن اختار هذا القول شيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن مفلح، ونقله عن بعض قضاة الحنابلة، والشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ يوجِّه قضاة المملكة العربية السعودية إلى الأخذ به عند الحاجة، لقصة ثابت بن قيس، ولحديث: "لا ضرر، ولا ضرار".

884 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ؛ فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أتى الرَّجل امرأته: يعني جامعها. - من دُبُرهَا: من جهة عجَيْزَتِها. - في قُبُلهَا: القُبُل مَن كل شيء: مقدمته، وهنا المراد به: العورة الإمامية من المرأة. - أحول: حَوِلَتْ عينه حولًا: كان بها حول، فهو أحول. قال في الموسوعة الميسرة: الحول -بفتح الواو- تعبيرٌ عامٌّ يُطلق على جميع الحالات التي يتَّخذ فيها محور الأبصار بالنسبة لكليهما أوضاعًا تختلف عن الحالة السوية. وقال في المغرب: الحول أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأنف، والأخرى إلى الصدغ. قال الأطباء: سببه إما خللٌ في أعصاب العضلات المحرِّكة للعين، أو ضعفٌ فيها، أو أغلاطٌ في انكسار الأشعة الضوئية الداخلة في العين، أو غير ذلك. - حرث: يقال: حرث الأرض حرثًا: أثارها للزراعة، فقوله سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ ¬

_ (¬1) البخاري (4528)، مسلم (1435).

حَرْثٌ لَكُمْ} قال في المحيط: أي موضع حرث لكم، شبه نساءهم بموضع الحرث، تشبيهًا لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان اليهود يضيِّقون في هيئة الجماع، من غير استنادٍ إلى علم، وكان الأوس والخزرج يأخذون عنهم أقوالهم وأحوالهم؛ لأنَّهم أهل كتاب، وكان من جملة افتراء اليهود قولهم: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد المقدر من ذلك الجِماع أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. 2 - فيه دليل على افتراءات اليهود، وأكاذيبهم القديمة والحديثة، وتحريفهم لكتب الله تعالى، وتغييرهم كلماته؛ قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]. 3 - وقال تعالى عن جهلهم وافترائهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة]. 4 - الحديث فيه بيان كذب اليهود، وإبطال فريتهم، وأنَّ الرجل له أن يُجامع زوجته على أي هيئةٍ وشكلٍ كان، مقبلةً أو مدبرةً، قائمةً أو جالسةً، ما دام ذلك في القُبُل، وأنَّ هذا لا دخل له في صورة الولد وشكله ونوعه. 5 - الطب الحديث المبني على التجارب الصادقة، والحقائق الثابتة، كذَّب اليهود، وأثبت إعجازًا علميًّا للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ولسنَّته المطهَّرة. 6 - الحديث حدد مكان الجماع بمكان الحرث الذي يطلب منه الولد، ويخرج منه؛ كما قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] فلا تجاوزوا مكان الحرث إلى المكان الآخر.

7 - فيه الترغيب بالجماع، والتهييج عليه ما دام أنَّه حرث، والحَرْث يثمر الغلَّة النَّافعة، ويحصل منه الثمرة الطيبة، وكذا الجماع: فإنَّه السبب بكثرة النسل، وتكثير سواد المسلمين، وتحقيق مباهاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته الأنبياء يوم القيامة. ***

885 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا; فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ, لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لو أنَّ: "لو" هذه للتمنِّي، فلا تحتاج إلى الجواب عند محققي النحويين. - أهله: جمعه أهلون، وأهل الرجل قرابته، قال تعالى: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] والمراد هنا من أهله: زوجته. - جَنِّبنا: من جنَّبَ الشيءَ يجنِّبُهُ تجنيبًا: إذا أبعده منه. - الشيطان: وزنه فيعال من شطن، فالنون أصلية على الصحيح، والشيطان معروف، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب: شيطان. - ما رزَقْتَنَا: من الرزق، وجمعه أرزاق، والرِّزق بكسر الراء: الاسم، وبفتح الراء المصدر، والرزق في كلام العرب: الحظ، قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة] أي حظكم من هذا الأمر، والرزق عام لكل ما ينتفع به، ولذا يقال: اللَّهمَّ ارزقني زوجةً صالحةً، والمراد هنا: الولد الناشيء من هذا الجماع. - لم يضره: بفتح الراء، والضرر هنا عام للديني والبدني. ¬

_ (¬1) البخاري (5165)، مسلم (1434).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث سنة من آداب الجماع، وهو أنَّه ينبغي للرجل إذا أراد جماع زوجته أن يقول: باسم الله، فإنَّ اسم الله تعالى يحل البركة والخير فيما تقدم عليه، وترك اسم الله يجعل الشيء ناقصًا مبتورًا. 2 - أما الذِّكر الثاني عندَ الجِمَاع فهو أن يقول: "اللهمَّ جنبِّنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا" فهذا الدعاء المبارك، وتلك الاستعاذة، من شأنها إذا قبلها الله تعالى "فإنَّه إن يقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره الشيطان"، ويبقى محفوظًا مصونًا من الشيطان الرجيم. قالت المرأة الصالحة امرأة عمران: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} [آل عمران]. قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]. 3 - أسباب العصمة من الشيطان كثيرة منها الحسي، ومنها المعنوي: فهذا الدعاء من الوقاية المعنوية من الشيطان ونزغاته، فإذا وُجِد معه أيضًا الأسباب الأُخرى، وانتفت الموانع، وجد المسبَّب الذي رتِّب عليه، وهو العصمة من الشيطان، وإنْ لم توجد الأسباب، أو وجد ولكن حصل معها الموانع، لم يقع المسبَّب 4 - غالب أعمال الإنسان وعاداته لها أذكار؛ من دخول المنزل، والخروج منه، والأكل، والشرب، والفراغ منهما، وعند النوم، والاستيقاظ، وغير ذلك من التصرفات، فينبغي للإنسان أن لا يهمل هذه الأذكار؛ ليكون من {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}. 5 - أفضل ما يحصن به الإنسان نفسه من عدوه الشيطان هو ذكر الله تعالى، الذي منه الأوراد الشرعية؛ من كتاب الله ومما صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

6 - الذكر المذكور ليس واجبًا، وإنما هو مستحب عند هذه الحالة، وسياق الحديث يدل على هذا. 7 - وفيه دليلٌ على أنَّ الشيطان لا يُفارق ابن آدم، بل يُلازمه، ويُتابِع أعماله؛ ليجد الفرصة في إغوائه وإضلاله ما استطاع، ولكن الفَطِن هو الذي لا يدع فرصة له؛ وذلك باستحضار ذكر الله. ***

886 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ, فَبَاتَ غَضْبَانَ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَلِمُسْلِمٍ: "كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا". (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دعا الرجل امرأته: أي طلبها. - إلى فراشه: بكسر الفاء، وهو هنا كناية عن الجماع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على عِظم حق الزوج على زوجته؛ كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. 2 - ويجب له عليها السمع والطاعة في المعروف؛ فقد جاء في المسند وسنن ابن ماجه عن معاذ بن جبل أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفس محمَّد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها، وهي على قَتَبٍ، لم تَمْنعه". 3 - أنَّه يحرم على المرأة أن تمنع، أو تماطل، أو تتكرَّه على زوجها إذا دعاها إلى فراشه من أجل الجماع، وأنَّ امتناعها هذا يُعتبر كبيرةً من كبائر الذنوب؛ فإنَّه يترتب عليه أنَّ الملائكة تلعنها حتى تصبح. ¬

_ (¬1) البخاري (5193)، مسلم (1436).

واللعن لا يكون إلاَّ لفعل محرَّمٍ كبير، أو ترك واجبٍ محتم. 4 - أنَّ العشرة الحسنة والصُحبة الطيبة هي أنْ تسعى المرأة في قضاء حقوق زوجها الواجبة عليها، وتلبية رغباته، وأن تؤديها على أكمل وجه ممكن. 5 - الشَّارع الحكيم لم يُرتِّب هذا الوعيد على الزوجة العاصية لزوجها، إلاَّ لِمَا يترتَّب على عصيانها من شرور، فإنَّ الرَّجل لاسيَّما الشاب إذا لم يجد حلالًا، أغواه الشيطان بالوقوع في الحرام، فضاع دينه وخلقه، وفسد نسله، وخرب بيته وأسرته. 6 - الزوجة الصالحة هي التي وصفها الله تعالى بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] ووصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "خير النساء امرأة إذا نظرتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غِبْتَ عنها حفظتك في نفسها ومالك". 7 - وفي الحديث دليل على جواز لعن العصاة ولو كانوا مسلمين، وفي الإخبار عن لعن الملائكة: زجر لها في الاستمرار في العصيان، وردع لغيرها عن الوقوع في مثله. 8 - الحديث فيه وجوب طاعة الزوجة زوجها عند طلبها لفراشه من غير تحديد بوقت ولا عدد، وإنما يقيَّد بما يضرُّها، أو يشغلها عن واجب. فأما الوقت فقد روى أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها، وهي على قتب، لم تمنعه". قال في الروض وغيره: ويلزمه الوطء إن قدر عليه ثُلث سنة مرَّة بطلب الزوجة؛ لأنَّ الله قدَّر ذلك في أربعة أشهر في حق المُولِي، فكذلك في حق غيره، واختار الشيخ أنَّ الوطء الواجب يكون بقدر حاجتها، وقُدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها، وقدرته، وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضٍ

للفسخ بكل حال. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: وله الإكثار من ذلك، لا يتحدَّد بحد، ولا يقيَّد، ما لم يضر بها، فإن أضرَّ بها فلا؛ لحديث: "لا ضرر، ولا ضرار" [أخرجه أحمد وابن ماجه]، ولحديث: "من ضارَّ، ضاره الله" [رواه الأربعة]. ***

887 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ الوَاصِلَةَ، وَالمُسْتَوْصِلَةَ, وَالوَاشِمَةَ، وَالمُسْتَوْشِمَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لعنه: أي طرده وأبعده عن الخير والرحمة. - الوَاصِلَة: هي المرأة التي تصل شعرها أو شعر غيرها، بشعرٍ غيره. - المستوصلة: هي المرأة التي تطلب أن يوصل شعرها بشعر غيره. - الواشمة: الوشم يكون من غرز الإبرة في البدن، وذر النيلج عليه، حتى يزرق أثره، أو يخضر، والواشمة هي المرأة التي تعمل هذا العمل. - المستوشمة: هي المرأة التي تطلب أن يُعمل في بدنها الوشم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الواصلة هي التي تصل شعرها بشعر غيرها، والمستوصلة هي التي تطلب أن يوصل شعرها بشعر غيرها. 2 - الحديث دلَّ على تحريم وصل الشعر بشعرٍ آخر، وأنَّ هذا من كبائر الذنوب؛ لأنَّ الشَّارع لعن الواصلة، والمستوصلة، والَّلعن هو الطَّرد عن رحمة الله، ولا يكون إلاَّ في حق صاحب كبيرة. 3 - قال الشيخ عبد العزيز ابن باز: وأما لبس الباروكة، فقد بدا في بلاد المسلمين، واشتهر النساء بلبسه والتزين به، حتى صار في زينتهن، فلُبس المرأة إيَّاها، وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبهٌ بالكافرات، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك بقوله: "من تشبه بقوم فهو منهم". ¬

_ (¬1) البخاري (5940)، مسلم (2124).

4 - وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز -أيضًا-: يجوز للرجل إزالة شعر جسده من الظهر والصدر والساقين والفخذ إذا لم يضر بدنه، ولم يقصد التشبه بالنساء؛ لأنَّ الأصل الإباحة، ولا يجوز للمسلم أن يحرم شيئًا إلاَّ بالدَّليل، ولا دليل على تحريم هذا، وسكوت الله ورسوله يدل على الإباحة. 5 - أما الواشمة: فهي التي تغرز إبرة في موضع من بدنها أو بدن غيرها، حتى يسيل الدم، ثم تحشو الموضع بالكحل والنورة، فيخضر، وأما المستوشمة: فهي التي تطلب أن يُفعل بها ذلك. 6 - الحديث يدل على تحريم الوشم، وأنَّ فاعله والمفعول به ملعونان، واللَّعن لا يرتب إلاَّ على من فعل كبيرة من كبائر الذنوب. 7 - قال الشيخ أحمد بن محمد بن عساف في كتابه "الحلال والحرام": ومِن الزينة وشم الأبدان، ووشر الأسنان، وقد "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الواشمة، والمستوشمة، والواشرة" [رواه مسلم]. أما الوشم ففيه تشويهٌ للوجه واليدين. هذا ومن النَّاس من يتَّخذون منه صورًا لمعبوداتهم وشعائرهم، كما نرى في أيَّامنا بعض النَّصارى يرسمون الصليب على أيديهم وصدورهم. 8 - وقال الألوسي في كتابه "بلوغ الأرب": إنَّ الوشم مذهب باطل، وعادة مستقبحة جدًّا؛ فلذلك أبطلته الشريعة الإِسلامية، وجعلته محرَّمًا؛ لِما فيه من تغيير خلق الله. ***

888 - وَعَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أُنَاسٍ, وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ, فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ, فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ أَوْلَادَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ? فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - هَمَمْتُ: قال أهل اللغة: همَّ بالأمر همًّا: عزم على القيام به ولم يفعله؛ فقد همَّ -صلى الله عليه وسلم- أن ينهى عن الغِيلة، ولكنه لم ينه. - الغِيلة: بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية، وهي مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع، أو حامل. - الروم: جيلٌ عظيمٌ من الناس، بلغوا في زمانهم الغاية في الكثرة والقوَّة. قال ابن حزم: إنَّ الرُّوم نسبوا إلى "روملس" باني روما، ولما زحفت الفتوحات الإِسلامية، استولت على غالب بلادهم. - فارس: أمةٌ عظيمةٌ كثيرةٌ وشديدة فيما وراء النَّهر من بلاد العرب، قال ابن حزم: من بني ساسان بن بهمن. وقال في الموسوعة الميسرة: المرجح أنَّ الفرس كانوا رُحَّلًا في القرن السابع قبل المسيح، واستقروا بإقليم فارس الخالي بعد الآشوريين. - العَزْل: هو أن ينزع الرجل ذكره من فرج المرأة، حتى لا يُنزل فيه؛ دفعًا لحصول الحمل. ¬

_ (¬1) مسلم (1442).

- الوأد الخفي: بفتح الواو، ثمَّ همزة ساكِنة، يُقال: وأد الرجل ابنته يئدها وأْدًا: دفنها حيَّة فهي موءودة؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير]. فلمّا كان العزل إتلافًا للحيوانات المنوية بالإنزال خارج الفرج، شبِّه بالوأد الخفي الذي لا يرى أثر قتله؛ فهو إتلاف نفسٍ ولو بعيدة عن الوجود. ***

889 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ اليَهُودَ تَحَدَّثُ أنَّ العَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: كَذَبَتِ اليَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فرجاله ثقات كما قال المصنف، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والطحاوي، والترمذي، بسندٍ صحيح، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو يعلى، والبيهقي بسندٍ حسنٍ أيضًا؛ فالحديث صحيح. * مفردات الحديث: - الجارية: هي الشَّابَّة من الإماء، سميت به؛ لخفة جريانها. - أعزل: العزل: هو نزع الذكر من الفرج؛ ليُنزِلَ خارجه. - الموءودة: في الأصل هي البنت التي تُدفن حية تحت التراب، شبَّه عزل الحيوان المنوي حينما يتلف قبل أن ينمو نموًّا بشريًّا بالبنت الموءودة، إلاَّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كذَّب اليهود في ذلك. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 33)، أبو داود (2171)، النسائي في عشرة النساء (194)، الطحاوي (1916).

890 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالقُرآنُ يَنْزِلُ، ولَوْ كَانَ شَيءٌ يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ القُرآنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "فَبلَغَ ذلِكَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - والقرآن ينزل: جملة حالية. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - قال في النهاية: الغيلة: الاسم من الغيل، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، والعرب تكره ذلك، والأطباء يقولون: إنَّ ذلك داءٌ يضر بالطفل الرضيع. 2 - همَّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن ينهى عن الغيلة، بناءً على خبر أطباء زمنه، وكونه مستكرهًا عند العرب، لكنه لم يفعل. 3 - لما نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شعب فارس وشعب الروم، وإذا بهم يغيلون أولادهم، يسقونهم لبن الحوامل ولا يضرهم شيئًا مع تطبيق التجربة، والتجربة هي سُلَّم العلوم الطبيعية، فظهر أنَّ الغيلة لم تضر أبناء فارس والروم، فأقصر عن النَّهي عنها. 4 - جاء في سنن أبي داود من حديث أسماء بنت يزيد قالت: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا؛ فإنَّ الغيل يدرك الفارس فيُدَعْثِره عن فرسه"، ومعنى يدعثر أي يصرعه ويهلكه. ¬

_ (¬1) البخاري (9/ 305)، مسلم (1440).

والغيل أصله أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع؛ فيقول -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ المرضع إذا جومعت، فحملت، فسد لبنها، ونهك الولد إذا اغتذى بذلك اللبن، فيبقى ضاويًا، فإذا صار رجلاً فركب الخيل فركضها، أدركه ضعف الغيل، فزال وسقط عن متونها؛ فكان ذلك كالقتل له، إلاَّ أنَّه سِرٌّ لا يُرى ولا يُشعر به؛ كما قال الخطابي في معالم السنن. 5 - قال ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة": الغيل: هو وطء المرأة إذا كانت ترضع، وأنه يشبه قتل الولد سواء، وأنَّه يدرك الفارس، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة، ثم رأيتُ فارس والروم يفعلون، ولا يضر ذلك أولادهم شيئًا"؛ فإن الغيل يفعل في الوليد مثل ما يفعل من يصرع الفارس عن فرسه، وذلك يوجد نوع أذى، ولكنَّه ليس بقتلٍ للولد , وإن كان يترتب عليه نوع أذى للطفل، فأرشدهم -صلى الله عليه وسلم- إلى تركه، ولم ينه عنه، ثم عزم على النَّهي؛ سدًّا لذريعة أذى ينال الرضيع، فرأى أنَّ سدَّ هذا الذريعة لا يقاوم المفسدة التي تترتَّب على الإمساك عن وطء النساء مدَّة الرضاع، فرأى أنَّ هذه المصلحة أرجح من مفسدة سد الذريعة، فنظر فإذا الأُمَّتان اللتان هما من أكثر الأمم وأشدها بأسًا يفعلون ذلك فأمسك عن النَّهي عنه، فلا تعارض بين الحديثين، والله أعلم. 6 - قال الدكتور محمَّد علي البار: الجنين يستمد غذاءه كله من أمه، فتمده بجميع عناصر الغذاء، ولو أدَّى إلى الإضرار بها، فمثلاً تعطيه الكالسيوم ولو أدَّى إلى سحبه من عظامها، كما تعطيه الحديد ولو أصابها بفقر الدم، وتمنعه من وصول المواد الضارة مثل: البولينا، وغاز أكسيد الكربون، وتمنعه المواد السامة، مع أنَّها تعيش في جسمها. ومن المعلوم أنَّ الرضيع -وخاصة في الأشهر الأولى- يعتمد اعتمادًا كاملأ في غذائه على لبن الأم، وهو يسحب الموادَّ الهامة لبناء جسمه، كما

يفعل الجنين أثناء الحمل من الضرر الذي يقع أولاً على الأم، ثم يقع بعد ذلك على الجنين؛ لأنَّ دم الأم أصبح فقيرًا بالمواد الغذائية، فإذا استنفذت مصادر الكالسيوم والحديد .. إلخ، المدخرة لدى الأمّ، أدى لك إلى نقص هذا المواد لدى الجنين، ولدى الرضيع. 7 - وقال الدكتور محمَّد علي البار -أيضا- في كتابه: "خلق الإنسان": إنَّ الرضاع هو أحد العوامل القديمة والهامة في تحديد النسل؛ فالمرضع عادة تتوقف عادتها الشهرية، ويمتنع المبيض نتيجة الإرضاع عن إفراز البيضة المعهودة في كل شهر، وقد قرَّر الإسلام حق المولود في الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة. ومع هذا، فإنَّ القاعدة قد تنخرق، كما تنخرق بقية القواعد أمام الإرادة الإلهية، وقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ ذلك قد يضر بالجنين الذي حملت به أمه أثناء إرضاعه لأخيه أو أخته. 8 - العزل هو نزع الذكر من فرج المرأة أثناء الجِماع، وإراقة المني خارج الفرج؛ خشية الحمل. والحديث رقم (888) جعله الوأد الخفي، والوأد هو دفن البنت حيَّة، وإهالة التراب عليها حتى تموت، وكانت عادة جاهلية، والوأد حرام، والعزل يشبه الوأد من حيث إتلاف نطفة خفية عندها استعداد للنمو لتكون إنسانًا، لا من حيث الحكم الذي هو قتل النفس المعصومة البريئة بهذه الطريقة الوحشية. 9 - يدل الحديث علما أنَّ العلوم الطبيعية من طب ونحوه تُدْرَكُ بالتجارب وتُحصَّل بالنتائج. 10 - ويدل الحديث على أنَّ أخذ العلوم غير الشرعية من الأمم الكافرة لا يعد ذلك تقليدًا لهم، وركونًا إليهم، وتشبهًا بهم؛ فإنَّ هذا العلم من سنن الله

الكونية من أخذ بأسبابها حصلها من مسلم وكافر، فليست ملكًا لأحد، وإنما يدركها من بحث فيها. 11 - ويدل الحديث على أنَّ حصول الأشياء من خيرٍ وشرٍّ، منوطةٌ بأسبابها التي رتَّبها الله تعالى عليها. 12 - يدل الحديث على مثل هذه العلوم الدنيوية؛ كالغيلة، وتأبير النخل، وأمثال ذلك، أنَّها أمورٌ يأتي بها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بإدراكه البشري، وقد لا يصيب فيها؛ لانَّها ليست من الأمور المتعلِّقة بالرِّسالة، وإنَّما هي من الأمور التي يرجع فيها إلى التجربة والبحث. 13 - تحريم الوأد، وهو عادةٌ جاهلية، ومعناه: دفن بناتهم وهنَّ أحياء؛ قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير]، وتحريم ذلك ممَّا عُلِم من الدِّين بالضرورة. 14 - قوله: "كنَّا نعزل، والقرآن ينزل" يدل على مسألة أصولية، وهي أنَّ ما عمله الصحابة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّه سنَّة، سواءٌ علمنا أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علم به أو لم يعلم؛ لأنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يقر المسلمين على عملٍ يريد -جلَّ وعلا- شرعه، إلاَّ بيَّنه لهم. 15 - وتدل هذا الجملة على قاعدةٍ أُخرى، وهي أنَّ ما عُمِل زمن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقرَّ عليه، فلم ينه عنه، فهو من الأمور المعفو عنها. 16 - ويدل الحديث على أنَّ إرادة الله الكونية نافذة، فلا يردها عمل وقاية منها، ولا حذر، ومع هذا: فالإنسان مأمور بعمل الأسباب المفيدة النافعة، فإنَّ الله تعالى إذا أراد وقاية أحد من شيءٍ، جعل له سببًا واقيًا منه. قال ابن القيم: الذي كذَّب فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ هو زعمهم أنَّ العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم وأخبر أنَّه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه، لم تكن وأدًا

حقيقة، وإنما سمَّاه وأدًا خفيًّا؛ لأنَّ الرَّجل إنَّما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، ولكن الفرق بينهما: أنَّ الوأد ظاهر بالمباشرة، فاجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلَّق بالقصد فقط، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا؛ وبهذا حصل الجمع بين الحديثين. 17 - يدل الحديث رقم (889) على إلحاق النسب مع العزل. 18 - أما الحديثان رقم (889)، ورقم (980) فيدلان على جواز العزل. 19 - واختلف العلماء في جواز العزل تبعًا لاختلاف الأحاديث: فذهب الأئمة الثلاثة: إلى جواز العزل؛ عملاً بالأحاديث التي تبيحه. وذهب الإمام أحمد: إلى تحريمه إلا إذا أذِنَت الزوجة المشاركة للزوج في اللَّذة والولد؛ عملاً بحديث جدامة بنت وهب الذي في مسلم. * تحديد النسل: ظهر في هذه العصور المتأخرة نظرية تحديد النسل، وجعْله مبدأً اقتصاديًّا، نظرًا عندهم إلى تزايد عدد السكان تزايدًا سريعًا، بينما تزايُد المواد الغذائية يسير بنسبة حسابية متوالية. دُرست هذه النظرية على ضوء الشريعة الإسلامية من ظاهر الحديثين؛ حديث جدامة بنت وهب رقم (888)، وحديث أبي سعيد (889)، فالأول يدل على تحريم العزل، وأنَّه جنايةٌ على النطفة، وقتلٌ لها، والحديث الثاني يدل على إباحة العزل، وأنَّه لا أثر له في إتلاف النفس التي ستخلق من تلك النطفة. ووجه الجمع بينهما: أنَّ العزل ليس وأدًا حقيقة، وإنما سمَّاه وأدًا لقصده من العازل منع الحمل، فأجري مجرى الوأد، بخلاف الوأد: فإنَّه اجتمع فيه القصد، ومباشرة القتل؛ وبهذا يعرف أنَّ حديث رقم (888)، لم يقصد به التحريم، فلا يعارض الحديث رقم (889)، وبهذا فمنع الحمل ليس حرامًا لذاته فيكون محرَّمًا مطلقًا، وإنَّما حرم لمقاصده؛ فصار فيه التفصيل المبين

في قرارات المجامع الفقهية. وإنما كرهه من كره العزل لعدة محاذير، من حرمان الزوجة من كمال اللذة، ومشاركتها الزوج في التمتع بالحالة الجنسية، ولأنَّ فيه شبه معارضة للقدر، وسعيًا إلى ردِّه بالتدبير حسب ظن العازل. وأما ما يفعله الأطباء في هذا الزمان من قطع بعض العروق لإبطال قوَّة التوليد، مع بقاء قوَّة الجِماع؛ لتحديد النسل، فلا شكَّ في تحريمه، فلا يقاس على العزل قطعًا، فإنَّ بينهما فرقًا كبيرًا؛ فالعزل سبب ظنِّيٌّ، وأما قطع العرق فسببٌ قطعيٌّ لمنع الحمل، ولا يبقى للجاني خيار بعد ذلك في وجود الولد. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد النسل رقم (42) بتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر، عام (1396 هـ)، بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل، وتنظيمه، بناءً على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان (1395 هـ)، من إدراج موضوعها في جداول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطَّلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قِبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر، قرَّر المجلس ما يلي: - نظرًا: إلى أنَّ الشريعة الإسلامية ترِّغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى، ومنَّة عظيمة، منَّ الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة، والمقدم لها، ونظرًا

إلى أنَّ القول بتحديد النَّسل، أو منع الحمل مصادمٌ للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفةٍ عامَّة، وللأمة العربية المسلمة بصفةٍ خاصَّة، حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد، واستعباد أهلها، وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظنٍّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللَّبِنات البشرية، وترابطها. لذلك كلِّه: فإنَّ المجلس يقرر بأنَّه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرَّازَّقُ ذوالقوَّة المتين؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محقَّقة، ككون المرأة لا تلد ولادةً عاديَّةً، وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترةٍ ما لمصلحةٍ يراها الزوجان، فإنَّه لا مانع حينئذٍ من منع الحمل أو تأخيره؛ عملاً بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- من جواز العزل، وتمشِّيًا مع ما صرَّح به الفقهاء من جواز شرب الدواء؛ لإلقاءِ النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحقَّقة. وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلَّى الله على محمَّد. هيئة كبار العلماء * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تنظيم النسل: إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة المؤتمر الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409 هـ، 10 إلى 15 كانون الأول

(ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع: "تنظيم النسل"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبناءً على أنَّ من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب، والحفاظ على النوع الإنساني، وأنَّه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأنَّ إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النَّسل، والحفاظ عليه، والعِناية به، باعتبار حفظ النَّسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرَّر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حريَّة الزوجين في الإنجاب. ثانيًا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل، أو المرأة، وهو ما يعرف بـ"الإعقام" أو "التعقيم"، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثًا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معيَّنةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعًا، بحسب تقدير الزوجين، عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أنْ لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأنْ تكون الوسيلة مشروعة، وأنْ لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم، والله أعلم. * قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامى بمكة المكرمة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل، أو

مايسمى تضليلاً بـ"تنظيم النسل". وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي: نظرًا إلى أنَّ الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمةً، ومنةً عظيمة، منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عزَّ وجل، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ودلَّت على أنَّ القول بتحديد النَّسل أو منع الحمل، مصادمٌ للفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أنَّ دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين؛ لتقليل عددهم بصفةٍ عامَّة، وللأمَّة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفةٍ خاصَّة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد، واستعباد أهلها، والتمتع بثروات البلاد الإسلامية. وحيث إنَّ في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظنٍّ بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قرَّر بالإجماع أنَّه لا يجوز تحديد النَّسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأنَّ الله تعالى هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرةٍ شرعًا. أمَّا تعاطي أسباب منع الحمل، أو تأخيره في حالات فردية لضررٍ محققٍ؛ ككون المرأة لا تلد ولادة عاديَّة، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين، فإنَّه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخر شرعية أو صحية يقررها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعيَّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه، إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير ممن

يوثق به من الأطباء المسلمين. أما الدعوة إلى تحديد النسل، أو منع الحمل بصفةٍ عامَّةٍ، فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشدُّ من ذلك في الإثم إلزام الشعوب بذلك، وفرضه عليها، في الوقت الذي تُنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلُّح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب. * قرار المجمع الفقهي بشأن تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس: الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، سيدنا ونبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي فى دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م، إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989م، قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس، وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه، قرَّر ما يأتي: أولاً: الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها لا يحل تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحق فاعلها العقوبة؛ لأنَّه تغييرٌ لخلق الله، وقد حرَّم سبحانه هذا التغيير بقوله تعالى مخبرًا عن قول الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنَّه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنَّامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عزَّ وجل"، ثم قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ألا ألعن من لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في كتاب الله عزَّ وجل يعني قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ

فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ثانيًا: أمَّا من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله، فإن غلبت عليه الذكورة، جاز علاجه طبيًّا بما يزيل الاشتباه في أنوثته، سواء أكان العلاج بالجراحة أو بالهرمونات؛ لأنَّ هذا المرض والعلاج يقصد به الشفاء منه، وليس تغييرًا لخلق الله عزَّ وجل. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ***

891 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَطُوفُ علَى نِسَائِه بِغُسْلٍ وَاحِدٍ" أَخْرَجَاهُ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديت: - يطوف على نسائه: طاف بنسائه يطوف طوفًا: ألمَّ بهنَّ، والإلمام هو الزيارة القصيرة، والمراد هنا: كنايةٌ عن وقاعه بهنَّ بغسلٍ واحدٍ، وفي هذا دليل كمال رجولته -صلى الله عليه وسلم-. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغسل من الجنابة من الطهارة المشروعة، ومن النظافة المرغَّب فيها؛ قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ لما في الاغتسال من فوائد صحية، فإنَّ المجامع حينما تخرج منه النطفة، التي هي سلالة بدنه، وجوهر قوَّته، يحصل له بعد خروجها شيءٌ من الإجهاد والتعب، ويحصل من ذلك فتورٌ وركودٌ في حركة الدم ودورته. 2 - من رحمة العليم الخبير: أن شرع الغُسل من الجنابة الذي يعيد إلى الجسم قوته وحيويته ونشاطه، وكم لله في شرعه من حِكمٍ وأسرار!!. وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المعنى بما رواه مسلم، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتى أحدُكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءًا"، زاد الحاكم: "فإنَّه أنشط للعود". 3 - القَسْم بين الزوجين أو الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن محرَّمٌ، وقد جاء في السنن الأربع عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ¬

_ (¬1) البخاري (268)، مسلم (309).

كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة يجر أحد شدقيه ساقطًا، أو مائلاً". 4 - أخذ العلماء من هذا الحديث وجوبَ القسم بين الزوجات؛ فقال في الإقناع وشرحه: ويحرم على من تحته أكثر من زوجة دخوله في ليلتها إلى غيرها إلاَّ لضرورة، فإن لبث عندها، أو جامع، لزمه أن يقضي لها مثل ذلك في حق الأخرى؛ لأنَّ التسوية واجبة ولا تحصل إلاَّ بذلك". 5 - تقدم أنَّ من حكمة الغسل من الجنابة إعادة النشاط إلى البدن المختل، وتنشيط الأعضاء الخاملة، نتيجة التعب والإجهاد، هذا هو المعهود، والمعروف عند الناس. أما النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: فكان يغتسل من الجنابة؛ لأنَّها إحدى الطهارتين، ويحب أن يكون على كل أحواله طاهرًا، ولكن لديه -صلى الله عليه وسلم- من القوَّة البدنية والرجولة ما هو أكمل من غيره وأوفى، وهذه بعض النصوص الواصفة لتلك الحال: - حديث الباب في الصحيحين عن أنس وهو خادمه، قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف على نسائه بغُسلٍ واحد". - حديث أنس عَند البخاري أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كان يطوف على نسائه فى الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة". - وجاء في صحيح البخاري: "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان له قوهَّ ثلاثين رجلاً"، وفي روايةٍ لأسماء: "على قوَّة أربعين". 6 - فله هذا الخاصية من القوَّة والرجولة التي يكتفي بها عن تنشيط جسمه بالماء والاغتسال، إذا كانت الحال والوقت غير متهيِّء للاغتسال من كل مرَّة، على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- بعد فراغه يسكب الماء على جسمه، وكان يغتسل بالصاع من الماء. 7 - أما أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يدور عليهن في ليلةٍ واحدةٍ، ويجامعهن، فقد أجاب العلماء عن ذلك بعدَّة أجوبة، ولكن أفضلها، وأولاها، وأقربها من الصواب: أنَّ

القَسْم بين زوجاته ليس واجبًا عليه، قال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]. فقد أخرج ابن سعد، عن محمَّد بن كعب القرظي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موسَّعًا عليه في قَسْم أزواجه، يقسم بينهن كيف يشاء؛ وذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] إذا علمن أنَّ ذلك عليه -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن الجوزي: القسم غير واجب عليه -صلى الله عليه وسلم-. وقال الشيخ تقي الدين: أبيح له ترك القَسم. وقال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 15] أي: من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القَسم لهن، فتُقدِّم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت، هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم. ومع هذا كان -صلى الله عليه وسلم- يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من فقهاء الشافعية وغيرهم: إلى أنَّه لم يكن القسم واجبًا عليه -صلى الله عليه وسلم-، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، واختار ابن جرير: أنَّ هذا الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللائي عنده أنَّه مخيَّر، إن شاء قَسَم، وإن شاء لم يقسم؛ وهذا الذي اختاره حسنٌ جيِّدٌ قويٌّ يجمع بين الأحاديث. وقال السيوطي: اختصَّ -صلى الله عليه وسلم- بإباحة عدم القَسم لأزواجه في أحد الوجهين، وهو المختار، وصحَّحه الغزالي. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أباح الله له ترك القسم بين زوجاته على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك فهو تبرُّع منه، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في القسم بينهنَّ في كل شيء، ويقول: "اللَّهمَّ هَذا قَسْمِي فيما أملكُ، فلا تلُمْنِي فيما لا أملك".

باب الصداق

باب الصداق مقدمة الصداق: يقال أصدقتُ المرأة ومهرتُها، مأخوذ من الصِّدْق؛ لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة، وهو العوض الذي في النكاح أو بعده للمرأة بمقابل استباحة الزوج بضعها، وله عدَّة أسماء، وفيه عدة لغات، وهو مشروع في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وغيرها من الآيات. وأما السنة: ففعله -صلى الله عليه وسلم-، وتقريره، وأمره؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "التمس، ولو خاتمًا من حديد". وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعيَّتهِ؛ لتكاثر النصوص فيه، وهو مقتضي القياس؛ فإنَّه لابد من الاستباحة بالنكاح، ولابد لذلك من العوض. ولم يجعل الشرع حدًّا لأكثره ولأقله، إلاَّ أنَّه يستحب تخفيفه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة"، ولما رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب قال: "ما أصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته، أكثر من اثنتي عشرة أوقية". والصالح العام يقتضي تخفيفه؛ فإنَّ في ذلك مصلحة كبيرة للزوجين وللمجتمع، فكم من نساء جَلَسْن بلا أزواج! وكم من شبان قعدوا من غير

زوجات، بسبب غلاء المهور، والنفقات التي خرجت إلى حد السرف والتبذير، وجلوسُ الجنسين بلا زواج يحملهم على ارتكاب الفواحش والمنكرات!!. وكم من مفاسد وأضرار تولدت عن هذا السرف!! فمنها الاجتماعية، والأخلاقية، والمالية، وغيرها، وإذا بلغت إلى هذا الحال، فالَّذي نراه أنه لابد من تدخل الحكومة لحل هذا المسألة، وإصلاح الوضع، بإلزام الناس بالطرق العادلة، والله ولي التوفيق. ***

892 - عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أعتق صفية: سُبيتْ في غزوة خيبر سنة ست، فاصطفاها النبي -صلى الله عليه وسلم- من السبي. - صفِيَّة: بنت حُيي بن أخطب، أبوها سيد بني النضير، ينتهي نسبها إلى هارون ابن عمران -عليه السلام-، كانت تحت كنانة بن أبي الحُقَيق، فقُتل عنها بخيبر. قال العيني: الصحيح أنَّ هذا اسمها قبل السبي. - عتقها: العتق: هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، والنساء في الحرب بعد الاستيلاء عليهن يكنَّ سبايا، وجعل -صلى الله عليه وسلم- عتقها صداقها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كانت صفية نجت حُيي أبوها أحد زعماء بني النضير، وكانت زوجة كنانة بن أبي الحقيق، فقتل عنها يوم خيبر. وقد فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- "خيبر" عنوة، فصار النساء والصبيان أرقاء للمسلمين بمجرد السبي. ووقعت صفية في قسم دحْيةَ بن خليفة الكلبي، فعوَّضه -صلى الله عليه وسلم- عنها غيرها، واصطفاها لنفسه -صلى الله عليه وسلم-؛ جبرًا لخاطرها، ورحمةً بها. ومن كرمه أنَّه لم يكتف بالتمتع بها أمَةً ذليلةً، بل رفع شأنها بإنقاذها من ذلك الرق، وجعلها إحدى أمهات المؤمنين، وذلك أنَّه أعتقها، وتزوَّجها، وجعل عتقها صداقها. ¬

_ (¬1) البخاري (5086)، مسلم (2/ 1045).

2 - جواز عتق الرجل أمته، وجعل عتقها صداقًا لها، وتكون زوجته. 3 - أنَّه لا يشترط لذلك إذنها، ولا شهود، ولا ولي؛ كما لا يشترط التقيد بلفظ الإنكاح، ولا التزويج. 4 - وفيه دليل على جواز كون الصداق منفعة دينية، أو دنيوية. 5 - وفي مثل هذا القصة في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما يدل على كمال رأفته وشفقته؛ فهذه أرملة فقدت أباها مع أسرى بني قريظة المقتولين، وفقدت زوجها في معركة خيبر، وهما سيدا قومهما، ووقعت في الأسر والذل، وبقاؤها تحت أحد أتباعه زوجةً أو أمةً ذُلٌّ لها، وكسر لعزِّها، ولا يرفع شأنها، ويجبر قلبها إلاَّ أن تنقل من سيد إلى سيد، فكان هو أولى بها صلوات الله وسلامه عليه. وبهذا تعلم أنَّ هذا التعدد الذي وقع له -صلى الله عليه وسلم- في الزوجات ليس إرضاءً لرغبةٍ جنسيةٍ، كما يقول أعداء هذا الدِّين، والكائدون له، وإلاَّ لقصَد إلى الأبكار والصغار، ولم يكن زواجه من إلاَّ من ثيباتٍ انقطعن لفقد أزواجهنَّ، أو سبابا وقعن في أسره. ولو استعرضنا قصص زواجه بهنَّ، واحدةً واحدةً، لوجدناها لا تخرج عن هذه المقاصد الرحيمة النبيلة؛ فما أبعده عما يقول المعتدون الظالمون!! وقد صنَّف في هذا الموضوع عددٌ من الكتَّاب المُحْدَثين. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في جواز جعل العتق صداقًا. فذهب الإمام أحمد، وإسحاق: إلى جوازه؛ عملاً بقصَّة زواج صفية، وبأنَّه القياس الصحيح؛ لأنَّ السيد مالكٌ لرقبة أمته ومنفعتها ومنفعة وطئها، فإذا أعتقها، واستبقا شيئًا من منافعها، التي هي تحت تصرفه، فما المانع من ذلك، وما هو المحذور؟. وذهب الأئمة الثلاثة: إلى عدم جواز ذلك، وتأوَّلوا الحديث بما يخالف

ظاهره، أو حملوه على الخصوصية للنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وحمل الحديث على خلاف ظاهره، أو جعله خاصًّا، يحتاج إلى بيانٍ ودليلٍ؛ لأنَّ الأصلَ بقاء الحديث على الظاهرة؛ كما أنَّ الأصل في الأحكام العموم، ولو كان خاصًّا لنُقِل. ***

893 - وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأِزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أوقِيَةً، وَنشًّا، قَالَتْ: أَتَدْري مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَتْ: نِصْفُ أُوْقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَزوَاجِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أوقية: الأوقية أربعون درهمًا، وهو نقدٌ من الفضة، وقدره (147) غرامًا. - نشًا: بفتح النون، ثم شين معجمة مشدَّدة، والنش: نصف الأوقية، أي: عشرون درهمًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه استحباب تخفيف الصداق، وأنَّ ذلك هو المشروع؛ فخير الصداق أيسره، وخير النِّساء أيسرهن مؤنة. 2 - أنَّ صداق النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته غالبًا اثنتا عشرة أوقية ونصف الأوقية، وهو -صلى الله عليه وسلم- القدوة الكاملة في العادات والعبادات، والأوقية أربعون درهمًا، فيكون خمسمائة درهم. 3 - خمسمائة درهم هي بالريال العربي السعودي مائة وأربعون ريالاً. 4 - أين هذا مع ما يفعله الناس اليوم من المغالاة في المهور، والتفاخر بما يدفعون إلى المرأة وأوليائها، سواء أكان الزوج غنيًا أم فقيرًا، فهو يريد أن لا ينقص عن غيره في هذا المجال؛ إنَّ هذا السرف، وذلك التبذير، وتلك ¬

_ (¬1) مسلم (1426).

المفاخرة والمباهاة، هي التي جعلت الشباب عاطلاً بلا زواج، فمن عصمه الله فهو مكبوت، ومن اتَّبع شهواته وملذاته اندفع في الرذيلة، وهذا الفعل الشنيع هو الذي ملأ البيوت من الشابات العوانس، اللاتي يشتكين الوحدة، ويَخَفْنَ من المستقبل المظلم، حينما لا يخلفن أولادًا يكونون لهنَّ في مستقبلهن وكبر سنهنَّ، إنَّ هذا الأمر لا تكفي فيه المواعظ والنصائح والتوجيه، فلابد من حدٍّ يحده، وعملٍ جاد يردُّه إلى الصواب، وإلاَّ ضاع الأمر، وحلَّت المشكلات والصعاب. 5 - الحديث فيه أصل مشروعية الصداق في النكاح، وأنه لابد منه، سواء سمِّي في العقد أو لم يسم، فإن سمي فهو على ما اتَّفق عليه الزوجان، وإن لم يسم فللزوجة مهر المثل. 6 - الصداق لم يُقصد علما أنَّه عوض فقط، وإنما قصد على أنه نِحلة وهدية، يُكرِمُ بها الرجل زوجته عند دخوله عليها، ومقابلته لها، جبرًا لخاطرها، وإشعارًا بقدْرها، ولو كان القصد به مجرَّد العوض لما قنع بتخفيفه؛ لأنَّه مسوق لأغلى ما تملكه المرأة، ولابد من العدالة في المعاوضات. 7 - أنَّ الأثمان هي قِيَم الأشياء من صداق، وثمن مبيع، وأجرة منفعة، وقيمة متلف، وغير ذلك، فهي الأصل، وغيرها عروض. * قرار مجلس هيئة كبار العلماء في مسألة غلاء المهور، رقم: (94) وتاريخ 6/ 11/ 1402 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمَّد، وعلى آله وصحابته أجمعين. فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال، وحتى السادس من شهر ذي القعدة عام: 1402هـ، نظر في ظاهرة غلاء المهور، وما ينبغي أن يُتَّخذ

بشأنها؛ بناءً على كتاب صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء، الموجَّه لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، برقم (16947) وتاريخ 16/ 7/ 1402 هـ، المتضمن رغبة سموه في إحالة الموضوع إلى مجلس هيئة كبار العلماء لدراسته، وإصدار توصية بشأنه، فاستعرض المقترحات والحلول التي جاءت فيه، وبعد الدراسة وتداول الآراء في الموضوع رأي المجلس ما يلي: أولاً: يؤكد المجلس ما أصدره بقراره رقم (52) في الأمور التالية: 1 - منع الغناء الذي أُحدث في حفلات الزواج، بما يصحبه من آلات اللَّهو، وما يُستأجر له من مغنيين، ومغنيات بآلات عالية الصوت؛ لأنَّ ذلك منكر محرَّم يجب منعه، ومعاقبة فاعله. 2 - منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات، ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك، من زوجٍ وأولياء لزوجة، معاقبة تزجر عن مثل هذا المنكر. 3 - منع الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج، وتحذير الناس من ذلك؛ بواسطة مأذوني عقود الأنكحة، وفي وسائل الإعلام، وأن يرغِّب الناس في تخفيف المهور، ويُذم لهم الإسراف فيها على منابر المساجد، وفي مجالس العلم، وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام. 4 - يرى المجلس الحث على تقليل المهور، والترغيب في ذلك على منابر المساجد، وفي وسائل الإعلام، وذكر الأمثلة التي تكون قدوةً حسنةً في تسهيل الزواج؛ إذْ وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر، أو اقتصر على حق متواضع لما في القدوة الحسنة من التأثير. 5 - يرى المجلس أنَّ من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف، أن يبدأ بذلك قادة النَّاس من الأمراء، والعلماء، وغيرهم من وجهاء الناس،

وأعيانهم، وذوي الثراء فيهم، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير، فإنَّ عامة الناس لا يمتنعون؛ لأنَّهم تبعٌ لرؤسائهم، وأعيان مجتمعهم. ثانيًا: يرى المجلس بالإضافة إلى ما سبق أن تمنع الدولة -وفَّقها الله- إقامة حفلات الزواج في الفنادق ودور الأفراح لما يحصل في كثيرٍ منها من منكرات، ولما في إقامتها فيها من السَّرف، وإنفاق الأموال الطائلة، التي تزيد على المهور نفسها في بعض الأحيان، ولما لها من الأثر الكبير في ارتفاع تكاليف الزواج. ويؤكِّد المجلس مرَّةً أخرى دعوته للقادة، والعلماء، والوجهاء، أن يُسهم كلٌّ منهم بنصيبه في حل هذا المشكلة، ويكون قدوة حسنة في أمور الزواج، وليعلموا أنَّ لهم من الله أجرًا عظيمًا إذا هم صدقوا في ذلك، وسنوا سنة حسنة في عباده، كما أنَّ عليهم الإثم والعقاب، إذا خالفوا هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا قدوة سيئة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها، إلى يوم القيامة". ثالثأ: أما ما يتعلَّق باتفاق بعض القبائل على مهور محدَّدة، وطرق معيَّنة، فإن المجلس -ما عدا واحدًا من أعضائه- رأى ما يلي: (أ) الموافقة على ما تترضى عليه كل قبيلة في تحديد المهور، على أن يكون ما اتَّفق عليه مناسبًا لحال تلك القبيلة، بأن لا يكون فيه مغالاة، وأن يكون ما تمَّ الإنفاق عليه ساريًا على أفراد تلك القبيلة. (ب) يعتبر ما تراضى عليه كل قبيلة حدًّا أعلى للمهر بالنسبة لتلك القبيلة، فمن أراد ممن تراضوا أن يزوج موليته باقل من هذا برضاها، فله ذلك، بل يشكر عليه. (ج) من زاد عن الحدِّ الذي تراضت عليه تلك القبيلة، نَظر فضيلة

القاضي في جهته في الدواعي التي حملته على ذلك: فإن رأى إمضاء الزيادة أمضاها، وإن رأى ردها ألزمه بردها على ما يقتضيه نظره في ذلك، هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحابته أجمعين. "هيئة كبار العلماء" ... * قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول تفشي عادة الدوطة في الهند: الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإنَّ مجلس المجمَّع الفقهي الإسلامي قد اطَّلع على ترجمة خطاب الأخ عبد القادر الهندي، الذي جاء فيه قيامه في محاربة "الدوطة"، وهو المبلغ الذي تدفعه العروس في مجتمع الهند الإسلامي، مقابل الزواج، وأن يكتفي المسلمون الهنود فقط بتدوين المهر في سجل الزواج دون أن يدفعوه إلى الزوجة فعلاً، ولقد كتب الكثير في هذا الصدد في كثير من صحف "التاميل" الإسلامية، ثم يستطرد الأخ عبد القادر في خطابه فيقول: "ومن ثم فإنَّ هذا الزواج حرامٌ، كما أنَّ المواليد الناشئين عن هذا الزواج غير شرعيين، طبقًا للكتاب والسنة. كما اطَّلع المجلس على خطاب فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي الموجَّه إلى معالي الأمين العام للرابطة بتاريخ 16/ 3/ 1404 هـ، والذي جاء فيه: "إنَّ قضية الدوطة، قضيةٌ متفشيةٌ في سكان الهند، وهي قضية الهندوس بالدرجة الأولى، دخلت على المسلمين، بسبب احتكاك بناتهم ببنات الهنود، ويحارب قادة المسلمين هذه العادة، وبدأت الحكومة الهندية كذلك تستبعد هذه العادة أخيرًا. . . وأرى أن يكفي لمجلسنا الفقهي إصدار فتوى وبيان، حول هذه القضية، ينهى المسلمين عن اتباع عادةٍ جاهليةٍ ظالمةٍ، مثل الدوطة، تسربت

إليهم من غيرهم، وأرجو أنَّ قادة المسلمين في الهند جميعًا إذا بذلوا جهودهم في ذلك، كان نجاحًا كبيرًا، في إزالة هذا العادة، والله ولي التوفيق. اهـ كلامه. وبعد أن اطَّلع المجلس على ما ذكره قرَّر ما يلي: أولاً: شكر فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي، وشكر الأخ عبد القادر، على ما أبدياه نحو عرض الموضوع، وعلى غيرتهما الدينية، وقيامهما بمحاربة هذا البدعة والعادة السيئة، والمجلس يرجو منهما مواصلة العمل في محاربة هذا العادة، وغيرها من العادات السيئة، ويسأل الله لهما وللمسلمين التوفيق والتسديد، وأن يثيبهما على جدهما واجتهادهما. ثانيًا: ينبه المجلس الأخ عبد القادر وغيره بأنَّ هذا الزواج وإن كان مخالفًا للزواج الشرعي من هذا الوجه، إلاَّ أنَّه زواجٌ صحيحٌ معتبرٌ شرعًا عند جمهور علماء المسلمين، ولم يخالف في صحته إلاَّ بعض العلماء، في حالة اشتراط عدم المهر، أما الأولاد الناشئون عن هذا الزواج، فهم أولادٌ شرعيون منسوبون لآبائهم وأمهاتهم نسبة شرعية صحيحة، وهذا بإجماع العلماء، حتى عند الذين لا يرون صحة هذا النكاح المشروط فيه عدم المهر، فقد صرَّحوا في كتبهم بإلحاق الأولاد بآبائهم وأمهاتهم بهذا الزواج المذكور. ثالثًا: يقرر المجلس أنَّ هذه العادة سيئةٌ منكرةٌ، وبدعةٌ قبيحةٌ، مخالفةٌ لكتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع العلماء، ومخالفة لعمل المسلمين في جميع أزمانهم: أما الكتاب: فقد قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وغير ذلك من الآيات.

وأما السُّنَّة: فقد جاءت مشروعية المهر في قوله -صلى الله عليه وسلم-، وفعله، وتقريره فقد جاء في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، عن جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنَّ رجلاً أعطى امرأة صداقًا، ملءَ يديه طعامًا، كانت له حلالاً"؛ فهذا من أقواله. وأما فعله: فقد جاء في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن عن عائشة قالت: "كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونصف أوقية"؛ فهذا فعله. وأما تقريره: فقد جاء في الصحيحين وغيرهما: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: ما هذا؟ قال: تزوجت امرأة على وزن نواةٍ من ذهب، قال: بارك الله لك" فهذا من تقريره. وهو إجماع المسلمين، وعملهم في كل زمانٍ ومكانٍ، ولله الحمد. وبناء عليه: فإنَّ المجلس يُقرِّر بأنَّه يجب أنْ يدفع الزوج لزوجته صداقًا، سواء كان الصداق معجلاً، أو مؤجلاً، أو بعضه معجل، بعضه مؤجل، على أن يكون تأجيلاً حقيقيًّا يراد دفعه عند تيسره، وأنَّه يحرم أن يجري الزواج بدون صداق من الزوج لزوجته. ويوصي المجلس: بأنَّ السنَّة هو تخفيف الصداق، وتسهيله، وتيسير أمر النكاح، وذلك بترك التكاليف والنفقات الزائدة، ويحذِّر من الإسراف والتبذير؛ لما في ذلك من الفوائد الكبيرة. رابعًا: يناشد المجلس العلماء والأعيان والمسؤولين فيها وغيرهم، محاربة هذه العادة السيئة "الدوطة"، وأن يجدوا ويجتهدوا في إبطالها، وإزالتها من بلادهم، وعن ديارهم؛ فإنَّها مخالفةٌ للشرائع السماوية، ومخالفةٌ للعقول السليمة، والنظر المستقيم. خامسًا: إنَّ هذا العادة السيئة -علاوةً على مخالفتها للشرع الإسلامي- هي مضرَّةٌ بالنِّساء ضررًا حيويًّا؛ فالشباب لا يتزوَّجون عندئذٍ إلاَّ الفتاة التي يقدم

أهلها لهم مبلغًا من المال يرغبهم ويغريهم، فتحظى بنات الأغنياء بالزواج، وتقعد بنات الفقراء دون زواج، ولا يخفى ما فى ذلك من محاذير ومفاسد؛ كما أنَّ الزواج عندئذٍ يصبح مبنيًّا على الأغراض والمطامع المالية، لا على أساس اختيار الفتاة الأفضل، والشاب الأفضل، والمشاهد اليوم في العالم الغربي: أنَّ الفتاة غير الغنية تحتاج أن تقضي ربيع شبابها في العمل والاكتساب، حتى تجمع المبلغ الذي يمكن به ترغيب الرِّجال في الزواج منها؛ فالإسلام قد كرَّم المرأة تكريمًا، حين أوجب على الرَّجل الرَّاغب في زواجها أن يقدِّم هو إليها مهرًا، تصلح به شأنها، وتهيء نفسها، وبذلك فتح بابًا لزواج الفقيرات؛ لأنَّهنَّ يكفيهنَّ المهر القليل، فيسهِّل على الرجال غير الأغنياء، الزواج بهنَّ، والله ولي التوفيق. ***

894 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَعْطِهَا شَيْئًا، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْء، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِتَّةُ؟ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحَّحه الحاكم، وأخرجه النسائي، وأبو داود، وسكت عنه هو والمنذري، وقد جاءت عدَّة روايات في صداق علي بفاطمة، ولكن قال الصنعاني: الروايات في تعيين صداق فاطمة غير مسندة. قال ابن حزم: إنَّ الأحاديث التي فيها أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عليًّا أن يدخل بفاطمة حتى يعطيها شيئًا، إنَّما جاءت من طرق مرسلة، أو فيها مجهول، ولا يصح شيء منها. * مفردات الحديث: - الدِّرع: قميصٌ من حِلَقِ الحديد، يُلبَس في الحرب؛ للوقاية من السلاح. - الحُطميَّة: منسوبٌ إلى قبيلة حُطمة بن محارب، بطنٌ من عبد القيس، كانوا يصنعون الدروع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، زوَّجه ابنتَه فاطمة الزهراء، أصغر بناته -صلى الله عليه وسلم-، وزواجه بها في السنة الثانية من الهجرة، فولدت له الحسن، والحسين، ومحسنًا، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وماتت فاطمة ¬

_ (¬1) أبو داود (2125)، النسائي (6/ 130).

-رضي الله عنها- بالمدينة، بعد وفاة أبيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر، وقد جاوزت العشرين بقليل. 2 - أنَّه لابُدَّ في النِّكاح من الصداق؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر عليًّا أنْ يُعطي زوجه صداقًا، ولمَّا لم يجد شيئًا، سأله عن درعه؛ ليُصْدقها إيَّاها، مع أنَّ الدِّرع من مال قُنيته التي يحتاجها. 3 - وفيه استحباب تخفيف الصداق؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سأل عليًّا أي شيء يقدمه مهرًا؛ فإذا كانت بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُصدَق بمثل هذا المتاع الرخيص، فكيف يكون التغالي في غيرها؟! 4 - الصداق ليس عوضًا أصليًّا في عقد النكاح؛ ولذا فإنَّه لا يضر جهله في العقد، ويحسن تخفيفه، ويصح النكاح بدونه، وإن وجب فيه. وإئَما الصداق هديةٌ طيبةٌ لزوجةٍ جديدةٍ؛ جبرًا لخاطرها، وإشعارًا لها بالرغبة والقَدْر، ولذا أسماه الله تعالى نِحْلة، والنحلة هي العطاء تبرعًا. 5 - وفيه أنَّ الصداق كما يكون بالنقود والأثمان، يكون أيضًا بالعروض والمتاع. 6 - وفيه دليلٌ على أنَّ إعداد آلة الجهاد، من دروعٍ، وسلاحٍ، وفرسٍ، لا يُعتبر توقيفًا لا يجوز معه التصرف فيه، ببيعٍ ونحوه. ***

895 - وَعَنْ عَمْرو بْنِ شعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلى صَدَاقٍ، أوْ حِبَاءٍ، أَوْ عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاح، فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ" رَوَاهُ أحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواته ثقات. قال الشوكاني في النيل: الحديث سكت عنه أبو داود، وأشار المنذري إلى أنَّه من رواية عمرو بن شعيب، وفيه مقال معروف، أما مَن دُون عمرو بن شعيب، فهم ثقات، لكن قال كثير من أئمة الحديث: إذا روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه كهذا الحديث، فإنَّه يروي عن صحيفةٍ، لا عن سماع. * مفردات الحديث: - أيُّما؛ اسمٌ مبهمٌ، متضمنٌ معنى الشرط، معربةٌ بالحركات الثلاث؛ لملازمتها الإضافة إلى المفرد، نحو: "أي امرأة"، وقد يُحذف المضاف إليه، فيلحقها التنوين عوضًا منه؛ نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الاسراء: 110]، وقد تلحق "ما" زائدة، كما في هذا الحديث، فتكون للتوكيد، وفعل الشرط: نكحت، وجوابه: فهو لمن أُعطيه. - حِبَاء: بكسر الحاء، وفتح الباء ممدودًا، هو ما تعطاه المرأة زيادةً على مهرها. - عدة: بكسر العين المهملة، ما وعد به الزوجُ زوجته، وإن لم يُحْضِرُهُ. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 182)، أبو داود (2129)، النسائي (6/ 120)، ابن ماجه (1955).

- عِصمة النكاح: بكسر العين، وسكون الصاد المهملة، يُقال: عصم الشيء يعصمه عصمًا: منعه، والاسم العصمة، قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، العصم: جمع عصمة، والعصمة: ما يعتصم به، والمراد به عقد النكاح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ أي امرأةٍ تزوَّجت على صداق، وهو المهرُ، أو حِبَاءٍ، وهي العطية المعطاة لقريب الزوجة، أو عِدَةٍ، وهو ما يعِد به الزوج، وإن لم يحضره، إن كانت هذه الأشياء الثلاثة ونحوها من الهدايا والعطايا قد قدمت قبل عقد النكاح، فهو للزوجة لا لغيرها، ولو سمي باسم غيرها من أقاربها، ذلك أنَّه لم يُعط، ولم يقدَّم إلاَّ لأجل النكاح المنتظر. 2 - أما ما يقدم بعد عقد النكاح لغير الزوجة من أقاربها من أبٍ، أو أخٍ، أو عمٍّ، أو غيرهم، فهو لمن أعطيه؛ ذلك أنَّ عقد النكاح قد تمَّ، ولم يبق شيءٌ يُحابى من أجله، وإكرام أصهار الرجل أمرٌ مألوفٌ، ومحبوبٌ، ومرغبٌ فيه؛ فقد أصبحوا أقارب، والصلة بين الأقارب مشروعة. 3 - أمَّا ما يفعله بعض القبائل من أنَّ ولي أمر الزوجة يختص بمهرها، ويحرمها منه، فهذا حرام لا يجوز؛ فلا يحل للزوج أن يعطيه إيَّاه، ولا يحل للولي، إن لم يكن أبًا أن يأخذه ويتموله، وهذه عادةٌ محرَّمةٌ، وقبيحةٌ جدًّا. ويجب على ولاة الأمور الأخذ بالتوعية عنها، ثم الإجبار على تركها. 4 - أجاز العلماء للوالد أن يشترط لنفسه شيئًا من الصداق؛ قال في شرح الإقناع: ولأبي المرأة أن يشترط شيئًا من صداقها لنفسه، ولو اشترط كل الصداق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتَ ومالك لأبيك"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنَّ أولادكم من كسبكم" [رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه].

896 - وَعَنْ عَلْقمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّه سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا؛ لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلَهَا المِيراثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ -امرَأَةَ مِنَّا- مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَجَمَاعَةٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، وصحَّحه ابن مهدي، والترمذي، والبيهقي، وقد اختُلف في اسم راويه الصحابي، ولكن لا يضر؛ لأنَّه كلهم عدول، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي. وقال ابن حزم: لا مغمز فيه، لصحة إسناده. وله شاهدٌ أخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من حديث عقبة بن عامر. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 279)، أبو داود (2115)، النسائي (6/ 121)، الترمذي (1145)، ابن ماجه (1891).

* مفردات الحديث: - لم يَفْرِض لها: بفتح الياء، وكسر الراء، أي: لم يقدّر. - لا وكس؛ بفتح الواو، فسكون الكاف، ثم سين مهملة، يقال: وكس الشيءُ يكس وكسًا: نقص، فقوله: ولا وكس، أي: لا نقصان، والمعنى: لا ينقص عن مهر نسائها. - شطط: بفتِح الشين المعجمة، ثم طاء مهملة، والشطط: الجَور؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُشْطِطْ} أي: لا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها. - بِرْوع: بكسر الباء، وسكون الراء، هي بروع بنت واشق، من أشجع بن ريث ابن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وهي زوج هلال بن أمية. - واشِق: بفتح الواو، بعده ألف، ثم شين معجمة مكسورة، وآخره قاف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ما جاء في هذا الحديث يسمى عند الفقهاء، تفويض البضع، وذلك بأن تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، إن كان لها إذن معتبر، أو يزوجها وليها إن لم يكن لها إذن بلا مهر مسمًّى؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. ولما جاء في حديث الباب. 2 - وبما أنَّه قد حصل عقد النكاح، فإذا توفي زوجها، فعليها عدة الوفاة والإحداد، ولو لم يحصل دخول، ولا خلوة. 3 - ولها الميراث؛ لأنَّها زوجة بعصمة زوجها. قال في الروض المربع: ومن مات من الزوجين قبل الإصابة، والخلوة، وفرض مهر المثل، ورثه الآخر، لأنَّ ترك تسمية الصداق لا يقدح في صحة النكاح. 4 - ولها مهر مثلها من قراباتها؛ فيعتبره الحاكم بمن تساويها منهنَّ في مال،

وجمال، وعقل، وأدب، وسن، وبكارة أو ثيوبة، وهذا معنى كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي في حكم المرفوع لقوله: "لها مثل صداق نسائها؛ لا وَكس ولا شطط". 5 - قال شيخ الإسلام: اتَّفق العلماء على أنَّ من تزوَّج امرأةً، ولم يقدِّر لها مهرًا، أنَّه يصح النكاح، ويجب لها مهر مثلها إذا دخل بها، وإن طلَّقها قبل الدخول فليس لها مهر، بل لها المتعة بنص القرآن. 6 - يدل الحديث على أنَّ عدم ذكر المهر في العقد أو قبله، لا يُخِلُّ بصحة النكاح؛ فإنَّه يصح ولو لم يسم. 7 - ويدل على أنَّه لابد من وجود الصداق في النكاح، وأنَّ عدم ذكره لا يجعل عقد النكاح عقد تبرع لا عوض فيه. 8 - ويدل على أنَّ المهر ليس عوضًا مقصودًا في النكاح، وإلاَّ لَما صحَّ النكاح بلا ذكره وتسميته. ***

897 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَوِيقًا، أَوْ تَمْرًا، فَقَدِ اسْتَحَلَّ" أَخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ، وَأشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الجديث: الحديث موقوف. قال المؤلف: أخرجه أبو داود، وأشار إلى ترجيح وقفه. وقال في التلخيص: أخرجه أبو داود، وفي إسناده مسلم بن رومان، وهو ضعيف، وروي موقوفًا، وهو أقوى، ورجَّح وقفه أبو داود وعبد الحق. * مفردات الحديث: - سويقا: بفتح السين، وكسر الواو، ثم ياء ساكنة، ثم قاف، هو التمر والدقيق المخلوط بالأقِط والسمن، يعجن بعضه ببعض كالعصيدة. - استحل: يقال: استحلَّ يستحل استحلالاً: اتَّخذه حلالاً، والحلال ضد الحرام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الصداق ليس ركنًا أساسيًّا في عقد النكاح، وليس عِوضًا مقصودًا لذاته، وإنما هو تكرمة رمزية، يقدمها الزوج لزوجته كهدية أو نِحلة؛ قدرًا لها، وجبرًا لخاطرها. 2 - لذا جاز أن تكون هذه الأشياء اليسيرة صداقًا، وتُقَدَّم مهرًا، إذا لم يوجد ما هو أغلى منها. ¬

_ (¬1) أبو داود (2110).

3 - ويدل على أنَّ الشارع يرغِّب في الزواج والإقدام عليه، وأن لا يمنع منه الفقر؛ لئلا يكون المهر حَجر عثرة في سبيل طريق هذا العقد الخيري الذي يحصل به إعفاف الجنسين، وحصول الذرية، وتحقيق مباهاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بتكثير سواد أمته في الدنيا؛ ليكونوا قوَّة في وجه عدوهم، وفي القيامة حينما يباهي بكثرتهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. 4 - أنَّه لابد من الصداق، ولو يسيرًا، إذا لم يوجد الصداق الكافي؛ فإنَّ استحلال بضع المرأة لا يكون إلاَّ بمهر. قال في نيل المآرب: ولا يتقدر الصداق، بل كل ما صحَّ أن يكون ثمنًا، صحَّ أن يكون مهرًا وإن قلَّ. 5 - أنَّ الصداف يكون بغير النقدين؛ خلافًا لبعض المذاهب التي تقيده بأحد النقدين. ***

898 - وَعنْ عَبْدِ اللهِ بِنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيه -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلى نَعْلَيْنِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وخُولفَ فِي ذلِكَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال الحافظ في "بلوغ المرام" بعد أن حكى تصحيح الترمذي له: إنَّه خولف فى ذلك. قال في الفتح الرباني: أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي. وقال الترمذي: حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح. وممَّن خالف في الحكم على صحته البخاري، أما ابن معين، فقال: فيه عاصم بن عبيد الله ضعيف، وقال ابن حبان: فاحش الخطأ فترك، ونقل ابن التركماني عن أبي حاتم الرازي: أنَّه حديث منكر. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (1113)، ابن ماجه (888).

899 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "زَوَّجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ" أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَهُو طَرَفٌ مِنَ الحَدِيثِ الطَّوِيلِ المُتَقَدِّمِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: أصل الحديث في الصحيحين. قال المؤلف: إنَّ هذا الحديث طرفٌ من الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح، فالحديث في الصحيحين، ولكن لم يتم تزويجه -صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل بخاتم من حديد، وإنما أذن في جعل الصداق خاتمًا من حديد، وهو كاف لثبوت الحكم. ... ¬

_ (¬1) الحاكم (2/ 178).

900 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "لاَ يَكُونُ المَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وَفِي سَنَدهِ مَقَالٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف، ومنهم من حسَّنه. قال المؤلف: أخرجه الدارقطني موقوفًا على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وفي سند الموقوف مقال؛ ذلك أنَّ في إسناده مبشر بن عبيد، قال أحمد: وكان يضع الحديث. ولا يعول على مثل هذا بجانب الأحاديث الصحيحة، وقد روي من حديث جابر مرفوعًا، ولا يصح. قال الكمال بن الهمام في فتح القدير: وهو حجة بالتضافر والشواهد، ثم نقل عن شيخه الحافظ ابن حجر بإسناد آخر أنَّه حسن الإسناد. ... ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 245).

901 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه النسائي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، والحديث له متابعات. وله إسناد خير من هذا عند أحمد وغيره بلفظ: "إنَّ مِن يُمْن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صَداقها، وتيسير رحمها" أخرجه أحمد، وابن حبان، والبيهقي. وقد أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - أنَّه لابد في النكاح من صداقٍ وإن قلَّ؛ ليكون هديَّةً للزوجة، وتحفةً تُقدَّم لها عند الدخول عليها. 2 - أنَّ الصداق ليس مقصودًا لذاته في النكاح، فليس هو عوضًا مرادًا، وإنما هو نِحلة في هذا العقد المبارك. 3 - أنَّ الشارع الحكيم يتشوَّف إلى عقد النكاح، ويحثُّ عليه، ويسهِّل طريقه؛ لتحصل المقاصد الطيبة، والثمار الحميدة من الزواج. 4 - أنَّه ينبغي أن لا يكون الفقر عائقًا، ومانعًا من الزواج؛ فعلى الزوج أن يقدِّم ما تيسَّر، وعلى الزوجة وأوليائها أن يقبلوا ما يُقدم إليهم، فليس القصد من ¬

_ (¬1) أبو داود (2117)، الحاكم (2/ 181).

الزواج التجارة والمساومة، وإنما القصد الاتصال وتحقيق نتاجه. فهذه الأحاديث التي قدم فيها المتزوِّجون لزوجاتهم سَويقًا، وتمرًا، ونعلين، وخاتمًا من حديد، وعشرة دراهم، كلُّ هذه تدلُّ على أنَّ الصداق وسيلة، لا غاية. 5 - أما الحديث رقم (901) فيستفاد منه أنَّ خير الصداق أيسره، وأسهله، وأقلَّه مؤنة على الزوج. 6 - جاء في سنن أبي داود، والنسائي، ومستدرك الحاكم وصحَّحه، عن أبي العجفاء السهمي قال: خطب بنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "لا تغالوا بصداق النِّساء؛ فإنَّها لو كانت مَكْرُمَة في الدنيا، أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما أصدق امرأهًّ من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية" قال الحاكم: صحيح الإسناد. وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وقال الشيخ أحمد شاكر: ثبتت الدلائل على صحته. 7 - قال الألباني: أما ما شاع على الألسنة من اعتراض المرأة على عمر، فهو ضعيف منكر. قال البيهقي: منقطع، قلت: ومع انقطاعه ضعيف من أجل مجالد بن سعيد، ثم هو منكر المتن؛ فإنَّ الآية لا تنافي توجيه عمر إلى ترك المغالاة في مهور النساء. وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: قصة اعتراض المرأة على عمر ابن الخطاب لها طرق لا تخلو من مقال؛ فلا تصلح للاحتجاج، ولا معارضة النصوص الثابتة؛ وحينئذٍ فكلام عمر وهو المحدَّث المُلْهَمُ؛ وهو الموافق للنصوص، صوابٌ وملزمٌ بالعمل به.

* قرار هيئة كبار العلماء بشأن القضاء على السرف: أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا برقم (52) وتاريخ: 4/ 4/ 1397 هـ، جاء فيه: ويرى المجلس أنَّ من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف، أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء، والعلماء، وغيرهم من وجهاء الناس، وأعيانهم؛ فإنَّ عامة الناس لايمتنعون من ذلك؛ لأنَّهم تبعٌ لرؤسائهم، وأعيان مجتمعهم؛ فعلى ولاة الأمور أن يبدؤوا في ذلك بأنفسهم، ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم؛ اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته، رضوان الله عليهم. ***

902 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ الجْونِ تَعَوَّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ، تَعْنِي: لَمَّا تَزَوَّجَهَا، فَقَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِمُعَاذٍ، فَطَلَّقَهَا، وَأَمَرَ أُسَامَةَ يُمَتِّعْهَا بِثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَتْرُوك (¬1)، وَأَصْلُ القِصَّةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسِيدٍ السَّاعِدِيِّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: تقدم الكلام عليه في حديث رقم (876). * مفردات الحديث: - عَمْرَة بنت الجَوْن: هي عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية. - عُذْتِ بمُعاذ: التجأت واعتصمت بملجأ، وهو الله تعالى. - يُمتِّعُهَا: المتعة: هدية تعطى للزوجة المفارَقةِ في حال الحياة؛ جبرًا لخاطرها، وتقدر بحال إعسار الزوج أو يساره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - عمرة بنت الجون تزوَّج بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقابلته بقولها له: أعوذ بالله منك، فأجابها بقوله: لقد عذتِ بما يُستعاذ به، فطلَّقها، وأمر أسامة بن زيد يمتعها بثلاثة أثواب. 2 - ففي الحديث دليلٌ على مشروعية تمتيع المرأة المطلقة؛ وذلك جبرًا ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2037). (¬2) البخاري (5255).

لخاطرها، وإرضاءً لنفسها، وتسكينًا لقلبها، وعملاً بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة]. 3 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -عند قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة]-: ذكر هنا أنَّ كل مطلقة لها على زوجها أن يمتعها، ويعطيها ما يناسب حاله وحالها، وأنَّ ذلك حقٌّ، إنَّما يقوم به المتقون، فإن كانت المرأة لم يُسمَّ لها صداقٌ، وطلَّقها قبل الدخول، فتجب عليه المتعة بحسب يساره وإعساره، وإن كان مسمًّى لها، فمتاعها نصف المسمًّى، وإن كانت مدخولاً بها، صارت المتعة مستحبة في قول جمهور العلماء، ومن العلماء من أوجب ذلك؛ استدلالاً بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة]، والأصل في "الحق" أنَّه واجب. 4 - لما استعاذت المرأة منه -صلى الله عليه وسلم- قال: لقد عُذْتِ بمعاذ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من استعاذكم بالله، فأعيذوه" [رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي]؛ فكان هو أوَّلَ من نفَّذ وعمل بوصاياه، بأنَّه من اعتصم بالله، فلا يتجرأ عليه، وهي لم تقل هذا كراهية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما اجتهادًا منها.

باب وليمة العرس

باب وليمة العرس مقدمة الوليمة: مشتقة من الولم، وهو الجمع؛ لاجتماع الزوجين، قاله الأزهري. قال ثعلب: الوليمة اسم لطعام العرس خاصَّة، لا يقع على غيره. والعُرْس: بضم العين، وسكون الراء، هو الزفاف والتزويج، جمعه أعراس. العِرْس: بكسر العين، يقال: هو عرسها، وهي عرسه، وهما عرسان. العَرُوس: بفتح العين، المرأة ما دامت في عرسها، وكذلك الرَّجل، وتسمى عروسة ما دامت في عرسها. قال في اللسان: والزوجان لا يسميان عروسين إلاَّ أيَّام البناء. قال المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم: إعلان النكاح بالدف سُنَّة، وفيه مصلحة لا تخفى، فهو مشروع؛ لإظهار النكاح. قال في سبل السلام: دلَّت الأحاديث على مشروعية الإعلان للنكاح، وعلى الأمر بضرب الغربال، والأحاديث فيه واسعة، لكن بشرط أن لا يصحبه محرَّم، من التغني بصوت رخيم من امرأة أجنبية. قال المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الأغاني قسمان: الأول: ما اشتمل على حِكم، ومواعظ، وحماس، ونصائح، ونحو ذلك، فهو جائز. الثاني: ما فيه غرام، ويشتمل -على صوت مزمار، وما أشبه ذلك فهو حرام.

903 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رأى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أثر: الأثر: هو العلامة، وبقية الشيء، والمراد هنا: بقية الطيب الذي استعمل عند الزفاف. - ما هذا: يستفهم عن سبب الطيب، ويحتمل أنَّه للإنكار فقد نهى عن تضمخ الرجال بالخلوق، فأجابه بأنَّه تزوَّج، فإن كان جوابًا عن السؤال؛ فهو إفادة عن سببه، وإن كان جوابًا عن الإنكار، فهو خبرٌ بأنَّه أصابه من مخالطته لزوجته. - صُفْرَة: بضم الصاد المهملة، وسكون الفاء الموحدة، ثمَّ راء، فتاء تأنيث، أثر الزعفران كما صرَّح به في بعض الروايات بأنَّه "أثر زعفران". - وزْن: وزنت الشيء أزنه وزنًا، والوزن: القدر والمعادلة. - مِنْ: للبيان. - نَوَاة من ذهب: النواة معيار للذهب معروف لديهم، قال في المصباح: النواة: اسم لخمسة دراهم، هكذا هو عند العرب، قال الخطابي: ذهبًا أو فضة. - أَوْلِمْ: فعل أمر، أي: اتَّخذ وليمة، وهي الطعام الذي يصنع في العرس. - ولو بِشاة: "لو" هذا ليست الامتناعية، وإنما هي التي للتقليل. ¬

_ (¬1) البخاري (5155)، مسلم (1427).

قال في المصباح: الشاة من الغنم: يقع على الذكر والأنثى، والجمع: شاء وشياه، رجوعًا إلى الأصل، وتصغيرها شويهة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كراهة التطيب بالزعفران، وما يظهر أثره من الطيب للرجَّال. 2 - تفقد الوالي أصحابه، وسؤاله عن أحوالهم، وأعمالهم التي تعنيه فيهم. 3 - استحباب تخفيف الصداق؛ فهذا عبد الرحمن بن عوف الغني لم يَصْدقُ زوجته إلاَّ وزن خمسة دنانير من ذهب. 4 - الدعاء للمتزوج بالبركة، وتقدم نصه، وهو: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير". 5 - مشروعية وليمة العرس، وأن لا تقل عن شاة إذا كان من ذوي اليسار، والأولى الزيادة على الشاة، وعمل الوليمة هي من جانب الزوج، وليس لِعَمَله من قِبل أهل الزوجة مستندٌّ إلاَّ أنَّه يمكن أن يكون العموم. 6 - أن يدْعَى إليها أقارب الزوجين، والجيران، والفقراء، وأهل الخير؛ ليحصل التآلف، وتحل البركة، وأن يُجتنَب السرف والمباهاة. 7 - استحباب تسمية الصداق في عقد النكاح، وإذا جرت عادة بعض الأسر عدم ذكره، فلا بأس. أما عقد النكاح على مهر ريال، إذا لم يريدوا تسمية الصداق، فإنَّه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه، والعادات المباحة لا بأس بها في غير الأحكام الشرعية، أما الأحكام الشرعية: فالناس مقيدون فيها بأحكام الشريعة. 8 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: التهاني في المناسبات مبنية على أصلٍ عظيمٍ نافعٍ، هو أنَّ الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرم منها ولا يكره إلاَّ ما نهى عنه الشارع، أو تضمن

مفسدة؛ وعلى هذا الأصل: فإنَّ النَّاس لم يقصدوا التعبد بها، وإنَّما هي عوائد جرت بينهم في مناسبات، لا محذور فيها. 9 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم: إعلان النكاح بالدف سُنَّة، وأما الأغاني المشتملة على مواعظ، وحماس، ونحو ذلك، فلا محذور فيها، وأما الأغاني التي فيها غرام، أو معها آلة طرب، فهي حرام. ***

904 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ، فَلْيَأْتِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكمْ أخَاهُ، فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دُعِيَ أحدكم: مبني للمجهول، يعني إلى طعام الوليمة، فالدَّعوة إليه، تُنْطق بفتح الدال، وأما بضم الدال -الدُّعْوة- فاسم النداء إلى الحرب، وأما بكسر الدال -الدِّعوة- فاسم لدِعوة النسب. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5173)، مسلم (1429).

905 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شَرُّ الطَّعامِ طَعَامُ الوَلِيمَةُ، يُمْتعهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمُ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عصَى الله وَرَسُولهُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شر: الشر: السوء والظلم، والجمع: شرور. وشر هنا: من صيغ أفعل التفضيل التي تصاغ على وزن أَفْعَلَ، فكان حقه أن يقال: أَشَرّ الطعام، إلاَّ أنَّها حذفت هنا الهمزة؛ لكثرة استعمالها، ودورانها على الألسنة، قالوا: ويجوز إثباتها على الأصل، ولكنه قليل، ومثل شر "خير" في هذا التصريف. - يُمْنعُهَا: مبني للمجهول، أي: يكف عنها. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1432)، ورواه البخاري (5177).

906 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيضًا (¬1). وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَحْوُهُ، وَقَالَ: "إِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فليجب: فليأت إلى مكان الدعوة. - فليصل: الصلاة: أصلها واوي اللام، وهي لغةً: الدعاء, والمراد هنا: فليدع. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1431). (¬2) مسلم (1430).

907 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طَعَامُ الوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ (¬1)، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. رَوَاه الترمذي واستغربه. وله شواهد منها: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والطحاوي، والبيهقي عن رجلٍ من ثقيف، قال البخاري: لم يصح إسناده، وضعَّف الحديث المناوي في فيض القدير، متعقبًا السيوطي حيث صحَّحه. وقال الترمذي: لا يعرف هذا الحديث مرفوعًا إلاَّ من حديث زياد بن عبدالله، وهو كثير الغرائب والمناكير، وضعَّفه البيهقي، والدَّارقطني. وأمَّا حديث أنس فقال الحافظ: فيه بكر بن خنيس، وهو ضعيف. وللحديث طرقٌ وشواهد، قال عنها الشيخ الألباني: وجملة القول في هذا الحديث: أنَّ أكثر طرقه وشواهده شديدة الضعف، لا يخلو طريق منها من متَّهم خاصَّة أو متروك؛ فلذلك يبقى على هذا الضعف. ¬

_ (¬1) الترمذي (1097). (¬2) البيهقي (7/ 260)، ولم يروه ابن ماجه من حديث أنس، إنما رواه من حديث أبي هريرة (1915).

* مفردات الحديث: - الوليمة: أصل الوليمة، تمام الشيء، واجتماعه، يُقال: أَوْلَمَ الرَّجُلُ: عمل الوليمة، فقد نقل اسمها لطعام العرس خاصَّة، لاجتماع الرجل والمرأة، ولا يقع على غيرها من الدعوات. - حق: مصدر، جمعه: حقوق وحقاق، والمراد به هنا الواجب. - سنة: بضم السين، جمعها: سنن، وهي في اللغة: الطريقة، سواء أَكَانتْ مُرْضيةً، أم غير مرضية، وفي الشرع: هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير وجوب؛ فهي فضيلة. - سمعة: بضم السين، وسكون الميم، بمعنى الصيت، يقال: فعل ذلك رياءً وسمعة؛ ليراه الناس ويسمعوه. - سمَّع الله به: بتشديد الميم، أي: شهره، وفضحه، وأذاع عنه عيبًا. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - مشروعية صنع طعام لمناسبة الزواج، ودخول الزوج بزوجته، وتقارب الأسرتين؛ للتعارف والتآلف بين الأصهار، وابتهاجًا بنعمة الله تعالى، وفيه إعلان للنكاح وإشعارٌ له؛ كما أنَّ فيه الدعاء، والاجتماع، والتعارف. 2 - مشروعية إجابة الدعوة، لما روى مسلم، عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ومن لا يُجِب فقد عصى الله ورسوله". قال ابن عبد البر: لا خلاف في وجوب الإجابة لمن دُعي إليها. وقيل: مستحبة، واختاره الشيخ تقي الدين، وهي حق للآدميِّ يسقط بعفوه. ويجب على المدعو إجابتها بأمور منها: - أن يُعيِّنه صاحب الدعوة، فلا تكون دعوة عامة. أن لا يكون في مكان الدعوة منكرٌ، لا يقدر على إزالته، من خمرِ، أو فُرُش محرَّمة، أو أواني ذهبٍ أو فضة، أو أغانٍ محرَّمة، أو اختلاط رجالٍ

بنساء، أو تكون من حفلات السرف والخيلاء، أو يكون في ماله حرامٌ من ربا، أو رشوة، أو ظلم أحد، أو غير ذلك، فإذا وُجِدَ شيءٌ من هذه الأمور لم تجب الدعوة، بل تحرم. وذكر الطيبيِّ في "شرح المشكاة" أمثلةً للأعذار التي تسقط إجابة الدعوة، منها: أن يكون في الطعام شبهة حرام، أو أن يخص بها الأغنياء دون الفقراء، أو أنَّه دعاه لخوف شرِّه، أو لطمع في جاهه، أو ماله، أو ليعاونه على باطل، أو يكون فيها منكر، من خمرٍ، أو لهوٍ محرَّم، أو أنَّ الفرش حرير، أو فيها صور حيوان، ونحو ذلك، وإن اعتذر منه، فقبل الداعي، سقط الوجوب. 3 - أن تكون الدعوة في اليوم الأول، فإن كانت فيما بعده من الأيام لم تجب الدعوة؛ ففي اليوم الثاني: مستحبة، وفي اليوم الثالث تكره: أو تحرم. 4 - أنَّ العادة الغالبة أنَّ طعام الوليمة شر طعام، وشر محفل؛ فإن الدعوة لا توجه إلاَّ إلى الأعيان والأغنياء، ممَّن لا يأتونها رغبة، وإنَّما يأتونها إرضاءً لصاحب الدعوة، وإحسانًا إليه، وأما الفقراء المحتاجون إليها: فهم يمنعون من الحضور إليها، ويدفعون عنها بالأبواب؛ فلتكن هذه موعظة وتذكرة للمسلم، أنْ لا يسلك هذا المسلك، وأن يجعلها دعوة شرعية؛ يدعو فيها الأقارب، والأصدقاء، والفقراء، والأغنياء، وكلٌّ يُنزَّل منزلته. 5 - أنَّ الواجب هو إجابة الدعوة، أما الأكل فليس بواجب، لكن إن كان صائمًا فرضًا فلا يُفطر، ويخبر صاحب الدعوة بصيامه؛ لئلا يظن به كراهة طعامه، فقد جاء في صحيح مسلم وغيره أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دُعِي أحدكم إلى الطعام وهو صائمٌ، فليقل إنِّي صائم". وأمَّا إنْ كان الصوم نفلاً: فإنْ حصل بفطره وأكله جبر خاطر الداعي، ورغب المدعو، بمشاركتهم في الأكل، فليفطر؛ وإلاَّ دعا، وأتمَّ صومه؛

فقد جاء في بعض الروايات: قوله -صلى الله عليه وسلم- لرجل اعتزل من القوم ناحية، وقال: إنِّي صائم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "دعاكم أخوكم، وتكلَّف لكم، كُل، ثُم صم يومًا إن شئتَ". وهذا التفصيل هو مذهب الشافعية، والحنابلة. قال الشيخ تقي الدين: هو أعدل الأقوال. 6 - أنَّ الوليمة في اليوم الأول واجبة، وفي اليوم الثاني سنَّةٌ مستحبَّة، أمَّا في اليوم الثالث فهي رياءٌ وسمعةٌ؛ فتكون محرَّمة، فتجب على المدعو الإجابة في الأوَّل، ولكن بشرطه المتقدم، وتُستَحب في اليوم الثاني، وتحرُم في اليوم الثالث وهذا مذهب جمهور العلماء. 7 - استحباب الدعاء من المدعو للداعي، ويكون الدعاء مناسبًا للدعوة والمقام، ويظْهِرُ الفرح والغِبطة للداعي، ويدخل السرور عليه بالأماني الطيبة، والفأل الحسن؛ فهذا من بركة الحضور والاجتماع. فليس الحضور هو مجرَّد الطعام والأكل، وإلاَّ لما أمر الصائم بالإجابة، وإنَّما المراد: معانيه الطيبة، واجتماعه المبارك. 8 - المشهور من المذهب: أنَّ وليمة العرس تجب بالعقد، وقال الشيخ تقي الدين: تُسنُّ بالدخول. وقال في الإنصاف: الأولى أن يقال: وقت الاستحباب موسَّع، من عقد النكاح، إلى انتهاء أيام العرس؛ لصحة الأخبار في هذا وهذا. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن التبذير في الولائم: جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (52) وتاريخ: 4/ 1397/4 هـ مما يتعلَّق بالموضوع ما نصه: قال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء].

وبناءً على ما يسببه التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة، وتعددها قبل الزواج وبعده، ولما يسببه الانزلاق في هذا المبدأ من عجز الكثير من النَّاس عن نفقات الزواج، فإنَّ المجلس يرى ضرورة معالجة هذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي: أولاً: يرى المجلس منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللَّهو، وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات، وبآلات تكبير الصوت؛ لأنَّ ذلك منكَرٌ محرَّمٌ، فيجب منعه، ومعاقبة فاعله. ثانيًا: منع اختلاط الرِّجال بالنِّساء في حفلات الزواج، وغيرها، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات، ومعاقبة من يُعمل عندهم ذلك من زوج، وأولياء الزوجة، معاقبة تزجر مثل هذا المنكر. ثالثاً: منع الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج، وتحذير الناس من ذلك. ***

908 - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أَوْلَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- على بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُدَّين: تثنية مُدّ، والمُدّ ربع الصاع، فالمدان نصف الصاع النبوي، وقدر المدين بالمكيال المعاصر -بعد أن حوِّل إلى الوزن: "1500"-: غرامًا تقريبًا. - شعير: هو الحب المعروف، وهو نباتٌ، عُشْبِيٌّ، حبيٌّ، من الفصيلة الجيلية. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5172).

909 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَقَامَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ خَيْبرَ وَالمَدِينَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، يُبْنَى علَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ المُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ أَمَرَ بِالأَنطَاعِ، فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ، وَالأَقِطُ، وَالسَّمْنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُبْنَى عَلَيْهِ: البناء هو الزفاف، قال ابن الأثير: البناء والاستبناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه: أنَّ الرجل كان إذا تزوَّج بامرأة، بنى عليها قبة؛ ليدخل بها فيها، فيقال: بنى الرجُلُ بأهله، وقد بُنِىَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عند دخوله بصفية. - الأنطاع: واحدها نِطْع، بفتح النون وكسرها، ومع كل واحد: فتح الطاء وسكونها، كما في المصباح، وهو البساط من الجلود المدبوغة، يجمع بعضها إلى بعض. - الأَقِط: بفتح الهمزة، اللبن المطبوخ حتى يتبخَّر ماؤه، ويغلظ، ثم يعمل منه أقراص صغيرة، فتؤكل لينة ومتحجرة. - حَيْسًا: بفتح الحاء، وسكون الياء، آخره سين مهملة، وهو: ما جمع هذه الأخلاط، من التمر والأقط والسمن، وقد جاء حيسًا في بعض الروايات، وقال ابن سيده: الحَيْس: هو الأقط يخلط بالسمن والتمر، حاسه حيسًا، وحيَّسه: خلطه. ¬

_ (¬1) البخاري (5085)، مسلم (1365).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - في الحديثين مشروعية الوليمة في الزواج؛ لأنَّ ذلك من إظهار السرور والفرح، ولأنَّ الوليمة هي سبب الاجتماع والسؤال عن مناسبتها الداعي إليها، وكل هذا من إعلان النكاح وإشهاره. 2 - أنَّ الوليمة تكون على الزوج دون الزوجة وأوليائها؛ لأنَّ الزوجين هما صاحب العرس، والزوج هو المنفِق؛ فتكون عليه. والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال للزوج: "أولِم ولو بشاة" فهو المخاطب بنالك. 3 - أنَّ وقت الوليمة هو عند البناء بالزوجة، والدخول عليها؛ لأنَّ هذه الفترة هي المقصودة من النكاح، وما قبلها تمهيد لها، وتقدم كلام صاحب الإنصاف من أنَّ وقتها موسَّع، من حين العقد إلى انتهاء أيام العرس. 4 - أنَّ المشروع هو تخفيف الوليمة، والدعوة إليها، والاستعداد لها: فإن كان الإنسان موسرًا، فتكون بالشاتين والثلاث فأكثر قليلاً، حسب حال الزوج، وقَدْر المدعوِّين، وإن كان في حالة سفر، أو حالة عسرة، فيكفي ما تيسَّر من الطعام والشراب. 5 - أنَّ صنع الوليمة للزواج متأكد جدًّا؛ فالسفر والتخفُّف من الزاد فيه لم يمنع من إعدادها، والاجتماع لها. 6 - وفيه جواز المناهدة، قال الشيخ تقي الدين: المناهدة هي: أن يُخرِج كل واحد من الرفقة شيئًا من النفقة، ويدفعون إلى من ينفق عليهم منه، ويأكلون جميعًا، فلو أكل بعضهم أكثر أو تصدَّق، جاز، ولم يزل الناس يفعلونه. 7 - قلت: وما فعله أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من إلقاء ما معهم من التمر والأقط والسمن، فإنَّه يشبه ما يعمل في بعض المناطق من تقديم إعانات على إقامة وليمة العرس، ويسمى عندهم "الرفد".

910 - وَعَن رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ، فَأَجِبْ أقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا، فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بشواهده. رواه أحمد، وأبو داود، وعنه البيهقي من طريق يزيد بن عبد الرحمن، الدالاني، عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: فذكره. وهذا سندٌ ضعيفٌ من أجل يزيد بن عبد الرحمن، قال الحافظ: صدوقٌ يخطيء كثيرًا، وكان يدلس، قال الحافظ -في التلخيص (3/ 196) بعد أن عزاه لأبي داود وأحمد-: إسناده ضعيف. وقال المنذري: في إسناده يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، وثقه أبو حاتم، وقال الإمام أحمد: لا بأس به، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: يكتب حديثه، وإن كان فيه لين. وقال الصنعاني عن هذا الحديث: رجاله موثوقون، وله شاهدٌ في البخاري من حديث عائشة: "قيل: يا رسول الله! إنَّ لي جارين أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربها منك بابًا". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه مشروعية إقامة الوليمة في الزواج، وأنَّها من السنة المحمَّدية. ¬

_ (¬1) أبو داود (3756).

2 - وفيه مشروعية إجابة الدعوة لمن دعي، وتقدَّم أنَّها في اليوم الأول واجبة، وفي الثاني مستحبة، وفي الثالث محرمة. 3 - وفيه مشروعية إجابة السابق من الدَاعييْنِ، أو الداعِين؛ لأنَّ له فضل السبق بالدعوة، فإن كانا في الدعوة سواء، قدَّم أقربهما بابًا من باب المدعو، ولأنَّ له ميزة قرب الجوار. 4 - وفيه بيان حق الجار على جاره، وأنَّ حقه كبير، والأحاديث في ذلك كثيرة. 5 - وفيه أنَّ من الحقوق -التي بين الأقارب، والجيران، والأصدقاء- إجابةَ الدعوات، وتبادل الزيارات؛ فإنَّ لها تأثيرًا كبيرًا، في صفاء القلوب، وجلب المحبة، وتوثيق الصلة. 6 - الأفضل لمن يقوم بإجابة الدعوة، ويقوم بزيارة من له حق عليه، أو عيادته في مرضه، ونحو ذلك أن ينوي مع ذلك التقرُّبَ إلى الله تعالى بذلك؛ ليحصل له الخير الكبير، والأجر الجزيل. ***

911 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ آكُلُ مُتَّكِئًا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - متَّكِئًا: قال في المحيط وغيره: اتَّكأ اتِّكَاءً: جلس متمكِّنًا متربِّعًا، قال ابن الأثير: والعامة لاتعرف الاتِّكاء إلاَّ الميل في القعود معتمدًا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعًا. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5398).

912 - وَعنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا غُلاَمُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غلام: الغلام من الولادة إلى سن البلوغ، وجمع القلة: غِلْمَة، وجمع الكثرة: غلمان، ويُستعار الغلام للعبد والأجير. - سمِّ الله: فعل الأمر من سمَّى، يقال: سمَّى في العمل، أي: ذكر اسم الله عليه، بقوله: باسم الله. - مما يليك: وليه يليه وَليًا: دنا منه وقرب، والمراد: أنْ يأكل من أقرب جوانب القصعة إليه. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5376)، مسلم (2022).

913 - وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَقَالَ: "كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا؛ فَإِنَّ البرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا" رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. وله شاهد عن عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمَّد بن عبد الرحمن الحمصي، قال: حدثنا عبد الله بن بسر؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... فذكر الحديث. وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله كلُّهم ثقات. * مفردات الحديث: - قَصْعة: بفتح القاف، وسكون الصاد المهملة، هو إناء معد ليؤكل به ويشرب، والغالب: أنَّه من خشب. - ثرِيد: بفتح الثاء المثلثة، ثم راء مكسورة، الثريد: هو ما يفت من الخبز، ثم يبل بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم. ¬

_ (¬1) أبو داود (3772)، الترمذي (1805)، النسائي في الكبرى (4/ 175)، ابن ماجه (3277).

914 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا قَطُّ، كانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عاب: يعيب عيبًا، والعيب: النقص في الشيء، جمعه: عيوب، والمراد أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم ينسب طعامًا إلى عيب. - قط: بفتح القاف، وضم الطاء المشددة. قال في المعجم الوسيط؛ قط ظرف زمان؛ لاستغراق الماضي، وتختص بالنَّفي، يقال: ما فعلت هذا قط، فيما مضى، وقال في المحيط: والعامة تقول: لا أفعله قط، وهو غلط. قُلتُ: لأنَّها مختصَّةٌ بالزَّمن الماضي. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5409)، مسلم (2064).

915 - وَعَن جَابِرٍ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشيطان: في أصل اشتقاقه، قولان: أحدهما: أنَّه من شَطَنَ؛ لأنَّه بعد عن الحق، أو عن رحمة الله، فتكون حينئذٍ النون أصلية والياء زائدة، ووزنه فيعال. الثاني: أنَّ الياء أصلية والنون زائدة، عكس الأول، واشتقاقه من شاط يشيط: إذا بطل واحترق، فوزنه حينئذ فعلان. - الشمال: ضِدُّ اليمين، مؤنَّثة، جمعها: شُمُل. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2019).

916 - وَعَنْ أَبِي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إذَا شَرِبَ أحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَحْوُهُ، وَزَادَ "أَوَ يَنْفُحْ فِيهِ"، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فَلا يتنفَّس: بالبناء للمعلوم، مجزوم بلا الناهية، والتنفس إدخال النفس إلى الرئتين، وإخراجه منهما. - أو ينفخ: بالنَّصب مع البناء للمفعول؛ لأنه معطوف على قوله: "نهى أن يُتنفس في الإناء" والنفخ: إخراج الريح من الفم. * ما يؤخذ من الأحاديث: هذه الأحاديث ما الشريفة كلها في بيان آداب الأكل والشرب؛ ليكون المسلم في امتثالها متبعًا لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى في العادات الكريمة، وهذه فوائد وأحكام هذه الأحاديث: 1 - أنَّ من صفات جلسة النبي -صلى الله عليه وسلم- للأكل أن لا يأكل متكئًا، وذلك بأن يتربع على الطعام في جلسته؛ لأنَّ هذه الجلسة تتطلب من الإنسان أن يأكل كثيرًا، والمطلوب هو التخفف من الطعام، والاقتصار على قدر الحاجة منه، فهذه الجلسة مكروهة شرعًا. ومثل ذلك: أن يأكل وهو مائل في جلسته، ممَّا يشعر بالكبر عند تناول ¬

_ (¬1) البخاري (153)، مسلم (267). (¬2) أبو داود (3728)، الترمذي (1888).

هذا النعمة. 2 - استحباب التسمية في أول الطعام؛ فقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن عائشة؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أكل أحدكم طعامًا، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله، فيلقل: باسم الله أوله وآخره". قال الأصحاب: وتُسنُّ التسمية، بان يقول: باسم الله. قال الشيخ: لو زاد "الرحمن الرحيم" عند الأكل، لكان حسنًا؛ فإنَّه أكمل بخلاف الذبح. 3 - وجوب الأكل باليمين، وتحريم الأكل بالشمال، إلاَّ من عذر؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم، عن ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"؛ فمتابعة الشيطان محرَّمة، فمن تشبَّه بقومٍ فهو منهم. 4 - استحباب تعليم الجاهل من كبار وصبيان، لاسيَّما من تحت كفالته؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"، فعمر بن أبي سلمة ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ابن زوجته، وعاش في بيته. 5 - الأدب هو الأكل مما يلي الآكل؛ فلا يتعداه إلى الجوانب الأخر؛ فقد جاء في بعض طرق الحديث رقم (912)، قال عمر بن أبي سلمة: "كنتُ غلامًا في حِجر النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: "يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكلْ ممَّا يليك". 6 - استحباب الأكل من جوانب الإناء، وأن لا يؤكل من وسطها؛ فإنَّ البركة تنزل في وسطها. ولعل من بركة الأكل من الجوانب: أنَّه إذا بقي بقية من الطعام، فإنَّها تبقا نظيفة لم تمسها يد، فيستفيد منها من يأتي بعد الآكلين، أما البدء من الوسط: فإنَّه يفسد الطعام ويقذره على من بعده، فيُلقى، ولو كان كثيرًا.

7 - أنَّ من خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- السَّماح؛ فإنَّه لم يعب طعامًا قدِّم إليه؛ لأنَّه من نعم الله تعالى على عباده؛ فإنِ اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. فقد جاء في الصحيحين، عن ابن عباس قال: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ميمونة، فقدِّم له ضبٌّ، فأهوى بيده إلى الضب، فقالت امرأةٌ من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله بما قدمتن، قلن: هو ضبٌّ يا رسول الله! فرفع -صلى الله عليه وسلم- يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، فاجتره خالد فأكله". وجاء في صحيح مسلم، عن جابر، قال: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض حُجَرِ نسائه، فقال: "هل من أدم؟ قالوا: لا، إلاَّ شيء من خل، قال: هاتوا فنِعْمَ الأُدم هو". 8 - النَّهي عن التنفس في الإناء، ففيه من المضار تقذير الإناء؛ والشراب على الشارب، بعد المتنفس، وفيه: أنَّه يتنفس ويشرب في آنٍ واحد، فربَّما سبب له الاختناق، وفيه: أنَّ الشرب من ثلاثة أنفاس خارج الإناء أمرأُ، وألذُّ، وأهنأُ؛ فالشريعة الإسلامية المطهَّرة لا تأمر إلاَّ بما فيه الخير، ولا تنهى إلاَّ عمَّا فيه الشر والضر. ***

باب القسم

باب القسم 917 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ" رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَلكِنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طرق، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، به. وهذا إسنادٌ ظاهره الصحة، وعليه جرى الحاكم، فقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وابن كثير، لكن المحققين من الأئمة أعلّوه، فقال النسائي: أرسله حماد بن زيد، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا، وأيَّده ابن أبي حاتم فقال: الحديث مرسل. ¬

_ (¬1) أبو داود (2134)، الترمذي (1140)، النسائي (7/ 64)، ابن ماجه (1971)، ابن حبان (1305)، الحاكم (2/ 187).

* مفردات الحديث: - يقسم بين نسائه: قسم يقسم، من باب ضرب يضرب، قَسْمًا، بفتح، فسكون: مصدر قسمت الشيء فانقسم، فيعطي كل واحدة نصيبها. - فيعدل: عدل يعدل عدلاً، ضد جار؛ فالعدل ضد الجور. - فلا تلمني: لام يلوم لومًا وملامة: عذل؛ فاللوم العذل، قال في الكليات: اللوم مما يحرِّض؛ كما أنَّ العذل مما يُغري. ***

918 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُخرَى، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنف: رواه أحمد والأربعة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طرق، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، به. قال الحاكم؛ صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، وابن دقيق العيد، وابن حجر، قال عبد الحق: عِلَّته أنَّ همامًا تفرَّد به، ولكنها علة غير قادحة؛ ولذلك تتابع العلماء على تصحيحه. * مفردات الحديث: - شِقُّهُ: بكسر الشين المعجمة، وتشديد القاف، أي: جانبه ونصفه. - مائل: مال يميل ميلًا، والميل: ضد الاعتدال والاستقامة. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم لنا أنَّ القسم ليس واجبًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- بين نسائه؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]؛ ومع هذا فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقسم بينهن في النفقة والمبيت والطواف عليهنَّ ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 347)، أبو داود (2133)، الترمذي (1141)، النسائي (7/ 63)، ابن ماجه (1969).

ثم يقول: "اللَّهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يشير إلى المودة، ثم ما يتْبَعُهَا. 2 - أنَّ القَسْمَ واجب على الرجل بين زوجتيه أو زوجاته، ويحرم عليه الميل إلى إحداهنَّ عن الأخرى، فيما يقدر عليه من النفقة، والمبيت، وحسن المقابلة، ونحو ذلك. 3 - أنَّه لا يجب على الرجل القَسْمُ فيما لا يقدر عليه، وهو ما يتعلَّق بالقلب من المحبة، والميل القلبي، ولا ما يترتب عليه من رغبة في جماع واحدة دون الأخرى؛ فهذه أمور ليست في طوق الإنسان، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]، ففيه دليلٌ على السَّماحة في بعض الميل، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وقال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. 4 - العدل مطلوب من الإنسان في كل ما هو تحت تصرفه من الزوجات، والأولاد، والأقارب، والجيران، وغير ذلك؛ فهو أجمع للقلوب على محبته، وأصفى للنفوس على مودته، وأبعد عن التُّهمة في التحيز والميل. 5 - وفي الحديث رقم (918): إثبات عذاب الآخرة، وهو ممَّا عُلِمَ من الدِّين بالضرورة. 6 - وفيه تعظيم حقوق العباد، وأنه لا يسامح فيها؛ لانَّها مبنيةٌ على الشح والتقصي. 7 - وفيه أنَّه ينبغي للإنسان أن يستحل من حوله من زوجات، وأقارب، وأصحاب، وجيران؛ خشية أن يكون مقصرًا في حقوقهم، أو قصَّر بشيء منها، وتلحقه التبعة بعد مماته. 8 - وفي الحديث رقم (917) بيان أنَّ القلوب بين يدي الله تعالى، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]؛ فيجب على الإنسان

أن يتعلَّق بربه، ويلح عليه في الدعاء بأن يهديه الصراط المستقيم، وأن يُثبِّته بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يثبت قلبه على دينه، وأن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه. 9 - وفي الحديث رقم (918): أنَّ الجزاء يكون من جنس العمل فإنَّ الرجل لما مال في الدنيا من زوجةٍ إلى أخرى، جاء يوم القيامة مائلاً أحد شِقيه عن الآخر؛ فكما تدين تدان. 10 - في الحديث رقم (917): دليل على أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يملك هداية القلوب والتوفيق، وإنَّما الذي يملكها الله وحده؛ كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، وإنَّما هو عليه الصلاة والسلام يهدي بإذن الله تعالى، هداية إرشاد وتعليم؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى]. 11 - وفي الحديث (918): استحباب الاقتصار علها زوجةٍ واحدةٍ، إذا خاف إن لا يعدل بين الزَّوجين؛ لئلا يقع في التقصير في الدين؛ قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]. 12 - قال في شرح المنتهى: "وعماد القَسْم الليل؛ لأنَّه مأوى الإنسان إلى منزله، وفيه يسكن إلى أهله، وينام على فراشه، والنَّهار للمعاش، والاشتغال؛ قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]، والنَّهار يتبع الليل، فيدخل في القسم تبعًا -لما روي: "أنَّ سودة وهبت يومها لعائشة" متَّفقٌ عليه، وقالت عائشة: "قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، وفي يومي"، وإنَّما قبض نهارًا، ويتبع الليلة الماضية. * فائدة: قال الشيخ عبد الله بن محمد: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة، ولا بأس أن يولِّي إحداهن على الأخرى أو الأخريات، إذا كانت أوثق، وأصلح لحاله.

919 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ: إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ البِكْرَ عَلى الثَيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُم قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أقَامَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَسَمَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). 920 - وَعَنْ أَمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا تَزَوَّجَهَا، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَتًا، وقَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَهْلِك: يعني بالأهل هنا هو نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-، والزوج هو أهل للزوجة، والزوجة أهل للزوج، فالأهل ما يجمعهم مسكن واحد. - هَوَان: الهوان: الحقارة والذل والضعف، أي: ليس بك شيء من هذا عندي، وهذا تمهيد للعذر من الاقتصار على التثليث لها، وهو أمر مستحسن جدًّا عند الكلام على ما لم يؤلف عادة، ولكل مقام تمهيد يناسبه. - سبَّعتُ لَك: بالتثقيل، من التسبيع، أي: إن شئت بت عندك سبع ليالٍ، فأمكثها عندك، ثم أسبع لنسائي، فالعرب اشتقَّت فعلاً من الواحد إلى العشرة، فمعنى "سبَّع" أقام عندها سبعًا، و"ثلَّث" أقام ثلاثًا، وسبَّع الإناء: إذا غسَّله سبع مرات. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - العدل بين الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن دون الأخرى ظلم؛ فيجب ¬

_ (¬1) البخاري (5214)، مسلم (1461). (¬2) مسلم (1460).

على الرجل العدلُ ما أمكنه، وأما ما ليس في طوقه، فلا حرج عليه فيه؛ قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]، فالعدل الكامل ليس في طوق الإنسان، أو قدرته. 2 - ومن القسم الواجب ما جاء في هذين الحديثين، من أنَّ من تزوَّج وعنده زوجة أو أكثر، فإن كانت الزوجة الجديدة بكرًا، أقام عندها سبع ليال، ثم دار على نسائه، وإن كانت الجديدة ثيِّبًا، أقام عندها ثلاث ليال، ثم دار على نسائه. 3 - أنَّ الزوج يخير الزوجة الجديدة الثيب بعد الثلاث، فإن شاءت أقام عندها سبعًا، ثم أقام عند كل واحدة من نسائه سبعًا، وإن شاءت اكتفت بالثلاث، ودار على نسائه كل واحدة ليلتها فقط. 4 - إباحة الإقامة عند العروس الجديدة أكثر من ليلة عند أول دخول الزوج بها، فهو من الحفاوة بها، وإكرام مقدمها، وإيناسها، في المسكن الجديد، وإشعارها بالرَّغبة فيها. 5 - أما الفرق بين البكر والثيب بقدر المكث؛ فهو أنَّ البكر غريبة على الزوج، وغريبة على فراق أهلها؛ فاحتاجت لزيادة الإيناس، وإزالة الوحشة. 6 - وفيه التنبيه على العناية بالقادم؛ بإكرام وفادته، وإيناس وحدته، ومباسطته في الكلام. 7 - وفيه حسن ملاطفة الزوجة بالكلام اللين بقوله: "ليس بِكِ هَوان على أهلك". 8 - كما أنَّ فيه التمهيد والتوطئة لما سيفعله الإنسان، أو يقوله لصاحبه، ممَّا يخشى أنْ يتوهَّم منه نفرة منه، أو عدم رغبة فيه. 9 - وفيه أنَّ الخيار في الثلاث أو السبع الليالي للزوجة الثيب لا للزوج، فالحق

لها، لا له. 10 - وفيه أنَّ الزوج من أهل الزوجة، وأنَّ الزوجة من أهله أيضًا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما علمتُ في أهلي إلاَّ خيرًا". 11 - وفيه استحباب الصراحة مع من تعامله، فتخبره بما لَهُ من الحق، وما عليه؛ ليكون على بصيرة، ويعلم أنَّ ما قلتَ له هو حقه، وما قسم الله له. * اختلاف العلماء: اختلف العلماء هل هذا الحكم والتفضيل عامٌّ في كلِّ من عنده زوجة، فأكثر، أم أنَّه خاصٌّ بمنْ له زوجات غير الجديدة؟ قال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أنَّ ذلك حقٌّ للمرأة، بسبب الزفاف، سواءٌ كان عنده زوجة أم لا؛ لِعُموم الحديث. أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فهذا لمن عنده أكثر من امرأة. ***

921 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ لِعَائشَةَ يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سوْدَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سودة بنت زمعة القرشية العامرية هي الثانية من زوجات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد تزوَّجها بعد وفاة خديجة، فأسَنَّت عنده، وثقلت، فخافت أن يفارقها فتفقد هذه المنقبة الكبيرة، والنِّعمة العظيمة، من كونها إحدى زوجاته -صلى الله عليه وسلم- فوهبت يومها وليلتها لعائشة؛ لتبقى له زوجة، فقَبِل ذلك، فمات -صلى الله عليه وسلم-، وهي في عصمته من أمهات المؤمنين. 2 - روى الطيالسي، عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن طلقها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذا الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: لما كبرت سودة، وهبت يومها لعائشة؛ فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم لي بيوم سودة. 3 - فالحديث يدل على جواز الصلح بين الزوجين، وذلك حينما تحس المرأة من زوجها نفورًا، أو إعراضًا، وخافت أن يفارقها؛ بأن تسقط عنه حقها، أو بعضه من نفقةٍ، أو كسوةٍ، أو مبيتٍ، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل منها ذلك؛ فلا جناح عليها في بذلها له، ولا جناح عليه في قبوله منها؛ ¬

_ (¬1) البخاري (5212)، مسلم (1463).

ولهذا قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] يعني: أنَّ الصلح خير من الفراق. 4 - هذا التصرف من أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها- تصرفٌ حكيمٌ جدًّا فقد صحَّ عن عائشة أنَّها قالت: ما من الناس أحدٌ أحب أن أكون في مِسْلاخها من سودة. وتوفيت سودة -رضي الله عنها- آخر خلافة عمر، رضي الله عنه. 5 - قال العلماء: إذا وهبت الزوجة يومها وليلتها لضرتها، فلا يلزم ذلك في حقِّ الزوج، فله أن يدخل على الواهبة، ولا يرضى بغيرها عنها، وإن رضي الزوج، فهو جائز. 6 - وللواهبة الرجوع في هبتها نوبتها من زوجها متى شاءت؛ لأنَّ الهبة يجوز الرجوع فيما لم يُقبض منها، والمستقبل منها لم يقبض. 7 - إذا كان للزوج عدة زوجات، فخضَّت الواهبة نوبتها لواحدةٍ منهنَّ، تعيَّنت لها؛ كقصة سَوْدة مع عائشة، وإن تركت حصتها من القَسْم، من غير تخصيص في ضرائرها، فيسوِّي الزوج بينهنَّ، ويخرج الواهبة من القسم. ***

922 - وَعَنْ عُرْوَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلى بَعْضٍ فى القَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلاَّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن. أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. والشطر الثاني له شاهد من حديث ابن عباس، وأخرجه الطيالسي، وعنه البيهقي، وفي إسناده ضعف. وفي الباب عن سمية عن عائشة، ورجاله ثقات رجال مسلم، غير سمية هذه، وهي مقبولةٌ عند الحافظ ابن حجر. * مفردات الحديث: - مُكْثه: إقامته عند الواحدة من زوجاته. - يطوف علينا: يعني يدور علينا في بيوتنا. - من غير مَسِيس: المراد بالمسيس هنا: هو الجِماع. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 107)، أبو داود (2135)، الحا كم (2/ 186).

923 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا صَلَّى العَصْرَ، دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، تُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ ... " الحَدِيثَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - دار: أي طاف عليهن في بيوتهن. - يدنو: دنو تأنيس ومداعبة وملاعبة بدون جِماع. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - فيه بيان عدله -صلى الله عليه وسلم- في القسم بين زوجاته، مع أنَّ الله لم يوجب عليه القسم بينهن، وأنَّ له أن يرجي من يشاء منهنَّ، ويؤوي إليه من يشاء، وأنَّ أعيُنهن قارَّةٌ وراضيةٌ بذلك؛ لأنَّه أمْرُ الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب]. 2 - وكان يطوف كل يوم عِلى نسائه كلهنَّ، فيُلاطفهن، ويداعبهن، من غير جِماع، وإنَّما ذلك لِطْمأَنَةِ أنفسهن، وحسن عشرته معهن، لاسيَّما وأنَّه لو لَم يأتهنَّ كل يوم، لطالت عليهن غيبته؛ لتعددهن. 3 - كان يخص التي هو في يومها بالمبيت عندها، وفي رواية مسلم: أنَّ دورانه عليهن يكون بعد صلاة العصر. 4 - في هذا دليل على جواز دخول الرجل على المرأة التي ليس لها ذلك اليوم، ولا تلك الليلة لها؛ خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة. ¬

_ (¬1) مسلم (1474).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما تحريم الدُّخول إلى غير ذات الليلة من الزوجة إلاَّ لضرورة، أو حاجة في النَّهار، فالصواب في هذا الرجوع إلى العادة والعرف؛ فإنَّ الرُّجوع إلى العادة أصلٌ كبيرٌ في كثيرٍ من الأمور، وخصوصًا الأمور التي لا دليل عليها، وهذه من هذا الباب. 5 - فيه بيان وجوب العدل في القسم بين الزوجات، وأنَّ الميل إلى بعضهنَّ ظلم، والظلم محرَّمٌ؛ ففي الحديث القدسي: "يا عبادي! إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا". ***

924 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائشِةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غَدًا: بفتح الغين والدال، قال في المصباح: الغد اليوم الذي بعد يومك على أثره. - أين أنا غدًا: كان هذا الاستفهام تعريضًا لهنَّ؛ لأن يأذنَّ له أن يكون عند عائشة؛ ولذَا فهمن ذلك فأذنَّ له. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه بيان وجوب العدل في القسم بين الزوجات، وعدم تفضيل بعضهن على بعض في المبيت وغيره. 2 - أنَّ القسم الواجب حتى في حالة المرض؛ لأنَّ الغرض منه المبيت والعشرة، لا نفس الجماع. 3 - أنَّ الهوى النفسي والمحبة القلبية إلى بعض الزوجات لا تنافي القسم والعدل؛ لأنَّ هذا ليس في وسع الإنسان، وإنَّما هو أمرٌ يملكه الله تعالى وحده؛ ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يقسم ويعدل، ويقول: "اللَّهمَّ هَذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". 4 - أنَّ الزوجة الأخرى أو الزوجات إذا أذن للزوج أن يبيت عند من يشاء منهن، فإنَّه جائز؛ لأنَّ الحق لهنَّ وأسقطنه برضاهن. ¬

_ (¬1) البخاري (5217)، مسلم (2443).

5 - حسن عشرة زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهنَّ، وإيثارهنَّ ما يحبه على محبّه أنفسهنَّ؛ فقد علمن رغبة إقامته -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة، فتنازلن عن حقهنَّ؛ ليمرَّض في بيتها. 6 - فضل عائشة -رضي الله عنها- فلو لم يكن عندها من حسن العشرة، ولطف الخدمة، وكمال الخُلُقِ، ما آثرها على غيرها بالرَّغبة في المقام عندها. فقد جاء في الصحيحين عن أنس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وجاء في الصحيحين -أيضا- عن عائشة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "يَا عَائشَة! هَذا جِبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته". 7 - يجوز للإنسان أن يعرِّض برغبته بالشيء لمن يريد منه قضاءها، ولا يعتبر هذا التعريض من النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا يشينه؛ لأنَّهنَّ يعرفن ذلك فيه. 8 - أنَّ الأفضل للإنسان أن يفعل الذي هو خير، ولو لم يجب عليه؛ فالقسم بين الزوجات ليس واجبًا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا راعاه حتى في هذه الحالة الشديدة عليه. 9 - اختلف العلماء في وجوب القسم على -صلى الله عليه وسلم-، والراجح: أنَّه لا يجب عليه؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51]، إلاَّ أنَّه مع هذا الفُسحة له من ربه، كان -صلى الله عليه وسلم- يعدل بينهن فيما أقدره الله عليه من القسم، صلوات الله وسلامه عليه. ***

925 - وَعنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذَا أَرَادَ سَفَرًا أقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أقرع بين نسائه: من القرعة، بضم فسكون، يقال: تقارعوا واقترعوا، فمن خرجت قرعته، فله ما قارع عليه. - فأيَّتُهُنَّ: أية امرأة منهنَّ خرج سهمها الذي باسمها، خرج بها معه، وَصَحِبَتْهُ في سفره. - سَهْمُهَا: السهام جمع سهم، وهي التي توضع على الحظوظ، فمن خرج سهمه الذي وضع على النصيب، فهو له. وكيفية القرع بالخواتيم، فيأخذ خاتم هذا، وخاتم هذا، ويدفعان إلى رجل، فيخرج منهما واحدًا. وقال الشافعي: يجعل رقاعًا صغارًا يكتب في كل واحدة اسم ذي السهم، ثم تغطى عليها بثوب، ثم يدخل رجل يده، فيخرج واحدة ينظر من صاحبها، فيدفعها إليه. ولها طرقٌ أخر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه وجوب العدل بين الزوجات حتى إذا أراد أن يسافر، ويصطحب معه في سفره بعض زوجاته. ¬

_ (¬1) البخاري (2593)، مسلم (2770).

2 - أنَّ الزوج إذا لم يرد أن يسافر بزوجاته جميعًا، فإنَّ المتعيِّن عليه هو القرعة بينهن، فالتي يخرج سهمها يخرج بها معه في سفره. 3 - قال القرطبي: استدل بعض علمائنا بهذه الآية: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء، ورد العلم بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه. 4 - قال أبو عبيد: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ومحمَّد، عليهم الصلاة والسلام. قال ابن المنذر: واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فلا معنى لردها. 5 - قال ابن العربي: فائدة: القرعة استخراج الحكم الخفي عند التشاح، ولا تجري مع التراضي. 6 - للقرعة عدة صفات، وسواء كانت بالورق، أو بالحصى، أو بالخواتيم، فكيفما اقترعوا جاز. 7 - في هذا التأكيد على أنَّ الأفضل في حق الشباب أن لا يذهبوا للخارج إلاَّ ومعهم نساؤهم؛ ليكون أغض لأبصارهم، وأحفظ لفروجهم. 8 - إذا كان الإنسان كثير الأسفار في داخل البلاد وخارجها، وأراد أن يجعل لكل واحدة من زوجاته أو زوجتيه سفرة، فإنَّه يجوز؛ لأنَّ هذا حق متميز، لا خفاء فيه. ***

926 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:"لاَ يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأتهُ جَلْدَ العَبْدِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لاَ يَجلِد: جَلدت الجاني جلدًا، من باب ضرب، والجلد: هو الضرب بالسوط، الواحدة جلدة، واشتقاقه من جِلْدِ الحيوان، وهو غشاء جسمه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الله تبارك وتعالى كرَّم المرأة، وجعل لها من الحقِّ مثل ما للرَّجل عليها؛ فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 228]. 2 - ولكن قد يكون بعض النساء عندها سوء عشرة، وعصيان لزوجها، فإذا ظهرت عليها أمارات النشوز، فلها ثلاث مراتب: الأولى: هو وعظها وإعلامها بِعِظم حق الزوج عليها، وتخويفها من الله تعالى، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وتلاوة النصوص الواردة في ذلك عليها، فإن استجابت فذاك؛ وإلاَّ فالمرتبة: الثانية: وهي: هجرها في المضجع، بان يترك مضاجعتها ما يراه من المدة؛ قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك. وأما في الكلام: فلا يزيد في هجرها على ثلاثة أيَّام؛ لما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا يَحِل لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، فإنْ أصرَّت ولم تردع بالهجر، فالمرتبة: ¬

_ (¬1) البخارى (5204).

الثالثة: وهي أن يضربها ضربًا غير مبرح ولا شديد، بأن يجتنب الوجه تكرمة له، ويجتنب المواضع المخوفة كالبطن، ولا يزيد على عشرة أسواط خفيفات؛ لِما في الصحيحين من حديث أبي بردة عن أبيه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط، إلاَّ في حدٍّ من حدود الله". 3 - وإن ادَّعى كل واحد من الزوجين ظلم صاحبه، ووقع الشقاق بينهما، بعثَ الحاكم حكمين: أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة؛ لكونهما أخبر وأعرف من غيرهما بأسباب الشقاق الواقع بينهما، وأقرب إلى الأمانة والنصح، فيفعلان ما هو الأصلح من الجمع بينهما، أو التفريق بعوضٍ أو بدونه، وهما يملكان ذلك؛ فقد سمَّاهما الله حَكَمَينِ، فقَال تعَالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} [النساء]. 4 - قال شيخ الإسلام: الشَّارع لا يُكرِهُ المرأة على النِّكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنَّه يجعل أمرها إلى غير الزوج، لمن ينظر في المصلحة من أهلها مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلِّصها من الزوج بدون أمره، وكيف تؤسَر معه بدون أمرها. 5 - في الحديث النَّهي عن الضرب المؤلم، وأفضل منه ترك الضرب مطلقًا؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يضرب خادمًا قط، ولا امرأةً قط، كما في شمائل الترمذي والنسائي. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن النشوز: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناءً على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء، من اختيار موضوع النشوز؛ ليكون من جملة الموضوعات التي تُعِدُّ فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثًا، أعدت في ذلك بحثًا، وعُرض على مجلس كبار

العلماء في الدورة الخامسة، المنعقدة بمدينة الطائف، فيما بين الخامس من شهر شعبان عام: 1394 هـ، والثاني والعشرين منه. وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها، وبعد تداول الرأي في ذلك قرَّر المجلس بالإجماع ما يلي: - أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة، وترغيبها في الانقياد لزوجها وطاعته، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته، وأنَّها إن أصرَّت، فلا نفقة لها عليه، ولا كسوة، ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنَّها تكون دافعةً الزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها. فإن استمرت على نفرتها، وعدم الاستجابة، عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك، نصح الزوج بمفارقتها، وبيَّن له أنَّ عودتها إليه أمرٌ بعيد، ولعلَّ الخير في غيرها، ونحو ذلك ممَّا يدفع الزوج إلى مفارقتها. فإن أصرَّ على إمساكها، وامتنع من مفارقتها، واستمر الشقاق بينهما، بعثَ القاضي حكمين عدلين، ممَّن يعرف حالة الزوجين من أهلهما، حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسَّر، فمن غير أهلها، ممَّن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما، وإلاَّ أفهم القاضي الزوج أنَّه يجب عليه مخالعتها، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإنْ أبى أن يطلِّق، حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوضٍ، أو بغير عوض. فإن لم يتفق الحكمان، أو لم يوجدا، وتعذَّرت العشرة بالمعروف بين الزوجين، نظر القاضي في أمرهما، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعًا بعوضٍ، أو بغير عوض. والأصل في ذلك: الكتاب، والسنة، والأثر، والمعنى: أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، ويدخل في هذا

العموم الزوجان في حالة النشوز، والقاضي إذا تولى النَّظر في دعواهما. وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [الآية النساء: 34]، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز، يكون من القاضي لما فيه من تحقيق المصلحة. وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} الآية [النساء: 14] فكما أنَّ الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج؛ فهو مشروع إذا كان من الزوجة، أو منهما. وقال تعالى في الحكمين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]؛ وهذه الآية عامَّةٌ في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع، أو تفريق؛ بعوضٍ أو بغير عوض. وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ} [البقرة: 229]. وأمَّا بالنسبة للتفريق: فما روى البخاري في صحيحه، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله! ما أنقم على ثابت في دينٍ ولا خُلُق، إلاَّ أنِّي أخاف الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفتَرُدين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فردت عليه، فأمره ففارقها". وأما المعنى: فإنَّ بقاءها ناشزًا مع طول المدة، أمرٌ غير محمودٍ شرعًا؛ لأنَّه ينافي المودة والإخاء، وما أمر الله من الإمساك بمعروفٍ او التسريح بإحسان، مع ما يترتَّب على الإمساك من المضار، والمفاسد، والظلم، والإثم، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر، وتوليد العداوة، والبغضاء، وصلى الله وسلم على محمَّد وآله وصحبه.

باب الخلع

باب الخلع مقدمة الخُلْع: بضم الخاء، وسكون الَّلام: الاسم، وبفتح الخاء: المصدر، وأصله خلع الثوب، فأُخذ منه انخلاع المرأة من لباس زوجها، الذي قال الله تعالى عنه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]؛ فيُقال: خلع ملبوسه، أي: نزعه، وخالعت المرأة زوجها، واختلعت منه إذا افتدت منه بمالها. وتعريفه شرعًا: فراق الزوج امرأته بعوضٍ يأخذه الزوج من امرأته أو غيرها، بألفاظٍ مخصوصة. فائدته: تخليص الزوجة من زوجها، على وجهٍ لا رجعة له عليها، إلاَّ برضاها، وعقدٍ جديد. والأصل في جواز الخلع: الكتاب، والسنة، والإجماع: قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. وقصة ثابت بن قيس الآتية إنْ شاء الله. وإجماع الأمة عليه. ويصح الخلع من كل زوج يصح طلاقه، سواء أكان رشيدًا أو سفيهًا، بالغًا أو صغيرًا، مميزًا بعقله. ويصح بذلك العوضُ في الخلع من زوجة، أو أجنبي جائز التبرع، ومن لا يصح تبرعه فلا يصح بذله لعوضه؛ لأنَّه بذل في غير مقابلة مال ولا منفعة،

فصار كالتبرع. والخلع تجري فيه الأحكام الخمسة: 1 - يكره مع استقامة حال الزوجين، وعدم وجود خلاف، وشقاق بينهما؛ لما روى الخمسة إلاَّ النسائي عن ثوبان أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة". 2 - يحرم ولا يصح إنْ عَضَلَها، وضارَّها بالتضييق عليها، أو منع حقوقها، وغير ذلك؛ لتفتدي نفسها؛ فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إنْ لم يكن الخلع بلفظ الطلاق؛ قال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 91]. 3 - يسن للزوج إجابة طلبها؛ لِما روي البخاري عن ابن عباس: "أنَّ امرأة ثابت ابن قيس جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنِّي ما أعيبُ على ثابت من دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمرها بردها، وأمره بفراقها". 4 - ويجب إذا رأى منها ما يدعوه إلى فراقها، من ظهور فاحشة منها، أو ترك فرضٍ من صلاةٍ أو صوم، ونحو ذلك وحينئذٍ يباح له عضلها؛ لتفتدي نفسها منه قال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. 5 - ويباح لها الخلع إذا كرهت الزوجة خلق زوجها، أو خافت إثمًا بترك حقه، فإنْ كان يحبها، فيسن صبرها عليه، وعدم فراقها إيَّاه، والله أعلم. ***

927 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ امْرَاةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: اقْبلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَأَمَرَهُ بِطَلاَقِهَا". وَلأبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: "أَنَّ امرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِدَّتَهَا حَيْضَةً" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَن جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَ ابْنِ مَاجَه: "أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: لَوْلاَ مَخَافَةُ اللهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ، لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ" (¬2). ولأِحمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: "وَكَانَ ذلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الإِسْلاَمِ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث في رواية أبي داود والترمذي عن ابن عباس: "أنَّ عدتها حيضة" ¬

_ (¬1) البخاري (9/ 395)، أبو داود (2229)، الترمذي (1185). (¬2) ابن ماجه (2507). (¬3) أحمد (4/ 3).

حسَّنه الترمذي مسندًا مرفوعًا، وله شواهد كثيرة، وبعضهم ذكر أنَّه مرسل. أما رواية ابن ماجه: فقال البوصيري في زوائده: في إسناده حجاج بن أرطأة، مدلس، وكثير الأوهام والإرسال، وقد عنعنه. وأما رواية أحمد: فسكت عنها المصنف هنا، وكذلك في التلخيص الحبير، وهي أيضًا من رواية حجاج بن أرطاة. * مفردات الحديث: - امرأة ثابت: قيل اسمها جميلة، وقيل: زينب بنت عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول الأنصارية الخزرجية، وقيل: جميلة بنت سهل، وأكثر الروايات أنَّ اسمها حبيبة بنت سهل. قال الحافظ: الذي يظهر لي أنَّهما قصتان واقعتان لامرأتين؛ لشهرة الخبرين، وصحة الطريقين، واختلاف السياقين. - ما أعِيب عليه: ما أجد عيبًا فيه، لا في دينه، ولا في خُلُقه وعِشرتِهِ. - خُلُق: بضم الخاء المعجمة، وضم الَّلام، آخره قاف؛ صفات حميدة باطنة، ينشأ عنها معاشرة كريمة. - أكره الكفر في الإسلام: يعني أكره أنْ أقع فيما ينافي الإسلام من عملٍ، وعِشرةٍ لزوجي ينهى عنها الإسلام، ولكن كرهي له وبغضي إيَّاه، قد يحملني على الوقوع في ذلك وارتكابه. - حديقته: هو البستان يكون عليه حائط، وكان قد أصدقها بستانًا. - دَمِيمًا: بالدال المهملة، دمَّ الرجل يدمُّ، من باب ضرب، دمامة بالفتح، ولا يكاد يوجد رباعيًّا في المضاعف، ومعناه: قبح منظره، وصغر جسمه، وكأنَّه مأخوذ من الدِّمَّة بالكسر، وهي النملة الصغيرة، فيُقال: هو دميم، الجمع دمام، وهي دميمة، والجمع دمائم.

- لَبَصَقْتُ: بصق يبصق بصقًا وبصاقًا: لفظ ما في فمه من الريق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ثبوت أصل الخلع أنَّه فرقة جائزة في الشريعة الإسلامية على الصفة المشروعة. 2 - أنَّ طلب الزوجة إياه مباح إذا كرهت الزوج، إما لسوء عشرته معها، أو دمامته، أو نحو ذلك من الأمور المنفرة، التي لا تعود إلى نقصٍ في الدِّين، فإنْ عادت إلى نقصٍ في الدِّين، وجب طلب الفراق. 3 - قيد بعض العلماء الإباحة للزوجة بالطلب بما إذا لم يكن زوجها يحبها، فإنْ كان يحبها، فيستحب لها الصبر عليه. 4 - أنَّه يستحب للزوج إجابة طلبها إلى الخلع إذا طلبته؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اقْبِل الحديقة، وطلِّقها تطليقة". 5 - يحرم إيقاع الخلع إذا كانت المرأة مستقيمة، ثم عضلها زوجها؛ لتفتدي منه؛ قال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [البقرة:19]. 6 - إباحة عضلها لتفتدي إذا ظهرت منها الفاحشة، أو ترك شيء من الواجبات، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [البقرة: 19]، والفراق في هذا الحال واجب بأي نوع من أنواع الفرقة الزوجية. 7 - يجب أنْ يكون الخلع على عوض؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة". 8 - يجوز أنْ يكون العوض أكثر من الصداق، وأنْ يكون أقل منه؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ولكن كره العلماء أنْ يكون بأكثر من الصداق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أتردين عليه حديقته"؛ ولقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة؛ 237]. وجواز الخلع بما اتَّفقا عليه، هو قول جمهور العلماء.

9 - أنَّه لابد في الخلع من صيغة قولية؛ لقوله: "وطلِّقها تطليقة". * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل الخلع طلاقٌ محسوبٌ من الثلاث، أو أنَّه فسخٌ لا ينقص به عدد الطلاق؟ ذهب الإمام الشافعي: إلى أنَّه فسخ لا طلاق، وهو رواية عن أحمد، ولكنها ليست المشهورة في مذهبه. اختار هذا الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكثير من المحققين، ومن متأخري الأصحاب ذهب إليها الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وذهب إليه جماعةٌ من السلف، منهم ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وإسحاق، وأبو ثور. وذهب الأئمة الثلاثة -أبو حنيفة ومالك وأحمد- والثوري، والأوزاعي: إلى أنَّه طلقة بائنة. وذهب إليه من السلف سعيد المسيب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والنَّخعي، والشعبي، والزهري، ومكحول، وهو مروي عن عثمان، وعلي، وابن مسعود. استدل أصحاب القول بأنَّه فسخ بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة؛ 229]، فهاتان طلقتان فيهما الرجعة، ثم قال تعالى عن الطلقة الثالثة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وبيْن الطلقتين الأوليين، وبين الطلقة الثالثة قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وهذا هو الخلع، فلو كان طلاقًا لكان هو الطلقة الثالثة، فلمَّا صار بين الأوليين وبين الثالثة، ولم يعتبر في العدد، علِمنا أنَّه مجرد فسخ. وقال شيخ الإسلام مؤيدًا لقول الأول: ظاهر مذهب أحمد وأصحابه، أنَّه فرقة بائنة، وفسخ للنكاح، وليس من الطلاق الثلاث، وما علمتُ أحدًا من

أهل العلم بالنقل صحَّح ما نُقِل عن الصحابة من أنَّه طلاق بائنٌ محسوبٌ من الثلاث. والنقل عن علي وابن مسعود ضعيف جدًا، وأما النقل عن ابن عباس أنَّه فرقة وليس بطلاق، فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار. والذين استدلوا بما نقل عن الصحابة من أنَّه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولاً صحيحة، ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك. وفائدة الخلاف بين اختيار الخلع فسخًا أو طلاقًا تظهر بأنَّنا: إن اعتبرناه طلاقًا، فهو من الطلقات الثلاث، وإنْ كان فسخًا، فإنَّه لا ينقص من عدد الطلاق. * فوائد: الأولى: المشهور من مذهب الإمام أحمد عدم إجبار الزوج على الخلع، وإنَّما تسن إجابتها إليه. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: والقول الآخر: جواز إلزام الزوج به عند عدم إمكان تلاؤم الحال بين الزوجين حسب اجتهاد الحاكم، قال في الفروع: وألزم به بعض حكَّام الشام المقادسة الفضلاء. الثانية: قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه يصح الخلع مع استقامة الحال بين الزوجين. قال الشيخ تقي الدين: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أنْ تكون المرأة كارهة للزوج؛ فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدًا لصاحبه، فهذا خلع محدَث في الإسلام؛ فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربع، من حديث ثوبان أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرأة سالت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة"؛ فظاهر

الحديث التحريم. إذا خلع زوجته فعلاً بأنْ جرى بينهما الفسخ، ولم يبق إلاَّ تسليم العوض، فهذا لا خيار فيه، ولو لم يقبض عوضه. وإنْ كان قد تقاولا من دون أنْ يفسخها، وإنَّما اتَّفقا على أنْ يفسخها إذا سلمته العوض، فهذا لم يحصل منه فسخ، وإنَّما حصل منه وعد، فله الرجوع عما نواه ولم يفعله. الثالثة: قال سيد قطب: مجموع الروايات التي وردت في قصة ثابت بن قيس مع زوجته تصوِّر الحالة النفسية التي قابلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وواجهها مواجهة من يدرك أنَّها حالةٌ قهريةٌ، لا جدوى من استنكارها، وقسر المرأة على العِشرة معها، فاختار لها الحل من المنهج الربَّاني، الَّذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية، ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرِك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقيَّة. ***

باب الطلاق

باب الطلاق مقدمة الطلاق: لغة: مصدر طلَقَ، بفتح اللام وضمّها، وهو الإرسال والترك. وشرعًا: حَلَّ قيد النكاح أو بعضه. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس: فإن النكاح إذا تم بالعقد لمصالحه، فإنه ينفسخ بالطلاق للمقصد الصحيح أيضًا، ونصوصه من الكتاب والسنة معروفة. حكمته: قال الأستاذ عفيف طبارة: بواعث الطلاق الواردة في القرآن هي رغبة أحد الزوجين في الانفصال، وعدم المعاشرة، وليس كل خلاف ينبعث عنه الطلاق، وإنما الذي يعيّنه هو: دوام الشقاق الذي يستحيل معه العشرة الزوجية، وفي حالة الشقاق نفسه لا يجوز فصم عرى الزوجية مباشرة، فلابد من الإصلاح بين الزوجين، وإجراء التحكيم قبل الطلاق، بإرسال حكمٍ من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة؛ ليتروَّى كل من الزوجين، ويجدا الفرصة للصلح ورجوعهما عن رأيهما، فعلى الحَكمين أن لا يدّخرا جهدهما ووسعهما في الإصلاح بين الزوجين. فإذا نفدت وسائل الإصلاح والجمع، وتحقق لدى الحكمين أن التفريق أجدى لهما، فالفرقة في هذه الحالة أفضل؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].

ثم إن الطلاق يأتي على ثلاث مراحل: الأولى: طلاق رجعي، يكون فيه تجربة للزوجين بالفرقة بينهما فترة معينة، يتروَّيان فيها، فإن يكن بينهما علاقة مودةٍ ومحبةٍ، أمكن الرجعة والاجتماع. الثانية: طلاق ثان، رجعي أيضًا؛ لتكون التجربة الثانية، فإن كان هناك رغبة في بناء العشرة الزوجية بينهما، فالفرصة باقية. الثالثة: طلاق غير رجعي إلاَّ بعد نكاح زوج آخر، وذلك أنهما تفرَّقا مرتين، فلم يتفق لهما الانسجام، ومعناه أن الفرقة قائمة، وأن هُوَّة الشقاق بينهما واسعة؛ وحينئذٍ يكون الطلاق رحمة وراحة من عيشة الشقاق والخلاف. والطلاق تأتي عليه الأحكام الخمسة: أولاً: مكروه في حالة استقامة الزوجين، وعند أبي حنيفة حرام في هذه الحالة. ثانيًا: مباح عند الحاجة إليه كسوء خلُق المرأة، والتضرر ببقائها عنده. ثالثًا: مستحب إذا كافت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحال التي تحوج المخالعة، وعند الشيخ تقي الدين: أنه واجب. رابعًا: واجب للإيلاء إذا أبى الزوج الفيئة، ويجب أيضًا على الصحيح إذا تركت واجبًا شرعيًّا، أو تركت العفة على الصحيح؛ واختاره الشيخ تقي الدين. خامسًا: حرام إذا كان الطلاق بدعيًّا، كأن يطلق في حيضٍ، أو نفاسٍ، أو طُهْرٍ جامع فيه، أو طلاقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن رجعة ولا نكاح. ***

928 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْغَضُ الحَلاَلِ إِلَى اللهِ الطَّلاَقُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الصَّواب إرساله. أخرجه أَبُو دَاود، وابن ماجه، والحاكم، عن محمد بن خالد، عن معرف بن واصل، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، به. وأخرجه البيهقي (7/ 322) من طريق أبي داود، وأخرجه ابن عدي (6/ 461) من هذا الوجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقد تعقَّب المناويُّ السُّيوطيَّ حين رمز له بالصحة في الجامع الصغير، فقال المناوي: هذا غير صواب. قال الألباني: وجملة القول: أن الحديث رواه عن معرف بن واصل أربعة من الثقات، وهم: 1 - محمد بن خالد الوهبي. 2 - أحمد بن يونس. 3 - وكيع بن الجراح. 4 - يحيى بن بكير؛ وقد اختلفوا عليه. ولا يشك عالمٌ بالحديثِ أن رواية هؤلاء أرجح؛ لأنَّهم أكثر عددًا، وأتقن حفظًا، وأنهم جميعًا ممن احتج بهم الشيخان في صحيحهما؛ فلا جرم أن رجح ¬

_ (¬1) أبو داود (2177)، ابن ماجه (2018)، الحاكم (2/ 196).

الإرسال ابن أبي حاتم، عن أبيه، وكذلك رجَّحه الدارقطني، والبيهقي، وقال الخطابي وتبعه المنذري: المشهور فيه المرسل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغرض من النكاح البقاء والدوام، وبناء بيت الزوجية، وتكوين الأسرة التي نواتها الزوجان. 2 - الطلاق هدم لهذا البيت، ونقض لدعائمه، وإزالة لمعالمه. 3 - الطلاق إبطال لمصالح النكاح المتعددة؛ من تكوين الأسرة، وحصول الأولاد، وتكثير سواد المسلمين. 4 - الطلاق تفرُّقٌ بعد وفاق سعيد، وهمٌّ بعد فرحة، ويأسٌ بعد أملٍ كبير. 5 - الطلاق يسبِّب العداوة والبغضاء بين الزوجين، وبين الأسرتين، بعد التقارب والتآلف والتعارف. 6 - الطلاق يشتت الأولاد الموجودين، ويُفْقِدهم إما قيام الأب، وتربيته، وتعليمه، وتوجيهه، وإما يفقدهم حنان الأم، ورعايتها، وعطفها. 7 - الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لما يجرّه من الويلات، ولما يعقبه من النكبات، ولما يسببه من المصاعب والمفاسد. 8 - الطلاق لا يكون محمودًا، ولا تبرز حكمة شرع الله فيه، إلاَّ حينما تسوء العشرة الزوجية، وتفقد المحبة والمودة، ويكثر الشقاق والخلاف، ويصعب التفاهم والتلاؤم، ولا يمكن الاجتماع؛ فحينئذٍ يكون الطلاق رحمةً، ويكون التفرق نعمة؛ قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (229)} [البقرة: 229]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. 9 - وبهذا يعرف جلال هذا الدين، وسمو تشريعاته، وأنها الموافقة للعقل الصحيح، ومتمشية مع المصالح العامة والخاصة.

10 - قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق مكروه في حال استقامة الزوجين، إلاَّ أبا حنيفة، فهو عنده حرام مع الاستقامة. 11 - الطلاق تجري فيه الأحكام الخمسة: (أ) يباح عند الحاجة إليه؛ كسوء خلُق المرأة. (ب) يستحب إذا كانت الزوجة متضررة باستدامة النكاح، وهي الحالة التي تحوجها إلى المخالعة. (ج) يجب إذا أبى المُولِي الفيئة، وكذلك الصواب: أنه يجب عند ترك أحد الزوجين العفة، أو الصلاة، وغيرها من حقوق الله تعالى. (د) يحرم للبدعة، وهي إذا أوقع الطلاق وكانت حائضًا، أو نفساء، أو في طُهْرٍ جامع فيه، أو بالثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللهن نكاح ولا رجعة. (هـ) يكره لعدم الحاجة إليه. * فوائد: الأولى: أجمع الأئمة الأربعة على أن السكران الآثم بسكره يقع طلاقه، ويؤاخذ بسائر أقواله وأفعاله. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنه لا يقع طلاقه؛ اختاره ابن عَقيل، والموفَّق، والشارح، والشيخ تقي الدين، وابن القيم، وقال به جماعة من التابعين. قال الزركشي: إن أدلة هذه الرواية أظهر. ورجَّح هذه الرواية الشيخان: محمد بن إبراهيم، وعبد الرحمن السعدي. الثانية: قال ابن القيم: الغضب ثلاثة أقسام: 1 - يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، ولكن لا يتغير عقله؛ فهذا لا إشكال في

وقوع طلاقه. 2 - يبلغ به الغضب نهايته، فلا يعي ما يقول؛ فلا خلاف في عدم وقوعه. 3 - يستحكم به الغضب ويشتد، فلا يزيل عقله، فهو يعي ما يقول، ولكنه يحول بينه وبين نيته؛ ففيه خلافٌ، ولكن الأدلة تدل على عدم وقوع طلاقه وعقوده. الثالثة: قال ابن عبد البر، وابن المنذر، وابن رشد: أجمع العلماء على أن المطلِّق للسنة في المدخول بها، هو الذي يطلق امرأته في طُهْر لم يمسها فيه، طلقةً واحدةً، وأن المطلق في الحيض، أو الطهر الذي جامع فيه غير مطلِّقٍ للسنة، فصارت السنة من جهتَيْن: من جهة العدد، وهو أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، والجهة الثانية: أن يطلقها في طُهْر لم يصبها فيه. الرابعة: فيه أن بعض المكروهات إلى الله تعالى تكون مشروعة، فمن ذلك: الطلاق، ومنها: الصلوات المفروضة في البيوت، وبُغض الطلاق جاء من أمورٍ كثيرة، تقدم بعضها، ومنها أن من أحب الأشياء إلى الشيطان التفريق بين الزوجين؛ فينبغي أن يكون أبغض الأشياء عند الله تعالى. ***

929 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذلِكَ؟ فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، تُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، تُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلاً". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلبُخَارِيِّ: "وَحسِبَتْ تَطْلِيقَةً". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَني أَنْ أُرَاجِعَهَا، ثُمَّ أُمْهِلَهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاَقِ امْرَاتِكَ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: "فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - طَلَّق امرأته: اسمها آمنة بنت غفار، وقيل: اسمها النوار، ولعلَّ الأول اسم، ¬

_ (¬1) البخاري (5251، 5253)، مسلم (1471).

والثاني لقب. - حُسِبَت عليه: مبنيٌّ للمجهول، والحاسب عليه هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - طلَّق عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك أبوه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فتغيظ -عليه الصلاة والسلام- غضبًا، حيث طلَّقها طلاقًا محرمًا، لم يوافق السنة، ثم أمره بمراجعتها، وإمساكها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم تحيض أخرى، ثم تطهر منها، وبعد ذلك إن بدا له طلاقها، ولم ير في نفسه رغبة في بقائها، فليطلقها قبل أن يطأها؛ فتلك العدة التي أمر الله بالطلاق فيها لمن يشاء، ومع أن الطلاق في الحيض محرم، ليس على السنة، فقد حُسِبَت عليه تلك الطلقة من طلاقها؛ فامتثل -رضي الله عنه- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فراجعها. 2 - تحريم الطلاق في الحيض، وأنه من الطلاق البدعي، الذي ليس على أمر الشارع، ولأنَّه جاء في بعض روايات هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- تغيظ، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يتغيظ إلاَّ في حرام. 3 - أمره -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر برجعتها دليلٌ على وقوعه، ووجهته: أن الرجعة لا تكون إلاَّ بعد طلاق، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله، والأمر برجعتها يقتضي الوجوب؛ وإليه ذهب أبو حنيفة، وأحمد، والأوزاعي. حَمَله بعضهم على الاستحباب، وذهب إليه الشافعي، ورواية عن أحمد، واحتجوا بأن ابتداء النكاح ليس بواجب، فاستدامته كذلك. 4 - الأمر بإرجاعها إذا طلَّقها في الحيض، وإمساكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر. 5 - قوله: "قبل أن يَمَسَّ" دليلٌ على أنه لا يجوز الطلاق في طُهْر جامع فيه. 6 - الحكمة في إمساكها حتى تطهر من الحيضة الثانية، هو أن الزوج ربَّما واقعها

في ذلك الطهر، فيحصل دوام العشرة، ولذا جاء في بعض طرق الحديث: "فإذا تطهرت، مسَّها". وقال ابن عبد البر: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلاَّ بالوطء؛ لأنَّه المقصود في النكاح. وأمَّا الحكمة في المنع من طلاق الحائض، فخشية طول العدة، وأمَّا الحكمة في المنع من الطلاق في الطهر المجامَع فيه، فخشية أن تكون حاملاً، فيندم الزوجان أو أحدهما، ولو علما بالحمل، لأحسنا العشرة، وحصل الاجتماع بعد الفرقة والنفرة، وكل هذا راجعٌ إلى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ولله في شرعه حكمٌ، وأسرارٌ، ظاهرةٌ وخفيةٌ. * خلاف العلماء في وقوع طلاق الحائض: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- إلى وقوع الطلاق في الحيض، ودليلهم على ذلك أمره -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمر بإرجاع زوجته، حين طلَّقها حائضًا، ولا تكون الرجعة إلاَّ بعد طلاقٍ سابقٍ لها، ولأنَّ في بعض ألفاظ الحديث: "فحُسِبَت من طلاقها". وذهب بعض العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم- إلى أن الطلاق لا يقع، فهو لاغٍ. واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والنسائي: "أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردَّها عليَّ، ولم يرها شيئًا". وقد استنكر العلماء هذا الحديث؛ لمخالفته الأحاديث كلها. وأجاب ابن القيم عن أدلة الجمهور: بأن الأمر برجعتها معناه إمساكها على حالها الأولى؛ لأنَّ الطلاق الذي لم يقع في وقته المأذون فيه شرعًا ملغيٌّ، فيكون النكاح بحاله. وأمَّا الاستدلال بلفظ: "فحُسِبَت من طلاقها" فليس فيه دليل؛ لأنَّه غير

مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأطال ابن القيم النقاش في هذا الموضوع في كتابه "تهذيب السنن"، ولكن الأرجع ما ذهب إليه جمهور العلماء، والله أعلم. فقد قال الشيخ ناصر الدين الألباني: وجملة القول: أن الحديث مع صحته، وكثرة طرقه، فقد اضطرب الرواة عنه في طلقته الأولى في الحيض هل اعتد بها، أم لا؟ فانقسما إلى قسمين: الأول: من روى عنه الاعتداد بها. القسم الآخر: الذين رووا عنه عدم الاعتداد بها، والأول أرجح لوجهين: الأول: كثرة الطرق. الثاني: قوة دلالة القسم الأول على المراد، دلالةً صريحةً، لا تَقْبل التأويل، بخلاف القسم الآخر، فهو ممكن التأويل، بمثل قول الإمام الشافعي: "ولم يرها شيئًا" أي: صوابًا، وليس نصًّا في أنه لم يرها طلاقًا، بخلاف القسم الأول، فهو نصٌّ في أنه رآها طلاقًا، فوجب تقديمه على القسم الآخر. وقد اعترف ابن القيم -رحمه الله- بهذا، ولكنه شك في صحة المرفوع من هذا القسم، فقال: وأمَّا قوله في حديث ابن وهب: "وهي واحدة"، فلعمر الله! لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما قدمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة. فتشككه -رحمه الله- في صحتها خطأٌ، فابن وهب لم ينفرد بإخراج الحديث، بل تابعه الطيالسي فقال: حدَّثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فأتى عمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك، فجعله واحدة". وتابعه أيضًا يزيد بن أبي ذئب به، ورجاله ثقات، وتابع ابنَ أبي ذئب: ابنُ جريج، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي واحدة"،

قلت: ورجاله ثقات. وكل هذه الروايات لم يقف عليها ابن القيم، وظني أنه لو وقف عليها، لتبدد الشك الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دل عليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض. والرواية التي جاءت عن الشعبي: "إذا طلَّق الرجل امرأته وهي حائض، لم تعتدَّ بها في قول ابن عمر". قال ابن عبد البر: ليس معناه ما ذهب، وإنما معناه: لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة. اهـ. وقال الشيخ عبد الله بن محمد: أمَّا مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور والمفتى به عند علماء الأمصار من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، وغيرهم: أن الطلاق في الحيض طلاق بدعة، ومعصية لله ورسوله، ولكنه لازم، ويحسب من الطلاقات الثلاث. وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائله كثيرة، وقد ذُكِرَت في البخاري ومسلم وغيرهما. ***

930 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ الطَّلاَقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبِي بكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، طَلاَقُ الثَّلاَثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَنَاة: قال في المصباح: الآناء هي الأوقات، وفي واحدها لغتان: إحداهما: "إِنْي" بكسر الهمزة، والقصر؛ على وزن حِمْل. والثاني: "أَنَاة" على وزن حَصَاة، والأناة هي المهلة. - أمضيناه: يقال: أمضى الأمر إمضاءً: أنفذه، أي: لو أجرينا وأنفذنا عليهم ما استعجلوه من الثلاث، لكان ذلك مانعًا لهم عن تتابع الطلقات. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1472).

931 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَارَسُولَ اللهِ! أَلاَ أَقْتُلُهُ؟ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوثَّقُونَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن كثير: إسناده جيد. قال المؤلف: رواه النسائي ورواته موثقون، وَقال في فتح الباري: رجاله ثقات. وقال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه النسائي، وقال: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة. أمَّا ابن القيم فقال في زاد المعاد: إسناده على شرط مسلم، ومخرمة ثقة بلا شك، قد احتج به مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه، والذين أعلوه قالوا: لم يسمع منه. قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير؟ فقال: هو ثقة، ولم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب مخرمة. والجواب: أن كتاب أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطًا، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدَّث به، أو رواه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف. ¬

_ (¬1) النسائي (3401).

* مفردات الحديث: - يُلعب: مبنيٌّ للمجهول، يُقال: لعب يلعب لعبًا: ضد جدَّ، ومعناه: عبث بالأمر، أو هزىء بالدين، واستخفَّ به، ولعله المراد هنا. - كتاب الله: المراد به هنا أحكامه المأخوذة منه. - بين أظهركم: أي وسطكم، والأصل في هذا الأسلوب أنه على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، ثم أكثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا، والمعنى: أيُلعب بأحكام الله، وأنا مازلت معكم حيًّا؟!. ***

932 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَة، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلاَثًا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي لَفْظٍ لأحْمَدَ: "طَلَّقَ رُكَانَةُ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاَثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فإِنَّهَا وَاحِدَةٌ"، وَفِي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: "أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ ألْبَتَّةَ، فَأَخْبرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِذلِكَ، وَقَالَ: واللهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من صحَّحه وأخذ به، ومنهم من ضعَّفه وأخذ بما يعارضه، ونتج عن هذا الاختلاف اختلافهم في حكم المسألة التي في هذا الحديث: قال المصححون: قال أبو داود: هذا الحديث أصحّ من حديث ابن جريج الذي فيه: "إن ركانة طلَّق امرأته ثلاثًا". وقال ابن ماجه: سمعت الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث. ¬

_ (¬1) أبو داود (2196، 2206)، أحمد (1/ 265).

وهذا بيان لشرف إسناده، وكثرة فائدته. وقال المضعفون -ومنهم ابن القيم-: حديث "ألبتة" ضعَّفه أحمد. وقال شيخنا -يعني ابن تيمية-: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، وابن عيينة، وغيرهم ضعَّفوا حديث ركانة "ألبتة"، وكذلك ابن حزم، وقالوا: إن رواته قومٌ مجاهيل، لا تُعرف عدالتهم، ولا ضبطهم، وقال أحمد: حديث رُكانة لا يثبت. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، وسألت البخاري عنه، فقال: مضطرب. وقال الألباني: وجملة القول: أنَّ حديث الباب ضعيف، وأن حديث ابن عباس المعارض له أقوى منه، والله أعلم. * مفردات الحديث: - أبو رُكانة: هكذا وقع في نسخ بلوغ المرام التي اطلعت عليها: "أبو رُكانة"، والمعروف في كتب التراجم والحديث وغيرها: أنه رُكَانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب القرشي المطلبي، ورجعت إلى كثير من المصادر فلم أجد إلاَّ رُكانة، منها الإصابة للمؤلف، ولا أظن إلاَّ أن زيادة "أبي" من النُّسَّاخ. - سُهَيْمَة: بالسين المهملة المضمومة تصغير سهمة، هي سهيمة بنت عمير المزنيَّة، من بني مزينة، قبيلة مضرية، دخلت بالحلف الآن مع قبيلة حرب، وتسكن في غرب القصيم. - ألبتة: بهمزة وصل، أو قطع، بعدها لام ساكنة، ثم ياء مفتوحة، ثم تاء مشددة، آخرها تاء التأنيث، والبت هو القطع، قال في المصباح: بت الرجل طلاق امرأته، فهي مبتوتة، والأصل: مبتوتٌ طلاقُها، إذا قطعها عن الرجعة.

* ما يؤخذ من هذه الأحاديث: 1 - الحديث رقم (930) يفيد أن الطلقات الثلاثة بكلمة واحدة، لا تحسب إلاَّ طلقةً واحدةً، فإن لم تكن نهاية الثلاث، فله الرجعة. وهذا الحديث هو عمدة القائلين بهذا القول. 2 - أمَّا الحديث رقم (931) فيدل على أن الطلقات الثلاث التي لم يتخللهن رجعة، ولا نكاح: أنها طلاقٌ بدعةُ محرمةً. 3 - ويدل على أن التلاعب بأحكام الله تعالى، وتعدي حدوده، من كبائر الذنوب، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يغضب إلاَّ على معصية كبيرة. 4 - التلاعب بكتاب الله، وسنة رسوله، حرام، ولو بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وإنما قال ذلك استغرابًا من سرعة تغير الأمور. 5 - أمَّا الحديث رقم (932) فتدل روايتا أبي داود وأحمد على ما دل عليه الحديث رقم (930)، من اعتبار الطلاق الثلاث واحدةً، وأن للمطلق الرجعة، إن لم تكن نهاية عدده من الطلاق. 6 - وأمَّا الرواية الثانية لأبي داود، فتدل على أن الطلاق "ألبتة"، يكون بحسب نية المطلق، فإن نوى به الثلاث، صار ثلاثًا، وإن نوى به واحدة، فهو واحدة رجعية. 7 - قال الشيخ بخيت المطيعي: إن رُكانة طلَّق زوجته "ألبتة"، وهو من كنايات الطلاق، يقع به واحدة إن نوى واحدة، ويقع به ثلاثًا إن نواها. 8 - رواية "طلَّقها ألبتة" في حديث ركانة من أدلة الجمهور على أنَّ الطلاق الثلاث كلمةً واحدةً: طلاقٌ بائنٌ بينونةٌ كبرى، وليس فيه رجعة إلاَّ بعد أن تنكح زوجًا آخر. * خلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن أوقع الطلقات الثلاث دفعةً واحدةً، أو أوقعها

بكلماتٍ ثلاثٍ، لم يتخللها رجعةٌ ولا نكاحٌ، فهل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلاَّ بعد أن تنكح زوجًا غيره، وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة، له رجعتها ما دامت في العدة، وبعد العدة يعقد عليها، ولو لم تنكح زوجًا غيره؟: اختلف العلماء في ذلك اختلافًا طويلاً عريضًا، وعُذِّب من أجل القول بالرجعة بها جماعة من الأئمة والعلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض أتباعه. ولكننا نسوق هنا ملخصًا فيه الكفاية، إن شاء الله تعالى: ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- وجمهور الصحابة والتابعين: إلى وقوع الطلاق الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ، إذا قال: "أنت طالق ثلاثًا" ونحوه، أو بكلمات ولو لم يكن بينهن رجعة ولا نكاح. ودليلهم: حديث ركانة بن عبد الله "أنه طلَّق امرأته ألبتة"؛ فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك؟ فقال له: "والله ما أردت إلاَّ واحدة؟ ". وهذا الحديث أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبَّان، والحاكم. ووجه الدلالة من الحديث: استحلافه -صلى الله عليه وسلم- للمطلق أنه لم يرد بـ "ألبتة" إلاَّ واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده. واستدلوا أيضًا بما في صحيح البخاري عن عائشة: "أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت، فطلقت، فسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتحل للأول؛ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول"، ولو لم تقع الثلاث، لم يمنع رجوعها إلى الأول إلاَّ بعد ذوق الثاني عسيلتها. واستدلوا أيضًا بعمل الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على إيقاع الثلاث بكلمةٍ واحدةٍ ثلاثًا، كما نطق بها المطلَّق، وكفى بهم

قدوة وأسوة، ولهم أدلة غير ما سقنا، ولكن ما ذكرنا هو الصريح الواضح لهم. وذهب جماعة من العلماء: إلى أن موقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللها رجعة ولا نكاح، لا يقع عليها إلاَّ طلقة واحدة، وهو مروي عن الصحابة، والتابعين، وأرباب المذاهب. فمن الصحابة القائلين بهذا القول: أبو موسى الأشعري، وابن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام. ومن التابعين: طاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وغالب أتباع ابن عباس، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن إسحاق. ومن أرباب المذاهب: داود وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب أحمد، منهم المجد عبد السلام ابن تيمية، وكان يفتي بها سِرًّا، وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية يجهر بها، ويفتي بها في مجالسه، وكثير من أتباعه. ومنهم ابن القيم، الذي نصر هذا القول نصرًا مؤزَّرًا في كتابيه "الهدي"، و"إغاثة اللهفان"، فقد أطال البحث فيها، واستعرض نصوصها، وردَّ على المخالفين بما يكفي ويشفي. واستدل هؤلاء بالنَّص والقياس: فأمَّا النص: فما رواه مسلم في صحيحه: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت جعل واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وفي صدر من إمارة عمر؟ قال: نعم" وفي لفظ: "تردّ إلى واحدة؟ قال: نعم". فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ لا يقبل التأويل والتحويل. وأمَّا القياس: فإن جمع الثلاث محرَّمٌ وبدعةٌ، والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"، وإيقاع الثلاث دفعًة واحدةً ليس من أمر الرسول، فهو مردود مسدود.

وأجاب هؤلاء عن أدلة الجمهور بما يأتي: أمَّا حديث ركانة: فقد ورد في بعض ألفاظه: "أنه طلَّقها ثلاثًا"، وفي لفظ: "واحدة"، وفي لفظ: "ألبتة"؛ ولذا قال البخاري: "إنه مضطرب". وقال الإمام أحمد: طرقه كلها ضعيفة، وقال بعضهم: في سنده مجهول، وفيه من هو ضعيف متروك. قال شيخ الإسلام: وحديث رُكَانة ضعيف عند أئمة الحديث، ضعَّفه أحمد، والبخاري، وأبو عبيد، وابن حزم، بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط. وأمَّا حديث عائشة: فالاستدلال به غير وجيه؛ إذ من المحتمل أن مرادها بالثلاث نهاية ما للمطلق من الطلقات الثلاث، وإذا وجد الاحتمال، بطل الاستدلال، وهو مجمل، يحمل على حديث ابن عباس المبين؛ كما جاء في الأصول. وأمَّا الاستدلال بعمل الصحابة، فمَنْ أولاهم بالاقتداء والاتباع؟! ونحن نقول: إنهم يزيدون عن مائة ألف، وكل هذا الجمع الغفير -وأولهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- يعدون الثلاث واحدة، حتى إذا تُوفي -صلى الله عليه وسلم- وهي على ذلك، وجاء خليفته الصديق، فاستمرت الحال على ذلك حتى تُوفي، وخَلَفَه عمر -رضي الله عنه- فمضى صدر خلافته، والأمر كما هو على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد الصديق، بعد ذلك جعلت الثلاث، كعددها ثلاثًا؛ كما بيَّنَّا سببه. فصار على أن الثلاث واحدة: جمهور الصحابة، ممَّن قضى نحبه قبل خلافة عمر، أو نزحت به الفتوحات قبل المجلس الذي عقده لبقية الصحابة المقيمين عنده في المدينة. فعلمنا -حينئذٍ- أن الاستدلال بعمل الصحابة منقوض بما يشبه إجماعهم في عهد الصديق على خلافه.

وعمل عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- حاشاه وحاشا من معه أن يعملوا عملاً يخالف ما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وإنما رأى أن الناس تعجلوا وأكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث، وهو بدعة محرمة، فرأى أن يلزمهم بما قالوه تأديبًا وتعزيرًا على ما ارتكبوا من إثمٍ، وما أتوه من ضيق هُمْ في غنًى عنه، ويُسرٍ وسعة، وهذا العمل من عمر -رضي الله عنه- اجتهادٌ من اجتهادِ الأئمة، وهو يختلف باختلاف الأزمنة، ولا يستقر تشريعًا لازمًا لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وإن طلَّقها ثلاثًا، في طهرٍ واحدٍ، بكلمةٍ واحدةٍ، أو كلماتٍ، مثل: "أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق"، أو يقول: "أنت طالق"، ثم يقول: "أنت طالق"، ثم يقول: "أنت طالق"، فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء أكانت مدخولاً بها، أو غير مدخولٍ بها: أحدها: أنه طلاقٌ مباحٌ لازمٌ، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه؛ اختارها الخرقي. الثاني: أنه طلاقٌ محرم لازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد؛ اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقولٌ عن كثيرٍ من السلف والخلف من الصحابة والتابعين. الثالث: أنَّه محرم، ولا يلزم منه إلاَّ طلقة واحدة، وهذا القول منقولٌ عن طائفة من السلف والخلف من الصحابة، وهو قول كثير من التابعين، ومَن بعدهم، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. وأمَّا مسألة الحلف بالطلاق: فقال -رحمه الله تعالى-: والفرق ظاهرٌ بين الطلاق والحلف به، وبين النذر والحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مريضي، أو قضى ديني، أو خلَّصني من هذه الشدة، فلله عليَّ أن أتصدق بألف درهمٍ، أو أصوم شهرًا، أو أعتق رقبةً، فهذا تعليقُ

نذرٍ يجب عليه الوفاء به بالكتاب، والسنَّة، والإجماع. وإذا علَّق النَّذر على وجه اليمين قاصدًا الحث أو المنع، فقال: إن سافرت معكم، أو إن زوجت فلانًا، فعلىَّ الحج، أو فمالي صدقة، فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء: هو حالف بالنذر، ليس بناذر، فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين. * قرار مجلس كبار العلماء بشأن مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد: رقم (18) وتاريخ 12/ 11/ 1393 هـ: قال مجلس هيئة كبار العلماء: بَحْث مسألة الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ، وبعد الدراسة وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قولٍ، توصَّل المجلس بالأكثرية إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ ثلاثًا، وخالف من أعضاء المجلس خمسة وهم: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ محمد بن جبير. فهؤلاء الخمسة لهم وجهة نظر نصّها ما يلي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد: فنرى أن الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ طلقةٌ واحدة. وقال محرِّره: وجاء كل واحد من الفريقين بأدلته وما يراه.

933 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثٌ جِدُهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ" رَوَاهُ الأَرْبعةُ، إلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ. وَفِي رِوَايَةٍ لابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: "الطَّلاَقُ، وَالعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم وصحَّحه، وأقرَّه صاحب الإلمام، وابن خزيمة، كلهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ... فذكره، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد ذكر الزيلعي في معناه أحاديث أُخر. قال الألباني: والَّذي تلخَّص عندي أن الحديث حسنٌ بمجموع طريق أبي هريرة التي حسَّنها الترمذي، وطريق الحسن البصري المرسلة، وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت، وآثار الصحابة التي تدل على أن معنى الحديث كان معروفًا عندهم، والله أعلم. * مفردات الحديث: - جِدّ: بكسر الجيم المعجمة، وتشديد الدال المهملة، قال في المصباح: جَدَّ ¬

_ (¬1) أبو داود (2194)، الترمذي (1184)، ابن ماجه (2039)، الحاكم (2800)، ابن عدي (6/ 5).

فى كلامه: ضد هزل؛ ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث جِدّهن جِدّ، وهزلهن جدّ". - هَزْل: ضد الجد، فالهزل هو العمل يتغلب فيه الهزل على الجد، قال في المصباح: هزل في كلامه: مزح. - العَتاق: العتق لغة: الخلوص، وشرعًا: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق. ***

934 - وَلِلْحَارِثِ بْنِ أُسَامَةَ، مِنْ حَدِيْثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَفَعَهُ: "لاَ يَجُوْزُ اللَّعِبُ فِي ثَلاَثٍ: الطَّلاَقِ، والنِّكَاحِ، وَالْعَتَاقِ، فَمَنْ قَالَهُنَّ، فَقَدْ وَجَبْنَ" وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدَّثنا بشر بن عمر، حدَّثنا عبد الله بن لهيعة، حدَّثنا عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبادة بن الصامت، به. قلت: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، وله علتان: الأولى: الانقطاع بين عبيد الله بن أبي جعفر، وعبادة بن الصَّامت؛ فإنَّه لم يثبت لعبيد الله سماع من الصحابة. الثاني: ضعف عبد الله بن لهيعة، قال الحافظ: صدوق خلَّط بعد احتراق كتبه. لكن ذكر ابن حجر في التلخيص الحبير عدة طرق للحديث، وكلها فيها ضعف، لكن تتقوى ببعضها، والله أعلم، وروي موقوفًا عن عمر، وعلي نحوه. * مفردات الحديث: - وَجَبْن: لزمن، وثبتن، ونفذ حكمهن. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على نفوذ الأحكام المذكورة، وهي عقد النكاح، والطلاق، ورجعة الزوجة إلى عصمة النكاح، والعتق. ¬

_ (¬1) مسند الحارث (زوائد الهيثمي) (1/ 555).

2 - فهذه أحكامٌ سريعة النفوذ، قوية السريان متى ما صدرت ممن يملكها ويملك التصرف فيها، فإنه لا رجعة له فيها بعد إطلاقها. 3 - فمن عقد على موليَّته، أو طلَّق زوجته، أو أعتق عبده، نفذ ذلك من حين تلفظه بذلك، سواء كان جادًّا، أو هازلاً، أو لاعبًا؛ حيث إنه ليس لهذه العقود خيار مجلس ولا خيار شرط. 4 - وكذا الرجعة تحصل من حين التلفظ بها، حيث لا يشترط رضا الزوجة، ولا قبولها لذلك. 5 - حديثا الباب مخصِّصان؛ لعموم حديث: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات". 6 - فهذان الحديثان ينبِّهان الإنسان بأن لا يمزح ولا يهزل بمثل هذه الأحكام؛ كما يفعله بعض الناس في مجالسهم العامة والخاصة، بل يكون الإنسان حذرًا؛ لئلا يقع فيما يورطه من الأمور. 7 - الحكمة -والله أعلم- في سرعة نفوذ وسريان النكاح، والرجعة، والعتق، تشوّف الشارع إلى إيقاعها؛ فصارت نافذة سارية من حين إطلاقها. 8 - أمَّا الطلاق فالحكمة -والله أعلم- أنه خطيرٌ جدًّا، وأن تكريره مما يجعل الزوجة مطلَّقة أجنبية، وأن معاشرتها ومباشرتها محرمة، وأن غالب المطلقين هم أصحاب الانفعالات النفسية، وليسوا غالبًا من المستقيمين؛ فخشية من أن ينكر نية الطلاق وقصده، ويتلاعب بذلك، جُعِلَ نافذًا عليه، وساري المفعول، ولو لم ينو أو يقصد الطلاق. 9 - أجمع العلماء على أن من طلَّق زوجته، طلقت عليه، سواء كان في طلاقه هازلاً أو جادًّا، وأنه لا ينفع أن يقول فيه: كنت لاعبًا، أو هازلاً. ***

935 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أوْ تَكَلَّمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تجاوز: هو من جاز يجوز، فألفه منقلبة عن واو، وتجاوز عن المسيء: عفا عنه، وصفح عنه، ولم يؤاخذه بذنبه. - حدَّثت: بتشديد الدال المهملة، يقال: حدَّثه بكذا، أي: أخبره، والمراد هنا حديث النفس، وهو ما يخطر بالقلب من الوسوسة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5269)، مسلم (127).

936 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لا يَثْبُتُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. اختلفت أنظار العلماء في هذا الحديث وشواهده، والأرجح قبوله. قال ابن حجر: رجاله ثقات، إلاَّ أنه أعلَّ بعلة غير قادحة. وقال ابن رجب في شرح الأربعين؛ هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخرَّجه ابن حبَّان في صحيحه (16/ 202)، والدارقطني (4/ 170)، وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتج بهم في الصحيحين، وقد خرَّجه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي. ولكن له علة، فقد أنكره الإمام أحمد جدًا، وقال: لا يروى إلاَّ عن الحسن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة، وكأنها موضوعة، فإن الأوزاعي لم يسمع هذا الحديث عن عطاء، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه أُخر. قال أبو داود: روى الوليد بن مسلم، عن مالك عشرة أحاديث، ليس لها أصلٌ، منها عن نافع أربعة. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2045)، الحاكم (2/ 198).

قلت: والظاهر أن منها هذا الحديث. أمَّا الشيخ الألباني فقال ما خلاصته: لست أرى ما ذهب إليه أبو حاتم، فإنه لا يجوز تضعيف حديث بمجرد دعوى عدم السماع؛ ولذلك فنحن على الأصل، وهو صحة الحديث حتى يتبيَّن انقطاعه. وأمَّا الحافظ ابن حجر فقال: رجاله ثقات، وقال البوصيري: إسناده صحيح، كما صححه ابن حبان، وحسَّنه النووي في الروضة، كما صححه الشيخ أحمد شاكر. * مفردات الحديث: - وضع: عفا، وتجاوز، وأسقط المؤاخذة. - الخطأ: جمعه أخطاء، وهو ضد الصواب، فهو: ما لم يُتعمَّد من الأمر. - النسيان: مصدر نسي، وله معنيان: أحدهما: الترك مع الذِّكْرِ. الثاني: وهو المراد هنا: دخول غفلة عمَّا كان في الذهن. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديث رقم (935) يدل على أن الله تبارك وتعالى تجاوز، وعفا عن الأفكار والهواجس، التي تطرأ على النفس، فيحدّث الإنسان بها نفسه، وتمر على خاطره، ذلك أن الخواطر النفسية، والهواجس القلبية، ليست من عمل الإنسان وإرادته، وإنَّما هي أمور ترد وتخطر على قلبه، بدون قصدٍ وتعمدٍ لها، فهذا عفا الله عنها، وتجاوز لعباده عنها، فلا تلحقهم تبعاتها. 2 - ومن هذا الطلاق، فإذا فكَّر فيه، وعرض في خاطره، ولكنه لم يتكلم به، ولم يكتبه، فإن حديث نفسه به، وتفكيره فيه، لا يعتبر طلاقًا. 3 - أمَّا الحديث رقم (936) فيدل على أن الخطأ، والنسيان، والإكراه في الطلاق معفو عن صاحبه، مسامح فيه؛ فلو أراد أن يقول لزوجته: "أنت

طاهر" فقال خطأ: "أنت طالق" لم تطلق؛ لأنَّ الطلاق يعتبر لوقوعه إرادة لفظه لمعناه. 4 - أمَّا المكره بغير حق، فلا يقع طلاقه. قال ابن القيم: لأنَّه قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولكن لم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غير قاصد له، وإنَّما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم؛ لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ. 5 - أمَّا المكره بحق، فيقع طلاقه، وذلك المُوْلِي إذا مضى عليه أربعة أشهر، وأبى أن يفيء، فأجبره الحاكم على الطلاق، فيقع طلاقه؛ لأنَّه إكراه بحق. 6 - الحديث رقم (936) دليلٌ على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفو عنها لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إذا صدرت عن خطإٍ، أو نسيانٍ، أو إكراهٍ. 7 - أن طلاق الخاطىء والمكره لا يقع عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، ويقع عند أبي حنيفة. 8 - مفهوم الحديث أن الإنسان إذا تكلم بالحكم الشرعي، كأن يلفظ بالطلاق، أو يفعل بأن يكتبه؛ أنه يقع عليه، ولا يعذر حينئذٍ. ***

937 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "إِذَا حَرَّمَ امْرَأتهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وِلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَهي يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - معنى الحديث أن الرجل إذا قال لزوجته: "أنت عليَّ حرام"، فليس التحريم بطلاق، وإنَّما يكون يمينًا، فيه كفَّارة اليمين؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]، أي: شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المذكورة في سورة المائدة. 2 - فالحديث يدل على أن من حرَّم شيئًا قد أحلَّه الله له، فإنه لا يكون حرامًا؛ فإنَّ حِلّ الأمور وحرمتها بيد الله تعالى؛ ولذا قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]؛ فإنه لا فرق بين من أباح ما حرَّم الله، وبين مَن حرَّم ما أحلَّ الله، فكله افتئات على الله في أحكامه. 3 - أثر ابن عباس صريح في أن الرجل إذا حرَّم زوجته، يصير تحريمه يمينًا، تحلها كفارة اليمين المذكورة في سورة المائدة. وفي مثل هذا اليمين الواجب على الحالف أن يأتي ما حرَّم، وحلف عليه، ¬

_ (¬1) البخاري (5266)، مسلم (1473).

ويُكَفِّر عن يمينه؛ لما جاء في الصحيحين، من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك، وأْتِ الذي هو خير". 4 - شارح هذا الكتاب صحح القول بأن تحريم الزوجة أو غيرها من المباحات لغوٌ، لا حكم له في شيء من الأشياء؛ والحجة على ذلك: أن التحريم والتحليل إلى الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]؛ فلا فرق بين تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فلما كان الأول باطلاً، فليكن الثاني باطلاً، ونظرنا إلى ما سوى هذا القول، فوجدنا أقوالاً مضطربة، لا برهان عليها من الله، وهذا القول يدل عليه حديث ابن عباس، أمَّا الكفارة فهي لليمين، لا لمجرد التحريم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت عليَّ حرام" إلى ثمانية عشر قولاً، وأقرب هذه الأقوال، أقوالٌ ثلاثة هي: أحدها: أنها يمين مكفرة؛ وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وبه قال أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة. الثاني: أنه حسب نية المتكلم من طلاقٍ، أو ظِهارٍ، أو يمينٍ؛ وهذا قول لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد، واختاره جماعة من الحنابلة. الثالث: أنه ظهارٌ، فيه كفارة الظهار؛ وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، وإسحاق، وجماعة من التابعين. قال القرطبي: وسبب الاختلاف أنه ليس في الكتاب والسنَّة نصٌّ يعتمد عليه، فتجاذبها العلماء لذلك.

قال ابن القيم في مأخذ أصحاب هذه الأقوال فمأخذ من قال: إنها يمين مكفرة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وأثر ابن عباس الذي معنا. قال صاحب الشرح الكبير: وهذا القول أقرب الأقوال، وأرجحها. ومأخذ القول الثاني: هو أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمل للطلاق، والظِّهار، والإيلاء، فإذا صرفه إلى أحدها بالنية، فقد استعمله فيما هو صالح له، فيُصْرَف إلى ما أراده، ولا يتجاوز به، ولا يقصر عنه. أمَّا مأخذ القول الثالث: فهو أن اللفظ موضوع للتحريم، والعبد ليس له التحريم والتحليل، وإنَّما إليه إنشاء الأسباب التي يترتب عليه ذلك، فإذا حرَّم ما أحلّ الله له، فقد قال القول المنكر والزور، فيكون كقوله: أنت علي كظهر أمي، بل هذا أولى أن يكون ظهارًا؛ لأنَّه إذا شبهها بمن تحرم عليه، دل على التحريم باللزوم، فإذا صرح بتحريمها، فقد صرح بموجَب التشبيه في لفظ الظهار؛ فهو أولى أن يكون ظهارًا. ***

938 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أَنَّ ابْنَةَ الجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ، فَقَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعَمْرة بنت الجون، فلما قَرُب منها -صلى الله عليه وسلم- قالت -اجتهادًا منها-: أعوذ بالله منك، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن استعاذكم بالله، فأعيذوه"، فأعاذها -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "لقد عُذْتِ بعظيم، الحَقِي بأهلك". 2 - ففيه دليل على أن لفظ: "الحقي بأهلك" هو طلاقٌ، وإن لم يكن بلفظ الطلاق، وما تصرَّف منه. 3 - قوله: "الحقي بأهلك" كناية من كنايات الطلاق الخفية، والكناية -على المشهور من مذهب أحمد- لابد فيها من نية الطلاق، المقارنة لتلفظ المطلِّق، أو أن تكون في حال غضبٍ، أو خصومة، أو جواب لسؤال المرأة الطلاق، وبدون النية، أو هذه القرائن، فلا يقع بالكناية طلاق. 4 - الطلاق له صريح وكناية: فأمَّا صريحه: فلفظ الطلاق، وما تصرَّف منه من المشتقات، فيقع فيه الطلاق جادًّا، أو هازلاً، ولو لم ينوه. 5 - أمَّا كنايات الطلاق فقسمان: ظاهرة، وخفية: فالظاهرة: نحو أنت خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وتزوَّجي مَن شئت ... إلخ. ¬

_ (¬1) البخاري (5254).

والخفية: نحو اخرجي، واذهبي، واعتدي، واستبرئي، ولستِ لي با مرأة، وخلّيتك، والحقي بأهلك ... إلخ. 6 - الفرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، أن ألفاظ الظاهرة: موضوعة للبينونة، فيقع بها ثلاثًا، ولو نوى واحدة، وهذا هو المشهور عن مذهب الحنابلة. أمَّا الخفية: فموضوعة لطلقة واحدة، ما لم ينو أكثر، فيقع ما نواه. 7 - هذا التقسيم في ألفاظ الطلاق هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، رحمه الله تعالى. 8 - قال ابن القيم: تقسيم الألفاظ إلى صريح أو كناية، وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص، والأزمنة، والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للفظ في ذاته، فرُبَّ لفظ صريح عند قوم، كناية عند آخرين، أو صريح في زمان ومكان، كناية في غير ذلك المكان والزمان، والواقع شاهدٌ بذلك. وقال الشيخ علي بن عيسى، قاضي بلدة شقراء: إن لفظ التخلاة صريح في عرفنا اليوم. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أن ألفاظ الطلاق لا تتعين بلفظ مخصوص، فكل لفظ أفاد معنى الطلاق، فإنَّه يصلح أن يكون من ألفاظ الطلاق، كما هو في المعاملات وغيره، والله أعلم. 9 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: لا شك أن الإمضاء على ورقة الطلاق، ليس من صيغ الطلاق، لا من الصريح ولا من الكناية؛ إذ الزوج لم يكتب طلاق زوجته، وغاية ما في الأمر أنه كتب اسمه تحت كتابة وإنشاء غيره، فإذا لم يتلفظ بشيء مما كتب في الورقة، فلا يظهر لنا وقوع الطلاق منه بإمضائه الورقة.

939 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا طَلاَقَ إلاَّ بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ بَعْدَ مِلْكٍ" رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ (¬1)، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيْضًا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المصنف: رواه أبو يعلى، وصحَّحه الحاكم، وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، فلقد صحَّ على شرطهما من حديث ابن عمر، وعائشة، وابن عبَّاس، ومعاذ بن جبل، وجابر. ولكنه معلول بما قاله الدارقطني: الصحيح أنه مرسل ليس فيه جابر. قال يحيى بن معين: لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طلاق قبل النكاح". وقال ابن عبد البر: روي من وجوه إلاَّ أنها عند أهل العلم بالحديث معلولة، ولكن يشهد له ما أخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله، وإسناده حسن، لكنه أيضًا معلول؛ لأنَّه اختلف فيه على الزهري. قال البيهقي: أصح حديث في الباب حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أصحاب السنن: "ليس على رجل طلاق فيما لا يملك" ... الحديث. ¬

_ (¬1) الحاكم (2/ 204). (¬2) ابن ماجه (2048).

قال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، وقال البيهقي: قال البخاري: أصح شيء وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقد حسَّن الحديث السيوطي في الجامع الصغير، وقال ابن عبد الهادي: رجاله ثقات. ***

940 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَنَقَلَ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: تقدم الكلام عليه في درجة الحديث السابق. وذكره ابن حجر في التلخيص، وسكت عنه، ونقل هنا ابن حجر تصحيح الترمذي له. وقال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، كما سبقه الإمام البخاري فقال: إنه أصحّ شيء في الباب، وحسّنه المنذري. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - التصرف لا يصح ولا ينفذ إلاَّ فيما يملكه الإنسان، أمَّا الشيء الذي ليس تحت تصرفه، فلا يجوز ولا يصح تصرفه فيه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تَبعْ ما ليس عندك". 2 - من ذلك الطلاق لا يصح من رجل على امرأة أجنبية، ليست زوجة له؛ فـ"إنَّما الطلاق لمن أخذ بالساق"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا طلاق فيما لا يملك". 3 - ومن ذلك العتق، فلا يصح أن يعتق رقيقًا لا يملكه؛ لأنَّ تصرفه لم يقع محله. 4 - إذا علَّق طلاق أجنبية على نكاحه لها، فقال: إن نكحتُ فلانة فهي طالق، ففيه ثلاثة أقوال للعلماء: ¬

_ (¬1) أبو داود (2190)، الترمذي (1181).

الأول: عدم وقوع الطلاق؛ وهو قول الشافعي، وأحمد. الثاني: صحة التعليق مطلقًا؛ وهو قول أبي حنيفة. الثالث: التفصيل بين أن يخص امرأة بعينها، فيقع الطلاق وإن عم فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، لم يقع شيء؛ وهو قول مالك. والراجح هو القول الأول. قال ابن رشد: والفرق بين التخصيص والتعميم هو استحسانٌ مبنيٌّ على المصلحة. 5 - الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- فرَّق في التعليق بين الطلاق والعتق، فأبطله في الطلاق، وأجازه في العتق، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن القيم وذلك لأنَّ العتق له قوة وسراية، ولأنَّه يصح أن يجعل الملك سببًا للعتق، من باب القُرَب والطاعات، بخلاف النكاح: فإنه يقصد للبقاء، وليس الطلاق عبادة، وإنَّما هو مكروه. 6 - أمَّا الحديث رقم (940) فيدل على أن النذر لا يصح، ولا ينعقد في شيء لا يملكه الناذر حين نذره، حتى ولو ملكه بعده، فلا يلزمه الوفاء به، ولا كفارة عليه. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن الطلاق المعلق: قرار رقم (16) وتاريخ 12/ 11/ 1393 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14)، الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين (1/ 4/ 1393 هـ و 17/ 4/ 1393 هـ)، القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة، فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الرابعة، المنعقدة فيما بين 29/ 10/ 1393 هـ و 12/ 11/ 1393 هـ، وفي هذه الدورة

جرى دراسة الموضوع، بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء. وبعد دراسة الموضوع، وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نصٌّ صريحٌ لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، باعتبار الطلاق المعلق طلاقًا عند الحنث، وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال. بعد ذلك: توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلَّق عليه، سواء قصد من علَّق طلاقه على شرطِ الطلاقَ المحض، أو كان قصده الحث، أو المنع، أو تصديق خبر، أو تكذيبه؛ وذلك لأمور، أهمها ما يلي: 1 - ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم، من أن رجلاً طلَّق امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر: إن خَرَجَتْ، فقد بانت منه، وإن لم تخرج، فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلَتْ كذا وكذا، فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها. وما رواه أيضًا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيّما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجْتِ إلى الليل، فخرجت، طلقت امرأته. إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضًا. 2 - لما أجمع عليه أهل العلم، إلاَّ من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل، مع القطع بأنَّه لم يقصد الطلاق؛ وذلك استنادًا إلى حديث أبي هريرة وغيره، مما تلقته الأمة بالقبول، من أنَّ ثلاثًا جدهنَّ جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والعتاق؛ فإن كلاًّ من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذلك الطلاق، وإن لم يقصده؛ فلا وجه للتفريق بينهما، بإيقاعه على الهازل

به، وعدم إيقاعه على الحالف به. 3 - لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور]، ووجه الاستدلال بها أنَّ الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة، والغضب على تقدير الكذب. 4 - أن هذا التعليق، وإن قصد به المنع، فالطلاق مقصودٌ به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعًا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع. 5 - أن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلَّق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم. قال تقي الدين السبكي في رسالته "الدرة المضيئة": وقد نقل إجماع الأئمة على ذلك أئمة، لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم؛ فمن ذلك الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وناهيك به، وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضًا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري، وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضًا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه "التمهيد" و"الاستذكار"، وبسط القول فيه على وجه لم يُبْقِ لقائل مقالاً، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب "المقدمات" له، ونقله الإمام الباجي في "المنتقى". إلى أن قال: وأمَّا الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم: فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقرٌّ بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصًّا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أنَّ يمين

الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر، ولا تدخلها الكفارة. اهـ. وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي -رحمه الله- من الإجماع بأنه خاصٌّ فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط. وفي القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: قال إسماعيل ابن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق، وعبدي حر؟ قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. اهـ. وقال أيضًا: وما وجدت أحدًا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور من الصحابة ما بلغ أحمد. فقال المروذي: قال أبوعبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر، فيعتق عليه إذا حنث؛ لأنَّ الطلاق والعتق ليس فيه كفارة. اهـ. أمَّا المشايخ عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان، فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلَّق على شرط -يقصد به الحث، أو المنع، أو تصديق خبر، أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق- يمينًا مكفَّرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء

941 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد ورد من حديث عائشة، وعلي بن أبي طالب، وأبي قتادة. أمَّا حديث عائشة: فرواه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن حبَّان، والحاكم، وأحمد، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ورجاله كلهم ثقات، احتجّ بهم مسلم برواية بعضهم عن بعض. وحديث علي أصح من حديث عائشة، فحديثها طريقه واحد، وأمَّا حديث علي، فله أربع طرق، وهو صحيح. وأمَّا حديث أبي قتادة: فأخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وفي الباب: عن أبي هريرة، وثوبان، وابن عباس، وشدَّاد بن أوس، وغير واحد من الصحابة، لا تخلو أسانيدها من مقال. وذكر له الحافظ ابن حجر طرقًا عديدة بألفاظ متقاربة، ثم قال: وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، وصحَّحه ابن خزيمة والسيوطي، وقال الزيلعي: هو قوي الإسناد. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 100)، أبو داود (4398)، النسائي (6/ 156)، ابن ماجه (2041)، ابن حبان (142)، الحاكم (2/ 59).

* مفردات الحديث: - رُفِعَ: بالبناء للمجهول، يُقال؛ رفع يرفع رفعًا: خلاف خفض. قال في المصباح: الرفع في الأجسام: حقيقة في الحركة والانتقال، وفي المعاني: محمول على ما يقتضيه المقام؛ ومنه قول -صلى الله عليه وسلم-: "رُفع القلم عن ثلاثة"، والقلم لم يوضع على الصغير، وإنَّما معناه: لا تكليف، فلا مؤاخذة. - القلم: بفتحتين، هو ما يكتب به، والمراد هنا: القلم الذي بيد الملائكة الكتبة، والله أعلم بكيفيته. - أو يفيق: من الإفاقة، يقال: أفاق المجنون إفاقة: رجع إليه عقله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأهلية: هي صلاحية الشخص، ومحليته للحقوق المشروعة، تثبت له أو عليه؛ فلابد من اعتبارها في التصرفات. 2 - فإذا فقد الإنسان الأهلية، أصبح بفقدها عادمًا للحرية الاختيارية؛ إما بسبب النوم الذي أفقده الاستيقاظ لأداء واجباته، أو بسبب حداثة السن والصغر الذي هو معها فاقد للأهلية، أو بسبب الجنون الذي اضطربت معه وظائفه العقلية، ففقد التمييز والتصور الصحيحين، فانتفت عنه الأهلية بسبب من هذه الأسباب الثلاثة؛ فإن الله تبارك وتعالى بعدله، وحلمه، وكرمه، قد رفع عنه المؤاخذة، بما يصدر عنه من تعدٍّ، أو تقصير. 3 - قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} [البقرة]؛ فالتصرفات التي تصدر من الإنسان، وهو في حال فاقد الأهلية، وعادم حرية الاختيار، لا يترتب عليها حكم يؤاخذ به المتصرِّف. 4 - من ذلك الطلاق، فطلاق النائم -الذي يهذي في نومه- غير معتبر، ولا نافذ. ومثله المجنون الذي فقد أهليته، فصار يقول ما لا يميزه ولا يتصوره؛ فطلاقه غير نافذ، ولا معتبر.

5 - أمَّا المميِّز من الصبيان، فالتكاليف التي على البالغين أمرًا أو نهيًا، لم يكلَّف بها، وأمَّا الطلاق، فإن الصبي المميز يعلم أن زوجته تبين منه، وتحرم عليه إذا طلقها، فطلاقه معتبر نافذ؛ لأنَّه صدر من عاقل، فوقع طلاقه كطلاق البالغ، فهو ذو أهلية فيه. ***

باب الرجعة

باب الرجعة مقدمة الرجعة: بفتح الراء وكسرها، والفتح أفصح، مصدر رجع. وهي لغة: المرة من الرجوع. وشرعًا: إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه، بغير عقد. وهي ثابتة في الكتاب، والسنَّة، والإجماع: قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]. وقال -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب: "مُرْه فليراجعها". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلَّق دون الثلاثة أن له الرجعة في العدة. والرجعة لا تكون إلاَّ في طلاق رجعيٍّ، وهو الطلاق الذي وقع في نكاع صحيحٍ، ووقع بعد الدخول أو الخلوة، وصار بأقل من الثلاث، وقد خلي من العوض، ولا تزال الزوجة في العدة. فإن اختل من هذه الشروط شيء فلا رجعة؛ لأنه: إما أن تكون بينونة كبرى، وهو الطلاق الذي استكمل عدده. وإما أن تكون بينونة صغرى، وهو الطلاق الذي لم يَخْلُ من واحد فأكثر من بقية الشروط المذكورة. قال ابن القيم: إباحة الزوجة بالرجعة من أعظم النعم، فإن الزوج له أن يفارق زوجته، فإن تاقت نفسه إليها، وجد السبيل إلى ردَّها، فإذا طلَّقها الثالثة، لم يبق له سبيل إلاَّ بعد نكاح زوج ثان نكاح رغبة، والله المستعان.

942 - عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يُرَاجِعُ، وَلاَ يُشْهِدُ؟ فَقَالَ: أَشْهِدْ عَلَى طَلاَقِهَا، وَعَلَى رَجْعَتِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ هكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف بسندٍ صحيح. أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي. قال ابن عبد الهادي: رواته ثقات مخرّج لهم في الصحيح، وصحَّحه الحافظ أيضًا. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2190)، البيهقي (14966).

943 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - في الحديثين إثبات أصل مشروعية إرجاع الزوجة المطلقة إلى عصمة نكاح زوجها بالرجعة المعتبرة. 2 - الرجعة لابد أن تكون في طلاقٍ رجعىَّ، أما الطلاق البائن بينونة كبرى أو صغرى، فلا تصح الرجعة فيه، وتقدم في "المقدمة" بيانه. 3 - أن الرجعة لا يعتبر فيها رضا الزوجة، لعدم ذكرها هنا، ولقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، أي: في العدة. 4 - أن الرجعة حق من حقوق الزوج وحده كالطلاق، فليس للزوجة ولا لغيرها صفة فيه. 5 - استحباب الإشهاد على الطلاق، ليحصل التوثيق، وقد أجمع العلماء على أن الطلاق جائز ونافذ، ولو لم يحصل عليه إشهاد. 6 - مشروعية الإشهاد على الرجعة؛ وقد اختلف العلماء في حكم الإشهاد. فذهب الأئمة الثلاثة: إلى استحبابها وعدم اشتراطها. وذهب الإمام الشافعي: إلى اشتراطها. وهو رواية عن أحمد، ولعل عمران بن حصين ممن يرى تحتم الإشهادة لقوله: "فليشهد الآن، ويستغفر الله". 7 - قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]: ¬

_ (¬1) البخاري (5251)، مسلم (1471).

جمهور العلماء يعطون المطلق الرجعة، ولو لم يرد الإصلاح برجعته، وأما شيخ الإسلام وبعض المحققين فقالوا: لا يمكن من الرجعة إلاَّ لمن أراد إصلاحًا وإمساكًا بمعروف، ومن قال: إن القرآن ملّك الإنسان ما حرَّمه عليه، فقد تناقض. 8 - أما الحديث رقم (943) فيدل على صحة الرجعة بدون إشهاد عليه؛ لأنه مطْلَقٌ، ولا يصح حمله على حديث موقوف. 9 - لكن قوله: "غير سنة" تحتمل إرادة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فإذا أمر بالشهادة على الطلاق، فالرجعة قرينته، والإشهاد أحوط في جميع العقود والفسوخ. ***

باب الإيلاء

باب الإيلاء مقدِّمة الإيلاء: بالمد مصدر آلى يُوْلِي إيلاء، والألِيّة وزن عطية: اليمين، وجمعها ألايا، بوزن خطايا. والإيلاء لغة: الحلف. وشرعًا: حلف زوج قادر على الوطء بالله تعالى أو صفة من صفاته، على ترك وطء زوجته في قُبُلِها، مدةً تزيد على أربعة أشهر. وهو محرَّم؛ لأنه يمين على ترك أمرٍ واجبٍ عليه. وهو ثابتٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. وأمَّا السنَّة: فقد آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نسائه شهرًا، والإيلاء المحرم أكثر من أربعة أشهر. وقد أجمع عليه العلماء في الجملة. وللإيلاء أربعة شروط: أحدها: أن يحلف على ترك الوطء في القُبُل؛ فإن تركه بلا يمين، لم يكن موليًا. الثاني: أن يحلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، فإن حلف بنذرٍ، أو تحريمٍ، أو ظهارٍ، ونحو ذلك فليس بِمُولٍ.

الثالث: أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر، أو يعلقه على شرط يغلب على الظن ألا يوجد في أقل منها، وإلاَّ فليس بمول. الرابع: أن يكون الإيلاء من زوج يمكنه الوطء، فلا يصح من صبي غير مميز، ولا من عاجز عن الوطء بنحو جَبّ. ***

944 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "آلَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- منْ نِسَائِه وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الحَلالَ حَرَامًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث: الصواب فيه أنه مرسل عن الشعبي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الترمذي: "حديث مسلمة بن علقمة عن داود، رواه علي بن مسهر وغيره، عن داود، عن الشعبي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، وليس فيه: عن مسروق، عن عائشة، وهذا أصح من حديث مسلمة بن علقمة". * مفردات الحديث: - آلى من نسائه: آلى يؤلى، والألية اليمين، والجمع ألايا، كعطية وعطايا، وإنما عدي بكلمة "من"، وهو لا يعدى إلاَّ بكلمة "على"؛ لأنه ضمن فيه معنى البعد، ويجوز أن تكون "من" للتعليل. قال العيني: ومعنى إيلائه -صلى الله عليه وسلم- من نسائه: أنه حلف ألاَّ يدخل عليهن شهرًا، وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء، وهو الحلف على ترك جماع امرأته أربعة أشهر أو أكثر. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (1201).

945 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وُقِّفَ المُولِي حَتَى يُطَلِّقَ، وَلاَ يقعُ الطَّلاَقُ حَتَى يُطَلِّقَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وُقِّف: وقَّف وأوقف لغتان، والفصيح: وقَّف بدون ألف، وللتوقيف معانٍ كثيرة، والمراد هنا: منع القاضي المولي عن التمادي في إيلائه؛ فإما أن يطأ، وإما أن يطلق. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - جاء في الصحيحين من حديث عائشة: "أن النبى -صلى الله عليه وسلم- آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين". واختلف العلماء في سبب إيلائه، والذي في صحيح مسلم عن جابر أنه بسبب طلبهن منه النفقة. 2 - والنبي -صلى الله عليه وسلم- أحلم الناس، وأوسعهم خلقًا، وأحسنهم عشرة لأهله؛ ولذا فإنه لم يؤل منهن إلاَّ لتأديبهن، ليكنّ أكمل النساء استقامة وخلقًا، فالصغيرة من الفاضل كبيرة. 3 - إيلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإيلاء المباح؛ لأنه لم يؤل إلاَّ شهرًا. 4 - إذا آلى الرجل من زوجته أربعة أشهر، فعليها أن تصبر هذه المدة، وليس لها مطالبته بالفيئة. فإذا مضت الأربعة الأشهر، فلها عند انقضائها مطالبته بالفيئة، فإن فاء ¬

_ (¬1) البخاري (5291).

بالوطء فذاك، وإن لم يَفِىءْ، أجبره الحاكم بطلب الزوجة على الوطء أو الطلاق. 5 - في الحديث جواز الإيلاء من الزوجتين فأكثر بإيلاء واحد؛ فإنه لم يَرِدْ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كرره على نسائه. 6 - وفيه أن ترك جِماعه وهجره إياها في المضجع المدة المباحة جائز؛ لتأديبها وزجرها. 7 - إذا فاء المولي قبل أربعة أشهر إذا حلفها، فعليه الكفارة؛ عملاً بحديث: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت التي هي خير، وليكفّر عن يمينه"، وأما إذا لم يفىء إلاَّ بعد الأربعة، فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يحنث بيمينه. 8 - وفي الحديث جواز الإيلاء لغرض صحيح؛ لأننا نعلم يقينًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يؤل إلاَّ لغرض صحيح؛ من ذلك تأديب الزوجة وتربيتها؛ فإن الإيلاء من أعظم العقوبات على الزوجة، وكل عاصٍ يؤدَّب بما يردعه. 9 - مدة إيلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا مطلقة، ولكن بينها الحديث الذي في الصحيحين من أنه آلى شهرًا. 10 - وفي جعله الحلال حرامًا ما يعني أن جماع الرجل زوجته حلال، فحرّمه على نفسه بيمينه، وهو تحريم معتبر شرعًا؛ فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]. 11 - قوله: "جعل لليمين كفارة" يعني أن إيلاءه بتحريم زوجته يمين، ولكن الكفارة تجعل هذا اليمين المحرم حلالًا، قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. 12 - الكفارة هي تخيير الحالف المكفِّر بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، قال تعالى: {وَلَكِن

يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. 13 - ويدل حديث (945) على أن مدة الإيلاء المباح هي أربعة أشهر، وأن ما زاد عليها، فغير مأذون فيه، وإنما يجب على المولي أن يفيء أو يطلق. 14 - ويدل أيضًا على أن الطلاق أو انفساخ النكاح، لا يكون بمجرد مضي أربعة أشهر قبل الفيئة، وإنما النكاح باقٍ، ولا يقع الطلاق حتى يطلق الزوج، ولو بإجباره من الحاكم؛ لأن هذا إكراهٌ بحقٍّ. ***

946 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، كُلُّهُمْ يَقِفُونَ المُؤلِي" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الشافعي فقال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار ... فذكره. وبهذا الإسناد أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في مسائل ابنه عنه، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - بضعة عشر: البضعة بكسر الباء، ما بين الثلاث إلى التسع. يقفون: أي: يحدِّدون له مدة الإيلاء المباحة أربعة أشهر. ... ¬

_ (¬1) الشافعي (2/ 42).

947 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ إيلاَءُ الجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَلَيْسَ بِإِيلاَءً" أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الشوكاني في تفسيره: أخرجه سعيد بن منصور، وعَبْد بن حُمَيد، والطبراني، والبيهقي، عن ابن عباس، قال: "كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر"، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - فَوَقَّت الله: من التوقيت، أي: حدَّد الله وقته. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - المؤلي يمهل أربعة أشهر، فلا تطلبه زوجته بالفيئة، وعند انقضاء مدة الأربعة الأشهر، فلها مطالبته بالفيئة، فإذا طالبته، أمره الحاكم بالوطء، فإن امتنع بلا عذرٍ يمنع الوطء، أجبره الحاكم على الطلاق، فإن لم يطلق، طلَّق عليه الحاكم. 2 - إن كان هناك عذرٌ من الوطء في الزوج أو الزوجة، أمره الحاكم أن يفيء بلسانه، بأن يقول: متى قدرت على الوطء، وطئت. 3 - أما الحديث رقم (947) فيدل على سماحة هذه الشريعة وعدالتها، وتهذيبها ¬

_ (¬1) البيهقي (7/ 381).

العادات الجاهلية، إن كانت قابلة للتهذيب، أو إبطالها إن كان مفسدة محضة. 4 - الإيلاء فيه تأديب للنساء العاصيات الناشزات على أزواجهن؛ فأبيح منه بقدر الحاجة وهو أربعة أشهر، أما ما زاد على ذلك، فإنه ظلمٌ وجَوْر، وربَّمَا حمل المرأة على ارتكاب المعصية، إن لم يَحْمِل الزوجين كليهما؛ فألغته الشريعة الإسلامية. 5 - الجاهليون فيهم قسوة وظلم على الضعيف منهم، من امرأة أو بنت؛ فكان من قسوتهم إيلاؤهم السنة والسنتين، يحلفون أن لا يجامعوا المرأة فيها، وهذا ظلمٌ كبيرٌ، وجورٌ عظيمٌ، ربما يجُزُّ إلى المفاسد، ويدعو إلى الفراق والشقاق؛ فأبطله الإسلام، وأبقى منه ما تدعو الحاجة إليه، وهو توقيته بأربعة أشهر؛ قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية [البقرة: 226]. 6 - معنى قوله: "يقفون المؤلي" أي: يحدِّدون له مدة الإيلاء المباحة أربعة أشهر، فإذا مضت، أوقفوه عند هذا الحد، إما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يضار الزوجة بترك الجماع، فمن ضارَّ، ضارَّه الله. 7 - قوله: "فإن كان أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء" مع ما سبق عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آلى من نسائه شهرًا، فمراده: ليس بإيلاء محرَّم. فالإيلاء: هو الحلف على ترك وطء الزوجة، فإنْ كان أقل من أربعة أشهر، فهذا إيلاءٌ مباحٌ، وليس بالإيلاء الَّذي تجري فيه أحكامه: من المطالبة، والترافع إلى الحاكم، وإجبار الزوج على الفيئة أو الطلاق ***

باب الظهار

باب الظِّهار مقدِّمة الظِّهَار: مشتقٌّ من الظَّهْر، سمِّي بذلك؛ لتشبيه الزوج المظاهر زوجته بظهر أمه، وإنما خص الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب من البعير وغيره. والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه إذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي، أراد: ركوبك للنكاح حرام علىَّ، كركوب أمي للنكاح. وهو محرمٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع: قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]. وأمَّا السنَّة: فبحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة، وحديث سلمة بن صخر. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريمه. والقول المنكر والزور من أكبر الكبائر؛ إذ معناه أن الزوجة مثل الأم في التحريم، والله تعالى يقول: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]. ونزل في أحكام الظهار الآيات الأُوَل من سورة المجادلة، وذلك حينما ظَاهَرَ أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة الأنصارية. ***

948 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَجُلاً ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، تُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَتى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ: فَلاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ تَعَالَى بِهِ" رَوَاهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ. وَرَوَاهُ البَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فِيهِ: "كَفِّرْ، وَلاَ تَعُدْ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في التلخيص: رواه أبو داود، والنسائي، ورجاله ثقات، لكن أعلَّه أبو حاتم، والنسائي بالإرسال، قال ابن حزم: رواته ثقات، ولا يضره إرسالُ من أرسله، وفي الباب: عن سلمة بن صخر عند الترمذي، وقال: حسن غريب، وقد صحَّحه الحاكم، وقال المنذري: رجاله ثقات، وقد حسَّنه الحافظ في الفتح، وقال: رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - وقع: يقال: وقع على امرأته يقع وقوعًا: جامعها. - ما أمرك الله: من الكفارة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أن الظهار معناه تحريم وطء الزوجة؛ وذلك بتشبيهها بمن يحرم عليه ¬

_ (¬1) أبو داود (2223)، الترمذي (1199)، النسائي (6/ 167)، ابن ماجه (2065).

وطؤه من محارمه، حتى الذكور منهم، ومن غيرهم. 2 - إذا ظاهر، حَرُم عليه وطء الزوجة المظاهَرِ منها، حتى يكفِّر عن ظهاره، وذلك بإجماع العلماء. 3 - روى أهل السنن، عن ابن عباس؛ أن رجلاً قال: "يارسول الله! إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها قبل أن أكفِّر، فقال: ما حَمَلك على ذلك، رحمك الله؟! لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل" يعني: ما أمرك به من الكفارة المذكورة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، قال الإمام أحمد: هو أنه يريد أن يعود إلى الجماع الذي حرَّمه على نفسه، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] يعني فعليهم تحرير رقبة قبل جماع المرأة المظاهَرِ منها. 4 - في الرواية الأخرى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهذا الرجل المجامع بعد الظهار، وقبل التكفير، قال له: "كفِّر، ولا تعد". 5 - النص ورد في صيغة الظهار أنه تشبيه الزوجة بالأم، والباقي أُلحق به بالقياس، وملاحظة المعنى. 6 - يحرم وطء المرأة المظاهَر منها قبل التكفير، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]. 7 - لو وطىء أثناء التكفير بالإعتاق، أو الإطعام، حرُم ذلك، ولكن لا يقطع وطؤه الكفارتين المذكورتين، فيبني ما قبل الوطء على ما بعده. أما لو وطىء أثناء كفارته بالصيام، فإنه -مع التحريم- ينقطع التتابع، إلاَّ أن يتخلَّله عذر يبيح الفطر، أو ما يجب فطره من الأيام، أو يتخلله شهر رمضان، فإنه لا ينقطع التتابع؛ لأنه فطر لسبب لا يتعلق باختيار المكفِّر.

949 - وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "دَخَلَ رَمَضَانُ، فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ امْرَأتِي، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لِي شَيْءٌ مِنْهَا لَيْلَةً، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: حَرِّرْ رَقَبهًّ، فَقُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إلاَّ رَقَبتَي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إلاَّ مِنَ الصِّيَامِ؟! قالَ: أَطْعِمْ فَرَقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّيْنَ مِسْكِينًا" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إلاَّ النَّسائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الجَارُودِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بغيره. أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وأحمد، وابن خزيمة، وابن الجارود، من طرق عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو ابن عطاء، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر البياضي. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ويعكّر صحته عنعنة محمد بن إسحاق. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، قال البخاري: سليمان لم يسمع من سلمة بن صخر، ولكن الحديث صحيح بطرقه وشاهده. وقد حسَّن الحافظ إسناده في الفتح (9/ 433). ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 37)، أبو داود (2213)، الترمذي (1198)، ابن ماجه (2062)، ابن الجارود (744).

* مفردات الحديث: - أُصيب امرأتي: يُقال: أصاب من المرأة قبلها، وجامعها، وهي من الكناية، أي: قضى حاجته منها. - انكشف لي شيء: ظهر لي شيء من زينتها ما يدعوني إلى جماعها، وقد جاء في رواية أبي داود والترمذي: قال: "رأيت خلخالها فى ضوء القمر". - وَقَع عليها؛ جامع زوجته. - حرِّر رقبة: يُقال: حرره يحرره تحريرًا: خلَّصه من الرق إلى الحرية، والمعنى: أعتِق رقبة وخلِّصها من الرق، يكون كفارة لفعلتك، والمراد إعتاقه كله، ولكن خصت الرقبة؛ لأنها موضع الغلِّ الذي شبّه به الرق. - فَرَقًا: بفتحتين جمعه فرقان، قال في المصباح: الفَرَق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً، أي: ثلاثة آصع بالصاع النبوي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الظهار حرام، وهذا الرجل الذي ظاهر: إما أن يكون لم يبلغه التحريم، أو أنه يرى أن الوطء في رمضان أشد حرمةً من الظهار؛ فحصَّن نفسه بالظهار عن الجماع. 2 - القصد أنه ظاهر ثم جامع، فوقع في ذنبين عظيمين؛ فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليجد عنده حل مشكلته. 3 - الرجل جاء نادمًا تائبًا خائفًاة لذا لم يعنِّفْه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أفتاه بما يكفِّر خطيئته، فأمره بالكفارة عن جماعه في حال ظهاره، وكانت كفارة الظهار مرتبة وجوبًا كما يلي: أولاً: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجدها، أو لم يجد ثمنها. ثانيًا: صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع. ثالثًا: أطعم ستين مسكينًا مدّبُر، أو نصف صاع من غيره.

4 - فهذه مراتب كفارة الوطء في الظهار، والوطء في نهار رمضان، أولها الرقبة، فإن لم يجد: صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، أطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين مدّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غير البر، من أوسط ما تطعمون أهليكم. 5 - وفي الحديث: أن الاجتهاد في المسائل العلمية بلا علم، قد يوقع صاحبه في أخطاء كبيرة، فلا يجتهد طالب العلم حتى يكون عنده آلة الاجتهاد وعُدَّتُهُ؛ من التوسّع في العلوم الشرعية، والعلوم العربية. 6 - البعد عما يثير الغرائز من مناظر مثيرة، أو مجالس ماجنة، أو أمكنة موبوءة بالفساد والمغريات، التي تهيج صاحبها إلى ارتكاب الخطيئة، والوقوع في الفاحشة. 7 - فيه تحصين الشارع المسلمين عن المعاصي بفرض هذه العقوبات التي تمنعهم من الوقوع في المعاصي، وتحصين محارمه بهذا السياج، من الغرامات التي تصونها عن الانتهاك. 8 - وفيه رحمة الله تعالى بعباده المسلمين؛ حيث هيَّأ لهم هذه الكفارات التي تمحو ذنوبهم، وتزيل خطاياهم التي ارتكبوها. 9 - وفيه تشوُّف الشارع إلى عتق الرقاب، وتحرير العبيد؛ فإنه جعل عتق الرقبة كفارة لكثير من الذنوب والمعاصي. 10 - وفيه تشوُّف الشارع الحكيم إلى إطعام الفقراء والمساكين، حينما جعل إطعامهم وكسوتهم كفَّارةً للذنوب، وماحية للآثام. ***

باب اللعان

باب اللعان مقدِّمة اللعان: مشتقٌّ من اللَّعن، وهو الطرد والإبعاد. فسمِّي "اللعان" بهذا الاسم: إما مراعاة للألفاظ، لأنَّ الرجل يلعن نفسه في الخامسة من الشهادات على صدق دعواه، واشتق من دعاء الرجل باللعن، لا من دعاء المرأة بالغضب؛ لتقدم اللعن على الغضب في الآيات. وإما مراعاة للمعنى، وهو الطرد والإبعاد؛ لأنَّ الزوجين يفترقان بعد تمامه فرقة مؤبدة، لا اجتماع بعدها. تعريفه شرعًا: أنه شهادات مؤكَّدات بأيمان من الزوجين، مقرونة بلعن، أو غضب. والأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع: فأمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآيات [النور: 6]. وأمَّا السنة: فمثل حديث الباب، وقد أجمع عليه العلماء في الجملة. حِكمته التشريعية: الأصل أنه من قذف محصنًا بالزنى قذفًا صريحًا، فعليه إقامة البينة، وهي

أربعة شهود، فإن لم يات بهؤلاء الشهود، فعليه حد القذف ثمانون جلدة؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. واستثنى من هذا العموم إذا قذف الرجل زوجته بالزنى، فعليه إقامة البينة "أربعة شهود" على دعواه. فإن لم يكن لديه أربعة شهود، فيدرأ عنه حد القذف: أن يحلف أربع مرات: إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، وفي الخامسة: يلعن نفسه إن كان من الكاذبين؛ وذلك أن الرجل إذا رأى الفاحشة في زوجه، فلا يتمكن من السكوت، كما لو رآه من الأجنبية؛ لأنَّ هذا عارٌ عليه، وفضيحة له، وانتهاك لحرمته. ولا يُقْدِمُ على قذف زوجته إلاَّ من تحقَّق؛ لأنَّه لن يقدم على هذا إلاَّ بدافع من الغيرة الشديدة؛ إذ إنَّ العار واقع عليهما، فيكون هذا مقويًا لصحة دعواه. ***

950 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "سَأَلَ فُلاَنٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأتهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى مِثْل ذلِكَ! فَلَمْ يُجِبهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذلِكَ، أَدَاهُ، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ. فَتَلاَهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ، وَأخْبرَهُ أنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، قَالَ: لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كذلِكَ، قَالَتْ: لاَ، والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدأ بالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللهِ، ثُمَّ ثَنَّى بالمَرْأةِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أرأيت: الهمزة في أوله للاستفهام الإنكاري، والتاء مفتوحة للمخاطب، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى: أخبرني. - فاحشة: مؤنث الفاحش، كل قبيح وشنيع من قولٍ وفعلٍ، والمراد به هنا فاحشة الزنى، سميت فاحشة؛ لبلوغها الغاية في القبح والشناعة. - ابتُلِيت: البلاء المحنة تنزل بالمرء، فمعناه: امتُحِنْت بهذا الأمر. - عذاب الدنيا: حد القذف للرجل، والحبس للمرأة؛ حيث لا تحد بمجرد ¬

_ (¬1) مسلم (1493).

النكول. - عذاب الآخرة: عذاب النار جزاء فعل الفاحشة. - ثَنَّى بالمرأة: جعلها الثانية في ترتيب اللعان، حيثما الأول هو الزوج. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيان حكم اللعان وصفته، وهو أن يقذف الرجل زوجته بالزنى، ولا يقيم البينة، فعليه الحد، إلاَّ أن يشهد على نفسه أربع مرات: إنه لمن الصادقين في دعواه، وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فإن نكلت الزوجة، أقيم عليها عذاب الدنيا، وإن شهدت بالله أربع مرات: إنه لمن الكاذبين في رميها بهذه الفاحشة، وفي الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين -درأت عنها عذاب الدنيا. وقد اختلف العلماء فيما يترتب على نكولها: فمذهب الإمامين مالك والشافعي: أنها تحد، واختاره الشيخ تقي الدين، وابن القيم. قال الشيخ محمد بن إبراهيم: وهو ظاهر الآية. أمَّا المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنها لا تحد بمجرد النكول، وإنما تحبس حتى تقر بالزنى أربع مرات، أو تلاعِن. 2 - إذا تمَّ اللعان بينهما بشروطه، فرق بينهما فراقًا مؤبدًا، لا تحل له، ولو بعد أزواج. 3 - على الحاكم أن يعظ كل واحد من الزوجين عند إرادة اليمين؛ لعله يرجع إن كان كاذبًا، وكذلك بعد تمام اللعان تعرض عليهما التوبة؛ ليتوب فيما بينه وبين الله تعالى. 4 - خالف هذا الباب غيره من أبواب الفقه بمسائل: منها: أنه لابد أن يقرن مع اليمين لفظ "الشهادة"، وفي الخامسة الدعاء

على نفسه باللعنة من الزوج، ومن الزوجة: الدعاء على نفسها في الخامسة بالغضب. ومنها: تكرير الأيمان. ومنها: أن الأصل أن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهنا طلبت الأيمان من المدعي والمنكِر. 5 - البداءة بالرجل في التحليف؛ كما هو ترتيب الآيات. 6 - الزوج لا يرجع بشيء من صَداقه بعد الدخول، ولو كانت الفرقة من لعان. 7 - اللعان خاص بين الزوجين، أمَّا غيرهما فيجري فيه حكم القذف المعروف. 8 - كراهة المسائل التي لم تقع، والبحث عنها، لاسيَّما ما فيه أمارة الفاحشة. 9 - قال العلماء: اختصت المرأة بلفظ "الغضب"؛ لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه، لما فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق مَن ليس مِن الزوج به، وذلك أمرٌ عظيمٌ، يترتَّب عليه مفاسد كثيرة؛ كانتشار المحرمية، وثبوت الولاية على الإناث، واستحقاق الأموال بالتوارث، فلا جرم أنْ خصت بلفظ الغضب، الذي هو أشد من اللعنة. 10 - وفي الحديث استحباب الإعراض عن الأسئلة التي لم تقع، وإنما يتصور وقوعها تصورًا، لاسيَّما إذا كانت في أمور مستكرهة. 11 - وفيه جواز الحلف على المسائل التي يراد تأكيدها، ولو لم يُستحلف المخبر. 12 - وفيه أن الإنسان لا يقذف متهمًا بمجرد الأمارة والعلامة، حتى يتحقق من وقوع الأمر. 13 - وفيه أن التعريض بالمتهم بالفاحشة ليس قذفًا حتى يصرُّحَ بالقذف. 14 - وفيه بيان صفة نزول القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه ينزل عند المناسبات، والوقائع، والأسئلة؛ ليكون ذلك أبلغ في وعيها وفهمها،

وأثبت لها في القلوب. 15 - وفيه بيان أن عذاب الله تعالى بالحدود، أو بالفقر، أو المرض، أو المصائب، مهما بلغت أهون من عذاب الآخرة، فَلْيَتَسَلَّ بهذا المُبْتَلَوْنَ، وليحتسبوا أجرهم عند الله. 16 - أن البينات على ثبوت الدعاوى تكون على حسب القضية، وأن القرائن القوية لها أثرٌ كبيرٌ في إثباتها أو نفيها، فهناك القذف لابد له من شهادة رجال، ولكن لما كان من المستبعد أن الزوج يقذف زوجته، ويلوِّث فراشه، وأنه إن فعل ذلك، فهو قرينة على صدقه، بإثبات ما ادعاه بهذه الشهادات المكرَّرة المؤكَّدة، وهي لا تُقبل في مثل هذه القضية على غير زوجته. 17 - وفيه أن الأحكام الشرعية تجري على ظاهرها، وإلاَّ فإنه من اليقين أن أحد الزوجين كاذب، ولكنه يدرأ عنهما الحد باللعان إذا تم؛ أخذًا بظاهر الحكم الشرعي. ***

951 - وَعنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: "حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كاذِبٌ، لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَالِي؟! فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَانْ كنْتَ كاذِبًا عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حسابكما: يُقال: حاسبه محاسبة وحسابًا: ناقشه الحساب وجازاه، فالحساب: الجزاء. - لا سبيل لك: السبيل: الطريق، والمراد هنا ليس لك عليها حجَّة ولا سلطان. - أبعد لك: بعد يبعد بعدًا، ضد قرب، فالأبعد ضد الأقرب، جمعه أباعد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ أحد الزوجين المتلاعنين صادقٌ، والثاني كاذبٌ؛ إذ لا يمكن الجمع بين صدقه في دعواه، وصدقها في نفيها دعواه. 2 - أنَّ الأحكام الشرعية تبنى على ظاهر الأمر، وهي البيانات الشرعية، ولا يكلف الحاكمُ الشرعيُّ أكثر من هذا. فقد جاء في الصحيحين، من حديث أم سلمة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أنْ يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع منه، فمَن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنَّما ¬

_ (¬1) البخاري (5350)، مسلم (1493).

أقطع له قطعة من نار! ". 3 - قوله للمتلاعنين: "حسابكما على الله" معناه: أنَّ الحكم بالظاهر، لا يعفي الكاذب منكما من العتاب والعقاب يوم القيامة؛ كما في الحديث: "فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا، فإنَّما أقطع له قطعة من نار! ". 4 - قوله: "لا سبيل لك عليها" معناه: أنَّ اللعان إذا تمَّ بشروطه، حصلت بين الزوجين الفرقة المؤبدة، التي لا يُحلها ولو أنْ تنكح زوجًا بعده، وأنَّه بعد تمام اللعان، لا تسلُّط للزوج على زوجته الملاعنة، فلا يملك منها شيئًا. 5 - أنَّ الزوج لا يرجع بشيءٍ من صداقه، فإنْ كان صادقًا، فالصداق استقر بدخوله بها، وبما استحلَّ من فرجها، وإنْ كان كاذبًا عليها، فذلك أبعد له منهاة لافترائه عليها، وبهتانه إيَّاها. 6 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب، وإنَّما يحكم على نحو ما يسمع من الخصوم؛ ففيه دليلٌ على أنَّ الغيب لله وحده، وفيه سعة للقضاة من أمته، من أنَّ وظيفتهم الاجتهاد في الدعوى، وطلب الحق، فإنْ أصابوا فلهم أجران، وإنْ أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ معفوٌّ عنه. ***

952 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا، فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا، فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَبْصِرُوها: بفتح همزة القطع، تأمَّلوها، وتعرَّفوا على ولدها، وتبيَّنوا خلقته. - جاءت به: الضمير المجرور يرجع إلى الولد، الذي كان حَمْلاً عند اللعان. - سَبْطًا: بفتح السين، وسكون الباء الموحدة، مَن شَعْرُهُ مسترسلٌ -وهو غير الجعد- وخِلقته تامَّة؛ كما قال الشاعر: فَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ الْعِظَام كَأَنَّمَا ... عِمَامَتُهُ فَوْقَ الرِّجَالِ لِوَاءُ - أكْحَل: بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وهو الذي كل منابت أجفانه سود، كأن فى عينيه كحلاً. - جَعْدًا: بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، في شعره التواءٌ وتقبُّض. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هلال بن أُميَّة قَذَفَ زوجته بشريك بن سحماء، فأنكرته، فتلاعنا، وهي حامل، فلما تم اللعان قال -صلى الله عليه وسلم-: أبصروا المرأة الملاعنة، وما تضع، فإن جاءت بالمولود أبيض، سَبْط الشعر، فهذه صفة زوجها، وأمَّا إن جاءت به أكحل العينين، جَعْد الشعر، فشبهه للذي رماها به شريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن". ¬

_ (¬1) مسلم (1496)، ولم يروه البخاري.

2 - الحديث يدل على حقيقة انتقال الصفات الخلقية المنتقلة بالعوامل الوراثية، التي تكون سببًا في تشابه الذرية بأبويها، بواسطة عملية التناسل في النبات والحيوان، ومنه الإنسان. 3 - ويدل الحديث على تقديم ظاهر الأحكام الشرعية على القرائن، التي لم يعّول عليها، إلاَّ إذا فقدت أصول الأحكام، التي تبنى عليها القضايا. 4 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن" دليلٌ على أن الأحكام الماضية لا تُنْقَض، ما لم تكن مخالفة لنصٍّ من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. 5 - الأفضل الورع إذا وجد شبهة تخالف الأصل في الحكم، الشرعي؛ ومن هذا: أنَّه اختصم سعد بن أبي وقاص، وعَبْد بن زَمْعة في ولَدٍ وُلِدَ على فراش أبيه، فادَّعاه سعد بن أبي وقَّاص أنه ولد لأخيه عتبة بن أبي وقَّاص، فقضى به النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحب الفراش عبد بن زمعة؛ لأنَّه ولد على فراش أبيه زمعة، وقد جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هو أخوك، يا عبد بن زمعة" من أجل أنه وُلِدَ على فراش أبيه، إلاَّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في الصبي شبهًا قويًّا بعتبة بن أبي وقَّاص، فأمر زوجته سودة بنت زمعة أن تحتجب من هذا الصبي المدعى به. وقد جاء في الصحيحين أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "فما رآها حتى لقي الله تعالى". 6 - فيه اعتبار أخبار القافة، واعتبار إلحاقهم، إلاَّ إذا عارضها أصل؛ فإن القرائن لا تقدم على الأصول الثوابت، ومن ذلك الفراش، فإن الشارع الحكيم جعله أصلًا لصاحبه، ويدًا قوية، يثبُتُ له كل ما ولد عليه، فلا يقدم عليه شبه، أو تصادف فصيلة دم، أو نحو ذلك من القرائن التى لها عدة احتمالات.

953 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ: إنَّهَا مُوجِبَةٌ" رَواهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجه الحديث: الحديث سنده صحيح. أخرجه أبو داود، والنسائي، والبيهقي، والحميدي، عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، وهذا سندٌ صحيحٌ؛ كما قال الألباني. وقال ابن عبد الهادي في المحرر: إسناده لا بأس به. * مفردات الحديث: - فِيه: أصله فَوَه؛ بدليل جمعه على أفواه، وهو: الفم من الإنسان والحيوان، قال في المصباح: وهو من غريب الألفاظ، التي لم يطابق مفردها جمعها، وإذا أُضيف إلى ياء المتكلم قيل: فيّ، وفمي، وإذا أُضيف إلى غيرها، أعرب بالحروف، فهو أحد الأسماء الخمسة التي تُجر بالياء، وتُنصب بالألف، وتُرفع بالواو، وهذا بشرط خلوه من الميم، وأمَّا معها، فيعرب بالحركات. - موجِبَة: أي: مثبتةٌ وملزمةٌ للفراق المؤبد في الدنيا، أو للعذاب الشديد في الآخرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أحد المتلاعنين كاذب، ولكن لا يُعلم أيُّهما هو؟ ¬

_ (¬1) أبو داود (2255)، النسائي (6/ 175).

ولذا يستحب التعريض لهما، وتلقينهما عند الشهادة الخامسة النهائية بأن يرجع الكاذب منهما عن كذبه؛ لئلا يجمع المعصية التي ارتكبها، والكذب فيها الكذب المغلَّظ بالأيمان، وأمام شرع الله تعالى. 2 - لذا حسن للحكم أن يأمر مَن يضع يده على فم الزوج عند اللعن، وعلى فم الزوجة عند الغضب؛ لينجو من عذاب الله تعالى، وأليم عقابه. فيقول واضع اليد: اتق الله؛ فإنَّ كلِمَتَك هذه هي الموجبة للفرقة في الدنيا، والعذاب في الآخرة إن كنت كاذبًا. 3 - وفيه دليلٌ على أن أحكام اللعان بالفرقة المؤبدة، وسقوط الحد، وانتفاء الولد المذكور في اللعان، لا يكون إلاَّ بعد تمام اللعان بينهما. 4 - وفي الحديث أن الشهادة الخامسة لكل من المتلاعنين هي التي بها يتم لعانه، وأنه قبلها له الرجوع، وتكذيب نفسه. 5 - وفيه أن مجلس الحكم حتى في هذه القضايا السريعة يحضرها الناس، لاسيَّما من يحتاجهم الحاكم للكتابة، وحفظ الأمن، وغير ذلك. ****

954 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ المُتَلاَعِنَيْنِ، قَالَ: "فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاَعُنهِمَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا -يَا رَسُولَ اللهِ- إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تَمام التلاعن سبب للفرقة المؤبدة بين الزوجين المتلاعنين، ولا يحتاج بعدها إلى طلاق، ولا إلى فسخ؛ فهذا مقتضى حكم اللعان. 2 - في هذا الحديث أن الرجل الذي لاعن بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال مصدقًا نفسه ومؤكِّدًا قذفه: كذبتُ عليها -يارسول الله- إن أمسكتها، ثم طلَّق ثلاثًا، قبل أن يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك. 3 - قال فقهاؤنا: وتثبت الفرقة بين الزوجين بتمام اللعان بتحريم مؤبد، ولو لم يفرق الحاكم بينهما. وهو مذهب الجمهور، لأنَّ الفرقة تقع بنفس اللعان؛ لما في صحيح مسلم: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين"، وقوله: "لا سبيل لك عليها". 4 - الطلاق الذي يوقعه الزوج الملاعن لاغٍ لا أثر له في ذلك، والرجل إنما أتى به من شدة الغضب، وتأكيدًا لصدق دعواه عليها، وقذفه إياها. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5308)، مسلم (1492).

955 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ؟ قَالَ: غَرِّبْهَا، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والبَزَّارُ، وَرِجَالَهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ، قَالَ: "طَلِّقْهَا، قَالَ: لاَ أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: فأَمْسِكْهَا" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: اختلف في وصله وإرساله، قال النسائي: المرسل أولى بالصواب، وقال في الموصول: لم يثبت. لكن رواه هو وأبو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس نحوه، وإسناده أصح، وأطلق عليه النووي الصحة، ونقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب شيء، وليس له أصل. أمَّا المصنف فقال: رواه أبو داود، والبزَّار، ورجاله ثقات. وصحَّحه ابن حزم في المُحلَّى، وقال المنذري: رجال إسناده محتج بهم في الصحيحين. * مفردات الحديث: - لا تردّ يد لامس: المعنى: أنها ليست من اللاتي ينفرن، ويستوحشن من الرجال الأجانب، لا أنها تأتي الفاحشة؛ فهذا بعيد. ¬

_ (¬1) أبو داود (2049)، النسائي (6/ 67).

- غَرِّبْها: بالغين المعجمة، والرَّاء، وباء موحدة، قال في النهاية: أي: أبعدها بالطلاق. - تَتْبَعَهَا نفسي: تتوق إليها نفسي، فلا أصبر عنها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - شكا رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حال زوجته بأنها سهلة الأخلاق، لا تنفر من الأجانب، ولا تحتشم أمامهم، إلاَّ أنها لا تأتي فاحشة، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بطلاقها وإبعادها، عملاً بالحكمة النبوية: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك". 2 - فكان الرجل يحب زوجته وراضٍ عنها، فخاف أن تتعلَّق بها نفسه، ولا يصبر عنها بعد أن يفارقها، وتفوت الفرصة من بقائها، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بإمساكها، وإبقائها عنده. 3 - فدل هذا على أن الواجب على المرأة هو التصوُّن، والتحفُّظ، والبعد عن الرجال الأجانب، وعدم الاختلاط بهم، والانبساط معهم؛ قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. 4 - كما دلَّ الحديث على أن الواجب على الرجل المحافظة على أهله من زوجة، وبنت، وأخت، وقريبة، وأن يبعدهن عن الرجال، وعن مواطن الشبهة. 5 - كما يدل الحديث على أنه لا يجوز للرجل أن يعاشر امرأة سهلة برزة، تخالط الرجال، وتتحبَّب إليهم، وترغب الجلوس معهم، والحديث إليهم، وإنما عليه نصحها ووعظها، فإن لم تستقم، فالأفضل فراقها. 6 - أمَّا إذا تحقق من وقوع الفاحشة، أو التقصير بالواجبات من الطاعات، كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فيجب عليه فراقها، ولا يحل له إمساكها.

956 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسوْلَ اللهِ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ المُتَلاعِنَيْنِ: "أَيُّ امْرَاةٍ ادْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال ابن حجر: أخرجه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححاه، وصححه الدارقطني في العلل، مع اعترافه بتفرد عبد الله بن يونس به، عن سعيد المقبري. اهـ. وابن يونس وثقه ابن حبان، ومنهم من جعله مجهول الحال؛ ولذا قال ابن حجر في التقريب: مجهول الحال مقبول. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2263)، النسائي (6/ 179)، ابن ماجه (2743)، ابن حبان (1335).

957 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَنْ أقَرَّ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ" أخرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن إلى عمر، وضعَّفه الألباني. قال في التلخيص: الحديث موقوف، رواه البيهقي من رواية مجالد عن الشعبي، عن شريح، عن عمر. ومن طريق وبيصة بن ذؤيب أنه كان يحدِّث عن عمر: أنه قضى في رجل أنكر ولدًا من المرأة، وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها، حتى إذا ولدت أنكره، فأمر به عمر، فجلد ثمانين جلدة؛ لفِرْيته عليها، ثم أَلحق به الولد. وإسناده حسن. * مفردات الحديث: - طَرْفَةَ عين: بفتح الطاء، وسكون الراء، المراد: تحريك الجفن، مبالغةً في تقليل المدة. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الشارع الحكيم له تشوُّف إلى حفظ الأنساب، وإلحاق الفروع بالأصول قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]؛ ولذا جاء في الحديث: "لعن الله من انتسب إلى غير أبيه". 2 - فالويل العظيم، والعقاب الأليم لامرأة خانت، ومكَّنت رجلاً أجنبيًّا من نفسها، فحملت منه، فنسبت هذا الولد إلى زوجها وإلى أسرته، وأصبح ¬

_ (¬1) البيهقي (7/ 411).

كأنه منهم، وهو ليس منهم. 3 - هذه المرأة يلحقها من وعيد الله تعالى أن الله بريء منها، فليست منه في شيء، وأنَّ الله يحرمها جنته. 4 - هذا الولد الدعيّ ليس من الأسرة، ولا من أهل البيت، ومع هذا سيكون له من الحقوق، وعليه من الواجبات ما لأهل هذا البيت زورًا وبهتانًا، سينفق عليه، وسيرث، وسيورث، وسينظر إلى عورات هذا البيت، وسيدخل ذرية منه عليهم، وسيكون هو وذريته لعنة دائمة في البيت وأهله، كل هذا بسبب هذه المرأة الفاجرة الباهتة. 5 - كما يلحق الغضب والعذاب مَن علم أن الولد ولده، ولكنه نفاه وتبرأ منه، فقطع نسب هذا الولد، فأصبح مشرَّدًا، بلا نسب ولا أهل، وأصبح مكروهًا مشوَّهًا، وأصبح مفتضحًا خجلاً أمام الناس. لذا كان الجزاء من جنس العمل؛ فإن الله تعالى يفضحه يوم القيامة على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين، فينادي عليه بجريمته، ويفضحه بسبب كذبه وبهتانه، وتخليه عن الواجبات التي عليه، نحو هذا الولد المشرد. 6 - إذا أقر الإنسان بالولد ولو لحظة وأحدة، ثبت نسبه إليه، ولا يمكنه نفيه أبدًا، قال في الإقناع: وَمِنْ شرط نفي الولد أن ينفيه حال علمه بولادته من غير تأخير، فإن أخَّره بعد هذا، لم يكن له نفيه بعد سكوته عليه؛ لأنَّه رجوع عن إقراره في حق آدمي، والرجوع في مثل هذا لا يقبل، وهذا مطابق لمعنى الحديث رقم (957)، والله أعلم. ***

958 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ؟! قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا ألْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى ذلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "وَهُوَ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الانْتِفَاءِ مِنْهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حُمْر: بضمِّ، فسكونٍ، جمع أحمر. - أَوْرَق: بفتح الهمزة، وسكون الواو، هو الذي فيه سواد، وليس بخالص، وِمنه قيل للحمامة: ورقاء. - نزَعَه عِرْق: نزعه: جذبه إليه، فأصل النزع: الجذب. - عِرْق: بكسر العين، وسكون الراء، آخره قاف، هو الأصل من النسب، شَبَّهه بعرق الشجرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وُلِدَ لرجل من قبيلة فزارة غلامٌ، خالف لونه لون أبيه وأمه، صار في نفس أبيه شكٌّ منه، فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعَرِّضًا بقذف زوجته، وأخبره بأنه وُلد له غلام أسود، ففهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مراده من تعريضه، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يقنعه، ويزيل ¬

_ (¬1) البخاري (5305)، مسلم (1500).

وساوسه، فضرب له مثلًا مما يعرف ويألف؛ فقال: هل لك إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل يكون فيها من أورق، مخالف لألوانها؟ قال: إن فيها لَوُرِقًا. فقال: فمن أين أتاها ذلك اللون المخالف لألوانها؟ قال الرجل: عسى أن يكون جذبه عرق، وأصل من آبائه وأجداده، فقال: فابنك كذلك، عسى أن يكون في آبائك وأجدادك من هو أسود، فجذبه في لونه، فقنع الرجل بهذا القياس المستقيم، وزال ما في نفسه من خواطر. 2 - أن التعريض بالقذف ليس قذفًا، فلا يوجب العدة وبه قال الجمهور؛ كما أنه لا يعد غيبة إذا جاء مستفتيًا، ولم يقصد مجرد العيب والقدح. 3 - أن الولد يلحق بأبويه، ولو خالف لونه لونهما. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المخالفة في اللون بين الأب والابن بالبياض والسواد لا تبيح الانتفاء. 4 - الاحتياط للأنساب، وأن مجرد الاحتمال والظن لا ينفي الولد من أبيه، فإن الولد للفراش، والشارع حريص على إلحاق الأنساب، ووصلها. 5 - فيه ضرب الأمثال، وتشبيه المجهول بالمعلوم؛ ليكون أقرب إلى الفهم، وهذا الحديث من أدلة القياس في الشرع. قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه، وقال ابن العربي: فيه دليلٌ على صحة الاعتبار بالنظير. 6 - فيه حسن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف يخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون؛ فهذا أعرابي يعرف الإبل وضرابها وأنسابها، أزال عنه هذه الخواطر بهذا المثل، الذي يدركه فهمه وعقله، فراح قانعًا مطمئنًّا. فهذا من الحكمة التي قال الله تعالى عنها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125]، فكلٌّ يُخاطَب على قدر فهمه وعلمه.

7 - وفيه أن القرائن معتبرة إذا كان لا يقاومها ما هو أقوى منهاة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتبر تهمته لزوجته بهذه القرينة أن لها محملاً قائمًا. ولكن لما كانت معارضة لأصل، وهو الفراش، ردَّها بقرينة مثلها، وحافظ على أصل النسب. 8 - وفيه إعجاز علمي في السنة المطهرة، فعلم الوراثات، وانتقال الصفات الخَلْقية والخُلُقية من الأُصول إلى الفروع، أصبح حقيقة من حقائق علم الوراثة. ***

باب العدة

باب العِدَّة مقدِّمة العِدَّة: بكسر العين المهملة، وتشديد الدال، مأخوذة من "العَدَد" بفتح الدَّال؛ لأنَّ أزمنة العِدَّة محصورة. وَهِيَ تَرَبُّصُ المرأةِ المحدَّدُ شرعًا عن التزويج بعد فراق زوجها. والأصل فيه الكتاب، والسنَّة، والإجماع: فأمَّا الكتاب: فمثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية [البقرة: 228]، وغيرها. وأمَّا السنة: فكثيرةٌ جدًا، منها: أمره -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس أنْ تعتد في بيت أم شريك، وغيره من الأحاديث في الباب. وأجمع العلماء عليها استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنة. وقد جعل الله تبارك وتعالى هذه العِدَّة تتربَّص فيها المفارقة؛ لحِكَمٍ وأسرار عظيمة، وهذه الحِكم تختلف باختلاف حال المفارقة: فمنها: العلم ببراءة الرحم؛ لئلا يجتمع ماء الواطئَيْن في رحم، وتختلط الأنساب، وفي اختلاطها الشر والفساد. ومنها: تعظيم عقد النكاح، ورفع قدره، وإظهار شرفه. ومنها: تطويل زمن الرجعة للمطلِّق؛ إذ لعلَّه يندم فيكون عنده زمن

يتمكن فيه من الرجعة، وهذه الحكمة ظاهرة في عدة الرجعية، وأشار إليها القرآن الكريم: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} [الطَّلاق]. ومنها: قضاء حق الزوج، وإظهار التأثر لفقده، وهذا في حق المتوفَّى عنها. ولها حِكَم كثيرة لحق الزوج والزوجة، وحق الولد، وحق الله قبل ذلك كله، بامتثال أمره؛ فلمجرَّدِ اتباعِ، أوامره سر عظيم من أسرار شرعه، والله الموفق. ***

959 - عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بلَيَالٍ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: "أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: "وَلاَ أَرَي بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أنَّهُ لاَ يَقْرُبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سُبَيْعَة: بضم السِّين المهملة، فباء موحدة، تصغير سبع، وتاء تأنيث، بنت الحارث الأسلمية. - نُفِسَت: بضم النون، وكسر الفاء، أي: وضعت حملها، فهي نفساء. قال في شرح مسلم: المشهور في اللغة: أنَّ "نَفِست" بفتح النون وكسر الفاء، معناه: حاضت، وأمَّا في الولادة فيقال: "نُفِست" بضم النون. - زوجها: هو سعد بن خولة (نسب إلى أمه) العامري، توفي بمكة عام حجة الوداع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تُوفي سعد بن خولة عن زوجته سبيعة الأسلمية، وهي حامل، فلم تمكث ¬

_ (¬1) البخاري (5320، 5318)، مسلم (1485). (¬2) مسلم (2/ 1122).

طويلاً حتى وضعت حملها. فلما طهرت من نفاسها -وكانت عالمة أنَّها بوضع حملها قد خرجت من عدتها، وحلّت للأزواج- تجمَّلت، فدخل عليها أبو السنابل وهي متجمِّلة، فعرف أنَّها متهيئة للخُطَّاب، فأقسم -على غلبة ظنه- أنَّه لا يحل لها النكاح حتى يمر عليها أربعة أشهر وعشرٌ؛ أخذًا من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، وكانت متيقنة من صحة ما عندها من العلم، والدَّاخل أكَّد الحكم بالقسم. فأتت النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فسألته عن ذلك، فأفتاها بحِلِّها للأزواج حين وضعت الحمل، فإنْ أحبَّت الزواج، فلها ذلك؛ عملاً بقوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. 2 - وجوب العدَّة على المُتوفَّى عنها زوجها. 3 - أنَّ عدة الحامل تنتهي بوضع حملها. 4 - عموم إطلاق الحمل يشمل ما وضع وفيه خَلْق إنسان. 5 - إنَّ عدة المتوفى عنها -غير حامل- أربعة أشهر وعشرة أيام للحرة، وشهران وخمسة أيام للأَمَة. 6 - يباح لها التزوج، ولو لم تطهر من نفاسها، إلاَّ أنَّه لا يباح لزوجها وطؤها إلاَّ بعد طهرها وتطهُّرها؛ لما روت: "فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي ... إلخ" كما رواه ابن شهاب الزهري. 7 - قال شيخ الإسلام: والقرآن ليس فيه إيجاب العدَّة بثلاثة قروء إلاَّ على المطلقات، لا على من فارقها زوجها بغير طلاق، ولا على من وطئت بشبهة، ولا على المزني بها. * توفيق بين آيتين: عموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلاق: 4]

يفيد أنَّ كل معتدة بطلاقٍ أو موتٍ، تنتهي عدتها بوضع حملها. وعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] يفيد أنَّ عدة كل متوفًّى عنها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت حاملًا، أو حائلاً. ولهذا التعارض ذهب بعض العلماء -وهم قلة- إلى أنَّ عدة المتوفَّى عنها أبعد الأجلين، بالأشهر، أو الحمل: فإنْ كان حملها أكثر من أربعة أشهر وعشرٍ، اعتدت به. وإنْ وضعت قبلهن، اعتدت بالأشهر، خروجًا من التعارض. ولكن جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، ذوو المذاهب الخالدة: ذهبوا إلى تخصيص آية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية [البقرة: 234] بحديث سُبَيْعة، فتكون الآية هذه خاصة في غير ذوات الأحمال، وأبقوا الآية الأولى على عمومها، بأنَّ وضع الحمل غاية كل عدة في حياة أو وفاة؛ وبهذا التخصيص تجتمع الأدلة، ويزول الإشكال. ويقصد هذا التخصيص، أنَّ أكبر حِكَم العدَّة، هو العلم ببراءة الرحم، وهو ظاهر بوضع الحمل. * فوائد: الفائدة الأولى: سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن رجل ترك زوجته ست سنين، ولم يترك لها نفقة، ثم بعد ذلك تزوَّجت رجلاً، ودخل بها، ثم حضر الزوج. فأجاب: إنْ كان النكاح الأول فُسِخَ؛ لتعذر النفقة من جهة الزوج، وانقضت عدتها، ثم تزوجت الثاني، فنكاحه صحيح، وإنْ كانت زوجت الثاني قبل فسخ النكاح الأول، فنكاحه باطل.

الفائدة الثانية: اختلف العلماء في جواز نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي منها، فأجمعوا على تحريمه إذا كان نظرها إليه لشهوة، واختلفوا فيما إذا كان نظرها بدون شهوة. فذهب بعضهم: إلى التحريم. وجمهور العلماء: على الإباحة والجواز. ***

960 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُمِرَتْ بَريرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاَثِ حِيَضٍ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه. ابن ماجه، قال: حدَّثنا علي بن محمد، قال: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ... فذكره. قال البوصيري: إسناده صحيح، ورجاله موثقون، وقال ابن عبد الهادي: رواته ثقات. قال الألباني: إسناده صحيح، ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير علي ابن محمد وهو ثقة، ولعل المراد بعلي بن محمد هو الطنافسي. * مفردات الحديث: - أُمِرَتْ: بصيغة المبني للمجهول، أي: أُمِرت من جهة النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بريرة مولاةٌ لعائشة -رضي الله عنها- عَتقَتْ من الرقِّ، وهي تحت زوجها الرقيق مُغيث، فكان لها الخيار بين بقائها معه، وبين أنْ تفسخ نكاحها؛ ففسخت نكاحها. 2 - ففي الحديث أنَّها اعتدت من زوجها بثلاث حِيَض، مع أنَّه فسخٌ، وليس بطلاقٍ، وأنَّه فراقٌ في الحياة، لا في الموت، وأنَّ زوجها الذي اعتدت من فراقه لازال رقيقًا. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2077).

3 - هذا الحكم هو الموافق لمذهب الإمام أحمد من أنَّ العدَّة تلزم كل امرأة فارقت زوجها من نكاحٍ صحيحٍ، أو فاسدٍ بعد خلوته بها، وعلمه بها، وقدرته على وطئها، ولو مع مانع حسيّ، أو مانع شرعيّ، سواء أكانت الفرقة بطلاقٍ، أو خُلعٍ، أو فسخٍ. 4 - قال ابن القيم: وأمَّا النظر: فإنَّ المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة، وكونها تعتد بحيضة هو مقتضى قواعد الشريعة؛ فإنَّ العدَّة إنَّما جعلت ثلاث حِيَض؛ ليطول زمن الرجعة فيتروى الزوج، وحينئذٍ فإنَّ للمختلعة أنْ تتزوج بعد براءة رحمها كالمَسْبيَةِ، ومثلها الزانية، والموطوءة بشبهة، اختاره الشيخ، وهو الراجح أثرًا وَنظرًا. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ الموطوءة بشبهة، والزانية، ونحوهن، لا تعتد بعدة زواج، بل تستبرأ مثل الإماء بحيضة واحدة؛ لعدم دخولهن في نصوص عدة الزوجات، ولعدم صحة قياس السفاح على النكاح، ولأنَّ للزواج عدة معانٍ في حِكمة العدَّة، بخلاف الموطوءة وطئًا محرمًا، فإنَّه ليس القصد إلاَّ معرفة براءة رحمها، وذلك حاصل بحيضة. 5 - قولها: "أُمِرَت بريرة" له حكم الرفع، فالآمر هو النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. ***

961 - وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في المُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا: "لَيْسَ لَهَا سُكْنَى، وَلاَ نَفَقَةٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المطلقة الرجعية لها النفقة والسُّكنى بإجماع العلماء، لأنَّها لا تزال تعتبر في عِدَاد الزوجات، يلحقها طلاقه، وظهاره، وإيلاؤه، أشبه ما قبل الطَّلاق، فهي لا تزال زوجة؛ بدليل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. فهذا في حق الرجعية، فقد أمر زوجها أنْ لا يخرجها من بيته، ونهاها هي أنْ تخرج بنفسها؛ فإنَّ بقاءها في بيت الزوجية أصون لها، وأحفظ لحق الزوج، ويستمر هذا النهي عن الخروج حتى تمام العدَّة، {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} من أقوالٍ وأفعالٍ فاحشةٍ يتضرر بها أهل البيت؛ ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها؛ لأنَّها تسببت في ذلك لنفسها. 2 - أمَّا البائن بفسخٍ أو طلاقٍ ثلاثًا، أو بطلاقٍ على عوضٍ، فلا نفقة ولا سكنى لها؛ لما في الصحيحين أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة بنت قيس -وكان زوجها طلَّقها ألبتة-: "لا نفقة لكِ، ولا سكنى". قال ابن القيم: البائن لا نفقة لها، ولا سكنى؛ بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) مسلم (1480).

الصحيحة، بل موافقة لكتاب الله، وهو مقتضى القياس، ومذهب فقهاء الحديث. أمَّا الإمامان، مالك والشافعي: فيريان لها السكنى، دون النفقة. 3 - هذا الخلاف إنَّما هو في المبتوتة غير الحامل، فأمَّا الحامل والرجعية فلهما النفقة والسكنى بإجماع العلماء. وسيأتي قريبًا بأوضح من هذا إنْ شاء الله تعالى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل للبائن نفقة وسكنى زمن العدَّة، أم لا؟ فذهب الإمام أحمد: إلى أنَّه ليس لها نفقة، ولا سكنى؛ وهو قول علي، وابن عباس، وجابر، وبه قال عطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وإسحاق، وأبو ثور، وداود؛ مستدلين بحديث الباب. وذهب الحنفية: إلى أنَّ لها النفقة والسكنى، وهو مرويٌّ عن عمر، وابن مسعود، وبه قال ابن أبي ليلى، وسفيان الثوري؛ مستدلين بما روي عن عمر: "لا ندع كتاب ربّنا لقول امرأة". وذهب مالك، والشافعي: إلى أنَّ لها السُّكنى دون النفقة؛ وهو مذهب عائشة، وفقهاء المدينة السبعة، ورواية عن أحمد؛ مستدلين بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطَّلاق: 6]. والصحيح هو القول الأول؛ لقوة الدليل، وعدم المعارض. فأمَّا القول الثاني فيجاب عنه بأنَّ هذه الكلمة التي استدلوا بها لم تثبت عن عمر -رضي الله عنه-، فقد سُئل الإمام أحمد: أيصح هذا عن عمر؟ قال: لا. وعلى فرض صحتها: فصريح كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدَّم على اجتهاد كل أحدٍ. وأمَّا أصحاب القول الثالث: فلا يستقيم لهم الاستدلال بالآية؛ لأنَّها جاءت في حكم الرجعية، لا في حكم البائن.

ويوضح ذلك: قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} [الطَّلاق: 1]، وإحداث الأمر معناه تغيّره نحو الزوجة، ورغبته فيها في زمن العدَّة، وهو ممنوع شرعًا في البائن. ***

962 - وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ اشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلاَّ ثَوْبَ عَصْب، وَلاَ تَكْتَحِلُ، وَلاَ تَمَسُّ طِيبًا، إلاَّ إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ، أَوْ أَظْفَارٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. ولأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: "وَلاَ تَخْتَضِبُ". وَللنَّسَائِيِّ: "وَلاَ تَمْتَشِطُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادتا أبي داود والنسائي مرفوعتان صحيحتان؛ فرواتهما ثقات. * مفردات الحديث: - لا تُحِدّ: بضم التاء، وكسر الحاء، من الثلاثي المزيد، ويجوز ضم الدال على أنَّ "لا" نافية، ويجوز جزمها على أنَّها ناهية؛ من أحدت المرأة، أي: دخلت في الإحداد، بكسر الهمزة، فهي محدة: إذا حزنت، ولبست ثياب الحزن على زوجها، وتركت الزينة، وكذلك: حدت المرأة من الثلاثي، فهي حادة؛ فالفعل من الثلاثي من باب نَصَرَ، ومن الرباعي من باب أَكْرَمَ. - إلاَّ على زوجٍ: الاستثناء هنا متصلٌ، إذا جعل "أربعة أشهر" منصوبًا بمقدر بيانًا لقوله: "فوق ثلاث" أي: أعني، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، والتقدير: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، لكن تحد على زوجٍ أربعة أشهر. ¬

_ (¬1) البخاري (313)، مسلم (2/ 1127)، أبو داود (2302)، النسائي (6/ 203).

- مصبوغًا: صبغ الشيء هو تلوينه، والمراد هنا: صبغه وتلوينه بالعصفر، وكذلك الألوان الحسنة التي تتخذ للزينة. - عَصْب: بفتح العين المهملة، وسكون الصاد، فباء موحَّدة، بالتنوين، والعصب: الفتل، قال في النهاية: هي بُرود يمانية يعصب غزلها، أي: يجمع ويشد، ثم يصبغ وينسج، فيأتي مَوْشِيًّا ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. - نُبْذَة: بضم النون، وسكون الباء الموحدة، فذال معجمة، أي: قطعة من الشيء، جمعها: أنباذ، وتطلق على الشيء اليسير. - قُسْط: بضم القاف، وسكون السين المهملة، قال في النهاية: هو ضرب من الطيب، طيِّب الرائحة، تبخّر به النفساء والأطفال. - أظفار: بفتح الهمزة، وسكون الظاء المعجمة، ثم فاء، بعدها ألف، آخره راء مهملة، لا واحد له من لفظه، القطعة منه شبيهة بالظفر، وهو نوع من الطيب يُتبخر به، ينسب إلى ظِفَار، إحدى مدى عدن الساحلية. - تخْتَضب: اختضبت المرأة: غيَّرت ما تريد تغييره من بدنها بالحِنَّاء، أو غيره من أنواع الخضاب. - تَمْتَشِط: مشطت المرأة شعرها: رجَّلته وسرَّحته بالمشط. ***

963 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: "جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا بَعْدَ أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ يَشُبُّ الوَجْهَ، فَلاَ تَجْعَلِيهِ إلاَّ بِاللَّيْلِ، وَانْزِعِيهِ بالنَّهَارِ، وَلاَ تَمْتَشِطِي بالطِّيبِ، وَلاَ بالحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث إسناده حسن. قال في التلخيص: رواه الشافعي، عن مالك، ورواه أبو داود، والنسائي، وأعلَّه عبد الحق والمنذري بجهالة أحد رواة سنده، وهو المغيرة بن الضَّحَّاك. أمَّا المؤلف هنا في بلوغ المرام، فقال: إسناده حسن. * مفردات الحديث: - الصَّبِر: بفتح الصَّاد المهملة، وكسر الباء، آخره راء مهملة، هو عصارة شجر من، يجعل على أطراف العينين للتداوي. - يشب الوجهَ: بفتح حرف المضارعة، بعدها شين معجمة، من باب ضرب ونصر، أي: أنَّ الصَّبِر يُحسِّنُه ويجعله جميلاً مُشرقًا، كوجه الشَّاب. - السِّدْر: بكسر السِّين المهملة، وسكون الدَّال، آخره راء، شجرة النَّبَق، واحدته سدرة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2305)، النسائي (6/ 204).

964 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ ابْنتَي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْتَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؛ قَالَ: لاَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شتكت عينها: يجوز الرفع على أنَّها فاعل، والنصب على أنَّها مفعول، وعلى الثاني ضمير الفاعل يرجع إلى البنت. - أفتكحُلها: من باب نصر وفتح، كحل العين كحلاً: جعل فيها الكحل، والكحل: كل ما وضع في العين يشتفى به مما ليس بسائل، كالإثمد ونحوه. - لا: في إحدى روايات الصحيحين أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كرر "لا" مرتين أو ثلاثًا. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - جواز الإحداد على الميت -غير الزوج- ثلاثة أيام فأقل، وذلك إعطاء للنفس حظها من الترويح، وإبداء التأثر، وقيامًا بحقِّ القرابة، وتحريمه أكثر من ثلاث؛ للخبر الصحيح. 2 - وجوب الإحداد على الزوج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أمَّا الحامل: فتعتد وتحدُّ مدة الحمل، قصرت أو طالت، قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلاق: 4]. 3 - والإحداد -كما تقدم- هو لزوم البيت الذي توفِّي زوجها فيه وهي تسكنه، وترك كل ما يدعو إلى نكاحها من الزينة في ثيابها وبدنها، فتجتنب ثياب الشهرة والزينة، كما تجتنب الزينة في البدن من الطيب، والحناء، والكحل، ¬

_ (¬1) البخاري (5336)، مسلم (1488).

صباغ، والمساحيق، والمعاجين، التي جرت عادة النساء أَن يلمِّعن بها وجوههن، وتبقى في لزوم البيت، واجتناب الزينة حتى تنهي مدة العدَّة، إمَّا بانقضاء المدة، وإمَّا بوضع الحمل. 4 - يجوز من الطيب قطعة من الطيب تضعه على مكان مخرج الحيض، إذا انقطع دم الحيض وطهرت؛ لتزيل به الرائحة الكريهة المترتِّبة على خروج الدم تلك المدة. 5 - في الحديث عظم حق الزوج على زوجته؛ حيث حرَّم عليها الشرع هذه الأشياء المباحة تلك المدة كلها، قيامًا بحقّه، وصيانة لفراشه، وإظهارًا للحزن والأسى عليه. 6 - إنَّ المحدَّة ليست ممنوعة من التنظيف في بدنها وثيابها؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أذِن لأم سلمة وهي محدَّة بالتنظيف بالسدر؛ فالممنوع هو الزينة، لا النظافة. 7 - ليست المحدَّة ممنوعة من مخاطبة الرجال الأجانب عند الحاجة إلى ذلك؛ فإنَّ الشارع لم ينه عنه، وما لم ينه عنه، فالأصل بقاؤه على العفو والإباحة. 8 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن للمحدة في الكحل، إلاَّ لأنَّه زينة في العينين، لا لأنَّه علاج، فهو مباح لها أنْ تعالج سائر بدنها عند الحاجة. * فوائد الأولى: قال ابن القيم: الإحداد من محاسن هذه الشريعة، وحكمتها، ورعايتها للمصالح على أكمل وجه؛ فإنَّ الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت، التي لابد أنْ تُحْدِث للمصاب من الجزع، والألم، والحزن، ما هو مقتضى الطباع، فسمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك، وما زاد فمفسدته راجحة، فمنع منه. وأمَّا الإحداد على الزوج: فإنَّه تابع للعدة بالشهور أو بوضع الحمل، وهو من مقتضيات العدَّة ومكملاتها. فالمرأة إنَّما تحتاج إلى التزين إلى زوجها،

فإذا مات، وهي لم تَصلْ إلى آخر، فاقتضى تمام حق الأول أنْ تُمْنَع مما تصنعه النساء لأزواجهن، مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة. الثانية: قال الشيخ تقي الدين: تلزم المحدَّة منزلها، فلا تخرج بالنهار إلاَّ لحاجة، ولا بالليل إلاَّ لضرورة. ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدَّة، مثل كلام مَن تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت متسترة، وهذا هو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن، وإنْ كانت خرجت لغير حاجة، أو باتت في غير منزلها لغير حاجة، أو تركت الإحداد، فتستغفر الله وتتوب إليه، ولا إعادة عليها، وإنْ كان بقي منها شيءٌ، فلتتمه في بيتها. ولها أنْ تجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدَّة. الثالثة: قال الشيخ عبد الله بن محمد: الذي يظهر من كلام أهل العلم: أنَّ كلام المحدة مع الصديق والقريب وغيرهما إنْ كانت ممنوعة منه قبل الإحداد، فهو في الإحداد أشدُّ منعًا، وما كان مباحًا لها فهو فيه مباح أيضًا. الرابعة: أنَّ الزوج الذي بقي وفيًّا معاشرًا لزوجته، ولم يفرِّق بينهما إلاَّ الموت، له حق أكبر من حق غيره؛ كما أنَّه الآن أصبح في حالٍ لا يستطيع صيانة فراشه، ولا حفظ نسب أولاده؛ فصارت عناية الله تعالى بحقه نحو صون زوجته، ما دامت في عدته أعظم. الخامسة: أجمع العلماء على وجوب إحداد المرأة على زوجها، وإنْ اختلفوا في تفصيله وبعض أحكامه: فالجمهور: على استواء المدخول بها وغيرها، وعلى الصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، وعلى الحرة والأمة، والمسلمة والكتابية؛ هذا هو مذهب الجمهور. وعند أبي حنيفة: لا تجب على الكتابية، ولا على الصغيرة، ولا على الأمة.

965 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: بلْ جُدِّي نَخْلَك، فَإِنَّكَ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جُدّي: بضم الجيم، أي: اخرجي إلى نخلك، فجُدِّيه. - أَنْ تَجُدَّ نَخْلها: جد يجد -من باب قتل- جدًّا، بمعنى: قطع، وأجد النخلُ: حان جداده، والجداد بالفتح والكسر: صرام النخل بقطع ثمرتها، والمراد: أنَّ هذه المرأة تريد أنْ تصرم نخلها وتقطعه. - فَزَجَرَهَا: انتهرها، ومنعها. - فإنَّك عسى: تعليل للخروج. - أو تفعلي: للتنويع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ المطلقة في عدتها ليست كالمتوفَّى عنها في عدة الوفاة، فلها الخروج متى شاءت، مع أنَّ الأفضل على وجه العموم: أنَّ بقاء المرأة في بيتها أفضل لها وأصون؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بيوتهن خير لهن"، هذا في حق العبادة، والصلاة مع المسلمين، وسماع الخير؛ فكيف مع غير ذلك؛! 2 - قال ابن القيم: إنْ قال معترض: كيف فرقت الشريعة بين الموت والطَّلاق مع استواء حال الرحم فيهما؟ ¬

_ (¬1) مسلم (1483).

والجواب: أنَّ هذا إنَّما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شُرِعَتِ العدَّة؛ فإنَّ العدَّة شرِعت لعدة حِكَم: منها: العلم ببراءة الرحم. ومنها: تعظيم خطر هذا العقد. ومنها: تطويل زمن إمكان الرجعة للمطلِّق؛ إذ لعله يندم. ومنها: الاحتياط لحق الزوج، ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه. ففي العدَّة أربعة حقوق: حق الله، وحق الزوج، وحق الزوجة، وحق الولد. 3 - فحوى الحديث أنَّ المحدة لا تخرج من منزلها مدة العدَّة والإحداد؛ فهذا ما فهمه الصحابة من أحكام ربّهم، وهذا ما دعا قريب المطلَّقة إلى زجرها عن الخروج. 4 - جواز خروج المطلَّقة عند الحاجة، ومن الحاجة استحصال غلة عقارها؛ من جد ثمار، وحصد زروع، أو قبض أجور، ونحو ذلك. 5 - أنَّه يستحب لمن عنده تمر يجده، أو يجنيه، أو زرع يحصده: أنْ يتصدَّق بجزء منه، ويُحْسِن إلى المحتاجين، وذلك من غير الزكاة، فهو من المعروف والإحسان، والأنفس متشوِّفة إليه، والفقراء متطلِّعون إليه؛ فحرمانهم منه يحز في نفوسهم، ويثبت الحقد والعداوة فيهم على الأغنياء. 6 - استحباب سؤال أهل العلم عن حقائق العلم التي يتسرع العوام إلى إفتاء الناس فيها بلا مستند شرعي. ***

966 - وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ، وَلاَ نَفَقَةً، فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا كنْتُ فِي الحُجْرَةِ، نَادَانِي، فَقَالَ: امْكُثي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذلِكَ عُثْمَانُ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، والذُّهْلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه مالك، ورواه عنه أبو داود، والترمذي، والذهلي، وصححاه، والدارمي، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، وصححه ابن القطان، كلهم عن مالك، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أنَّ الفريعة بنت مالك بن سنان أخبرتها ... الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن عبد الهادي: وتكلم فيه ابن حزم بلا حجة. وقال ابن عبد البر: إنَّه حديث مشهور. وتبع الألباني ابن حزم في تضعيف الحديث، لجهالة زينب، وهي ثقة، ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 370)، أبو داود (2300)، الترمذي (1204)، النسائي (6/ 199)، ابن ماجه (2031)، ابن حبان (1331)، الحاكم (2/ 208).

بل منهم من ذكر أنَّها صحابية، ينظر "الكاشف" للذهبي مع حاشية سبط ابن العجمي. *مفردات الحديث: - أَعْبدُ: جمع قلة للعبد، وهم المماليك. - الحُجْرة: بضم الحاء، البيت، والجمع: حجر وحجرات، مثل اغُرَف وغرفات. - امكثي: أقيمي في بيتك. - حتَّى يبلغ الكتاب أجَلَهُ، أي: حتى تنقضي عدة الوفاة، والإحداد. ***

967 - وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاَثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَنْ يُقْتَحَم علي: بالبناء للمجهول، يقال: قحم في الدار يقحم قحومًا. رمى بنفسه فيها فجأة بلا ترَوٍّ وشعور. - فتحوَّلت: فانتقلت من البيت الذي تخاف من الإقامة فيه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - في الحديث رقم (966) أنَّ زوجة المتوفَّى يجب عليها أنْ تقضي عدتها وحدادها في البيت الذي توفي زوجها وهي تسكنه، وأنَّه لا يحل لها الانتقال منه حتى يبلغ الكتاب أجله بانقضاء عدتها وحدادها؛ وذلك بوضع الحمل إنْ كانت حاملًا، أو بإتمام أربعة أشهر وعشرة أيام لغير ذات الحمل. 2 - ووجوب بقاء زوجة المتوفَّى في البيت الذي مات وهي تسكنه، هو مذهب جماعة من السلف والخلف. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم. قال ابن عبد البر: وبه قال جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، ومصر، والعراق، وقضى به عمر بمحضر من الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ والدليل حديث فريعة، ولم يطعن فيه أحد، ولا في رواته. ¬

_ (¬1) مسلم (1482).

3 - أجاز العلماء تحول زوجة المتوفَّى من المنزل الذي مات زوجها وهي تسكنه إلى منزلٍ آخر عند الضرورة، كأنْ تخاف على نفسها، أو على مالها، أو لتحويل مالكه لها منه، أو طلبه أجرة أكثر من أجرة مثله، أو لم تجد ما تكتري به، ونحو ذلك من الأعذار؛ فحينئذ يجوز لها الانتقال حيث شاءت. 4 - قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240]. 5 - العدَّة والإحداد الواجبان على المرأة هو ما ذكر في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. أمَّا الآية السابقة -في فقرة (4) - فهي ترشد إلى أفضل وأولى ما ينبغي لأهل الميت أنْ يفعلوه مع زوجة ميتهم؛ وذلك أنَّه تعالى يوصيهم بأنْ يستوصوا بزوجته خيرًا، فيطلبوا منها على وجه الإكرام أنْ تبقى عندهم في المسكن، لا يخرجوها مدة سنة كاملة من وفاته؛ جبرًا لخاطرها، وإكرامًا لها، ووفاءً يحقِّ ميتهم، وصلةً للصهر الذي قال تعالى فيه: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. أمَّا إنْ خرجت بنفسها، واشتهت الانتقال بعد أشهر العدَّة والإحداد الواجبين، فليس على أهل الميت حرجٌ، ولا إثمٌ في ذلك. 6 - أمَّا الحديث رقم (967) فيدل على أنَّ المطلقة البائن، لها أنْ تتحول من بيت زوجها الذي أبانها وهي تسكنه، وإنْ كانت لا تزال في عدة الطَّلاق، لاسيَّما مع الخوف على نفسها. 7 - أمَّا حكم سكنى المطلقة على زوجها: فإنْ كانت مطلقة رجعية، فتجب نفقتها وسكناها كالزوجة. وإنْ كانت مبانة بفسخٍ أو طلاقٍ، فليس لها على زوجها، ولا على أهله

شىء. قال ابن القيم: المطلقة البائن لا نفقة لها، ولا سكنى بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة، الموافقة لكتاب الله، وهي مقتضى القياس، ومذهب أهل الحديث. 8 - وحديث الباب جاء لبيان حكم بقاء المطلقة في البيت الذي كانت تسكنه وقت طلاقها من عدمه؛ ليكون مقابل وجوب بقاء المعتدة بالوفاة في البيت الذي مات زوجها وهي تسكنه. 9 - أنَّه لا يجوز للمرأة أنْ تنفرد بمسكن ليس معها فيه أحد، إذا كانت تخاف على نفسها من أهل الفساد؛ فيجب على ولي أمرها أنْ يأمرها بالتحول منه. 10 - الطَّلاق الثلاث الذي ذكرته السائلة -فاطمة بنت قيس- يحتمل أنَّه وقع دفعة واحدة، ويحتمل أنَّه نهاية ما لها في عدة الطلقات، وفحواه يدل على أنَّه أوقعه عليها دفعة واحدة، ولكن لم يسق الحديث لبيان جوازه من عدمه. ***

968 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لاَ تُلبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةُ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشرٌ" رَواهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطنِيُّ بِالانْقِطَاعِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صححه الحاكم، وقال ابن عبد الهادي: رواته ثقات، وما أعلَّ به الدارقطني الحديث فيه نظر؛ فلقد أعلَّه الدارقطني بالانقطاع، لأنَّه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص، ولم يسمع منه. قال ابن المنذر: ضعَّفه أحمد، وقال: لا يصح، فأي سنَّة للنَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا؛! وقال المنذري: في إسناد حديث عمرو "مطربة بن طهمان"، قد ضغَّفه غير واحد، وله علَّة ثالثة هي الاضطراب، لأنَّه روي على ثلاثة وجوه. قال أحمد: حديث منكر. ويشهد لصحته عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ ...} [البقرة: 234]. * مفردات الحديث: - لا تَلْبسوا علينا: يُقال: لبَسَ عليه الأمرَ يَلْبسُهُ لَبْسًا: خلطه، وجعله مشتبهًا بغيره، والمعنى: لا تخلطوا علينا، وتشبهوا عَلينا ما عرفناه من سنة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 203)، أبو داود (2308)، ابن ماجه (2083)، الحاكم (2/ 208)، الدارقطني (3/ 309).

969 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "إنَّمَا الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي قِصَّةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد رواه الإمام الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة ابن الزبير، عن خالته عائشة، رضي الله عنها. * مفردات الحديث: - إنَّما: "إنَّ" حرف توكيد، و"ما" كافة لحقتها، فأفادتا الحصر، فهنا حصرت الأقراء في الأطهار. - الأقراء: جمع قرء، قال في النهاية: هو من الأضداد، يقع على الطهر؛ وإليه ذهب الشافعي، وعلى الحيض؛ وإليه ذهب أبو حنيفة. - الأطْهار: بفتح الهمزة، جمع طهر، وهو ما بين الحيضتين. ... ¬

_ (¬1) مالك (2/ 576).

970 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَهُ (¬1)، وأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَخَالَفُوهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف موقوف. قال المؤلف: رواه الدارقطني موقوفًا على ابن عمر، وصححه موقوفًا، وأخرجه مرفوعًا؛ لكنه من رواية عطية العوفي، وقد ضعَّفه غير واحد من الأئمة، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عائشة، وهو ضعيف؛ لأنَّه من حديث مظاهر بن مسلم، قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يُعرف، وصححه الحاكم، ولكن خالفوه، واتَّفقوا على ضعفه؛ لما عرفته؛ فلا يتم به الاستدلال. * ما يؤخد من الأحاديث: 1 - أم الولد المشار إليها بالحديث رقم (968) هي الأمَة التي حملت من سيِّدها، فولدت ما فيه صورة إنسان، ولو خفية. فهي من حيث الخدمة والاستمتاع كالأمَة، ومن حيث نقل الملك بها كالحُرَّة، فيجوز وطؤها، وخدمتها، وتأجيرها، ولا يجوز بيعها، ولا هبتها، ولا وقفها، ونحو ذلك ممَّا ينقل الملك، أو يسبب نقل الملك؛ كالرهن. ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 38)، ابن ماجه (2079). (¬2) أبو داود (2189)، الترمذي (1182)، ابن ماجه (2080) الحاكم (2/ 205).

2 - إذا مات سيد أم الولد، فحديث الباب يدل على أنَّها تعتد وتحد أربعة أشهر وعشرة أيام؛ كالزوجة الحرة. 3 - أم الولد عتقها مراعى بموت سيدها، فلا تعتق قبله، فإذا مات سبَّب موته عتقها، فهي في عداد الإماء؛ لذا فإنَّه ليس لها عدَّة، وإنَّما تستبرأ بحيضة واحدة، يعلم بها براءة رحمها إنْ كانت تحيض، وإنْ كانت لا تحيض، فاستبراؤها بمضيِّ شهر من وفاته؛ لأنَّها ليست زوجة، ولا في عداد الزوجات؛ وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم، وجماعة من السلف. وقد ذهب إلى ما أفاده الحديث: الأوزاعي، والظاهرية. أمَّا الحنفية: فعدَّة أم الولد عندهم ثلاث حيض؛ وقال به بعض الصحابة. قال ابن رشد: سبب الخلاف: أنَّ أم الولد مسكوت عنها في الكتاب والسنة؛ فهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة. قال شارح الكتاب: وأقرب الأقوال قول أحمد، والشافعي: أنَّها تعتد بحيضة؛ وهو قول ابن عمر، وعروة، والقاسم بن محمد، والشعبي، والزهري، وذلك لأنَّ الأصل براءة الرحم، وعدم حبسها عن الأزواج، واستبراء الرحم يحصل بحيضة. * خلاف العلماء: أمَّا تفسير الأقراء المذكورة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فقد اختلف العلماء في ذلك سلفًا وخلفًا على قولين: أحدهما؛ أنَّ المراد بالأقراء هي الأطهار، قالت عائشة: "إنَّما الأقراء الأطهار". وقال الإمام مالك، عن ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن

يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلاَّ وهو يقول ذلك. وهو مرويٌّ عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم بن محمد، وعروة، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وقتادة، والزهري، وبقية الفقهاء السبعة، وغيرهم؛ وهو مذهب مالك، والشافعي، وداود، وأبي ثور، ورواية عن أحمد. الثاني: أنَّ المراد بالأقراء هي الحيض؛ فلا تنقضي العدَّة حتى تطهر من الحيضة الثالثة؛ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ويروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي. قال القاضي: الصحيح عن أحمد: أنَّ الأقراء الحيض، وإليه ذهب أصحابنا. وأحتج من قال: إنَّها الأطهار، بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وإنَّما الأمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض. كما استدلوا بحديث ابن عمر: "فليراجعها حتى تطهر، ثمَّ تحيض، ثمَّ تطهر"، ووجه الدلالة منه: أنَّه أمره أنْ يطلقها في الطهر الَّذي هو ابتداء العدَّة؛ فدل على أنَّ القرء هو الطهر. أمَّا دليل من يرى أنَّ القرء هو الحيض، فيستدل بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الآية [الطلاق: 4] فقد نقلن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر؛ فيدل على أنَّ الأصل الحيض، ولأنَّ المشهور في لسان الشارع استعمال القرء بمعنى الحيض؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "تدع الصلاة أيَّام قرئها" [رواه أبو داود]، وبما رواه النسائي من حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "إذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا من قرؤك فتطهري، ثمَّ صلي ما بين القرء إلى القرء"، ولأنَّ ظاهر قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وجوب التربص ثلاثة كاملة، ومن جعل القرء الأطهار يكتفي

بطهرين وبعض الثالث؛ فيخالف ظاهر النص. والراجع أنَّ الأقراء هي الحيض، والله أعلم. أمَّا الحديث رقم (970) فيدل على أنَّ نهاية طلاق الأمة طلقتان، وعمومه يفيد أنَّه سواء كان زوجها المطلِّق حرًّا أو عبدًا، وهذا على اعتبار أنَّ العبرة بعدد الطلقات هي المرأة المطلقة؛ وهو مذهب الحنفية، وهو مرويٌّ عن علي، وابن مسعود، والحسن، وابن سيرين، وعكرمة، والزهري، وحماد، والثوري، والدليل حديث الباب. أمَّا من يجعل الطلاق معتبرًا بالزوج المطلِّق: فإنَّ طلاق الأمة طلقتان مطلقًا، سواء أكانت تحت حرٍّ أوعبدٍ؛ وإلى هذا ذهب الأئمَّة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، ويروى عن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وسعيد بن المسيب. ودليل هذا القول: أنَّ الله تعالى خاطب الرجل بالطلاق؛ فكان حكمه معتبرًا به. أمَّا حديث الباب: فهو من رواية مظاهر بن أسلم، قال أبو داود: إنَّه منكر الحديث. وعلى فرض صحته: فإنَّ المراد به إذا كان زوج الأمة رقيقًا، وقد جاء مصرَّحًا به عند الدارقطني من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "طلاق العبد اثنتان؛ فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وقرء الأمة حيضتان"، وهذا نصٌّ في هذه المسألة. أمَّا عدَّة الأمة: فحيضتان إجماعًا؛ روي عن عمر، وابنه، وعلي -رضي الله عنهم-، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة؛ فكان إجماعًا. قال الوزير: أجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة بالأقراء قرءان، واتفقوا على أنَّ عدتها بالأقراء ممن تحيض.

971 - وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ البَزَّارُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: صححه ابن حبان، وحسَّنه البزار. قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، من حديث رويفع بن ثابت، وللحاكم من حديث ابن عباس، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسق ماءك زرع غيرك"، وأصله في النسائي. * مفردات الحديث: - ماءه: هو نطفة المني، والمراد الجماع. - زرع غيره: أي: ولد غيره، بأنْ يجامع الأمة المشتراة إذا كانت حاملاً. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على تحريم وطء الحامل من غير الواطىء، وذلك كالأمة المشتراة إذا كانت حاملًا من غيره، وأنَّه منافٍ لكمال الإيمان بالله واليوم الآخر، ومثلها: المَسْبِيَّةُ الحامل يحرم وطؤها حتى تضع وتطهر. 2 - وفيه دليلٌ على تحريم العقد على المعتدة من غيره حتى تنقضي عدتها، ¬

_ (¬1) أبو داود (2158)، الترمذي (1131)، ابن حبان (4830).

وعدم صحته؛ لأنَّ العقد وسيلة إلى الوطء، والوسائل لها أحكام المقاصد. 3 - اختلف العلماء في الزانية غير الحامل، هل تجب عليها العدَّة، أو تستبرىء بحيضة واحدة؟: فذهب جمهور العلماء إلى أنَّه لا يجب عليها عدَّة، وإنَّما تستبرىء بحيضة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، ورواية عن أحمد. ويرى مالك: استبراءها بثلاث حيض؛ واستدل هؤلاء بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الولد للفراش"، والدلالة فيه غير واضحة. وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى وجوب العدَّة عليها، وأنَّها كالمطلقة؛ وهو قول الحسن البصري، وابراهيم النخعي، واختاره الشيخ تقي الدين، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي، رحمهم الله. ودليل هذا القول: العمومات الواردة في وجوب العدَّة من الوطء؛ لأنَّ الوطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدَّة منه؛ كوطء الشبهة. 4 - أنَّ الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر من شأنه أنْ يردع المسلم عن الإقدام على المعاصي، فمن أقدم عليها، فإنَّه في تلك الساعة قد تخلَّى عنه إيمانه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". 5 - تشبيه الولد في رحم أمه بالزرع بالحديث، هو مشابه لقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]؛ وذلك بجامع الاختصاص به، والانتفاع بثمرته. * فائدة: قال الدكتور محمد بن علي البار في كتابه "خلق الإنسان بين الطب والقرآن": تفرز المرأة كل شهر بيضة واحدة، وتبقى منتظرة رفيقها الحيوان المنوي، فإذا جاءها موعد القدر، ولقح الحيوان المنوي في البيضة، فاتحدت النطفتان، ثم قفلت بابها، فلا يدخل حيوان آخر، وهاتان النطفتان المتحدتان

تسمى: "نطفة الأمشاج". فالتصقت بجدار الرحم، وانضم الرحم عليها أشد انضمام، وقفلت الباب، فلا يمكن أن يدخل حيوان آخر. وصار الجنين يتغذى بواسطة الحبل السري، المتصل بسرة الجنين من طرف، ومن طرف آخر يتغذى بواسطة المشيمة؛ فيأخذ خلاصة الغذاء من أمه. قال الطبيب البار: إذا لقح حيوان منوي بيضته صَنَعَتْ حولها جدارًا مقفلاً، لا يستطيع أنْ يخترقه أي حيوان آخر، لا من هذا الوطء، ولا من وطء بعده، ولا من هذا الرجل، ولا من رجل آخر، فلو دخل البيضة حيوانان اثنان، فيعناه موت اللقيحة، وقذفها خارج الرحم. وأمَّا التوأمان فهما نوعان: أحدهما: يحدث من حيوانٍ واحدٍ وبيضتين، فإذا تكونت اللقيحة، وانقسمت، وانفصلت، وتكوَّن منها توأم متشابهة تمام التشابه. النوع الثاني: توأم غير متشابهة، فهذا يلقح حيوانان منويان بيضتين، كل واحدٍ منهما يلقح بيضة، وهما بذلك يشبهان الإخوة من أب وأم. اهـ. قلت: أمَّا القول بأنَّ الرحم ينقفل بعد التلقيح، فغير صحيح، ففتحة الرحم تبقى كما هي، ويمكن وصول المني إلى الرحم، وإلى قناة فالوب ... ولعلَّ هذا -والله أعلم- سَقْيُ الإنسان زرع غيره. ***

972 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي امْرَأَةِ المَفْقوْدِ: "تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: موقوف صحيح. قال في التلخيص: رواه الشافعي، عن مالك، عن يحي بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، ورواه عبد الرزاق (7/ 88)، عن ابن جريج، عن يحيى به، ورواه أبو عبيد، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزُّهري، عن سعيد، عن عمر وعثمان به، وله طرق أخرى، ومتتابعات تقوى بها. قال في التلخيص: ورواه ابن أبي شيبة (3/ 521) من طريق ابن أبي ليلى، عن عمر، وعند الدارقطني، من طريق أبي عثمان، عن عمر، قال ابن حجر: وهذا أفضل طرق هذا الحديث. * مفردات الحديث: - تربص: يقال: ربص يربص ربصًا: انتظر خيرًا أو شرًّا يحل به، وتربصت المطلقة: قعدت عن الزواج إلى حين انقضاء عدتها. - عدتها: العدَّة مصدر من عد يعد، وعددت الشيء: إذا أحصيته، والعدَّة اسم لمدة تتربَّص بها المرأة عن الزوج بعد وفاته أو فراقه، وذلك إمَّا بالولادة، أو بالأقراء، أو بالأشهر. ¬

_ (¬1) مالك (2/ 575).

973 - وَعَنِ المُغيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "امْرَأَةُ المَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا البَيَانُ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: أخرجه الدارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ. وقال في التلخيص: رواه البيهقي بإسنادٍ ضعيفٍ، وضعَّفه أبو حاتم والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان، وغيرهم، والحديث لشدة ضعفه لم يأخذ به المحققون. * مفردات الحديث: - المفقود: يقال: فقده يفقده فقدًا وفقدانًا: إذا غاب عنه وعَدِمَهُ؛ فهو فقيد ومفقود. - البيان: بان الشيء ويبين بيانًا: ظهر واتضح، والمعنى: أنَّها تنتظر حتى يتبين أنَّه حيٌّ أوميِّتٌ؛ فتبني حكمها على ما يتحقق عندها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - إذا فُقِدَ الرجلُ من أهله، ولم يوقف له على أثر، فقسَّمه العلماء إلى قسمين: أحدهما: أنْ يكون غالب غيبته السلامة؛ كالمسافر لتجارة، أو سياحة، أو طلب علم؛ فهذا ينتظر فيه تمام تسعين سنة منذ ولادته؛ لأنَّ الغالب أنَّه لا يعيش بعدها؛ وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو من ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 312).

مفردات مذهبه. ومذهب الأئمة الثلاثة، وصاحبي أبي حنيفة: أنَّه ينتظر به حتى يتحقق موته، أو تمضي مدة لا يعيش مثلها، وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم؛ لأنَّ الأصل حياته: فلا تتزوج امرأته، ولا يقسم ماله. وذهب بعض المحققين: إلى أنَّ المفقود ينتظر به حتى يغلب على الظن أنَّه غير موجود، وأنَّ ذلك لا يحدّ بتسعين سنة، ولا بغيرها؛ لعدم الدليل على التحديد، وأنَّ القاعدة الشرعية أنَّه متى تعذر الوصول إلى اليقين، رجع إلى غلبة الظن. الثاني: أنْ يكون غالب غيبته الهلاك؛ كمن ركب في سفينة فغرقت، فنجا بعض ركَّابها، وفقد آخرون، وكمن بمفازة من الأرض، أو فُقِدَ من بين أهله؛ فمثل هذه الأحوال ينتظر به أربع سنين منذ فُقِدَ. 2 - والحق أنَّه لا دليل على التحديد في القسمين، فهو أمرٌ يختلف باختلاف الأزمنة، وأنواع الاتصالات، ووسائل الإعلام، وأحوال المفقودين، فأحسن الأحوال: هو اجتهاد الحاكم الشرعي، وتقدير الأمور وملابساتها، والله أعلم. 3 - أمَّا أثر عمر: فهو دليلٌ لما ظاهره السلامة. وأمَّا حديث المغيرة: فهو دليل الجمهور، لو كان صحيحًا؛ ولكنه ضعيف. ***

974 - وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَبِيتَنَّ رَجُل عِنْدَ امْرَأَةٍ، إلاَّ أنْ يَكُونَ نَاكحًا، أَوْ ذَا مَحْرَمٍ" رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). 975 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث (974): - لا يبيتن: بات يبيت بيتوتة، والمراد هنا مطلق الإقامة. - ناكحًا: اسم فاعل من نكح ينكح فهو ناكحٌ، والمراد به هنا الزوج، والنكاح لغةً: حقيقة الوطء، ويطلق مجازًا على العقد، من إطلاق المسبَّب على السبب، وكل ما ورد في القرآن من لفظ "النكاح" فالمراد به العقد، إلاَّ قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فالمراد به الوطء. - ذا: بمعنى صاحب، وهي من الأسماء الخمسة، منصوب؛ لأنَّه معطوف على خبر يكون، وأعرب هنا بالحروف؛ لاكتمال شروطها، من أنَّها بمعنى صاحب، وأنَّها مضافة إلى اسم جنس ظاهر. - محرم: على وزن مفعل، بفتح الميم، وسكون الحاء، أي: ذا حرمة، جمعه محارم، وهو من يحرم تزوُّجه بها على التأبيد بنسب، أو سببٍ مباحٍ، كالرضاع، وسيأتي تفصيله في الشرح إنْ شاء الله. ¬

_ (¬1) مسلم (2171). (¬2) البخاري (5233)، مسلم (1341).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وهي هنا المرأة التي ليست بذات محرم للرجل الخالي بها؛ فقد جاء في الحديث الآخر: "ما خلا رجل بامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما". 2 - لا شك في خطورة هذا الأمر؛ ولذا لما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن خلوة الحمو -وهو قريب الزوج من أخ، وابن عمٍّ، ونحوهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحمو الموت"؛ لأنَّه يدخل ويخلو بلا نكير؛ فيقع المحذور. 3 - المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي نفسها؛ لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، الَّذين يرون النيل منها نيلاً من كرامتهم وشرفهم؛ لذا تحتم وجود المحرم عند حضور الأجنبي. 4 - كما أنَّ الرجل -وإنْ كان صالحًا- فهو بخلوته بالمرأة الأجنبية معرَّض للفتنة، وإغواء الشيطان، ووساوس النفس الأمَّارة بالسوء؛ لذا شدّد الشارع الحكيم في هذا المقام، ولم يتساهل فيه. 5 - النَّاس الآن تساهلوا، وأرخوا للنساء العنان مع السائقين والطبَّاخين ونحوهم، وهذا -مع ما فيه من الإثم- ففيه خطورة على العار والعِرْض، والعِرْضُ من أهم الضرورات الخمس، والله المستعان. تعريف الخلوة: قال علماء اللغة: خلا الشيء يخلو خلوة، فهو خالٍ. والخلا: المكان الخالي الَّذي لا شيء به. ويقال: خلا المكان والشيء يخلو خلوًّا: إذا لم يكن به أحد، وخلا الرجل بصاحبه، وإليه، ومعه: إذا اجتمع إليه، وانفرد به، واجتمع معه في خلوة؛ ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14].

هذا تعريف الخلوة عند اللغويين. قال أصحاب الموسوعة الفقهية الكويتية: ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا المصطلح عن معناه اللغوي. * خلاف العلماء: الخلوة بمعنى الانفراد بالغير تكون مباحة إذا كانت بين الرجل والرجل، وبين المرأة والمرأة إذا لم يحدث ما هو محرَّم شرعًا؛ كالخلوة لارتكاب معصية. وكذلك الخلوة مباحة فيما بين الرجل، وإحدى محارمه، أو بين الرجل وزوجته. ومن الخلوة المباحة: انفراد الرجل بالمرأة الأجنبية منه في وجود النَّاس، ومرآهم إليهما، بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، ويسمعون كلامهما غير الكلام المخافت به. فقد جاء في صحيح البخاري، من حديث أنس بن مالك، قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فخلا بها. وجعل لهذا الحديث الإمام البخاري عنوانًا في صحيحه، فقال: "باب ما يجوز أنْ يخلو الرجل بالمرأة عن النَّاس"، ثم قال عقب ذلك: ولا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان بما يخافت به. وقد اتفق العلماء على أنَّ الخلوة بالأجنبية حرام. واختلفوا في حكم خلوة الرجل بالأجنبية مع وجود أكثر من امرأة واحدة أو وجود عدد من الرجال بامرأة: فذكر النووي في المجموع: أَنَّ المشهور من مذهب الشافعي جواز خلوة رجل بنسوة، لا مَحْرَم له فيهن، لعدم المفسدة غالبًا، وإنْ خلا رجلان، أو

رجال بامرأة، فالمشهور تحريمه. وقيل: إنْ كانوا ممن تبعد مواطأتهم على الفاحشة، جاز. وذهب الحنفية: إلى جواز الخلوة بأكثر من امرأة، وذهب الحنابلة: إلى تحريم خلوة الرجل مع عدد من النساء، أو العكس، كأنْ يخلو عدد من الرجال بامرأة. والأجنبية التي تحرم الخلوة بها هي من ليست زوجة، ولا مَحْرَمًا، والمَحْرَمُ مَن يحرم نكاحها على التأبيد، إمَّا بالقرابة، أو بالرضاع، أو بالمصاهرة. والأصل في ذلك: ما جاء في البخاري، من حديث ابن عباس؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلاَّ مع ذي محرمٍ". وممَّا تقدم عرفنا ما يلي: الخلوة قسمان: 1 - خلوة مغلَّظة: وهي اجتماع الرجل مع المرأة الأجنبية منه، في مكان يأمنان فيه من اطلاع الغير عليهما. 2 - خلوة مخفَّفة: وهي اجتماع الرجل بالمرأة الأجنبية منه، أمام النَّاس، بحيث لا تحتجب أشخاصهما عنهم، إلاَّ أنَّه لا يسمع تخافتهما. ومثال ذلك: انفرادهما في سيارة في الشوارع والأسواق، فهذا من الانفراد المريب، وأمثال ذلك كثير. والخلوة -مغلظة أو مخففة- وسيلة إلى الوقوع في المحرَّم، والوسائل لها أحكام المقاصد؛ ولكن الحال تختلف بحسب الأشخاص، والظروف، والملابسات. ***

976 - وَعَنْ أَبِي سعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيضَةً" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أبو داود، والدارمي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، من طريق شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الوداك، عن أبي سعيدٍ الخدري؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ... فذكره، وقد صحَّحه الحاكم وقال: إنَّه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد حسَّنه الحافظ والشوكاني. والحديث له طرقٌ أُخَر تقوِّيه، منها: حديث ابن عباس عند الدارقطني، قال ابن صاعد: رجاله رجال مسلم. قال الألباني: وبالجملة، فالحديث بطرقه صحيح. * مفردات الحديث: - سَبَايَا: يقال: سبى العدوَّ يسبيه سبيًا: أسره، والسبي مصدر، وكذا ما يُسبَى منِ نِساء الكفار وذريتهم. - أوْطاس: تقدم تحديده، وتعريفه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2157)، الحاكم (2/ 195). (¬2) الدارقطني (3/ 257).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - النساء المسبيَّات من الكفار في جهاد المسلمين لهم، يكنَّ رقيقات بمجرد السبي، واستيلاء المسلمين عليهن، فتصبحُ ملك يمين لمن سباها، أو جاءت في قسمه من الغنائم. 2 - إذا ملك أمة بسبي، أو شراء، أو هبة، أو إرث، أو غير ذلك، لم يحل له وطؤها، ولا الاستمتاع بها بقبلة، أو بمباشرة بما دون فرج، أو غير ذلك قبل استبرائها، ولو كان من آلت منه إليه صغيرًا، أو امرأة، أو عِنِّينًا، أو نحو ذلك. 3 - الاستبراء هو العلم ببراءة الرحم بأحد الطرق الآتية: - إنْ كانت الرقيقة حاملًا، فبوضع حملها كله. - وإنْ كانت تحيض، فاستبراؤها بحيضة كاملة. - وإنْ كانت آيسة، أو لم تحض، فبمضيّ شهر واحد من دخولها في ملكه. 4 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نهى في هذا الحديث أنْ توطأ السبية حتى تُعْلَم براءة رحمها، بوضع حملها، وغير ذات الحمل حتى تحيض حيضة؛ فقد جاء في الحديث المتقدم الَّذي رواه بعض أهل السنن، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرىءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يسقيَ ماءه زرعَ غيره"، والجنين الَّذي في بطنها هو زرع غيره، ووطؤه لأم الجنين سقي له. * خلاف العلماء: ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، إلى ما تقدم من أنَّه يحرم وطء مسبية، أو غيرها من ملك اليمين إلاَّ بعد العلم ببراءة رحمها بأحد الطرق الماضية؛ واستدلوا بعموم الأحاديث، واعتبارًا بالعدَّة، حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، والاستبراء هو عدَّة الأمة، فتجب حتى مع العلم ببراءة رحمها.

واحتجوا بآثار الصحابة: فقد قال عمر بمحضر من الصحابة: "لا تباع جارية قد بلغت المحيض، فليتربص بها حتى تحيض، فإنْ كانت لم تحض، فليتربص بها خمسًا وأربعين ليلة". وقد أوجب الله العدَّة على من يئست من المحيض، وعلى من لم تبلغ سن المحيض، وجعلها ثلاثة أشهر، والاستبراء عدَّه الأمة. وذهب الإمام مالك: إلى أنَّه لا يجب الاستبراء في حالة تيقن المالك براءة رحم الأمة؛ فله وطؤها من حين مِلكه لها. وقال: إنَّ المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم، فحيث تيقن ذلك لا يجب، فقد روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر، قال: "إذا كانت الأمة عذراء، لم يستبرئها إنْ شاء". قال المازري من المالكية ما خلاصته: القول الجامع: - أنَّ كل أمة أُمِنَ عليها الحمل، فلا يلزم فيها الاستبراء. - وكل مَن يشك في حملها، فيجب استبراؤها. - وكل مَن غلب على الظن براءة حرمها، لكنه يجوز حصوله فعلى قولين: 1 - وجوب الاستبراء. 2 - سقوطه. * فائدتان: الأولى: قال ابن القيم: قد وردت السنة على استبراء الحامل بوضع الحمل، وعلى استبراء الحائض بحيضة، فكيف سكت عن استبراء الآيسة، والتي لم تحض، ولم يسكت عنهما في العدَّة؟ قيل: لم يسكت عنهما -بحمد الله- بل بيَّنهما بطريق الإيماء والتنبيه؛ فإنَّ الله تعالى جعل علَّه الحرة ثلاثة قروء، ثم جعل عدَّه الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فعُلِمَ أنَّهُ تعالى جعل في مقابلة كل

قرء شهرًا، ولهذا أجرى الله عادته الغالبة في النساء: أنَّ المرأة تحيض كل شهر حيضة، وبيَّنت السنة: أنَّ استبراء الأمة الحائض بحيضة، فيكون الشهر قائمًا مقام الحيضة. الثانية: كل هذه الاحتياطات والصيانة محافظة على الأنساب، وتثبيتًا للأعراق؛ لئلا تختلط المياه، فيضيع النسب، وتفقد الأصول؛ فقد لعن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من انتسب إلى غير أبيه، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]: وقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. ***

977 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَدِيثِهِ (¬1)، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةٍ (¬2)، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (¬3)، وَعَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ أِبي دَاوُدَ (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث ابن مسعود عند النسائي، إسناده صحيح؛ فقد جاء من طريق إسحاق بن إبراهيم، قال: حدَّثنا جرير: عن مغيرة، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النَّبي ... -صلى الله عليه وسلم- الحديث، بسند رجاله ثقات. وأمَّا حديث عثمان عند أبي داود فرجاله -أيضًا- ثقات، والحديث ذكره السيوطي من الأحاديث المتواترة. * مفردات الحديث: - الفِراش: لغة البساط على وجه الأرض؛ ومنه أخذ تسمية الزوجة فراشًا، والمعنى: أنَّ الولد لصاحب الفراش، والفراش: زوجته، أو أمته. - العاهر: عهر الرجل عَهْرًا: أتى المرأة للفجور، فهو عاهر، جمعه عُهَّار، وهي عاهر أو عاهرة، جمعها عواهر وعاهرات؛ فالعاهر الفاجر الزاني. - الحَجَر: بفتح الحاء المهملة، هو كسارة الصخور، أو الصخور الصُّلبه، أي: ¬

_ (¬1) البخاري (6818)، مسلم (1458). (¬2) البخاري (6817)، مسلم (1457). (¬3) النسائي (6/ 181). (¬4) أبو داود (2275).

له الخيبة والحرمان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام هذا الحديث ما جاء في الصحيحين؛ أنَّ سعد بن أبي وقاص، وعَبْد بن زَمْعَة اختصما إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في غلام، فقال سعد: يا رسول الله! هذا ابن أخي عتبة، عَهِد إليَّ أنَّه ابنه، وانظر إلى شَبَهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله! وُلِدَ على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة، فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة! الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة". 2 - قال ابن عبد البر: إنَّ هذا الحديث جاء عن بضع وعشرين نفسًا من الصحابة. 3 - المراد بالفراش هو الزوجة المبني بها، والأمة من حيث الوطء، وسميت فراشَا؛ لأنَّ الزوج أو المولى يفترشها، أو لاعتبار المكان، وهي من تبيت معه في فراشه. 4 - أنَّ الولد للفراش، بشرط إمكان الإلحاق بصاحب الفراش. قال ابن دقيق العيد: والحديث أصل في إلحاق الولد بصاحب الفراش، وإنْ طرأ عليه وطء محرم. 5 - أنَّ الزوجة تكون فراشًا بمجرد عقد النكاح، وأنَّ الأمة فراش، لكن لا تعتبر إلاَّ بوطء السيد؛ فلا يكفي مجرد الملك. والفرق بينهما: أنَّ عقد النكاح مقصود للوطء، أمَّا تملك الأمة، فلمقاصد كثيرة. أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: أشار أحمد أنَّه لا تكون الزوجة فراشَا إلاَّ مع العقد، والدخول المحقَّق، لا الإمكان المشكوك فيه. قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح المجزوم، وإلاَّ فكيف تصير المرأة فراشًا، ولم يدخل بها الزوج، ولم يَبْن عليها؟!

6 - أنَّ الاستلحاق لا يختص بالأب، بل يجوز من الأخ، وغيره من الأقارب. 7 - أنَّ حكم الشَّبَه إنَّما يُعتمد عليه إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منه؛ كالفراش. 8 - قال العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة: أمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- زوجته سودة بالاحتجاب من الغلام على سبيل الاحتياط والورع؛ لمَّا رأى الشبه قويًّا بينه وبين عتبه بن أبي وقاص. 9 - أنَّ حكم الوطء المحرم، كالحلال في حرمة المصاهرة. ووجهه: أنَّ سودة أمرت بالاحتجاب؛ فدل على أنَّ وطء عتبة بالزنى له حكم الوطء بالنكاح؛ وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. وخالفهم المالكية والشافعية: فعندهم لا أثر لوطء الزنى؛ لعدم احترامه. 10 - أنَّ حكم الحاكم لا يغير الأمر في الباطن، فإذا علم المحكوم له أنَّه مبطل، فهو حرام في حقه، ولا يبيحه له حكم الحاكم. قال شيخ الإسلام: ومن وطىء امرأة بما يعتقده نكاحًا، فإنَّه يلحق به النسب، ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء فيما أعلم، وإنْ كان النكاح باطلاً عند الله وعند رسوله، وكذلك وطء اعتقد أنَّه ليس حرامًا، وهو حرام. * فوائد: الأولى: قال ابن حزم في المحلى: ولا يجوز أنْ يكون حملٌ أكثر من تسعة أشهر، ولا أقل من ستة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف] وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، ولما ذكر كلام الفقهاء في أقله وأكثره، والحكايات التي تنقل في هذا، قال: "وكل هذه أخبار مكذوبة، ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا". قلت: وما قاله ابن حزم هو ما يؤيِّدُهُ الطب الحديث.

قال الطبيب محمد علي البار: مدة الحمل الطبيعي (280) يومًا، ولا يزيد عن شهر بعد موعده، وإلاَّ لمات الجنين في بطن أمه، وينبغي أنْ يتنبَّه من يدرسون الفقه على استحالة حدوث هذا الحمل الطويل الممتد سنينًا. الثانية: قال الشيخ محمد بن إبراهيم: يجوز إلقاء النطفة بدواء مباح، فقد قال في الإنصاف: يجوز شرب الدواء، لإلقاء النطفة. قال في الفروع: ظاهر كلام ابن عقيل: أنَّه يجوز إسقاطه قبل أنْ تُنفخ فيه الروح. قال ابن رجب: وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها، ما لم تنفخ فيه الروح، وهو قول ضعيف. اهـ كلام ابن رجب. وكلام الأصحاب صريح في جواز إلقاء النطفة. الثالثة: قال الشيخ تقي الدين: لو شربت المرأة دواء لقطع الحيض، أو لطول فترة الطهر، كان طهرًا. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: يجوز أخذ حبوب الحمل لتنظيم فترات الحمل؛ لظروف عائلية أو صحية، وأمَّا إنْ كان القصد قطع الحمل بالكلية، فهذا لا يجوز. * قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع إسقاط الجنين المشوّه خِلقيًّا: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه. أمَّا بعد: فإنَّ مجلس المجمَّع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 15 رجب 1410هـ، الموافق 10 فبراير 1990 م، إلى يوم السبت 22 رجب 1410 هـ،

الموافق 17 فبراير 1990 م، قد نظر في هذا الموضوع، وبعد مناقشته من قِبَل هيئة المجلس الموقَّر، ومن قِبَل أصحاب السعادة الأطباء المختصين، الَّذين حضروا لهذا الغرض، قرر بالأَكثرية ما يلي: 1 - إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنَّه مشوَّه الخلقة، إلاَّ إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين: أنَّ بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم؛ فعندئذ يجوز إسقاطه، سواءٌ أكان مشوهًا أم لا؛ دفعًا لأعظم الضررين. 2 - قبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية: أنَّ الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا غير قابل للعلاج، وأنَّه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه، وعلى أهله؛ فعندئذِ يجوز إسقاطه بناء على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر، والله ولي التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ... انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس (وأوله باب الرضاع)

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء الخامس مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعَة الخامِسَة مُصَحَّحَه وَمحَقّقَة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة 1423 هـ - 2003م مكتبة الأسدي مَكّة المكرَّمة- العَزيزيّة- مَدخَل جَامِعَة أم القُرَى هَاتف: 5570506 - فاكس: 5575241 صَ. بَ: 2083

باب الرضاع

باب الرضاع مقدمة الرِّضاع: بفتح الراء وكسرها، مصدر: رضع الثدي؛ إذا مصَّه. وتعريفه شرعًا: مص لبن ثاب عن حملٍ، أو شربه. وحكم الرضاع ثابتٌ: بالكتاب، والسنة، والإجماع، ونصوصه مشهورة. ففي الكتاب العزيز: قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وفي السنَّة: ما جاء في الصحيحين، من حديث ابن عباس، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَحْرُم من الرَّضاع ما يحرم من النَّسب". وأجمع العلماء على أثره في تحريم التناكح والمحرمية، وجواز النظر والخلوة، لا وجوب النفقة، والتوارث، وولاية النكاح. وحكمة هذه المحرمية والصلة ظاهرة؛ فإنَّه حين تغذى الرضيع بلبن هذه المرأة، نبت لحمه عليه؛ فكان كالنسب له منها. ولذا كره العلماء استرضاع الكافرة، والفاسقة، وسيئة الخلق، أو من بها مرض مُعْدٍ، لأنَّه يسري إلى الولد. واستحبوا أنْ يختار المرضعة الحسنة الخَلْقِ والخُلُق؛ فإنَ الرِّضاع يغيِّر الطباع.

والأحسن ألاَّ ترضعه إلاَّ أمه؛ لأنَّه أنفع وأَمْرَأُ، وأحسن عاقبة من اختلاط المحارم، التي ربما توقع في مشكلات زوجية. وقد حثَّ الأطباء على لبن الأم، لاسيَّما في الشهور الأُوَل. وقد ظهرت لنا حكمة الله الكونية، حين جعل غذاء الطفل من لبن أمه بالتجارب، وبتقارير الأطباء ونصائحهم. قال الدكتور الطبيب محمد بن علي البار: "وللرضاع فوائد عظيمة"، وَمن فوائده الصحية: ما جاء في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. فيقرر المولى تعالى حق الطفل في الرضاعة، ويوجه الوالدين إلى أنْ يتشاورا في أمر وليدهما، ويربط ذلك بالتقوى، وبعد مضي أربعة عشر قرنًا من نزول الاية الكريمة، نادت المنظمات الدولية، والهيئات العالمية؛ مثل هيئة الصحة العالمية، التي تصدر البيان تلو البيان، تنادي الأمهات أنْ يرضعن أولادهنَّ، بينما أمر الإسلام به منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان. فمن فوائد الرَّضاعة للوليد: 1 - لبن الأم معقَّم، جاهز، ليس به ميكروبات. 2 - لبني الأم لا يماثلة أيُّ لبن محضَّر؛ من البقر، أو الغنم، أو الإبل، فقد صُمِّم وَرُكِّب؛ ليفي بحاجات الطفل يومًا بعد يوم، منذ ولادته حتى سن الفطام. 3 - يحتوي لبن الأم على كميات كافية من البروتين، والسكر، بنسب تناسب الطفل تمامًا، بينما البروتينات الموجودة في لبن الأبقار، والأغنام، والجواميس عسيرةُ الهضم على معدة الطفل؛ لأنَّها أُعدت لتناسب أولاد تلك الحيوانات. 4 - نمو الأطفال الَّذين يرضعون من أمهاتهم أسرع وأكمل، من نمو أولئك الأطفال الَّذين يُعْطَوْن القارورة.

5 - تقول تقارير هيئة الصحة العالمية لعام 1988 م: إنَّ أكثر من عشرة ملايين طفل قد لَقَوْا حتفهم؛ نتيجة عدم إرضاعهم من أمهاتهم. 6 - الارتباط النفسي والعاطفي بين الأم وطفلها. 7 - يحتوي لبن الأم على العناصر المختلفة الضرورية لتغذية الطفل، وفق الكمية والكيفية، وعناصر التغذية الثابتة، وتتغير يومًا بعد يوم، وفق حاجات الطفل. 8 - يُحفظ لبن الأم تحت درجة من الحرارة معقولة، يستجيب تلقائيًّا لحاجيات الطفل، ويمكن الحصول عليه في أي وقت. 9 - الإرضاع من الثدي هو أحد العوامل الطبيعية لمنع حمل الأم؛ وهي وسيلة تمنع من المضاعفات التي تصحب استعمال حبوب منع الحمل، أو اللولب، أو الحقن". وذكر الدكتور أشياء كثيرة من الفوائد، نكتفي منها بهذا القدر، ولا نملك إلاَّ أن نقول: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل]. ***

978 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ، وَالمَصَّتَانِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لاَ تُحَرِّم: من التحريم. - المصَّة: بفتح الميم، وتشديد الصاد المهملة؛ هي الواحدة من المص، يقال: مصَّ اللبن يمصُّه مصًا: رشفه وشربه شربًا رقيقًا، مع جذب نَفَسٍ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرِّضاع المؤثِّر بانتقال نفعه من المرضعة إلى الرضيع -هو ما أنشز العظم، وأنبت اللحم، وأمَّا المصَّة والمصَّتان: فلا أثر لهما في تكوين الطفل؛ لذا لم يكنْ لهنَّ تأثيرٌ في الحكم. 2 - الحديث يدل على أنَّ المصَّة والمصتين لا تحرمان، لأنَّهما يسيرتان، والمسألة فيها أقوال للعلماء، وخلافات بينهم، سيأتي تحقيقها، إنْ شاء الله تعالى. 3 - مفهوم الحديث: أنَّ الرضاع الكثير يحرِّم، وسيأتي شرح حديث: "يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النسب"، إنْ شاء الله تعالى. 4 - عدم تحريم المصَّة والمصتين؛ فلا يكون التحريم إلاَّ بخمس رضعات؛ لحديث عائشة الآتي قريبًا، إنْ شاء الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1450).

979 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - انْظُرْنَ: النظر هنا بمعنى: التفكير، والتأمل، والتدبر؛ فهو أمر بإمعان التحقيق، والتأكد البابغ في شأن الرِّضاع؛ هل هو ممَّا يوجب التحريم؟ - من: استفهامية، محلها النصب؛ لأنَّها مفعول به. - فإنَّما الرضاعة: "الفاء" فيه للتعليل؛ لقوله: "انظرن من إخوانكنَّ"؛ يعني ليس كلّ من رضع معكن صار أخًا لَكُنَّ، بل شرطه أنْ يكون من المجاعة. - الرَّضاعة: مصدرة رضع رضاعًا؛ وهو مص اللبن الَّذي ثاب عن حمل من ثدي المرضعة. - المَجَاعة: بفتح الميم والجيم: خلو المعدة من الطعام؛ قال أبو عبيد: معناه: أن الَّذي إذا جاع كان طعامه الَّذي يشبعه اللبن من الرضاع، هو الَّذي يثبت الحرمة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2647)، مسلم (1455).

980 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بلغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ فَقَالَ: "أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - يأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتحقيق في أمر الرَّضاعة، هل هو الرضاع الصحيح المحرِّم الواقع في زمن الرَّضاع المشتَرَط؟ فإن الحكم هو للرضاع الذي ينبت به اللحم، وينشز منه العظم، وتثبت به الحرمة، وذلك حينما يكون الرضيع طفلاً يسد اللبنُ جوعَهُ، وينبت عليه لحمه، فيصير جزءًا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها. 2 - أما الحديث رقم (980) فيفيد أن رضاع الكبير يفيد، وأن له أثرًا، وأنه يفيد من المحرمية والأحكام ما يفيده رضاع الصغير، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في وقت الرَّضاع الذي يتعلق به التحريم، ولهم في ذلك أقوال، ولكن الذي يصلح للبحث والمناقشة، ويستند حكمه إلى الأدلة -أربعة مذاهب هي: الأول: أن الرَّضاع المعتبر، هو ما كان في الحولين فقط. ¬

_ (¬1) مسلم (1453).

الثاني: هو ما كان في الصغر، ولم يقدروه بزمان. الثالث: أن الرضاع يحرم؛ ولو كان للكبير البالغ، أو الشيخ. الرابع: أن الرضاع لا يكون محرِّمًا إلاَّ لمن كان في الصغر، إلاَّ إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير، الذي لا يُستغنى عن دخوله، وَيُشقّ الاحتجاب منه. فذهب إلى الأول: الشافعي، وأحمد، وصاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وصح عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وروي عن الشعبي، وهو قول سفيان، وإسحاق، وابن المنذر. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فجعل تمام الرضاعة حولين، فلا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به تحريم. وحديث: "إنما الرضاعة من المجاعة" المتقدم، ومدة المجاعة هي ما كان في حولين. وما رواه الدارقطني بإسناد صحيح، عن ابن عباس يرفعه: "لا رضاع إلاَّ ما كان في الحولين". وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه: "لا يحرم من الرَّضاع إلاَّ ما أنبتَ اللحم، وأنشزَ العظم". ورضاع الكبير لا يُنبت اللحم، ولا ينشز العظم. وذهب إلى القول الثاني: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خلا عائشة، وروي عن ابن عمر، وابن المسيب. ودليل هؤلاء: ما في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الرضاعة من المجاعة"، حيث يقتضي عمومه، أن الطفل مادام غذاؤه اللبن فإنَ ذلك الرَّضاع محرِّم، وهو نظرٌ جيِّدٌ، ومأخذه قويٌّ. وذهب إلى القول الثالث: طائفة من السلف والخلف؛ منهم عائشة،

ويروى عن: علي، وعروة، وعطاء، وقال به الليث بن سعد، وداود، وابن حزم، ونصره في كتابه، "المحلى"، ورد حجج المخالفين. وكانت عائشة إذا أحبت أن يدخل عليها أحد من الرجال، أمرت أختها أم كلثوم، أو بنات أخيها، فأرضعته. ودليل هؤلاء: ما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله، إن سالمًا مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، فقال: "أرضِعيه، تحرمي عليه"؛ فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. [رواه مسلم]. وهذا حديث صحيح ليس في ثبوته كلام، ولكن أصحاب القول بالحولين يجيبون عنه بأحد جوابين: الأول: أنه منسوخ. ولكن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة التاريخ بين النصوص، وليس هناك علم بالمتقدم منها، والمتأخر. ولو كان منسوخًا، لقاله الذين يحاجّون عائشة في هذه المسألة، ويناظرونها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهن. الجواب الثاني: دعوى الخصوصية؛ فيرون هذه الرخصة خاصة لسالم وسهلة، وليست لأحد غيرهما. وتخريج هذا المسلك لهم: أنهم يقولون: جاءت سهلة شاكية متحرجة من الإثم والضيق، لما نزلت "آية الحجاب"، فرخَّص لها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكأنه استثناها من عموم الحكم. قالوا: ويتعين هذا المسلك، وإلاَّ لزمنا أحد مسلكين: إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم، أو نسخها به. ولا يمكن هذا؛ لأننا لا نعلم تاريخ السابق منها واللاحق، وبهذا المسلك نتمكن من العمل بالأحاديث كلها؛ فيكون هذا الحديث خاصًّا بـ"سالم " و"سهلة"، وسائر الأحاديث لعامة الأمة.

وذهب إلى القول الرابع -وهو أن رضاع الكبير رخصة عامة لكل من هو في مثل حال "سهلة"-: شيخُ الإسلام ابن تيمية، وجعله توسُّطًا بين الأدلة، وجمعًا بينهما؛ حيث إن النسخ لا يمكن بين هذه النصوص؛ لعدم العلم بالتاريخ. والخصوصية لـ"سالم" وحده لم تثبت، فتكون خصوصية في مثل مَن هو في حال "سالم" وزوج أبي حذيفة؛ أنه يشق الاحتجاب عنه، ولا يُسْتَغنى عن دخوله، والخلوة به. ورجَّح هذا المسلك ابن القيم في "الهدي"؛ فقال: "وهذا أولى من النسخ، ودعوى الخصوصية لشخص بعينه، وهذا أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له، والله الموفق". ****

981 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، جاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الحِجَابِ، قَالَتْ: فَأَبيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرْتُهُ بالَّذِي صَنَعْتُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَالَ: "إِنَّهُ عَمُّكِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - القُعَيْس: بضمِّ القاف، وفتح العين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ثم سين مهملة-: تصغير قَعْس، واسم أبي القعيس: الجعد. - يستأذن: أي: يطلب الإذن بالدخول. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2644)، مسلم (1445).

982 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ فِيْمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُوْمَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُوْمَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهِيَ فِيْمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - نُسِخْنَ: النسخ لغةً: الإزالة والنقل، واصطلاحًا: رفع حكمٍ شرعيٍّ، أو رفعُ لفظه بدليلٍ من الكتاب والسنة. - معلومات: متحققات ثابتات. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - وجوب التثبت من صحة الرَّضاع المحرِّم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- ما معناه: يا عائشة، انظرن، وتثبتن في الرضاعة؛ فإن منها ما لا يسبب المحرمية، فلابد من رضاعة يَنْبُتُ منها اللحم، ويشتد بها العظم، وذلك أن تكون من المجاعة، حين يكون الطفل محتاجًا إلى اللبن، فلا يتقوت بغيره، فيكون حينئذٍ كالجزء من المرضِعة، فيصير كأحد أولادها؛ فتثبت المحرمية. 2 - احتياط المرأة الصالحة من مواجهة الأجانب، إلاَّ بعد التأكد من صحة محرميته لها. 3 - النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَلُمْ، ولم يُنْكِر على عائشة تحريها واحتياطها، فلابد من ذلك. 4 - أنه لابد أن يكون الرضاع في وقت الحاجة إلى تغذيته؛ فإن الرضاعة من ¬

_ (¬1) مسلم (1452).

المجاعة، ويأتي تحديد ذلك عددًا ووقتًا، والخلاف فيه إن شاء الله. 5 - والحكمة في كون الرضاع المحرِّم هو ما كان من المجاعة: أنه حين يتغذى بلبنها محتاجًا إليه، يَشِبُّ عليه لحمه، وتقوى عظامه؛ فيكون كالجزء منها، فيصير كولد لها تغذى في بطنها، وصار بِضعةً منها. 6 - أن الرضاع المحرِّم كان في أول الأمر عشر رضعات نزل بها القرآن، فنسخ لفظه وحُكمه، إلى خمس رضعات يحرمن، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهنَّ هكذا. 7 - قال البيهقي: "فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه من القرآن، والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه؛ بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن، لم يثبتوها رسمًا، وحكمها باقٍ عندهم". قال السمعاني: "وقولها" مما يتلى من القرآن "أي: يتلى حكمها دون لفظها". وقال الطيبي: "وقول عائشة -رضي الله عنها-: "تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي فيما يقرأ من القرآن"؛ يعني: عند من لم يبلغه نسخهن، حتى بلغه، فترك؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة أو النقص، وهذا من جملة ما نسخ لفظه، ومعناه باقٍ". 8 - قول عائشة -رضي الله عنها-: "عشر رضعات معلومات"؛ أي: منسوخات الحكم والتلاوة، وقولها: "خمس معلومات" منسوخات التلاوة، ثابتات الحكم؛ كآية الرجم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في قدر الرَّضاع المحرِّم: فذهب طائفة من السلف، والخلف إلى: أن قليل الرضاع وكثيره يحرِّم؛ وهو مرويٌّ عن: علي، وابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، والأوزاعي، والثوري، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة.

وحجتهم: أن الله سبحانه وتعالى علَّق التحريم باسم "الرضاعة"، فهي مطلقة في القرآن، لم يقيدها بشيء؛ فحيث وُجد اسمها، وُجِد حكمها. وذهبت طائفة أخرى إلى: أنه لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات؛ وهذا قول أبي ثور، وابن المنذر، وداود. وحجة هؤلاء: ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تحرِّم المصة، ولا المصتان". [رواه مسلم]. ومفهوم الحديث: أن ما زاد على المصَّتين يثبت به التحريم، وهو الثلاثة فصاعدًا. وذهبت طائفة ثالثة إلى: أنه لا يثبت بأقل من خمس رضعات؛ وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وابن حزم. ودليل هؤلاء: ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نُسِخْن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهن فيما يُقرأ من القرآن". وما جاء في صحيح مسلم أيضًا في قصة سهلة زوجة أبي حذيفة، حينما قالت: إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيتٍ واحدٍ، ويراني فُضلى، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيهن؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أرضعيه"، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. وأجابت هذه الطائفة عن أدلة الطائفتين الأوليين، فقالت: وأما من يرون أن قليله وكثيره يحرم: فجوابهم الحديث الصحيح المتقدم: "لا تحرِّم المصة، ولا المصَّتان". وأما جواب أصحاب الثلاث: فهو أن دليلهم مفهوم، والمنطوق مقدم عليه، والعمل بأحاديث الرضعات الخمسة إعمال للأحاديث كلها.

وبالتأمُّل: فإن التعبير بـ"الأم" يقتضي أن المرضعة لا تحرم، إلاَّ إذا أرضعت مقدارًا تستحق به الاتصاف بالأمومة، ولا تتصف بذلك إلاَّ مَن ولدت الولد، أو مَن صار جزءُ بدنها -وهو اللبن- جزءًا لبدن الولد، وهذا لا يحصل بمجرد الرَّضاعة القليلة، بل لابد له من مقدار كبير، يصير به اللبن جزءًا للبدن، وذلك غير معلوم، فوجب الرجوع إلى تقدير الشارع، والأحاديث تدور حول كون الرَّضاعة من المجاعة، وكونها فاتقة للأمعاء، ومنشزة للعظم، ومنبتة للحم، وكونها في الحولين، وعدم اعتبار رضاع الكبير، كل ذلك لأجل هذه العلة. وعلى هذا: فإنه لا تعارض بين الآية والحديث فقد جاء الحديث لبيان المقدار، والقرآن الكريم سمّى المرضعة أُمًّا فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] والأُمومة لا تكون إلاَّ بالمقدار الذي جاء في الحديث، فظهر أن ما ذهب إليه الإمامان: الشافعي وأحمد، هو الصحيح، والله أعلم. * فوائد. الأولى: ذهب الإمام الشافعي، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، واختيار ابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي وغيرهم: إلى أن الرضعة لا تحتسب رضعة؛ حتى تكون وجبة للطفل تامَّة، كالأكلة من الأكلات، والشّربة من الشربات. أما قطع الطفل الثدي لعارض كالتنفس، أو نقله من ثدي لآخر، فهذه لا يُعتبر رضعة، وإن كان هو المشهور من المذهب الحنبلي. الثانية: قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: "أخذ الدم من الرجل للمرأة، وحقنها به لا ينشر به حرمة، ولو كَثُر، كما تنتشر الحرمة بالرَّضاع، وكذا الحكم لو حقن الرجل بدم المرأة، فيجوز لكل منهما أن يتزوج بالآخر". وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: نقل الدم من رجل إلى امرأة، أو بالعكس لا يسمى رضاعًا، لا لغةً، ولا عرفًا، ولا شرعًا، ولا تثبت له أحكام الرضاع". الثالثة: أما المحرمات من الرَّضاع: فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

قال شيخ الإسلام: "مما اتفق عليه أنه يحرم من الرِّضاع ما يحرم من النسب، فإذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات في الحولين قبل الفطام، صار ولدها باتفاقٍ، وابنَ صاحب اللبن باتفاقِ الأئمة المشهورين، وصار كل من أولادهما إخوة للمرتضع؛ سواء أكانوا من الأب فقط، أم من الأم فقط، أو منهما. ولا فرق بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل، وبين مَنْ وُلِدَ لها قبل الرَّضاعة، أو بعد الرَّضاعة، باتفاق المسلمين. وعلى هذا فجميع أقارب المرأة للمرتضع من الرضاعة أقاربه: فأولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، وآباؤها وأمهاتها أجداده وجداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وكل هؤلاء حرامٌ عليه. وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع فحلال، كما يحل له ذلك من النسب، وأقارب الرجل، وأقاربه من الرضاعة هكذا، وأولاد المرتضع بمنزلته. وأما إخوة المرتضع من النسب، أو من الرضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم أجانب من أقاربه، يجوز لإخوة هؤلاء أن يتزوجوا أولاد المرضعة وهذا كله متفق عليه بين العلماء". واختار الشيخ تقي الدين: أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته من الرضاع، ولا بنت زوجته من الرضاع، إذا كان بلبن غيره، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها من الرضاع. ولكن قد حُكِيَ الإجماع على خلاف قول الشيخ. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بنوك الحليب: قرار رقم (6): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم

النبيين، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة، من10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/ 22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب. وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين، ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة، شملت مختلف جوانب الموضوع -تبين: 1 - أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية، والعلمية فيها، فانكمشت، وقل الاهتمام بها. 2 - أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب، بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط، أو الريبة. 3 - أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج، أو ناقص الوزن، أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب. وبناءً على ذلك قرر: أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانيًا: حرمة الرضاع منها، والله أعلم.

983 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُرِيْدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: "إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إنها ابنة أخي من الرضاعة: تعليل لتحريم النكاح. - يَحْرُمُ من الرضاعة ما يحرم من النسب: قال الخطابي: "اللفظ عامٌّ، ومعناه خاصٌّ، وتفصيله: أن الرضاع يجري عمومه في تحريم نكاح المرضعة، وذوي أرحامها على الرضيع مجرى النسب، ولا يجري في الرضيع، وذوي أرحامه مجراه". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج من بني هاشم، وعرض عليه الزواج بابنة عمّه حمزة بن عبد المطلب، الذي لم يخلف من الولد غيرها. 2 - بنات العم حلالٌ له، ولغيره من أمته -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50]. 3 - ذكر -صلى الله عليه وسلم- المانع له من الزواج بابنة عمه حمزة؛ ذلك أنه أخوه من الرَّضاعة، فيكون -صلى الله عليه وسلم- عم البنت من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. 4 - التي أرضعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأرضعت عمه حمزة هي: "ثويبة مولاة لأبي ¬

_ (¬1) البخاري (2645)، مسلم (1446).

لهب"، وقد اختلف المؤرخون هل أسلمت أو لا؟ وممن أثبت إسلامها الحافظ ابن مَنْدَه. 5 - أدرك الإسلام من أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- التسعة أربعة؛ هم: أبو طالب، وأبو لهب، وحمزة، والعباس، مات على الشرك منهم اثنان، هما: أبو طالب، وأبو لهب، وأسلم منهم: حمزة والعباس، فأما أبو طالب فهو الذي ناصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وآزره مع أنه مقيم على شركه؛ حتى مات قبل الهجرة بثلاث سنين. وأما أبو لهب: فصار من أشد أعداء الإسلام وأهله، وآذى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أذًى شديدًا، هو وزوجته حمَّالة الحطب، واسمها: "أروى بنت حرب بن أمية" أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. وكانت عونًا له على كفره وشقاقه وأذيَّته للنَّبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فنزلت فيهما سورة تتلى إلى يوم القيامة، وأبو لهب تُوفي على كفره بعد معركة بدر بأيام، وهو لم يحضرها، وإنما أُصيب بمرض مميت، لما بلغته هزيمة على قريش. وأما حمزة: فقد أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، وله مواقف بطولية مشرّفة، ثم حضر أُحُدًا، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، إلاَّ أنه استشهد فيها -رضي الله عنه- وحزن عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حزنًا شديدًا. وأمَّا العباس: فتأخَّر إسلامه إلى سنة ثمان من الهجرة، ولكنه لما أسلم، عرف له النبي -صلى الله عليه وسلم- قدره، فأَجَلَّه، ولما تُوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- صار الصحابة يعظمونه؛ لشرفه، وسؤدده، ولمكانته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتوفي سنة (32 هـ) في خلافة عثمان رضي الله عنهما.

6 - قوله: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". قال شيخ الإسلام: "إذا ارتضع الطفل من امرأةٍ خمس رضعات في الحولين قبل الفطام -صار ولدها باتفاق الأئمة، وصار ولد الرجل الذي در اللبن بوطئه أبًا لهذا المرتضع، باتفاق الأئمة المشهورين، وصار كل من أولادهما أخوة المرتضع؛ سواء أكانوا من الأب فقط، أم من المرأة، أم منهما، ولا فرق -بالاتفاق- بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل، وبين من وُلِدَ لها قبل الرضاعة وبعدها. وصار أقارب المرضعة أقارب المرتضع، فأولادها إخوته، وأولاد أولادها أولاد إخوته، واباؤها وأمهاتها أجداده وجداته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته، وأقارب الرجل أقاربه من الرضاعة، كأقارب أمه من الرضاعة. وأما أقارب المرتضع من نسب، أو رضاعٍ -فهم أجانب من أمه من الرضاع، ومن أقاربها، فيجوز لإخوته من الرضاع أن يتزوجوا بأخواته من النسب، وبالعكس، وأما بنات أخواله وخالاته من الرضاع فحلال للمرتضع، كما يحل له ذلك من النسب؛ وهذا كله متفق عليه بين العلماء". ***

984 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إلاَّ مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الفِطَامِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ، ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم، غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ، إلاَّ في رواية العبادلة عنه، فإنه صحيح، وهذا منها. وممن صحَّح هذا الحديث ابن حبان، وابن القيم في كتابه "زاد المعاد". * مفردات الحديث: - لا يُحرِّم: بتشديد الراء المسكورة؛ أي: لا يكون سببًا في التحريم. - فَتَق الأمعاء: بالفاء المثناة فوقية، فقاف في آخره، والفتق بمعنى: الشق، والمراد: ما سلك فيها. الأمعاء: جمع معى، بكسر الميم وفتحها: المَصِيْر، واحد المِصْران. - الفِطَام: يُقال: فطمت المرضعُ الرضيعَ: فصلته عن الرضاع، فهي فاطمةٌ، وهو فطيم ومفطوم، والاسم: الفِطَام، بكسر الفاء وفتح الطاء؛ وهو قطع الولد عن الرضاع. ¬

_ (¬1) الترمذي (1152).

985 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لاَ رَضَاعَ إلاَّ فِي الحَوْلَيْنِ": رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، مَرْفُوْعًا وَمَوْقُوْفًا، وَرَجَّحَا المَوْقُوْفَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. قال في "التلخيص": رواه الدارقطني من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وقال: تفرد به ابن جميل، عن ابن عيينة، وكان ثقةً حافظًا، وقال ابن عدي: كان يغلط، قال البيهقي: الصحيح أنه موقوف. وقال المؤلف: "أخرجه الدارقطني، وابن عدي مرفوعًا وموقوفًا". ولكنهما رجَّحا الموقوف، ورجَّح الموقوف أيضًا البيهقي وعبد الحق، وابن عبد الهادي، والزيلعي، وهو الصواب. أما ابن القيم فصحَّحه مرفوعًا في كتابه "الهدي". ... ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 174)، ابن عدي (7/ 2562).

986 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ رَضَاعَ إلاَّ مَا أَنْشَزَ العَظْمَ، وَانْبَتَ اللَّحْمَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أبو داود، وعند البيهقي من طريق الدارقطني عن النضر بن شميل، عن سليمان بن المغيرة، عن أبي موسى الهلالي، عن أبيه، عن ابنٍ لعبد الله بن مسعود، عن أبيه ابن مسعود؛ وهذا سند ضعيف لتسلسله بالمجاهيل. * مفردات الحديث: - أَنْشَزَ العظم: بفتح الهمزة، فنون، فشين معجمة، فزاي؛ أصل النشز: المكان المرتفع، فإنشاز العظام معناه: نموها، وارتفاعها في الجسم. - أنبت اللحم: نشأ عليه اللحم، وربا، وزاد. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - اقتضت حكمة الله -تعالى- أن حق المولود في الرَّضاع هو حولان كاملان؛ فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. قال الأستاذ سيد قطب: "والله يفرض -أي: يجعل حقًّا- للمولود على أمه ترضعه حولين كاملين، لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. ¬

_ (¬1) أبو داود (2060).

وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية، لنمو الطفل نموًّا سليمًا من الوجهتين: الصحية والنفسية، ولكن نعمة الله تعالى على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالله رحيم بعباده، وبخاصة هؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية". 2 - فالحديث رقم (984): يدل على أنه لا يحرِّم من الرِّضاع إلاَّ ما وصل إلى الأمعاء ووسَّعها، أما القليل الذي لم ينفذ إليها، ويفتقها، ويوسعها -فلا يحرِّم، فكان الرضاع في حال الصغر قبل الفطام؛ وهو مذهب جمهور العلماء. 3 - أما الحديث رقم (985): فيدل على أن الرضاع الذي ينشر الحرمة، وَيحرُم منه ما يحرم من النسب -هو الرضاع في الحولين- وهو موافقٌ للآية الكريمة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. 4 - أما الحديث رقم (986): فيدل على أن الرضاع المعتبر شرعًا هو ما قوى العظم، وشدّه، وأنبت اللحم، فَكُسِيَ به العظم، ولا يكون هذا إلاَّ في حال الصغر. 5 - الأحاديث الثلاثة متفقة على معنًى واحد؛ وهو أن الرضاع الذي ينشر الحرمة هو ما تغذَّى به الجسم، واستفاد منه، وهو ما كان في زمن الصغر، وهو وقت الرضاعة. والله أعلم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في الزمن المعتبر في التحريم: فذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد إلى: أن الرضاع المحرِّم هو الواقع في الحولين، فإن زاد عنهما -ولو قليلاً جدًا- لم تثبت به الحرمة. ويروى هذا القول عن: عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن

مسعود، وأبي هريرة، وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سوى عائشة. وإليه ذهب الشعبي، وابن شبرمة، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور. ودليلهم على هذا: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، ولما في الصحيحين عن عائشة؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الرضاعة من المجاعة". وحديث أم سلمة؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحرّم من الرضاع، إلاَّ ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". [رواه الترمذي]. وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى أن الرضاعة المحرِّمة هي ما كانت في ثلاثين شهرًا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، ولم يُرِدْ بالحمل حمل الأحشاء؛ لأنه يكون سنتين، فعلم أنه أراد بالحمل في الفصال. وذهب الإمام مالك في إحدى الروايتين عنه إلى: أن ما كان بعد الحولين من رضاع بشهرٍ، أو شهرين، أو ثلاثة -فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبثٌ. وقال شيخ الإسلام: "ثبوت المحرمية بالرضاع إلى الفطام، ولو بعد الحولين، أو قبلهما، فالشارع أناط الحكم بالفطام؛ سواء أكان قبل الحولين، أم بعده". وهذا قول جيِّد له حظٌّ من النَّظرِ.

987 - وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتِ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتكمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ، كيْفَ وَقَدْ قِيْلَ؟! فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، فَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عُقْبة: بضم العين المهملة، وسكون القاف، وفتح الباء الموحدة: ابن الحارث بن عامر بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي. - أبي إهَاب: بكسر الهمزة، واسم المرأة: غنية بنت أبي إهاب. - أرضعتُكُما: مزيد: رَضَعَ الصبي أمه يَرْضَعُهَا رَضَاعًا؛ قال تعالى: {أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فالصبي راضعٌ ورضيعٌ، وجمع الراضع: رُضَّعٌ، كراكع ورُكَّع، ويجمع على رُضَّاع، ككافر وكفَّار. - كيف: ظرف مبني على الفتح، وله عدة معانٍ: منها التعجُّب والإنكار، وهو المراد هنا. - وقد قيل: الجملة في موضع نصبٍ على الحال، والحالان يستدعيان عاملاً، والتقدير: كيف تكون لها زوجًا، وقد قيل: إنك أخوها؟! أي أن ذلك بعيد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أن الرضاع يحرّم كما يحرم النسب، كما جاء في الحديث الصحيح: "يَحْرُم من الرضاع ما يحرم من النسب". ¬

_ (¬1) البخاري (88).

2 - أن الطفلين إذا رضعا من امرأة واحدة الرضاع -المحرّم-، فإنهما يصيران أخوين من الرضاع. 3 - أن شهادة المرأة الواحدة بالرضاع هي نصاب الشهادة، فتكفي شهادتها لإثباته. 4 - إذا ثبت الرضاع بين الزوج وزوجته، وجب التفريق بينهما؛ لأنها أصبحت أخته من الرضاعة، ولا يحل بقاؤها معه بصفتها زوجته؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على الرجل بقاءها معه. 5 - أن الوطء الناشىء عن الجهل بالأمر، أو الجهل بالحكم -وطء شبهة، لا حرج على صاحبه، ويَلحق الولد بوالديه. 6 - أن عقد النكاح بين المحرمين في النكاح من الرضاعة -باطل من أساسه، ومتفق على ذلك بين العلماء؛ لذا لم يحتج إلى فسخ، فهو غير منعقد من أصله في حقيقة الأمر. * خلاف العلماء: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنه لا يقبل في الرضاع شهادة النساء منفردة، فلابد من شهادة رجلين، أو رجل، وامرأتين؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. وذهب الإمام مالك إلى: أنه لا يقبل إلاَّ شهادة امرأتين؛ وهو قول جماعة من السلف؛ لأن كل جنس يثبت به الحق لا يكفي فيه إلاَّ اثنان؛ كالرجال. وذهب الإمام الشافعي إلى: أنه لا يقبل إلاَّ أربع نسوة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شهادة امرأتين بشهادة رجل". [رواه مسلم]. وذهب الإمام أحمد وجماعة من السلف إلى: قبول شهادة المرأة الواحدة إذا كانت ثقة؛ لحديث الباب. وقال ابن القيم: "إذا شهدت المرأة بأنها قد أرضعته وزوجَته، فقد لزمته

الحجة من الله -تعالى- في اجتنابها، ووجب عليه مفارقتها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دعها عنك، وليس لأحد أن يفتي بغيره". قال الشوكاني في "نيل الأوطار": "الحق وجوب العمل يقول المرضعة". قال الصنعاني: "وهذا الحكم مخصوص من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد، وقد اعتبر ذلك في عورات النساء، فاكتُفِيَ بشهادة امرأة واحدة، والعلة أنه قلما يطلِّع الرجال على ذلك، فالضرورة داعية إلى اعتباره، فكذا هنا". ***

988 - وَعَنْ زِيَادٍ السَّهْمِيِّ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُسْتَرْضَعَ الحَمْقَى". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتْ لزيَادٍ صُحْبَةٌ. (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل ضعيف؛ فقد رواه أبو داود في المراسيل -وليس في السنن كما هو ظاهر كلام المصنف- بسنده إلى زياد بن إسماعيل المخزومي المكي، وليست له صحبة. قال في "تهذيب التهذيب": "قال ابن معين: ضعيف، وقال يعقوب بن سفيان: ليس حديثه بشيء". وقال ابن المديني، وأبو حاتم، والنسائي: "ليس به بأس". وعلى كلٍّ فالحديث مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف. * مفردات الحديث: - تُسْتَرضع: يُطْلَب منها لتكون مرضعة للطفل الرضيع، وهناك فرقٌ بين المرضع وبين المرضعة؛ ذلك أنه إن أُريد بها المرأة حال الإرضاع، وإلقام ثديها الصبي -فهي المرضعة، وأما إن أُريد بها التي من شأنها أن ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع- فهي المرضع؛ وبهذا أجاب الزمخشري عن قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]. - الحَمْقَاء: بفتح الحاء المهملة، ثم ميم ساكنة، منتهية بألف التأنيث الممدودة-: قليلة العقل، ضعيفة البصيرة، جمعها: حَمْقَى وحُمُق. ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل (207).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}؛ فلبن الأم في هذه السن للطفل هو الغذاء الملائم لحالة الطفل، وهو الغذاء الذي يستفيد منه الطفل، ولا يستفيد من غيره من الأغذية الأخرى؛ لأنه مجهَّز ومصنَّع من قبل حكيم خبير، عليم بحال الطفل، وما يناسبه في هذه السن. 2 - لذا جاءت الأحاديث الشريفة بتحديد الزمن الذي يصلح أن يستفيد جسم الطفل من الرضاع؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا رضاع إلاَّ ما كان في الحولين". [رواه الدارقطني]، وجاء في الصحيحين من حديث عائشة؛ أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما الرضاعة من الجماعة". 3 - كما جاءت أحاديث أُخَر تفيد أنَّ الرضاع المؤثر المحرم هو ما كان غذاءً للطفل، ولا غذاءَ غيره؛ من جث إنه لبن امرأةٍ، ومن جث كميته، وقدره، وتجهيزه، وتركيبه الرباني؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحرِّم المصة، ولا المصتان" [رواه البخاري]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحرِّم الرضعة، ولا الرضعتان". [رواه مسلم]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا رضاع إلاَّ ما أنشز العظم، وأنبت اللحم". [رواه أبو داود]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحرم من الرضاع إلاَّ ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". [رواه الترمذي وصححه الحاكم]. 4 - كل ما تقدم قد سقناه لبيان أن الرضاع الكثير في هذه السن المبكرة له دورٌ كبيرٌ في تنشئة الطفل، وبناء جسمه، فهذا الغذاء يتحول بإذن الله إلى طاقات مختلفة في الجسم، ومنها الطاقة العقلية والفكرية. 5 - من هذا جاء النهي عن استرضاع المرأة الحمقاء؛ قال الدكتور الطبيب محمد علي البار: "مما لا ريب فيه أن المرضع تؤثر على الوليد بأخلاقها،

وخطورة جعل الرضيع في يد حمقاء، قد يؤدي إلى إهماله، أو قتله خطأ، كما يؤدي إلى تكرر الحوادث، والسقوط، والارتطام. قال أصحاب الطب الحديث عن فوائد رضاع لبن الأم أو المرضعة: (أ) لبن الأم معقم مجهزة، ليس فيه ميكروبات. (ب) لبن الأم لا يماثله اللبن المحضر، فقد ركب على أساس حاجات الطفل يومًا بعد يوم، منذ ولادته حتى سن الفطام. (جـ) لبن الأم يحتوي على كميات كافية من عناصر الغذاء، بنسب تناسب الطفل تمامًا. (د) تقول التقارير الصحية العالمية لعام (1980 م): إن أكثر من عشرة ملايين طفل، قد ماتوا نتيجة عدم إرضاعهم من أمهاتهم. (هـ) في الإرضاع ارتباط نفسي وعاطفي بين الأم وطفلها". وذكر الأطباء أشياء كثيرة من فوائد الرضاع، دون الحليب الذي تجهزه المصانع بعلوم قاصرة، وأفكار ضعيفة، والله عليم حكيم. ***

باب النفقات

باب النَّفَقات مقدِّمة النفقات: جمع نفقة؛ كثمرة. قال ابن فارس: "النون والفاء والقاف أصلان صحيحان، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، والنفقة من هذا؛ لأنها تمضي لوجهها". والنفقة: الدراهم ونحوها من الأموال. وشرعًا: هي كفاية من يمونه: طعامًا، وكسوةً، ومسكنًا، وتوابعها. والنفقات أصناف: - نفقة الزوجات. - نفقة الأقارب. - المماليك من رقيق وحيوان. والنفقة ثابتة بالكتاب: قال تعالى: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. والسنة: لحديث: "ابدأ بمَن تعول"، وغيره. وأجمع العلماء على وجوبها في الجملة؛ فتجب على الإنسان: نفقة نفسه، ونفقة زوجته، وبهائمه، مع اليسارِ، والإعسار.

وتجب عليه نفقة فروعه وأصوله، سواء أكانوا وارثين، أم محجوبين، وتجب عليه نفقة حواشيه، إذا كان يرثهم بفرض، أو تعصيبٍ. والنفقة على الأصول، والفروع، والحواشي، المقصود بها: المواساة؛ ولهذا اشتُرِط لها شرطان: أحدهما: غنى المنفِق بماله، أو كسبه. الثاني: فقر المنفَق عليه والنفقة مقيَّدة بالمعروف، ويختلف العرف باختلاف الأوقات، والبلدان، والأحوال؛ قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. قال شيخ الإسلام: "يدخل في هذا جميع الحقوق التي للمرأة عليه، وأن مردَّ ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم". ***

989 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبهَ امْرَأةُ أَبِي سُفْيَانَ على رَسُوْلِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ، لاَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بنَيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذلِكَ مِنْ جُنَاح؟ فَقَالَ: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بنِيْكِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - شَحِيح: على وزن فعيل، من صيغ المبالغة، ومعناه: كثير الشح، والشحُّ هو البخل، من الحرص، فهو أخصُّ من البخل، والحرص هو شدة الرغبة في الشيء. - جُنَاح: بضم الجيم المعجمة، هو الإثم. - بالمعروف: يعني: العرف والعادة، وذلك يكون بحسب أحوال الناس، وعاداتهم، وما يتعارفونه بينهم في زمانهم، ومكانهم، ويُسْرهم، وعسرهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - وجوب نفقة الزوجة والأولاد، وأنه يختص بها الأب، فلا تشاركه الأم فيها، ولا غيرها من الأقارب. 2 - النفقة تقدَّر بحال الزوج، وحال المنفق؛ من حيث الغنى، والفقر، ووسط الحال. 3 - أن النفقة تكون بالمعروف؛ ومعنى المعروف: العرف والعادة، وهذا ¬

_ (¬1) البخاري (5364)، مسلم (1714).

يختلف باختلاف الزمان، والمكان، وأحوال الناس. 4 - أن مَنْ وجبت عليه النفقة، فلم ينفق شحًّا، فإنه يؤخذ من ماله، ولو بغير علمه؛ لأنها نفقة واجبةٌ عليه. 5 - ومنه أن المتولي على أمرٍ من الأمور يُرْجَع في تقديره إليه؛ لأنه مُؤْتَمَن، فله الولاية على ذلك. 6 - اختلف العلماء؛ هل أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- هندًا حين سألته أن تأخذ من مال زوجها- هو حكمٌ، فيكون من باب الحكم على الغائب، أم أنها فتوى؟ قال العلماء: "إن هذه القصة مترددة بين كونها فتيا، وبين كونها حُكْمًا، وكونها فتيا أقرب؛ لأنه لم يطالبها ببينة، ولا استحلفها، وأبو سفيان في البلد لم يغب عنه، والحكم لا يكون إلاَّ بحضور الخصمين كليهما". 7 - ومنه أن هذه الشكاية وأمثالها لا تعتبر من الغيبة المحرمة؛ لأنها رفعت أمرها إلى ولي الأمر، القادر على إنصافها، وإزالة مَظلمتها. 8 - ومنه جواز مخاطبة المرأة الأجنبية للحاجة، وعند الأمن من الفتنة. 9 - عموم الحديث يوجب نفقة الأولاد، وإن كانوا كبارًا، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. 10 - وفيه دليلٌ على أن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له، فله أن يأخذه، ولو على سبيل الخُفْية، ويسمّيها العلماء "مسألة الظَّفَر"، وهي مسألة خلافية، أجازها الشافعي وأحمد، ومنعها أبو حنيفة ومالك، والراجح التفصيل؛ وذلك أنه إن كان سبب الحق واضحًا بيِّنًا، فله الأخذ؛ لانتفاء الشبهة فيه، وإن كان السبب خفيًّا، فلا يجوز؛ لئلا يتهم بالآخذ بالاعتداء على حق الغير. ***

990 - وَعَنْ طَارقٍ المُحَارِبِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمْنَا المَدِيْنَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ عَلى المِنْبَر، يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيَقُولُ: "يَدُ المُعْطِي العُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ، فَأَدْنَاكَ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وأصله في الصحيحين، فأوله من حديث حكيم بن حزام، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اليد العليا خير من اليد السُّفْلى، وابدأ بمن تعول"، وأما آخره فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أَبِرّ يا رسول الله؟ فقال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أمك، ثم قال: من؟ قال: أمك، ثم قال: مَن؟ قال: أباك". قال بعضهم: "رواته كلهم ثقات، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الطبراني، وقد حسَّنه المنذري". * مفردات الحديث: - وابدأ: من: بدأت الشيء أبدؤه بدأً، بهمز لكل؛ أي: ابتدىء بالإنفاق على مَن يجب عليك نفقته. - تَعُول: من: عاله عولاً: كفله، وقام به، والعيال: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد: عَيِّل، والجمع: عيال: ومنه الحديث: "الخلق عيال الله". والذين تعولهم هم مَن تُنْفِق عليهم. - أمَّك وأباك: نصب بفعل مقدرة أي: الزمهم بالإنفاق عليهم. ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 61)، ابن حبان (810)، الدارقطني (3/ 44).

- أدناك فأدناك: أي: أقربك، فأقربك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيان فضل المنفِق والمتصدق، وأن يده هي العليا حسًّا ومعنًى؛ فالمنفق يده عالية على يد الآخر في القبض، وهي عالية عليها في شرفها وفضلها، وإحسانها. 2 - تجب البداءة بالنفقات الواجبة بالنفس، ثم الزوجة، ثم الفروع، ثم الأصول، ثم المماليك. 3 - النفقة على النفس هي الأولى، ثم مَن تجب نفقتهم مع اليسار والإعسار؛ وهم الزوجة والمماليك، والبهائم، ثم مَن تجب نفقتهم، ولو لم يرثهم المنفِق من الأصول والفروع، ثم نفقة الحواشي، إذا كان المنفِق يرثهم بفرض، أو تعصيب. 4 - الحديث فيه تقديم الأم، ثم الأب، ثم الإخوان، ثم الأقرب، فالأقرب على حسب درجاتهم في الإرث والقرب؛ قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، فكل قريب له على قريبه حق، والحقوق متفاوتة. 5 - يشترط لوجوب نفقة القريب من أصول، وفروع، وحواشٍ -غنى المنِفق وفقر المنفَق عليه، وفي الحواشي ما تقدم من إرث المنفِق منهم بفرض، أو تعصيب؛ قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]. 6 - قال القاضي عياض: "الحديث فيه" أن الأم أحق من الأب بالبر؛ وهو مذهب جمهور العلماء". * خلاف العلماء: أجمع العلماء على وجوب نفقة الأقارب في الجملة، واختلفوا في مدار هذه النفقة: فذهب الإمام مالك إلى: أنها لا تجب إلاَّ للأب والأم، دون الأجداد

والجدات كان علوْا، وتجب للفروع وإن نزلوا؛ سواء أكانوا من الوارثين، أم من غير الوارثين، حتى ذوي الأرحام منهم. وذهب أبو حنيفة إلى: ثبوت النفقة للأصول، والفروع، والحواشي، ولكن رخَّص في وجوب الإنفاق على ذوي القرابة المحارم، بقطع النظر عن الميراث. وذهب الإمام أحمد إلى: وجوب النفقة على الأصول والفروع، سواء أكانوا وارثين، أم غير وارثين، وفي الحواشي الذين يرثهم المنفق بفرض، أو تعصيب. واستدل مالك على وجوب نفقة ولد الصلب-: بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. وعلى حق الأب والأم بقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83]. ومن الأحاديث: بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، وغيرها من الأدلة. واستدل الثلاثة على وجوب النفقة على عموم عمودي النسب-: بأن ولد الولد ولد، وأن الأجداد آباء وإن بعدوا؛ قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} [النساء: 11] يدخل فيهم ولد البنين، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وهو جدهم. وفضلاً عن ذلك، فإن بينهما قرابة توجب النفقة، وردّ الشهادة، فيسري حكم وجوب النفقة. أما القرابة من غير عمودي النسب: فدليل وجوب النفقة عليهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، وأنَّ الله تعالى ورسوله أمرا بصلة الرحم، ونَهَيا عن قطعها، وله أحكام من حيث ولاية النكاح، وغير ذلك

من الأحكام. قال ابن القيم: "إن مذهب أحمد أوسع من مذهب أبي حنيفة، ومذهب أحمد هو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصول أحمد، ونصوصه، وقواعد الشرع، وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل". قال الدكتور عبد العزيز عامر: "ومذهب أحمد هو أعدل المذاهب؛ بالنسبة لغير نفقة الأصول على فروعهم، والفروع على أصولهم؛ لأنه جعل مناطها الميراث، وهذا المعيار أولى إلى القبول، وأقرب إلى العدالة". وأجمع العلماء في الجملة على عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن؛ لأنها نفقة واجبة في حال الإعسار، واليسار؛ ولأنها معاوضة. قال ابن المنذر: "هذه نفقة وجبت بالكتاب، والسنة، والإجماع". واتفقوا أيضًا على: سقوط نفقة القريب بمضي الزمن، على اختلاف يسير بينهم في التفريعات، وحجتهم على سقوطها ما يأتي: أولاً: أن نفقة الأقارب تجب باعتبار الحاجة، وهي صلةٌ محضةٌ، فلا يتأكد وجوبها إلاَّ بالقبض، أو ما يقوم مقامه، ومادام الأمر كذلك، فإذا مضت المدة، ولم تقبض، فإنه بمضيّ المدة يحصل الاستغناء عن هذه النفقة، بالنسبة للمدة الماضية؛ لأن الحاجة قد اندفعت بمضيّها، فلا يكون لهذه النفقة محل، ولا موجب، فتسقط. ثانيًا: أن نفقة القريب مبنية على مجرد المواساة؛ لسد الخلة، وإحياء النفس، وهذا قد حصل فعلاً فيما مضى من المدة، بدون أن يدفع النفقة، فلا تبقى، وتسقط. أما الزوجة: فإن النفقة وجبت مقابل الاستمتاع بها، أو حبسها على عشرته؛ ولذا تجب مع اليسار والإعسار، وهي بذلك تَحْمِل معنى المعاوضة، وما دامت كذلك، فلا يؤثر فيها مضي الزمن.

أما اختلافهم: فإن أبا حنيفة: يرى أن عدم سقوط نفقة الزوجة بمضي الزمن هو إذا حكم بوجوبها حاكم؛ لأنها تفسير دَيْنًا بحكم القاضي فلا تسقط، أما بدون حكمٍ فإنها تسقط بمضي الزمن؛ كنفقة القريب. وذهب الشافعي إلى: أن نفقة القريب لا تسقط في حالات هي: 1 - أن يأذن لأحد في الإنفاق على قريبه، فإذا أذن، وتم الإنفاق فعلاً، وجبت على الإذن، فلا تسقط. 2 - أن تكون نفقة القريب بفرض حاكم شرعي، فحكم الحاكم يصيّر النفقة دَيْنًا في الذمة. والمذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، متقاربة في هذا التفصيل. قال شيخ الإسلام: "ما علمت أحدًا من العلماء قال: إن نفقة القريب تثبت في الذمة لما مضى من الزمان، إلاَّ إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم". ***

991 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكسْوَتُهُ، وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَل إِلاَّ مَا يُطِيقُ". رَوَا مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - طعامه وكسوته: يجوز أن تكون الإضافة فيهما إلى المفعول، ويجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل، وعليه ظاهر حديث أبي ذر: "من جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسلام أجاز الرق في حالة ما إذا تقاتل المسلمون مع الكفار المعاندين، واتَّخذ المسلمون منهم أسرى، وغنموا منهم نساءهم وأطفالهم، فالنساء والذرية بمجرد السبي أرقاء، أما الأسرى فيخيَّر الإمام بين: الرق، والمَنّ، والفداء، والقتل، بحسب المصلحة العامة. 2 - ما عدا ما ذكر من الطرق من اتخاذ الرقيق، فالإسلام لا يقره، ولا يعترف به، ويعتبر من استولى عليه بغير هذا الطريق ظلمًا واغتصابًا؛ لأنَّهم أحرار في حكم الإسلام، وقد جاء في الحديث القدسي: "أنا خصم من باع حرًّا، فأكل ثمنه". 3 - الإسلام لما اتخذ الرقيق بهذه الطريق المشروعة أكرمه، فأوجب نفقته وكسوته ومسكنه على مولاه، كما نهى أن يكلف من العمل ما لا يطيق، بل يعطى ما لايشق عليه، وهو مجمع عليه. ¬

_ (¬1) مسلم (1662).

4 - لو ذهبنا نبيّن كيف عامل الإسلام الرقيق المعاملة الحسنة، لطال بنا البحث، ولكن سيأتي طرف منه في (باب العتق)، إن شاء الله تعالى. 5 - الحديث دليلٌ على وجوب نفقة المملوك وكسوته، وقد جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فأطعموهم مما تأكلون، وألْبِسوهم مما تلبسون، ولا تكلِّفوهم ما يغالبهم؛ فإن كلفتموهم، فأَعينوهم". ***

992 - وَعَنْ حَكِيمِ بنِ مُعَاوِيَةَ القُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: "أنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ ... " الحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِرَقْمِ (883) (¬1). 993 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الحَجِّ بِطُولهِ، قَالَ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ: "وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - وجوب نفقة الزوجة وكسوتها على زوجها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. 2 - تقدم أنَّ نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار، وأنَّها لا تسقط بحال عند جمهور العلماء. 3 - وفي الحديث رقم (992) دليل على مشروعية مساواة الرجل زوجته بنفسه؛ فلا يستأثر عليها بشيء، وإنما تكون النفقة لها بحسب حاله من الغنى والفقر والسلطة. 4 - أما الحديث رقم (993): فيدل على أنَّ نفقة الزوجة إنما تكون بالمعروف، ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 447)، أبو داود (2142)، والنسائي في عشرة النساء (289)، وابن ماجه (1850). (¬2) مسلم (1218).

والمعروف معناه: العرف والعادة التي عليها الناس حسب زمانهم، ومكانهم، وحالهم. قال شيخ الإسلام: "الصواب المقطوع به عند جمهور العلماء: أنَّ نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرةً بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد، والأزمنة، وحال الزوجين؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". 5 - قال شارح الكتاب: قوله "المعروف" إعلام بأنَّه لا يجب إلاَّ ما تعورف عليه من إنفاق كلٍّ على قدر حاله؛ كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. قال ابن القيم: "وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم، وإنما تجب النفقة بالمعروف". 6 - قال أصحابنا: "ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها -كالزوجة، وأما المبانة بفسخ النكاح، فليس لها شيء من ذلك". قال الموفق: "بإجماع العلماء". وقال ابن القيم: "المطلقة المبانة لا نفقة لها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة الموافقة لكتاب الله تعالى، وهي مقتضى القياس، ومذهب أهل الحديث". 7 - قال أصحابنا: "وإن اختلف الزوجان في أخذ نفقة فقولها؛ لأنَّ الأصل عدم ذلك". وقال شيخ الإسلام: "القول قول من يشهد له العرف". وقال ابن القيم: "قول أهل المدينة أنَّه لا يقبل قول امرأة أنَّ زوجها لم ينفق عليها ويكسوها فيما مضى، وهو الصواب، لتكذيب القرائن الظاهرة لها، وهذا القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه".

994 - وَعَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَفَى بِالمَرْءِ إثْمًا أَن يُضَيعٍّ مَنْ يَقُوتُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: "أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية النسائي رواها أيضًا أبو داود (1692)، وفي سندها: وهب بن جابر. قال الذهبي: "لا يكاد يعرف". * مفردات الحديث: - كفى بالمرء: "كفى" فعل ماض، والباء زائدة، و"المرء" مفعول "كفى"، محله النصب، ولكن جر بالباء الزائدة. - إثمًا: منصوب على التمييز. - أن يضيعِّ: "أن" مصدرية، وهي وما دخلت عليه في تأويل مصدر، هو فاعلُ "كفى". - مَن يقوت: من: القوت، وجمعه: أقوات؛ وهو ما يقوم به بَدَنُ الإنسان من الطعام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه: وجوب النفقة على من استرعاه الله شيئًا ذا روح وكبد رطبة، من زوجة، وأولاد، وأقارب، وأرقَّاء، وحيوان. 2 - وفيه: تحريم منع أقوات هذه الرعية عنهم في غذائهم وطعامهم؛ فإنَّ الله تعالى قد ابتلاه واختبره بجعلهم تحت يده، وأجرى رزقهم على يديه. ¬

_ (¬1) النسائي في عشرة النساء (294)، مسلم (996).

3 - جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُذِّبَتِ امرأة في هرَّة حبَسَتْهَا حتى ماتَتْ جوعًا، فلا هي أطعمتها، ولا هيَ أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض". فدلَّ على وجوب النفقة على الحيوان والمملوك؛ لأنَّ السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرَّة بلا إنفاق عليها، وحبسها عن طلب القوت، وإذا كان ثابتًا في الهرَّة التي لا تُمْلَك، فثُبُوته في الحيوانات التي تُملك أولى؛ وهذا مذهب جمهور العلماء. 4 - ومن حديث صاحبة الهرة يعلم جواز اتخاذ طيور الزينة من النغري، والببغاء، ونحوهما في الأقفاص إذا كانت تُطْعَم وتسقى، ولا تعذب. 5 - سئل الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ عن جواز قتل الحيوانات التي لا يستفاد منها رحمة بها؛ لئلا تتعرَّض للأذية، وإراحتها من الأضرار التي قد تتعرَّض لها. فقال رحمه الله: "نخبركم بأنَّ قتل هذه الحيوانات المذكورة لا يحل شرعًا؛ لما صرَّح به الفقهاء، قال في الإقناع وشرحه: والواجب القيام بما يلزم لها من علف وغيره". ***

995 - وَعنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ فِي الحَامِلِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَالَ: "لاَ نَفَقَةَ لَهَا". أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. لَكِنْ قَالَ: "المَحْفُوظُ وَقْفُهُ (¬1) ". وَثَبَتَ نَفْيُ النَّفَقَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الزوجة إذا توفي عنها زوجها فلا نفقة، ولا سكنى لها من تَرِكَة زوجها، ولو كانت حاملاً. قال في الروض المربع: "لأنَّ المَال انتقل عن الزوج إلى الورثة، ولا حقَّ لها على الورثة، فإن كانت حاملاً، فالنفقة لها من حصة الحمل من التركة، إن كانت له تركة، وإن لم يكن له تركة، فنفقتها على وارث الجنين الموسر، وإلى هذا ذهبت الشافعية، والحنابلة، وغيرهم. وقالوا: لأنَّ الأصل براءة الذمة من النفقة، وأما وجوب التربص أربعة أشهر وعشرًا، فلا يوجب النفقة". 2 - هذا الحكم يكون عند المشاحة، وإلاَّ فالمصاهرة والقرابة تدعو المؤمنين إلى التسامح في مثل هذه الأمور. والله تبارك وتعالا يقول: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وقال تعالى في الوصية بزوجة المتوفى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]. ¬

_ (¬1) البيهقي (7/ 431). (¬2) مسلم (1480).

996 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَيَبْدأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، تَقُولُ المَرْأةُ: أَطْعِمْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وإسْنَادُهُ حَسَنٌ (¬1). 997 - وَعَنْ سَعِيدٍ بنِ المُسَيَّبِ -فِي الرَّجُلِ لاَ يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ- قَالَ: "يُفَرَّقُ بينهُمَا". أَخْرَجَهُ سَعيِدُ بنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: حديث أبي هريرة: رواه الدارقطني، من حديث حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال الحافظ: إسناده حسن، لكن قوله: "تقُولُ المرأة: أطعمني، أو طلقني" -موقوف على أبي هريرة، ورفعه خطأ؛ كما بينت ذلك رواية البخاري (5355). وأما حديث سعيد بن المسيب: فحديث مرسل صحيح. قال المؤلف: هذا مرسل قوي؛ فمراسيل سعيد بن المسيب معمول بها؛ لما عرف من أنَّه لا يرسل إلاَّ عن ثقة، قال الشافعي: والذي يشبه أن يكون قول سعيد: "سُنة": سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) الدراقطني (3/ 297). (¬2) سعيد بن منصور (2/ 55).

988 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّهُ كَتَبَ إلى أُمَرَاءِ الأَجْنادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عنْ نِسَائِهِمْ: أَن يأْخُذُوهُم بِأَنْ يُنْفِقُوا، أوْ يُطَلِّقُوا، فَإنْ طَلَّقُوا، بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَما حَبَسُوا". أَخرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث إسناده حسن. قال في "التلخيص": رواه الشافعي، عن مسلم بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، ورواه ابن المنذر من طريق عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر به، وذكره أبو حاتم عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله به". قال المؤلف: "أخرجه الشافعي، والبيهقي بإسنادٍ حسن". وقال ابن المنذر: "ثبت ذلك عن عمر، ولذا احتج به أحمد". * مفردات الحديث: - أُمراء: أي: قُواد الجيش. - الأَجْنَاد: جمع جند، وهم الجيش. - ما حبسوا: "ما" هنا مصدرية ظرفية؛ بمعنى: مدة حبسهم. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديث رقم (996) يدل على فضل الصدقة وفضل التصدق، وأنَّ يد المعطي هي العليا على يد الآخذ حسًّا ومعنًى. ويدل على خيرية هذه اليد، وصاحبها؛ وذلك بما أنفق من ماله، وبذل ¬

_ (¬1) الشافعي (2/ 65)، البيهقي (7/ 469).

من إحسانه. 2 - ويدل على أنَّ الواجب على المُنفِق أن يبدأ بنفقات من يعول، فلا يذهب ليتصدق على البعيدين، ويترك الأقربين، ممن يعولهم وينفق عليهم. 3 - ويدل على أنَّ نفقة الزوجة هي أوجب نفقة تجب عليه بعد النفقة على نفس؛ ذلك أنَّ الزوجة حبيسة عنده؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "هنَّ عَوان عندكم"؛ أي: أسيرات. 4 - ويدل على أنَّ الذي يعسر بنفقة زوجته، عليه أن يفارقها بطلاق أو خلع أو فسخ، وذلك راجع إلى رغبتها وطلبها. قال في "الروض المربع": وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت، أو أعسر بالكسوة، أو ببعض النفقة والكسوة أو السكن، فلها فسخ النكاح من زوجها المعسر". 5 - ويؤيد هذا: أثر سعيد بن المسيب رقم (997) في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله؛ بأنه يفرق بينهما، كما يؤيد أثر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رقم (998) من كتابته إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم؛ أن يأخذوهم بأن ينفِقوا، أو يطلِّقوا، فإن طلَّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. فهذان الأثران يدلان على أنَّ المرأة إذا أعسر زوجها بالنفقة، فلها أن تفسخ نكاحها منه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل للمرأة فسخ نكاحها إذا أعسر زوجها بالنفقة، أم لا؟ ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، إلى: أنَّه يفرق بينهما بطلبها، ويروى عن: عمر، وعلي، وأبي هريرة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة الرأي، وحماد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق، وأبي عبيد.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وليس الإمساك مع عدم النفقة إمساكًا بمعروف. قال ابن المنذر: "ثبت أنَّ عمر كتب إلى أفراد الأجناد أن ينفقوا أو يطلقوا؛ فمتا ثبت إعساره بالنفقة، فللمرأة الفسخ من غير إنظار". وذهب الإمام أبو حنيفة: إلى: أنَّه لا يثبت لها فسخ النكاح مع الإعسار بالنفقة، وإنما يؤمر بالاستدانة، وتؤمر المرأة بالصبر، والنفقة تبقى فى ذمة الزوج، ولا فسخ. وذهب إلى هذا القول عطاء، والزهري، وابن شبرمة، وصاحبا أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح الرواية الأخرى عن أحمد؛ أنَّ المرأة لا تملك الفسخ لعسرة زوجها؛ لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]، فلم يجعل لزوجة المعسِر الفسخ، وأيضًا لم يثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- جواز الفسخ لإعساره، والله أعلم". ***

999 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي دِيْنارٌ؟ قَالَ: "أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلى وَلَدِكَ" قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى أهْلِكَ". قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْفِقْهُ عَلَى خَادمِكَ". قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: "أنْتَ أَعْلَمُ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلى الوَلَدِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه الشافعي، وأحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة. وقَالَ الحَاكِمُ: إِنَّه على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وصححه ابن حبان". قال ابن حزم: "اختلف ابن القطان، والثوري؛ فقدَّم ابن القطان الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة". قال الحافظ: "جاء في صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الأهل على الولد من غير تردد، فيمكن أن يرجح به إحدى الروايتين". * مفردات الحديث: - السائل: أراد بسؤاله الصدقة بالدنانير، فحمله -صلى الله عليه وسلم- على ما هو أهم وأولى، وهو الإنفاق، جريًا على أسلوبه الحكيم. - أنت أعلم: أي: بحال من يستحق الصدقة؛ فتحرَّ في ذلك، واجتهد. ¬

_ (¬1) الشافعي (2/ 63)، أبو داود (1691)، النسائي (5/ 62)، الحاكم (1/ 415).

1000 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: "أُمَّكَ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ": قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أبَاكَ، ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِيُّ، وَحسَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. رواه أبو داود والترمذي والبخاري في "الأدب المفرد" والحاكم والبيهقي وقال الترمذي: "حديث حسن" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذَّهبي. وله شاهد من حديث المقدام، أخرجه البيهقي بإسناد حسن. * مفردات الحديث: - أبرّ: يقال: برّ والديه يبرّهما برًّا: أحسن إليهما، ووصلهما. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان فيهما دليل على وجوب النفقة على القريب من أصول وفروع، وعلى وجوب النفقة على الزوجة، وعلى وجوب النفقة على الخادم والمملوك. 2 - وفي الحديثين دليل على أنَّه إذا كان عنده من النفقة ما يكفيه، ويكفي مَن يمونه، فعليه أن ينفق على الجميع على حسب حاله، وأما إذا لم يكن عنده ما يكفي الجميع، فليبدأ بالأهم. 3 - أول شيء يبدأ به: النفس، ثم الزوجة؛ لأنَّ نفقتها معاوَضة. 4 - بعد الزوجة المملوك؛ لأنَّ نفقته كالزوجة تجب مع اليسار والإعسار، فيؤمر ¬

_ (¬1) أبو داود (5139)، الترمذي (1897).

بالنفقة عليه، أو بيعه. 5 - ثم تأتي الأم؛ لأنَّ مشقتها في الأولاد أعظم من الأب؛ من الحمل، والولادة، والرضاعة، والحضانة، وغير ذلك من شؤون الأطفال، وإصلاحهم، ثم يأتي بعدها الأب؛ لأبوته، وعظم حقه. 6 - ثم تأتي نفقة الأقارب، فيقدم منهم الأهم على حسب الميراث، هذا عند قصر النفقة، وعدم كفايتها؛ كصاحب الدينار في هذا الحديث، أما مع الغنى فيقوم بكفاية الجميع، ويحتسب المنفِق أجر النفقة من الله تعالى؛ ليحصل له خير الدنيا والآخرة، فالدنيا بالزيادة، والنماء، والمحبة، والمودة، والدعاء، وفي الآخرة الثواب العظيم، والأجر الجزيل، وهذا مشروط به الإخلاصُ لوجه الله، والبعد عن المَنّ، وعن الرياء. 7 - وفي الحديث تقديم الأم بالبر على الأب، ومن باب أولى على غيره؛ ذلك أنَّها عانت من متاعب الجنين، ثم الطفل ما لا يعانيه غيرها. 8 - وفي الحديثين دليل على أنَّ النفقة على النفس، وعلى الأقارب -إحسان، وبرٌّ، متعدٍّ نفعه وخيره إلى الغير، وأنَّها مع الاحتساب تدخل في العبادات الجليلة، والقُرَب العظيمة. فقد جاء في الصحيحين، من حديث أبي مسعود البدري، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أنفق الرَّجل على أهله نفقة يحتسبها، فهي له صدقة". وجاء في الصحيحين -أيضًا- من حديث أم سلمة قالت: قلتُ: يا رسول الله، هل لي في بني أبي سلمة أجر إن أنفق عليهم، ولست بتاركتهم، إنَّما هم بني؟ فقال: "نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم". والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والمدار على النية الصالحة، والقصد الحسن الذي تنقلب به العادة عبادة يثاب عليها صاحبها، والله المستعان.

باب الحضانة

باب الحَضَانَةِ مقدمة الحضانة: بفتح الحاء وكسرها، مصدر: حضنت الصبي حَضْنًا، بفتح الحاء وحَضَانة: جعله في حِضْنه بكسر الحاء؛ فالحضانة: تحمُّل مؤنة المحضون وتربيته. وهي مأخوذة من: الحِضْن وهو الجَنْبُ؛ لأنَّ المربي يضم الطفل إلى حضنه. وشرعًا: حفظ من لا يستقل بأمره عما يضره، بتربيته وعمل ما يصلحه. قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]؛ أي: جعله الله تعالى كافلاً لها، وملتزمًا بمصالحها، فكانت في حضانته، وتحت رعايته. وجاء في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال للأم: "أنت أحق به ما لم تَنْكِحي". وقال أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- يخاطب والد الابن المحضون: "ريحها -أي: الأم- ومسها خير له من الشُّهد عندك". وقال ابن عباس: "ريح الأم، وفراشها، وحِجْرها خير له من الأب، حتى يشب، ويختار لنفسه".

قال الوزير: "اتَّفقوا على أنَّ الحضانة للأم ما لم تتزوج". واتَّفقوا: على أنَّها إذا تزوجت، ودخل بها زوجها -سقطت حضانتها، وأنَّها إذا طُلِّقَتْ بائنًا تعود حضانتها. قال شيخ الإسلام: "الأم أصلح من الأب؛ لأنَّها أرفق بالصغير، وأعرف بتربيته، وحمله، وتنويمه، وأصبر عليه، وأرحم به، فهي أقدر، وأرحم، وأصبر في هذا الوضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز في الشرع". وقال أيضًا: "جنس النساء مقدَّم في الحضانة على جنس الرجال، كما قدمت الأم على الأب، فتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته علما أخواله -هو القياس الصحيح". وقال أيضًا: "ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ الشارع ليس له نصٌّ عامٌّ في تقديم أحد الأبوين، ولا تخيير الأبوين. والعلماء متَّفقون على أنَّه لا يتعيَّن أحدهما مطلقًا، إنما نقدمه إذا حصل به مصلحة الحضانة، واندفعت مفسدتها، وأما مع وجود فساد أحدهما، فالآخر أولى بلا ريب". قال محرره: "والحق أنَّ الحضانة ولاية من الولايات، لا يليها إلاَّ الأصلح فيها، والصلاح يعود إلى القيام بشؤون المحضون. فالشرع لا يقصد من تقديم أحد على أحد مجرد القرابة، وإنما يقدِّم مَن هو الأولى فيها، والأقدر عليها، والأصلح لها، وهذا مراد العلماء مهما اختلفت عبارتهم، وترتيبهم. والله أعلم". ***

1001 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ امْرَاةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأرَادَ انْ يَنْتزِعَهُ مِنَّي. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْتِ أَحَقُّ بهِ مَا لَمْ تَنكِحِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، وأحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه. قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذَّهبي. والحديث حسن فقط، ولم يصل إلى درجة الصحة؛ للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. * مفردات الحديث: - وِعاء: بكسر الواو والمد، هو الظرف يَجْمع الشيء ويضمه. - ثَدي: الثدي: هو نتوء في صدر الرجل والمرأة، وهو في المرأة مجتمع اللبن؛ كالضرع لذوات الظلف والخف، يذكَّر ويؤنَّث، جمعه: أثدٍ، وثُدي. - سِقَاء: بكسر السين، بوزن كِساء، هو وعاء من جلد يكون للماء واللبن، جمعه: أَسْقِية. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 182)، أبو داود (2276)، الحاكم (2/ 207).

- حِجري: بفتح الحاء وكسرها، يسمى به الثوب، والحضن، أما المصدر فبالفتح لا غير، والمراد هنا هو: حضن الإنسان. - حِوَاء: بكسر الحاء المهملة، بزنة كِساء: اسم المكان الذي يحوي الشيء؛ أي: يضمه ويجمعه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الأم أحق بحضانة الطفل من الأب، ما دام في طور الحضانة، ما لم تتزوج؛ وهذا حكم مجمع عليه بين العلماء. 2 - ويدل على أنَّ الأم إذا تزوَّجت، ودخل بها الزوج الثاني، سقطت حضانتها، لأنَّها أصبحت مشغولة عن الولد بمعاشرة زوجها، فهو أحق من غيره بالتفرغ له؛ وهو مجمَع عليه. 3 - هذا التفصيل من الشارع الحكيم راعى فيه حق الطفل، وحق الزوج الجديد، فالأم قبل الزول متفرغة للطفل، وإصلاح شؤونه، فحقه عليها باقٍ، أما بعد الزواج فإنَّها ستهمل أحد الحقين: إما حق زوجها، وهو آكدهما، وإما أن تعنى بزوجها، فتهمل الطفل الذي يحتاج إلى العناية الدائمة. 4 - تقديمُ الأم على الأب في الحضانة -ما دامت متفرغة- في غاية الحكمة والمصلحة، ذلك أنَّ معرفة الأم، وخبرتها، وصبرها على الأطفال -شيء لا يلحقه أحد من أقارب الطفل، الذين أولاهم الأب. 5 - مِن لُطْف الله تعالى بخلقه عنايته بالمستضعفين منهم، ممن ليس لهم حول، ولا طول، فهو يوصي بهم، ويُعنى بهم العناية التي تعوضهم الأمر الذي لم يصلوا إليه من العناية بأنفسهم، وهم في حالة الضعف. 6 - ما ذكرته المرأة المشتكية من مبررات تقديمها في الحضانة هو الذي أهَّلها، لأن تكون أحق بحضانة الطفل من أبيه، فبطنها وعاؤه حينما كان جنينًا،

وثديها سقاؤه بعد أن وُلِد، وحِجْرها هو المكان اللين الوثير الذي يحويه، وقد أقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة على ما وصفته من نفسها؛ لاستحقاقها الحضانة. قال ابن القيم في "الهدي": وفي هذا دليل على اعتبار المعاني، والعِلل في الأحكام، وإناطتها بها، وأنَّ ذلك أمر مستقر في الفطرة السليمة". وقال الشوكاني: "في الحديث دليل على أنَّ الأم أولى بالولد من الأب، ما لم يحصل مانع من ذلك، كالنكاح، وحكا ابن المنذر الإجماع عليه". فوائد: الأولى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح أنَّه إذا رضي الزوج بحضانة ولد الزوج الأول أن الحضانة لا تسقط، فهي باقية؛ وهذا قياس المذهب في جميع الحقوق". الثانية: قال شيخ الإسلام: "إذا أخذت الأم الولد على أن تنفق عليه، ولا ترجع على أبيه بما أنفقته مدة الحضانة، ثم أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل، فللأب أن يأخذ الولد منها". قال في شرح الإقناع: "ومن أسقط حقه من الحضانة، سقط لإعراضه عنه، وله العود في حقه متى شاء؛ لأنَّه يتجدد بتجدد الزمان؛ كالنفقة". الثالثة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الصحيح الذي ذكره الفقهاء فيما إذا كان يحقق مصلحة الطفل، فإن لم يحقق كان الواجب اتباع مصلحة الطفل، ويدل على هذا أنَّ الباب كله مقصود به القيام بمصالح المحضون، ودفع المضار عنه، فمن تحققت فيه فهو أولى من غيره، وإن كان أبعد ممن لا يقوم بواجب الحضانة". ***

1002 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ امرْاةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي يُرِيْدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي، وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أبِي عِنبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا غُلاَمُ هَذَا أبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ"، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الشافعي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان من طرق عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد عن هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة به. وتابعه ابن جريج فقال: أخبرني زياد عن هلال بن أسامة؛ أنَّ أبا ميمونة قال، وساق الحديث، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي ميمونة وصحَّحه ابن القطان قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذَّهبي وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح، وإسناده صحيح رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - بئر: بكسر الباء والهمز، يؤنث، ويجوز إبدال الهمزة ياءً، وله جمعا قلة: آبار على وزن أفعال، والثاني: أبْؤُر مثل أفلس؛ وهي القليب، مطوية أو غير مطوية. - أبي عِنَبَة: بكسر العين، وفتح النون، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم تاء التأنيث المربوطة -واحدة: العنب. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 246)، أبو داود (2277)، الترمذي (1357)، النسائي (6/ 185)، ابن ماجه (2351).

1003 - وَعنْ رَافِع بْنِ سِنَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَاتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَقعَدَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأُمَّ نَاحِيَةً، والأَبَ نَاحيَةً، وَأقْعَدَ الصَّبِيَّ بَيْنَهُمَا، فَمَالَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِهِ"، فَمَالَ إِلَى أبِيهِ، فَأَخَذَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُادَ، والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": "رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، من حديث رافع بن سنان، وفي سنده اختلافٌ كثير، وألفاظٌ مختلفة". قال ابن المنذر: "لا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال". وقد صححه الحاكم، وابن القطان من رواية عبد الحميد بن جعفر، ورواته ثقات. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم أنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ الحضانة للأم ما لم تتزوَّج، فهي مقدمة على الأب؛ لما لَها من حسن الرعاية بالطفل، والصيانة، والخِبرة، والصبر، والاحتمال. 2 - إذا بلغ الطفل سن التمييز، وصار يستغني بنفسه في كثير من الأمور -فحينئذٍ يستوي حق الأم والأب في حضانته؛ فيخير بين أبيه وأمه، فأيُهما ذهب إليه أخذه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2244)، النسائي (6/ 185)، الحاكم (2/ 206).

3 - للعلماء خلاف في أصل التخيير، وفي سن التخيير، سيأتي إن شاء الله تعالى. 4 - أما الحديث رقم (1003): فيفيد جواز التخيير، ولو كان أحد الأبوين كافرًا، والصبي مسلمًا، أو محكومًا بإسلإمه، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. 5 - أنَّ الصبِيَّ المميز له إرادة معتبرة باختيار أحد أبويه دون الآخر، لكن قال ابن القيم: "التخيير لا يكون إلاَّ إذا حصلت به مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب، وأغير منه، قدِّمت عليه، ولا التفات إلى اختيار الصبي في هلذه الحالة؛ فإنَّه ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك، فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له منهما، ولا تحتمل الشريعة غير هذا". * خلاف العلماء: الصبي قبل سن التمييز عند أمه بإجماع العلماء، ما لم تتزوج، فإذا بلغ سن التمييز، واستقلَّ ببعض شئونه -فقد اختلف في حاله: فذهب بعضهم إلى: أنَّ الصبيَّ يخير بين أبويه، فيذهب مع من يختار منهما؛ وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما. وذهبت الحنفية إلى: عدم التخيير، وقالوا: "إذا استغنى الطفل بنفسه، فالأب أولى بالصبي، والأم أولى بالأنثى، ولا تخيير في ذلك". وذهب مالك إلى: عدم التخيير أيضًا، إلاَّ أنَّه قال: "الأم أحق بالولد؛ ذكرًا كان أو أنثى"، واستدل الإمام مالك بقوله: "أنتِ أحق به ما لم تنكحي". وأجاب المخيِّرون بأنَّ؛ الحديث عام في الزمان، وحديث التخيير يخصصه، أو يقيده؛ وهو جمع بين الدليلين، ولكن يقيَّد هذا التخيير أو عدمه بكلام ابن القيم السابق؛ فإنَّ الحضانة ولاية يقصد بها تربية الطفل، والقيام بمصالحه، ولعلَّ كلام ابن القيم هو مراد كل من أطلق من العلماء؛ فإنَّهم

-رحمهم الله تعالى- لم يقصدوا من الحضانة، إلاَّ بيان مصالح الطفل، ومن الأولى القيام بشؤونه وأحواله في هذه السن المبكرة من عمره. واختلفوا في أحقية غير المسلم بحضانة المسلم: فذهب الحنفية إلى: أنَّ الذمية أحق بحضانة ولدها المسلم، ما لم يعقل دينًا، وعللوا ذلك: بأنَّ الحضانة مبنية على الشفقة، والأم مسلمة، أو ذمية أتم شفقة على طفلها من غيره، ولا يرفع هذه الشفقة اختلافها معه في الدين. أما إذا عقل الصغير الأديان، فإنه يُنزَع منها؛ لاحتمال حدوث الضرر. وذهب المالكية أيضًا إلى: أنَّ اتحاد الدين بين الحاضن والمحضون، ليس بشرط في الحاضنة، فلا ينزع من حاضنته الذمية، ولو خيف أن تطعمه لم خنزير، أو تسقيه الخمر، ومع الخوف من هذا، فإنَّ الحاضنة تُضَم إلىا أناس من المسلمين، أو إلى مسلم يراقبها في الولد، لنجمع بين المصلحتين: حضانة الأم الشفيقة، ومراقبة دينه. واستدلوا على هذا بحديث الباب؛ فإنَّ أم الطفل لم تُسلم. وذهب الشافعية، والحنابلة، رواية قوية للإمام مالك إلى: أنَّ اختلاف الدين مانع من الحضانة، فلا حضانة لكافر على مسلم، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء]. واستدلوا بحديث الباب؛ وذلك أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دعا للصبي بالهداية، فمال إلى أبيه المسلم، وهذا يفيد أنَّ كونه مع الكافر خلاف هدي الله تعالى. وعلَّلوا لذلك: بأنَّ الغرض من الحضانة هي تربيته، ودفع الضرر عنه، وأنَّ أعظم تربيةٍ هي المحافظة على دينه، وأهم دفاع عنه هو إبعاد الكفر عنه. وإذا كان في حضانة الكافر، فإنَّه يفتنه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحفظ الولد، فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه، وهلاك دينه.

* فوائد: الأولى: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالرجل راعٍ في بيته، ومسؤل عن رعيته" وحضانة الطفل لم تشرع إلاَّ من أجل تربيته الطفل، وحفظه عما يضره، وأعظم ضرر يلحقه هو ذهاب دينه وخلقه، وإذا كان المحققون من العلماء لم يجعلوا للأم الشفيقة حظًّا من الحضانة إذا كانت كافرة، وإذا جعل بعضهم لها حظًّا، فهي تحت المراقبة؛ إذا علمتَ هذا علمت كيف تساهل المسلمون بأطفالهم، حينما جعلوهم في حضانة الشغالات، اللاتي يجلبونهنَّ من خارج البلاد، بعضهنَّ غير مسلمات، والمسلمات منهن إنَّما هو إسلام بالاسم، فينشأ هؤلاء الأطفال الأبرياء، الذي يَقْبلون كل ما يلقى عليهم، ويحتذون بكل ما يفعل أمامهم، وأعظم من ذلك الذين يدخلون أطفالهم في دور الحضانة، ورياض الأطفال، التي يشرف عليها نصارى أو ملاحدة، إنَّهم بهذا يجنون على أطفالهم جناية كبرى، وإنَّ الله تعالى سيسألهم عن هذا الإهمال، وهذا التفريط في أولادهم. الثانية: قال الشيخ تقي الدين: "كل من قدمناه في الحضانة من الأبوين، إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فسادها مع أحدهما، فالآخر أولا بها بلا ريب". وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "والصحيح في مسألة الحضانة أنَّ الترتيب الذي ذكره الفقهاء فيها، إذا كان يحقق مصلحة الطفل، فإن لم يحققها، كان الواجب اتباع مصلحة الطفل، ويدل على هذا الباب كله مقصود القيام بمصالح المحضون، ودفع مضاره ممن تحققت فيه، فهو أولى من غيره، وإن

كان أبعد ممن لا يقوم بالواجب". الثالثة: الحضانة للمقيم من الأبوين، فإذا كان الأب في بلد، والأم في بلد، فالحضانة تكون للأب، خشية أن يضيع نسب الطفل ببُعده عن والده. قال ابن القيم: "لكن لو أراد الأب الإضرار، فاحتال على إسقاط حضانة الأم، فسافر، ليتبعه الولد، فهذه حيلة مناقضة لما قصده الشارع، فلا يجوز هذا التحايل على التفريق بينها وبين ولدها، تفريقًا تعز معه رؤيته، ولقاؤه، ويعز عليها الصبر عنه وفقده، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". قال في "المبدع": وهو مراد الأصحاب". وقال في "الإنصاف": سورة المضارة لا شكَّ فيها، وأنه لا يوافق على ذلك". ***

1004 - وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الخَالَةُ بِمَنزِلَةِ الأُمِّ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). وَأَخْرَجَهُ أَحمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "وَالجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الخَالَةَ وَالِدَةٌ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فإنَّ الخالة والدة: أي: بمنزلة الوالدة بالحنو والشفقة، وهذه الخالة هي: أسماء بنت عُميس، والبنت المذكورة اسمها: عمارة، وقيل: أمامة، وتكنى أم الفضل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ إجماع العلماء تقديم الأم في حضانة الطفل، فإذا فُقدت الأم، فإنَّ الخالة بمنزلة الأم؛ لأنَّها تحسُّ نحو أولاد أختها قريبًا مما تحسه الأم، فعاطفة الأمومة موجودة في الخالة، وتشعر بأنَّ البر والإحسان بأولاد أختها هو بر بأختها، فيزداد عطفها ورعايتها، وهذا شيء معهود ومعلوم. 2 - يدل الحديث على أنَّ الأم إذا ماتت، أو فقدت أهلية الحضانة -فالخالة تحل محلها؛ فتكون هي المستحقة للحضانة، وتكون مقدَّمة على الأب فيها. 3 - وتمام هذا الحديث: أنَّ علي بن أبي طالب، وأخاه جعفرًا، وزيد بن حارثة -اختصموا في حضانة بنت حمزة بن عبدالمطلب؛ أيهم يكفلها؟ ¬

_ (¬1) البخاري (2699). (¬2) أحمد (770).

فقال علي: هي ابنة عمي، وقال زيد: بنت أخي بالمؤاخاة الإسلامية، وقال جعفر: هي ابنة عمي، وخالتها تحتي، فقضى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، فأخذها جعفر. 4 - وفيه أنَّ العصبة من الرجال لهم أصل في الحضانة، ما لم يوجد من هو أحق منهم؛ حيث أقرَّ -صلى الله عليه وسلم- كلاًّ من علي، وجعفر على دعواه. 5 - أنَّ الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد؛ فإنَّه لم يعطها الخالة في هذه القصة، إلاَّ لأنَّها بمنزلة الأم. 6 - أنَّ الخالة تلي الأم في الحضانة، فهي بمنزلتها في الحنو والشفقة. 7 - أنَّ الأصل في الحضانة هو طلب الشفقة والرحمة لهذا العاجز القاصر، وهذا من رحمة الله تعالى، ورأفته بالعاجزين والضعفاء؛ إذ هيَّأ لهم القلوب الرحيمة. 8 - أنَّ الأم لا تَسْقُطُ حضانتها إذا رضي زوجها بقيامها بها؛ لأنَّها لم تسقط عنها إلاَّ لأجل التفرغ لحقوق الزوج، فإذا رضي بقيامها بالحضانة، فهي باقية على حقها. وبهذا يحصل التوفيق بين قضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحضانة لزوجة جعفر، وهي في عصمته، وبين قوله للمرأة المطلقة: "أنتِ أَحق به ما لم تنكحي". [رواه أحمد وأبو داود]، كما أنَّ قُرب الزوج أو بعده عن المحضونة الأنثى له دخل في الموضوع، وهذا اختيار ابن القيم، والمشهور في مذهب الإمام أحمد، والله أعلم. * فوائد: الأولى: قال فقهاء الحنابلة: "إذا أتمت البنت سبع سنين، صارت حضانتها لأبيها، حتى يتسلمها زوجها؛ لأنَّه أحفظ لها، فإن كان الأب عاجزًا عن حفظها، أو يهملها لاشتغاله عنها، أو قلَّة دينه، والأم قائمة بحفظها قدِّمت".

الثانية: قال الشيخ تقي الدين: "إذا قدر أنَّ الأب تزوَّج بضرَّة، وتركها عند هذه الضرَّة لا تعمل لمصلحتها، بل ربما تؤذيها وتقصر في مصالحها، وأمها تعمل لمصلحتها ولا تؤذيها -فالحضانة للأم قطعًا؛ نظرًا لمصلحة المحضون؛ إذ هو المقصود من الحضانة". الثالثة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "المشهور من المذهب: أنَّ حضانة البنت بعد تمام سبع سنين لأبيها، والرواية الثانية: أنَّها لأمها. وهذان القولان مع قيام كل منهما بما يجب ويلزم، فأما إذا أهمل أحدهما ما يجب عليه، فإنَّ ولايته تسقط، ويتعيَّن الآخر". ***

1005 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ، بِطَعامهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُناَوِلْهُ لُقمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خَادِمُه: من يقوم بحاجته، جمعه: خَدَمٌ، وخُدَّام، والمرأة خادمة. - لُقْمَة: بضم اللام، بعدها قاف مثناة ساكنة، واحدة اللُّقَم، واللقم: هي ما يهيئه الإنسان من الطعام للالتقام. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5460)، مسلم (1663).

1006 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هرَّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتِ النَّارَ فِيهَا، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأُكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - في هرَّة: "في" للسببيَّة؛ أي: لأجل هرَّة. - هرَّة: هي الأنثى من القطط، والذكر: هر، جمعه: هرر. - سَجَنتَهَا: حبستها، وربطتها. - خشَاش: بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها -ثم شينين معجمتين، بينهما ألف، واحدها: خَشَاشة؛ وهي حشرات الأرض، وهوامها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - من هدي الإسلام المساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، والخامل والشريف؛ فلا طبقية ولا عنصرية، وإنما المؤمنون إخوة. 2 - لذا فإنَّ الإسلام يحث على الصفات والأعمال، التي تدعم هذه المعاني السامية؛ ليصبح المجتمع الإسلامي أمة واحدة، أما الأعمال والمواهب فكل ميسَّر لما خُلقَ له، وصاحب العمل البسيط إذا أداه، فهو كصاحب العمل الكبير، فكل منهما يكمل الآخر. 3 - الأفضل لصاحب البيت أن يؤاكل خدمه، ومماليكه، وضيوفه الصغار، ولا يترفَّع، ولا يتكبَّر عن مؤاكلتهم ومؤانستهم، وأن يكون ذلك باحتشام. ¬

_ (¬1) البخاري (3482)، مسلم (2242).

4 - يدل الحديث على جواز اقتناء الحيوان الأليف؛ كالقط؛ لأكل حشرات الأرض، وخشاشها واقتناصها. 5 - ومثله اقتناء الطيور كالببغاء والنغري في الأقفاص، إذا أطعمت وسقيت، ولم ينلها أذًى؛ فإنَّ اقتناءها جائز. 6 - فيه الإثم العظيم على مقتني الحيوان، وحابسه بلا طعام، ولا شراب؛ حتى يموت، أو يتعذَّب عنده من الجوع والعطش، وأنَّه سببب دخول النار، فهو من كبائر الذنوب. 7 - وفيه جواز اقتناء الهر ونحوه؛ لأكل خشاش البيت من الصراصير، والفئران، والهوام؛ ونحو ذلك. 8 - وإذا كان هذا الوعيد في البهائم، فكيف يكون الإثم بالإنسان المعصوم؛ ممن ولاَّهم الله إيَّاهم: من زوجةٍ، وولدٍ، وخادمٍ، وغيرهم؟! 9 - قال في "الروض": ويجب على صاحب البهائم علفها وسقيها وما يصلحها، وألاَّ يحملها ما تعجز عنه، فإن عجز عن نفقتها، أجبر على بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها إن أكلت؛ لأنَّ بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم لها". وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: "صرَّح العلماء بأنَّ صاحب البهيمة يلزمه إطعامها، ولو عطبت، فإن عجز ألزم بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها، إن كانت مما يؤكل لحمه، ولا يجوز قتلها؛ لإراحتها من مرض ونحوه". ***

كتاب الجنايات

كِتَابُ الجِنَايَاتِ مقدِّمة الجنايات: واحدها: جناية، وهي مصدر: جنى يجني جِنَاية، وهي في الأصل من: جنى الثمرة من شجرتها، فهو عام، إلاَّ أنَّه خصَّ بما يحرم من فعل، ومنه: جنى الذَّنْبَ يجنيه جناية: إذا فعل مكروهًا. وهو لغة: التَّعدي على بدنٍ، أو مالٍ، أو عرض. واصطلاحًا: التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا، أو مالاً. وتحريم الجنايات ثابت: بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فأما الكتاب: فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]. وأما السنة: فمثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لايحل دم امرىء مسلم ... " الحديث. وأما الإجماع: فقد حكاه غير واحد من العلماء، وهو مما عُلم من الدين بالضرورة، ويقتضيه القياس، ولولا حكم القصاص، ولولا عقوبة الجناة المفسدين، لأهلك الناسُ بعضهم بعضًا، ولفسد نظام العالم؛ إذ لابد من عقاب يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً وعِظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله.

قال الأستاذ عفيف طبارة: "تعتبر جريمة القتل العمد من أخطر الجرائم، وأشدها إخلالاً بالأمن، ولذا كانت عقوبتها في كل القوانين والشرائع من أقسى العقوبات، فجاء الإسلام بشريعة العدل في عقوبة القتل؛ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ...} [البقرة: 178]. فحكمة القصاص متجلية في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. قال الشوكاني: "لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم -حياة". ولذا نجد كثرة الجرائم، والقتل عند الأمم التي عدلت عن منهج الله تعالى، وحكمت بالقوانين الوضعية، فلم تجازِ الجاني بما يستحق، بل حكمت عليه بمجرد السجن، تمدُّنًا ورحمةً بِهِ، ولم ترحم المقتول الذي فقد حياته، ولم ترحم أهله وأولاده الذين فقدوا عمدتهم، ولم ترحم الإنسانية التي أصبحت خائفة غير آمنة على دمائها من هؤلاء الفتاكين المجرمين؛ لم يفكِّروا في هذه العواقب والمصائب التي حلَّت بهم؛ لأنَّهم ليسوا من أولي الألباب. ***

1007 - عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِيءٍ مُسلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، والنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُسلم: صفة مقيِّدةٌ لـ"امريءٍ". - يشهد: مع ما هو متعلق به صفة ثانية، لـ"امرىءٍ"، جاءت للتوضيح والبيان؛ ليعلم أنَّ المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، وأنَّ الإتيان بهما كان للعصمة. - بإحدى ثلاث: أي: إحدى خصال ثلاث. - الثيِّب: قال في "النهاية": الثيب من ليس ببكر، ويقع على الذكر والأنثى؛ يقال: رجل ثيب، وامرأة ثيب، وأصل الكلمة الواو؛ لأنَّه من: ثاب يثوب". - النفس بالنفس: أي: تقتل النفس بالنفس، التي قتلت عمدًا بغير حق، بمقابلة النفس المقتولة. - التارك لدينه: هو المرتد عن الإسلام. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6878)، مسلم (1676).

1008 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهْا- عَنِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلاَّ في إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا، فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلاَمِ، فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الأَرْضِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. هذا الحديث له ثلاث طرق عن عائشة -رضي الله عنها-: الأولى: أخرجها أحمد، ومسلم، والدارقطني. الثانية: أخرجها أحمد، والنسائي، وابن أبي شيبة، والطيالسي، ورجال سندها ثقات. الثالثة: أخرجها أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، كما صحَّحه الحافظ ابن حجر في "الدراية". * مفردات الحديث: - خصال: الخَصلة هي: الخُلق في الإنسان، قد تكون خَصْلَةَ فضيلةٍ، وقد تكون رذيلة. - مُحْصَن: إما بكسر الصاد: اسم فاعل، وإما بفتح الصاد: اسم مفعول. والمحصن: هو من وطيء امرأته المسلمة، أو الذمية في نكاح صحيح، ¬

_ (¬1) أبو داود (4353)، النسائي (7/ 91)، الحاكم (4/ 367).

وهما بالغان عاقلان حران. - فيُرجم: الرجم: هو الرمي بالحجارة حتى الموت. - يُصْلب: الصلب هو أن يمد المعاقَب، ويُربط على خشبة، ويرفع عليها. - يُنفى من الأرض: بأن يشرد، فلا يُترك يأوي إلى بلد؛ حتى تظهر توبته. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - حرص الشارع الحكيم الرحيم على بقاء النفوس وأمنها، فجعل لها من شرعه حماية وصيانةً، فجعل أعظم الذنوب بعد الشرك قتل النفس التي حرَّم الله قتلها. وبهذا حَفِظَهَا من الاعتداء عليها. 2 - لم يبح المشرِّع قتل النفس المسلمة إلاَّ لأحد ثلاث: الثيب الزاني، والقاتل عمدًا عدوانًا، والمرتد عن الإسلام، فيجوز قتل هؤلاء الثلاثة؛ لأنَّ في قتلهم سلامة الأديان، والأبدان، والأعراض. 3 - أنَّ من أتى بالشهادتين، وابتعد عمَّا يناقضهما -فهو مسلم، محرَّم الدم، والمال، والعرض، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. 4 - تحريم فعل هذه الخصال الثلاثة أو بعضها، وأنَّ من فعل واحدة منها، استحق عقوبة القتل: إما كفرًا وهو المرتد عن الإسلام، وإما حدًّا وهما: الزاني، والقاتل عمدًا. 5 - الثيب هو المحصن الذي جامع، وهو حرٌّ مكلَّف في نكاح صحيح؛ سواء كان رجلاً أو امرأةً، فإذا زنا فعقوبته الرجم بالحجارة حتى يموت. 6 - أنَّ مَن قتل نفسًا معصومةً عمدًا عدوانًا، فهو مستحق للقصاص بشروطه. 7 - أنَّ المرتد عن الإسلام يُقتل؛ لأنَّ رِدَّته دليل على خبث طويته، وفساد نيته، وأنَّ قلبه خالٍ من الخير، وغير مستعد لقبوله، فإنَّ كفره أعظم من الكفر الأصلي. 8 - توبة القاتل عمدًا مقبولة عند جمهور العلماء؛ لعموم الأدلة، لكن لا يسقط

حق المقتول بمجرد التوبة؛ كسائر حقوق الآدميين، وكذا القصاص، أو العفو لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفَّر ما بينه وبين الله، بل يبقى حق المقتول. قال ابن القيم: "التحقيق أنَّ القتل يتعلَّق به ثلاثة حقوق: الأول: حق الله، ويسقط حقه بالتوبة النصوح. الثاني: حق ولي الدم، ويسقط بالاستيفاء، أو الصلح، أو العفو. الثالث: حق المقتول يعوضه الله عن حقه الثابت، ويصلح بينه وبين قاتله، إن تاب القاتل". 9 - استدلَّ كثير من العلماء بهذا الحديث على أنَّ تارك الصلاة لا يقتل بتركها، لكونه ليس من هؤلاء الثلاثة، أما ابن القيم فقال: "إنَّ هذا الحديث حجة في قتل تارك الصلاة، فإنَّه تارك لدينه". 10 - قوله: "يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأني رسول الله" -دليل على أنَّه لابد في صحة إسلام المرء من النطق بالشهادتين، أو بما يدل عليهما من لفظ، وأنَّه لا يكتفى بالإقرار بهما من قادر على النطق بهما، فإن قال: أنا مسلم، ولم ينطق بالشهادتين، لم يحكم بإسلامه. قال في "الروض" وغيره: وتوبة كل كافر إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدا رَسُولُ الله". 11 - وفيه دليل على أنَّه بعد النطق بالشهادتين، لا يُكشف عن صحة ما شهد به عليه، ويخلى سبيله. قال ابن القيم: "لا يكلف بأن يقول: أشهد، بل لو قال: لا إله إلاَّ الله، محمَّد رسول الله، كان مسلمًا بالاتفاق، وحصلت له العصمة". 12 - أما من كان كفره بجحد فرض من الفروض؛ كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو بتحليل ما حرَّم الله، كالزنا، والخمر، أو بتحريم ما أُجْمَعَ على

حلِّه، أو جحد نبيًّا من أنبياء الله، أو كتابًا من كتبه، أو ملكًا من ملائكته، الذين ثبت أنَّهم ملائكة الله، أو رسالة محمَّد إلى غير العرب -فتوبة هؤلاء مع الشهادتين إقرارهم بما جحدوا به من ذلك، أو قوله: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام ونحوه. 13 - لو قال الكافر: أسلمت، أو أنا مسلم، ونحو ذلك -صار مسلمًا، وإن لم يتلفظ بالشهادتين؛ لِما روى مسلم من حديث المقدام بن الأسود؛ أنَّه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت لو لقيت رجلاً من الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذَ مِنِّي بشجرة، فقال: أسلمت، أفأقتله بعد أن قالها؟ قال: "لا تقتله". 14 - قال شيخ الإسلام: "إذا أسلم المرتد عصم دمه، وماله، وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم، باتفاق الأئمة". 15 - قوله: "الثيب الزاني" مفهومه: أنَّ البكر ليس حده الرجم، فقد جاء أن حده الجلد، كما في الآية الكريمة. قال الوزير: "اتَّفقوا على أنَّ البكرين الحرين إذا زنيا أنَّهما يجلدان، كل واحد منهما مائة جلدة، وحكى ابن رشد فيه إجماع المسلمين". 16 - قوله: "النفس بالنفس" عمومه يفيد أنَّ كل نفس تقاد بالنفس الأخرى، ولكن إطلاقه مقيَّد، ومجمله مبيَّن، وعمومه مخصَّص بنصوص أخرى، وحديث عائشة فيه بعض البيان، وسيأتي بيان ذلك مستوفى إن شاء الله. 17 - قوله: "التارك لدينه، المفارق للجماعة" دليل على أنَّ الجامعة الحقَّة، والصلة الصحيحة، والرابطة القوية هي الإسلام، وأنَّ الوطنية، أو القومية، أو الجنسية، كلها شعارات زائفة، ومبادىء باطلة، أدخلها علينا أعداء الإسلام؛ ليفرقوا شمل المسلمين، ويَحُلوا رابطتهم، ويقللوا سوادهم.

18 - ورد في آخر حديث عائشة حد الحرابة، وسيأتي مستوفى في موضعه، إن شاء الله. والمشهور من مذهب الإمامين: أحمد، ومالك: أنَّ من تكررت ردته، والزنديق -وهو المنافق- ومَن سب الله، أو رسوله، وأمثالهم- أنَّه لا تقبل توبتهم في الدنيا، بل يقتلون بكل حال. ومذهب الشافعي قبول توبتهم، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو بكر الخلال. والخلاف في أحكام الدنيا، مِن ترك القتل وغيره، أما في الآخرة؛ فإن صدقت توبته، قبلت بلا خلاف. ***

1009 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أول: مبتدأ، وخبره "في الدماء"، ولا يعارضه حديث: "أولُ ما يحاسب به العبد صلاته" فالصلاة في حق الله، والدماء في حق العباد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث عظم شأن دم الإنسان؛ فإنَّه لم يُبدأ به يوم القيامة، إلاَّ لكونه أهم وأعظم من غيره من أنواع مظالم العباد. قال ابن دقيق العيد: "فيه تعظيم أمر الدماء؛ فإنَّ البداءة تكون بالأهم، وهي حقيقة بذلك؛ فإنَّ الذنوب تعظُم بحسب عِظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أهم المفاسد، ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه". 2 - إثبات يوم القيامة والحساب والقضاء والجزاء فيه. 3 - هذا الحديث لا ينافي ما أخرجه أصحاب السنن، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يحاسب به العبد صلاته"؛ لأنَّ حديث الباب فيما بين العبد وبين غيره من الخلق، وحديث الصلاة فيما يتعلَّق بحقوق الخالق. ولا شكَّ أنَّ أعظم حقوق الناس هي الدماء، وأنَّ أعظم حقوق الله على المسلم الصلاة. ¬

_ (¬1) البخاري (6533)، مسلم (1678).

4 - في الحديث وجوب الحذر من حقوق العباد؛ لئلا تلحق المسلم عاقبتها في ذلك الموقف العظيم، وأعظم الحقوق الدماء. 5 - أنَّه على القضاة والمحاكم العناية بأمر قضايا القتل، وجعل الأهمية لها، والأولوية على غيرها من القضايا. وهكذا محاكم المملكة العربية السعودية، أيَّدها الله تعالى؛ فإنَّ قضايا القتل، والرجم، والقطع، لا تنفذ حتى تمر على ثلاث هيئات قضائية: الهيئة الأولى تتكوَّن من ثلاثة قضاة، ينظرون في هذه الدعاوى، ويحكمون فيها، فإذا حكموا نظرها خمسة قضاة من محكمة التمييز، فإذا وافقوا نُظِرَتْ من الهيئة القضائية العليا، وكل هذا عنايةً بهذه القضايا، واهتمامًا بشأنها. ***

1010 - وَعَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَحسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لأبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ بزِيَادَةِ: "وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ". وَصَحَّحَ الحَاكِمُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، وحسَّنه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، وقد اختلف في سماعه منه على ثلاثة أقوال: قال ابن معين: لم يسمع الحسن منه شيئًا، وقيل: سمع منه حديث العقيقة فقط، وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة، وعلى الرأي الأخير، فالحديث صحيح، وعلى الرأيين: الأول والثاني، فهو منقطع، لكن جاء في رواية أحمد عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: ولم يسمع منه، فهو منقطع، وفي الباب أحاديث أخر، لا تقوم بها حجة. أما زيادة أبي داود، والنسائي، فقد صحَّحها الحاكم، ووافقه الذَّهبي. * مفردات الحديث: - جدَعَ: الجَدْعُ: هو قَطْعُ الأنف، أو الأُذُنِ، أو الشَّفَةِ، وهو بالأنف أخص، ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 10) أبو داود (4515)، الترمذي (1414)، النسائي (8/ 21)، ابن ماجه (2663)، الحاكم (4/ 367).

فإن أُطْلِقَ فعليه. - مَنْ خَصَى: الخِصْية هي: البيضة من أعضاء التناسل، وهما خِصْيتان، وَخَصَاه: سلَّ خِصْيتيه، ونزعهما من الصنفتين، أو جَبَّهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه إثبات القصاص في الجنايات، وأنَّ من قَتَلَ عمدًا، أو من أتلف طرفًا، أو عضوًا من إنسان؛ كأنفه، أو خصيته عمدًا -اقتُصَّ منه بمثل ذلك الطرف، وهذا من القصاص الذي جاء مُصَرَّحًا به في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. 2 - الحديث دلَّ على ثبوت القصاص بين السيد وعبده؛ وهي مسألة اختلف العلماء فيها: فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ الحر يقتص بالعبد؛ سواء كان نفسًا، أو طرفًا، إذا أمن الحيف؛ لعموم آية القصاص، إلاَّ أنَّه إذا كان سيده، فلا يقاد به. قال الصنعاني: "وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة". وذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه لا يقاد حر بعبد مطلقًا؛ مستدلين بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]؛ فإنَّ تعريف المبتدأ يفيد الحصر، وأنَّه لايقتل الحر بغير الحر، أما آية المائدة: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فإنَّها مطلقة، وآية البقرة مقيِّدة لها ومبيِّنة، وآية المائدة سيقت لبيان شريعة أهل الكتاب، التي جاءت هذه الشريعة بعدها بالتخفيف، والرحمة عنها. 3 - فيه ثبوت القصاص في الأطراف، قال شيخ الإسلام: "القصاص في الجراح ثابت: بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعلماء قيَّدوا جواز القصاص بما دون النفس بثلاثة شروط: الأول: الأمن من الحيف؛ وذلك بأن يكون القطع من مفصل، أو له حد ينتهي إليه.

الثاني: تماثل العضوين في الاسم والموضع. الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال". 4 - الحديث من رواية الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، وهو مختلف في سماعه منه، وعلى هذا فالحديث منقطع، وعلى فرض صحته يمكن حمله على قتل السيد الطاغي المستبد؛ تعزيرًا من ولي الأمر، ولذا قال: "قتلناه ... " إلخ. ***

1011 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ يُقَادُ الْوَالِد بِالْوَلَدِ" رَوَاهُ أَحمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالبيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ (¬1) ". ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح بطرقه المتعددة المتصلة، عن ابن عباس، وسراقة. وحديث عمر الذي معنا في إسناده: الحجاج بن أرطأة، وهو مدلس، وله طرق أخر عند أحمد، وطرق أخر عند الدارقطني والبيهقي أصح منها، وصحح البيهقي سنده؛ لأنَّ رواته ثقات، ورواه الترمذي من حديث سراقة، وإسناده ضعيف، وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب، وفيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس، وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف. قال عبد الحق: "هذه الأحاديث كلها معلولة، ولا يصح منها شيء. وقال البيهقي: "طرق هذا الحديث منقطعة". وقال الألباني: "وطرق الحديث تدل بمجموعها على أنَّ الحديث صحيح ثابت". * مفردات الحديث: - لا يُقاد: يقال: قاد الأمير القاتل بالمقتول: قتله به قَودًا، والقود لغة: القصاصُ، وقَتْلُ القاتل بدل القتيل، وسُمِّي قودَا؛ لأنَّه يُقاد عند تنفيذ ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 22) الترمذي (1400)، ابن ماجه (2662)، ابن الجارود (788)، البيهقي (8/ 38).

القصاص فيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الوالد لا يقاد بولده؛ ذلك أنَّ الولد جزء من والده، وولد ولده وإن نزلوا من أولاد البنين والبنات، والأم والأب في هذا سواء، وكذا الأجداد وإن علوا، والجدات وإن علون من الأب، والأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب. 2 - هذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وقال به عمر ابن الخطاب، وربيعة الرأي، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق. 3 - أما الإمام مالك فيقول: إنْ أضجعه، وذبحه أقيد به، وإلاَّ لم يقد به. 4 - دليل الجمهور: هذا الحديث؛ قال ابن عبد البر: "هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يُسْتَغْنى بشهرته، وقبوله، والعمل به، عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفًا". 5 - أما الولد فيقتص منه لوالده؛ سواء أكان أبًا أم أمًّا، إذا قتله طبقًا للنصوص؛ لأنَّ النص الخاص لم يخرج من حكم النصوص، إلاَّ الوالد فقط. 6 - يعلل العلماء هذه التفرقة في الحكم بين الوالد والولد-: بأنَّ الحاجة إلى الزجر والردع في جانب الولد أشهر منها في جانب الوالد؛ لأنَّ الوالد يحب ولده لنفسه، دون أن ينتظر نفعًا منه، وإنَّما ليحمى ذكره، وهذا يقتضي والحرصَ على حياته، أما الولد فيحب والده لما يصل إليه من منفعة عن طريقه، وهذا لا يقتضي الحرص على حياة والده. 7 - إفراد عدم القصاص من الوالد بالولد -دليل على بقاء حكم القصاص فيما عداهما من الأقارب؛ وهذا مذهب جماهير العلماء. ***

1012 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ الوَحْيِ غَيْرُ القُرآن؟ قَالَ: لاَ، وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً فِي القُرآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي هَذهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ: "المُؤْمِنُونَ تَتَكَافأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه". وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صدر الحديث في البخاري، فلا بحث فيه، بل آخره فيه البحث، وله عدَّة طرق، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، من طريق قتادة عن الحسن عنه، ورجاله ثقات، فهم رجال الصحيحين. وقد صحَّحه الحاكم، وقال: "إنَّه على شرط الشيخين"، ووافقه ابن عبد الهادي في "المحرر"، فقال: "رجاله رجال الصحيحين"، وحسَّنه المصنف في الفتح. ¬

_ (¬1) البخاري (111). (¬2) أحمد (1/ 122)، أبو داود (4530)، النسائي (8/ 19)، الحاكم (2/ 153).

* مفردات الحديث: - فَلق الحبة: الفلْق هو الشق، والحب ما يكون في السنبل. - برَأ النَّسَمَة: بفتح الباء والراء أي: خلق، والنسمة الخلْق وهي كل كائن حي فيه روح. - فَهْمٌ: قال الجوهري: "فهمت الشيء فهمًا علمته، وفلان فهيم، وتفهم الكلام إذا فهمه شيئًا بعد شيء، والفهم: جَوْدة استعداد الذِّهن للاستنباط، وحسن تصور المعنى، جمعه: أفهام وفهوم". - الصحيفة: بوزن فضيلة، هي ما يكتب فيه من ورق ونحوه، والمراد هنا: الورقة المكتوبة. - العقل: بفتح العين، وسكون القاف، هي الدية، والمراد هنا تفصيل أحكامها، وسميت الدية: عقلاً؛ لأنَّ أولياء القاتل كانوا يعطون أولياء المقتول الدية من الإبل، ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل. - فِكَاك الأسير: بكسر الفاء وفتحها: إطلاق أسره، وتخليصه من يد العدو. - الأسير: بوزن فعيل بمعنى مأسور؛ من أَسَره: إذا شدَّه بالإسَار، ويسمى كل أخيذ أسيرًا، وإن لم يُشَدَّ ويربط. - تتكافأ دماؤهم: الكُفء: النظير والمساوي، والمراد هنا: تساوي دمائهم، وأنَّه لا فرق بين شريف ووضيع في الدم؛ بخلاف ما كان عليه الجاهلية من المفاضلة، وعدم التساوي. - أدناهم: يعني: أقلهم قيمة في مجتمعهم، من: فقير، وضعيف، وامرأة، ونحوها؛ فإنه يسعى بذمتهم. - وهُم يدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ: أي: هُم مجتمعون على أعدائهم، لا يسعهم التخاذل، بل يُعِين بعضهم بعضًا.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّه لا يقتل مسلم بكافر؛ فإنَّ الكافر غير مكافىء للمسلم؛ وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. أما أبو حنيفة: فيرى قتل المسلم بالذمي؛ لأنَّ النصوص جاءت بعقوبة القصاص عامة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، ويقول تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]؛ فهذه النصوص عامة، لم تفصِّل بين قتيل وقتيل، ونفس ونفس، ومظلوم ومظلوم، فمن ادَّعى التخصيص والتقييد، فهو يدعيه بلا دليل. واستدل الجمهور: بحديث الباب، وبحديث: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم". وعن علي -رضي الله عنه-: "من السنة ألا يقتل مؤمن مسلم بكافر" [رواه أحمد] فهذه النصوص تخصص العمومات التي احتجَّ بها الحنفية. ولِفَقد الكفاءة بين المسلم والكافر؛ فإنَّها شرط في وجوب القصاص، فالكفر نقصان، فإذا وُجد امتنعت المساواة، فامتنع وجوب القصاص، والأصل في الكفر أنَّه مبيح للدم، ولكن عقد الذمة منع الإباحة. 2 - أما الكافر فيقتل بالمسلم بإجماع العلماء؛ لما في الصحيح: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قتَل يهوديًّا رَضَح رأس جارية من الأنصار"، ولأنَّ المسلم أعلى رتبة بإسلامه من الكافر. 3 - ويدل الحديث على تحريم قتل المُعَاهَدِ، ما دام متمسِّكًا بعهده مع المسلمين؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قَتَل معاهدًا، لم يُرَحْ رائحة الجنة". وعند أبي حنيفة: يقاد المسلم بالمعاهد؛ خلافًا للأئمة الثلاثة.

والمعاهد: هو الكافر يعقد أمانًا يدخل به بلاد المسلمين، فهو في أمان المسلمين، حتى يعود إلى بلاده. أما فِكاك الأسير: فهو تخليص الأسير المسلم من يد العدو، وهو من أفضل القُرَب، ويجوز فكاكه، ولو من الزكاة، قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]. 4 - أما قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" فمعناه: أنَّ دماء المؤمنين والمسلمين تتساوى في الدية والقصاص، فليس أحد أفضل من أحد، لا في الأنساب، ولا في الأعراق، ولا في المذاهب، فهم أمام هذا الحق والواجب سواء. 5 - أما قوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" فيعني: أنَّ المسلم الواحد إذا أمَّن كافرًا، صار أمانه ساريًا على عموم المسلمين، فيجب احترام أمانه، ولا يحل هتك عهده وعقده، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "قد أمَّنا من أَمَّنت يا أم هانىء". 6 - أما قوله: "وهم يد على من سواهم" فيعني أنَّ كلمة المسلمين واحدة، وأمرهم ضد أعدائهم واحد، فلا يتفرقون ولا يتخاذلون، وإنما هم عصبة واحدة، وأمرهم واحد على الأعداء؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. فهذه الأحكام الظاهرة الواضحة التي عليها عموم أهل السنة -هي في الصحيفة التي يحملها علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. أما أكاذيب الرافضة، ومزاعمهم الباطلة التي لا يرضاها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أعطى عليًّا صحيفة، طولها سبعون ذراعًا بذراع الرسول، وأملاه من فلق فيه، وخط على يمينه، فيها ألف باب، يفتح في كل باب ألف باب، فيها كل حلال وحرام. وكذلك ما زعموه من إعطاء علي الجَفْرَ، ومعارف آدم، وعلم البيتين،

والوصيين، وعلم الأولين والآخرين. وعندهم من ميراث النبوة مصحف فاطمة، فيه قدر المصحف الذي عند المسلمين ثلاث مرات، إلى غير ذلك فهي من السخافات، والخرافات، والأباطيل، التي بَنَتِ الرافضة عليها عقائدهم الفاسدة. فعلي -رضي الله عنه- وعن أهل بيته الطيبين الأطهار، أشرف وأجلُّ من أن ينسبوا لأنفسهم هلذه الأكاذيب على الله وعلى رسوله، وأن يزعموا التحدث عن الغيب، وإخفاء شيء من القرآن، وغير ذلك من عقائد الرافضة، التي شطُّوا في نسبتها، فشوَّهوا بها الإسلام؛ لأنَّهم زعموا أمام الأجانب عن الإسلام أنَّهم هم المسلمون، وأنَّ الإسلام ما افتروه، فشعائر الإسلام هي عباداتهم المحرفة، وأعماله هي صراخهم ولطمهم، وفواحشهم هي أحكامه، وأكاذيبهم هي حقائقه، فما أبعدهم عن الإسلام! 7 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى الناس، وأُمر بتبليغهم شرع الله وأحكامه، ولم تَخُصَّ رسالته أحدًا دون أحد، وحاشاه أن يبلِّغ أحدًا دون أحد، أو أن يكتم شيئًا مما أرسله الله به؛ فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما أنا قاسم، والله هو المعطي"؛ ومن الإعطاء أن يرزق الله بعض عباده فَهْمًا وإدراكًا في معاني كتابه، ومعاني سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيفتح الله له بابًا من أبواب العلم، كما قال ذلك الإمام علي -رضي الله عنه-. ***

1013 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- "أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ بِكِ هَذَا؟ فُلاَنٌ؟ فُلاَنٌ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فأَوْمَأَتْ بِرَأسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُرَضَّ رَأسُهُ بيْنَ حَجَرَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جارية: الجارية الأمة؛ سواء كانت شابة أو عجوزًا، وهذه فتاة من الأنصار؛ كما صرِّح به في رواية أبي داود. - رُضَّ رَأسها: بضم الراء، وتشديد الضاد المعجمة، يقال: رضضت الشيء رضًّا، فهو رضيض ومرضوض، قال ابن الأثير؛ "الرضّ، الدق؛ أي؛ دق رأسها بين حجرين". - فُلان؟ فلان؟: بحذف همزة الاستفهام، التي يقصد بها الاستخبار، وفلان وفلانة بغير ألف ولام، كناية عن الأناسي، وأما إذا كان بألف ولام، فكناية عن البهائم، تقول: ركبتُ الفلان، وحلبتُ الفلانة. - أومأت برأسها: أشارت برأسها عند ذكر اسم قاتِلها؛ لأنَّها لا تقدر علىا الكلام. - فأومأت: يقال: أومأت إليه، ولا يقال: أوميت، وهو معتل الفاء، مهموز اللام. ¬

_ (¬1) البخاري (2413)، مسلم (1672).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أصل حكم القصاص بالنفس في قتل العمد العدوان. 2 - ويدل على أنَّ الرجل يقاد بالمرأة، وبالعكس من باب أولى. 3 - ويدل على طمع اليهود وجشعهم؛ فإنَّ القاتل إنما قتل من أجل "أَوْضَاحٍ لها"؛ كما في إحدى روايات الحديث. 4 - ويدل على قسوتهم وخبثهم وخيانتهم؛ فإنَّ هذا المعاهَد يستطيع استلاب الأوضاح بلا هذه القتلة الشنيعة، للكن لؤمه وضغينته على المسلمين حَمَله على هذا المنكر. 5 - استدل بالحديث على حكم قتل الغيلة؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قتل اليهودي بلا طلب من أولياء الجارية، ويأتي إن شاء الله. 6 - ويدل على أنَّ القاتل يقتل بمثل ما قتل به؛ مُثَقَّلاً كان، أو محدَّدًا، وقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام إلى: أنَّ الجاني يقتل بمثل ما قتل به، إن كان مثقلاً، فيقتل بمثقل، وإن كان محددًا فبمثله. واستدلوا: بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وعملاً بهذا الحديث الصريح الصحيح، وهو رواية في مذهب أحمد. وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه إلى: أنَّه لا يجوز أن يستوفى قصاص إلاَّ بآلة ماضية، كسيف وسكين؛ لما جاء في صحيح مسلم (1955): "إِذا قتلتم فأحسِنُوا القِتلة، وليُحدَّ أحدُكم شفرته". ***

1014 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ غُلاَمًا لأُنَاسٍ فُقَرَاءَ، قَطَعَ أُذُنَ غُلامٍ لأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلاَثَةُ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنف: رواه أحمد، والثلاثة، بإسنادٍ صحيح. وقال ابن عبد الهادي في "المحرر": "رجاله ثقات، فهم رجال الصحيحين، وحسَّنه الحافظ في الفتح، وسكت عنه المنذري". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أحسن ما يحمل عليه هذا الحديث: أنَّ الغلام الجاني صغير دون البلوغ. 2 - الغلام لغة: الابن دون البلوغ، ولفظ الشارع: "يا غلام سمِّ الله"، وهو في هذه الجناية دون البلوغ، فلا يجب عليه قصاص؛ لأنَّ عمد الصبي حكمه حكم الخَطأ، بإجماع العلماء. 3 - ولم يجب على عاقلته دية؛ لأنَّهم فقراء، والدية لا تجب على العاقلة، إلاَّ إذا كانوا أغنياء، وهذا أحسن محامل هذا الحديث، وهو موافق لألفاظه، ولعلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ودَاهُ من بيت المال. 4 - قال شيخ الإسلام: "لا قصاص بين الصبيان والمجانين، وكل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وليس في ذلك إلزام الدية". وقال الموفق: "لا خلاف بين أهل العلم في أنَّه لا قصاص على صبي، ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 438)، أبو داود (4590)، النسائي (8/ 25)، ولم يروه الترمذي.

ولا مجنون، وكذالك كل من زال عقله بسبب يُعذر فيه؛ كالنائم، والمغمى عليه، ونحوهما". 5 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: "الواجب في بيت مال المسلمين: أولاً: إذا مات مسلم وعليه دين، فعلى ولي الأمر قضاؤه. الثانية: إذا جنى إنسان على آخر فقتله، وكانت الجناية خطأ، أو شبه عمد، ولم يكن قاتله موسرًا -فديته في بيت المال. الثالثة: إذا حكم القاضي بالقسامة في قضية، فَنَكل الورثة عن الأيمان، ولم يرضوا بيمين المدَّعى عليه. الرابعة: إذا وُجِدَ مقتول مجهولٌ قاتله؛ كمن قُتِلَ في زحمة طواف ونحوه". * قرار هيئة كبار العماء بشأن استعمال المخدر فى القصاص: قرار رقم (191) بتاريخ 27/ 10/ 1419 هـ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد: فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخمسين، المنعقدة في مدينة الرياض، ابتداءً من تاريخ 20/ 10 /1419هـ، اطَّلع على كتاب صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء رقم (4/ 35 م) بتاريخ 28/ 2/ 1419 هـ، حول حكم استعمال البنج في تنفيذ القصاص فيما دون النفس لضمان عدم التجاوز، وقد جاء فيه ما نصه: "نبعث لسماحتكم نسخة من برقية سمو وزير الداخلية رقم (16/ 59861) بتاريخ 27/ 8/ 1418 هـ، ومشفوعاتها، بشأن مسألة تنفيذ القصاص فيما دون النفس، التي صدر فيها قرار الهيئة القضائية العليا رقم (82) في 14/ 3/ 1393 هـ، المتضمن أنَّ الهيئة القضائية لا ترى أن يتم القصاص تحت تأثير مخدر "البنج"، ولو كان موضعيًّا؛ لأنَّه لا يحصل باستيفاء القصاص مع المخدِّر (البنج) التشفِّي للمجني عليه من الجاني، فتفوت حكمة القصاص؛

لفوات إحساس الجاني المقتص منه بالآلام، التي أحسَّ بها المجني عليه عند وقوع الجناية، كما صدر الأمر رقم (16485) في 1/ 11/ 1415 هـ، المبني على قرار مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة رقم (455/ 3) في 12/ 10/ 1415 هـ؛ بأنَّه ينبغي انفاذ القصاص بواسطة مختص، يؤمن من جانبه الحيف من أهل الطب، أما إنفاذ الحدود كقطع اليد والرِّجل، فقاء سبق أن صدر قرار مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة رقم: (145/ 5/ 20) في 7/ 6/ 1406هـ المتضمن أنَّه لم يظهر للمجلس ما يمنع من استعمال البنج عند قطع اليد والرجل في الحدود، وهذا ما يخص القطع بالحدود (الحق العام)، وأنَّ سمو أمير منطقة الرياض أشار إلى أنَّ الوضع يتطلب استصدار فتوى بإجازة استعمال البنج بالقطع بالقصاص، أسوةً بالحدود، لضمان عدم التجاوز، وإنفاذًا الأمر رقم (16485) في 1/ 11/ 1415هـ المشار إليه من إجراء القطع من قبل أهل الطب، وهم لا ينفذون العمليات، إلاَّ تحت تأثير البنج، ويرى سمو وزير الداخلية تأييدًا لما رآه سمو أمير منطقة الرياض، إحالة الأمر لمجلس هيئة كبار العلماء لإصدار فتوى بذلك، ونرغب إليكم أن يدرس مجلس هيئة كبار العلماء الموضوع، ويصدر فتوى بشأنه، فأكملوا ما يلزم بموجبه" اهـ. وقد اطَّلع المجلس على البحث المعد في ذلك، وبعد الدراسة والمناقشة، وتداول الرأي، قرَّر المجلس بالأكثرية: جواز استعمال المخدر "البنج" عند القصاص فيما دون النفس، إذا وافق صاحب الحق، وهو "المجني عليه"، وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء ***

1015 - وَعنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهمْ- أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكبتَهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ: "حَتَّى تَبْرَأَ"، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ الَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرجْتُ، فَقَالَ: "قَدْ نَهَيْتُكَ، فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ"، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحِ حَتَّى يَبْرأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد عن ابن إسحاق، والدارقطني عن ابن جريج، كلاهما عن عمرو بن شعيب به، ورجاله ثقات، غير أنَّ ابن إسحاق وابن جريج مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث، لكن للحديث شواهد يتقوى بها. قال ابن التركماني: هذا أمر قد روي من عدَّة طرق، يشد بعضها بعضًا، قلتُ: فهو صحيح لغيره. * مفردات الحديث: - قَرْن: بفتح القاف، وسكون الراء، آخره نون: مادة صُلبة ناتئة بجوار الأذن، تكون في رؤوس البقر والغنم ونحوها، وفي كل رأس قرنان غالبًا. - رُكْبته: بضم الراء، وسكون الكاف: موصل أسفل الفخذ بأعلى الساق، ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 217)، الدارقطني (3/ 88).

جمعه: رُكب. - أَقِدني: بفتح الهمزة، وكسر القاف، ثم دال مهملة، ثم نون الوقاية، وياء المتكلم، من القود، يريد: الاقتصاص من الذي جنى عليه. - عَرجْت: عرج مبني للفاعل، أي: غمز في رجله، لعلة طارئة، فهو أعرج، وهي عرجاء، جمعه: عُرج. - بَطل عرَجُك: بطل فعل ماض، وعرجك فاعل مرفوع؛ أي: بطل ما كان له من دية جرحك بتعجلك بالقصاص. - أن يُقتص: مبني للمجهول، من القِصاص -بكسر القاف- من: اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأنَّ الذي يطلب القصاص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها، فهو مقاصة ولي القتيل القاتل، والمجروح الجارح. - جُرح: بضم الجيم المهملة، شق في بدنه، فهو جريح، جمعه: جرحى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يحرم أن يقتص من عضو قبل برئه. وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، كما لا تطلب له دية قبل برئه؛ وذلك لاحتمال السراية. 2 - فإن حتم المجني عليه على طلب المبادرة بالقود -كما في هذا الحديث- فسرايتها بعد القصاص، أو أخذ الدية هدر، والدليل على تحريم القصاص المعجل، أو الدية، ثم هدَر السراية -هذا الحديث. 3 - الحكمة في هذا: أنَّ الجرح ما دام طريًّا لم يبرأ؛ فإنَّ فيه احتمالاً أن تكون له سراية ومضاعفات، فالواجب الصبر حتى يتم شفاؤه، ثم يقتص له، أو تؤخذ له الدية. 4 - ذهب الإمام الشافعي إلى: أنَّه لا يحرم طلب القصاص، أو الدية قبل البرء، وهو رواية لأحمد، خرَّجها في "المغني" و"الشرح الكبير"، واستدلوا بهذا

الحديث الذي فيه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مكَّنه من طلب القصاص فيه. وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، إلى: أنَّه يحرم أن يقتص من الطرف قبل برئه، وهو قول أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وإسحاق. قال ابن المنذر: "هو قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم". 5 - أما إذا انتظر المجني عليه حتى يبرأ جرحه، ثم سرت الجناية، فإذا كانت الجناية مما لا يقتص فيها، ولا في سرايتها، ففيها الدية، أو الأرش، باتفاق العلماء، وإن كانت الجناية مما يقتص فيها، فيرى الإمام مالك والشافعي: أنَّ القصاص في الجناية فقط، لا فيما سرت إليه. وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ القصاص في الجناية، وسرايتها. قال في "نيل المآرب": "وسراية الجناية مضمونة في النفس وما دونها، لو قطع إصبعًا، فتآكلت أخرى، أو تآكلت اليد، وسقطت من مفصل، أو مات، ضمن الجاني ذلك بقود، أو دية". 6 - وفيه: دليل على أنَّ الحكم الذي لا يعود ضرره إلاَّ على صاحبه، وأصرَّ على الحكم، فإنَّه يجاب إلى ذلك، بعد أن يبيِّن له عاقبة أمره، وضرره الذي سينجم عنه. 7 - وفيه: أنَّ اتباع الشرع هو الخير والبركة في الحال والمآل، وأنَّ مخالفته شرٌّ حاضرًا، ومستقبلاً. 8 - وفيه: أنَّ تبيين غلط المستعجل في الأمور لا يعد شماتة فيه، إذا قيل له ذلك للاعتبار، والاتعاظ في المستقبل له، ولغيره. ***

1016 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "اقْتَتَلَتِ امْرَاتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ اوْ وَلِيدةٌ، وَقَضى بِدِيَةِ المَرْأةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا، وَمَنْ مَعَهُم. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كيْفَ يُغْرَمُ مَنْ لاَ شرِبَ وَلاَ أَكلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا هَذا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَأَخْرَجَهُ أَبُو داوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَأَلَ مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الجَنِينِ؟ قَالَ: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ، فَقَالَ: كنْتُ بَيْنَ امْرَأتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ... " فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. ذلك أنَّه جاء من طريقٍ إسنادها صحيح، وقد صحَّحه كل من: الحاكم، وابن حبان، وابن حزم، وقال ابن حزم في "المحلى": إسناده في غاية الصحة. ¬

_ (¬1) البخاري (5758)، مسلم (1681). (¬2) أبو داود (4572)، النسائي (8/ 21)، ابن ماجه (2641)، ابن حبان (5989)، الحاكم (3/ 575).

وجاء في رواية البخاري من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فِي جنين امرأة من بني لحيان بغرة: عبدٍ أو أمةٍ، ثم إنَّ المرأة القاتلة توفيت، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ ميراثها لبنيها وزوجها، وأنَّ العقل على عصبتها. * مفردات الحديث: - هُذيل: هذيل بن مدركة وهي قبيلة من القبائل العدنانية، لا تزال تقيم في ضواحي مكة الشرقية والجنوبية، وسكان وادي نعمان، وما حوله كلهم من هذيل، ومن هذيل قبيلة لحيان الذين يقيمون الآن في ضواحي مكة الشمالية. - جَنينها: ما في بطن الحامل وهو من: الاجتنان، وهو الاختفاء، فإنَّ مادة جنَّ كلها تدور على الاختفاء والاستتار. - غرَّة: بضم الغين، وتشديد الراء، آخره تاء التأنيث، أصل الغرة البياض في وجه الفرس، وهي عندهم أنفس شيء، والمراد به هنا: العبد نفسه؛ لأنَّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم. - وليدة: الشابة الأنثى من العبيد، جمعها: ولائد. - عاقلتها: العاقلة صفة موصوف محذوف؛ أي: الجماعة العاقلة، يقال: عقل القتيل إذا غرم ديته، مأخوذ من: العقل، وهو المنع؛ لأنَّ العاقلة تمنع عن القاتل، ويتحملون العقل عنه، والعقل هو الدية. أما تعريف العاقلة شرعًا: فهم من غرم ثلث الدية فأكثر من ذكور العصبة، بسبب جناية الخطأ، أو شبه العمد. - حَمَل: حَمل بن النابغة الهذلي، من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهو زوج المرأتين المذكورتين، صحابي، نزل البصرة. - يُغْرَم: مبني للمجهول، غرم يغرم غرامة، والغارم: هُو من لزمه مال يجب عليه أداؤه، وغرم الدية: أداها عن غيره. - استهلَّ: استهل الصبي: رفع صوته بالبكاء، وصاح عند الولادة.

- يُطل: بضم التحتية، وفتح الطاء، وتشديد اللام؛ أي: يبطل ويهدر دم القتيل، فلا يثأر له، ولا تؤخذ ديته. - الكُهَّان: بضم الكاف، ثم هاء مشددة، جمع: كاهن، والكاهن: اسم لكل من يدَّعي علم الغيب، أو يدَّعي الكشف عن المغيبات، من: عرَّافٍ، ومنجمٍ، ورمَّالٍ، وغيرهم. - سَجعه: السجع: نوع من أنواع المحسنات البديعية، وتعريفه عند علماء البلاغة: أنَّه اتِّفاق الفواصل في الكلام المنثور في الحرف، أو في الوزن معًا، والكهان يجيدون هذا السجع، ويكثرون منه في كلامهم لخداع الناس. - على عاقلتها: الضمير فيها يعود إلى الجانية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اختصمت امرأتان ضرَّتان من قبيلة هذيل، فرَمَت إحداهما الأخرى بحجر صغير، لا يقتل غالبًا، ولكنه قتلها، وقتل جنينها الذي في بطنها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ ديَة الجنين غرَّة؛ وهي: -عبد أو أمة- على الجاني، وقضىى للمرأة المقتولة بالدية؛ لكون قتلها "شبه عمد"، وتكون على عاقلتها؛ لأنَّ مبنى العاقلة على التناصر والتعاون، ولكون القتل غير عمد. 2 - هذا الحديث أصل في النوع الثاني من القتل، وهو "شبه العمد"؛ وهو أن يقصد الجاني الجِناية بما لا يقتل غالبًا؛ كالقتل بالحجر الصغير، أو العصا الصغيرة، فحكم هذا النوع من القتل هو تغليظ الدية على القاتل، ولا يقاد. 3 - أنَّ ديَة "شبه العمد"، ومثله "الخطأ" -تكون على عاقلة القاتل، وهم: الذكور من عصبته القريبون والبعيدون، ولو لم يكونوا وارثين؛ لأنَّ مبنى العصوبة التناصر والتآزر، وهذه الجائحة وقعت منه بلا قصد، فناسب مساعدتهم له، ولو كان غنيًّا، وللكن تخفف عنهم بتوزيعها عليهم حسب قربهم، وتؤجل عليهم مقسَّطة إلى ثلاث سنوات.

4 - أنَّ ديَة الجنين الذي سقط ميتًا بسبب الجناية -"غرة": عبد أو أمة. وقدَّر الفقهاء قيمة هذه الغرة بخمس من الإبل، تورث عنه، كأنَّه سقط حيًّا. ودية الجنين على القاتل لا على العاقلة؛ لأنَّها أقل من ثلث الدية، وما كان أقل من ثلث الدية، فإنَّ العاقلة لا تتحمله. 5 - أنَّ الدية تكون ميراثًا بعد المقتول؛ لأنَّها بدل نفسه، وليس للعاقلة فيها شيء. 6 - قال العلماء: إنَّما كره النبي -صلى الله عليه وسلم- سجع حَمَل بن النابغة لأمرين: الأمر الأول: أنه عارض به حكم الله تعالى وشرعه، ورام إبطاله. الأمر الثاني: أنَّه تكلَّف هذه السجعات بخطابه؛ لنصر الباطل، كما كان الكهَّان يروِّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب والأسماع. فأما إذا وقع السجع بغير هذا التكلف، ولم يقصد به نُصْرة الباطل -فهو غير مذموم. وقد جاء في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد خاطب الأنصار بقوله: "أما إنكم لَتقِلُّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع". وفي دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ! إني أعوذ بك من علم لا يَنْفَع، وقول لاَ يُسمع، وقلب لاَ يخشع، ونفسٍ لاَ تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع". [رواه مسلم "2722"]. * قرار هيئة كبار العلماء فى إسقاط الجنين: قرار رقم (140) وتاريخ 20/ 6/ 1407 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والعشرين، المنعقدة في مدينة الرياض، ابتداء من يوم 9/ 6/ 1407 هـ، حتى نهاية 20/ 6/ 1407 هـ قد

اطَّلع على الأورِاق المتعلِّقة بالإجهاض الواردة من المستشفى العسكري بالرياض، كما اطَّلع على كلام أهل العلم في ذلك، وبعد التأمل والمناقشة والتصور لما قد يحدث للحامل من أعراض وأخطار في مختلف مراحل الحمل، ولاختلاف الأطباء في بعض ما يقرِّرونه، واحتياطًا للحوامل من الإقدام على إسقاط حملهن لأدنى سبب، وأخذًا بدرء المفاسد، وجلب المصالح، ولأنَّ من الناس من قد يتساهل بأمر الحمل رغم أنَّه محرم شرعًا -لذا فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء يقرر ما يلي: 1 - لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله، إلاَّ لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدًّا. 2 - إذا كان الحمل في الطور الأول، وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه، أما إسقاطه في هذه المدة، خشية المشقة في تربية الأولاد، أو خوفًا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم، أو من أجل مستقبلهم، أو اكتفاءً بما لدى الزوجين من الأولاد -فغير جائز. 3 - لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة، حتى تقرر لجنة طبية موثوقة؛ أنَّ استمراره خطر على سلامة أمه، بأن يُخشى عليها الهلاك من استمراره، فيجوز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار. 4 - بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه، حتى يقرر جمع من الأطباء المختصين الموثوقين؛ أنَّ بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته، وإنما رخِّص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط، دفعًا لأعظم الضررين، وجلبًا لعظمى المصلحتين. والمجلس إذ يقرر ما سبق يوصي بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم.

* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن موضوع إسقاط الجنين المشوَّه خلقيًّا: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت: 15 رجب 1410 هـ، الموافق 10 فبراير 1990م، إلى يوم السبت 22 رجب 1410 هـ، الموافق 17 فبراير 1990 م -قد نظر في هذا الموضوع، وبعد مناقشته من قِبل هيئة المجلس الموقرة، ومن قِبل أصحاب السعادة الأطباء المختصين، الذين حضروا لهذا الغرض- قرر بالأكثرية ما يلي: - إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، فإنه لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنَّه مشوَّه الخِلقة، إلاَّ إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء الثقات المختصين أنَّ بقاء الحمل فيه خطر على حياة الأم، فعنذئذٍ يجوز إسقاطه؛ سواء أكان مشوهًا أم لا؛ دفعًا لأعظم الضررين. - قبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناء على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل الممكنة-: أنَّ الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا غير قابل للعلاج، وأنَّه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلامًا عليه وعلى أهله- فعندئذٍ يجوز إسقاطه؛ بناء على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر. والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ***

1017 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الرُّبيَعَ بِنْتَ النَّضْرِ -عَمَّتَهُ- كسَرَتْ ثَنِيّهَّ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَأَتوْا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَبَوْا إِلاَّ القِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتُكْسَرُ ثَنيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟! لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ، كتَابُ اللهِ القِصَاصُ"، فَرَضِيَ القَوْمُ، فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الرُّبيَع: تصغير ربيع، وهو بضم الراء، وفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء، آخره عين مهملة-: بنت النضر الأنصارية الخزرجية، أخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك خادم النبي -صلى الله عليه وسلم-. - ثَنيَّة: واحدة الثنايا، وهنَّ أربع أسنان في مقدم الفم: اثنتان من أعلى، واثنتان من أسفل. - جَارية: شابة من بنات الأنصار، وليس المراد بها الأمة؛ لعدم القصاص بينهما. - الأَرْش: بفتح الهمزة، وسكون الراء، آخره شين معجمة-: هو قدر ما بين قيمة المجني عليه صحيحًا، وبين قيمته وفيه الجناية، فيقوَّم كأنه عبد سليم، ¬

_ (¬1) البخاري (2703)، مسلم (1675).

ثم يقوَّم مرَّة أخرى وفيه الجرح، فما بين القيمتين ينسب إلى دية الحر؛ فيكون أرش الجناية. - أتُكسر: الهمزة للاستفهام الإنكاري، ولم يقصد الإنكار، ولكن أخذه الغضب والحمية، أو أنَّه يجهل الحكم الشرعي. - كتاب الله القصاص: مبتدأ وخبر؛ أي أنَّ كتاب الله يَحْكُم بالقصاص. - لأبره: اللام للتأكيد في جواب القسم؛ أي: لا يحنثه، بل يبر قسمه، ويجيبه إلى ما أقسم عليه، ويعطيه مطلوبه لكرامته عليه، وعلمه أنَّه من جملة عباد الله الصالحين. * ما يؤخذ من الحديث: قال الله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، والرُّبيع بنت النضر أخت أنس بن النضر أحد شهداء أحد، وهي عمة أنس بن مالك، خادم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كسَرت ثنية إحدى بنات الأنصار عمدًا، فطلب أنس بن النضر من أولياء المجني عليها العفو عن أخته، فأبوا، فعرضوا عليهم الدية، فأبوا، ورفعوا أمرهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مطالبين بالقصاص، وأصرُّوا على طلبهم، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟! لا، والذي بعثك بالحق، لا تُكسر ثنيتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أنس، كتاب الله"، فرضي القوم، وعفوا، فقال رسول الله: "إنَّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه". هذا الحديث فيه جملة معان وأحكام منها: 1 - ثبوت القصاص في السن؛ كما قال تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، ولا يكون القصاص إلاَّ في العمد، أما الخطأ وشبه العمد فليس فيهما إلاَّ الدية. 2 - يكون القصاص بالسن المماثلة للسن المجني عليها.

3 - أنَّ القصاص هو حكم الله تعالى، يجب القيام به، ما لم يَعْفُ صاحب الحقِّ؛ قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]. 4 - أنَّ المؤمن إذا لجَّ به الغضب والحمية، فصدر منه ما ظاهره الاعتراض على أمر الله وحكمه، وهو لم يرد به الإنكار والمعارضة، وإنما قصد به طلب الشفاعة -فلا يؤخذ بنالك؛ فإنَّما الأعمال بالنيات. ويحتمل: أنَّ أنس بن النضر إنما قال ذلك توقعًا من الله تعالى، ورجاءً من فضله أن يرضي الله عنه خصم أخته، ويلقي في قلبه العفو، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه". 5 - أنَّ القصاص من حق المجني عليه، فإذا عفا عنه سقط، ولا يعتبر هذا تعطيلاً لحدود الله؛ لأئَه محض حق آدمي. 6 - أنَّ الله تعالى بكرمه وعدله يعرف لذوي السابقة بطاعته سباقتهم، فإذا وقعوا في معضلة سهَّلها لهم؛ كما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات] وكما جاء في الحديث: "تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدَّة" [رَواه أحمد وأبو القاسم في "أماليه"، وحسَّنه السيوطي في "الجامع الصغير"، وكذلك المناوي]. 7 - أنَّ القلوب بين يدي الله تعالى، فالمجني عليهم كانوا ممتنعين من العفو، ومن الدية، وطبيعة الحال أنَّ تشدد أنس بن النضر في عدم تنفيذ القصاص، في أخته مما يزيدهم شدة في طلب القصاص، وإلحاحًا فيه، إلاَّ أنَّهم عفوا، وهذا من الأدلة أنَّ المتصرِّف في القلوب هو الله وحده. 8 - في الحديث منقبة عظيمة لأنس بن النضر -رضي الله عنه- وهي أنَّه من جملة عباد الله تعالى، الذين يعطيهم الله مطلوبهم، ويسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم، وقصة استشهاده يوم أحد مشهورة.

* فائدة: قال ابن القيم: أتباع الأئمة الأربعة لا قصاص عندهم في اللطمة والضربة، وحكى بعضهم الإجماع. وخرجوا عن محض القياس، وموجب النصوص، وإجماع الصحابة، قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فالواجب للمظلوم أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به، فلطمةٌ بلطمةٍ، وضربةٌ بضربة في محلها، بالآلة التي لطم بها، أو مثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها شرعًا من تعزيره بغير جنس اعتدائه، وصفته. وهذا هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه، ومحض القياس، ونصوص أحمد. ***

1018 - وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قُتِلَ عِمِّيًّا اوْ رِمِّيًّا، بِحَجَرٍ اوْ سَوْطٍ اوْ عَصًا -فَعَقْلُهُ عَقْلُ الخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده قوي، كما قال المؤلف. وقال ابن عبد الهادي: "إسناده جيِّد". * مفردات الحديث: عِمِّيًّا: بكسر العين المهملة، وتشديد الميم، والياء المثناة من تحت، بالقصر، على وزن فِعِّيلى، من: العَمَاء. - رِمِّيًّا: بكسر الراء، وتشديد الميم، ثم ياء مثناة تحتية، بالقصر، على وزن فعيلى، من الرمي، وكل من عِمِّيا ورِمِّيًّا مصدر يراد به المبالغة، والمعنى: أنه إذا وجد جماعة من الناس في اقتتال، ثم وجد قتيل يُعمى أمره، ولم يتبيَّن قاتله -فحكمه حكم الخطأ تجب فيه الدية. - سَوْط: بفتح السين، وسكون الواو، ما يُضرب به من جلد؛ سواء كان مضفورًا، أو لا. - عَصا: ما يتخذ من خشب وغيره للتوكؤ، أو الضرب، جمعه: عِصِىّ. - فعقْله عقل الخطإ: العقل: الدية، ومعناه: فديته قدر ديَة قتل الخطأ. - قوَد: بفتح القاف، والواو، آخره دال مهملة، القود: القصاص؛ سمي قودًا؛ ¬

_ (¬1) أبو داود (4540)، النسائي (8/ 39)، ابن ماجه (3635).

لأنَّه يقاد عند تنفيذ القصاص فيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قتيل العمياء؛ وهو الذي يُقْتل في زحام، فيُجهل قاتله؛ كزحام الطواف، والسَّعي، ورمي الجمار، فهذا ديته من بيت مال المسلمين. قال الشيخ صالح الحصين المستشار في وزارة المالية: "القاعدة أنَّ دم المعصوم لا يضيع هدرًا، فالدية تجب على بيت المال في مثل حالة، لا يبقى فيها سبيلٌ للثبوت على غير بيت المال، ولا يوجد ما يسقط العقل عنه". 2 - أما القتل برمي حجر، أو سوط، أو عصًا مما لا يقتل غالبًا، فهلذا شبيه بالخطأ من حيث عدم وجوب القصاص، وشبيه بالعمد من حيث تغليظ الدية؛ فدية شبه العمد كدية العمد قدرًا. 3 - أما قتل العمد العدوان فإنَّ فيه القود، وهو القصاص، وقد أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ومن قتل عمدًا فهو قَود". وعرَّف الفقهاء قتل العمد: بأن يقصد آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظن موته به، فلا قصاص بما لا يقتل غالبًا، وكذا لاقصاص إن لم يقصد القتل، أو قصد غير معصوم. 4 - وهناك تسع صور لقتل العمد العدوان: 1 - الضرب بمُثَقَّل. 2 - الضرب بما له نفوذ في البدن. 3 - إلقاؤه في زُبْيَةِ سبُع مفترس. 4 - إلقاؤه في ماءٍ يغرقه، أو نار تحرقه. 5 - أن يخنقه. 6 - أن يحبسه عن الطعام والشراب، فيموت جوعًا، أو عطشًا في مدة يموت فيها غالبًا.

7 - أن يسقيه السم. 8 - أن يقتله بسحر. 9 - أن يشهد عليه رجلان بما يوجب قتله. والضابط لهذا كله تعريفه بأنه: "القتل بما يغلب عليه الظن موته به"؛ فهذا تعريف مطرد على عمومه، فلا يدخل فيه ما لو غرزه بإبرة، أو شوكة في غير مقتل، وخرج منه دم، فمات منه؛ فإنَّ هذا من شبه العمد؛ لأنَّ هذا لا يقتل غالبًا، فهو من صور شبه العمد، كما نبَّه على لك شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله. 5 - أنَّ القصاص أو الدية إذا وجب، فحالت يد ظالمة عن تنفيذه، فعلى تلك اليد الحائلة بين الدية أو القود، وبين أولياء القتيل -لعنة الله؛ لأنَّها منعت أصحاب الحق من حقهم وقد قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء]. 6 - قوله: "عمدًا" فيه دليل على أنَّه لابد في القود من تحقيق قتل العمد. قال الشيخ ناصر بن حمد بن معمر ما خلاصته: "إذا ادَّعى القاتل أنَّ قتله للقتيل كان خطأً، لا عمدًا، وفسَّره بذلك، والقتل لم يثبت إلاَّ باعترافه -فإنَّه يقبل قوله في دعوى الخطأ، ولا قصاص عليه؛ لأنَّ من شرط القصاص أن يكون عمدًا محضًا". ***

1019 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَقَتَلَهُ الآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولاً، وَمُرْسَلاً، وصَحَّحَهُ ابْنُ القَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّ البَيْهقِيَّ رَجَّحَ المُرْسَلَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. قال المصنف: "رواه الدارقطني موصولاً ومرسلاً، وصحَّحه ابن القطان، ورجاله ثقات، إلاَّ أنَّ البيهقي رجح المرسل". قال الحافظ ابن كثير في "الإرشاد": "وإسناده على شرط مسلم". قال الشوكاني: "قال الدارقطني: الإرسال أكثر، وقال البيهقي: المرسل أصح، فالوصل غير محفوظ". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال فقهاؤنا الحنابلة: إذا أمسك إنسان آخر؛ ليقتله ثالث، فقتله -قُتِل القاتل بلا خلاف بين العلماء؛ لأنَّه قتل من يكافئه عمدًا بغير حق، أما الممسك فيحبس حتى يموت، ولا قود عليه، ولا دية. 2 - هذا إذا كان الممسك يعلم أنَّ القاتل سيقتله، أما إذا كان لا يعلم ذلك، كان يكون في مزاحٍ أو لعب، فليس على الممسك شيء؛ لأنَّ موته ليس بفعله، وحينئذٍ فلا يعتبر فيه قصد القتل. هذا هو المشهور من مذهب أحمد، وهو من مفردات مذهبه. ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 140)، البيهقي (8/ 50).

ودليله: حديث الباب. 3 - ذهب الإمام مالك -رحمه الله- إلى: أنَّه إذا كان الممسك يرى أنَّ الجاني سيقتل المجني عليه -قُتِلا جميعًا، كان أمسكه وهو يرى أنه يريد الضرب فقط، فإنه يقتل القاتل، ويعاقب الممسك عقوبة شديدة، ويسجن. قال الشوكاني: "الحق العمل بمقتضى الحديث المذكور؛ لأنَّ إعلاله بالإرسال غير قادح على ما ذهب إليه أئمة الأصول". 4 - أما مذهب أبي حنيفة والشافعي فيريان: تعزير الممسك إذا أمسك بقصد، القتل، وهو عالم بأنه سيقتل؛ لأنَّ فعل الطالب مباشرة، وفعل الممسك تسبب، وقد تغلبت المباشرة على السبب. ومن التعزير الحبس، ولكنهم لا يرونه مؤبدًا، كما يراه الحنابلة، وإنما يرون أنَّ الحبس موكول إلى اجتهاد الإمام في طول المدة وقصرها؛ لأنَّ الغرض تأديبه، وليس استمراره إلى الموت بمقصود. 5 - وذهب الإمام مالك إلى: أنَّ الممسك يقتل قصاصًا إذا أمسك القتيل لأجل القتل، فقتله الطالب، وهو يعلم أن الطالب سيقتله؛ لأنَّه بإمساكه تسبب في قتله، فإن لم يعلم أنَّه يقصد قتله، فعقاب الممسك التعزير، وليس القصاص، والله أعلم. 6 - حبس الممسك حتى الموت مناسب لتسببه بإمساك القتيل حتى قتل. 7 - في الحديث دليل على القاعدة المشهورة: إذا اجتمع المباشر والمتسبب كان الضمان على المباشر، وهنا لقي كل منهما جزاءه المناسب لجنايته، والله حكيم عليم. ***

1020 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ البَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ، وَقَالَ: "أنَا أَوْلَى مَنْ وَفَّى بذمَّتِه". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقٍ هَكَذَا مُرْسَلاً، (¬1) وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ المَوْصُولِ وَاهٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. هذا الحديث مرسل من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، وقد روي مرفوعًا، لكن قال البيهقي: "هو خطأ"، وقال الدارقطني: "ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما أرسله؟! ". وقد ضعفه كل من الشافعي، والدارقطني، والبيهقي، وقد وثَّقه بعضهم، والمضعفون له أكثر. * مفرادات الحديث: - بمعاهد: المعاهَد هو: الكافر الذي أُعطي العهد والأمان، فحرم به قتله وأسره ورقُّه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على جواز قتل المسلم بالكافر المعاهَد، وأنَّ المعاهَد في ذمة إمام المسلمين، وفي ذمة المسلمين جميعًا، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أولى مَن وفَّى بذمته". ¬

_ (¬1) عبد الرزاق (10/ 101). (¬2) الدارقطني (3/ 134).

2 - والحديث يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: جواز قتل المسلم بالكافر، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، لعموم النصوص التي جاءت في القصاص، وتحقيق الأمن والاستقرار؛ فإن قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم؛ لأنَّ العداوة الدينية تحمله على القتل، خصوصًا عند الغضب، فكانت الحاجة داعية إلى الزجر، وكان فرض القصاص أبلغ في تحقيق الحياة الآمنة، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقد أخذت محاكم مصر بهذا القول، فهي لا تفرق في العقوبة؛ لاختلاف الدين. أما مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة-: فلا يرون قتل المسلم بالكافر مطلقًا؛ لأنَّ الكافر لا يكافيء المسلم، ولكن الكافر يقتل إذا قتله؛ لأنَّه قَتْلُ الأدنى بالأعلى، ويطبق هذا على الذميين. الوجه الثاني: أنَّ المراد بالقتل لأجل التعزير، وليس القصاص، ولهذا جعل اختياره لنفسه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يَكِلْهُ إلى أولياء الدم. الوجه الثالث: أن يكون القتل هنا قتل غيلة، وقتل الغيلة عند القائلين به لا يرون شروط القصاص من المكافأة وغيرها، والله أعلم. قال في "الاختيارات": لا يقتل مسلم بذمي، إلاَّ أن يكون غيلة". وقال في موضع آخر: "إنَّ العفو لا يصح في قتل الغيلة، لتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة". وذكر ابن القيم أنَّ قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًّا، ولا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ تقي الدين. 3 - فيه تعظيم قتل المعاهد؛ فقد روى البخاري من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَن قتل معاهدًا، لم يُرَح رائحة الجنة".

1021 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قُتِل غُلَامٌ غِيْلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غِيلَة: بكسر الغين المعجمة، وسكون المثناة التحتية، يقال: قتله غيلة؛ أي: قتله على غفلة من المقتول، وغِرَّة. - صَنْعَاء: بفتح الصاد، وسكون النون، ممدود: هي عاصمة بلاد اليمن، وتقع في الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية، وهي مدينة قديمة أثرية. وتخصيص صنعاء بالذكر في هذا الأثر؛ لأنَّ هؤلاء الرجال القتلة كانوا منها، أو أنَّه مثل عند العرب يضرب لكثرة السكَّان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "لو اشترك فيه أهل صنعاء، لقتلتُهم به" فيه قتل الجماعة بالواحد، وهو مذهب جماهير العلماء. قال ابن القيم: "اتَّفق الصحابة، وعامة الفقهاء على قتل الجميع بالواحد، وان كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء". وممن ذهب إلى ذلك الإمام أحمد وأتباعه. قال في "كشاف القناع": ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم صالحًا للقتل به لو انفرد، وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة ¬

_ (¬1) البخاري (6896).

للقتل؛ كما لو ضربه كل واحد بحجر صغير، فمات -فلا قصاص عليهم، ما لم يتواطؤوا على ذلك الفعل، ليقتلوه به؛ فعليهم القصاص؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى درء القصاص". قال الشيخ عبد الله أبابطين: "معنى قوله: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحًا للقتل به، أي: يكون فعل كل واحد صالحًا أن يكون سببًا لموت المجني عليه، لا أنَّه يغلب حصول الموت من تلك الجناية؛ لأنَّ الفقهاء مثَّلوا بالمُوضحة، مع أنَّ حصول الموت بها نادر". كما استدلَّ بهذا الأثر التصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في قتل الغيلة: فقال الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية: إنه يوجب القتل قصاصًا؛ كسائر أنواع القتل عمدًا، وعدوانًا، وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم، من ورثة القتيل، أو عصبته، فيجب تنفيذه إن اتَّفقوا على ذلك، ويسقط بعفوهم، أو عفو بعضهم. وقال أبو الزناد، ومالك، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم: إنَّه يوجب قتل الجاني حدًا، لا قودًا، فيتولى تنفيذه السلطان، أو نائبه، ولا يسقط بعفو أحد، لا السلطان، ولا غيره. استدلَّ: من قال: إنه يقتل قصاصًا؛ بالكتاب، والسنة، والقياس. أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء]. قالوا: جعل الله سبحانه الحق في الدم لأولياء القتيل، من ورثة، أو عصبة، دون غيرهم، وعمم في ذلك، فلم يخص قتلًا دون قتل، والأصل بقاء

النص على عمومه، حتى يرد ما يصلح لتخصيصه. وأيضًا: عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، فحكم الله تعالى في عموم القتلى بوجوب القصاص، إلاَّ ما خصَّه الدليل، كما عمَّم تعالى في العفو بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]؛ فلم يخص به قتلًا دون قتل، فوجب تعميمه في كل قتل عمد عدوان، غيلةً كان، أم غير غيلة. وأما من السنة: فعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "منَ قُتل له قتيل، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل، أو أن يقتلوا"؛ فجعل عليه الصلاة والسلام الخيرة لأهل القتيل بين العقل والقصاص في كل قتل، غيلةً كان، أو غير غيلة. وأيضًا: ما روى عبد الرزاق عن سِماك بن الفضل: "أنَّ عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خَنَق صبيًّا على أوضاح له حتى قتله، فوجدوه والحبل في يده، فاعترف بنالك، فكتَب: أن ادفعوه لأولياء الصبي، فإن شاءوا قتلوا" ولم يسأل عمر عن صفة القتل، أهو غيلة، أم لا؟ ولم ينكر عليه أحد. أما القياس: فقالوا: فيه: إنَّه قتل في غير حرابة؛ فكان كسائر أنواع القتل في إيجاب القصاص، وقبول العفو؛ لعدم الفارق. واستدل: من قال: إنَّ قتل الغيلة يقتل فيه الجاني حدًّا، لا قودًا، فلا يسقط بالعفو من السلطان، أو غيره -: بالكتاب، والسنة، والقياس. أما الكتاب: فإنَّ قتل الغيلة نوع من الحرابة؛ فوجب به القتل حدًا، لا قودًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ...} الآية [المائدة: 33].

أما من السنة: (أ) فاستدلوا بما ثبت من أنَّ جارية وُجدت قد رُضَّ رأسها بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًّا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقرَّ، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرضوا رأسه بالحجارة. قالوا: قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل اليهودي، ولم يجعل ذلك إِلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصًا، لكان الحق لأوليائها؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه قتله حدًّا، لا قودًا. (ب) واستدلوا بأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة قتل حرابة وغيلة، ولم ينقل أنه جعل لأولياء الرعاة الخيار، ولو كان قتله إيَّاهم قصاصًا لشاورهم، وطلب رأيهم، فدلَّ على أنَّه قتلهم حدًّا، لا قودًا. وبذلك تبَيَّن أنَّ قتل الغيلة له حكم خاص يختلف عن حكم سائر القتل العمد العدوان. وأما الآثار: فمنها: ما ثبت أنَّ عمر -رضي الله عنه- أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام بصنعاء. وفي رواية: "لو تمالأ عليه أهل الصنعاء، لقتلتهم جميعًا". فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولم ينقل أنَّه استشار أحدًا من أولياء الدم، ولو كان لهم حق العفو، لرد الأمر إليهم، وطلب رأيهم، ولم يُنقل أنَّ أحدًا من الصحابة أنكر عليه. وأما القياس: فإنَّ القتل غيلة لمَّا كان في الغالب عن ختل وخداع، وأَخْذٍ على غرة -تعذَّر التحفظ منه؛ فكان كالقتل حرابة، ومكابرة؛ حيث إِنَّ عقوبة كل منهما من

الحدود، لا القود والقصاص، وأيضًا في ذلك سد لذريعة الفساد والفوضى في الدماء، والقضاء على الاحتيال والخديعة، وسائر طرق الاغتيال، وبذلك يخصص عموم النص في وجوب القتل قصاصًا، فيحمل على ما عدا قتل الغيلة. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن قتله الغيلة: رقم (38) بتاريخ 11/ 8/ 1395 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السادسة لهيئة كبار العلماء؛ بأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثًا في الغيلة، وقد أعدت، وأُدرج في جدول أعمال الهيئة في الدورة السابعة المنعقدة في الطائف: من 2/ 8/ 1395 هـ، إلى 8/ 11/ 1395 هـ، وعرض البحث على الهيئة، وبعد قراءته في المجلس، ومناقشة المجلس كلام أهل العلم في تعريف الغيلة في اللغة، وعند الفقهاء، وما ذكر في عقوبة القاتل قتل غيلة؛ هل هو القصاص، أم الحد؟ وتداول الرأي. وحيث أنَّ أهل العلم ذكروا أنَّ قتل الغيلة ما كان عمدًا وعدوانًا على وجه الحيلة والخداع، أو على وجه يأمن معه المقتول من غائلة القاتل؛ سواء أكان على مال، أم انتهاك عرض، أم خوف فضيحة، وإفشاء سر، أم نحو ذلك. وكأن يخدع شخصًا حتى يأمنه، ويأخذه إِلى مكان لا يراه فيه أحد، ثم يقتله، وكأن يأخذ مال رجل بالقهر، ثم يقتله خوفًا من أن يطلبه بما أخذ، وكأن يقتله لأخذ زوجته، أو ابنته، وكأن تقتل الزوجة زوجها في مخدعه، مثلًا للتخلُّص منه، أو العكس، ونحو ذلك. لذا قرَّر المجلس بالإجماع ما عدا الشيخ صالح بن غصون أنَّ القاتل قَتْلَ غيلة يقتل حدًّا، لا قصاصًا، ولا يصح فيه العفو من أحد، والأصل في ذلك: الكتاب، والسنة، والأثر، والمعنى.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ...} الآية [المائدة: 33]. وقتل الغيلة نوع من الحرابة؛ فوجب قتله حدًّا، لا قودًا. أما من السنة: فما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها، أو حلي، فأخذ، واعترف، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُرض رأسه بين حجرين" فَأَمْرُ -صلى الله عليه وسلم- بقتل اليهودي، ولم يرد الأمر إِلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصًا لرد الأمر إليهم؛ لأنَّهم أهل الحق -يدُلُّ على أنَّ قتله كان حدًّا لا قودًا. وأما الأثر: فما ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أنَّه قتل نفرًا -خمسة، أو سبعة- برجل واحد، قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا". فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولا نعلم نقلاً يدلُّ على أنَّه رد الأمر إِلى الأولياء، ولو كان الحق لهم لرد الأمر إليهم؛ فدل على أنَّه يقتل حدًّا، لا قودًا. وأما المعنى: فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق يتعلَّق به حق الله تعالى، فلا عفو فيه لأحد، كالزكاة وغيرها، ولأنه يتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ***

1022 - وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا العَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ (¬1). وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، من طريق يحيى بن سعيد، حدَّثنا ابن أبي ذئب، حدَّثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، وهو على شرط الشيخين، وقد أخرجاه من طريق الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد به". قال في "البلوغ": وأصله في الصحيحين عن أبي هريرة، وصححه الترمذي، والسهيلي في "الروض الأنف"، وابن حزم في "المحلى". * مفردات الحديث: - بين خيرتين: بكسر الخاء، وفتح التاء؛ أي: له الخيار بين أخذ الدية، والقصاص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الواجب بقتل العمد عند الإمام أحمد أحد شيئين: القَوَدَ، أو الدية، فيخير ولي الدم بينهما، فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، ولو لم يرض الجاني. ¬

_ (¬1) أبو داود (4504)، الترمذي (1406)، ولم يروه النسائي. (¬2) البخاري (6880)، مسلم (1355).

وبه قال جماعة من السلف؛ منهم سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وعطاء ومجاهد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. 2 - ويرى الأئمة الثلاثة: أنَّ الواجب القود، والدية بدل عنه؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]؛ والمكتوب لا تخيير فيه؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتَل عمدًا، فهو قَود" [رواه النسائي] من حديث ابن عباس. 3 - أما دليل القول الأول: فقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وحديث الباب صريح في هذا الحكم. 4 - ثمرة الخلاف بين القولين أنَّ صاحب القول الأول له العدول إلى الدية، ولو لم يرض الجاني، وأما القول الثاني، فإنَّه ليس له إلاَّ القصاص، أما الديَة فلا يستحقها إلاَّ بصلح بينه وبين الجاني. والنتيجة الثانية: أنَّه لو فات محل القصاص بوفاةٍ، أو آفة لعضو، ونحو ذلك -فعند القائلين بوجوب أحد الشيئين، يعدل إلى الدية، أما عند الذين لا يوجبون إلاَّ القصاص عينًا، فلا يجب للمجني عليه شيء. 5 - قال في "شرح الإقناع": أجمعوا على جواز العفو عن القصاص، وأنَّه أفضل؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وقد جاء في سنن أبي داود، عن أنس قال: "ما رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إليه شيء فيه قصاص، إلاَّ أمر بالعفو"؛ والنصوص في هذا كثيرة. 6 - قال الشيخ تقي الدين: "استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو عنه إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلاَّ بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، وإلاَّ كان ظلمًا: إما لنفسه، وإما لغيره، قال في الإنصاف: وهذا عين الصواب". 7 - قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال، سقط القود،

والمشهور عند مالك: أنَّه للعصبات خاصة، قلتُ: وهو رواية عن أحمد، واختاره الشيخ تقي الدين". وإليك الخلاف بأوسع من هذا. * خلاف العلماء: ذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور العلماء إِلى: أنَّ القصاص حق لجميع الورثة، من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال، والنساء، والصغار، والكبار، فمن عفا منهم صحَّ عفوه، وسقط القصاص، ولم يكن لأحد على الجاني سبيل؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فأهله بين خِيرَتَين"؛ وهذا عام في جميع أهله، والمرأة من أهله؛ بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يعذرني من رجل، بلغني أذاه في أهلي، وما علمت على أهلى إلاَّ خيرًا". وذهب الإمام مالك إلى: أنَّ القصاص والعفو عنه موروث، ولكنه منوط بالعصبات من الرجال خاصة؛ لأنَّه ثبت؛ لدفع العار، فاختصَّ به العصبات؛ كولاية النكاح. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وهو وجه لأصحاب الشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين. قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: "العفو حق لجميع الورثة من الرجال، والنساء، لكن إذا كثر التحيل لإسقاط القصاص، وخيف اختلال الأمن بكثرة العفو -جاز العمل ضرورة بالقول الآخر، الذي اختاره الشيخ تقي الدِّين، وهو المشهور من مذهب مالك؛ وهو أنَّ النساء ليس لهن العفو عن القصاص، وأنَّه مختص بالعصبة، والشيخ بناها على قاعدة ذكرها في بعض كتبه، وهي: أنَّه إذا ثبتت الضرورة جاز العمل بالقول المرجوح؛ نظرًا للمصلحة. ولا يُتَّخذ هذا عامًّا في كل قضية، بل الضرورة تقدر بقدرها، والحكم يدور مع علَّته.

باب الديات

بَابُ الدِّيَاتِ مقدمة أصلها: من الفعل: وَدَى يَدِي، فأبدلت الواو بالهاء، فهي كالعِدَةِ مِن الوَعْدِ، والدية في الأصل مصدر، ولكن سمي به المال المؤدى؛ بسبب الجِناية. والديات: جمع دِيَة، مخففة الياء. وشرعًا: هي المال المؤدَّى إلى المجني عليه، أو وليه بسبب جِناية. والدية ثابتة بالكتاب. قال تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وبالسنة: جاء في الصحيحين: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "قضى بدِيَةِ المرأة على عاقلتها". وبالإجماع: قال في "شرح الإقناع" وغيره: "وهي ثابتة بالإجماع". قال في "الإقناع وشرحه": "كل من أتلف إنسانًا مسلمًا، أو ذميًّا مستأمَنًا، أو مهادنًا، بمباشرة لإتلافه، أو بسبب كشهادة عليه؛ سواء كان عمدًا، أو خطأ، أو شبه عمد- لزمته ديته: إما في ماله، أو على عاقلته". فإن كان عمدًا محضًا، فالدية في مال الجاني، وإن كانت شبه عمدٍ، أو خطَأً فعلى عاقلته. والدية عقوبة مالية تحل محل القصاص إذا سقط، أو امتنع؛ لسبب من أسباب السقوط، أو الامتناع، هذا إذا كانت الجِناية عمدًا. وتكون الدية عقوبة أصلية، إذا كانت الجناية شبه عمدٍ، أو خطأً؛ سواء

أكانت على النفس، أم فيما دون النفس. والدية إذا أطلقت يراد بها الدية الكاملة. وقد اختلف العلماء في أصلها: فالمشهور من مذهب أحمد: أنَّ أصول الدية خمسة أصول: مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف مثقال ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، فهذه الخمس أصول الدية إذا أحضر من عليه الدية شيئًا منها لزم المجني عليه، أو ولي دمه قبولُه؛ فالخيرة لمن وجبت عليه. وهذا القول من مفردات مذهب الإمام أحمد. وذهب جمهور العلماء إلى أنَّ: الأصل في الدية هي الإبل، والأجناس الأربعة أبدال عنها، قال ابن منجا: هذه الرواية هي الصحيحة من حيث الدّليل، وقال الزركشي: هي "أظهر" دليلًا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إنَّ في قتيل السَّوط والعصا مائة من الإبل". ***

1023 - عَنْ أَبي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَن أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلى أَهْلِ اليَمَنِ، فذَكَرَ الحَدِيثَ، وفَيهِ: "إِنَّ مَنِ اعْتَبطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مائةً مِنَ الإِبلِ، وفي الأنفِ إِذَا أَوعب جدعه الدية، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَة، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ، وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَة، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيةُ، وَفِي الرِّجْلِ الوَاحِدَةِ نِصْف الدِّيَةِ، وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُث الدِّيَةِ، وَفِي الجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبعٍ مِن أَصَابعِ اليَدِ، وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِل، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وفِي المُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالمَرْأَةِ، وَعَلى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِيِنَارٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي المَرَاسِيلِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَابنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه في كتاب الطهارة. على أنَّ المحدثين اختلفوا في صحة الحديث، فقال أبو داود: "قد أُسند ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل (1/ 121)، النسائي (4853)، ابن خزيمة (4/ 19)، ابن الجارود (1/ 198)، ابن حبان (14/ 501).

هذا الحديث، ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وهم، إنَّما هو سليمان بن أرقم"، وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي، أنَّه الصواب، وتبعه صالح جزرة، وأبو الحسن الهروي. وقال النسائي: "وهذا أشبه بالصواب؛ يعني: عن سليمان بن أرقم". وقال ابن حزم: "صحيفة عمرو بن حزم منقطعة، لا تقوم بها حجة، وسليمان بن داود متَّفق على تركه". قال ابن حبان: "سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعَّفه، فإنَّما ظن أنَّ الراوي له هو اليمامي". قال ابن حجر: "ولولا ما تقدّم من أنَّ الحكم بن موسى وهِم في قوله: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم -لكان لكلام ابن حبان وجه، وصححه الحاكم، وابن حبان، والبيهقي، ونقل عن أحمد أنَّه قال: أرجو أن يكون صحيحًا". وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة: فقال الشافعي: "لم يقبلوا هذا الحديث؛ حتى ثبت عندهم أنَّه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقال ابن عبد البر: "هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معرفةً يستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتر في مجيئه؛ لتلقي الناس له بالصواب والمعرفة". وقال العقيلي: "هذا حديث ثابت محفوظ، إِلَّا أنا نرى أنَّه كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري". وقال يعقوب بن سفيان: "لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح

من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم". وقال الحاكم: "قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري لهذا الكتاب بالصحة". مفردات الحديث: - اعتَبَط: بالعين المهملة، بعدها: مثناة فوقية، ثم موحدة، آخره طاء مهملة؛ يقال: اعتبطه يعتبطه اعتباطًا؛ قتله بلا جنايةٍ، ولا جريرةٍ، توجب قتله، يقاد قاتله به، ويقتل، وكل من مات بغير علة فقد اعتبط. قتلًا: أي: قتلًا بلا جناية، ولا جريرة توجب قتله، وهو مفعول مطلق؛ لأنَّه نوع منه. - فإنَّه: جواب الشرط. - بيِّنة: البينة: هي الحجة الواضحة، وكل ما أبان الحق، وأظهره فهو بيِّنة. - أُوعِبَ: بضم الهمزة، وسكون الواو، وكسر العين المهملة، فموحدة: أوعبه إيعابًا: أخذه أجمع، ولم يدع منه شيئًا، والمراد هنا: قطع جميع أنفه. - الشَّفتَيْنِ: شفة الشيء: حرفه، وشفة الإنسان هو: الجزء اللحمي الظاهر، الذي يستر الأسنان، وهما شفتان. - قوَد: بفتحتين: القصاص؛ يقال: قاد الأمير القاتل بالقتيل: قتله به قودًا، وأصله: الانقياد، سمِّي به القصاص؛ لِما فيه من انقياد الجاني له بما جناه. - البَيْضَتَينِ: هم الخصيتان، مفردها: خصية؛ وهي البيضة من أعضاء التناسل. - الصُّلب: بضم الصاد المهملة، وسكون اللام؛ هو العمود الفقري. - المأمومة: هي التي تخرق الجلد، حتى تصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ هي: المنطقة التي فيها الدماغ في الرأس. - الجائفة: هو: الجرح الذي يصل إِلى باطن الجوف؛ سواء أكان من بطن، أم

صدر، أم ظهر، أم نحر، أم غير ذلك. - المُنَقِّلَة: هي الشجة التي توضح عظم الرأس، وتهشمه، وتنقل عظامه بتكسيره. - المُوضِحَة: هي الشجة التي توضح عظم الرأس، وتبدي بياضه، ولا تكسره، فهي خاصة بالرأس والوجه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ثبوت القصاص، إذا قَتَل المسلم المعصوم عمدًا وعدوانًا. 2 - ثبُوت الديَة في قتل العمد العدوان، إذا رضي بها أولياء المقتول، أو امتنع القصاص لسبب من أسباب الامتناع، أو سقط لسبب من أسباب السقوط. 3 - أنَّ الدية الكاملة في النفس هي مائة من الإبل، والمذهب أنَّ الخمسة الأجناس كلها أصول. ولكن القول الراجح أنَّ الأصل هي الإبل، والأجناس الباقية أبدال عنها. 4 - مما يدل على أنَّ الأصل الإبل، والباقيات أبدال ما يأتي: - التغليظ والتخفيف خاص في الإبل دون غيرها. - كل الديات في غير النفس تقدر بالإبل. وهذا القول رواية قوية في المذهب، رجَّحها بعض أئمة المذهب. 5 - الأعضاء في بدن الإنسان: إما أن تكون عضوًا واحدًا فقط؛ كالأنف، واللسان، والذكر، وإما أن تكون عضوين؛ كالعينين، والأذنين، والخِصيتين، وإما أن تكون أربعة؛ كالأجفان الأربعة. فما فيه عضو واحد -كالأنف- ففيه دية كاملة، وإن كان مما فيه عضوان، ففيهما دية كاملة، وفي الواحد نصف الدية، وإن كان فيه أربعة، ففيها كلها دية كاملة، وفي كل واحد منها ربع الدية. 6 - أما المأمومة وهي: التي تصل إلى أم الدماغ -وأم الدماغ هي جلدة رقيقة

فيها الدماغ- ففيها ثلث الدية. 7 - وأما الجائفة وهي: الطعنة التي تصل إِلى باطن الجوف؛ سواء أكان من بطنٍ، أم ظهرٍ، أم صدرٍ، أم نحرٍ، أم دماغٍ -ففيها أيضًا ثلث الدية. 8 - وأما المُنَقِّلَة -وهي: الَّتي توضح العظم، وتهشمه، وتنقل عظامه بتكسيرها- ففيها. خمس عشرة من الإبل؛ بإجماع العلماء. 9 - وأما أصابع اليد، أو الرجل: ففي كل أصبع عُشر الدية، وهو عَشْر من الإبل؛ لأنَّ أصابع اليدين فيها الدية كاملة؛ وفي أصابع الرجلين الدية كاملة، فيكون في كل أصبع عُشرها. وفي أنملة إبهام يد، أو رجل نصف العُشر، وهو خمس من الإبل؛ لأنَّ فيه أنملتين، أما الأنملة من غير الإبهام ففيها ثلث عُشر عُشرها؛ لأنَّ في كل أصبع ثلاث أنامل. 10 - أما السن: ففيه خمس من الأبل، سواء أكان سنًّا، أم ضرسًا، أو نابًا، وهي نصف عشر الدية. ومجموع الأسنان: اثنان وثلاثون، أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وعشرون ضرسًا، في كل جانب عشرة: خمسة من أعلى، وخمسة تحتها، فتكون ديتها كلها مائة وستين بعيرًا. 11 - إذا قتل الرجل المرأة عمدًا وعدوانًا، قُتِل قِصَاصًا بها، ولا يضر نقص ديتها عنه، فهي مكافئة له من حيث حرمة الدم. 12 - أما قدر الدية بالذَّهب: فألف دينار، ويكون قدره بالغرام أربعة آلاف ومئتين وخمسين غرامًا. ***

1024 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ الله عَنهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "دِيَةُ الخَطَأِ أَخْمَاسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وأَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ بِلَفْظِ: "وَعِشْرُونَ بنَي مَخَاضٍ"، بدل: "بنَي لَبُونٍ". وَإِسْنَادُ الأوَّل أَقْوَى، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِن المَرْفُوعِ (¬1). وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَن أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: "الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: هذان حديثان: أحدهما: حديث ابن مسعود والثاني حديث عمرو بن شعيب. أما حديث ابن مسعود: فقال المصنف عنه ما يلي: ¬

_ (¬1) الدارقطني (3332) أبو داود (4545)، الترمذي (1386)، النسائي (4802)، ابن ماجه (2631)، ابن أبي شيبة (9/ 134). (¬2) أبو داود (4541)، الترمذي (1387).

أخرجه الدارقطني، وسكت عنه. وأما رواية الأربعة فهي بلفظ: "وعشرون بني مخاض"، بدل: "بني لبون"، ولكن إسناد الأول أقوى من إسناد رواية الأربعة، فإنَّ في رواية الأربعة خشف بن مالك الطائي، قال الدارقطني: إنَّه رجل مجهول، وفيه أيضًا الحجاج بن أرطأة. اهـ. قال في "التلخيص" عن هذا الحديث: "حديث ابن مسعود": رواه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني والبيهقي مرفوعًا. ورواه الدارقطني موقوفًا من طريق أبي عبيدة عن أبيه، وقال: هذا إسناد حسن، وضعَّف الأول من وجوه عديدة، وقوى رواية أبي عبيدة. أما حديث عمرو بن شعيب: فرواه الخمسة إِلاَّ الترمذي، وسكت عنه أبو داود، لكن قال المنذري: في إسناده عمرو بن شعيب، أما من دون عمرو ابن شعيب فهم ثقات، إِلاَّ محمَّد بن راشد المكحولي، وقد وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي، وضعَّفه ابن حبان، وأبو زرعة، قال الدارقطني: حديث ضعيف، غير ثابت عن أهل المعرفة بالحديث، وقد ضعَّفه البيهقي، والمنذري. قال الخطابي: لا أعرف أحدًا قال به من الفقهاء. * مفردات الحديث: - الخَطَأ: يقال: خطىء الرجل يخطأ خطأً: ضد أصاب، والخطأ ضد الصواب، والمراد هنا: أن يفعل المكلف ما له فعله، فيصيب آدميًّا معصومًا، لم يقصده بالفعل، فيقتله، وكذا عمد الصبي، والمجنون يعد خطأ. - حقَّة:-بكسر الحاء وتشديد القاف، ثم تاء التأنيث-: هي من الإبل ما دخلت في السنة الرابعة، سمِّيت بذلك؛ لأنَّها استحقت الركوب؛ والحمل. - جذعة: -بفتحات-: هي ما دخلت في السنة الخامسة، سميت بذلك؛ لأنَّها أسقطت مقدم أسنانها.

- مخاض: هي التي أتى عليها الحول من الإبل، ودخلت في السنة الثانية، فأمها غالبًا ماخض: أي حامل. - لبون: ما أتى عليه سنتان، ودخل في الثالثة، فصارت أمه غالبًا، ذات لبن؛ لأنَّها حملت، ووضعت بعده. - خَلِفة: -بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام، بعدها فاء-: وهي الحامل، ولذا جاء في رواية ابن ماجه: "في بطونها أولادها"، وتُجمع الخَلِفة على: خَلِفَات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ التصحيح هو أنَّ الأصل في الدية هي الإبل، وأنَّ الأجناس الباقية هي أبدال؛ ذلك أنَّ الإبل هي التي يدخلها التغليظ، والتخفيف. 2 - هذا الحديث أفاد أنَّ دية قتل الخطأ دية مخففة، فهي تقسم أخماسًا: عشرون حِقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مَخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وهذا التحديد هو مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف، إِلاَّ أنَّهم اختلفوا في الخامس: فقال أبو حنيفة: "إنَّه بنو مخاض"، وقال الآخرون: "هو بنو لبون"، وإسناد الدارقطني أقوى، وفيه "بنو لبون" فهو أرجح. قال ابن حجر: وإسناد هذا الحديث أقوى من الروايات الأخر، فهو أصل في تعبين أسنان إبل الدية. 3 - أما رواية أبي داود والنسائي عن عمرو بن شعيب: "الدية ثلاثون حِقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفَة، في بطونها أولادها". فقد أخذ بعها جماعة من السلف، منهم: عطاء، ومحمَّد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي موسى، والمغيرة، وهي رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب، والموفق في العمدة، والزركشي. 4 - هذا التحديد في دية الخطأ، أما دية العمد وشبه العمد، فسيأتي الحديث

رقم (1026) في بيأنها إن شاء الله تعالى. وعن الإمام رواية ثالثة: أنَّ دية الخطأ تقسم أرباعًا: خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقَّة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض، رواها عن الإمام أحمد الجماعة، واختارها الخرقي؛ لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: "كانت الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرباعًا: خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض". وهو قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد الديات: قرار رقم (50) وتاريخ 30/ 8/ 1396 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد: ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء، المنعقدة بمدينة الطائف، في شهر شعبان 1396 هـ؛ جرى الاطلاع على خطاب المقام السامي الوارد من سمو نائب رئيس مجلس الوزراء رقم (33867) في 2/ 12/ 1395 هـ، المتضمن الموافقة على ما اقترح من إعادة النظر في تقويم دية النفس، على ضوء تغير أقيام الإبل، التي هي الأصل في الدية، بما يكون محققًا للعدل والإنصاف. فقد قامت الهيئة ببحث المسألة على ضوء النصوص الواردة في أصول الدية، وحيث إنَّه لا يعلم خلاف بين العلماء في أنَّ الإبل أصل في الدية، وإنَّ ديَّة الحر المسلم مائة من الإبل، وبما أنَّ الراجح من أقوال أهل العلم أنَّ الأصل في الدية هو الإبل، وما سواها من الأنواع فهو من باب القيمة، كما هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- واختيار الخرقي، والموفق، وغيرهما

من علماء الحنابلة، وهو الراجح عند أئمة الدعوة -رحمهم الله- للأحاديث الواردة في ذلك منها: حديث عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا إنَّ دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا: مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"، وحديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "وفي النفس مائة من الإبل"، وحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون". وروى أبو داود بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنَّه قال: "في شبه العمد خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض"، وهذه الأحاديث تدل على أنَّ الأصل في الديات هو الإبل، ولأنَّه -صلى الله عليه وسلم- فرَّق بين دية العمد وشبهه، وبين دية الخطأ، فغلظ في الأول، وخفف في الثاني، ولا يتحقق التفريق المشار إليه في غير الإبل، ومن ذلك يتَّضح رجحان القول بأنَّ الأصل في الدية هو الإبل خاصة وما عداها قيم، ويؤيده أنَّ دية ما دون النفس من الأعضاء، والأسنان، والكسور، إنما وردت في الأحاديث مقدرة بالإبل، وبناءً على هذا القول المختار، وهو أنَّ الأصل في الدية الإبل، وعلى أنَّه يجوز تقويمها؛ لما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّه قام خطيبًا فقال: "إنَّ الإبل قد غلت، قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة". وهذا يدل على أنَّ إيجاب عمر -رضي الله عنه- لِما سوى الإبل كان على سبيل التقويم؛ من أجل غلاء الإبل، ولو كانت الأنواع الأخرى أصولًا بنفسها، لم يكن إيجابها تقويمًا للإبل، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك، ولا

كان لذكره معنى، وهذا التقويم يكون في كل زمان بحسبه، وحيث إنَّ تقدير الدية في عام (1390 هـ) بأربعة وعشرين ألف ريال عربي سعودي، بالنسبة للخطأ، وسبعة وعشرين ألف ريال للعمد وشبهه، ومن قبل مجلس القضاء، بموجب قراره رقم (155) وتاريخ: 6/ 11/ 1395 هـ، كان حسبما توصل إليه المجلس آنذاك من معرفة قيمة الوسط من أقيام الإبل التي هي الأصل في الدية، كما تقدّم، ونظرًا لارتفاع أقيام الإبل ارتفاعًا شديدًا، بعد التاريخ المشار إليه، وحيث إنَّ سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، قد كتب إِلى عدة محاكم في مناطق مختلفة من المملكة، يطلب تكليف اثنين أو ثلاثة من أهل الخبرة والأمانة، بالتعرف على القيمة المتوسطة للأنواع الواجبة في الدية من الإبل، ووردت إجابات هذه المحاكم بمضمون ما قرَّره أهل الخبرة في كل بلد عن متوسط القيمة، ونظرًا إِلى اختلاف التقديرات الواردة من المحاكم، فقد قرر المجلس بأغلبية الحاضرين من أعضائه -الأخذ بأقلها تقديرًا لأنَّه الأحوط، ولأنَّ الأصل براءة الذمة مما زاد على ذلك، ولأنَّ القاتل إذا أحضر مائة من الإبل من الأنواع المنصوص عليها، السالمة من العيوب، وجب على أولياء القتيل قبولها: "في أي مكان كانوا، ولو كانت قيمتها في ذلك المكان أقل منها في مكان آخر". وبحسب هذا التقدير المشار إليه، تكون دية العمد وشبهه "خمسة وأربعين ألف ريال"، ودية الخطأ "أربعين ألف ريال"، ويستمر العمل بموجب هذا التقدير ما لم تتغيَّر قيمة الإبل بزيادة كثيرة، أو نقص كبير يوجب إعادة النظر. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد، وعى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ***

1025 - وَعَنِ ابْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ علَى اللهِ ثَلَاثَة: مَنْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذُحْلِ الجَاهِلِيَّةِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ (¬1)، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَاسِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه أحمد، وابن حبان، من حديث عبد الله بن عمرو. ورواه الدارقطني، والطبراني، والحاكم، من حديث أبي شريح. ورواه الحاكم، والبيهقي من حديث عائشة. ورواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس مرفوعًا: "أبغضُ النَّاس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرىء بغير حق ليهرق دمه". * مفردات الحديث: - أَعْتَى: اسم تفضيل من: العُتُو، وهو التجبّر؛ أي: أطغاهم، وأشدهم تمردًا. - لذُحل: -بضم الذال، وسكون الحاء المهملة-: لعداوة الجاهلية وثأرها، جمعه: أذحال وذحول. - الجاهلية: يقال: جهل يجهل جهلًا وجهالة: ضد علم، والجاهلية: حالة الجهل، كما تطلق على ما قبل الإسلام. ¬

_ (¬1) ابن حبان (13/ 340)، أحمد (2/ 179، 187). (¬2) البخاري (6882).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - شدة تحريم هذه الجرائم الثلاث، ووصف صاحبها بأنَّه أشد الناس تجبرًا وعتوًا، وهذه الثلاث هي: الأولى: مَنْ قتل نفسًا محرَّمة في حرَم الله الآمن؛ لأنَّ قتل النفس التي حرَّم الله أعظم الذنوب بعد الشرك، وهي في حرم الله أشد حرمة، وأعظم إثمًا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج]. قال ابن مسعود: "ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إِلَّا أن يكون رجلًا بالبيت الحرام، لأذاقه الله تعالى من عذاب أليم". وقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إنَّ دماءكم، وأعراضكم، وأموالكم عليكم حرام، كحرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا" [رواه مسلم (1218)]. الثانية: من المحرَّمات الثلاث: منْ قتل غير قاتله، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. وذلك بأن يقتل غير قاتله، أو يقتل معه غيره، أو يمثِّل بقاتله. وكان الإسراف في القتل بهذه الأمور الثلاثة عادة جاهلية نهى الله تعالى عنها. الثالثة: القتل من أجل عداوات الجاهلية وثآراتها التي قضا عليها الإسلام وأبطلها، فقال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ودماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أوَّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة، وكان مسترضعًا في بني سعد، فقتله هذيل". 2 - ذهب جمهور العلماء إلى تغليظ الدية في الجملة، ولكنهم اختلفوا في تفصيلها. فذهب الإمام مالك إلى: أنَّ الدية تغلظ في قتل الخطأ والعمد، فيما إذا

قتل الأب، أو الأم، وإن علوا من الأجداد والجدات، إذا قتل واحدٌ منهم ابنه، أو حفيده، أو سبطه، فتغلظ عليه الدية بالتثليث؛ لامتناع القصاص في العمد منه للأبوة. وذهب الإمام الشافعي إِلى: تغليظ دية الخطأ فقط؛ إذا أوقع القتل في البلد الحرام، أو في الشهر الحرام، أو النسب المحرَّم. وذهب الإمام أحمد إلى: تغليظ الدية في البلد الحرام، وفي الشهر الحرم، وفي حالة الإحرام، وهذا القول هو المشهور من المذهب عند المتأخرين، ومشى عليه في "الإقناع" و"المنتهى"، وهي بهذه الصفة من المفردات، وصفة التغليظ أن يزاد لكل حال ثلث الدية. والرواية الأُخرى عن أحمد: أنه لا تغليظ مطلقًا، واختارها الخرقي، وابن قدامة في "المغني"، وصاحب "الشرح الكبير"؛ لظاهر الآية: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّساء: 92]. وهذا يقتضي أن تكون الدية واحدة في كل مكان وعلى أي حال، وهو ظاهر الأخبار، وعلى هذه الرواية العمل في المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية. * تنبيه: التغليظ هو عند الجمهور بقتل الخطأ فقط، دون العمد. ***

1026 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلَا إِنَّ دِيَةَ الخَطَإِ شِبْهَ العَمْدِ: مَا كَانَ بالسَّوْطِ وَالَعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الإِبلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه ابن حبان وابن القطان. قال في "التلخيص": رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن حبان، وقال ابن القطان: هو صحيح، ولا يضره الاختلاف. وللحديث طرق متعددة، قوَّى بعضها بعضًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - "شبه العمد"، أو "خطأ العمد" عرَّفه الفقهاء: بأن يقصد الجاني جِناية لا تَقتل غالبًا، مثل: أن يضرب شخصًا بسَوط، أو عصا، أو حجر صغير في غير مَقْتل. 2 - و"قتل شبه العمد": أخذ صورة العمد من حيث قصد الاعتداء، وأخذ صورة الخطأ من حيث عدم إرادة القتل، وعدم الآلة القاتلة. 3 - دية شبه العمد كَدِية العمد في تغليظها، فحديث الباب: "مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". ¬

_ (¬1) أبو داود (4547)، النسائي (8/ 41)، ابن ماجه (2627)، ابن حبان (1526).

4 - أما تقدير تغليظها عند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وجماعة من السلف-: فهو ما روي عن ابن مسعود من أنَّها تقسم أرباعًا: "خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جذعة". وجاء هذا الأثر عن السائب بن يزيد، رضي الله عنهما مرفوعًا. 5 - ودية شبه العمد كَدِية الخطأ في وجوبها على عاقلة الجاني؛ لِما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى، بحجر فقتلها، وما في بطنها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ دية جنينها عبدٌ أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها". ***

1027 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "هذِهِ وَهَذِه سَوَاءٌ" يَعْنِي الخِنْصَرَ، وَالإِبْهَامَ. رَواهُ البُخَارِيُّ. وَلأَبي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: "دِيَةُ الأَصَابعِ سَوَاءٌ، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ". وَلابْنِ حِبَّانَ: "دِيَةُ أَصَابعِ اليَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرَةٌ مِنَ الإِبِلِ لِكُلِّ إِصْبعٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواية أبي داود، والترمذي صححهما الترمذي، وابن حبان، وابن عبد الهادي، وقال ابن القطان: رجاله كلهم ثقات. وأما رواية ابن حبان: فصححها ابن حبان، وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال التصحيح. * مفردات الحديث: - الأصابع: جمع "أصبع"؛ وهو أحد اليد أو القدم. - الأسنان: جمع "سِن"؛ وهو قطعة من العظم، مؤنثة، تنبت في الفك. - الثَّنِيَّة: إحدى الأسنان الأربع، التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. - الضرْس: السن الطاحنة، يذكر ويؤنث، جمع: " أضراس وضروس". ¬

_ (¬1) البخاري (6895)، أبو داود (4559)، ابن حبان (5980)، الترمذي (1391).

- سواء: -بالفتح ممدودة، وتضم سينه، ويقصر- وهو المثل والنظير، والمعنى: أنَّ دية كل واحدة، من الأصابع واحدة وكل من الأسنان واحدة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اليدان فيهما عشرة أصابع، كل أصبع فيها عُشْر الدية من الإبل، لا فرق بينهما في ذلك، فالخنصر الصغير الذي في طرف الكف، والإبهام الكبير الذي عليه الاعتماد في القبض، والبطش وغير ذلك، كلاهما على حد سواء في قدر الدية، ومجموع الأصابع العشرة في اليدين فيها الدية كاملة. والرِّجْلان مثل اليدين والأصابع، وإن اختلفت، فكل واحد منها يؤدي دورًا لا يقوم به الأصبع الآخر، والله حكيم خبير. 2 - أما الأسنان فهي اثنتان وثلاثون: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وعشرون ضرسًا، في كل جانب عشرة: الأعلى خمسة، وتحتها خمسة، والجانب الآخر كذلك. 3 - كل واحدة من هذه الاثنتين والثلاثين سواء في الدية، فكل واحد منها له وظيفته الخاصة من حيث الجمال، ومن حيث القطع، ومن حيث المضغ وغيره. قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": "ثم زيَّن سبحانه الفم من الأسنان التي هي جمال له وزينه .. وبها قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة القطع، فأحكم أصولها، وحدد رؤوسها، وبيَّض لونها، ورتَّب صفوفها، متساوية الرؤوس، متناسقة الترتيب". 4 - كل واحد من الأسنان، أو الأضراس فيه خمسة من الإبل، مجموع ديتها: "مائة وستون" بعيرًا. ***

1028 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- رَفَعَهُ قَالَ: "مَنْ تَطَبَّبَ -وَلَمْ يَكُنْ بِالطِّبِّ مَعْرُوفًا- فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وَصَلَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بطريقه الآخر. قال المصنف: أخرجه الدارقطني، وصححه الحاكم، ورواه أبو داود والنسائي، وغيرهما، إِلاَّ أنَّ إرساله أقوى من وصله، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبى. وله شاهد من طريق عمر بن عبد العزيز عن الوفد الذي قدموا على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: فذكره بنحوه. * مفردات الحديث: - تطَبَّبَ: يعني: ادَّعى علم الطب، ولم يكن طبيبًا؛ بأن لم يكن عنده علم، ولا خبرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ من ادَّعى علم الطب، وليس بعالم فيه، ولا يحسنه، ¬

_ (¬1) أبو داود (4586)، النسائي (8/ 52)، ابن ماجه (3466)، الدارقطني (3/ 196)، الحاكم (4/ 212).

فغرَّ النَّاس، وعالجهم، فأتلف بعلاجه نفسًا، فما دونها من الأعضاء، فهو ضامن؛ لأنَّه متعدٍ، حيث غرَّ النَّاس، وأعدَّ نفسه لما لا يعرفه. قال الطيبي في "شرح المشكاة": لا أعلم خلافًا في أنَّ المعالج إذا تعدى، فتلف المريض كان ضامنًا، وكذا المتعاطي علمًا أو عملًا لا يعرفه، فهو متعدٍّ، فإن تولد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القود؛ لأنَّه لم يستبد بذلك دون إذن المريض. 2 - أما حكم عمله: فإنَّه محرَّم عليه هذه الدعوى الكاذبة، والتغرير بالناس، والعبث بأبدانهم بالجهل والكذب. 3 - وما أخذه من أجرة: فهي محرَّمة؛ لأنَّها من أكل أموال النَّاس بالباطل، ونتيجة خداع، وثمرة تمويه. 4 - هذه الطريقة يتعاطاها، ويفعلها كثير ممن يدعون المعرفة بالطب الشعبي، يظهرون أمام البسطاء بالمعرفة، فيكوونهم بالنار، ويصِفُون لهم الوصفات، التي إن لم تضر فإنها لا تنفع. 5 - يقاس على ادِّعاء الطب بالجهل كل عمل يدعيه الإنسان، أو صنعة ينسب إليها، وهو لا يحسن ذلك، ثم يفسد على الناس أموالهم، فإنَّه بادعائه هذا أو إقدامه على دعوى الإصلاح ضامن لكل ما خرَّب، أو فسد من جرَّاء عمله، وما يأخذه من مال فهو حرام، وأكل لأموال النَّاس بالباطل. 6 - وأعظم من هذا كله ادعاء العلم الشرعي، وتعاطي الفتوى مع الجهل، فإذا كانت الأبدان تضمن مع الجهل، فكيف الإضرار بالدين؟! 7 - وهذه فتوى حول الموضوع صادرة من مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها في زمنه: سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- قال: من محمَّد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز أيَّده الله بتوفيقه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فالإشارة إِلى خطاب جلالتكم رقم: 5/ 12/ 10/ 1531 في 15/ 8/ 1380 هـ المتضمن السؤال عمَّا يحل من حوداث السيارات، وعما ينشأ على أيدي الأطباء عند إجراء العمليات من حوادث الوفيات ... إلخ. المسألة الأولى: إذا انقلبت السيارة، وكان الانقلاب ناتجًا عن تفريط السائق أو تعديه، مثل السرعة الزائدة، أو عدم ضبطه آلات السيارة، أو غفلته عن تفقدها، أو لم يكن السائق يحسن القيادة، أو نحو ذلك، مما يعد تفريطًا، أو تعديًا -فإنَّه يضمن كل ما نتج، لأنَّه متسبب. وإن لم يكن شيء من ذلك، وكان السائق حاذقًا ومتفقدًا لآلاتها، ولم يكن مسرعًا سرعة زائدة، فلا ضمان عليه؛ لأنَّ الأصل براءة الذمة، وإن اختلفا، فالبينة على الركَّاب، وعليه اليمين عند عجزهم. المسألة الثانية: إذا نام إنسان تحت سيارة، فشغل سيارته وأتلفته، فالسائق ضامن كل ما نتج عنه؛ لأنَّه هو المباشر، والمفرط بعدم تفقده ما تحت سيارته، وينطبق عليه حكم من فعل ما له فعله، فأصاب آدميًّا معصومًا. المسألة الثالثة: إذا ألقى الراكب نفسه من السيارة، وهي تسير بدون علم السائق، فلا ضمان على أحد، ما دام الراكب بالغًا عاقلًا، بخلاف الصغير والمجنون. المسألة الرابعة: إذا عالج الطبيب مريضًا، وحصل من علاجه تلف نفس، أو طرف -فإنَّه يضمن إذا تعدى أو فرط. * وخطأ الطبيب: 1 - إما أن يكون بجهله بالطب، فهو ضامن كل ما تلف بسببه، من نفس، فما دونها بالدية، ويسقط عنه القصاص. 2 - أن يكون حاذقًا في الطب، ولكنه أخطأ الدواء، أو صفة استعماله، أو

جنت يده على عضو صحيح، فهذا الطبيب جنى جناية خطأ مضمونة، فإذا كانت أقل من الثُّلث، ففي مال الطبيب خاصته، وإلاَّ فعلى عاقلته. 3 - أن يكون الطبيب حاذقًا، وأعطى الصنعة حقها، ولم تجن يده، أو يقصِّر في اختيار الدواء في الكمية والكيفية، فإذا استعمل كل ما يمكنه، ونتج عن فعله المأذون من المكلف أو غير المكلف تلف، فلا ضمان عليه؛ لأنَّها سراية مضمون فيها، كسراية الحد والقصاص، والله أعلم. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن حوادث السير: قرار رقم (71): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النببين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندرسيري باجوان بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرَّم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إِلى المجمع بخصوص موضوع: "حوادث السير" وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير، وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات، بما يحقق شروط الأمن، كسلامة الأجهزة، وقواعد نقل الملكية، ورخص القيادة، والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن، والقدرة والرؤية، والدراية بقواعد المرور، والتقيد بها، وتحديد السرعة المعقولة، والحمولة.

قرَّر ما يلي: 1 - أ) إنَّ الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعًا؛ لأنَّه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات؛ بناءً على دليل المصالح المرسلة، ويبنغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال. ب) مما تقتضيه المصلحة أيضًا سن الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور؛ لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات، والأسواق من أصحاب المركبات، ووسائل النقل الأخرى؛ أخذًا بأحكام الحسبة المقررة. 2 - الحوادث التي تنتج عن تيسير المركبات، تطبق عليها أحكام الجِنايات، المقررة في الشريعة الإسلامية، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ، والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار؛ سواء في البدن، أم المال، إذا تحققت عناصرها من خطأ، وضرر، ولا يعفى من هذه المسؤولية إِلاَّ في الحالات الآتية: أ) إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها، وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب) إذا كان بسبب فعل متضرر المؤثر تأثيرًا قويًّا في أحداث النتيجة. ج) إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه، فيتحمل ذلك الغير المسؤلية. 3 - ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها، إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء. 4 - إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر، كان على كل واحد منهما

تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال. 5 - أ) مراعاة ما سيأتي من تفصيل؛ فإنَّ الأصل أنَّ المباشر ضامن، ولو لم يكن متعديًا، وأما المتسبب فلا يضمن إِلاَّ إذا كان متعديًا، أو مفرطًا. ب) إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب، إِلاَّ إذا كان المتسبب متعديًا، والمباشر غير متعدٍّ. ج) إذا اجتمع سببان مختلفان، كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤلية بحسب نسبة تأثيره في الضرر، وإذا استويا، أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما، فالتبعة عليهما على السواء، والله أعلم. ***

1029 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فِي المَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ. وَزَادَ أَحْمَدُ: "وَالأَصَابعُ سَوَاءٌ، كُلُّهُنَّ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ". وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المصنف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود. وقال الشوكاني: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وصاحب "التلخيص"، ورجال إسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات. وقد حسَّنه الترمذي. * مفردات الحديث: - المواضح: جمع "مُوضِحة": والموضحة هي؛ الشجة في الرأس، أو الوجه خاصة، تشق الجلد، وتبرز العظم، وتوضحه ولا تكسره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المواضح جمع "موضحة"، وهي إحدى شجاج الرأس والوجه خاصة، ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 215)، أبو داود (4566)، النسائي (8/ 57)، الترمذي (1390)، ابن ماجه (2655)، وابن الجارود (785).

سميت: "موضحة"؛ لأنَّها توضح العظم وتبرزه، وديتها نصف عُشر الدية، خمس من الإبل، فإن نزلت إِلى الوجه فموضحتان، لأنَّها أوضحته في عضوين، وإن كان بينهما حاجز فموضحتان، ولو كانتا في الرأس وحده، أو في الوجه وحده. 2 - أما أصابع اليدين والرجلين، فتقدم أنَّ دية كل أصبع عشْر من الإبل، فأصابع اليدين فيها دية كاملة، وهي مائة من الإبل، ومثلها أصابع الرجلين. ***

1030 - وَعَنْ عَمْرِو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِينَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: "دِيةُ المُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ". وَلِلنَّسَائِيِّ: "عَقْلُ المَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا". وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الترمذي: حديث حسن، وقد صحَّحه ابن خزيمة. وإسناده حسن، على الخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وللحديث شاهد عند الطبراني في "الأوسط". قال الألباني: وأما رواية النسائي في عقل المرأة فإنَّها ضعيفة، ولها علَّتان: الأولى: عنعنعة ابن جريج، فإنَّه مدلس. والأخرى: ضعف إسماعيل بن عياش. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 180)، أبو داود (4583)، الترمذي (1413)، النسائي (8/ 45)، ابن ماجه (2644).

* مفردات الحديث: - أهل الذمة: هم بعض الكفار الذين يقرون على كفرهم، بعقد، يلتزمون فيه بذل الجزية، والتزام أحكام الملة. - المعاهَد: هو الكافر الذي أُعطي أمانًا وعهدًا، يُحرم به قتله، ورِقه، وأسره. - عَقْل المرأة: عقل المرأة ديتها، ودية المرأة على النّصف من دية الرجل، إِلاَّ فيما دون ثلث الدية، فتكون ديتها مثل دية الرجل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث نوعان من الديات: الأول: دية الكتابي نصف دية الحر المسلم؛ سواء كان ذميًّا، أو معاهَدًا، أو مستأمنًا؛ لاشتراكهم في وجوب حقن الدم. وجراحاتهم من دياتهم، كجراحات المسلمين من دياتهم؛ لأنَّ الجرح تابع للقتل. الثاني: دية المرأة، مسلمةً كانت أو كافرةً، فهي على النصف من دية رجل من أهل دينها، نقل ابن عبد البر، وابن المنذر إجماع العلماء عليه. 2 - وجراحها تساوي جراح الرجل من أهل دينها، فيما دون ثلث ديته، فإذا بلغت الثلث، أو زادت عليه، صارت على النصف منه. وذلك لما روي النسائي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عقل المرأة مثل عقل الرَّجل، حتى تبلغ الثلث من ديتها" قال ربيعة: قلتُ لسعيد بن المسيب: لما عظمت مصيبتها، قلَّ عقلها، قال: "هكذا السنة، يا ابن أخي". 4 - ومساواتها للرجل إِلى ثلث الدية هو مذهب الإمامين مالك وأحمد، وأما أبو حنيفة والشافعي: فيريان أنَّها على النصف من دية الرجل مطلقًا.

* خلاف العلماء: ذهب مالك وأحمد إلى: ما دلَّ عليه هذا الحديث؛ من أنَّ دية الذمي هي على النصف من دية المسلم، قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى: أنَّ دية الذمي مثل دية المسلم، ودليلهما: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النِّساء: 92]. والظاهر من الإطلاق الكمال، والجواب أنَّ الآية مجملة، ولا يخفى أنَّ دليل القول الأول أقوى وأرجح، والله أعلم. ***

1031 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَقْلُ شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ، فَتَكُونَ دِمَاءٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَضَعَّفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه الدارقطني وضعَّفه، وأخرجه البيهقي بإسناده، ولم يضعفه. وروي الحديث الإمام أحمد في "مسنده"، وقال في "بلوغ الأماني": في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال، وقد روي من طريق أخرى من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، صحَّحه ابن حبان، وابن القطان، والسيوطي. * مفردات الحديث: - شِبهُ العمد: هو أن يقصد جنايةً بما لا يقتل غالبًا، فيموت من تلك الجِناية. - مغلظة: الغلظة خلاف الرِّقة، والدية المغلظة: هي التي تكون في قتل العمد وشبه العمد، فتؤخذ أرباعًا من أسنان الإبل: بنات المخاض، واللبون، والحِقاق، والجذل. - يَنْزُو الشيطان: نزا الفحل نزوًا: وثب، ونزا به الشر: تحرك، قال في "النهاية": يقال: نزوتُ على الشيء إذا وثبت عليه، وقد يكون في الأجسام ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 95)، أبو داود (4565).

والمعاني. والمراد ضغينته: هي الحقد والعداوة والبغضاء؛ جمعها: "ضغائن" من نزو الشيطان، وساوسه، وإغوائه بالإفساد بين الناس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم تعريف قتل شبه العمد، وأنَّ فيه شائبة العمد؛ من حيث قصد الجناية، وشائبة الخطأ؛ من حيث عدم قصد القتل، وضعف الدلالة. 2 - ولعدم ثبوت القصاص فيه، وأخذه صفة العمدية من حيث قصد الجِناية -فإنَّ الدية فيه مغلظة. 3 - التغليظ في الدية فيه قولان للعلماء: أحدهما: أن تكون الدية تجب أرباعًا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون "جَذَعة"، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه- موقوفًا، وعن غيره مرفوعًا، وتقدم. الثاني: أنَّ تغليظ الدية هو: ثلاثون حِقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلِفَة في بطونها أولادها وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابه. 4 - قتل شبه العمد يأتي من غير عداوة ولا ضغينة، ولا حمل سلاح، وإنما ينزو الشيطان بسبب مزاح أو لعب، فيحصل القتل الذي لم يقصد، فتتكوَّن الدماء بين الناس، والله لطيف بعباده. ***

1032 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشْرَ أَلْفًا". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. راوه الأربعة، والدارمي، والدارقطني والبيهقي من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، ورجَّح النسائي وأبو حاتم إرساله. وقد روي موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني: عبد الرحمن بن أبي زيد عن نافع بن جبير عن ابن عباس، قلتُ: هذا سند ضعيف، علَّته عبد الرحمن هذا، وهو ابن البيلماني، وهو ضعيف، كما هو مبيَّن في كتب الجرح والتعديل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم الخلاف في أنواع الدية، وأنَّها خمس هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذَّهب، والفضة. فبعض العلماء يرى: أنَّ هذه الخمسة كلها أصول في الدية، وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد. 2 - وبعضهم يرى: أنَّ الأصل هو الإبل فقط، والباقيات أبدال عنها، وهو القول الراجح، وتقدم بيان أدلة هذا القول. 3 - هذا الحديث فيه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ودى القتيل بالفضة، وهي اثنا عشر ألف ¬

_ (¬1) أبو داود (4546)، الترمذي (1388)، النسائي (8/ 44)، ابن ماجه (2629).

درهم، فيكون من أدلة مَنْ يرى أنَّ الخمسة كلها أصول، ولكن يمكن حمله بأنَّه لم يكن عند الجاني إبل في الوقت، أو أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صالح بين أهل القتيل والجاني. 4 - كون الدية اثني عشر ألفًا هو مذهب الأئمة الثلاثة، أما مذهب الإمام أبي حنيفة فيرى أنَّ الدية عشرة آلاف. ***

1033 - وَعَنْ أَبي رِمْثَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَعِي ابْنِي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: ابْنِي، أَشْهَدُ بِهِ، فَقَال: أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم من رواية أبي رمثة، ورواه أحمد أيضًا، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص، ورواه أحمد وابن ماجه وابن حبَّان من رواية الخشخاش العنبري، وروط أحمد أيضًا، والنسائي معناه من رواية ثعلبة بن زهدم، وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود. وهذه الأحاديث يشد بعضمها بعضًا، ويقوِّي بعضها بعضًا، وهي معنى قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. * مفردات الحديث: - لا يجني عليك، ولا تجني عليه: الجِناية: الذنب، أو ما يفعله الإنسان مما يوجب العقاب، أو القصاص، ومعناه: أنَّ الإنسان لا يطالب بجناية غيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّه لا يطالب أحد بجناية غيره، قريبًا كان أو بعيدًا، حتى الأب مع ابنه، والابن مع أبيه، فالجاني يُطلب وحده بِجِنايته، ولا يطلب ¬

_ (¬1) أبو داود (4495)، النسائي (8/ 53)، ابن الجارود (770).

بجنايته غيره، قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وكانت المطالبة بجناية القريب عادةً جاهليةً، أبطلها الإسلام، وهذا في العمد خاصة، أما في غيره فسيأتي. 2 - الحديث يشير إلى حكم العاقلة في الشريعة الإسلامية اِلحكيمة، ونحن نورد فيها جملًا طيبة مفيدة، لتكمل أبواب كتاب الجنايات من هذا الكتاب، ويكون منها فائدة للقارىء إن شاء الله تعالى. 3 - العاقلة: هم ذكور العصبة نسبًا، من آباء، وأبناء، واخوة لغير أم، وأعمام، وأبنائهم، ووَلاء القريب منهم والبعيد، الذي يغرمون ثلث الدية فأكثر بسبب جناية قريبهم. 4 - قال الشيخ تقي الدين: جناية الخطأ مما يعذر فيه الإنسان، فإيجاب الدية على الجاني خطأً ضررٌ عظيم به، من غير ذنب تعمده، والشارع أوجب على مَنْ عليهم موالاة القاتل ونصْره أن يعينوه على ذلك، فكان هذا كإيجاب النفقات التي تجب للقريب، فكان تحملها على وفق القياس. 5 - ولا يعتبر في العاقلة أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا وارثين لولا الحجب عقلوا. 6 - ولا عقل على غير مكلف، ولا على فقير، ولا على أنثى، ولا مخالف لدين الجاني. 7 - ولا تَحْمِل العاقلة عمدًا محضًا، بل تحمل الخطأ وشبه العمد، كما لا تحمل صلحًا عن إنكار، ولا اعترافًا لم تصدق به، ولا قيمة متلَف، ولا ما دون ثلث الدية الكاملة، بل يكون ذلك كله في مال الجاني. 8 - يؤجل ما وجب على العاقلة على ثلاث سنين، من حين زهوق روح المجني عليه، أما الجروح فابتداء الحول من حين اندماله، يسلم عند رأس كل حول ثلثًا، فإن كانت الدية ثلثًا كدية المأمومة، حلَّت في آخر السنة الأولى، وإن

كانت نصف الدية، فالثلث في آخر السنة الأولى، والسدس الباقي في آخر السنة الثانية، وإن قتل اثنين ولو بجناية واحدة، فديتهما في ثلاث سنين. 9 - يجتهد الحاكم في تحميل العاقلة كل واحد منهم ما يسهل عليه، ويبدأ بالأقرب، فالذي يليه، فإن اتَّسعت أموال الأقربين، لم يتجاوزهم إِلى من بعدهم، وإلاَّ انتقل إِلى من يليهم، كالميراث. 10 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: المذهب أنَّ الجاني لا يلزمه أن يحمل مع العاقلة شيئًا من الدية. والقول الآخر: أنَّه يحمل مع العاقلة؛ لأنَّهم حملوا بسببه، ولا ينافي هذا أن الشارع جعل الدية على العاقلة، فإنَّها من باب التحمل؛ لأنَّها في الأصل واجبة على المتلِف. 11 - قال في "المقنع" و"حاشيته": ومن لا عاقلة له، فإن كان مسلمًا ففي بيت المال، فإن لم يكن فلا شيء على القاتل على المذهب، ويحتمل أنَّها تجب في مال القاتل، وهو أولى؛ لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. 12 - قال الشيخ صالح الحصين: إنَّ وجوب العقل واجب على بيت المال في كل حالةٍ لا يبقى فيها سبيل للثبوت على غير بيت المال، ولا يوجد ما يُسقط العقل عنه. 13 - وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الذي يتحمَّله بيت المال في الديات والديون هي: الأولى: إذا مات أحد المسلمين، وعليه دين أو دية، أو غيرها، ولم يخلف وفاء، فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال، كما ثبت بالأحاديث الصحيحة. الثانية: إذا جنى إنسان على آخر، وكانت الجِناية خطأ أو شبه عمد، ولم

تكن له عاقلة موسرة -فالمشهور من المذهب أنَّ الدية في بيت المال. الثالثة: إذا حكم القاضي بالقسامة، فنكل الورثة عن حلف الأيمان، ولم يرضوا بيمين المدَّعي عليه، فإنَّ الإمام يفديه من بيت المال. الرابعة؛ كل مقتول جُهل قاتله، كمن مات في زحمة طواف، أو عند الجمرة، ونحو ذلك، فديته في بيت المال. أما الدية في قتل العمد: فتجب في مال الجاني، وتكون من ضمن الديون التي في ذمته، فإن كان موسرًا لزمه الوفاء، وإن كان معسرًا فَنَظِرة إلى ميسرة، ويسوغ أن يُدفع له من الزكاة؛ ليوفي به هذه الدين؛ لأنَّه من الغارمين. وإن مات مدينًا فعلى ولي الأمر قضاء دينه من بيت مال المسلمين. ***

باب القسامة

باب القسامة مقدِّمة القسامة: بفتح القاف، وتخفيف السين المهملة، مصدر: أقسم إقسامًا وقسامةً، والقسامة اسم للقسم، وهو اليمين، أقيم مقام المصدر، فالقسامة هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة. والقسامة شرعًا: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم. وصورة القسامة: أن يوجد قتيل بجراح أو غيره، ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على مَنْ قتله، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد معيِّن أنَّه قاتله، وتقوم القرينة، أو القرائن على صدق المدَّعي. والقرائن كثيرة: منها العداوة بين القتيل والمدَّعى عليه، أو أن يوجد في دار المدَّعي عليه قتيلًا، أو يوجد أثاثه مع إنسان، أو نحو ذلك، حينئذٍ يحلف المدَّعي خمسين يمينًا أنَّ المدَّعى عليه هو القاتل، ويستحق دم المدعى عليه، فإن نكل عن الأيمان، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرىء، وإن نكل قضي عليه بالنكول. والقسامة ثبتت مشروعيتها في السنة. قال القاضي عياض: هي أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد. وهذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وبها أخذ الأئمة. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ القسامة مشروعة في القتيل إذا وُجد، ولم يُعلم قاتله، فتخصص بها الأدلة العامة.

وقد روي ابن عبد البر من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا: "البيِّنة على المدَّعي، واليمن على من أنكر، إِلاَّ في القسامة". قال الموفق: وهذه الزيادة يتعيَّن العمل بها؛ لأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة. ونكتة مسألة القسامة: أنَّ اليمين تكون في جانب من قوي جانبه من المترافعين، والأصل في الدعاوى أنَّ جانب المدعى عليه المنكِر أقوى؛ لأنَّ الأصل براءة الذمة، لكن في القسامة لما كان مع المدَّعي اللوث، قال شيخ الإسلام: كل قرينة أيَّدت الدعوى على المدعى عليه، رُجِّحَت حينئذٍ دعوى المدَّعي، فصارت اليمين في جانبه، ولِعِظَمِ القَسامة، وخطر الدماء، لم يُكْتفَ بيمين واحدة، بل لابد من تكريرها خمسين مرَّة. قال الإمام أحمد: أذهب إلى القسامة، إذا كان ثَمَّ سبب بيَّن. وقال شيخ الإسلام: اللوث ما يغلب على الظن صحة الدعوى. وقال العلامة ابن القيم: وهذا من أحسن الاستشهاد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن لصدق المدعي، فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك، ويجب على الحاكم أن يحكم، فيثبت حق القصاص، أو الدية، مع علمه أنه لم يرد، ولم يشهد. ***

1034 - وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ القَسَامَةَ علَى مَا كانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُود". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - القسامة شرعًا: هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم. 2 - قال ابن قتيبة: أوَّل من قضى بالقسامة في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأقرَّها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام. فالإسلام يقر من الأقوال والأفعال ما حقق مصلحة، أو كانت راجحة على المفسدة. 3 - الحديث يدل على إقرار القسامة على ما كانت عليه، وقد قضى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ناس من الأنصار، على ما سيأتي في حديث سهل بن أبي حثمة بعد هذا الحديث إن شاء الله تعالى. 4 - بعضهم يرى: أنَّ القسامة جاءت على خلاف القياس؛ ذلك أنَّ البيِّنة تكون على المدَّعي، واليمين على من أنكر، والقسامة عكست الوضع، فصارت الأيمان مطلوبة من المدَّعي، أو المدعين. 5 - وعند التأمل يظهر أنَّها على وفق القياس، وليست على خلافه، ذلك أنَّ الضابط أنَّ اليمين تكون في الجانب الأقوى من المتداعين، والقسامة لا تكون دعواها إلاَّ مع قرينة قوية، تدل على صحة الدعوى، وقوَّة اتِّهام المدعى عليه، وحينئذٍ صارت اليمين في حق المدعي؛ لأنَّ جانبهم قوي بالقرينة. ¬

_ (¬1) مسلم (1670).

1035 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "عَنْ رِجَالٍ مِنْ كبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيْبرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهْمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ، فَأُخبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبلَ هُوَ، وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَبِّر كَبِّر، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي ذلكَ كِتَابًا، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ: أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، قَالَ سَهْل: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُحَيصَّة؛ بضم الميم، فحاء مهملة، فمثناة تحتية مشددة، فصاد مهملة. - جهد: -بفتح الجيم، وسكون الهاء، آخره دال مهملة-: هو المشقة. - حُوَيِّصَة: بضم الحاء المهملة، وفتح الواو، فمثناه تحتية مشددة، فصاد مهملة. ¬

_ (¬1) البخاري (7192)، مسلم (1669).

- كَبِّر كَبِّر: بلفظ الأمر فيهما، والثاني تأكيد للأول، وللمبالغة، ومعناه: قدِّم الأسن في الكلام. - يَدُوا: أي: تُؤدي لكم يهود الدية. - يأذنوا بحرب: يقال: آذنه -بالمد- بالحرب يؤذنه: أعلمه بها، والمراد: ينذروا بالحرب والشر، ويراد بذلك: تهديدهم. - أتحلِفُون: الهمزة فيه للاستفهام، على سبيل الاستخبار. - رَكَضَتْنِي: ضربتني برجلها، فالركض الأصل هو: الضرب بالرِّجْل، ومنه قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]. - ناقة: الأنثى من الإبل، جمعها: ناق ونوق وأنوق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث أصل في "مسألة القسامة"، وصفتها: أن يوجد قتيل بجراح، اْو غيره، ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على مَنْ قتله، ويدَّعي أولياء المقتول على واحد بقتله، وتقوم القرائن على صدق المدَّعي: إما بعداوة بين القتيل والمدَّعى عليه، أو أن يوجد في داره قتيلًا، أو يوجد أثاثه مع إنسان، ونحو ذلك من القرائن، فيحلف المدَّعي خمسين يمينًا، ويستحق دم الذي يزعم أنَّه القاتل. قال في "فتح الباري": اتَّفقوا على أنَّها لا تجب لمجرد دعوى الأولياء، حتى تقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها. فإن نكل، حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء، وإن نكل قضي عليه بالنكول. 2 - المشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لابد في صحة دعوى المدَّعي من قرينة العداوة بين المقتول والمدعى عليه؛ وهو ما يسمى بـ"اللوث"، فإن لم يكن ثَمَّ عداوة، فلا قسامة.

والرواية الثانية عنه: صحة الدعوى، وتوجه التهمة بما يغلب على الظن من القرائن، كأن يوجد القتيل في دار إنسان، أو يرى أثاثه عنده، أو توجد شهادة لا تثبت القتل، كشهادة الصبيان، ونحو ذلك من القرائن. واختار هذه الرواية: ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال في "الإنصاف": وهو الصواب، وهو مذهب الإمام الشافعي. 3 - دعوى القسامة خالفت سائر الدعاوى بأمور: الأول: أنَّ اليمين توجهت على المدَّعي، وبقية الدعاوى البينة على المدَّعي، واليمين على المدعى عليه "المُنكر". الثاني: أنَّه يبدأ بأيمان المدعي، أو المدعِين، إن كانوا أكثر من واحد. الثالث: تكرير اليمين، وفي سائر الدعاوى يمين واحدة، وتشابه القسامة: "مسألة اللعان"، وتقدمت في بابها. 4 - إذا وجد قتيل، لا يعلم قاتله، ووجدت القرائن على قاتله -حَلَف أولياء المقتول خمسين يمينًا على صحة دعواهم، فيستحقون دم المدَّعى عليه، إذا كان القتل عمدًا محضًا؛ روي عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب مالك وأحمد، وأبي ثور، وابن المنذر، وهو المذهب القديم للشافعي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يُقْسِم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته". ولمسلم في صحيحه: "ويُسلم إليكم"، وفي لفظ: "تستحقون دم صاحبكم"؛ ولأنه حجة قوية، يثبت بها العمد، فيجب بها القتل، كالبينة. أما المشهور من مذهب الشافعي: فلا يستحقون إلاَّ الدية؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إمَّا أنْ يدُوا صاحبكم، وإما أن يُؤْذنوا بحرب". وإن كان القتل غير عمد، وثبت القتل على المتَّهم، فعليه الدية. 5 - إذا نكل المدعون عن اليمين، أو كانوا من غير أهل الأيمان (النساء والصبيان) -توجهت الأيمان على المتَّهمين في القتل، فيحلفون خمسين

يمينًا؛ أنَّهم لم يقتلوه، وأنَّهم لا يعلمون قاتله، فإذا حلفوا برئوا، وإن نكلوا، أدينوا بثبوت الدعوى عليهم، فتجب الدية. 6 - إذا نكل أولياء المقتول عن الأيمان، وحلف المدَّعى عليهم، فحينئذٍ تكون دية القتيل من بيت المال، حتى لا يضيع دمه، ومثله المقتول في زحام حج، أو مسجد، أو حفل، أو وجد مقتولًا، ولا يعلم قاتله، ولا تدل القرائن على قاتل؛ كل هؤلاء ونحوهم تكون دياتهم من خزينة الدولة. 7 - أنَّ اليمين تكون في جانب الأقوى من المتخاصِمَيْن. ففي دعوى القسامة توجهت الأيمان على أولياء المقتول أولًا؛ لأنَّ جانبهم تقوَّى بالقرائن الدالة على صحة دعواهم في قتل صاحبهم، والقرائن إذا قويت، فإنَّها من البينات الواضحة، فإن نكلوا عن الأيمان، دلَّ نكولهم على قوة جانب المدعى عليهم، فيحلفون، ويبرؤون من التُّهمة. 8 - استحباب تقديم الأكبر سنًّا في الأمور؛ لما له من شرف السن، وكثرة العبادة، وممارسة الأمور، وكترة الخبرة. 9 - جواز الوكالة في المطالبة بالحدود. 10 - فإن قيل: كيف عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- اليمين على الرجال الثلاثة، والوارث منهم هو عبد الرحمن خاصة، واليمين لا توجه إلاَّ عليه، ولا تؤخذ إلاَّ منه؟ فالجواب: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لما سمع كلام الجميع في صورة القتل، وكيفية ما جرى فيه، صار لا لبْس أنَّ حقيقة الدعوى مختصة بالوارث، وأنَّ اليمين متوجهة إليه خاصة، دون صاحبيه، وإنما وجه صورة الكلام إليهم لاهتمامهم جميعًا بالقضية. 11 - وفي الحديث: فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، والمواهب في الأمور، مثل: الإمامة، وولاية النكاح، وغير ذلك؛ لمزيد خبرته، وفضل سابقته.

12 - واشترط الفقهاء لصحة القسامة عشرة شروط: أحدها: اللوث -وهو على المذهب-: العداوة الظاهرة، نحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، والرواية الأخرى: صحة دعوى القسامة، وتوجه التهمة بكل ما يغلب على الظن من القرائن، واختار هذه الرواية ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال في "الإنصاف": وهو الصواب، وهو مذهب الشافعي. الثاني: أن يكون المدعى عليه القتل مكلفًا؛ لتصح الدعوى عليه، فإنَّها لا تصح على غير المكلف. الثالث: إمكان القتل من المدعى عليه، فإذا لم يمكن لنحو زمانة، لم تصح؛ كبقية الدعاوى التي يكذبها الحس. الرابع: وصف القتل في الدعوى؛ كأن يقول: جرحه بسيفه في محل كذا من بدنه. الخامس: اتفاق جميع الورثة على الدعوى للقتل، فلا يكفي عدم تكذيب بعضهم بعضًا، إذ الساكت لا ينسب إليه حكم. السادس: طلب جميع الورثة، فلا يكفي طلب بعضهم؛ لعدم انفرداه بالحق. السابع: اتفاق جميع الورثة على القتل، فإن أنكر بعض الورثة القتل، فلا قسامة. الثامن: اتفاق جميع الورثة على عين القاتل، فلو قال بعضهم: قتله زيد، وقال بعضهم: قتله بكر، فلا قسامة. التاسع: أن يكون في الورثة ذكور مكلفون؛ لأنَّ القسامة يثبت بها قتل العمد، فلم تسمع من النساء، ولا يقدم بيمينه بعضهم، ولا عدم تكليفه، أو نكوله عن اليمين.

العاشر: أن تكون الدعوى على واحد، لا اثنين فأكثر، فلو قال ورثة القتيل: قتله هذا مع آخر، فلا قسامة. ولا يشترط أن تكون القسامة بقتل عمد؛ لأنَّها حجة شرعية، فوجب أن يكتب بها الخطأ، كالعمد. وإذا تمت بشروطها العشرة، أُقيد بها. ويبدأ فيها بأيمان ذكور عصبة القتيل الوارثين، ومتى حلفوا، فالحق الواجب بالقتل لجميع الورثة، وإن نكلوا، حلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء إن رضوا أيمانه، وإن نكل المدعى عليه، لزمته الدية، وإن نكل الورثة عن الأيمان، ولم يقبلوا يمين المدعى عليه، فدى الإمام القتيل. * قرار مجلس هيئة كبار العلماء بشأن القسامة: قرار رقم (41) وتاريخ 13/ 4/ 1396 هـ جاء فيه: بعد استماع المجلس ما أعدَّ من أقوال أهل العلم، وتداول الرأي -قرَّر المجلس بالأكثرية أنَّ الذي يحلف من الورثة هم الذكور العقلاء، ولو واحدًا؛ سواء كانوا عصبة، أو لا؛ لِما في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة، ولأنَّها يمين في دعوى حق، فلا تشرع في حق غير المتداعين؛ كسائر الأيمان، وبالله التوفيق. هيئة كبار العلماء ***

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي مقدمة القتال: مصدر "قاتله"، أي: حاربه وواقعه. البغي: بغي عليه -بالغين المعجمة- بغْيًا، بفتح الموحدة، وسكون المعجمة-: عدا، وظلم، وعدل عن الحق. والمراد هنا: البغاة الظلمة الخارجون عن طاعة الإمام، المعتدون عليه، فإذا خرجوا عن طاعة الإمام، الواجبة عليهم، دعاهم الإمام وكشف شبهتهم، فإن أقروا -بأن رجعوا عن بغيهم- تركهم، فإن أبوا الرجوع وعَظَهم، وخوَّفهم القتال، وإن أصروا قاتلهم، لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه إذا خرج على إمام المسلمين طائفةٌ ذات شوكة بتأويل سائغ، فإنه يباح قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. ويجب نصب الإمام للمسلمين؛ لحماية بيضة الإسلام، والذود عن حوزته، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وتدبير أحوال المسلمين. وتثبت ولايته بواحد من الأمور الآتية: 1 - أن تكون باختيار وإجماع المسلمين، كإمامة أبي بكر الصديق. 2 - أن تكون إمامته بنص الإمام الذي قبله؛ كولاية عمر بن الخطاب حينما استخلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما.

3 - أو يجعل الأمر شورى في عدد معيَّن محصور؛ ليتَّفق أهل البيعة على أحدهم، ثم يتَّفقون عليه؛ كبيعة وإمامة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. 4 - أو يتولى على النَّاس بقهره وقوته حتى يدعنوا له، ويَدْعوه إمامًا، فتثبت له الإمامة، ويلزم الرعية طاعته، كولاية عبد الملك بن مروان. ***

1036 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - البغي له معانٍ كثيرةٌ: منها الظلم والسَّعي بالفساد، والعدول عن الحق، وغير ذلك من الأمور التي تعود إِلى الإفساد في الأرض. 2 - المراد بالبغي هنا: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين بغير حق، فالباغي هو الخارج عن الطاعة الواجبة عليه للإمام بغير حق. 3 - إذا فعل قوم ذلك، وخرجوا عن الطاعة، فعلى الإمام أن يدعوهم، ويكشف شبهتهم، فإن تمردوا، بدأ بقتالهم حتى يفيئوا إِلى أمر الله. 4 - على الرعية القيام مع الإمام، ومساندته، ونصرته إذا خرج عليه قوم لهم شوكة ومنعة، وشقوا عصا الطاعة. 5 - الحديث يدل على تحريم حمل السلاح على المسلمين، وأنَّ من حمله عليهم وأخافهم، فقد شذَّ وخرج عن جماعة المسلمين، وعِداد صفوفهم. 6 - أنَّ الإسلام دين الألفة والجماعة؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92]. أما التفرق والشقاق والتعادي، فهذا عمل مناف للإسلام، وتعاليمه. قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]. 7 - وحامل السلاح على المسلمين إن كان مستحلًّا لقتالهم فهو كافر، وإن كان ¬

_ (¬1) البخاري (6874)، مسلم (98).

لم يستحله، وإنما حمله، وخرج عليهم؛ لاعتقاده تعديل وضع الحكم، أو الطمع في السلطة ونحو ذلك -فهو باغٍ يحل قتاله حتى يعود إِلى جماعة المسلمين، فإذا عاد كُفَّ عنه. 8 - قال الشيخ: اتَّفقوا على أنَّ قطاع الطريق؛ إذا انشقوا على ولي الأمر، ثم تابوا بعد ذلك -لم يسقط عنهم الحدّ، بل تجب إقامته عليهم، وإن تابوا؛ لئلا يُتَّخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله. ***

1037 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ، وَمَاتَ -فَمِيْتَتُهُ مِيْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من خرج عن الطاعة: أي: طاعة ولي أمر المسلمين. - مِيتة: هذا هو مصدر الهيئة من الثلاثي المجرد على وزن "فِعْلة"، بكسر الفاء، تقول: عاش عِيشةً حسنةً، ومات مِيتَةً سيئةً، وما فوق الثلاثي يكون مصدره مصدر نوع. - جَاهلية: منسوبة إِلى: الجهل، والمراد به: من مات على الكفر قبل الإسلام. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نصب إمام المسلمين فرض كفاية، ويتم نصبه بمبايعته من أهل العقد من العلماء، ووجوه الناس، وأعيانهم. 2 - مهمة الإمام: حفظ الدين، وحماية بيضة الإسلام، وإقامة الحدود، وتحصين الثغور، وجهاد المعاند، وجباية الصدقات، وتقدير العطاء، واستكفاء الأمناء. 3 - من خرج عن طاعة الإمام، وفارق الجماعة، فشذَّ عن جماعتهم -فقد ذكر العلماء أنَّهم أحد أصناف أربعة: أحدها: قوم خرجوا على الإمام وطاعته بلا تأويل، فهؤلاء قُطَّاع طريق. الثاني: خرجوا بتأويل، إلاَّ أنَّهم نفر يسير لا منعة لهم؛ كالعشرة ونحوهم، ¬

_ (¬1) مسلم (1848).

فهؤلاء حكمهم حكم قطاع الطويق. الثالث: قومٍ خرجوا على الإمام، وراموا خَلعه بتأويل سائغ؛ سواء كان تأويلهم خطأً وصوابًا، ولهم شوكة ومنعة -فهؤلاء هم البغاة، فعلى الإمام أن يراسلهم، وينظر ما يدَّعون، وما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ذكروا شبهة كشفها، فإن فاؤوا، وإلاَّ قاتلهم وجوبًا، وعلى رعيته إعانته. الرابع: الخوارج الذين يكفِّرون بالذنب، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم -فهؤلاء فسقة، يجوز قتالهم ابتداء. 4 - فأي إنسان خرج من المسلمين بداعٍ من هذه الدواعي الأربعة، فهو خارج عن طاعة الإمام، ومفارق جماعة المسلمين، فإذا مات على هذه الحال، فقد مات على طريق أهل الجاهلية، الذين لا ينظمهم إمام، ولا تجمعهم كلمة. 5 - قال شيخ الإسلام: جمهور المسلمين يفرقون بين الخوارج، والبغاة، والمتأولين، وهو المعروف عن الصحابة. 6 - قال شيخ الإسلام: طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بها، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور، فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم، إلاَّ لما يأخذه من المال، فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم -فما له في الآخرة من خلاق، والقصد أنَّ طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله واجبة، ومناصحتهم من باب التعاون على البر والتقوى. 7 - قال شيخ الإسلام: لا يخفى أنَّ الله قد فضَّل الرجال على النِّساء، فلا يحل أن تُسَاوى المرأة بالرجل فيما من شأنه الاختصاص بالرجال، كالولايات، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفلح قوم، ولَّوا أمرهم امرأة". وأما حضور المرأة مجالس الرجال: فإن كان في حضورها مصلحة، وكانت متحجبة متسترة، فلا بأس في ذلك.

1038 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الفِئَةُ البَاغِيةُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الفئة: على وزن: "عِد"؛ هي الجماعة والطائفة من الناس، والهاء عوض عن الياء، لأنَّ أصلها: "فِأَيٌ" جمعها. "فِآت"؛ قال في "الكليات": الفئة هي الجماعة المتظاهرة، التي يرجع بعضها إلى بعض في التعاضد. وقال في "التعريفات": الفئة: الطائفة المقيمة وراء الجيش؛ للالتجاء إليهم عند الهزيمة، ومنه قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]. - الباغية: يقال: بغى على فلان يبغي بغيًا: عدا عليه وظلمه، فالبغي هو الاعتداء والظلم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - لما قتل الخوارج الثائرون الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بايع أهل الحل والعقد بالمدينة وغيرها عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وتمت له البيعة على المسلمين. 2 - كان معاوية بن أبي سفيان بالشام أميرًا لعمر بن الخطاب، ثم لعثمان -رضي الله عن الجميع، فامتنع من بيعة علي؛ بحجة أنَّ قتلة ابن عمه عثمان منضمون مع علي، ويطلب تسليمهم؛ للانتقام منهم. فانقسم المسلمون إِلى طائفتين: طائفة تؤثر الخليفة الرابع علي، والأخرى تؤثر معاوية؛ الذي يطالب بقتلة الخليفة المقتول ظلمًا. ¬

_ (¬1) مسلم (2916).

3 - ووجد طائفة ثالثة اعتزلت المعسكرين، وابتعدت عن الفتنة. 4 - حصلت معركة كبيرة جدًّا بين علي ومعاوية في صِفين، قُتل فيها عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه- الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه: "تقتل عمَّارًا الفئة الباغية". 5 - قال شيخ الإسلام: حديث عمَّار: "تقتله الفئة" قد طعن فيه طائفة من أهل العلم، ولكن رواه مسلم في "صحيحه"، وهو في بعض "نسخ البخاري"، ولكن ليس في كون عمار تقتله الفئة الباغية خروج تلك الفئة من الإيمان، فقد جعلهم القرآن إخوة، مع وجود القتال، والبغي منهم، لاسيَّما المتأول المجتهد. 6 - قال الشيخ: بعض أكابر الصحابة يرى القتال مع الطائفة التي فيها عمَّار، وبعضهم يرى الإمساك عن القتال مطلقًا، فالذين يرونه مع طائفة عمار يحتجون بهذا الحديث؛ لأنَّ الله أمر بقتال الطائفة التي تبغي، والساكتون يحتجون بالأحاديث الصحيحة الكثيرة من أنَّ القعود في الفتنة خير من القتال. 7 - مذهب أهل السنة والجماعة: يرون الصواب مع علي، ولكنهم يتولَّون الجميع، ويعرفون لهم سابقتهم، وصحبتهم، وفضلهم، ويسكتون عما جرى بينهم، رضي الله عنهم أجمعين. 8 - أما أهل الأهواء: فقال عنهم شيخ الإسلام: إنَّهم في قتال علي ومحاربيه على أقوال: الخوارج تكفِّر الطائفتين جميعًا. الرافضة تكفر من قاتل عليًّا. أما أهل السنة: فمتَّفقون على عدالة القوم، ثم لهم في التصويب والتخطئة مذاهب لأصحابنا، وغيرهم: الأول: أنَّ المصيب علي -رضي الله عنه-.

الثاني: الجميع مصيبون، رضي الله عنهم. الثالث: المصيب واحد، لا بعينه. الرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقًا، مع العلم أنَّ عليًّا وأصحابه أولى الطائفتين بالحق. وجمهور أهل العلم: يفرقون بين الخوارج المارقين، وبين أهل الجمل وصفين، وغير أهل الجمل وصفين ممن يعدون البغاة المتأولين، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء، وعليه نصوص أكثر الأئمة الأربعة وأتباعهم. ***

1039 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ تَدْرِي -يَابْنَ أُمِّ عَبْدٍ- كَيْفَ حُكْمُ اللهِ فِيْمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الأُمَّة؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: لا يُجْهَزُ جَرِيحُهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤْهَا". رَوَاهُ البَزَّارُ وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، فَوَهِمَ؛ لأَنَّ فِي إسْنَادِهِ كَوْثَرَ بْنَ حكِيمٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ (¬1)، وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف جدًا، لكن صحَّ عن علي -رضي الله عنه- موقوفًا. قال ابن حجر في "التلخيص": رواه الحاكم والبيهقي، وسكت عنه الحاكم، وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ، وقال البيهقي: ضعيف. قال ابن حجر: في إسناده: كوثر بن حكيم، وقد قال البخاري: إنه متروك. اهـ. فقول المصنف هنا في "بلوغ المرام": صحَّحه الحاكم، يعارضه ما في "التلخيص" أنَّه سكت، والواقع أنَّه سكت عنه كما في "المستدرك" (2/ 155)، هذا عن المرفوع، لكن صحَّ عن علي موقوفًا. * مفردات الحديث: - ابن أم عبد: هو عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وأم عبد هي والدته، بنت ¬

_ (¬1) البزار (1849) الزوائد، الحاكم (2/ 155). (¬2) ابن أبي شيبة (15/ 263)، الحاكم (2/ 155).

عبد بن سواء بن قريم بن صاهك الهذلية، من قبيلة هذيل. - لا يُجْهَز: من أجهز على الجريح وجهز، أي: أسرع في قتله، وأتمه. - هاربها: المنهزم عن ساحة القتال. - فيْؤها: الفيء في الأصل مصدر فاء يفيء فيئة وفيو، إذا رجع، ثم أُطلق على ما أخذ من مال الكفار بحق الكفر، بلا قتال؛ كجزيةٍ، وخراجٍ، وعُشر مال تجارة حربي، وما تركوه فزعًا منَّا، ومال المرتد إذا مات على ردته، فيصرف ماله في مصالح المسلمين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ الخارجين على الإمام بتأويل سائغ ليسوا كفارًا، وإنما هم بغاة، يجب على الإمام مراسلتهم، وإزالة ما يدَّعون من مظلمة، وكشف ما لُبِّس عليهم من أمر، فإنَّ أصروا وتمردوا، قاتلهم الإمام، ووجب على رعيته معاونته على قتالهم، حتى يفيئوا ويرجعوا إِلى الطاعة، ولزوم الجماعة. 2 - الدليل على هذا: ما شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حكم قتالهم، بألاَّ يتَمَّ على قتل جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يطلب هاربهم، ولا يقسم فيؤهم، فلا يعاملون معاملة الكفار في قتالهم من الإجهاز على جرحاهم، وجواز قتل أسراهم للمصلحة، والاستيلاء على أموالهم، إما غنيمة، أو فيئًا للمسلمين. 3 - فالحديث يدل على أنَّ البغاة لا يخرجون ببغيهم، وخروجهم على الإمام عن دائرة الإسلام، أما قتالهم فما هو إلاَّ لتأديبهم؛ ليرجعوا إِلى الطاعة، ولزوم الجماعة، فإذا رجعوا، أو اندفع شرهم، كُفَّ عنهم. 4 - قال في "المنتهى وشرحه": وإن اقتتلت طائفتان للمعصية، أو طلب رئاسة، فهما ظالمتان، تضمن كل منهما ما أتلفت على الأخرى. قال الشيخ: فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يُعلم عين المتلف. ***

1040 - وَعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "مَنْ أَتَاكُمْ -وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ- فَاقْتلُوه". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يفهم معنى الحديث من سوق طرقه: فرواية مسلم جاءت بلفظ: "من أتاكم -وأمركم جميع، يريد أن يفرِّق جماعتكم- فاقتلوه". وفي لفظ: "من أتاكم -وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم- فاقتلوه". وفي رواية لمسلم أيضًا: "من أراد أن يفرِّق أمر هذه الأُمَّة -وهي جميع- فاضربوه بالسيف كائنًا من كان". 2 - هذه الطرق تدل على وجوب السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، وتحريم الخروج عليه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كره من أميره شيئًا، فليصبر؛ فإنَّه من خرج عن السلطان شبرًا، مات ميتة جاهلية". وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليك بالسمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك". ¬

_ (¬1) مسلم (1852).

وجاء في مسلم أيضًا من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" أي: مات على ضلالة الجاهلية، الذين لا يدخلون تحت طاعة أمير، ويرون ذلك عيبًا ونقصًا في سيادتهم، والأحاديث في الباب كثيرة. 3 - وهي تدل بمنطوقها على أنَّ من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين، فإنه قد استحق القتل؛ لإدخاله الضرر على العباد، وصريحها، ولو كان الإمام جائرًا. 4 - جاء حديث مقيِّد إطلاق هذه الأحاديث؛ بلفظ: "ما لم تروا كفرًا بواحًا". 5 - وجوب طاعة ولاة الأمر، وعدم الخروج عليهم، ولو وجد منهم أثرةً واستبدادًا بالأموال، أو تقصيرًا في بعض أمور الرعية؛ فإنَّه يحقق مصالح كبيرة من الأمن، والاستقرار، وحقن الدماء، أما الخروج وخلع طاعته، فإنه يجر من المفاسد، والفوضى، واختلال الأمن، وسفك الدماء أمورًا عظيمة، من هذا جاء أمر الشارع الحكيم بالسمع والطاعة، ولزوم الجماعة، فيما وافق نشاطك، وهواك، أو خالفهما، ما لم يؤمر بمعصية، أو يُرى كفرًا بواحًا. ***

باب قتال الجاني وقتل المرتد

باب قتال الجاني وقتل المرتد مقدمة الجاني: جمعه: "جناة"، والجِناية لغة: التعدي على بدنٍ، أو مالٍ، أو عرضٍ. فهذا يُدفع بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلاَّ بالقتل، قتل بلا ضمان، ولا إثم. أما المرتد: فهو لغةً: الراجع، قال تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]. واصطلاحًا: الذي يكفر بعد إسلامه طوعًا. فمن أشرك بالله تعالى، أو جحد ربوبيته، أو ألوهيته، أو صفة من صفاته، أو اتَّخذ لله صاحبة أو ولدًا، أو جحد بعض كتبه أو بعض رسله، أو سبَّ الله، أو أحدًا من رسله، أو جحد تحريم شيء من المحرَّمات الظاهرة المجمع عليها، كالزنا، أو جَحد حِلَّ ما أحلَّ الله لعباده مما لا خلاف فيه، كالخبز -عُرِّف حكم ذلك، فإن أصرَّ، أو كان مثله لا يجهله، كفر لمعاندته للإسلام، وامتناعه من الالتزام لأحكامه، وعدم قبوله لكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

1041 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ". رَوَاهُ أَبُو داوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد من طريق عبد الله بن علي بن أبي طالب. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلتُ: وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات، وللحديث طرق أُخر في "المسند"، وله شواهد كثير بزيادات في متنه، وقد ذكره السيوطي، والكتاني، والمناوي، وغيرهم من الأحاديث المتواترة، وقد جاء في ابن ماجه (2581) من حديث عبد الله بن عمر بمعناه. * مفردات الحديث: - دون ماله: أي: في حفظه والدفاع عنه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الجاني هو المعتدي على نَفْسٍ، أو طرفٍ، أو عرضٍ، أو مال، فمن اعتدى على شيء من ذلك، فللمعتدي عليه الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، فإن لم يندفع إلاَّ بالقتل، فلا ضمان على المدافع. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. ¬

_ (¬1) أبو داود (4771) الترمذي (1419) النسائي (7/ 115).

2 - فإنْ قُتل المدافع عن شيء من هذه الأمور فهو شهيد؛ لأنَّه يدافع عن حق ضد باطل. 3 - الشهيد -هنا- ليس كشهيد المعركة: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ويدفن في ثيابه التي استشهد وهي عليه، وإنما هو شهيد في الآخرة، ولكن تجري عليه الأحكام الظاهرة من حيث التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه. 4 - مشروعية الدفاع عن النفس، والأهل، والعِرض والمال، ويكون بالأسهل، ما لم يخش أن يبدأه الصائل بالقتل إن لم يعاجله، فله ضربه بما يقتله، أو يقطع طرفه، ويكون ذلك هدرًا. 5 - دفاع الصائل على النفس، والأهل، والعِرض، والمال مشروع -ما لم يكن زمن فتنة وخلاف وفرقة، فليستسلم، ولا يقاتل أحدًا. قال الأوزاعي: فرْق بين الحال التي للناس فيها إمام وجماعة، فيُحْمل الحديث عنها. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن حوادث السطو والاختطاف وتعاطي المسكرات: قرار رقم (85) وتاريخ 11/ 11/ 1401 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: ففي الدورة السابعة عشرة لمجلس كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في شهر رجب عام 1401 هـ، اطَّلع المجلس على كتاب جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، الذي بعثه إلى سماحة الشيخ عبد الله بن محمَّد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وإلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، يطلب فيه جلالته دراسة موضوعين هامين، فيهما إفساد للأخلاق، وإخلال بالأمن: أحدهما: قيام بعض المجرمين بحوادث السطو، والاختطاف داخل المدن،

وخارجها، بقصد الاعتداء على العرض، أو النفس، أو المال. الثاني: تعاطى المسكرات، والمخدرات على اختلاف أنواعها، وترويجها، وتهريبها، مما سبب كثرة استعمالها، وإدمان بعض المنحرفين على تعاطيها، حتى فسدت أخلاقهم، وذهبت معنوياتهم، وقاموا بحوادث جنائية. وذكر جلالته أنَّه لا يقضي على هذه الأمور إلاَّ عقوبات فورية رادعة، في حدود ما تقتضيه الشريعة الإسلامية المطهرة؛ لأنَّ إطالة الإجراءات في مثل هذه المسائل يسبب تأخير تنفيذ الجزاء، ونسيان الجريمة. وقد أحاله سماحته إِلى المجلس للقيام بالدراسة المطلوبة، ولما نظر المجلس في الموضوع، رأى أنَّه ينبغي دراسته دراسة وافية متأنية، وأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثًا فيه، ثم يناقش في الدورة الثامنة عشر، وأصدر قراره رقم (83) وتاريخ 23/ 7/ 1401 هـ يتضمن الوصية بالتعميم على الدوائر المختصة بمكافحة الجرائم، والتحقيق فيها، ودوائر القضاء بأن يهتم المختصون في تلك الدوائر بإعطاء هذا الجرائم أولوية في النظر والإنجاز، وأن يولوها اهتمامًا بالغًا من الإسراع، الذي لا يخل بما يقتضيه العمل من إتقان. وفي الدورة الثامنة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف من 29/ 10/ 1401 هـ حتى 11/ 11/ 1401 هـ، نظر المجلس في الموضوع، واطَّلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة، وبعد المناقشة المستفيضة، وتداول الرأي، انتهى المجلس إِلى ما يلي: أولًا: ما يتعلَّق بقضايا السطو والخطف: لقد اطَّلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أنَّ الأحكام الشرعية تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس، والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة، وهي الدين، والنفس، والعرض، والعقل،

والمال، وقدر تلك الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم، أو أعراضهم، أو أموالهم، وما تسببه من التهديد للأمن العام في البلاد، والله سبحانه وتعالى قد حفظ للناس أديانهم، وأبدانهم، وأرواحهم، وأعراضهم، وعقولهم بما شرعه من الحدود، والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، وأنَّ تنفيذ مقتضى آية الحرابة، وما حكم به -صلى الله عليه وسلم- في المحاربين -كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان، وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين؛ إذ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33]. وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قدم رهط من عكل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانوا في الصفة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، ابعثنا رسلًا، فقال: ما أجد لكم إلاَّ أن تلحقو بإبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتوها، فشربوا من ألبانها، وأبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجَّل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم، وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا، قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله" اهـ. وبناء على ما تقدم، فإنَّ المجلس يقرر الأمور التالية: (أ) أنَّ جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة -من ضروب المحاربة، والسعي في الأرض

فسادًا، المستحقة للعقاب الذي ذكره الله سبحانه في آية المائدة؛ سواء وقع ذلك على النفس، أو المال، أو العرض، أو أحدث إخافة السبل، وقطع الطريق، ولا فرق في ذلك بين وقوعه في المدن والقرى، أو في الصحارى والقفار، كما هو الراجح من آراء العلماء -رحمهم الله تعالى- قال ابن العربي -يحكي عن وقت قضائه-: "رفع إليَّ قوم خرجوا محاربين إلى رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبةً على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه فيها، فاحتملوها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا، وجيء بهم، فسألت من كان ابتلاني الله بهم من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين؛ لأنَّ الحرابة إنما تكون في الأموال، لا في الفروج، فقلت لهم: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، ألَمْ تعلموا أنَّ الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وأنَّ الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم، وتحرب من بين أيديهم، ولا يحرب الرجل من زوجته وبنته، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة، لكانت لمن يسلب الفروج. اهـ. (ب) يرى المجلس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] أنَّ "أو" للتخيير، كما هو الظّاهر من الآية الكريمة، وقول كثيرين من المحققين من أهل العلم، رحمهم الله. (ج) يرى المجلس بالأكثرية أن يتولى نواب الإمام القضاة إثبات نوع الجريمة، والحكم فيها، فإذا ثبت لديهم أنَّها من المحاربة لله ورسوله، والسَّعي في الأرض فسادًا -فإنَّهم مخيرون في الحكم فيها بين القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرِّجل من خلاف، أو النفي من الأرض؛ بناءً على اجتهادهم، مراعين واقع المجرم، وظروف الجريمة،

وأثرها في المجتمع، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، إلاَّ إذا كان المحارب قد قتل، فإنَّه يتعيَّن قتله حتمًا، كما حكاه ابن العربي المالكي إجماعًا، وقال صاحب "الإنصاف" من الحنابلة: "لا نزاع فيه". ثانيًا: ما يتعلَّق بقضايا المسكرات والمخدرات: نظرًا إلى أنَّ للمخدرات آثارًا سيئة على نفوس متعاطيها، وتحملهم على ارتكاب جرائم الفتك، وحوادث السيارات، والجري وراء أوهام تؤدي إِلى ذلك، وأنَّها توجد طبقة من المجرمين شأنهم العدوان، وأنَّها تسبب حالة من المرح والتهيج، مع اعتقاد متعاطيها أنَّه قادر على كل شيء، فضلًا عن اتجاهه إِلى اختراع أفكار وهمية، تحمله على ارتكاب الجريمة، كما أنَّ لها أثارًا ضارة بالصحة العامة، وقد تؤدي إلى الخلل في العقل، والجنون، وحيث إنَّ أصحاب هذه الجرائم فريقان: أحدهما: يتعاطاها للاستعمال فقط، فهذا يجري في حقه الحكم الشرعي للسكر، فإن أدمن على تعاطيها، ولم يجد في حقه إقامة الحد، كان للحاكم الشرعي الاجتهاد في تقرير العقوبة التعزيرية، الموجبة للزجر والردع، ولو بقتله. الثاني: من يروجها؛ سواء كان ذلك بطريق التصنيع، أو الاستيراد، بيعًا وشراءً، أو إهداءً، ونحو ذلك من ضروب إشاعتها ونشرها، فإن كان ذلك للمرة الأولى، فيعزر تعزيرًا بليغًا، بالحبس، أو الجلد، أو الغرامة المالية، أو بها جميعًا، حسبما يقتضيه النظر القضائي، وإنَّ تكرر منه ذلك، فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع، ولو كان ذلك بالقتل؛ لأنَّه بفعله هذا يعتبر من المفسدين في الأرض، وممن تأصل الإجرام في نفوسهم، وقد قرَّر المحققون من أهل العلم أنَّ القتل ضرب من التعزير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ومن لم يندفع فساده

في الأرض إلاَّ بالقتل، قتل؛ مثل: قتل المفرق لجماعة المسلمين، الداعي للبدع في الدين -إِلى أن قال-: وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل رجل تعمَّد الكذب عليه، وسأله ابن الديلمي: عمن لم ينته عن شرب الخمر، فقال: من لم ينته عنها فاقتلوه. وفي موضع آخر قال رحمه الله في تعليل القتل تعزيرًا ما نصه: "وهذا لأنَّ المفسد كالصائل وإذا لم يندفع الصائل إلاَّ بالقتل، قتل". ثالثًا: نظرًا إلى أنَّ جرائم الخطف والسطو وتعاطى المسكرات والمخدرات على سبيل الترويج لها من القضايا الهامة التي قد يحكم فيها بالقتل تعزيرًا -فإنَّه ينبغي أن تختص بنظرها المحاكم العامة، وأن تنظر من ثلاثة قضاة، كما هو الحال في قضايا القتل والرجم، وأن ترفع للتمييز، ثم للمجلس الأعلى للقضاء؛ لمراجعة الأحكام الصادرة بخصوصها، براءةً للذمة، واحتياطًا لسفك الدماء. رابعًا: ما يتعلَّق بالنواحي الإدارية: نظرًا لما لاحظه المجلس من كثرة وقوع جرائم القتل، والسطو، والخطف، وتناول المخدرات، والمسكرات، وضرورة اتِّخاذ إجراءات، وتدابير وقائية تعين على ما تهدف إليه حكومة جلالة الملك حفظه الله من استتباب الأمن، وتقليل الحوادث -فإنَّه يوصي بالأمور التالية: 1 - ستقوم الحكومة وفقها الله بتقوية أجهزة الإمارات، ورجال الأمن، وخاصة في كون المسئولين فيها من الرجال المعروفين بالدين، والقوَّة، والأمانة، ويشعر كل أمير ناحية بأنَّه المسئول الأول من ناحية حفظ الأمن، في البلاد التي تقع تحت أمارته، وأنَّ على الشرطة ورجال الإمارات الجِدّ والاجتهاد في سبيل تأدية واجباتهم، والقيام بمتابعة الجميع، ومعاقبة المَقصر في أداء واجبه، بما يكفي لردع أمثاله.

2 - تؤكد الدولة وفقها الله على الإمارات، بأنه إذا وقعت جريمة القتل، أو السطو، والاعتداء على العرض، ونحو ذلك من الجرائم المخلة بالأمن، فإنَّ إمارة الجهة التي وقعت فيها مسؤولة عن القضية من ابتدائها حتى يتم تنفيذ مقتضى الحكم الصادر فيها، فتقوم ببذل جميع الأسباب والوسائل للقبض على الجاني، وسرعة إنهاء الإجراءات الضرورية، ما دامت لديها، ثم تتابعها، وتكلف مندوبًا من جهتها يقوم بالتعقيب عليها لدى الجهات الأخرى، ويطلب من كل أمير ناحية أن يكتب تقريرًا عن القضية بعد انتهائها، وتنفيذ الحكم الصادر فيها يبين سيرها، وملاحظاته بشأنها. 3 - يرى المجلس تأليف لجنة من مندوبين؛ أحدهما: من وزارة الداخلية، والثّاني: من وزارة العدل؛ لدراسة مجرى المعاملات الجنائية، والروتين الذي تمر به، والبحث عن الطريقة المثلى لذلك، مما لا يؤثر على الإجراءات الضرورية في التحقيق، والنظر القضائي. وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ***

1042 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إِلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، كَما يَعَضُّ الفَحْلُ؟! لَا دِيَةَ لَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثَنِيَّته: الثنية: إحدى الأسنان الأربع، التي في مقدم الفم: ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. - الفَحْل: -بفتح الفاء، وسكون الحاء، بعدها لام- جمعه: فحول، هو الذكر من الحيوانات، والمراد هنا: الجمل، وهو الفحل من الإبل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تخاصم يعلى بن أمية مع أجير له، فعضَّ يعلى يد أجيره، فانتزع المعضوضة يده من فم يعلى، ونزع مع اليد ثنيته، فاختصما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأبطل دية الثنيتين، ولم يوجب لهما ضمانًا، وعدم الضمان في هذه الصورة هو مذهب الأئمة الثلاثة، أما الإمام مالك فيوجب الضمان. 2 - ثم قال -صلى الله عليه وسلم- زاجرًا وناهيًا عن مثل هذه الحال: "أيعض أحدكم أخاه، كما يعض الفحل"؟!. 3 - فالحديث يدل على أنَّ العاض معتدٍ صائلٍ على المعضوض، وأنَّ للمعضوض الدفاع عن نفسه، ولا يترتَّب على دفاعه ضمان ما يتلف بسببه؛ لأنَّه دفاع مشروع مأذون، وما ترتب على المأذون فغير مضمون. ¬

_ (¬1) البخاري (6892)، مسلم (1673).

4 - الخصومةُ عامةً ممقوتةٌ، ولكن تزيد بشاعتها إذا كانت بطريقة وحشية، تشبه عمل الحيوانات الشرسة من فحول الإبل ونحوها. 5 - النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدر سقوط الثنيتين قصاصًا ودية؛ ذلك أنَّه اعتبره من الدفاع بالمبادرة، التي لا يوجد في تلك الحال أسهل منها. قال في "الإقناع وشرحه": وإن عض يده إنسان عضًّا محرمًا، فانتزع المعضوض، يده من فيه، ولو بعنف، فسقطت ثنايا العاض -فهدر، ظالمًا كان المعضوض، أو مظلومًا؛ لحديث عمران بن حصين. ***

1043 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَع عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ -لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ". وَفِي لَفْظ لأحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: "فَلَا دِيَةَ لهُ، وَلَا قِصَاصَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: لفظ أحمد، والنسائي صحَّحه الترمذي، وابن حبان، والبيهقي، قال ذلك الحافظ في "الفتح". * مفردات الحديث: - اطَّلع: طلع ونظر، قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} [الصافات]. أي: تطالع إليه، ونظر إليه؛ ليعرفه. - فحَذَفْته: بالحاء المهملة، أي؛ رماه بحصاة، وروي بالخاء المعجمة الفوقية، والمعنى: رميته بالحصاة من أصبعيك، وهذا هو الخذف. - فَفَقَأْتَ عينه: فقأ العين، أو البشرة ونحوها -بالهمز-: شقَّها، فخرج ما فيها. - جُنَاح: -بضم الجيم- هو الإثم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تحريم النظر إِلى بيوت الناس؛ سواء كان من مكان عال، كالمنارة، أو ¬

_ (¬1) البخاري (6902)، مسلم (2158)، أحمد (2/ 243)، النسائي (8/ 61)، ابن حبان (5972).

البيت المشرف، ونحوهما، أو كان من خلال الباب، أو نوافذ الجدر، فمن أي طريق فهو محرَّم، لا يجوز؛ لأنَّه اطلاع على عورات الناس، والنساء خاصّة، وكشف أحوالهم، وهذا اعتداء محرَّم، لا يجوز. 2 - أنَّ من اطَّلع على بيت غيره بغير إذنه، فإنَّه لا حرمة له، ولا لنظره، فلو حذفه صاحب المنزل بحصاة، ففقأ عينه، لم يكن عليه إثم، ولا قصاص، ولا دية؛ لأنَّه مأذون له في هذا الدفاع، والمترتب على المأذون غير مضمون. 3 - أما إذا حصل الإذن بالدخول، أو بالنظر من مكانٍ عالٍ على المنزل، فوقعت عين الأجنبي على ما لا يحل، فلا جناح عليه. وإن فقأ عينه صاحب المنزل، فهو آثم ضامن؛ لأنَّ التقصير من المنظور إليه، وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء. 4 - الحديث يدل على جواز رمي الناظر قبل الإنذار، فق؛ جاء في الحديث الآخر: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جعل يَخْتِل المطلع؛ ليطعنه". 5 - هذا التأديب الإسلامي كله؛ محافظة على حرية الإنسان المباحة في بيته، فإنَّ الإنسان يتبذل ويتبسط، ويكون في حالة لا يرغب أن يطَّلع عليه أحد وهو فيها، فإذا أراد معتد أن يكشف حاله بدون إذنه، فجزاؤه ردعه بما يناسبه. 6 - من هذا نأخذ وجوب أخذ احتياط الجيران عند البناء، بألا يكشف جار جاره، وأنَّه يجب على الجهة المسؤولة عن تنظيم العمران، وهي "البلدية"، أن تلاحظ بأن يكون بناء المنطقة على سمت واحد في الارتفاع، أو تعمل عملًا وتصميمًا خاصًّا، حتى لا يكشف جار جاره؛ وقد روى الواقدي أنَّ عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص وهو واليه على مصر: "سلام عليك، بلغني أنَّ خارجة بن حذافة بنى غرفة، لقد أراد أن يطِّلع على عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا، فاهدمها، إن شاء الله تعالى، والسلام".

1044 - وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حِفْظَ الحوَائِطِ بالنَّهَارِ عَلى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ المَاشِيَّةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ المَاشِيَّةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ، إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِي إسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: صحَّحه ابن حبان، وهو حديث مقبول. قال المصنف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، إلاَّ الترمذي، وصحَّحه ابن حبان، وفي إسناده اختلاف، ومدار هذا الاختلاف على الزهري، فقد روي من طرق كلها عنه عن حزام عن البراء، وحزام لم يسمع من البراء، قاله عبد الحق وابن حزم، وقال الشافعي: أخذنا به؛ لثبوته، واتصاله، ومعرفة رجاله. قال ابن عبد البر: هذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو مشهور، وحدَّث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. * مفردات الحديث: - الحوائط: جمع "حائط"؛ وهو البستان المحاط بسور. - الماشية: هي: الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم، جمعه: "المواشي". ¬

_ (¬1) أحمد (18132)، أبو داود (3570)، النسائي في الكبرى (4113)، ابن ماجه (2332).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الواجب على أصحاب البساتين حفظها بالنهار، لأنَّهم منتشرون فيها، ويعلمون فيها، وأما المواشي فهذا أوان رعيها، التي جرت عادتها أن ترعى فيه. 2 - أما في الليل، فأصحاب البساتين ينامون، ويرتاحون من عناء النهار، وبساتينهم ليس عليها حائط، فهي مُشْرَعة. والليل ليس وقت رعي المواشي، فعلى أصحاب المواشى حفظها باللّيل؛ لئلا تُفسِد على الناس مزارعهم، وهم عنها غافلون. 3 - قال في "الإقناع وشرحه": ويضمن رب البهائم ما أفسدت من زرعٍ، وشجرٍ، وغيرهما ليلًا؛ لحديث البراء. قال ابن عبد البر: هذا وإن كان مرسلًا فهو مشهور، وحدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. ذلك أنَّ العادة من أهل المواشي إرسالها نهارًا للرعي، وحفظها ليلًا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا، فإذا أفسدت شيئًا ليلًا كان من ضمان من هي بيده، إنَّ فرَّط في حفظها. قال النووي: أجمع العلماء على أنَّ جناية البهائم بالنَّهار لا ضمان فيها، إلاَّ أن يكون معها سائق، أو قائد، فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته، وأما إذا أتلفت ليلًا فمذهب الشافعي، وأحمد الضمان على صاحبها. 4 - في زماننا ابتلى الناس بأعظم مما في البساتين، وهي الطرق البرية، التي تمر معها السيارات، التي تجد المواشي في وسط الطريق، فتصدم بها ليلًا، فيحصل نتيجة هذا الحادث الوفيات الجماعية، فتزهق فيها النفوس البريئة، والبوادي مسربون مواشيهم في هذه الطرق، وبهذا فلابد أن يُضرب على يد هؤلاء المتهاونين والمتساهلين بأرواح الناس بيد من حديد، ويجازون

الجزاء الذي يضطرهم أن يُبعدوا مواشيهم عن الطرق المعدة للسير. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن ضمان البهائم التي تعترض الطرق: رقم (111) وتاريخ 12/ 11/ 1403 هـ: وقد جاء فيه ما نصه: أوَّلًا: عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المبعدة بالإسفلت، إذا تلفت نتيجة اعتراضها بالطرق المذكورة، فصدمت فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها؛ لما يترتب على ذلك من أخطار جسيمة، تتمثَّل في إتلاف الأنفس، والأموال، وتكرار الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة، وأمن الطرق، والأخذ بالحيطة في حفظ الأموال، والأنفس؛ تحقيقًا للمقتضى الشرعي، وتحريًا للمصالح العامة، وامتثالًا لأمر ولي الأمر. ثانيًا: نظرًا إِلى أن ولي الأمر سبق وأن حذَّر أصحاب المواشي من الاقتراب بمواشيهم إِلى الطرق العامة، فإنَّ المجلس يرى أنَّ على ولي الأمر التأكيد على تحذير أصحاب المواشي، وإعلامهم بهدر مواشيهم في حال تعرضها للطرق وصدمها؛ وذلك في وسائل الإعلام المختلفة من تلفزة وإذاعة، وإبلاغ ذلك إلى رؤساء القبائل وأعيانها، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ***

1045 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ، تُمَّ تَهَوَّدَ قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُتِلَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُدَ: "وَكانَ قَدِ اسْتُتِيبَ قَبْلَ ذلِكَ" (¬1). 1046 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ، فَاقْتُلُوهُ". رَوَاهُ البُخَاريُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (1045): رواية أبي داود قوَّاها الحافظ في "الفتح" على الروايات النافية للاستتياب. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6923)، مسلم (3/ 1456)، أبو داود (4355). (¬2) البخاري (6922).

1047 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أَمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، أَخَذَ المِغْوَلَ، فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكأَ عَلَيْهَا، فَقَتَلَهَا، فَبلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: أَلَا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ". رَوَاهُ أَبُوْ دَاوُدَ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث. الحديث حسن. قال المصنف: رواه أبو داود، ورواته ثقات. اهـ. وقد سكت عنه أبو داود، والمنذري، وأخرجه النسائي. قال الشوكاني: وفي الباب عن أبي برزة عند أبي داود والنسائي. قال ابن عبد الهادي: واستدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله. * مفردات الحديث: - أم ولد: الأم أصلها: "أمه"، ولذلك جمعت على: " أمَّات" باعتبار اللفظ، و"أمهات" باعتبار الأصل، وأم الولد هي مَنْ ولدت من مالكها ما فيه صورة إنسان، ولو خفية أو ميتًا، وهذه السابَّة غير مسلمة، ولذا اجترأت على هذا الأمر الشنيع. - المِغْوَل: -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة-: عصا فيه سنان دقيق، جمعه: "مغاول". - واتَّكأ عليها: تحامل عليها بعصاه حتى قتلها. - دمها هدَر: أهدر دمها، معناه: أباحه، وأسقط القصاص فيه، والدية. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - المرتد لغة: هو الراجع. ¬

_ (¬1) أبو داود (4361).

وشرعًا: الذي يكفر بعد إسلامه. قال في "المغني": المرتد أغلظ كفرًا من الكافر الأصلي. 2 - قال في "نيل المآرب": من ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار، دُعِي إلى الإسلام ثلاثة أيام وجوبًا، وضيق عليه، وحبس، فإن أسلم، وإلاَّ قُتِل بالسيف. 3 - الأحاديث الثلاثة كلها تدل على وجوب قتل المرتد عن دين الإسلام، وقتْلُ المرتد إجماع أهل العلم؛ ذلك أنَّ كفره أغلظ من الكافر الأصلي، فالذي دخل الإسلام وعرفه، ثم رغب عنه، وكفر به، هذا دليل على خبث طويته، وسوء نيته، فمثل هذه النفس الخبيثة ليس لها جزاء إلاَّ القتل. 4 - ودليل هذا الحكم حديث الباب رقم (1046): "من بدَّل دينه، فاقتلوه" أي: مَنْ ارتد عن الإسلام، وهو عامٌّ للرجال والنساء. 5 - أما أنَّ حد المرتد هو قتله، فهو إجماع العلماء، وإنما الخلاف هل تجب استتابته قبل قتله، أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا تجب استتابته، بل تستحب، وقال الثلاثة: يستتاب. 6 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: تنقسم الأشياء التي تحصل بها الردة إلى ثلاثة أشياء: الأول: إذا جحد ما علم أنَّ الرسول جاء به، وخالف ما عُلِم بالضرورة أنَّ الرسول بلَّغه الأصول، أو الفروع. الثاني: ما يخفى دليله، فهذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة، من حيث الثبوت، ومن حيث الدلالة. الثالث: أشياء تكون غامضة، فهذه لا تكفّر الشخص، ولو بعد إقامة الأدلة عليه؛ سواء كانت في الفروع أو الأصول، فلا يكفر إلاَّ المعاند فقط. 7 - الكفار نوعان: أحدهما: لم يدخل الإسلام أصلًا، فالكتاب، والسنة، والإجماع على كفرهم.

الثاني: من يدَّعون الإسلام، ثم يصدر منهم ما يناقض هذا الإسلام، فهؤلاء لتكفيرهم أسباب منها: (أ) الشرك بالله تعالى: إما في الربوبية، أو في الإلهية، بأن يصرف نوعًا من العبادة لغير الله: من الذبح، أو النذر وغير ذلك. (ب) أن يجعل بينه وبين الله وسائط، يتقرَّب إليهم، ليقربوه إِلى الله، كما هو شرك المشركين. (ج) أو جَحَدَ لبعض رسالة النبي محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، بأنَّه رسول الله ببعض الأمور دون بعض، أو شرائع الدين دون حقائقه. (د) من جَحَدَ وجوب الصلاة، أو الزَّكاة، أو الصيام، أو الحج إِلى بيت الله الحرام. (هـ) من أنكر حكمًا ظاهرًا في الكتاب، والسنة، والإجماع، كأن يحرم أكل لحم الإبل، أو حِل الخنزير، أو ينكر حرمة الزنا، أو شرب الخمر. 8 - تنبيهان: الأول: يوجد ممن يقر بالشهادتين، ويؤدي شعائر الإسلام، ولكن يأتي ببعض الأعمال الشركية، بعضها شرك في الربوبية، وبعضها شرك في الإلهية، جهلًا وتقليدًا، فهؤلاء يجب أن يبيَّن لهم، ويوجَّهوا قبل أن يطلق على أعيانهم الكفر، أما وصف أعمالهم بأنَّها شرك وكفر، فهذا واجب. الثاني: يوجد بعض الطوائف من أهل القبلة؛ كالخوارج الذين يكفِّرون الصحابة من أهل الجمل وصفين، ويجيزون الخروج على الإمام الظالم، ويكفِّرون مرتكبي الذنوب. ومثل القدرية نُفاة القدر، الذين نَفَوا عن الله تعالى صفاته الأزلية، كالقدرة، والسمع، والبصر، واستحالة رؤية الله تعالى بالأبصار، وأنَّ كلامه حادث مخلوق، وكذلك المعتزلة، ممن اشتملت مقالاتهم على تكذيب

نصوص الكتاب والسنة في نفي صفات الله تعالى. فأهل السنة والجماعة ينكرون على أصحاب هذه المذاهب والمقالات، ويرون أنَّ بدعهم القولية والفعلية بدع خبيثة خطيرة جدًّا؛ لأنَّها خالفت الحق بأجلى معانيه ومظاهره، ويقسمونهم إِلى ثلاثة أقسام: أحدها: عارف بأنَّ بدعته مخالفة للكتاب والسنة، فنبَذَ ذلك، واتَّبع هواه، وما يميله أقرانه، فهذا لا شكَّ في كفره. الثاني: راض ببدعته، ومُعرِض عن طلب الحق، والصواب من أدلته الصحيحة، فهذا ظالم فاسق. الثالث: حريص على اتباع الحق، ومجتهد في إصابته، ولكن لم يتبيَّن له، ولم يظهر له، فأقام على ما هو عليه ظانًا أنَّه الصواب، فهذا ربَّما يغفر الله له خطأه، والله أعلم. 9 - وفي هذه الأزمنة الأخيرة، ظهرت طوائف بأسماء جديدة وأفكار جديدة، هم أشد كفرًا وإلحادًا ممن قبلهم، نذكر أسماءهم فيما يلي: (أ) الماسونية: التي خدمت الصهيونية والاستعمار، فهي أخطر جرثومة على العالم كله. (ب) الشيوعية: التي ضمت ثلاث حركات تخريبية ملحدة من الشيوعية العالمية، والفاشية، والصهيونية. (ج) البهائية والبابية: التي قامت على أسس من الوثنية في دعوى إلهية البهاء، وسلطته في تنفيذ مخططات تغيير الشريعة الإسلامية. (د) القاديانية: الجادة في هدم العقيدة والشريعة الإسلامية بأسلوب ماكر خبيث. فهذه الطوائف أصدر فيها المجمع الفقهي بمكة المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي، أصدر في كل نِحلة منها قرارًا بأنَّها نِحَل خارجة عن الإسلام، وأنَّ من اعتنقها ليس مسلمًا؛ والله الهادي إِلى سواء السبيل.

كتاب الحدود

كتاب الحدود بَابُ حَدِّ الزَّانِي الحدود: هي جمع "حد"، وهو لغة: المانع، والحاجز بين الشيئين، يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. وشرعًا: هي عقوبات؛ لتَمْنَعَ من الوقوع في مثل الذنب، الذي شُرِع له وحدود الله تعالى تُطلق على ثلاثة أنواع: الأول: نفس المحارم التي نهى الله عنها؛ وذلك كالزنا، فهذه عبَّر القرآن الكريم عنها بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] فقد نهى عنها، وعن الوسائل التي قد تُوقع فيها. الثاني: حدود الله تعالى التي نهى عن تعدِّيها، والمراد بها: جملة ما أذِنَ الله تعالى بفعله؛ سواء كان فعله عن طريق الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، والاعتداء فيها هو تجاوزها، وعبَّر القرآن الكريم عن مثل هذا بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. وهذه الآية وردت فيمن يتجاوز ما أباح الله له من إمساك الزوجة بمعروف، أو تسريحها بإحسان، فإذا أمسكها بغير معروف، أو سرَّحها بغير إحسان -فقد تعدى ما أباح الله له إِلى ما حرَّم عليه. الثالث: يراد بها الحدود المقدَّرة الرادعة عن المحارم، فيقال: حد

الزِّنا، وحد الشرب، وحد السرقة، وفد جاء في الحديث التصحيح: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لأسامة بن زيد: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله"؟! يريد بذلك حد السّرقة، فهذه يجب الوقوف عند ما قُدِّر فيها، بلا زيادة ولا نقصان. ويَحْسُنُ بنا أن نوردَ في هذه المقدمة هذا الحديث العظيم؛ فقد روى الدارقطني وغيره: "عن أبي ثعلبة الخُشني -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، حسَّنه النووي. قال السمعاني: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه، منْ عمل به فأدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عمَّا غاب عنه -فقد استوفى أقسام الفضل، ووفَّى حقوق الدين. وقال بعضهم: جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين في أربع كلمات، وذكر الحديث. والحدود الرادعة ثابتة بالكتاب، والسنة، وإجماع العلماء في الجملة، ويقتضيها القياس التصحيح، فهي جزاء لما انتهكه العاصي من محارم الله تعالى. * حكمتها التشريعية: لها حِكم جليلة، ومعانٍ سامية، وأهداف كريمة. ولذا يجب إقامتها لداعي التأديب والتطهير والمعالجة، لا لغرض التشفِّي والانتقام؛ لتحصل البركة والمصلحة، فهي نعمة من الله تعالى كبيرة على خلقه، فهي للمحدود طُهرة عن إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي. وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور، والفساد في الأرض، وبإقامتها يصلح الكون، وتعمر به الأرض، ويسود الهدوء والسكون، وتتم النعمة، بانقماع أهل الشر والفساد، وبتركها -والعياذ بالله- ينتشر الشرّ، ويكثر الفساد،

فيحصل من الفضائح، والقبائح، ما معه يكون بطن الأرض خيرًا من ظهرها. ولا شكَّ أنَّها من حكمة الله تعالى ورحمته، والله عزيز حكيم، وهو الشارع الرحيم حين شرع الحدود سبقت رحمته فيها عقابه، فعفا عن الصغار، وذاهبي العقول، والذين فعلوها لجهل بحقيقتها. وصعَّبَ أيضًا ثبوتها، فاشترط في الزنا أربعة رجال عدول، يشهدون بصريح وقوع الفاحشة، أو اعترافًا من الزاني بلا إكراه، وبقاء منه على اعترافه حتى يُقام عليه الحد. وفي السرقة لا قطع إلاَّ بالثبوت التام، وانتفاء الشبهة، إلى غير ذلك، مما هو مذكور في بابه، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، كل هذا؛ لتكون توبة العبد بينه وبين نفسه، والله غفور رحيم. * قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز": قرار رقم (82): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النببين وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري باجوان، بروناي دار السلام، من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ، الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز". وبعد استماعه إِلى المناقشات التي دارت حوله. قرَّر ما يلي: 1 - بما أنَّ ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية، التي

أخطرها الإيدز "متلازمة العوز المناعي المكتسب"؛ فإنَّ محاربة الرذيلة، وتوجيه الإعلام، والسياحة وجهةً صالحةً، تعتبر عوامل هامة في الوقاية منها، ولا شكَّ أنَّ الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف، ومحاربة الرذيلة، وإصلاح أجهزة الإعلام، ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة -تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض. ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز، ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إِلى غيره متعمدًا، كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن، واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز. 2 - في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإنَّ عليه أن يخبر الآخر، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة. ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض، ويجب على المصاب، أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال، الذي يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة. والله أعلم. ***

1048 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَي رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ بالله إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَم، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأَذَنْ لِي، فَقَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَان عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِيِ جَلْدَ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكَمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أنْشُدُك بالله: بفتح الهمزة، فنون ساكنة، ثم شين مضمومة معجمة، من "نشده": إذا سأله؟ أي: أسألك بالله تعالى. - إلاَّ قَضَيْتَ: بكسر الهمزة، وتشديد اللام، أداة استثناء، والمعنى: ما أطلب منك إلاَّ قضاء. ¬

_ (¬1) البخاري (5/ 301) فتح، مسلم (3/ 1324).

- أفْقه منه: الفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه] وكان أفقه منه: الواو للحال، ويحتمل أنه أفقه مطلقًا، أو أفقه في هذه القضية. - عسِيفًا: بفتح العين المهملة، وكسر السين المهملة، ثم ياء، ففاء موحدة، على وزن فعيل، بمعنى مفعول، والعسيف هو: الأجير المستعان به، جمعه: عسفاء وعسفة. - على هذا: قال علماء اللغة: إنما قال: "على هذا"؛ لما يتوجه للأجير على المستأجر من الأجرة، بخلاف ما لو قال: "عسيفًا لهذا"؛ لما يتوجه للمستأجر عليه من الخدمة والعمل، فـ"على هذا" صفة مميزة لـ"الأجير"، فأجرته عليه ثابتة. - افْتَدَيْتُ مِنه: أي: استنقذت ابني من الرجم بمائة شاة وأمة. - وليدة: الشابة من العبيد. - لأقضين بينكما بكتاب الله: أي: بحكمه؛ إذ ليس في الكتاب ذكر الرجم منصوصًا عليه. - فاقض: "الفاء" جزاء شرط محذوف، أي: إذا اتَّفقت معه بما عرض عليك فاقض، فوضع كلمة التصديق موضع الشرط. - تغريب عام: التغريب: التسفير سفرًا بعيدًا، ومعناه الشرعي: نفي المحدود عن بلده سنةً كاملةً. - اغْدُ يا أُنَيس: اغد من: غدا يغدو -بالغين المعجمة- من: الغدو، وهو الذهاب بالغداة، وقيل: المراد مطلق الذهاب، أي: بكِّر إليها صباحًا. - أُنَيس: تصغير "أنس"، وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، وقد عيَّنه -صلى الله عليه وسلم- لهذه

المهمة؛ لأنَّه من القبيلة التي سيقام على امرأة منهم الحد، والقبيلة تمكن من إقامة ذلك إذا كان المتولي إقامته منهم. - ارْجُمْهَا: الرَّجْم هو: الرمي بالحجارة حتى الموت، وهو حد الزاني الثيب. ***

1049 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خُذوا عنِّي: يشير إِلى أمر قد خفي شأنه، وأُبهم بيانه، فعلم سبيله، وظهر حكمه. - لهنَّ سبيلًا: السبيل المشار إليه في الحديث هو المذكور في آية النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15] وهو "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب جلد مائة والرجم". - البِكْر: التي لم تتزوج، فهي خلاف الثيب، رجلًا كان أو امرأة، والبكارة عذرة المرأة. - البِكْر بالبكْرِ: مبتدأ، و"جلد مائة" خبره؛ أي: حد زنا البكر جلد مائة. - الثيِّب: على وزن فيعل، اسم فاعل من: "ثاب"، ويستوي فيه الذكر والأنثى، وإطلاقه على المرأة أكثر؛ لأنَّها ترجع إِلى أهلها بوجه غير الأول، ولأنَّها توطأ وطأ بعد وطء، من قوله: ثاب إذا رجع. - جلد: يقال: جلد يجلد جلدًا، فالجلد: الضرب بالسوط، سمي: جلدًا؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) مسلم (1690).

الضرب يقع على الجلد. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - جفاء الأعراب لبعدهم عن العلم، والأحكام، والآداب؛ حيث ناشد من لا ينطق عن الهوى: ألا يحكم إِلاَّ بكتاب الله تعالى. 2 - حسن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث لم يعنِّفه علما سوء أدبه معه. 3 - أنَّ حد الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى يموت. والمحصن: هو من جامع من قُبُل في نكاح صحيح، وهو حر مكلَّف. 4 - أنَّ حد الزاني الذي لم يحصن مائة جلدة، وتغريب عام. 5 - أنَّه لا يجوز أخذ العوض لتعطيل الحدود، وإن أُخِذت فهو، من أكل الأموال بالباطل. 6 - أنَّ من أقدم على محرَّم جهلًا، أو نسيانًا، لا يؤدب، بل يعلم، فهذا افتدى الحد عن ابنه بمائة شاة ووليدة، ظانًّا إباحته وفائدته، فلم يكن من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ أن أعلمه بالحكم، وردَّ عليه شياهه، ووليدته. 7 - وفي الحديث قاعدة شرعية عامة، وهي: "أنَّ من فعل شيئًا، لظنه وجود سببه، فتبيَّن عدم وجود السبب، فإن فعله لاغٍ لا يعتد به، ويرجع بما يترتَّب على ظنه الذي لم يتحقق". 8 - قال الحافظ ابن حجر: والحق أنَّ الإذن بالتصرف مقيَّد بالعقود الصحيحة، قال ابن دقيق العيد: فما أخذ بالمعاوضة الفاسدة يجب رده، ولا يُمْلك. 9 - أنَّه يجوز التوكيل في إثبات الحدود، واستيفائها. 10 - أنَّ الحدود مرجعها إلى الإمام الأعظم، أو نائبه، ولا يجوز استيفاؤها من غيرهما. 11 - استُدلَّ بالحديث على أنَّه يكفي لثبوت الحد وإقامته الاعتراف مرَّةً واحدةً، ويأتي ذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.

12 - قال ابن القيم في حكمة جلد الزاني: "وأما الزاني: فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء الشهوة يعم البدن". 13 - والحكمة في رجم المحصَن، وجلد غير المحصن: أنَّ الأول قد تمَّت عليه النعمة بالزوجة، فإقدامه على الزنا يعد دليلاً على أنَّ الشر متأصل في نفسه، وأما غير المحصَن فلعلَّ داعي الشهوة غلبه على ذلك، فخُفِّفَ عنه الحد؛ مراعاة لحاله، وعذره. 14 - جواز الحلف بالله تعالى لتأييد صحة المسائل الهامة. 15 - فيه دليل على صحة استفتاء أهل العلم في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما بعده من باب أولى، وعلى جواز سؤال المفضول مع وجود من هو أفضل منه. 16 - وفي الحديث دليل على استعمال حسن الأدب مع أهل الفضل، والعلم، والكبار، وأنَّ ذلك من فقه النفس. 17 - إنما سأل المترافعان أن يحكم بينهما بحكم الله تعالى، وهما يعلمان أنَّه لا يحكم إلاَّ بحكم الله؛ ليفصل بينهما بالحكم بالفصل، لا بالنصائح، والترغيب فيما هو الأرفق بهما، ذلك أنَّ للحاكم أن يفعل ذلك، ولكن برضا الخصمين. * خلاف العلماء: قوله: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" يدل على الجمع بين حدَّي البكر والمحصن، وهي مسألة خلافية. فقد ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- إلى: أنَّه لا يجمع بين الجلد والرجم، وإنما يكتفي بالرجم فقط، وهو المروي عن الخليفتين الراشدين عمر وعثمان -رضي الله عنهما-: وبه قال ابن مسعود، ومن التابعين الزهري، والنَّخعي، والأوزاعي وأبو ثور، ذلك أنَّ الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه رجم ماعزًا، والغامدية، وغيرهما، ولم يجلدهم، ولأنَّ الحدود إذا اجتمعت وفيها

قتل، سقط ما سواه. وذهب إلى الجمع بين الجلد والرجم-: جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وأبيّ بن كعب وأبوذر، والحسن البصري، وداود، وهو رواية عن الإمام أحمد، أخذ بها الخرقي، والقاضي، وأبو الخطاب؛ أخذًا بهذا الحديث، وقد جَلَدَ ورَجَمَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولما سألة الشَّعبي عن وجه الجمع بين الحدَّين، قال: جلدت بكتاب الله، ورجمتُ بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والقول الأول هو الراجح، وعليه العمل، والله أعلم. ***

1050 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَتَى رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذلِكَ عَلَيْهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 1051 - وَعنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ لَهُ: لَعلَّكَ قَبَّلْتَ، أوْ غَمَزْتَ، أوْ نَظَرْتَ، قَالَ: لاَ، يَا رَسُولَ اللهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قَبَّلْت: يقال: قبله تقبيلاً؛ أي: لثمه، والاسم: القُبلة بضم القاف، وجمعها: "قُبَل". - غَمزت: يقال: غمزه بيده يغمزه غمزًا: جسَّه، ومنه غَمزَ الكبش بيده: إذا جسَّه؛ ليعرف سمنه. ¬

_ (¬1) البخاري (5271)، مسلم (1691). (¬2) البخاري (6824).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أتى ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد، فناداه، واعترف على نفسه بالزنا، فأعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلَّه يرجع، فيتوب فيما بينه وبين ربه، ولكن قد جاء غاضبًا على نفسه، جازمًا على تطهيرها بالحد، فقصده من تلقاء وجهه مرَّة أخرى، فاعترف بالزنا أيضًا، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى شهد على نفسه بالزنا أربع مرات، حينئذٍ استثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حاله، فسأله: هل به من جنون؟ قال: لا، وسأل أهله عن عقله، فأثنوا عليه خيرًا، ثم سألة: هل هو محصن، أم بِكر لا يجب عليه الرجم؟ فأخبره أنَّه محصن، وسأله: لعلَّه لم يأت ما يوجب الحد، من لمس أو تقبيل، فصرح بحقيقة الزنا، فلما استثبت -صلى الله عليه وسلم- من كل ذلك، وتحقق من وجوب إقامة الحد، أمر أصحابه أن يذهبوا به فيرجموه، فخرجوا به إلى بقيع الغرقد، وهو مصلى الجنائز، فرجموه، فلما أحسَّ بحر الحجارة، طلبت النفس البشرية النجاة، ورغبت في الفرار من الموت، فهرب، فأدركوه بالحرة، فأجهزوا عليه حتى مات، رحمه الله، ورضي عنه. 2 - أنَّ الزنا يثبت بالإقرار، كما يثبت بالشهادة، ويأتي: هل يكفي الإقرار مرَّة، أم لابد من الإقرار أربع مرات كما في هذا الحديث؟. 3 - أنَّ المجنون لا يعتبر إقراره، ولا يثبت عليه الحد؛ لأنَّ شرط الحد التكليف؛ فقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أبك جنون؟ قال: لا". 4 - أنه يجب على القاضي والمفتي التثبت في الأحكام، والسؤال بالتفصيل عما يجب الاستفسار عنه، مما يغيِّر الحكم في المسألة؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سأل المقر هنا عن عمله، حتى تبيَّن له أنَّه فعل حقيقة الزنا، وأعرض عنه لعله يرجع عن اعترافه, حتى كرر الإقرار، أربع مرات.

قال في "فتح الباري": فقد بالغ -صلى الله عليه وسلم- في الاستثبات غاية المبالغة، وهذا وقع بعد إقراره أربع مرات، فهو يؤكد اشتراط العدد. 5 - أنَّ حد المحصَن الزاني رجمه بالحجارة حتى يموت، ولا يحفر له عند الرجم. 6 - أنَّه لا يشترط في إقامة الحد حضور الإمام أو نائبه، والأولى حضور أحدهما؛ ليُؤمَن الحيْف، والتلاعب بحدود الله تعالى. 7 - جواز إقامة الحدود في مصلى الجنائز، وكانوا في الأول يجعلون للصلاة على الجنائز مصلى خاصًّا. 8 - أنَّ الحد كفارة للمعصية التي أقيم الحد لها، وهو إجماع، وقد جاء صريحًا في قوله عليه الصلاة والسلام: "من فعل شيئًا من ذلك، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارته". 9 - أنَّ إثم المعاصي يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين أيضًا. 10 - إعراض الإمام والحاكم عن المقر على نفسه بالزنا، لعلَّه فعل ما لا يوجب الحد، فظنه موجبًا، والحدود تدرأ بالشُّبهات. 11 - هذه المنقبة العظيمة لماعز -رضي الله عنه- إذْ جاء بنفسه؛ غضبًا لله تعالى وتطهيرًا لها، مع وجود الإعراض عنه، وتلقينه ما يسقط عنه الحد. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل يشترط الإقرار بالزنا أربع مرات، أو لا؟ ذهب الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، ومنهم الحكم بن عتيبة، وابن أبي ليلى، إلى: أنَّه لابد من الإقرار أربع مرات، مستدلين بهذا الحديث الذي معنا، فإنَّه لم يُقِم النبي -صلى الله عليه وسلم- على "ماعز" الحد، إلاَّ بعد أن شهد على نفسه أربع مرات، وقياسًا على الشهادة بالزنا فلا يقبل إلاَّ أربعة شهود. ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافًا للحنفية.

وذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر إلى: أنَّه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد؛ لحديث: "وَاغْدُ يَا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها" ولم يذكر إقرارات أربعة. ورجم -صلى الله عليه وسلم- الجهينية، وإنما اعترفت واحدة. وأجابوا عن حديث ماعز: بأنَّ الروايات في عدد الإقرارات مضطربة، فجاء أربع مرات، وجاء مرتين، أو ثلاثًا. وأما القياس: فلا يستقيم؛ لأنَّ الإقرار في المال لابد فيه من عدلين، ولو أقرَّ على نفسه مرَّة واحدة كفت إجماعًا. والقول الأخير من حيث الدليل وجيه، والقول الأول أحوط، والله أعلم. ***

1052 - وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ فِيْمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ورَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيْضَةٍ أنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كتَابِ اللهَ تَعَالَى عَلَا مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - آية الرجم: بالرفع، اسم "كان"، وخبرها الظرف. وآية الرجم هي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم ". - أحصن: مادة "حصن" تدل علها المناعة، فيقال: مكان حصين؛ أي: منيع، وأحصن الرجل: إذا وطىء في نكاح صحيح، واسم الفاعل من "أحصن" محصِن، بكسر الصاد، وأما فتحها فاسم مفعول، والمرأة المصانة في نكاح صحيح: مِحصَنة، بفتح الصاد على غير قياس، والمرأة سميت: محصنة في القرآن في أربع صفات: بالإسلام، والعفاف، والتزويج، والحرية. - وَعَيْنَاهَا: وَعَي الحديث يعيه وعيًا: حفظه وجمعه. ¬

_ (¬1) البخاري (6829)، مسلم (1691).

- عقَلْنَاهَا: عقل الشيء عقلاً: فهمه وتدبره. - فريضة: بوزن فعيلة، قال في "النهاية": أصل الفرض: القطع، وهو عام في كل فرض مشروع من فرائض الله تعالى. - البيِّنة: ما أبان الحق وأظهره من الأدلة. - الحَبل: يقال: حبلت المرأة حبلاً؛ أي: حملت، فهي حبلى، والحَبَل بفتحتين: هو الحمل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فاحشة الزنا من الكبائر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32] وكان حده في أول الحبس في البيت؛ لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] الآية، ثم نُسِخ بحديث عبادة الذي في الباب، ونسخُ القرآن بالسنة جائز على الصحيح؛ لأنَّ الكل من عند الله، وإن اختلف طريقه. 2 - أنزل الله آية الرجم في كتابه، فكان نصها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم ". فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: إنَّ الله بعث محمَّدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها، فرَجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجمنا بعده. قال ابن كثير في تفسيره: إنَّ آية الرجم كانت مكتوبة، فنسخت تلاوتها، وبقي حكمها معمولاً به. 3 - الرجم لا يكون إلاَّ في حق المحصَن، والمحصن هو مَن وطىء زوجته -ولو ذمية- في نكاحٍ صحيحٍ، في قبُلها، والزوجان مكلَّفان حرَّان، فإن اختل شرط من هذه الشروط، فلا إحصان لواحد منهما.

4 - أما الرجم: فهو الرمي بالحجارة حتى يموت المرجوم. 5 - ذكر في الحديث أنَّ أدلة ثبوت الزنا ثلاثة: الأول: أن يقرَّ به الزاني المكلف أربع مرات؛ لِما في الصحيحين من حديث ماعز أنَّه أقرَّ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات قال: "اذهبوا به، فارجموه". وأن يصرح بحقيقة وطء؛ لتزول الشبهة، وألا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، فلو رجع عن إقراره قبل رجمه، قُبِلَ رجوعه، وكُفَّ عنه. الثاني: أن يشهد عليه أربعة رجال عدول، فيصفون الزنا بإيلاج ذكر الرجل الزاني في فرج المرأة المزني بها. الثالث: أن تحبل المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، فهو ظاهر حديث الباب، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، وقال: هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، والأشبه بأصول الشريعة، ومذهب أهل المدينة، فإنَّ الاحتمالات البارزة لا يلتفت إليها. قال ابن القيم: وحكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد؛ اعتمادًا على القرينة الظاهرة. أما مذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد فلا حد عليها؛ لأنَّه يحتمل أنه من وطء أو شبهة، ولأنَّ عمر أُتِي بامرأة حامل فادعت أئَها مكرهة، فقال: خلّ سبيلها، ورُفعت إليه امرأة أخرى، فقالت: إنَّها امرأة ثقيلة، فلم تستيقظ حتى فرغ، وقد درأ عنها الحد. وروي عن ابن مسعود وغيره أنَّهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت. قال الموفق بن قدامة: لا خلاف أنَّ الحد يدرأ بالشُّبهات، وهي متحققة هنا. وهذا القول أرجح من الأول، والله أعلم.

6 - في الحديث أنَّ الرجم وقع في عهد النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، كما صحَّ في أحاديث أُخر. 7 - كما يدل على خشية السلف على أحكام الله وفرائضه أن تنسى وتهمل بترك العمل بها، كما وقع الآن في بلدان المسلمين؛ من الإعراض عن أحكام الله تعالى إلى حكم الطاغوت. 8 - أنَّ الأحكام الشرعية ليست محصورة في القرآن الكريم، بل قد أعطي النَّبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن ومثله معه من الحكمة، فيجب العمل به كله فكله من عند الله تعالى. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم من زنا بذات محرم عليه: فذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: إلى أنَّ حكمه حكم غيره من الزناة في غير المحارم، يجلد البكر ويغرَّب، ويرجم الثيب. وذلك لعموم الآية والخبر، وهو قول الحسن، وأبي ثور، وصاحبي أبي حنيفة. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد-: أنَّه يقتل مطلقًا، سواء كان بكرًا أو ثيبًا، وهي من مفردات المذهب. قال في "شرح المفردات": إذا وطىء امرأة من محارمه المحرمات عليه أمه أو أخته بعقد نكاح، أو غيره، فحدّه القتل في رواية، وبهذا قال جابر بن زيد وإسحاق وأبو أيُّوب وابن أبي خيثمة. لما روى أبو داود والترمذي وحسَّنه من حديث البراء بن عازب قال: لقيتُ خالي ومعه راية، فقلتُ: إلى أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه، وآخذ ماله". ولما روى الترمذي وابن ماجه والحاكم وأحمد وغيرهم عن ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من وقع على ذات محرم، فاقتلوه".

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكَر، وقال الألباني: ضعيف. وذهب ابن حزم إلى أنَّ: من وطىء امرأة أبيه بعقد أو بغير عقد، فإنَّه يقتل؛ لحديث البراء الذي ساقه ابن حزم من عدة طرق، وصحح بعضَها، أما من عداها من المحارم فحكم الزنا فيها والعقد عليها كغيرها في الحدِّ. وحديث البراء جاء بطرق بعض رجالها رجال الصحيح، ولكن الحديث مختلف فيه، قال المنذري: اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، فروي عنه أنَّه قال: مرَّ بي عمي، وروي عنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة، والحديث إذا اختلف فهو شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، فالأرجح مذهب الجمهور أنَّ حد الزاني بذوات المحرم هو حد الزاني بغيرها، والله أعلم. ***

1053 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلاَ يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، ولاَ يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - زَنَت: يُقَال: زنا يزني زنا، والزنا هو: الفجور، والزنا بالقصر في لغة أهل الحجاز، وبالمد "زناء" في لغة أهل نجد. قال في "التعريفات": الزناء: الوطء في قبل، خالٍ عَن مِلك وشبهة. - الأمة: هي الرقيقة. - لا يُثَرِّب عليها: بضم الياء، وتشديد الراء، يقال: ثرَّب عليها يثرب تثريبًا: لامها، وعيَّرها بذنبها، وقبَّح عليها فعلها، والمعنى: لا يعاتبها، ولا يلومها، ولا يعنِّفها بعد أن طهَّرها بالحد. - مِنْ شَعر: الشعر زوائد خيطية تظهر على جلد الإنسان وغيره، فما على الماعز يسمى شعرًا، وما على الضأن فهو صوف، وما على الإبل فهو وبر. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2152)، مسلم (1703).

1054 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. الحديث بتمامه: "أنَّ جارية لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجَرت، فقال: يا علي، انطلق، فأقم عليها الحد، قال علي: فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فقال: يا علي، أفرغت؟ قلتُ: أتيتها ودمها يسيل، فهي حديثة عهد بنفاس، فقال دعها: حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". فقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي، وغيرهم عن عبد الأعلى الثعلبي عن أبي جميلة، عن علي -رضي الله عنه-. قال الألباني: وهذا إسنادٌ حسنٌ، فأبو جميلة روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، والثعلبي فيه ضعفٌ، لكنه تابعه أبو جميلة، وهو مجهول. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان على أنَّ للسيد إقامة الحد على مواليه؛ وذلك حينما يثبت لديه فعل الفاحشة بإقرار، أو شهادة كافية. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد. 2 - أما الإمام مالك: فيرى أنَّ إقامة الحد على الرقيق مردودة إلى الإمام كبقية الرعية. ¬

_ (¬1) أبو داود (4473)، مسلم (1705).

3 - ويدل الحديث على أنَّ السيد، إذا أقام الحد على موليه؛ سواء كان ذكرًا، أو أنثى -فلا يثرِّب عليه، ويعيِّره، ويعيبه، لأنَّ الكلام القاسي هو تعزير بذاته، فلا يجمع عليه بين التأديب الحسِّي والمعنوي، ويرجو من الله تعالى أنَّه مع الإغضاء عن تأنيبه يهديه الله، أما تأنيبه فربَّما يحمله على العناد والإصرار. 4 - ويدل الحديث على أنَّ السيد يؤدب أمته مرَّتين، فإذا لم تنته، وأصرَّت، عُلِمَ أنَّ هذا خلق قبيح عند تلك الأمة، فلا يحل له أن يبقيها عنده، بل يجب عليه إبعادها عنه، ولو بأبخس الأثمان؛ فإنَّ إمساك الأمة بعد تكرر الفاحشة منها والتأديب عليها، يكون من نوع الدياثة. 5 - الأمر ببيع الأمة الزانية دليل على أنَّ الزنا فيها، أو في العبد عيب يرد به المبيع، وأنَّه يجب على البائع أن يخبر المشتري بهذا العيب، وإلاَّ فقد غشَّه، وأخفى عنه العيب. ***

1055 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ امْرَاةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ولِيَّهَا، فَقَالَ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ، فَأْتِنِي بِهَا، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، تُمَّ أُمِرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ! وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَال: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تَعَالَى". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - جُهَيْنَة: قَبِيلة جهينة بن زيد قبائل كثيرة، من قضاعة من القبائل القحطانية، منازلهم كانت ولا زالت على ساحل البحر الأحمر، وهي من الجزء الغربي من المملكة العربية السعودية، وعاصمة حاضرتهم بلدة أملج، بلدة ساحلية غرب المدينة المنورة. - حُبْلَى: الحامل في بطنها جنينها، جمعها: "حبالى". - فَشُكَّت عليها ثيابها: بضم الشين، مبني للمجهول؛ أي: شدَّت، وربطت عليها ثيابها؛ لئلا تنكف. - لوَسعتهم: يقال: وسع يسع سعة؛ بمعنى: أحاطت بهم، وشملتهم. - جادت: من جاد يجود جودًا، "وجادت بنفسها"؛ أي: بذلتها، وسمحت بها. ¬

_ (¬1) مسلم (1696).

1056 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "رَجَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلاً مِنَ اليَهُودِ، وَامْرَأةً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وقِصَّةُ رَجْمِ اليَهُودِيَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - ثبوت حكم رجم الزاني المحصن؛ بأن يرجم بالحجارة حتى يموت. 2 - أن اعتراف العاقل مرَّة يثبت حكم الحد عليه. 3 - ظاهر الحديث أنَّ الحكم يثبت بالاعتراف مرَّة واحدة، ولو لم يكرره أربعًا، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. 4 - ويشترط في استيفاء الحد أن يؤمن الحَيف، فلا يتعدى إلى غيره ممن عليه الحد، فإذا وجب الحد على امرأة حامل، أو حائل فحملت، لم ترجم حتى تضع الولد، وتسقيه اللَّبَأَ؛ لأنَّ رجم الحامل يتعدَّى إلى الجنين، فصار الحد فيه قتل لغيرها، وهو حرام، إذ هو جناية على بريء. 5 - مشروعية شد ثياب المرأة عليها عند إرادة تنفيذ الحد عليها؛ خشية أن تنكشف عورتها. 6 - وجوب الصلاة على المقتول حدًّا، وجوازها من الإمام، كبقية موتى المسلمين، فليست الشهادة تسقط الصلاة عنها، وليست من العصاة الذين يردع غيرهم؟ بترك الصلاة عليهم، وهما: "الغال وقاتل نفسه". ¬

_ (¬1) مسلم (1701). (¬2) البخاري (6841)، مسلم (1699).

7 - إقامة الحد كفارة لذنب صاحبه، وهو إجماع المسلمين، فقد ورد أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عظم أمر هذه التائبة، بأنَّها لو قُسمَتْ توبتها على سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهُم، وَلَعَلَّ العدد غير مراد، وأنَّ ميدان توبتها أوسع من هذا العدد. 8 - قال العلماء: إنَّ الأفضل لمن أتى ذنبًا، أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى، ويجعلها توبة نصوحًا، ويكثر من الطاعات، وفعل الخيرات، ويبتعد عن أمكنة الشر، وقرناء السوء. أما اعتراف هذه الصحابية: فهو غضب شديد على نفسها التي أمرتها بالسوء، ورغبة في سرعة تكفير ذنبها، فهذا هو الذي حملها على أعترافها، وتسليمها نفسها لتطهيرها بالحد. 9 - أنَّ إثم المعصية يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل يشترط لثبوت حد الزنا تكرار الاعتراف أربع مرات، أم يكفي الاعتراف مرَّة واحدة؟ فذهب إلى الأول: الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء، مستدلين على ذلك: بما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "أتى رجل من المسلمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فناداه: إني زنيتُ، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إِني زنيتُ، فأعرض عنه، حتى فعل ذلك أربع مرات، فقال رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذهبوا به، فارجموه". وذهب الإمامان: مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر إلى: أنَّه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد؛ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَاغْد يا أنيس، إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرُجمت".

ولحديث الباب الذي معنا في قصة المرأة الجهنية. وبناءً على خطورة الأمر، وأنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات، وإعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المعترفين على أنفسهم وإمهالهم المرة، فإنه دليل على قوَّة القول باشتراط الإقرار أربع مرات، ومراعاة الخلاف لا تخلو من زيادة فائدة. واختلفوا في اشتراط الإسلام للإحصان: فذهب الشافعي وأحمد إلى: عدم اشتراطه، ويدل عليه الحديث رقم (1056). وذهب أبو حنيفة ومالك إلى: أنَّ الإسلام شرط في الإحصان، وأجابا عن هذه القصة بأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنما رجم اليهوديين بحكم التوراة. والقول الأول أصح، فالتوراة إنما نشرها النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقيم عليهم الحجة من كتابهم، وإلاَّ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم إلاَّ بما أنزل الله عليه -صلى الله عليه وسلم-. ***

1057 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كانَ فِي أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبُثَ بِأَمَةٍ مِنْ إِمَائهِمْ، فَذَكرَ ذلِكَ سَعِيدٌ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: اضرِبُوهُ حَدَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، انَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ: خُذُوا عِثْكَالاً فِيهِ مِائهٌ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنْ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المصنف: رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وإسناده حسن، لكن اختلفوا في وصله وإرساله، قال البيهقي: المحفوظ أنَّه مرسل، وأخرجه أحمد من حديث سعيد بن سعد موصولاً، وهذه ليست بعلة قادحة، فروايته موصولاً زيادة من ثقة وهي مقبولة. وقال الحافظ في "التلخيص": طرق هذا الحديث مدارها على أبي أمامة، ولكن أبا أمامة قد حملها عن جماعة من الصحابة. قال ابن عبد الهادي: إسناده جيِّد. * مفردات الحديث: - رُوَيْجِل: تصغير: "رجُل"، والتصغير لعدة معان: أحدها: التحقير، وهو المراد هنا. ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 222)، النسائي في الكبرى (4/ 313) ابن ماجه (2574).

فخبُث بأمة: خبث بالمرأة -بالخاء المعجمة، فموحدة- يخبث خبثًا، من باب قتل؛ أي: زنا بالأمة. - عِثْكَالاً: بكسر العين، وسكون الثاء المثلثة، بزنة "قرطاس"، هو عذق النخلة، أو العذق الذي يكون عليه أغصان دقيقة. - شِمْرَاخ: -بالشين المعجمة، وسكون الميم، فراء، ثم ألف، آخره خاء معجمة- هو غصن دقيق في أصل العِثْكال، جمعه "شماريخ". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ حد الزاني البكر هو جلد مائة جلدة؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وأما تغريب الزاني البكر عامًا: فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البِكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة". 2 - فيه دليل على أنَّ الإمام ينبغي أن يراقب حال المجلود، ويحافظ على حياته، ومضاعفة الحد عليه. 3 - أنَّ الحد لا يؤخر لمرض إلاَّ لمدة يزول فيها، أو يكون الحدّ يتعدى إلى غير المحدود كالحبلى، كما في قصة الغامدية. 4 - تحتم إقامة الحد، ولو على ضعيف البدن بقدر ما يستطيع، فإنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- لما أخبروه عن ضعف بدن "الرويجل" الزاني، أمرهم أن يضربوه بعذق فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، إقامة لصورة حد الله تعالى بقدر المستطاع، فدلَّ على أنَّ المريض والكبير والعاجز ممن لا يطيق إقامة الحد عليه بالمعتاد، يقام عليه بما يتحمله مجموعًا دفعة واحدة. قال ابن كثير: إنَّ أيوب عليه السلام غضب على زوجته، وحلف إن شفاه الله تعالى، ليضربنَّها مائة جلدة، فلما شفاه الله تعالى، قال الله تعالى له:

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأخذ ضغثًا -وهو الشِّمْراخ- فيه مائة قضيب، أو قبضة من أعواد دقائق، فضربها به ضربة واحدة، فبرَّت يمينه، وخرج من حِنثه. 5 - إذا زنى الحر بأمة، أو بالعكس؛ بأن زنت الحرة بعبد، فكل واحد منهما له حكمه في الحد. 6 - وفي الحديث: أنَّ المخارج المؤدية إلى أعمال مباحة، فإنه يجوز ارتكابها، وأنَّها لا تُعد من الحِيل المحرَّمة المفضية إلى تعاطي المعاملات المحرمة. ***

1058 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا البَهِيمَةَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ اخْتِلاَفًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رجال الحديث موثقون، إلاَّ أنَّ فيه اختلافًا. والحديث اشتمل على فقرتين: الأولى: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل، والمفعول به". قال الألباني: الحديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وكلهم من طريق عبد العزيز بن محمَّد. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي، وهو كما قال، وقد تابعه عباد بن منصور عن عكرمة به، وأخرجه أحمد، والبيهقي من طرق عن عباد به. الفقرة الثانية: "ومن وجدتموه وقع على بهيمة، فاقتلوه، واقتلوا البهيمة". قال الألباني: الحديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس به. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 300)، أبو داود (4462)، الترمذي (1456)، النسائي (4/ 322)، ابن ماجه (1561).

* ما يؤخذ من الحديث: هذه جمل من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- عن فاحشة اللواط: 1 - مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، فليس في المعاصي أعظم مفسدة منها، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل. 2 - لم يبتل الله سبحانه بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدًا من العالمين، قال تعالى: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف]، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا غيرهم، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)} [هود]. فجمع عليهم من أنواع العقوبات، بين الإهلاك، وقلب الديار عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكل بهم نكالاً لم ينكله أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة. 3 - ثبت أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط" ولم يجيء عنه -صلى الله عليه وسلم- لعنه الزاني ثلاث مرات في حديث واحد. *خلاف العلماء: قال ابن القيم: هل عقوبة اللواط أغلظ عقوبة من الزنا، أو الزنا أغلظ؟ على ثلاثة أقوال: فذهب الإمام مالك إلى: أنَّ عقوبة اللواط أغلظ من عقوبة الزنا، وهو رواية عن الإمام الشافعي، والإمام أحمد، فعقوبته القتل، فاعلاً كان، أو مفعولاً به. وهذا قول أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد -رضي الله عنهم- وإنما اختلفوا في صفة قتله.

وهو قول عبد الله بن معمر، والزهري، وربيعة، وإسحاق ابن راهوية. وذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد، إلى-: أنَّ عقوبته كعقوبة الزاني؛ سواء كان فاعلاً، أو مفعولاً به. وهذا قول عطاء، والحسن، وسعيد بن المسيب، والنَّخعي، وقتادة، والأوزاعي؛ لما روى البيهقي من حديث أبي موسى أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان". وذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنَّ عقوبته دون عقوبة الزنا، وهي التعزير. قال أصحاب القول الأول، وهم جمهور الأمة: إنَّه ليس في المعاصي أعظم مفسدة من هذه المعصية، وإنَّ الله تعالى جمع على أهلها من أنواع العقوبات ما لم ينكل به أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة. وإنَّ الله تعالى جعل حد القاتل إلى خيرة الولي، بينما حتم قتل اللوطي حدًّا، وأجمع على ذلك الصحابة، ودلَّت عليه السنة الصحيحة الصريحة، التي عمل بها الصحابة، والخلفاء الراشدون، رضي الله عنهم. وإنما اختلف الصحابة في صفة قتله: فقال علي بن أبي طالب: أرى أن يحرق بالنار، وقال ابن عباس: يرمى من شاهق، ثم يتبع بالحجارة. أما الذين ذهبوا إلى أنَّ عقوبة اللواط دون عقوبة الزنا، وإنما هو عقوبته التعزير -فيقولون: إنَّه معصية لم يقدر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها حدًّا مقدرًا، فكان فيه التعزير، ولأنَّه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، والقواعد الشرعية أنَّ المعصية إذا كان الوازع منها طبيعيًّا، اكتفي بذلك الوازع عن الحد، أما إذا كان في الطباع ميل إليها جعل فيها الحد؛ لذا جعل الله الحد من الزنا، والسرقة، والسكر، دون أكل الميتة. قُلتُ: وهذه تعللات لا تقوم بجانب النصوص، وإجماع الصحابة.

1059 - وَعَن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبا بكرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغرَّبَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الترمذي، والبيهقي من طرق عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به. قال الترمذي: حديث غريب، رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس، فرفعوه، وروى بعضهم عن عبد الله بن إدريس هذا الحديث عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "أنَّ أبا بكر ضرب وغرب، وأنَّ عمر ضرب وغرب". قلتُ: الحديث صحيح الإسنادة؛ لأنَّ عبد الله بن إدريس الأزدي ثقة محتج به في الصحيحين، وقد رواه عنه الجماعة مرفوعًا، ومن رواه عنه موقوفًا لم يخالف رواية الجماعة؛ فإنَّ في رواية الجماعة زيادة، والزيادة مقبولة، لاسيَّما إذا كانت من الجماعة، وقد صحَّح الحديث أيضًا: ابن القطان، والحاكم، وقال: على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - غرَّب: بفتح الغين، وتشديد الراء، ثم باء موحدة، يقال: غرَّب يغرِّب تغريبًا: أبعده عن وطنه، والمعنى: حكم عليه القاضي بالنفي عن بلده لمدة سنة. ¬

_ (¬1) الترمذي (1438).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- نفذا في خلافتهما سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضربا الزاني البكر، فجلداه مائة جلدة، كما في الآية الكريمة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. 2 - وأنَّ الخليفتين الراشدين غرَّبا الزاني البكر عن بلده إلى بلد آخر عامًا كاملاً، كما صحَّت السنة بذلك .. 3 - فهذا دليل على بقاء هذا الحد، وأنَّه لم يُنسَخ ولم يبدل، بل نفذه هذان الإمامان الكبيران رضي الله عنهما وأرضاهما. قال -صلى الله عليه وسلم-: "اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكر، وعمر". رواه ابن ماجه، والحاكم، والترمذي وحسَّنه. ***

1060 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجالِ، وَالمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتكُمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *مفردات الحديث: - المُخَنثَّيِنَ: جمع "مُخَنَّث"، بالخاء المعجمة، فنون، فمثلثة، يقال: خنث الرجل يخنث خنثًا أي: صار خنِثًا، والخَنِث: من فيه لينٌ، وتكسُّرٌ، وَتَثَنٍّ، وتشبُّهٌ بالنساء في زيه، وحركاته، وكلامه. - المتَرَجِّلات: المتشبهات بالرجال، هكذا ورد تفسيره في حديث آخر، أخرجه أبو داود، والمراد: أنَّهنَّ يتشبهن بالرجال بخصائصهم: من الحركات، والكلام، واللبس، والزي، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالرجال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المتخنثون من الرجال هم الذين يتشبهون بالنساء في حركاتهم، ومشيتهم، وتكسرهم، ولباسهم، وغير ذلك من الأمور المختصة بالنساء. ووجد فئة من الشباب قبيحة، اتَّخذت خصائص النساء في كل شيء، فيجب ردعهم؛ لئلا يستشري فسادهم في أنفسهم، وفي غيرهم، فهذه طائفة من الشباب المائع الماجن المتأنث، يسمون: "الجنس الثالث"، ظهر منهم أعمال، وحالات يندى لها الجبين، فهؤلاء يجب التشديد في حقهم، وقطع دابرهم. 2 - أما المترجلات من النساء: فهنَّ المتشبهات بالرجال بكلامهن وحركاتهن، ¬

_ (¬1) البخاري (6834).

وأعمالهن، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالرجال. وهدذه الظاهرة برزت من مزاحمة الفتيات بالمكاتب، والدوائر، والشركات، وغير ذلك. 3 - فالصنفان لعنهم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، لأنَّهم حاولوا تغيير خلقة الله تعالى، التي أرادها في خلقه، فالله تبارك وتعالى خلق كل خَلْقٍ على هيئة وشكل، يناسب طبيعته، وعمله الذي خُلِق من أجله، فعكس هذا الأمر هو تغيير لخلق الله، وفطرته التي فطر الناس عليها. 4 - الحديث يدل على أنَّ تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال -أنَّه من المحرَّمات، ومن كبائر الذنوب؛ لأنَّ اللَّعنة لا تلحق إلاَّ صاحب كبيرة. 5 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند هذا الحديث: الأصل في جميع الأمور العادية الإباحة، فلا يحرم منها إلاَّ ما حرَّم الله ورسوله: إما لذاته كالمغصوب، وإما لخبث مكسبه، وإما لتخصيص الحل فيه بأحد المصنفين، فالذَّهب والفضة والحرير خاص للنساء، وأما تحريم تشبه الرجال بالنساء، وبالعكس فهو عامٌّ في اللباس، وغيره. ***

1061 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ادْفَعُوا الحُدُودَ، مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (¬1). وأَخرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظِ: "ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ، مَا اسْتَطَعْتُمْ"، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا (¬2). وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ عِليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِن قَوْلهِ بلَفْظِ: "ادْرَءُو الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة به، ومن هذا الوجه رواه أبو يعلى في "مسنده"، قال في "الزوائد": هذا إسناد ضعيف، فإبراهيم بن الفضل المخزومي ضعَّفه أحمد، وابن معين، والبخاري، والنسائي. أما حديث عائشة: فأخرجه الترمذي، وفيه يزيد بن زياد متروك. وأما حديث علي: قال البيهقي: في إسناده ضعف، وعلَّته مختار التمار. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2545). (¬2) الترمذي (1424)، الحاكم (4/ 384). (¬3) البيهقي (8/ 238).

قال البخاري: منكر الحديث. قال ابن حجر في "التلخيص": قد روي عن غير واحد من الصحابة أنَّهم قالوا ذلك، ورواه ابن حزم في الإيصال عن عمر بإسناد صحيح، وفي مسند أبي حنيفة للحارثي من طريق مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. * مفردات الحديث: - ادرءوا: من: درأ يدرء درءًا أي: دفعه، فالدرء: الدفع. والمعنى: التمسوا الأعذار مما يسقط الحد. - الشبهات: يقال: اشتبه الأمر: خفي والتبس، فالشبهة: التباس للأمر بالثبوت وعدمه، جمعه: "شُبَه وشُبُهَات". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة؛ لِما اتَّصف به جلَّ وعلا من الستر على عباده، والعفو، والمغفرة عن ذنوبهم، وخطاياهم. 2 - ومن هذا ما جاء في هذا الحديث الذي جاء من طرق مرفوعة وموقوفة، يعضد بعضها بعضًا، لتدل على أصل هذا المعنى، وهو معنى دلَّ عليه كرم الله تعالى، وصفحه عن عباده. 3 - فحدود الله تعالى، وحقوقه تدرأ وتدفع بالشبهات، ما وجد إلى درئها ودفعها سبيل، من الأمور التي يجوز دفعها، ويمكن درؤها؛ كأن تدعي المرأة الإكراه، أو أنَّها وطئت وهي نائمة، ونحو ذلك، فحينئذٍ يقبل قولها، ويدفع عنها الحد، ولا تكلف البينة فيما دفعت به، وزعمته. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنَّ الحدود تدرأ بالشبهات. وقال الموفق: ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّه لا حد مع الشبهة؛ لأنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات.

قال الشوكاني عن حديث الباب: الحديث يصلح للاحتجاج على مشروعية درء الحدود بالشُّبهات المحتملة، لا مطلق الشبهة. 4 - أما حقوق الخلق: فهي مبنية على الشح والتقصي، فالمقر بحق آدمي لا يقبل رجوعه عن إقراره، والقرينة على صحة الدعوى يعمل بها، ويحاول إظهار الحق ممن أنكره قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند هذا الحديث: يدل الحديث على أنَّ الحدود تدرأ بالشُّبهات، فإذا اشتبه أمر الإنسان: هل فعل ما يوجب الحد، أم لا؟ وهل هو عالم، أو جاهل؟ وهل هو متأول، أو معتقد حِلَّه، أم لا؟ دُرئت عنه العقوبة؛ لأنَّنا لم نتحقق موجبًا، فالخطأ في درء العقوبة، أهون من الخطأ في إيقاع العقوبة على من لم يفعل سببها؛ فإنَّ رحمة الله تعالى سبقت غضبه، وشريعته مبنية على اليسر والسهولة، وهذا في الاحتمالات المعتبرة، أما الاحتمالات التي تشبه الوهم والخيال، فلا عبرة بها. وقال: وفي الحديث دليل على أصل هو: أنَّه إذا تعارضت مفسدتان، تحقيقًا أو احتمالاً، راعينا المفسدة الكبرى، فدفعناها؛ تخفيفًا للشر، والله أعلم. ***

1062 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ القَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا، فَلْيَسْتَتِرْ بسِتْرِ اللهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كتَابَ اللهَ تَعَالَى". رَوَاهُ الحَاكِمُ. وَهُوَ فِي "المُوطَّإِ" مِنْ مَرَاسِيلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث. الحديث صحيح. قال المصنف: رواه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين. وهو في "الموطأ" من مراسيل زيد بن أسلم، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث أُسْنِدَ بِوجه من الوجوه. ومراد ابن عبد البر بذلك: حديث مالك، وأما الحاكم: فرواه مسندًا عن أنس بن عياض عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذَّهبي، وصحَّحه ابن السكن. * مفردات الحديث: - القاذورات: مفرده: "قاذورة"، يقال: قذر الشيء -وهو مثلث العين- ومصدره: قذرًا وقذارة، وهو ضد النظيف، يقال: شيء قذْر بسكون العين وتثليث حركتها، والقاذورة لها عدة معانٍ؛ منها: الفاحشة، وهو المراد هنا. - ألَمَّ: يقال: لمّ الشيء يلمّه لمًّا؛ أي: جمعه وضمه، وألم الرجل بالذنب فعله. ¬

_ (¬1) الحاكم (4/ 272)، مالك (2/ 825).

- يُبْدِ: من: بدا الأمر يبدو بَدْوًا وبُدُوًّا بمعنى: ظهر وبان. - صفحته: حقيقة الصفحة: جانب الوجه، فلكل وجه صفحتان هما الخدان، بمعنى: أظهر ذنبه وأبانه. - كتاب الله: جمعه: "كتب" -بضم العين وسكونها- وهو مصدر سمي به المكتوب؛ لجمعه أحكام الله، والمراد هنا: حكم الله الذي لا يخالف التنزيل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - دلَّ الحديث على رغبة الشارع الحكيم من المذنب أن يستر نفسه، ويتوب عن الذنب فيما بينه وبين ربه، والله سبحانه غفور رحيم: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]. 2 - وكان -صلى الله عليه وسلم- يُعرِض عن المقرين، والمعترفين عنده بذنوبهم؛ كقصة ماعز بن مالك، يريد بَذلك -صلى الله عليه وسلم- أن تكون توبتهم فيما بينهم وبين ربهم، فيقول: لعلَّك قبَّلْت، لعلَّك غمزت، لعلَّك نظرت. 3 - أما إذا رُفِع أمر من أتى بفاحشة، وأبان عن حقيقة حالة إلى ولي أمره، فإنَّه حينئذٍ يجب على ولي الأمر إقامة ذلك الحد؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يُبْدِ لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله عزَّ وجل". وكما قال -صلى الله عليه وسلم- لصفوان بن أمية حنيما شفع للسارق الذي سرق رداءه: "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟! " وقال -صلى الله عليه وسلم- منكرًا على أسامة بن زيد: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! ". 4 - أما حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم": فقد قال الإمام الشافعي: سمعت من يفسِّر هذا الحديث، فيقول: يتجاوز للرجل من ذوي الهيئات عثرته ما لم تكن حدًّا. قال الماوردي في تفسير العثرات: فيها وجهان: أحدهما: الصغائر.

الثاني: أول معصية زلَّ فيها مطيع. والمتعارف عند الناس أنَّ ذوي الهيئات هم أصحاب الخصال الحميدة، وذوي المروءات، وكرائم الأخلاق. والمراد بقوله: "إلاَّ الحدود"؛ أي: فإنَّها لا تُقَالُ، بل تقام على ذي الهيئة، وغيره بعد الرفع إلى الإمام. ***

باب حد القذف

باب حد القذف مقدمة القذف لغة: الرمي بالشيء، فيقال: قذف قذفًا، واسم الفاعل: قاذف، وجمعه: قذاف وقذفة. وشرعًا: الرمي بزنا أو لواط. القذف نوعان: 1 - قذف يُحَد عليه القاذف. 2 - قذف يعاقب عليه بالتعزير. فأما الذي يحد فيه القاذف: فهو رمي المحصَن بالزنا، أو نفي نسبه، أو رميه باللواط. وأما ما فيه التعزير: فهو الرمي بما ليس صريحًا فيما تقدم، أو الرمي بغير ذلك. والقذف محرَّم بالكتاب، والسنة، والإجماع: فمن الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ} [النور: 4]. ومن السنة: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اجتنبوا

السبع الموبقات ... " وعدَّ منها القذف. وأجمع المسلمون على أنَّه من كبائر الذنوب. قال ابن رشد: اتَّفق العلماء على أنَّه يجب مع الحد سقوط شهادته، ما لم يتب، واتَّفقوا على أنَّ التوبة لا ترفع الحد. ***

1063 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى المِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذلِكَ، وَتَلاَ القُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ، أمَرَ بِرَجُلَيْنِ، وَامْرَأةٍ، فَضُرِبُوا الحَدَّ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلاَّ من حديث ابن إسحاق. قال المنذري: قد أسنده ابن إسحاق مرَّة، وأرسله أخرى. * مفردات الحديث: - عُذْرِي: يعني: لما نزلت براءة الصدِّيقة مما رميت به، وحُكِم ببراءتها في سورة النور من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ...} الآيات الكريمة [النور]. - رَجُلَيْنِ: هما: حسَّان بن ثابت الأنصاري، ومِسْطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي، فهما اللَّذان خاضا بالإفك في عائشة، -رضي الله عنها-. - امرأة: هي: حمنة بنت جحش بن رئاب، من بني أسد بن خزيمة، هي أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وكانت تحت مصعب بن عمير، فاستشهد عنها في أحد، فتزوَّجها طلحة بن عبيد الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - القذف: هو الرمي بالزنا، أو اللواط، وهو من الكبائر. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 35)، أبو داود (4474)، الترمذي (3181)، النسائي في الكبرى (4/ 325)، ابن ماجه (2567).

2 - عائشة الصديقة وبنت الصديق ابتليت -رضي الله عنها- بمن رماها بالفاحشة، مع صحابي تقي هو "صفوان بن المعطّل"، فبرَّأها الله تعالى من هذه الفرية التي زادتها نزاهة ورفعة، حينما نزل ببراءتها قرآن يُتلى إلى يوم القيامة من سورة النور. 3 - لما نزلت براءتها، أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين؛ بذلك، وتلا القرآن النازل بالبراءة على المنبر، ثم نزل عليه الصلاة والسلام، فأُتي بالرجلين القاذفين: وهما حسَّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وبالمرأة وهي: حمنة بنت جحش، فأقام عليهم حد القذف؛ لثبوت كذبهم به. 4 - ففي الحديث ثبوت القذف، وثبوت حده، ووجوب إقامته على القاذف الكاذب، وحد القذف ثمانون جلدة إن كان حرًّا، وإن كان القاذف عبدًا فأربعون جلدة. 5 - يسقط حد القذف بواحدة من أربع: (أ) عفو المقذوف، قال الشيخ: لا يحد القاذف، إلاَّ بطلب إجماعًا. (ب) تصديق المقذوف للقاذف فيما رماه به. (ج) إقامة البينة على صحة القذف. (د) إذا قذف الرجل زوجته ولاعنها. 6 - القذف له عدة أحكام: (أ) حرام: إذا كان كاذبًا في إخباره. (ب) واجب: على من رأى زوجته تزني، ثم تلد ولدًا يقوى ظنه أنَّه من الزاني. (ج) مباح: إذا رأى زوجته تزني، ولم تلد ما يلزمه نفيه، فهو مخيَّر بين فراقها وقذفها وفراقها، أولى من قذفها؛ لأنَّه أستر، ولأنَّ قذفها يلزم منه أن يحلف أحدهما كاذبًا، أو تقرَّ فتفتضح. ***

1064 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَوَّلُ لِعَانٍ كانَ فِي الإِسْلاَمِ، أَنَّ شَرِيْكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: البَيِّنَةَ، وَإِلاَّ فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ... " الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). وَفِي البُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد قال أبو يعلى: رجاله ثقات. وله شاهد من حديث ابن عبَّاس عند البخاري، وهو عند مسلم من حديث أنس بنحوه. * مفردات الحديث: - شَريك بن سَحْمَاء: بفتح الشين، فراء مكسورة، ثم ياء، فكاف، وأما سحماء: فسينه مفتوحة، وحاؤه ساكنة، وهو ممدود. - قَذفَه: من قذف قذفًا فهو قاذف، والقاذف في اللغة: الرمي بقوة. وشرعًا: الرمي بالزنا أو لواط، والمراد هنا: الرمي بالزنا. - البيِّنة: منصوب بفعل تقديره: أحضر البينة، ويجوز الرفع على تقدير: عليك البينة. ¬

_ (¬1) أبو يعلى (2824). (¬2) البخاري (2671).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأصل أنَّ من قذف محصنًا بالزنا، فعليه إقامة البيِّنة، وبينة الزنا شهادة أربعة رجال، فإن لم يأت بهذه البينة، فعليه حد القذف: ثمانون جلدة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. 2 - استثني من هذا العموم، إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، فعليه إقامة البينة أربعة شهود، فإن لم يكن لديه أربعة شهود، دُرِىء عنه حد القذف على أن يحلف أربع مرات أنَّه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا، وفي الخامسة يلعن نفسه، فيقول: وإنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتكون الشهادات قائمة مقام الأربعة الشهود. 3 - ذلك أنَّ الرجل إذا رأى الفاحشة في زوجته، فلا يتمكن من السكوت، كما لو رآه من الأجنبية؛ لأنَّ هذا عار عليه، وفضيحة له، وانتهاك لحرمته، وإفساد لفراشه، فلا يقدم على قذف زوجته إلاَّ من تحقَّق؛ لأنَّه لن يقدم عليه إلاَّ بدافع من الغيرة الشديدة؛ إذ إنَّ العار واقع عليهما، فيكون هذا مقويًّا لصحة دعواه. 4 - يدل الحديث على أنَّ هلال بن أمية قذف شريكًا بالزنا بزوجة القاذف، وليس القذف للزوجة إلاَّ ضمنًا. * خلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن قذف رجلاً بزوجته: فذهب الإمامان: أبو حنيفة، ومالك إلى أن من قذف رجلاً بزوجته، فعليه إقامة البيِّنة على ذلك، وإلاَّ فعليه حد القذف؛ لأنَّه قذف من لم يكن له ضرورة إلى قذفه، فهو على أصل حد القذف. قال ابن العربي: وهذا هو ظاهر القرآن؛ لأنَّ الله تعالى وضع الحد في

قذف الأجنبي، والزوجة مطلقين، ثم خصَّ الزوجة بالخلاص باللعان، وبقي الأجنبي على مطلق الآية، وإنما لم يحدّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هلالاً لشريك؛ لأنَّه لم يطلبه، وحد القذف لا يقيمه إلاَّ الإمام بعد المطالبة إجماعًا. وذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد إلى: أنَّ الزوج إذا قذف زوجته برجل معيَّن، ثم لاعن، سقط عنه الحد للزوجة، ومن قذفها به، ذكره في اللعان، أو لم يذكره فيه؛ لأنَّ اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بيِّنة في الطرف الآخر، كالشهادة، فإن لم يلاعن الزوج، فلكل واحد من الزوجة، والرجل المقذوف بها المطالبة بالحد، وأيهما طالب: حُدَّ له وحده دون من لم يطلب. واستدل الإمامان: بهذا الحديث؛ فإنَّ هلال بن أمية قذف شريكًا بزوجته، ولم يحده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية: "البيِّنة، وإلاَّ فحد في ظهرك" -فالبينة شهادات اللعان اللاتي تقوم مقام الأربعة الشهداء. ***

1065 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَر وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ فِي القَذْفِ إِلاَّ أَرْبَعِينَ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّورِيُّ فِي "جَامِعِهِ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "أوجز المسالك في شرح موطأ مالك": أخرجه البيهقي من رواية يحيى بن بكير عن مالك عن ابن أبي الزناد، ثم قال: ورواه الثوري عن أبي الزناد حدَّثني عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: "لقد أدركتُ أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومن بعدهم من الخلفاء، فَلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلاَّ أربعين". وأخرجه البيهقي من وجه آخر، وإسناده صحيح. ... ¬

_ (¬1) مالك (2/ 828).

1066 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ، يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْه (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الأثر المروي عن الخلفاء الراشدين الثلاثة، أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم- هو أنَّ العبدَ إذا قذف محصنًا فحده على النصف من حدّ الحر، فإنَّ حد الحر ثمانون جلدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. أما المملوك: فهو على النصف من حد الحرة لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وعلى هذا إجماع الأئمة الأربعة. 2 - أما الحديث رقم (1066): فيدل على أنَّه يحرم على السيد أن يقذف مملوكه، وهو كاذب عليه في ذلك، فإنَّ للمماليك من الشعور والإحساس مثل ما للأحرار، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم". 3 - أما إذا قذف السيد مملوكه، فلا يقام عليه الحد في الدنيا؛ ذلك أنَّ الحدود كفارات لمن أقيمت عليه، وما دام أنَّه سيلحقه العذاب في الآخرة، ويحد لذلك، فإنَّه دليل على أنَّه لا يحد في الدنيا، وعدم إقامة الحد عليه في الدنيا إجماع العلماء. ¬

_ (¬1) البخاري (6858)، مسلم (1660).

4 - قال في "شرح الإقناع": والقذف محرَّم إلاَّ في موضعين: أحدهما: أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه، ولو دون الفرج، فيعتزلها، ثم تلد ما يمكن أن يكون من الزاني، فيجب عليه قذفها، ونفي ولدها؛ لأنَّ ذلك يجري مجرى اليقين في أنَّ الولد من الزنا. الثاني: أن يراها تزني، ولم تلد ما يلزم نفيه، أو يستفيض زناها في الناس، أو يخبره ثقة، ونحو ذلك، فلا يجب قذفها؛ لأنَّه يمكنه فراقها، وهو أولى من قذفها؛ لأنَّه أستر، وتقدم. ***

باب حد السرقة

باب حد السرقة مقدمة يقال: سرق يسرق سرقًا، فهو سارق، والشيء مسروق، وصاحبه مسروق منه. والسرقة لغة: أخذ الشيء في خفاء وحيلة. وشرعًا: هي أخذ مال محتَرم لغيره، من حرز مثله، لا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء. فلا قطع على منتهبٍ، ولا مختلسٍ، ولا خائنٍ، ولا جاحد وديعة، ونحوها من الأمانات؛ لأنَّهم لا يدخلون في التَّعريف المذكور. والأصل في قطع يد السارق: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فمن القرآن: قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]. ومن السنة: ما يأتي من الأحاديث. وأجمع عليه العلماء؛ استنادًا إلى هذه النصوص. وأما القياس: فإنَّ القياس والحكمة تقتضي إقامة الحدود كلها، كما أمر الله تعالى،

حفظًا للأنفس، والأعراض، والأموال؛ ولذا نرى البلاد التي عملت بأحكام الله، ونفذت حدوده -استتب فيها الأمن، ولو كانت ضعيفة العدة. ونرى الفوضى، وقتل الأنفس، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال في البلاد التي حكمت القوانين، ولو كانت قوية متمدنة، فمضت حياتها ما بين سلب ونهب. ***

1067 - عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ، إِلاَّ فِي رُبعُ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَلَفْظُ البُخَارِيِّ: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبعُ دِيْنَارٍ فَصَاعِدًا". وَفِي رِوَايَةٍ لأِحْمَد: "اقْطَعُوا فِي رُبعُ دِينَارٍ، وَلاَ تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أدْنَى مِنْ ذلِكَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أحمد -وإن ضعفها بعض العلماء- فإنَّها تقوى بحديث عائشة المتقدم في الصحيحين؛ فإنَّ معناهما واحد. * مفردات الحديث: - فصاعدًا: منصوب على الحال المؤكدة، يستعمل بالفاء، وثم، ولا يستعمل بالواو، ومعناه: ولو زاد. - الدينار: هو المثقال من الذَّهب وزنه (4) غرامات وربع من الذهب الصافي. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6789)، مسلم (1684)، أحمد (6/ 80).

1068 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ فِي مِجَنٍّ، ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مِجَن: -بكسر الميم، وفتح الجيم المعجمة، آخره نون مشددة- هو الترس، جمعه "مجَان"، وزان: دواب، مأخوذ من: الاجتنان، وهو الاستتار؛ لأنَّ المِجن يُتَّقى به ضرب السلاح في الحرب. - الدرهم: وزن الدهم من الفضة هو (2.975) غرامًا. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6795)، مسلم (1686).

1069 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْه أَيْضًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - أمَّن الله عزَّ وجل دماء الناس، وأعراضهم، وأموالهم بكل ما يكفل ردع المفسدين المعتدين، فكان أن جعل عقوبة السارق، الذي يأخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، قطع العضو الذي تناول به المال المسروق؛ ليكفر القطع ذنبه، وليرتدع هو وغيره عن الطرق الدنيئة، وينصرفوا إلى اكتساب المال من الطرق الشرعية الكريمة، فيكثر العمل، وتُستخرج الثمار، فيعمر الكون، وتعز النفوس. 2 - ومن حكمته تعالى: أن جعل النصاب الذي تقطع فيه اليد ما يعادل ربع دينار من الذَّهب؛ حمايةً للأموال، وصيانةً للحياة، وليستتب الأمن، وتطمئن النفوس، وينشر الناس أموالهم للكسب، والاستثمار. 3 - قطع يد السارق، والمراد بالسارق: الذي يأخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، وليس منه الغاصب، والمنتهب، والمختلس. قال القاضي عياض -رحمه الله-: صان الله الأموال بإيجاب القطع للسارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة؛ كالاختلاس، والانتهاب، والغصب؛ لأنَّه قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمر، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف ¬

_ (¬1) البخاري (6799)، مسلم (1687).

السرقة، فإنَّه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها أبلغ في الزجر عنها. وقد أجمع المسلمون على قطع يد السارق في الجملة. 4 - في الحديثين الأولين: أنَّ نصاب القطع ربع دينار من الذَّهب، أو ما قيمته ثلاثة دراهم من الفضة، ويأتي قريبًا مذاهب العلماء في بيان النصاب. 5 - قال ابن دقيق العيد: القيمة، والثمن مختلفان في الحقيقة، فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه، لم تعتبر إلاَّ القيمة. 6 - للعلماء شروط في قطع يد السارق، تقدم بعضها، وأهم الباقي: (أ) أن يكون المسروق من حرز مثله، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان والحاكم، ومرجع الحرز العرف، فلا قطع في سرقة من غير حرز مثلها. (ب) وأن تنتفي الشبهة، فلا قطع من مال له فيه شركة؛ كسرقة الابن من أبيه، أو الأب من ابنه، والفقير من غلة على الفقراء، أو من مال في شركة. (ج) وأن تثبت السرقة: إما بإقرار من السارق معتَبر، أو من شاهدين عدلين. 7 - لهذا الحكم السامي، حكمته التشريعية العظمى. فالحدود كلها على وجه العموم رحمة ونعمة؛ فإنَّ في المجموعة البشرية أفرادًا تربَّت نفوسهم على حب الأذى، وإقلاق الناس، وإفزاعهم في أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأنه إذا لم يجعل لهؤلاء المجرمين رادع: من التأديب، والعقوبة، اضطربت الأحوال، وتقطعت السبل. ومن رحمته تعالى، أن جعل عقوبات تناسب هذه الجرائم؛ ليرتدع

بها المجرم، وليكف عن الجرائم من يحاول غشيانها، ومن ذلك قطع يد السارق. فهذا المعتدي الذي ترك ما أباح الله تعالى له، من المكاسب الشريفة، التي تعود عليه، وعلى مجتمعه بالصالح العام، فأقدم على أموال الناس بغير حق، وأفزعهم -وأخافهم- يناسبه في العقوبة أن تقطع يده؛ لأنَّها الآلة الوحيدة لعملية الإجرام، ولكنا مع الأسف ابتلينا بهذه الطوائف المتزندقة، التي عشقت القوانين الأوربية الآثمة، تلك القوانين التي لم تحجز المجرمين عن إفسادهم في الأرض، وإخافة الأبرياء في بيوتهم وسبلهم. عشقوا تلك القوانين التي حاولت إصلاح المجرمين المفسدين بغير ما أنزل الله تعالى عليهم من العلاجات الشافية لهم، ولمن في قلبه مرض من أمثالهم، فلم تفلح، بل زادت عندهم الجرائم والمفاسد؛ لأنَّ عقابهم وعلاجهم السجن، مهما عظمت المعصية، وكبر الإجرام. والسجن يلَذ لكثير من المفسدين العاطلين، الذين يجدون فيه الطعام والشراب، وفي خارجه الجوع والبطالة. ولما كانت الحكومة السعودية، وفَّقها الله قائمة بتحكيم شرع الله تعالى -قلَّت عندها أعمال الإجرام، لاسيَّما سلب الأموال، بينما غيرها من الأمم تعج بالمنكرات، وعصابات المجرمين، وقطاع الطريق والمهاجمين، أعاد الله المسلمين إلى حظيرة دينهم، والعمل بما فيه من الخير والبركة.

* قرار المجمع الفقهي بشأن حكم زراعة عضو استؤصل في حد، أو قصاص: قرار رقم (58): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار "مارس" 1995 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص". واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبمراعاة مقاصد الشريعة من تطبيق الحد في الزجر، والردع، والنكال، وإبقاء للمراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة، وقطع دابر الجريمة، ونظرًا إلى أنَّ إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، فلا يكون ذلك إلاَّ بتواطؤ، وإعداد طبي خاص، ينبىء عن التهاون في جدية إقامة الحد وفاعليته. قرَّر: 1 - لا يجوز شرعًا إعادة العضو المقطوع؛ تنفيذًا للحد؛ لأنَّ في بقاء أثر الحد تحقيقًا كاملاً للعقوبة المقررة شرعًا، ومنعًا للتعاون في استيفائها، وتفاديًا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. 2 - بما أنَّ القصاص قد شرع لإقامة العدل، وإنصاف المجنى عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار -فإنَّه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذًا للقصاص، إلاَّ في الحالات التالية:

(أ) أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع. (ب) أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه. 3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد، أو قصاص بسبب خطأ في الحكم، أو في التنفيذ. انتهى القرار. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي تقطع فيه يد السارق: فذهب الظاهرية إلى: أنَّه في القليل والكثير؛ مستدلين بقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وهي مطلقة في سرقة القليل والكثير. وبما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" وذهب جمهور العلماء إلى: أنَّه لابد في القطع من نصاب السرقة، مستدلين بالأحاديث الصحيحة في تحديد النصاب. وأجابوا عن أدلة الظاهرية: بأنَّ الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره، والحديث بيان لها. وأما حديث البيضة والحبل: فالمراد بذلك بيان سخف وضعف عقل السارق، وخساسته، ودناءته؛ فإنَّه يخاطر بقطع يده للأشياء الحقيرة التافهة. فهذا التعبير نوع من أنواع البلاغة، فيه التنفير والتبشيع، وتصوير عمل المعاصي بالصورة المكروهة المستقبحة. ثم اختلف الجمهور في تحديد قدر النصاب الذي يقطع فيه، على أقوال كثيرة نذكر منها القوي: فذهب مالك، وأحمد، وإسحاق، إلى: أنَّ النصاب ربع دينار، أو

ثلاثة دراهم، أو عرض تبلغ قيمة أحدهما. وذهب الشافعي إلى: أنَّ النصاب ربع دينار ذهبًا، أو ما قيمته ربع من الفضة، أو العروض، وبه قال كثير من العلماء، منهم عائشة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والليث، وأبو ثور. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري إلى-: أنَّ النصاب عشرة دراهم مضروبة، أو ما يعادلها من ذهب، أو عروض. استدل الإمام أحمد، ومالك بما رواه أحمد ومسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقطع يد السارق، إلاَّ في ربع دينار، فصاعدًا". وكان ربع الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا، [رواه أحمد عن ابن عمر]. وكما في حديث الباب عن ابن عمر، أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "قطع في مِجَن، قيمته ثلاثة دراهم ". واستدل الشافعي والجمهور بالحديث السابق: "لا قطع إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا"، فإنَّه جعل الذَّهب أصلاً يرجع إليه في النصاب. ولا ينافي حديث ابن عمر، فإنَّ قيمة الدراهم الثلاثة في ذلك الوقت ربع دينار؛ لأنَّ صرف الدينار اثنا عشر درهمًا. واستدل أبو حنيفة وأتباعه: بما ثبت في الصحيحين من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قطع في مجن، وقد اختلف في قيمة هذه المجن، ومما جاء فيها ما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس: "أنَّه كان ثمن المجن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة دراهم". وهذه الرواية وإن خالفت ما في الصحيحين من أنَّ قيمته ثلاثة دراهم -فالواجب الاحتياط فيما يستباح به قطع العضو المحرَّم، فيجب الأخذ به، وهو الأكثر.

وما أخرجه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا قطع إلاَّ في عشرة دراهم"، وضعف العلماء هذا الحديث، وله طريق حسَّنها ابن حجر. واختلف العلماء في حقيقة اليد التي تقطع على أقوال: وأصحها ما ذهب إليه الجمهور، بل نقل فيه الإجماع، من أنَّها التي تبتدىء من الكوع، فالآية الكريمة ذكرت قطع اليد، واليد عند الإطلاق هي الكف فقط، ومع هذا، فقد بيَّنتها السنة؛ فإنَ الله تعالى قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على كفَّيه فقط. ثم إنَّ الجمهور ذهبوا إلى أنَّ أوَّل ما يقطع اليد اليمنى، وبه قرأ ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما"، فإن سرقَ ثانيًا، قطعت الرِجل اليسر، ثم إن سرق، قطعت اليد اليسرى، ثم إن سرق، فالرِجل اليمنى، هذا عند الجمهور، وذكروا أدلتهم في المطولات. وفي الحديث دليل على جواز لعن العصاة غير المعينين؛ لأنَّه لعن جنس صاحب المعصية، لا له بعينه، وقد جاءت النصوص بذلك، كما قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود]. ***

1070 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيْفُ تَرَكوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَطْعِ يَدِهَا" (¬1). 1071 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلاَ مُخْتَلِسٍ، وَلاَ مُنْتَهِبٍ قَطْعُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (1071): الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن حبان والدارقطني, والبيهقي، كلهم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر به. ¬

_ (¬1) البخاري (6788)، مسلم (1688). (¬2) أحمد (3/ 380)، أبو داود (4391)، الترمذي (1448)، النسائي (8/ 88)، ابن ماجه (2591)، ابن حبان (1502).

قال الترمذي: حديث حسن صحيح. لكن أعله الإمام أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائي؛ بأنَّ ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، وتابعه سفيان الثوري عند النسائي لكن قال: لم يسمعه سفيان من أبي الزبير، وتابعه أيضًا المغيرة بن مسلم عند النسائي وغيره، فصحَّ بذلك الحديث. * مفردات الحديث: - خائن: ضد "الأمين"، فهو الذي يخون ما جعل عليه أمينًا؛ كأن يخون في وديعة أو عارية، أو نحوهما، فيدعي ضياع ما اؤتمن عليه، أو تلفه، وهو، كاذب. - مُخْتلس: اسم فاعل من: اختلس الشيء، إذا اختطفه، فالاختلاس نوع من الخطف؛ ذلك أنَّه يستخفي في ابتداء اختلاس الشي، ثم يمر به بانتهاء أمره. - مُنتهِب: المنتهب اسم فاعل من: انتهب الشيء، إذا استلبه، فهو الذي يأخذ المال على وجه العلانية، والمكابرة قهرًا. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - كانت امرأة من بني مخزوم تستعير المتاع من الناس احتيالاً؛ ثم تجحده، فاستعارت مرة حليًّا، فجحدته، فوُجِد عندها، وبلغ أمرها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فعزم على تنفيذ حد الله بقطع يدها، وكانت ذات شرف، ومن أسرة عريقة في قريش، فاهتمت قريش بها، وبهذا الحكم الذي سينفذ فيها، وتشاوروا فيمن يجعلونه واسطة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليكلمه في خلاصها، فلم يروا أولى من أسامة بن زيد؛ فإنَّه المقرَّب المحبوب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فكلَّمه أسامة؛ فغضب منه -صلى الله عليه وسلم-، وقال له منكرًا عليه: "أتشفع

في حد من حدود الله؟! " ثم قام خطيبًا في الناس؛ ليبين لهم خطورة مثل هذه الشفاعة، التي تعطل بها حدود الله، ولأنَّ الموضوع يهم الكثير منهم، فأخبرهم أنَّ سبب هلاك من قبلهم في دينهم، وفي دنياهم أنَّهم يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء، ويتركون الأقوياء والأغنياء، فتعم فيهم الفوضى، وينتشر الشر والفساد، فيحق عليه غضب الله، وعقابه. ثم أقسم -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق- المصدوق لو وقع هذا الفعل من سيدة نساء العالمين: ابنته فاطمة، وقد أعاذها الله من ذلك- لنفَّذ فيها حكم الله تعالى. 2 - تحريم الشفاعة في الحدود، والإنكار على الشافع، وذلك بعد أن تبلغ الحاكم. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان، وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى. قلتُ: في تقييد ذلك بـ"قبل بلوغها الحاكم" ليس مأخوذًا من هذا الحديث الذي معنا، وإنما من نصوص أخر، مثل ما أخرجه أصحاب السنن، وأحمد عن صفوان بن أمية؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما أمر بقطع يد الذي سرق رداءه، فشفع فيه، فقال: "هلاَّ كان لك قبل أن تأتيني به؟ ". وأما قبل بلوغ الحاكم، فهل يرفعه أو يتركه؟ الأولى أن ينظر في ذلك إلى ما يترتب على ذلك من المصالح أو المفاسد، فإن كان ليس من أهل الشر والأذى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاَّتهم". فإن كان يترتَّب عليه شيء من المفاسد، فالأحسن عدم رفعه، وإن

كان في تركه مفسدة، وهو من أهل الأذى، ونحو ذلك من دواعي الرفع -فالأولى رفعه. 3 - أنَّ جاحد العارية حكمه حكم السارق، فيقطع، ويأتي الخلاف فيه. 4 - وجوب العدل والمساواة بين الناس؛ سواء منهم الغني أو الفقير، والشريف، أو الوضيع في الأحكام والحدود، وفيما هم مشتركون فيه. 5 - أنَّ إقامة الحدود على الضعفاء، وتعطيلها في حق الأقوياء، سبب الهلاك والدمار، والشقاوة في الدارين. 6 - مشروعية القَسم في الأمور الهامة؛ لتأكيدها وتأييدها. 7 - جواز المبالغة في الكلام، والتشبيه والتمثيل لتوضيح الحق، وتبيينه، وتأكيده. 8 - منقبة كبرى لأسامة؛ إذ لم يروا أولى منه للشفاعة عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد وقعت الحادثة في فتح مكة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في جاحد العارية، هل يقطع، أو لا؟ فذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي- إلى: أنَّه لا يقطع، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه الخرقي، وأبو الخطاب، وابن قدامة، وصاحب "الشرح الكبير"؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا قطع على خائن". وأجابوا عن حديث الباب: بأنَّها ذكرت بجحد العارية للتعريف، لا لأنَّها قطعت من أجله، وقد قطعت لأجل السرقة، ولذا وردت لفظة "السرقة" في الحديث. وأجابوا بغير ذلك، ولكنها أجوبة غير ناهضة. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنَّه يقطع، وهي المذهب.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألتُ أبي، فقلت له: تذهب إلى هذا الحديث؟ فقال: لا أعلم شيئًا يدفعه. وبهذا القول قال إسحاق، والظاهرية، واستدلوا بهذا الحديث الذي جاء في قصة المخزومية، وجعلوا حديث: "لا قطع على خائن" مخصصًا بغير خائن العارية، والمعنى الموجود في السارق موجود مثله في جاحد العارية، بل الأخير أعظم، فهو مستثنى. * فائدة: أجمع العلماء على: أنَّ الغاصب، والمختلس، والمنتهب لا يقطعون، وليس ذلك لأنَّهم غير مجرمين أو مفسدين، فهم مفسدون معتدون، يجب تعزيرهم بما يردعهم. ولما جاء في السنن من حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع". وإنما لم يُقطعوا أيضًا، لما قدمنا في أول الباب عن القاضي عياض، ولِحكم أخَر لا يعملها إلاَّ الذي شرع للناس ما يصلح حالهم. ***

1072 - وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلاَ كَثَرٍ". رَوَاهُ المَذْكُورُونَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد وأبو داود، والنسائي، ومالك، والشافعي، وابن أبي شيبة من طرق عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن يحيى بن حبَّان عن رافع بن خديج به، ورجال إسناده ثقات. قال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول. وصححه التِّرمذي، وابن حبَّان. * مفردات الحديث: - المذكورون: هم: أحمد، وأصحاب السنن الأربع. - ثَمرَ: واحده: "ثمرة"؛ مما كان معلقًا في النَّخل قبل أن يجذ. - كثر: -بفتح الكاف، والثاء المثلثة-: هو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسطه، قاله في "النهاية". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ من شروط قطع يد السارق هو أن تكون السرقة من حرز، فإن سرق من غير حرز، فلا قطع على السارق، وتقدم أنَّ الحرز مرجعه إلى العرف، ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 463)، أبو داود (4388)، الترمذي (1449)، النسائي (8/ 88)، ابن ماجه (2593)، ابن حبان (1505).

وهو يختلف باختلاف الأموال، والبلدان، وقوة السلطان، وضعفه؛ لأنَّ ما لم يثبت بالشرع اعتباره، رجع فيه إلى العرف. 2 - قال في "الروض المربع وغيره": ومن سرق شيئًا من غير حرزا ثمرًا كان، أو كثرًا، أو غيرهما -ضمنه بعوضه مرَّتين، ولا قطع لفوات شرطه، وهو الحرز. 3 - وهذه المسألة من مفردات الإمام أحمد عن الأئمة الثلاثة. قال في شرح المفردات: من سرق ثمرًا من رؤوس شجر، والماشية في المراعي- لم يقطع، ولو كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرَّتين؛ لحديث رافع بن خديج، والصحيح من المذهب أنَّ غير الشجر والماشية إذا سرقه من غير حرز، فلا يضمن عوضه إلاَّ مرَّة واحدة؛ لأنَّ التضعيف فيها على خلاف القياس، فلا يتجاوز به محل النص. 4 - وقال أكثر الفقهاء: الواجب عوضه مرَّة واحدة في الجميع، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. وأجابوا عن الحديث: بأنَّه منسوخ، وهي دعوى لا دليل عليها. قال الوزير: أجمعوا على أنَّه يسقط القطع عن سارق التمر المعلق على روؤس النخل، إذا لم يكن محرزًا، وكذا الكَثَر. ***

1073 - وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلِصٍّ، قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ معَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ؟ قَالَ: بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطعَ، وَجِيءَ بِه، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُ اللهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ثَلاَثًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ: "اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوه". وَأَخْرَجَهُ البَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بإِسْنَادِهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث أبي أمية حسن. وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والطحاوي، والبيهقي من طريق أبي المنذر عن أبي أمية المخزومية. قال ابن حجر: رجاله ثقات. وأما حديث أبي هريرة: فرواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي موصولاً، وصحَّحه ابن القطان، ورجَّح ابن خزيمة، وابن المديني، وغير واحد إرساله ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 293)، أبو داود (4380)، النسائي (8/ 67). (¬2) الحاكم (4/ 381)، البزار (1560).

عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان. * مفردات الحديث: - لِص: -بكسر اللام، وتشديد الصاد المهملة-: هو السارق، جمعه: "لصوص ولصصة". - ما إِخَالك سرقْت: بكسر الهمزة، هو المشهور، من خال: بمعنى: ظنَّ، أراد بذلك: تلقينه الرجوع عن الاعتراف. - اقطعوا: معناه: اقطعوا يده. - احسِمُوه: يقال: حسَمه حسمًا من باب ضرب، فانحسم بمعنى قطعه، فانقطع، والحسم هو: كيه بعد القطع؛ لئلا يسيل دمه، وينزف. والحسم عند الفقهاء والأطباء القدامى هو أن يغمس موضع القطع من مفصل الذراع في زيت مغلي؛ لتنسد أفواه العروق، فيقف النزيف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه دليل على أنَّ المعترِف بالسرقة إذا لم توجد معه، فإنَّه يشرع تلقينه الرجوع عن اعترافه؛ ليكون شبهة في درء حد السرقة عنه. 2 - النبي -صلى الله عليه وسلم- لقَّن السارق الرجوع عن اعترافه بقوله: "ما إخالك سرقت"، لكن السارق أصرَّ، على الاعتراف، بعد أن أعاد تلقين الرجوع عليه مرَّتين أو ثلاثًا، فلما أصرَّ لم يبق إلاَّ تنفيذ حكم الله فيه، فأمر به فقُطِعت يده. 3 - فيه دليل على أنَّ السارق المقر على نفسه، إذا لقن الرجوع عن إقراره، وأصرَّ عليه، فلم يرجع -أنه يقام عليه الحد فتقطع يده. 4 - قال في "الروض المربع وحاشيته": ولا يقطع إلاَّ بإقرار مرَّتين بالسرقة، ولا يرجع عن إقراره حتى يقطع. قال الموفق: هذا قول أكثر الفقهاء؛ لأنَّه إنما ثبت بالاعتراف، فقُبِل رجوعه.

5 - وقال أيضًا: ولا بأس بتلقينه الإنكار؛ ليرجع عن إقراره. قال الموفق: هذا قول عامة الفقهاء. وأجمعوا على: أنَّه إذا بلغ الإمام، لم تجز الشفاعة فيه؛ لما تقدم. 6 - تلقينه الإنكار، والرجوع وقبول ذلك منه، ما لم تثبت سرقته بشاهدين عدلين. قال في "شرح الإقناع": بخلاف ما لو ثبت القطع ببينة شهدت على فعله، فإنَّ إنكاره لا يقبل منه، بل يقطع. 7 - إذا أقيم على السارق حد السرقة، فينبغي تذكيره بالتوبة والاستغفار، ليجمع الله تعالى في محو ذنبه بين إقامة الحد، والاستغفارة بالقلب واللسان، كما ينبغي أن يدعو له بالتوبة معاونةً له على نفسه، والشيطان. 8 - ينبغي حسم مكان القطع بمادة توقف نزيف الدم، فإنَّه لو استمرَّ معه النزيف لهلك، وليس المراد إهلاكه، وإنما المراد إقامة الحد، وتطهيره. * خلاف العلماء: اختلف العلماء: هل من شروط القطع مطالبة المسروق منه السارقَ بماله؟ مذهب الأئمة الثلاثة: أنَّه يشترط، ونصره ابن قدامة في "المغني". وذهب الإمام مالك إلى: أنَّه لا يشترط، وهو رواية عن أحمد، اختارها الشيخ تقي الدين؛ لعموم الآية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة]. وإذا وجد المسروق مع المتَّهم، فقال ابن القيم: لم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون بالقطع، وهذه قرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنَّهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال مع اللص نص صريح، ولا يتطرق إليه شبهة.

وما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله- هو ما دلَّ عليه حديث الباب، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنما لقَّن الذي أقرَّ، ولم يوجد معه متاع، وإنما هو مجرَّد اعتراف محتمل للصدق والكذب. ***

1074 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَغْرَمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَبيَّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث منقطع. قال المصنف: رواه النسائي، وبيَّن أنَّه منقطع؛ لأنَّه من حديث المسور ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور لم يدرك جده عبد الرحمن، ورواه أبو حاتم، وقال: هو منكر. ورواه البيهقي، وذكر له علَّة أخرى. * مفردات الحديث: - لا يغرم: بفتح الياء، وسكون الغين، وفتح الراء، من: غَرِم يغْرم، وهو تضمينه قيمة ما سرق إن لم توجد عينه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - السارق عليه حقَّان: حق خاص: وهو عين المسروق إن كان موجودًا، أو مثله أو قيمته إن كان تالفًا. والحق العام: هو حق الله تعالى، وهو قطع يده، متى توفرت شروط القطع، أو تعزيره إن لم تكمل شروط قطع يده. 2 - فإذا كان عين المسروق باقيًا، فقد اتَّفق الأئمة الأربعة وغيرهم على وجوب رده إلى صاحبه، ولا يكفي إقامة الحق العام عن رده. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 92).

3 - وأما إذا كان تالفًا، فقد اختلفوا في وجوب ردِّه: فذهب أبو حنيفة إلى: أنَّ السارق لا يغرمه؛ عملاً بهذا الحديث، والحديث ظاهر الدلالة على هذا، ولكن ليس بالقوي، وقد خالف عمومات هي أصح منه. وذهب مالك إلى: وجوب رده من السارق الموسر، وعدم رده إن كان السارق معسرًا، ويكفي قطع يده. وذهب الشافعي وأحمد: إلى أنَّه يجتمع على السارق الحقان مطلقًا؛ سواء كان موسرًا أو معسرًا، فالقطع هو الحق العام، فإن كان موسرًا، فيغرمه في ماله، وإن كان معسرًا فبذمته، كبقية الديون والمتلَفَات؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "على اليد ما أخذت، حتى تؤديه". وَقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل مال امرىء مسلم، إلاَّ بطيبة من نفسه". ولأنَّه اجتمع في السرقة حقَّان: حق الله تعالى، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبة، ولأنَّه قد قام الإجماع أنَّه إذا كان موجودًا بعينه أُخِذَ مِنْهُ، فيكون إذا لم يوجد في ضمانه قياسًا على سائر الأموال الواجبة. ***

1075 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّمْرِ المُعَلَّقِ، فَقَال: "مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبنَةً، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الغَرَامَةُ، والعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيءٍ مِنْهُ بَعْدَ أنْ يُؤْوِيَهُ الجَرِينُ، فَبلَغ ثَمَنَ المِجَنِّ، فَعَلَيْهِ القَطْعُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صححه الحاكم، وحسَّنه الترمذي. ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. * مفردات الحديث: - خُبنَة: بضم الخاء، وسكون الباء، قال في "النهاية": الخبنة: معطف الإزار، وطرف الثوب، أي: لا يأخذ منه في ثوبه شيئًا. - فعليه الغرامة: وذلك بأن يغرم المسروق لصاحبه، إما يرده بعينه إليه، أو يرد بدله غرامة عليه. - العقوبة: الحد بالقطع إن تمت شروطه، أو التعزير إن تخلَّف بعضها. - الجَرِين: -بفتح الجيم، فراء مكسورة، ثم ياء، آخره نون-: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، ويخلص، ويصفى فيه الحب من تبنه، وقشره. ¬

_ (¬1) أبو داود (4390)، النسائي (8/ 85)، الحاكم (4/ 380).

- المِجَن: -بكسر الميم-: هو الترس، وهو آلة من حديد تجعل في الحرب؛ وقايةً للرأس من ضرب السلاح. * ما يؤخذ من الحديث: هذا الحديث الشريف فيه تفصيل لحكم أخذ التمر من مال الغير، هذا التفصيل يوافق ما صحَّت به الآثار، وهو: الحالة الأولى: أن يمر الإنسان بالتمر على رؤوس النخل، أو الثمر في الشجرة، أو الماشية واللبن في ضروعها، فيأكل، أو يشرب حاجته، من غير أن يحمل معه شيئًا؛ لأنَّ أصحاب البساتين، وأصحاب الماشية جرت عادتهم بالسماحة والرضا بمثل هذا، والإذن العرفي، كالإذن اللفظي. الحالة الثانية: أن يأخذ من التمر على رؤوس النخل، ومن الثمر في شجره، ويذهب به، فهذا أخذ من مال الغير بدون إذنه، ولا رضاه، فعليه الغرامة بالمثل، أو القيمة، وعليه التعزير بما يراه الحاكم بدون قطع؛ لأنَّه لم يأخذ مالاً من حرزه. الحالة الثالثة: أن يأخذ من الطعام المودعَ في الجرِين والبيدر، ويكون ما أخذه قدر نصاب حد السرقة، فهذا نصاب من حرزه، فعليه الحد بقطع يده. ويعضده: ما رواه أحمد، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما أخذ من أجرانه، ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجَن". ***

1076 - وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ -لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ-: هَلاَّ كانَ ذلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟! " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الألباني: الحديث له طرق: الأولى: عن حميد ابن أخي صفوان عن صفوان، أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم، والبيهقي. الثانية: عن عكرمة عن صفوان أخرجه النسائي، ورجال إسناده ثقات. الثالثة: عن طاوس عن صفوان بن أمية، أخرجه النسائي، والدارقطني، والحاكم، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي، وهو كما قالا، فرجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين. الرابعة: عن طارق بن مرتفع عن صفوان بن أمية، أخرجه أحمد، والنسائي، ورجاله ثقات رجال الصحيحين، غير طارق. الخامسة: عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، أخرجه أحمد. وهذا مرسل قوي يشهد للموصولات قبله، وجملة القول: أنَّ الحديث صحيح الإسناد من بعض طرقه، وهو صحيح قطعًا لمجموعها. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 466)، أبو داود (4394)، النسائي (8/ 69)، ابن ماجه (2595)، ابن الجارود (828)، الحاكم (4/ 380)، ولم يروه الترمذي.

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - قصة الحديث: أنَّ صفوان بن أمية كان نائمًا؛ إذ جاء إنسان، فأخذ رداءه من تحت رأسه، فأتى صفوان بالسارق للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بقطعه، فقال صفوان: إني أعفو وأتجاوز، فقال: "فهلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟! ". 2 - أنَّ فراش النائم تحته أو معه أثناء نومه هو في حرز، يقطع فيه يد السارق. 3 - أنَّ الرداء وما يساويه من مال هو نصاب تقطع فيه يد السارق. 4 - أنَّ الشفاعة في السارق، أو إسقاط حده فيها بعد أن تبلغ ولي الأمر -لا تُسقط الحد، بل يجب تنفيذه. 5 - أنَّ الشفاعة والستر على السارق قبل أن تبلغ الإمام جائزة، ومسقطة للحد. 6 - اختلفت الروايات -هل كان صفوان بن أمية نائمًا لما سُرق رداؤه؟ فقيل: هو مضطجع بالبطحاء، وقيل: في المسجد الحرام، وقيل: في مسجد المدينة. 7 - صفوان بن أمية الجحمي من أشراف قريش، أسلم بعد فتح مكة بأيام، وشهد حُنَينًا، وهو على كفره، وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- مالاً جزيلاً، فهو من المؤلفة قلوبهم، ولما أسلم حسن إسلامه، وأقام بمكة؛ لأنَّ الهجرة من مكة انتهت بفتحها، ولم يزل شريفًا مطاعًا فيها، حتى مات سنة اثنتين وأربعين، رضي الله عنه. 8 - قال شيخ الإسلام: المتَّهم في السرقة، وقاطع الطريق، ونحو ذلك ثلاثة أصناف: الأول: معروف بالدِّين والورع، وليس من أهل التُّهم، فهذا يُخلَّى سبيله. الثانى: مجهول الحال، فهذا يحبس، حتى يكشف أمره وحاله، والأصل في ذلك ما رواه أبو داود: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَبَسَ في تُهْمَة"، وقَد نصَّ على ذلك الأئمة.

الثالث: معروف بالفجور، فهذا لوث في التُّهمة، فيمتحن بالضرب حتى يقر بالجناية؛ قاله طائفة من العلماء. 9 - وقال الشيخ: لا يشترط في القطع مطالبة المسروق منه بماله، وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز. وقال ابن القيم: لم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون إذا وجد المال المسروق مع المتَّهم، فإنَّ هذه القرينة أقوى من البيِّنة والإقرار، فإنَّهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريحٌ، لا يتطرق إليه شبهة. ***

1077 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّما سَرَقَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقُطعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيةَ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ كذلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الخَامِسَةَ، فَقَال: اقْتُلُوه". أَخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَاسْتَنْكَرَهُ، (¬1) وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حَاطِبٍ نَحْوَهُ، (¬2) وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ القَتْلَ فِي الخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في "التلخيص": رواه الدارقطني، وفيه محمَّد بن يزيد بن سنان، قال الدارقطني: ضعيف. ورواه أبو داود، والنسائي بغير هذا السياق، وفي إسناده مصعب بن ثابت. قال النسائي: ليس بالقوي، وهذا الحديث منكر، ولا أعلم فيه حديثًا صحيحًا. قال ابن عبد البر: حديث القتل منكر لا أصل له، وقال الشافعي: منسوخ لا خلاف فيه. ¬

_ (¬1) أبو داود (4415)، النسائي (8/ 90). (¬2) النسائي (8/ 89).

وأما حديث ابن حاطب فقال الذَّهبي في "التلخيص" (4/ 382): منكر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث ضعَّفه أئمة الحديث، فقد استنكره النسائي، وقال: لا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا، وقال أبوعبد الله: حديث القتل لا أصل له. وعلى فرض صلاحية الحديث، فقد قال الإمام الشافعي: إنَّه منسوخ. وقال في "النجم الوهَّاج": ناسخه حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث ... ". 2 - قال الخطابي في "معالم السنن": هذا في بعض إسناده مقال، وقد عارضه حديث: "لا يحل دم مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث ... "، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أحلَّ دم السارق، وإن تكررت منه السرقة، مرَّةً بعد أخرى، إلاَّ أنَّه قد يُخَرَّج على مذاهب بعض الفقهاء، وهو أن يكون من المفسدين في الأرض، فيكون للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين، ويبلغ به ما رأى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد وجاوزه، وإن رأى القتل قتل، ويُعْزى هذا الرأي إلى مالك. وهذا الحديث يؤيد هذا الرأي. ويحتمل: أن يكون هذا رجلاً مشهورًا بالفساد، ومعلومًا بالشر، وأنَّه سيعود إلى سوء فعله، ولا ينتهي عنه حتى يقضى عليه. ويحتمل: أن يكون ما فعله -إن صحَّ الحديث- إنَّما فعله بِوحي من الله سبحانه، واطلاعه على ما سيكون، فيكون معنى الحديث خاصَّا، به والله أعلم" اهـ. هذا كلام الخطابي، رحمه الله تعالى. ***

باب حد الشارب وبيان المسكر

باب حد الشارب وبيان المسكر مقدمة المُسكِر: اسم فاعل، من: أسكر الشراب، فهو مسكر: إذا جعل صاحبه سكران، أو كانت فيه قوَّة تفعل ذلك، وجمع السكران: سكرى وسكارى، والسُّكر: اختلاط العقل. ويسمَّى كل شراب أسكر: خمرًا، من أي شيء كان من الأشربة. والخمر له ثلاثة معان في اللغة: أحدها: التغطية، ومنه: خمار المرأة، وهو غطاء رأسها. الثاني: المخالطة، يقال: خالطه بمعنى: مازجه. الثالث: الإدراك، ومنه قولهم: خمَّرت العجين أي: تركته حتى أدرك. ومن هذه المعاني الثلاث أخذ اسم الخمر؛ لأنَّها تغطي العقل، وتخالطه، ولأنَّها تُترك حتى تدرك، وتستوي. وتعريفها شرعًا: أنَّها اسم لكل ما خامر العقل وغطاه، من أي نوع من الأشربة؛ لحديث: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وهو محرَّم بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة] فقرنه مع عبادة الأصنام، التي هي الشرك الأكبر بالله تعالى.

وأما السنة: فأحاديث كثيرة: منها: ما رواه مسلم: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". وأما الإجماع: فأجمعت الأمة على تحريمها. وحكمة تحريمها التشريعية لا يحتمل المقام هنا ذكر ما علمناه، ووقفنا عليه من المفاسد، التي تجرها وتسببها، ويكفيك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة]، فذكر أنَّه سبب كل شر، وعائق عن كل خير. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الخمر أم الخبائث" فجعلها أمًّا وأساسًا لكل شر، وخبيث. أما مضرَّتها الدينية: والأخلاقية، والعقلية: فهي مما لا يحتاج إلى بيان وتفصيل. أما مضرَّتها البدنية فقد أجمع عليها الأطباء، لأنَّهم وجدوها سببًا في كثير من الأمراض الخطيرة المستعصية، وأنَّ ما تجره هذه الجريمة المنكرة من المفاسد والشرور ليطول عدّه، ويصعب حصره. ولو لم يكن فيها إلاَّ ذهاب العقل: لكفى سببًا للتحريم، فكيف يشرب المرء تلك الآثمة، التي تزيل عقله، فيكون بحال يضحك منها الصبيان، ويتصرَّف تصرف المجانين؟! فداءٌ هذا بعض أعراضه كيف يرضاه عاقل لنفسه؟ ولِعظم خطرها، وكثرة ضررها، حاربتها الحكومات في "الولايات المتَّحدة" وغيرها. ولكن كثيرًا من الناس لا يعقلون، فتجدهم يتلفون بها عقولهم، وأديانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وشِيمتهم، وصحتهم، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.

قال الشيخ عبد القادر عودة: حرمت الشريعة الإسلامية الخمر تحريمًا قاطعًا؛ لأنَّها تعتبر الخمر أم الخبائث، وتراها مضيعة للنفس، والعقل، والصحة، والمال، ولقد حرمت الشريعة الخمر من أربعة عشر قرنًا، ووضع التحريم موضع التنفيذ من يوم نزول النصوص المحرَّمة، وظلَّ العالم الإسلامي يحرم الخمر حتى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين؛ حيث بدأت البلاد الإسلامية تطبق القوانين الوضعية، وتعطل الشريعة الإسلامية، فأصبحت الخمر -بموجب هذه القوانين المعلنة- مباحة لشاربها. وفي نفس الوقت الذي يستبيح فيه المسلمون الخمر، تنتشر الدعوة إلى تحريم الخمر في كل البلاد غير الإسلامية، فلا تجد بلدًا ليس فيه جماعة، أو جماعات إلاَّ تدعو إلى تحريم الخمر، وتبين بكل الوسائل أضرارها العظيمة، التي تعود على شاربها بصفة خاصة، وعلى الشعوب بصفة عامة، وقد ترتَّب على الدَّعوة القوية لتحريم الخمر أن ابتدأت الدول غير الإسلامية تضع فكرة تحريم الخمر، موضع التنفيذ، فالعالم غير الإسلامي أصبح اليوم يتهيأ لفكرة تحريم الخمر بعد أن ثبت علميًّا أنَّها تضر بالشعوب ضررًا بليغًا، بينما المسلمون يغطون في نومهم، عاجزين عن الشعور بما حولهم، وسيأتي قريبًا اليوم الذي يصبح فيه تحريم الخمر عامًّا في كل الدول، إن شاء الله، فتتم معجزة الشريعة الإسلامية فيها. ***

1078 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أبُو بكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الوَليدِ بْنِ عُقْبَةَ: "جَلَد النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَرْبَعِينَ، وَجلَدَ أَبُو بكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ -عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ". وفِي الحَدِيثِ: "أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شرِبَهَا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بِجَرِيدَتَيْنِ: الجريدة: سعفة النخل، سميت بذلك؛ لأنَّها مجرَّدة من الخوص: والخوص ورق النخل. - قصة الوليد: هو الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، شرب الخمر في زمن عثمان، فشهد عليه رجل أنَّه شربها، وشهد الآخران أنَّه يتقيؤها، فأقيم عليه الحد. - يتقيَّأها: التقيؤ: لفظ ما في المعدة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ثبوت الحد في الخمر هو مذهب عامة العلماء. ¬

_ (¬1) البخاري (6773)، مسلم (1706). (¬2) مسلم (1707)

2 - أنَّ حده على عهد النبي نحو أربعين جلدة، وتبعه أبو بكر على هذا. 3 - أنَّ عمر -بعد استشارة الصحابة- جعله ثمانين. 4 - الاجتهاد في المسائل، ومشاورة العلماء عليها، وهذا دأب أهل الحق، وطالبي الصواب. أما الاستبداد: فعمل المعجَبين بأنفسهم، المتكبرين الذين لا يريدون الحقائق. 5 - أنَّ من تقيأ الخمر، فقد ثبت أنَّه شربها، فيقام عليه حد الشرب. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حد الخمر: هل هو ثمانون، أو أربعون، أو أنَّ ما بين الأربعين والثمانين يكون من باب التعزير إن رأى الحاكم الزيادة، وإلاَّ اقتصر على الأربعين؟ ذهب الأئمة: أحمد، وأبو حنيفة، والثوري، ومن تبعهم من العلماء إلى-: أنَّ الحد ثمانون. ودليلهم على ذلك: إجماع الصحابة، لمَّا استشارهم عمر، فقال عبد الرحمن ابن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فجعله. وذهب الشافعي إلى: أنَّ الحد أربعون، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها جملة من الحنابلة: منهم أبو بكر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي، رحمهم الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه في "الاختيارات": "والصحيح في حد الخمر إحدى الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره: أنَّ الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه". وقال في "المغني": "ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وأبي بكر، فتحمل الزيادة من عمر على أنَّها تعزير، يجوز

فعلها إذا رآه الإمام ". ويقصد بهذا، الرد على من قال: إنَّ الثمانين كانت بإجماع من الصحابة. أما مجلس هيئة كبار العلماء، فجاء في قراره رقم (53) في 4/ 4/ 1397 هـ. 1 - إنَّ عقوبة شارب الخمر الحد لا التعزير بالإجماع. 2 - إنَّ الحد ثمانون جلدة، وذلك بالأكثرية. 3 - وقرَّر المجلس استيفاء الحد جملةً واحدةً، وعدم تجزئته. وقد أجمت الأمة على أنَّ الشارب إذا سكر بأي نوع من أنول السكر، فعليه الحدّ، وأجمعت أيضًا على أنَّه من شرب عصير العنب المتخمر، فعليه الحد، ولو لم يسكر شاربه. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى: أنَّ ما أسكر كثيره، فقليله حرام، من أي نوع من أنواع المسكرات؛ ساء كان ذلك من عصير العنب، أو التمر، أو الحِنطة، أو الشَّعير، أو غير ذلك. وهو مروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وعائشة، رضي الله عنهم. وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، والقاسم بن محمَّد، وقتادة، وعمر ابن عبد العزيز، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد، والشافعي، ومالك، وأتباعهم، وذهب إليه أبو ثور، وإسحاق، وهو المفتى به عند متأخري الحنفية. وأما أهل الكوفة: فيرون أنَّ الأشربة المسكرة من غير العنب لا يحد شاربها، ما لم تبلغ حد الإسكار. أما مع الإسكار، فقد تقدَّم أنَّ الإجماع على إقامة الحد. وليس لهؤلاء من الأدلة، إلاَّ أنَّ اسم الخمر حقيقة لا يطلق عندهم إلاَّ على عصير العنب، أما غيره فيلحق به مجازًا، واستدلوا على مذهبهم بأحاديث.

قال العلماء، ومنهم الأثرم، وابن المنذر: إنَّها معلولة ضعيفة. أما أدلة جماهير الأمة، على أنَّ كل مسكر خمر، يحرم قليله وكثيره-: فمن الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، واللغة الفصيحة. فأما الكتاب: فعموم تحريم الخمر، والنَّهي عنها. والخمر: ما خامر العقل، وغطاه من أي نوع. وأما السنة: فقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام" [رواه أبو داود والأثرم]. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "نزل تحريم الخمر، وهي من العِنب، والتمر، والعسل، والحِنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل" [مُتَّفق عليه]. وأما اللغة: فقد قال صاحب "القاموس": الخمر: ما أسكر من عصير العنب، أو هو عام، والعموم أصح؛ لأنَّها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وكان شرابهم: البُسر، والتمر. وقال الخطَّابي: "زعم قوم أنَّ العرب لا تعرف الخمر إلاَّ من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذي سموا غير المتَّخذ من العنب خمرًا عرب فصحاء، ولو لم يكن هذا الاسم صحيحًا، لما أطلقوه". ومن أحسن ما ينقل من كلام العلماء في هذه المسألة، ما قاله القرطبي: "الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها، وكثرتها -تبطل مذهب الكوفيين، القائلين بأنَّ الخمر لا يكون إلاَّ من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر. وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة، وللصحابة؛ لأنَّهم لما نزل تحريم الخمر، فَهِمُوا منه اجتناب كل ما يسكر.

ولم يفرِّقوا بين ما يتَّخذ من العنب، وبين ما يتَّخذ من غيره، بل سووا بينها، وحرَّموا كل ما يسكر نوعه. ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم من ذلك شيء، بل بادروا إلى إتلاف كل مسكر، حتى ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن. فلو كان عندهم تردد، لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا، ويتحققوا التحريم". ثم ساق القرطبي الأثر المتقدم عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وهذا كلام جيد، يقطع شبهة المخالف، والله الموفق. ***

1079 - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الخَمْرِ: "إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لفْظُهُ، وَالأرْبَعَةُ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَخْرَجَ ذلِكَ أَبُو دَاوُدَ صَرِيحًا عَنِ الزُّهْرِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. حديث معاوية أخرجه الشافعي، والدارمي، وابن المنذر، وابن حبان. وأخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود من حديث ابن عمر. وأخرجه النسائي من حديث جابر، وأخرجه أيضًا الشافعي من حديث قبيصة بن ذؤيب، وعلقه الترمذي، وأخرجه الخطيب عن ابن إسحاق عن الزُّهري عن قبيصة قال سفيان بن عيينة: حدَّث الزهري بهذا، قال البخاري: هذا أصح ما في هذا الباب. أما المصنف فيقول: ذكر الترمذي ما يدل على أنَّه منسوخ، وأخرج ذلك أبو داود صريحًا عن الزهري. والحديث صحَّحه ابن حزم في "المحلى"، وابن عبد الهادي في "المحرر"، وقال: رجاله ثقات. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 96)، النسائي في الكبرى (5661)، وأبو داود (4482)، الترمذي (1444)، ابن ماجه (2573).

* مفردات الحديث: - الخمر: هي المعروفة، تذكّر وتؤنَّث، فيقال: هو الخمر، وهي الخمر، وأما إلحاق التاء بها، فعلى أنَّها قطعة من الخمر، وتجمع على: خمور، مثل فلْس وفلُوس، وهي اسم لكل مسكر خامر العقل؛ أي: غطاه، فأصلها من: المخامرة، وهي المخالطة، سميت بها؛ لمخالطتها العقل، وتغطيتها إياه، وأصل مادة "خمر" تدور على التغطية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ شارب الخمر يقام عليه الحد ثلاث مرات، فإذا شربها الرابعة، ولم يردعه الجلد المكرر عليه مرات، فإنَّه يقتل في المرة الرابعة. 2 - هذا هو مذهب الظاهرية، ونصر ابن حزم هذا القول، ودافع عنه، واحتجَّ له. 3 - أما الخطابي فقال: قد يراد الأمر بالوعيد، ولا يراد به الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير. 4 - أما جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- فيرون أنَّ القتل في الرابعة منسوخ، وحكي الإجماع على ذلك. قال الترمذي: إنَّه لا يعلم في "عدم القتل" اختلافًا بين أهل العلم في القديم والحديث. وقال الشَّافعي: والقتل منسوخ بحديث قبيصة بن ذؤيب؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة، أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة" [رواه أبو داود، والترمذي]. ونقل المنذري عن بعض أهل العلم: أجمع المسلمون على وجوب الحد

في الخمر، وأجمعوا على أنَّه لا يقتل إذا تكرر منه إلاَّ طائفة شاذة، قالت: يقتل بعد حده أربع مرات؛ للحديث، وهو عند الكافة منسوخ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد روي من وجوه عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه". فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، وأكثر أهل العلم لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخًا، وهو المشهور من مذهب الأئمة. قال أبو عيسى الترمذي: إنَّما كان الأمر، بالقتل أول الأمر، ثم نسخ. وقد ثبت في الصحيح؛ أنَّ رجلاً كان يُدعى حمارًا، وهو كان يشرب الخمر، فكان كلَّما شرب، جلَده النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلعنه رجل فقال: لا تلعنه، فإنَّه يحب الله ورسوله. وهذا يقتضي أنَّه جلد مع كثرة شربه. قال صديق في "الروضة": قد وردت أحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات، وفي الرابعة في بعض، وفي الخامسة في بعض، وورد ما يدل على النسخ من فعله -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّه رفع القتل عن الشارب، وأجمع على ذلك جميع أهل العلم، وخالف فيه بعض أهل الظاهر. ***

1080 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكمْ، فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). 1081 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن لغيره. رواه الترمذي، والحاكم، وابن ماجه، وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم المكي، ضعيف من قِبل حفظه. وأخرجه أبو داود، والحاكم، وابن السكن، والدارقطني، والبيهقي من حديث حكيم بن حزام، ولا بأس بإسناده. وله طرق أخر، والكل متعاضد، وقد عمل الخلفاء الراشدون بذلك. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - إقامة الحدود لا يقصد بها إهانة المسلم، ولا يقصد إتلافه وقتله، وإنما يراد بها تطهيره من الذنب الذي وقع منه، كما يقصد بها ردعه عن أن يعود إليه، ولينزجر من تسوَّل له نفسه أن يعمل عمله. هذه بعض الحِكَم الربانية من إقامة الحد على المذنب المسلم. 2 - قال شيخ الإسلام: الحدود صادرة عن رحمة الخالق بالخلق، وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك ¬

_ (¬1) البخاري (559)، مسلم (2612). (¬2) الترمذي (1401)، الحاكم (4/ 369).

الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض. 3 - لذا جاء في الحديث أنَّ على ضارب الحد، أو التعزير أن يتَّقي الوجه؛ لما لوجه بني آدم من الكرامة، ولأنَّه حسَّاس يسيئه، ويؤلمه يسير التأديب. 4 - أما الحديث رقم (1081): فيدل على النَّهي عن إقامة الحدود في المساجد. 5 - ذلك أنَّ المساجد تصان عن اللَّغَط المزعج، ورفع الأصوات، والتلويث بالنجاسات، وإقامة الحدود فيها يسبب وقوع ذلك كله، أو بعضه. 6 - النَّهي يقتضي التحريم، ولكن لو أقيم الحد في المسجد لأجزأ، فلا يعاد؛ لأنَّ النَّهي لا يعود إلى الحد نفسه، وإنما إلى مكانه، وهو لا يضر في نفوذه. ***

1082 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَحْرِيمَ الخَمْرِ، وَمَا بالمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلاَّ مِنْ تَمْرٍ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). 1083 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ منْ خَمْسَةٍ: مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - العِنَب: ثمر الكرم، وهو طريٌّ، جمعه: أعناب. - التمر: هو الجاف من ثمر النخل، جمعه: تمور وتمران، إذا أريدت الأنواع. - العَسل: هو الصافي مما تخرجه النحل من بطونها، يذكر ويؤنث. ويطلق على عصير الرطب، وقصب السكر، جمعه: أعسال وعسلان وعسول. - الحِنطة: -بكسر الحاء وسكون الميم- هي القمح جمعه: حنط. - الشعير: نبات عشبي حبي، من الفصيلة النجيلية، وهو دون البر في الغذاء. - الخمر ما خامر العقل: الخمر ما أسكر من عصير العنب، وسميت: خمرًا؛ لأنَّها تخمر العقل؛ أي: تغطيه. - كل مسكر خمر: "كل" إذا أضيفت إلى النكرة، فإنَّها تقتضي عموم الأفراد، فمعناها هنا: أنَّ كل واحد من أفراد المسكر فهو خمر محرَّم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1982). (¬2) البخاري (5581)، مسلم (2032).

1084 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). 1085 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (1085): الحديث حسن. قال الألباني: أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد من طرق عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن ابن المنكدر، قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث جابر، قلتُ: وإسناده حسن، فإنَّ رجاله ثقات، فهم رجال الشيخين غير داود، وهو صدوق ثقة، وله طرق وشواهد كثيرة. ... ¬

_ (¬1) مسلم (3003). (¬2) أحمد (3/ 343)، أبو داود (3681)، الترمذي (1865)، ابن ماجه (3393)، ابن حبان (5358)، ولم يروه النسائي.

1086 - وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالثَةِ شَرِبَهُ، وسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ أَهَرَاقَهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ينبذ: نبذ التمر، أو العِنب ونحوها: اتَّخذ منه النبيذ، وهو الماء يلقى فيه تمر، أو زبيب، أو نحوهما؛ ليحلو به الماء، وتذهب ملوحته، وهو مباح ما لم يغل، أو تأتي عليه ثلاثة أيَّام. - الزبيب: هو ما جفِّف من العنب، واحده: زبيبة. - السِّقَاء: بكسر السين المهملة، فقاف، ثم ألف ممدودة: -وهو وِعاء من جلد يكون للماء وللبن. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - أنَّ هذه الأحاديث الخمسة تفيد أنَّ القرآن حينما نزل بتحريم الخمر، أنَّها كانت تتَّخذ من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، وأنَّ الخمر في لغة العرب التي نزل بها القرآن هي ما خامر العقل، وغطاه. وقد جاء تحريم الخمر في آيتي المائدة، قال تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة]. وفي هذه الآية سبعة أدلة على تحريم الخمر: أحدها: قو له تعالى: {رِجْسٌ}. ¬

_ (¬1) مسلم (2004).

والثاني: قوله تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}. والثالث: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ}. والرابع: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}. والخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:91]. والسادس: قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. والسابع: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}. وهذا من أبلغ الزجر، فكأنَّه قال بعدما تلا عليكم من أنوع الصوارف والموانع: فهل أنتم معها منتهون، أم باقون على ما أنتم عليه، كأن لم توعظوا؟!. 2 - لذا ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنَّ ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أي نوع من أنوع المسكرات؛ سواء كان من العنب، أو التمر، أو العسل، أو الحنطة، أو الشعير، أو غير ذلك، فهو كله خمر حرام، يحرم كثيره وقليله، ولو لم يسكر القليل منه. 3 - أما مذهب أهل الكوفة: فيرون أنَّ الأشربة المسكرة من غير عصير العنب لا تحرم، ولا يحد شاربها، ما لم تبلغ حد السكر. أما مع الإسكار: فقد أجمع العلماء على إقامة الحد. قال القرطبي: وهذه الأحاديث تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأنَّ الخمر لا يكون إلاَّ من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة، وعمل الصحابة، رضي الله عنهم. وتقدَّم الخلاف في ذلك. 4 - أما النبيذ: وهو الماء يلقى فيه تمر أو زبيبٌ، أو نحوهما؛ ليحلو به الماء،

وتذهب ملوحته، فهو مباح، ما لم يتخلل، أو تأتي عليه ثلاثة أيام بلياليهن، فيسقى الداجن ونحوها، أو يراق؛ لينبذ في وعائه غيره، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ينبذ له الزبيب، فيشربه إلى اليوم الثالث، فإن فضل شيء أراقه. 5 - قال الشيخ تقي الدين: الحشيشة نجسة، وضررها أعظم من ضرر الخمر، وإن لم يتكلَّم عنها المتقدمون؛ لأنَّها إنَّما حرمت في أواخر المائة السادسة. 6 - قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: وصلنا خطابكم باستفتائكم عن شجر القات، وبعد مراجعة النصوص في ذلك، أفتينا بتحريمها، ومنع زراعتها، وتوريدها، واستعمالها، وغير ذلك. 7 - قالت هيئة كبار العلماء: القات محرَّم، لا يجوز لمسلم أن يتعاطاه، أكلاً، وبيعًا، وشراء، وغير ذلك من أنواع التصرفات. 8 - وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: ليعلم كل أحد تحريمنا للتنباك، نحن ومشايخنا، وكافة أئمة الدعوة النجدية، وسائر المحققين سواهم من علماء الأمصار، من حين وجوده بعد الألف بعشرة أعوام، أو نحوها حتى عامنا هذا، وهذا استنادًا على الأصول الشرعية، والقواعد المرعية. ***

1087 - وعَنْ أَمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ". أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. وقد ورد عن عدَّة من الصحابة: 1 - أم سلمة: أخرجه ابن حبَّان، والبيهقي. 2 - ابن مسعود، أخرجه البخاري تعليقًا. 3 - وائل بن حُجر: رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وصحَّحه ابن عبد البر. ... ¬

_ (¬1) البيهقي (10/ 5)، ابن حبان (1391).

1088 - وَعَنْ وَائِلٍ الحَضْرَمِيِّ، أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَال: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - للدواء: ما يتداوى به، ويعالج، جمعه: أدوية. - داء: -بفتح الدال، ممدود- هو المرض، ظاهرًا كان أو باطنًا. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. القاعدة الشرعية المستمدة من هذه الآية الكريمة، وأمثالها من نصوص الكتاب والسنة-: أنَّ الشارع الحكيم لا ينهى إلاَّ عمَّا مفسدته خالصة، أو راجحة. 2 - الخمر أساسها مادة "الكحول" بكميات مختلفة، وهذه المادة توجد بنسبة خفيفة في جسم الإنسان؛ لتساعد في عملية هضم المواد السكرية، ولها فوائد طبية. هذه الفوائد الطبية موجودة بنسبة كافية في البدن، وتلك النشوة المؤقتة التي يجدها الشارب، أو ذلك المكسب المادي من وراء التجارة بها، هذه هي المنافع القليلة التي فيها، ويوجد فيما أحلَّ الله أكثر منها، وأفضل، مع أنَّ هذه المنافع يقابلها من المضار والمفاسد ما لا يعلمه إلاَّ الذي حرمها، ¬

_ (¬1) مسلم (1984)، أبو داود (3873).

تبارك وتعالى. 3 - قال الأستاذ طبارة: إنَّ تأثير الخمر يبدأ بمجرَّد وصول عشرة جرامات من الكحول إلى الدم، وهذا القدر يوجد في كأس واحد من "الوِيسْكي"، أو "الكُونيَاك"، وقد لا يصل إلى درجة السكر. 4 - الجرعة الواحدة من الخمر تحدث شيئًا من الارتفاع في ضغط الدم، يتضاعف إذا كان الشخص مرتفع الضغط من نفسه. 5 - إذا كانت كمية الخمر وافرة، كانت كافية لأن تحدث هيجانًا يزيد في الضغط، لدرجة ينفجر معها شريان في المخ، يسبب شللاً. 6 - الخمر لها تأثير في الوراثة، فقد شوهد أنَّ أولاد السكيرين ينشئوا غير صحيحي الجسم، ضعفاء البنية، ناقصي العقول، ويكون لديهم ميل إلى الإجرام، ودافع إلى الشر. 7 - وقد أشار بعض الكُتَّاب الغربيين في مكافحة الخمر "بتنام" في كتابه "أصول الشرائع" يقول ما نصه: "النبيذ في الأقاليم الشمالية يسبب البله، وفي الأقاليم الجنوبية الجنون". وقد حرمت ديانةً جميع المشروبات، وهذه من محاسنها. وقال أيضًا: وقد أثبت العلم الحديث أنَّ الخمر لا فائدة منها في التداوي، وأنَّ فكرة التداوي بالخمرة كانت خاطئة، وهذا ما سبق إليه الإسلام، ويدل على الإعجاز العلمي في الأحاديث الشريفة. 8 - فالحديثان دليلان على أنَّه يحرم التداوي بشرب الخمر، وقد ظهرت -ولله الحمد- حكمة التشريع في تحريمها، وأنَّها داء، وليست بدواء. ***

باب التعزير

باب التعزير مقدمة التعزير: مصدر من: العَزْر، وهو لغة: اللوم، وعزَّره تعزيرًا: لامه وردَّه، ومنه سمِّي التأديب الذي دون الحد: تعزيرًا؛ لأنَّه يمنع ويرد الجاني من معاودة الذنب. وتعريفه شرعًا: عقوبة غير مقدرة تجب حقًّا لله، أو لآدمي في كل معصية لا حد فيها، ولا كفارة. والمعاصي التي لم يقدر لها حدود هي الكثرة الغالبة في الشريعة، فإنَّ العقوبات المحددة هي: الردة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، وقطع الطريق. قال الشيخ عبد القادر عودة: التعازير مجموعة من العقوبات غير مقدرة، تبدأ بأتفه العقوبات، كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات، كالحبس والجلد، وقد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة، وبحال المجرم، ونفسيته، وسوابقه؛ لأنَّ ظروف الجرم، والمجرمين تختلف اختلافًا بينًا، فما يردع شخصًا عن جريمة، قد لا يردع غيره، ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة، هي مجموعة كاملة من العقوبات، تتسلل من أخف العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني، واستصلاحه، وحماية الجماعة من الإجرام.

قال أبو ثور: التعزير على قدر الجناية. وقال مالك: التعزير على قدر الجرم. وقال أبو يوسف: التعزير على قدر عظم الذنب، وعلى قدر ما يراه الحاكم من احتمال المضروب. وقال الشيخ تقي الدين: وقد يكون التعزير بالقتل، وقد يكون بالمال، إتلافًا وأخذًا. ***

1089 - عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يُجلد: جلده: أصاب جلده، والجِلْد: غشاء الجسم، يقال: جلده بالسَّوط، أو السيف، أو نحوهما؛ أي: ضربه. - أسواط: جمع "سوط"؛ وهو ما يضرب به من جلد؛ سواء كان مضفورًا، أو لم يكن. - إلاَّ في حد: الحد لغة: المنع، وجمعه: "حدود"، ويراد بحدود الله محارمه، كما يسمى بها ما حده، وقدَّره من الأحكام، كما يراد بها أيضًا: العقوبات المقدرات، وهنا يجوز أن يراد بها: محارم الله؛ لكونها زواجر من الله تعالى ونواهٍ منه تعالى، ويجوز أن يراد بها: ما حده وقدره؛ لأنَّ الحدود مقدرة محددة، بلا زيادة فيها، ولا نقصان منها، ويجوز أن يراد بها العقوبات المقدرة من أجل تقديرها، من أجل أنَّها تمنع من الوقوع في مثل ذلك الذنب. * ما يؤخذ من هذا الحديث: 1 - النساء، والصبيان، والخدم، ونحوهم، يجب على القائم على شؤونهم تهذيبهم، وتقويم أخلاقهم، ويكون بالتوجيه، والتعليم، والإرشاد، والقدوة الحسنة من راعيهم، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته. 2 - إذا لم يفد التوجيه والتعليم، ثم التهديد والتخويف -فلا بأس من ضربهم، ¬

_ (¬1) البخاري (6848)، مسلم (1708).

ضربًا غير مبرح، ولا مؤلم، تتقى فيه المواطن الحسَّاسة، والأعضاء الشريفة، كالوجه، ولا يزاد عن عشرة أسواط؛ فإنَّهم هم المقصودون بهذا الحديث، في أصح أقوال العلماء في معنى هذا الحديث. 3 - ظاهر الحديث تحريم الزيادة على عشرة أسواط؛ لأنَّ الحديث جاء بصيغة النَّهي، والأصل فيه التحريم. 4 - حدود الله تعالى تطلق ويراد بها: كالعقوبات المقدرة، كالزنا والقذف، ويراد بها عقوبات غير مقدرة، كالعقوبة على الإفطار في نهار رمضان، ومنع الزكاة، وغير ذلك من فعل المحرَّمات، أو ترك الواجبات. 5 - والمراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجلد أحد فوق عشر جلدات، إلاَّ في حد من حدود الله" المراد به: المعصية، وأنَّ الذي لا يزاد على ذلك تأديب الصغير، والزوجة، والخادم، ونحوهم في غير معصية. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في المراد من معنى قوله: "إلاَّ في حد من حدود الله"-: فبعضهم ذهب إلا أنَّ المراد "بالحدود" هي التي قدرت عقوبتها شرعًا، كحد الزنا، والقذف، والسرقة، والقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف، والجروح. فعلى هذا يكون ما عداها من المعاصي، هو الذي عقوبةُ مرتكبه التعزير، وهو من عشرة أسواط، فما دون، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، على أنَّ الأصحاب يريدون بالتعزير المقدر لمن كان قد فعل المعصية. أما المقيم عليها، فيعزر حتى يقلع عنها، ولذا قال شيخ الإسلام: "والذين قدروا التعزير من أصحابنا، إنَّما هو فيما إذا كان تعزيرًا على ما مضىى من فعل، أو ترك. فإن كان تعزيرًا لأجل ما هو فاعل له، فهو بمنزلة قتل المرتد، والحربي،

وقتال الباغي، وهذا تعزير لا يقدر، بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال، يجوز أن يمنع ولو بالقتل وله بقية. وعنه: أنَّ كل معصية لها مثل المقدر، لا يبلغ بها حد المقدر، كأن يزني بجارية له فيها شرك، فيجلد مائة سوط، إلاَّ واحدًا. ومذهب أبي حنيفة، والشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير الحدود المقدرة. وذهب بعض العلماء إلى: أنَّ معنى قوله: "إلاَّ في حد من حدود الله": أنَّ المراد بحدود الله: أوامره ونواهيه، وأنَّه ما دام التعزير لأجل ارتكاب معصية: بترك واجبٍ، أو فعل محرَّم، فيبلغ به الحدّ الذي يراه الإمام رادعًا، وزاجرًا من ارتكابه، والعودة إليه. وذلك يختلف باختلاف المكان والزمان، وباختلاف الأشخاص، وباختلاف المعصية، فبالأزمنة والأمكنة، حكم بالتخفيف، أو التشديد في عقوبة العصاة، وكنالك الأشخاص، لكل منهم أدبه اللائق، والكافي لردعه، فبعضهم يكفيه التوبيخ، وبعضهم الضرب والجلد، وبعضهم الحبس، وبعضهم أخذ المال. والذين يندر أن تقع منهم المعاصي، وهم ذوو الهيئات، فينبغي التجاوز عنهم، وبعضهم مجاهرون معاندون، فينبغي النكاية بهم. والمعاصي تختلف في عظمها وخفتها، فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال والظروف، والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، ولتكون تعزيراته وتأديباته واقعة موقعها، وافية بمقصودها، وهو راجع إلى رأي الحاكم، فقد يكون بأخذ المال، وقد يكون بالقتل. وكل هذه العقوبات، لها أصل في الشرع، وإليك كلام العلماء في هذا الباب: قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان، أو أتى شيئًا نحو هذا: "أقيم عليه الحد، وأغلظ عليه، مثل الذي يقتل في

الحرم دية، وثلث دية". وقال أيضًا: "إذا أتت المرأة المرأة، تعاقبان وتؤدبان". وقال أيضًا فيمن طعن على الصحابة: "إنَّه قد وجب على السلطان عقوبته، فإن تاب، وإلاَّ أعاد العقوبة". وقد أطال الناقل عن شيخ الإسلام في "الاختيارات" في هذا الباب فنجتزىء من ذلك بفقرات، تبين رأيه، وتنير الطريق في هذه المسألة. قال -رحمه الله-: "وقد يكون التعزير في النيل من عِرضه، مثل أن يقال: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس". وقال: "والتعزير بالمال سائغ، إتلافًا وأخذًا، وهو جارٍ على أصل أحمد، لأنَّه لم يختلف أصحابه أنَّ العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها". وقول الشيخ أبي محمَّد المقدسي: "ابن قدامة": ولا يجوز أخذ مال المعزر إشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة. وقال: "ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنَّه كتم الخبر الواجب، كما يملك تعزير المقر إقرارًا مجهولاً حتى يفسره، أو من كتم الإقرار". وقد يكون التعزير بتركه المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله، بترك تشميته". وقال: "وأفتيت أميرًا مقدمًا على عسكر كبير في الحربية، لمن نهبوا أموال المسلمين، ولم ينزجروا إلاَّ بالقتل، أن يقتل من يكفون بقتله، ولو أنَّهم عشرة؛ إذ هو من باب دفع الصائل". وقال ابن القيم: "والصواب أنَّ المراد بالحدود هنا: الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه". وهي المرادة بقوله تعالى: {يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة]

وفي أخرى: وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]. وقال: أما الذي لا يزاد على الجلدات العشر، فهي التأديبات التي لا تتعلَّق بمعصية، كتأديب الأب ولده الصغير. وقال أبو يوسف: "التعزير على قدر عظم الذنب وصغره، وعلى قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب، فيما بينه وبين أقل من ثمانين". وقال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "التعزير على قدر الجرم، فإن كان جرمه أعظم من القذف، ضرب مائة أو أكثر". وقال أبو ثور: التعزير على قدر الجناية، وتسرع الفاعل في الشر، وعلى قدر ما يكون أنكى، وأبلغ في الأدب، كان جاوز التعزير الحد، إذا كان الجرم عظيمًا، مثل أن يقتل الرجل عبده، أو يقطع منه شيئًا، أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها، فتكون العقوبة فيه على قدر ذلك، وما يراه الإمام إذا كان عدلاً مأمونًا. وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى وجميع هؤلاء الأئمة-: "والصحيح جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات، بحسب المصلحة والزجر". فهذا أقوال الأئمة، وآراؤهم في التعزير، رحمهم الله تعالى. فائدتان عن شيخ الإسلام: الأولى: كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير، ويفرقه في الفعل، إذا اشتمل على أنواع من المحرَّمات، فكان يعزر في اليوم الأول مائة، وفي اليوم الثاني مائة، وفي اليوم الثالث مائة، يفرق التعزير؛ لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء. الثانية: الذي عنده مماليك وغلمان يجب عليه أن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وإذا كان قادرًا على عقوبتهم، فينبغى له أن يعزرهم على ذلك، إذا لم يؤدوا الواجبات، ويتركوا المحرَّمات.

1090 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- أَن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إِلاَّ الحُدُودَ". رَوَاه أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ. (¬1) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. الحديث له طرق كثيرة، ولكنها لا تخلو من مقال. قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود والنسائي والعقيلي من حديث عائشة. قال العقيلي: له طرق، وليس منها شيء يثبت، وذكره ابن طاهر بسنده إلى أنس، وقال: وهو بهذا الإسناد باطل، ورواه الشافعي، وابن حبان. قال الشافعي: سمعتُ من أهل العلم من يعرف هذا الحديث، ويقول. "يتجافى للرجل ذي الهيئة عن عثرته، ما لم يكن حدًّا". وقال عبد الحق: ذكره ابن عدي في باب واصل الرقاشي، ولم يذكر له علة. قُلتُ: واصل ضعيف. * مفردات الحديث: - أقيلوا: يقال: أقاله عثرته: صفح عنه وتجاوز، والمراد بالإقالة هنا: التجاوز، وعدم المؤاخذة. - ذَوِي الهيئات: جمع "هيئة"، والهيئة: صورة الشيء، وشكله، وحالته، ¬

_ (¬1) أحمد (24946)، أبو داود (4375)، النسائي في الكبرى (4/ 310)، البيهقي (8/ 267).

والمراد: ذوو الهيئات الحسنة ممن ليسوا من أهل الشر، وإنما هي زلة، وقعت منهم. - عثَراتِهم: جمع: "عشرة"، والمراد بها: الزلة، كما وقع في بعض الروايات. قال الإمام الشافعي: ذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم: هم الذين لا يُعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة، قال الماوردي: العثرة: هي أول معصية زلَّ فيها. * ما يؤخد من الحديث: 1 - الخطاب موجَّه إلى الأئمة، وولاة أمور المسلمين، الذي يتولون أمور الرعية، ويقيمون فيهم الحدود، ويؤدبونهم على تصرفاتهم المنحرفة. 2 - فالشارع الحكيم يأمرهم بأن يتسامحوا، ولا يؤاخذوا ذوي الهيئات الكريمة، والنفوس الطيبة، والسلوك الحسن، الذي يندر أن يقع منهم الشر، ويقل فيهم الإساءة، يوصيهم بأنَّ مثل هؤلاء إذا زلوا مرَّة، أو عثروا أن يعفوا عنهم، ويعرفوا لهم سابقتهم، وحسن سيرتهم. 3 - ولكن هذه الإقالة، والمسامحة إنما هي في التعزيرات، التي مرجعها إلى اجتهاد الحاكم الشرعي، وليس ذلك في حدود الله تعالى؛ فإنَّ حدود الله تعالى لا تعطل، وتقام على كل أحد، مهما كانت حاله ومنزلته. ***

1091 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا كنْتُ لأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا، فَيَمُوتَ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلاَّ شَارِبَ الخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لأُقيم: بنصب المضارع على تقدير "أن" الناصبة بعد اللام المكسورة، وهذه اللام تسمى لام الجحود. - فيموت: لأجل إقامة الحد والمضارع منصوب؛ لكونه جوابًا للمضارع المنصوب. - فأجد: منصوب في جواب النفي؛ أي: فأنا آسف وأحزن. - ودَيْته: أي دفعت ديته لورثته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحدود المقدرة، كالزنا والقذف قدرها الشارع الحكيم، وحدَّها، فلا يزاد عليها، ولا ينقص منها، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حدَّ حدودًا؛ فلا تعتدوها". فالحدود مقدرة من لدن حكيم خبير، فهي بقدر طاقة الصحيح من بني آدم، وأما ضعيف البدن: فقد أوصى -صلى الله عليه وسلم- أن يقام عليه الحد، وقال: "خُذُوا عِثْكَالاً فيه مائة شِمراخ، ثم اضربوه واحدة، ففعلوا". 2 - فمن مات من الحد المقدر من الله تعالى بلا زيادة، فإنَّها سراية من عمل ¬

_ (¬1) البخاري (6778).

مشروع مأذون فيه، فلا قصاص، ولا دية، ولا كفارة؛ لأنَّ الحق قتله. قال في "الروض المربع وحاشيته": ومن مات في الحد، فالحقُّ قتله، ولا شيء على من حده؛ لأنَّه أتى به على الوجه المشروع بأمر من الله تعالى، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الموفق: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في سائر الحدود، إذا أُتِي بها على الوجه المشروع من غير زيادة، لا يضمن من مات بها. 3 - أما من مات من سراية التعزير، فإنَّ باب التعزير باب واسع أمام اجتهاد الحاكم الشرعي، وقد يراعى الكمّ، أو الكيف، فيحصل التلف، فيكون من خطأ الإمام الذي يضمنه بيت المال. 4 - حديث الباب يمكن تأويله على أحد أمرين: أحدهما: أنَّ عقوبة السكر هي عقوبة تعزيرية، لا حد لها، فيكون مرجع تأديبه إلى اجتهاد الحاكم، فإذا أخطأ وَدَاه. الثاني: أنَّ حد الخمر هو أخف الحدود كمًّا وكيفًا؛ ولذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "أُتِي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب، فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه". قال في "حاشية الروض المربع": "ما خفَّ في عدده، كان أخف في صفته"، فيكون معنى الحديث: أنَّ أخف الحدود كمًّا وكيفًا هو حد الشارب الخمر، فلو مات سلمت ديته لأهله؛ لأنَّ عقوبته زادت على ما يجب عليه من حدود الله، والله أعلم. ***

باب حكم الصائل

باب حكم الصائل مقدمة يقال: صال عليه صولاً: سطا عليه؛ ليقهره، ويغلبه على أمره، والصيالة تكون على: النفس، والعِرض، والأهل، والمال. فمن صال عليه آدمي، أو بهيمة، أو على نسائه، أو ولده، أو ماله -دفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، فإن لم يندفع إلاَّ بالقتل، أو خاف إن لم يبدأه عاجله الصائل بالقتل- فله ضربه بما يقتله، أو يقطع طرفه، ويكون ذلك هدرًا؛ لأنَّه أتلفه لدفع شره؛ كالباغي، وإن قُتل المصول عليه، فهو شهيد مضمون. ***

1092 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي، فقال: هذا حديث حسن صحيح. قال في "التلخيص": حديث: "من قتل دون ماله، فهو شهيد" من حديث عمرو بن العاص رواه البخاري، وفي الباب عن سعيد بن زيد في "السنن"، وابن حبان، والحاكم. قال السيوطي: إنَّه حديث حسن، وقال: إنَّه من الأحاديث المتواترة ووافقه الكتاني، وغيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية الدفاع عن المال؛ لأنَّ المقتول دفاعًا عن ماله لم ينل مرتبة الشهادة، إلاَّ لأنَّ قتاله دون ماله قتال مشروع. 2 - أما الشهادة التي نالها فهي مرتبة الشهداء، الذين قتلوا ظلمًا دون حقوقهم، وهي من جنس الشهادة التي قتل صاحبها وهو يقاتل؛ لتكون كلمة الله هي العليا. 3 - العلماء لم يعطوا هذه الشهادة، وأمثالها الأحكام الظاهرة التي لشهيد المعركة؛ من حيث عدم تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه؛ حيث ¬

_ (¬1) أبو داود (4772)، الترمذي (1421)، النسائي (7/ 116)، ابن ماجه (2580).

صرع بدمائه وثيابه، وإنما هذا الشهيد، وأمثاله يُعْمل بهم مثل ما يعمل في غيرهم من موتى المسلمين. 4 - وإذا كان الدفاع عن المال مشروعًا، وإذا قتل المدافع فهو شهيد، فإنَّ الدفاع عن النفس، وذوات المحارم، والوطن أولى؛ لأنَّها أهم من المال. 5 - قال في "الروض المربع وحاشيته": ومن صال على نفسٍ، أو حرمته، كأمه, وبنته، وأخته، وزوجته، أو ماله، فللمصول عليه الدفاع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، فإذا اندفع بالأسهل، حرم الأصعب؛ إذ المقصود دفعه، فإذا اندفع بالقليل، فلا حاجة إلى أكثر منه، إلاَّ أن يخاف أن يبتدره، فله الدفع بالأصعب، وصوَّبه في "الإنصاف". ***

1093 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللهِ المَقْتُول، وَلاَ تَكُنِ القَاتِلَ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، (¬1) وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وقد روي عن عدة من الصحابة، أخرجه: 1 - أحمد (21993) والطبراني (4/ 189)، من حديث خالد بن عرفطة، إلاَّ أنَّ فيه علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال. 2 - أحمد (1612)، والترمذي (2194)، من حديث سعد بن أبي وقاص. 3 - أحمد (5720) من حديث ابن عمر. 4 - أحمد (19231) وأبو داود (4259)، وابن حبان (13/ 297) من حديث أبي موسى، وصحَّحه القشيري على شرط الشيخين. فالحديث بممجموع هذه الطرق قوي في بابه. * مفردات الحديث: - عبد الله بن خبَّاب: -بفتح الخاء، ثم باء مشددة، ثم ألف، ثم آخره باء-: ابن الأرَت بن جندل، ينتهي نسبه إلى زيد مناة بن تميم، وخبَّاب حليف بني زهرة، من السابقين الأوَّلين إلى الإسلام، وممن عُذِّب في الله تعالى، ومن المهاجرين الأوَّلين، شهد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولعبد الله ¬

_ (¬1) أحمد (205599)، الدارقطني (3/ 132). (¬2) أحمد (21993).

صحبة، فهو ثاني مولود ولد في الإسلام، بعد عبد الله بن الزبير. - فِتَن: جمع: "فتنة"، وهي تطلق على أشياء كثيرة: من فتنة الإعجاب، والاستهواء، وفتنة المال، وفتنة الشيطان، والابتلاء، والعذاب، وفتنة الحروب، والقتال، ولعلَّها المراد هنا. * ما يؤخذ من الحديث: هذا الحديث يتعلَّق به مسائل نجملها فيما يأتي: 1 - أن تكون كلمة المسلمين مجتمعة على إمام واحد؛ سواء كان عدلاً أو جائرًا، ثم إن خرج عليه خارجة لهم منعة، يريدون شق عصا الطاعة، والخروج على الوالي -فهؤلاء يجب على ولي الأمر أن يراسلهم، فإذا راسلهم، وامتنعوا عن الطاعة، وأخافوا المسلمين، فيجب عليه قتالهم؛ ليكف شرهم، ويجب على الرعية القيام معه، وقتال هؤلاء الخارجين حتى يفيئوا ويعودوا إلى أمر الله، والطاعة. فقد روى مسلم أيضًا (1852) عن عرفجة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم -فاقتلوه". وروى مسلم (1844) عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر". هذا هو واجب الرعية مع الإمام القائم، حينما ينازعه الأمر منازع، يريد أن ينقض بيعته، أو يشاقه. 2 - أما واجب ولاة المسلمين فهو العدل، والاستقامة، والنصح للرعية، وغير ذلك مما هو من أعمال الولاية العامة، فقد جاء في البخاري (2409)، مسلم (1829)، من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّكم راعٍ،

وكلكم مسؤول، فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته". وجاء في مسلم (142) من حديث معقل بن يسار قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يُحِطها بنصحه، إلاَّ لم يجد رائحة الجنة"؛ فمسؤولية ولاة الأمر كبيرة جدًّا، وأمرهم خطير. 3 - إلاَّ أنَّ ظلم الولاة، وعدم إنصافهم، ووجود التقصير منهم، والأثرة على الرعية، لا يسوغ الخروج عليهم، ولا شقَّ عصا طاعتهم، ولا يبرز معاداتهم ومشاقتهم، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أنس أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن اسْتُعْمِل عليكم عبد حبشي، كأنَّ رأسه زبيبة". وجاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله". وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّكم سترون بعدي أثرة، وأمورًا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم". فهذا هو موقف الرعية من الوالي، السمع والطاعة؛ لأنَّ الخروج على الولاة -ولو كانوا ظالمين- يحصل به من الشر، والفتن ما هو أعظم منه. 4 - ألا يكون للأمة إمام يقودها، وإنما أمرها منفلت، وكلمتها مفرقة، أو يكون في كل قطر والٍ، فتحدث بينهم فتن، وتقوم بينهم حروب، فهذه هي الفتنة التي أشار إليها حديث الباب، والتي يجب الكف عنها، والقعود عنها، وعدم الدخول فيها، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قُتل تحت راية عِمِّيَّة، يدعو لعصبيةٍ، أو ينصر لعصبية -فقِتلة جاهلية". والعميَّة: فعيلة من: "العماء"، وهو الضلالة، نسأل الله العافية. انتهى كتاب الحدود

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد مقدمة الجهاد: بكسر الجيم، أصله لغة: المشقة، يقال: جاهدت جهادًا؛ أي: بلغت المشقة، فهو مصدر: جاهدت العدو، إذا قابلته في تحمّل الجهاد، إذا بذل كل منهما جهده، وطاقته في دفع صاحبه، ثم غلب في الإسلام على قتال الكفار. وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفَّار، والبغاة، وقطَّاع الطرق. ومشروعيته: بالكتاب، والسنة، والإجماع. وقد تكاثرت النصوص في الأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه، وسيأتي شيء منها إن شاء الله تعالى. وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين، وإلاَّ أثموا جميعًا، مع العلم والقدرة، إلاَّ في ثلاثة مواضع: فيكون فرض عين: الأول: إذا تقابل الفريقان، تعيَّن وحرم الانصراف؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16]. الثاني: إذا نزل العدو بالبلد وحاصرها، تعيَّنت مقاومته. الثالث: إذا استنفر الإمام الناس استنفارًا عامًّا، أو خصَّ واحدًا بعينه؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا استنفرتم، فانفروا".

* شبهة وردها: ذهب بعض الغربيين المنصرين إلى أنَّ الإسلام قام على العنف والعسف، وانتشر بالسيف، واعتمد على القسر والإكراه في الدخول فيه. والجواب أن نقول: هذا زعم خاطىء، وهو ناشىء إما عن جهل بالدين الإسلامي، وفتوحاته، وغزواته، ونصوصه. وإما ناشىء عن عصبية، وعداء الدين. والحق أنَّ الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإنَّ الإسلام مشتق من السلام. ومن تتبع نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمراء جيوشه، ومنها سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الغزوات، علِم أنَّ الإسلام جاء بالحكمة، والرحمة، والسلام، والوئام، وأنَّه جاء بالإصلاح، لا بالفساد. اقرأ قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. واقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} [يونس]. واقرأ قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة] , وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] , والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة. وأما السنة: فكل أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- فى الحروب ووصاياه لقواده ناطقةٌ بذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة -رضي الله عنه-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أمَّر أميرًا على سرية، أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر

بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا". "ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان" [متَّفق عليه]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع". وقال: "ولا تقتلوا شيخًا فانيًا". وأوصى أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان، حين بعثه أميرًا على ربع من أرباع الشام، بقوله: "إني موصيك بعشر خلال: 1 - لا تقتل المرأة. 2 - ولا صبيًّا. 3 - ولا كبيرًا هَرِمًا. 4 - ولا تقطع شجرًا مثمرًا. 5 - ولا تخرب عامرًا. 6 - ولا تعقرن شاة. 7 - ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة. 8 - ولا تقطعن نحْلاً، ولا تحرقه. 9 - ولا تغلل. 10 - ولا تجبن"، رواه مالك في "الموطأ". وقال الأنباري عند قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]: معنى الآية: ليس الدين ما يدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، فتنطوي عليه الضمائر، إنَّما الدين هو المعتقد في القلب. ومن تأمَّل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-: تبيَّن له أنَّه لم يُكرِه على دينه قط، أو أنَّه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته، لم ينقض عهده. بل أمره الله تعالى أن يفى لهم بِعهدهم ما استقاموا له؛ كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] ولما قدم المدينة، صالح اليهود، وأقرَّهم على دينهم. فلما حاربوه، ونقضوا عهده، غزاهم في ديارهم، وكان كفَّار قريش هم الذين يغزونه، كما قصدوه يوم أُحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضًا هم جاؤوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه، لم يقاتلهم.

والمقصود أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يُكره أحدًا على الدخول في دينه ألبتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا، وطوعًا. فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته، لما تبيَّن لهم الهدى، وأنَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقًا. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]: أي: لا تُكْرهُوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنَّه بيِّن واضح، جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه. بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بيِّنة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنَّه لا يفيده الدخول في الدين مكرَهًا مقسورًا. وكلام العلماء المحققين في هذا الباب كثير، وهو الذي يفهم من روح الإسلام، ومبادئه، ومقاصده. ولكن أعداء الإسلام يأبون إلاَّ أن يصفوه بما يشوِّهه، ويشينه؛ للتضليل والتنفير. وغزواته -صلى الله عليه وسلم- التي فتحت القلوب والعقول، ومعاملاته، ومعاهداته، ودعوته بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن -تدحض تلك المزاعم، فإنَّ ربَّك أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. وقد بيَّن ذلك ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"؛ حيث قال: فصل في ترتيب سياق هدْيه مع الكفار والمنافقين من حين بُعِث إلى حين لقي ربه عزَّ وجل أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك

أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ. ثم نزل عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر]، فنبأه بقوله: {اقْرَأْ}، وأرسله بـ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال، ويُؤمر بالكفِّ، والصبر، والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأُذن له أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله، ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. اهـ. قلتُ: ويعلم من المرحلة الأخيرة في القتال وجوب قتال الكفار، ومهاجمتهم بعد دعوتهم، والإعذار إليهم، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وأنَّ قتال الكفار في الإسلام ليس مدافعة فقط، بل هو حركة جهادية حتى يكون الدين كله لله، نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، إنه قوي عزيز. قال العلماء: ويطلق الجهاد على: مجاهدة النفس، والشيطان، والفُسَّاق. فأما مجاهدة النفس: فتكون على تعلم أمور الدين، ثم العمل بها، ثم تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، ومما يزينه من الشَّهوات. وأما مجاهدة الفسَّاق: فباليد، واللسان، ثم بالقلب. أما فضل الجهاد: فيكفي أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعله ذروة سنام الدين، وذروة السنام هي أشرف، وأعلى شيء في الموصوف. ومن تدبَّر آيات القرآن الكريم في الجهاد علِم مقامه، وفضله، وعلو رتبته في العبادات. وكذلك طفحت السنة النبوية الشريفة بمثل ذلك، ولم يُصب المسلمون ما أصابهم من الذل، والمهانة، والضعف، وتسلط الأعداء، إلاَّ بتركهم الجهاد، وإخلادهم إلى الراحة والدَّعة، والله المستعان.

1094 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 1095 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (1095): إسناده صحيح. قال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود، والنسائي، وإسناده على رسم مسلم. اهـ. وصححه الحاكم، وأقرَّه الذَّهبي، وقال النووي في "الرياض": إسناده صحيح. * مفردات الحديث (1094): - شُعْبَة: بضم الشين المعجمة، قال في "المصباح": الشعبة من الشيء: القطعة منه، فيكون معناه: مات على طائفة، وجزء من النفاق. - نِفَاق: بكسر النون، وأصل النفاق مأخوذ من إحدى أجحار اليربوع، التي يكتمها، ويظهر غيرها، فهو أصل تسمية النفاق، فالمنافق: هو من يخفي الكفر، ويظهر الإيمان، فهو يُظهر خلاف ما يبطن. ¬

_ (¬1) مسلم (1915). (¬2) أحمد (3/ 124)، النسائي (6/ 7)، الحاكم (2/ 81).

1096 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فهو من رواية محمَّد بن فضيل عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين، وأصله في البخاري، كما ذكر المؤلف. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديث رقم (1094): يدل على وجوب الجهاد في سبيل الله إذ إنَّه يجب الابتعاد عن صفات المنافقين، فهي أقبح الصفات. 2 - وجوب العزم على الجهاد عند عدم التمكن منه، وفعله عند إمكان ذلك، فالواجبات المطلقة يجب العزم على فعلها، عند إمكانها. والواجبات المؤقتة يجب العزم على فعلها، عند دخول وقتها. 3 - ويدل على أنَّ من مات، وهو لم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو -مات على خصلة من خصال النفاق؛ ذلك أنَّه أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإنَّ ترك الجهاد شعبة من شعب النفاق. 4 - أما الحديث رقم (1095): فيدل على وجوب جهاد الكفار بالمال، والنفس، واللسان. فأما المال: فبإنفاقه على شراء السلاح، وتجهيز الغزاة، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2801)، البخاري (1520).

وأما النفس: فبمباشرة القتال للقادر عليه، والمؤهل له. وأما اللسان: فبالدعوة إلى دين الله تعالى ونشره، والذود عن الإسلام، ومجادلة الملاحدة، والرد عليهم، وبث الدَّعوة بكل وسيلة من وسائل الإعلام، لإقامة الحجة على المعاندين. 5 - بناءً على أنَّ الجهاد يكون باللسان، فإعطاء الزكاة في الدَّعوة إلى الله تعالى من مصرف "في سبيل الله". 6 - كما يدل الحديث رقم (1095) على وجوب الجهاد، والجهاد من فروض الكفايات إذا قام به من يكفى، سقط عن الباقين؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة]. 7 - إنما يكون فرض عين في ثلاثة مواضع: (أ) إذا حضر صف القتال، وقابل المسلمون عدوّهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال]. (ب) إذا استنفره الإمام؛ حيث لا عذر له، قال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]. (ج) إذا حضر بلده عدو احتيج إليه؛ لأنَّ دفع العدو من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. 8 - ويدل حديث رقم (1096) على أنَّ مباشرة الجهاد، وقتال الأعداء ليست مشروعة في حق النساء؛ لما هنَّ عليه غالبًا من ضعف البدن، ورِقة القلب، وعدم تحمل الأخطار، ولا يمنع ذلك قيامهن بعلاج الجرحى، وسقي العطشى، ونحو ذلك من الأعمال.

فقد جاء في الصحيح من حديث أم عطية قالت: غزوت مع رسول -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأُداوي الجرحى، وأقوم على المرضى. 9 - الجهاد واجب: فهو إما فرض كفاية، أو فرض عين في حق الرجال. 10 - تشبيه الحج والعمرة بالجهاد بجامع الأسفار، والبعد عن الأوطان، ومفارقة الأهل، وخطر الأسفار، وتعب البدن، وبذل الأموال. 11 - وجوب الجهاد على القادر عليه؛ حيث شبِّه بالحج والعمرة، الواجبين على المسلم القادر. 12 - الأحاديث الثلاثة اشتركت في بيان فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وقد جاءت النصوص الكثيرة، في فضله وعِظم ثوابه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111]. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف] الآية. والأيات في هذا الباب كثيرة. وأما الأحاديث، فمنها: ما رواه الشيخان عن أبي ذر قال: قلتُ: يَا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله". وجاء في الصحيحين أيضًا من حديث أنس؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لغَدْوَة في سبيل الله، أو رَوْحَة خير من الدنيا، وما فيها". والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.

* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن إخراج الزكاة للجهاد في سبيل الله: أصدر المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم قرارًا بتاريخ 7/ 2/ 1405 هـ وجاء فيه ما نصه: نظرًا إلى أنَّ القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، ونشر دينه بإعداد الدعاة ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم، فيكون كِلا الأمرين جهادًا. ونظرًا إلى أنَّ الإسلام محارَب بالغزو الفكري والتصدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأنَّ لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنَّه يتعيَّن على المسلمين أن يقاتلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام. ونظرًا إلى أنَّ الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة، بخلاف الجهاد بالدَّعوة، فإنَّه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا دعوة. لذلك كله، فإنَّ المجلس قرَّر بالأكثرية دخول الدعوة إلى الله، وما يعين عليها: وبدعم أعمالها في معنى في سبيل الله في الآية الكريمة. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وآله وصحبه أجمعين. * فائدة: نلخصها من رسالة للشيخ عبد الرحمن حَبنَّكة في "الجهاد": قال حفظه الله: "اتَّخذ أعداء الإسلام محاولات ذكية ماكرة لإلغاء الجهاد في سبيل الله من واقع المسلمين، عن طريق تحريف مفاهيم الإسلام، ونزع سند قوته، فوجهوا جهودهم لإزالة قوة الإيمان بالله من نفوس المسلمين، فوضعوا مكان ذلك قوى صورية مدوية، فكان بدل الاعتماد على الله الغرور بالنفس، والاعتماد على إمدادات الدول الطامعة، ذات المصالح الشخصية، وأحلوا محل ذكر الله تعالى عبارات الإلحاد والعنصرية والطبقية، وفرَّقوا صفوف المسلمين، وأفسدوا بين قادتهم، ففقدت الجيوش المسلمة بذلك عناصر قوتها

الحقيقية، فكيف يتم لها النصر على أعدائها؟!. وأشاعوا أنَّ الإسلام لم ينتشر بالدعوة، وإنما انتشر بالقتال، وإكراه الناس عليه، فاضطر الغيورون من المسلمين إلى أن يعلنوا أنَّ الحروب في الإسلام لم تكن إلاَّ حروبًا دفاعية فقط، وأنَّه "لا إكراه في الدين"، وبهذا صار الفهم المبتدَع لحروب الإسلام، التي ترمي إلى نشر الدين، وإبلاغه للعالمين، وكسر الأسوار التي تحجب الحق عن أن يصل إلى أسماع الغافلين، المتعطشين إلى معرفة الحق من الشعوب المغلوبة على أمرها. إنَّ الضرورة في المجتمع البشري قد تدعو إلى القتال؛ انتصارًا لحق المظلومين، ورفع حيف الطغاة عنهم؛ ليروا الحق والهداية، فيدينوا بالدين الذي يرتاحون إليه، وتؤمن به قلوبهم. بعد هذا البيان لا يجد العقلاء المنصفون حاجة للاعتذار عن ركن الجهاد في سبيل الله بقتال الطغاة البغاة، الظلمة المستبدين، الذين يكرهون الناس على ما يريدون. إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله بالقتال لتأمين رسالة الدعوة، وحمايتها، وإقامة العدل -قضية حق رباني، وإنَّ غايته من أشرف الغايات، وأنبلها. ومن عجيب المفارقات: أنَّ كثيرًا من الذين يشنعون على الإسلام في شأن هذا الواجب العظيم، يمارسون أقبح صور الإكراه في الدين، وأقبح صور التعصب ضد المسلمين، أو يستخدمون ضدهم كل وسائل العنف؛ لإلزامهم بأن يتركوا دينهم، وعقائدهم، ومفاهيمهم، ويوجهون ضدهم حروب إبادة جماعية، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وللإسلام أعداء كثيرون، وأشد أعدائه المثلَّث، التي تلتقي أضلاعه بالشيوعية، والصهيونية، الممثلة بالمأسونية، والمنصِّرين، أبطل الله كيدهم، وأعلى كلمته، آمين" اهـ.

1097 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يسْتَأْذِنُ فِي الجِهَادِ، فَقَال: أَحَيٌّ وَالِدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلأحمَدَ، وَأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: "ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ففيهما فجاهد: "فيهما" متعلق بالأمر، وقد يكون للاختصاص، "والفاء" الأولى جزاء شرط محذوف، و"الثانية" جزائية؛ لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى: إذا كان الأمر كما قلتَ، فاختص المجاهدة في خدمة الوالدين، نحو قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} [العنكبوت]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بر الوالدين من فروض الأعيان، لاسيَّما في حالة كبرهما، وحاجاتهما إلى ولدهما، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال؛ الجهاد في سبيل الله". ¬

_ (¬1) البخاري (3004)، مسلم (2549). (¬2) أحمد (3/ 75)، أبو داود (2530).

وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَال: "رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة". 2 - أما الجهاد: فهو فضيلة كبيرة جدًّا، ولكنه أقل فضلاً من بر الوالدين؛ كما أنَّ الجهاد فرض كفاية إلاَّ في حالات تقدم بيانها. أما بر الوالدين: ففرض عين في كل حال؛ لذا فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للرجل المستأذِن في الجهاد: "فيهما فجاهد" فيكون برهما مقدمًا على الجهاد في سبيل الله تعالى. 3 - سمي إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين، وإزعاجهما الولد في طلب ما يحتاجانه، وبذل المال في قضاء حوائجهما: جهادًا، من باب المشاكلة؛ مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سميت الثانية: سيئة؛ لمشابهتها للأولى في الصورة. 4 - سواء كان الجهاد فرض عين، أو فرض كفاية، وسواء عذَره الأبوان بخروجه، أو لا -فإنَّ برهما مقدم؛ لما روى أحمد، والنسائي، أنَّ جاهمة السلمي جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله،! أريد الغزو، وجئتك لأستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: "الزمها فإنَّ الجنة تحت رجليها". 5 - ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأنَّ برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهاد، فيقدم على برهما؛ لأنَّ الجهاد مصلحة عامة، إذ هو لحفظ الدين، والدفاع عن المسلمين. 6 - يدل الحديث على وجوب النصيحة لمن استشارك في أمر من الأمور. 7 - الحديث يدل على عظم بر الوالدين، وتقدم بعض النصوص في ذلك. 8 - ويدل الحديث على أنَّ المفتي إذا سُئِل عن مسألة يتعيَّن عليه أن يستوضح من

السائل عن الأمور التي تعد من مجرى الجواب. 9 - وفي الحديث بيان حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على أن يأتوا بالعبادات على الوجه الصحيح، فإنَّهم لا يُقدمون عليها إذا كانوا يجهلونها أو يجهلون بعض أحكامها، حتى يسألوا عن ذلك؛ لتقع موقعها الشرعي، وهذا واجب المسلمين. ***

1098 - وَعَنْ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بيْنَ المُشْرِكِينَ". رَواهُ الثَّلاَثَةُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ البُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ (¬1). 1099 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث (1098): الحديث صحيح. قال الحافظ: إسناده صحيح، وقال المباركفوري: رجال إسناده ثقات، مع أنَّ كثيرًا من الأئمة قالوا: إنه مرسل، ورجح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم، ورواه الطبراني موصولاً. * مفردات الحديثين: - بريء: يقال: برىء فلان من كذا، يبرأ براءً وبراءةً: فارقه، وسلم منه، وتخلص، واسم الفاعل بريء، والجمع: برآء. - لا هجرة بعد الفتح: بكسر الهاء، اسم من: هاجر يهاجر مهاجرة، وهي مفارقة الأهل، والعشيرة، والوطن فرارًا بالدين. والفتح: هو فتح مكة، سنة ثمان من الهجرة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2645)، الترمذي (1604)، النسائي (8/ 36). (¬2) البخاري (2825)، مسلم (1353).

1100 - وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ السَّعْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَنْقَطعُ الهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ العَدُوُّ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنِ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في "التلخيص": رواه النسائي، وابن حبان، ولأبي داود عن معاوية مرفوعًا: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". قال الهيثمي: رجال أحمد رجال ثقات. قال الألباني: أخرجه أبو داود، والدارمي، والنسائي في "الكبرى"، والبيهقي، وأحمد، ومن طرقه المجتمعة حكم بصحته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث الأول يدل على وجوب الهجرة من ديار المشركين إلى ديار المسلمين، وهو مذهب جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} [النساء]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: وفي الآية دليل على أنَّ الهجرة من أكبر الواجبات، وأنَّ تركها من المحرَّمات، بل من أكبر الكبائر. 2 - قال في "شرح الإقناع": وتجب الهجرة على كل من يعجز عن إظهار دينه ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 146)، ابن حبان (1579).

بدار حرب، وهي ما يغلب فيها حكم الكفر؛ لأنَّ القيام بأمر الدين واجب، والهجرة من ضرورة الواجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب. قال في "المنتهى": أو بلد بغاة، أو بِدع مضلة، كرفض واعتزال، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، إن قدر على الهجرة من أرض الكفر، وما ألحق بها؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ثم استثنى المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]. و"عسى" واجب وقوعها من الله تعالى، بمقتضى كرمه وإحسانه. قال السيد رشيد رضا: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه، أو يؤذى إيذاء لا يقدر على احتماله. أما المقيم في دار الكافرين، ولكنه لا يمنع، ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه، بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه، بلا نكير، فلا يجب عليه أن يهاجر. 3 - قال شيخ الإسلام: الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله تعالى ورسوله، وأفعل للحسنات والخير؛ بحيث يكون المسلم أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له، أفضل من الإقامة في وضع حاله فيه دون ذلك، فالحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلَّق بالشخص، ومن هنا كانت المرابطة في الثغور أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ

عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]. 4 - الشخص مسموع الكلمة، الذي يستطيع أن يؤدي رسالة الله تعالى على وجه حسن، لا شكَّ أنَّ إقامته حيث يقوى على الدعوة خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح، أما الشخص العادي: فهذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة، ويقيم فيها. 5 - قوله: "لكن" يقتضي أنَّ ما بعدها ليس كما قبلها، والمعنى: أنَّ مفارقة الأوطان لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة قد انقطعت، لكن مفارقة الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالى، كطلب العلم، والفرار بدينه من دار الكفر، أو للجهاد في سبيل الله، فهي باقية مدى الدهر. 6 - أما الحديث رقم (1099): فيدل على أنَّ الهجرة من مكة المكرمة انقطعت بعد فتحها؛ لكونها أصبحت بلاد مسلمين. وبهذا فإنَّ فضل الهجرة فات على الذين لم يسلموا إلاَّ بعد الفتح، فقد غنمها السابقون الأولون إلى الإسلام من المهاجرين، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. 7 - وعلى الذين فاتتهم الهجرة أن يتداركوا فضل الجهاد في سبيل الله، والنية الصالحة بحسن الإسلام، والنصح لله، ورسوله، ودينه. ولقد كان هذا من كثيرٍ من مسلمة الفتح، أمثال سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي سفيان بن الحارث، وغيرهم، فإنَّهم -رضي الله عنهم- أظهروا من حسن إسلامهم، والنصح له أمورًا كبيرة، وصار لديهم رغبة شديدة فيما عند الله تعالى، وأقبلوا على الجهاد في سبيل الله، فأبلوا البلاء الحسن حتى استشهدوا، رضي الله عنهم. 8 - أما الحديث رقم (1100): فيدل على أنَّ الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد

الإسلام لم تنقطع، وإنما حكمها باقٍ. قال في "شرح الإقناع": وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة؛ لما روى أبو داود عن معاوية؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". فتجب على من يعجز عن إظهار دينه؛ بدار حرب، وتسن لقادر على إظهار دينه ليتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم. 9 - الهجرة قسمان: أحدهما: الهجرة من مكة إلى المدينة، وهي التي فاز بها أهلها من الصحابة من دون سائر الناس، فهذه انقطعت بفتح مكة شرَّفها الله. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من دار البدعة إلى دار السنة، فإنَّ المسلم السني يؤمر بالهجرة إلى حيث يظهر شعائر دينه؛ لئلا يفتن عنه، ويؤذى. ***

1101 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كلِمَةُ اللهِ هِي العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث: أنَّ أعرابيًّا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمَغْنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا: فهو في سبيل الله" فهذا منطوق الحديث. 2 - معنى: يقاتل للذكر: أي: ليذكر بين الناس، ويوصف بالشجاعة، فالذكر: الشرف والفخر. وقوله: يقاتل ليُرى مكانه: "يُرى" مبني للمجهول، و"مكانه": منزلته من الشجاعة، فالفرق بين هذا، والذي قبله: أنَّ الأوَّل يقاتل للسمعة، والثاني للرياء. 3 - أما مفهوم الشرط في الحديث: أنَّ من قاتل لغير هذه الغاية، فليس في سبيل الله، وإنما قتاله في سبيل الغاية التي قصدها. 4 - أما إذا انضمَّ إلى غاية الجهاد في سبيل الله مقصد آخر، فقال الطبري: إذا كان المقصد إعلاء كلمة الله، لم يضر ما حصل من غيره ضمنًا، وبهذا قال جمهور العلماء. ويتأيد هذا: بما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كانت ¬

_ (¬1) البخاري (2810)، مسلم (1904).

عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج. والقصد أنَّه إذا كان المقصد هو الجهاد، وإعلاء كلمة الله تعالى، فلا يضره فى دخول غيره ضمنًا. 5 - أنَّ من الجهاد في سبيل الله دفع الكفار عن بلدان المسلمين، وأراضيهم، لاسيَّما الأمكنة المقدسة؛ كالقدس، والمسجد الأقصى، ودفع الحكومات الشيوعية عن بلدان المسلمين، كما كان في أفغانستان، وغيرها من بلدان المسلمين، التي هي تحت سيطرة أعدائهم، فقد جاء في أبي داود، والترمذي في "جامعه" من حديث سعيد بن زيد، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد". ووجه الدلالة: أنَّه لما جعله شهيدًا، دلَّ على أنَّ له القتل والقتال، فصار القتال مشروعًا، والله أعلم. 6 - جاء في "سنن أبي داود": "أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد؟ فقال: يا عبد الله، إن قاتلت صابرًا محتسباً، بعثك الله صابرًا محتسباً، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، ويا عبد الله، على أي حال قاتلت أو قُتلت، بعثك الله على تلك الحال". قلتُ: إنَّ اختلاف النية والقصد مؤثر في كل الأعمال لحديث: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى". 7 - وبهذا الحديث وأمثاله، عُلِم مبدأ سامٍ، وهو إعلاء كلمة الله تعالى، ومن أحق بإعلاء كلمته غير الله جلَّ وعلا. وبهذا، فالإسلام لا يبيح القتال لغايات عدوانية، أو مقاصد مادية،

بسيادة عنصر على عنصر، أو شعب على شعب، أو طبقة على طبقة أخرى، أو توسيع رقعة مملكة، أو أغراض حربية، أو مكاسب اقتصادية، أو أسواق تجارية، أو غير ذلك مما تتَّخذه الدول وسيلة لإشعال الحروب، وهدم السلم الدائم، فليس ذلك كله في شيء مما أباح الإسلام القتال لأجله؛ ذلك لأن غاية الإسلام مبادىء كريمة يعمّ نفعها الناس جميعًا. ***

1102 - وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: "أَغَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ" حَدَّثَنِي بِذلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ: "وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُويْرِيَّةَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أغار: بالغين المعجمة، مصدره: الإغارة، والغارة اسم مصدر، ومعناه: هجم على غرة وبغتة. - المُصْطَلق: -بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء، وكسر اللام، آخرها قاف-: بطن من خزاعة، وخزاعة قبيلة قحطانية أزدية. - غارون: -بالغين المعجمة، وتشديد الراء-، جمع غار؛ أي: غافلون، فأخذوهم على غرَّة وبغتة، وهي جملة اسمية حالية. - سبى: سبى عدوه سبيًا وسباء: استولى عليهم. - ذراريهم: بتشديد الياء، وتخفيفها، جمع: "ذرية"، هم نسل الإنسان، وعقبه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث محمول على أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بلَّغ بني المصطلق دعوة التوحيد، ودعاهم إلى الإسلام، فلما لم يستجيبوا، اغتنم فرصة غفلتهم، فأخذهم وهم غافلون، قبل أن يعلموا بقربه منهم. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وعلى معناه تظاهرت الأحاديث الصحيحة. ¬

_ (¬1) البخاري (2541)، مسلم (1730).

إذا غار المغير على غفلة العدو، فهذا مبدأ صحيح، كحال النبي -صلى الله عليه وسلم- فالغارة على غفلة أصلح للطرفين في حقيقة الأمر؛ لأنَّ المغير سيحكم عليهم في حربهم، وسلمهم أحكامًا عادلة، لا جور فيها عليهم. والمغار عليهم مع العدل بهم، سيسلمون من خسارة الأنفس، التي تذهب أثناء المعركة، وسيجدون عند من يستولون عليهم الرحمة والعدل، وقد كان في هذه القضية ذاتها. فبنو المصطلق قبيلة من الأزد، لما استولى عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوَّج جُوَيْرِيَّة بنت زعيمهم الحارث بن أبي ضرار المصطلقي الخزاعي، كعادته -صلى الله عليه وسلم- في إكرام ذوات العفاف، ورفع شأن الشريفات الأسيرات، فلما علم الصحابة، -رضي الله عنهم- بذلك قالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسلوا كل من في أيديهم من سبي بني المصطلق. لذا قالت عائشة: ما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية. 2 - أما إذا كانوا غير مدعوين، ولا معذر إليهم، ولا منذَرين، فنصوص الشرع تمنع من مباغتهم، ولذا كانت من وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمراء السرايا قوله: "لا تغدِروا، فإذا لقيت عدوك، فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى، وقاتلهم" هذه سنة الإسلام في الذين لم تبلغهم الدعوة. 3 - يدل الحديث على جواز استرقاق العرب كغيرهم، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو معروف من كتب السيرة، والمغازي. وذهب بعضهم إلى: عدم استرقاقهم، والأدلة خلاف قولهم. ***

1103 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَال: "كانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا، عَلَى اسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فَاقْبلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُم: ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبلْ مِنْهُم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا، فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ كأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِاللهِ تَعَالَى، وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلاَ تفْعَلْ، وَلكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ، أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تَفْعَلْ، بلْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيِهمْ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى، أَمْ لاَ؟ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - في خاصَّته: متعلق بـ"تقوى الله"، وخاصته: ما يخص نفسه من شؤونه. ¬

_ (¬1) مسلم (1731).

- بمن معه: كأنه قال: أوصاه بتقوى الله في خاصته، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرًا. - خيرًا: منصوب على نزع الخافض. - على اسم الله -في سبيل الله: متعلق بـ"اغزوا"، ويجوز أن يكون الثاني ظرفًا له، ويكون الأول حالاً. - قاتلوا: جملة معترضة موضحة لـ"اغزوا"، فأعاد "اغزوا"؛ لتعقبه بالمذكورات بعده. - ولا تغُلُّوا: غل -من باب نصر- غلولاً، فهو غالٌّ، والغلول: الخيانة من المغنم، وكل من خان خفية، فقد غلَّ. - لا تَغْدِروا: بكسر الدال، فهو من باب ضرب، والغدر: ترك الوفاء بالعهد. - إذا لقيت: هذا من باب تلوين الخطاب، فبعد أن خاطب الجيش عامة، خصَّ الأمير وحده بالخطاب، فدخلوا بالتبعية. - فادعهم إلى ثلاث خِصال: يعني: إلى إحدى الثلاث، وهي: الإسلام، أو عطاء الجزية، أو المقاتلة. - التحول من دارهم: المراد بالتحول: الانتقال، والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين. - ثم ادعهم: كرر لمزيد التأكيد. - أعراب المسلمين: واحده "أعرابي"، لا واحد له من لفظه؛ لأنَّ البقاء بالبادية سبب لعدم معرفة الشريعة؛ لقلَّة من فيها من أهل العلم. - الغنيمة: جمعها غنائم: يقال غنم فلان غنيمة، فاشتقاقها من "الغُنم" وأصلها: الربح والفضل، وهي ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال. - الفيء: أصله "الرجوع"، يقال: فاء الظل: إذا رجع نحو المشرق، وسمي المال الحاصل من المشركين: فيئًا؛ لأنَّه رجع من المشركين إلى المسلمين.

وهو اصطلاحًا: ما أُخِذ من مال كافر بحق الكفر بلا قتال. - الجزية: مأخوذة من: الجزاء، وهي ما يؤخذ من أهل الذمة على وجه الصَّغار كل عام، بدلاً من قتلهم، وإقامتهم بدارنا. - حِصن: حصن المكان حصانة، فهو حصين، والحِصن: الموضع المنيع، جمعه: حصون، والحصين: المحكَم المنيع. - ذِمة اللهِ وذمة نبيه: الذمة هنا معناها: عقد الصلح والمهادنة، وإنما نهى عن ذلك؛ لئلا ينقض الذمة من لايعرف حقها، وينتهك حرمتها من لا تمييز له من الجيش. - تُخْفِرُوا: بضم التاء، وسكون الخاء، ثم فاء مكسورة، وراء، يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخَفَرته: بمعنى أمنته وحميته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث الشريف الصحيح يصف أحسن وصف للجهاد في سبيل الله، من مصدره الأصلي المشرع صلوات الله وسلامه عليه، وما تتصف به تلك الحروب الإسلامية من العدل والإنصاف، وما تتحلى به من الرحمة، وما تهدف إليه من البر، والإحسان، وما تتمسك به من العهود والمواثيق، وأنَّها بخلاف ما يصفها به أعداء الإسلام، من القسوة، والعنف، وغير ذلك من الأوصاف التي يلحقونها بها، إما جهلاً، وتقليدًا، وإما عداوة وحقدًا. 2 - أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يبعث أميرًا على سرية إلاَّ أوصاه، وأوصى سريته بما يجب عليهم، أو ينبغى لهم أتباعه في غزوتهم من الأحكام، والآداب، والفضائل. 3 - الصحابة -رضي الله عنهم- لثقتهم الكبيرة بنبيِّهم -صلى الله عليه وسلم-، وإيمانهم العميق بحسن وصاياه، وكبير فائدتها -فإنَّهم ينفذونها وفق ما رسمها لهم، بغبطة وفرحة، متمثلين قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور]. 4 - كان أول زاد من وصاياه الحكيمة الرشيدة هي الوصية "بتقوى الله"، وتقوى الله كلمة صغيرة تجمع كل خير، وتبعد كل شر، فهي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وإذا حلت التقوط قلب العبد، صارت هي الرقيب الذي لا يغيب، ولا يغفل عن تصرفاته، فإنَّها تراقبه وتصرِّفه؛ لتكون دائمًا المهيمن عليه، فتقيه شر نفسه، وشر غيره، من شياطين الإنس والجن. 5 - أوصاه بأن يتَّقي الله تعالى بمن معه من المسلمين خيرًا، فلا يستغل سلطته، وإمارته عليهم، ويغتنم فرصة اتباعهم أمره، وتنفيذهم رغبته بمصالحه الخاصة، وطلباته المحدودة، وإنما يكون أمره عليهم، ونهيه فيهم، وفق المصلحة العامة لهم، وللمسلمين عامة. 6 - تصحيح النية، وسلامة الطوية؛ وذلك بأن تكون غزوتهم مقصودًا بها وجه الله تعالى، والدار الآخرة، بإرادة نصرة الإسلام، ونشر دعوة التوحيد، "فإنَّما الأعمال بالنيات" فلا يكون القصد من الغزو الغنيمة، أو مجرَّد الاستيلاء على الأعداء، أو إرادة الشجاعة والظهور، فكل هذا ليس على اسم الله تعالى، وإنما الذي على اسمه: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. 7 - "قاتِلوا من كفر بالله" هذا هو الهدف من الجهاد، وهو قتال الكفار؛ ليدخلوا في دين الإسلام، فإذا دخلوا في الإسلام، ودخل الإيمان قلوبهم، عرفوا أنَّ قتالكم لهم ما هو إلاَّ علاج لأنفسهم، ودواء لقلوبهم المريضة بالكفر، والشرك بالله تعالى، "وإن ربك ليعجب من رجال يقادون إلى الجنة بالسلاسل"، فلولا قاعدة الجهاد في سبيل الله، لفسدت الأرض ببقاء الكفر، والضلال، وامتداد الجهل، والظلام، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].

8 - "لا تغلوا" الغلول: الخيانة في الغنيمة، وإذا وجدت الخيانة في الغنائم، فسدت نية الجهاد في سبيل الله، وصار الغرض هو الطمع، وأنتم لم تغزوا، ولن يتوقع النصر إلاَّ بحسن نيتكم وقصدكم، فإذا فسدت النية، يُدَال عليكم، وينتصر عدوكم، قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152]. 9 - "لا تغدروا" الغدر: نقض العهد، فهو ضد الوفاء، بل أتموا لهم ما عاهدتموهم عليه. 10 - "ولا تمثلوا" بأن تقطعوا أطراف القتيل؛ كيديه، ورجليه، وأذنيه، وأن يبقر بطنه، ونحو ذلك من تشويهه، فإنَّ هذا قتال من يريد الانتقام، لا قتال من يريد الإحسان. 11 - "ولا تقتلوا وليدًا" النَّهي عن قتل الصبيان، الذين هم دون البلوغ. 12 - وجوب دعوة العدو، والمشرك إلى إحدى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك إلى واحدة منها، فأقبل منهم، هي: الإسلام، أو الجزية، أو القتال. وإذا أجابوا إلى الإسلام، فلابد أن يتحوَّلوا من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ ليتمكنوا من إظهار دينهم، وليكثروا سوادهم، وليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. 13 - قائد الجيش إذا عقد عهدًا مع المشركين، فلا يجعل بينه وبينهم عهد الله تعالى وعهد رسوله، وإنما يجعل لهم عهده الخاص؛ لئلا ينقض العهد ويغدر، وعهد الله وعهد الرسول منزهان عن الغدر، ولكن إذا جعل لهم عهده، فنقض، كان أَهْوَنَ إثمًا. 14 - إذا أراد قائد الجيش، أو السرية إنزال عدوه من المشركين على حكم، فليكن على حكمه هو، واجتهاده، لا على حكم الله تعالى، فإنَّ المجتهد لا يدري أيصيب حكم الله، أم يخطئه؟ فإذا أخطأه فهو أهون عليه من أن

يكون على حكم الله تعالى. 15 - هذه هي آداب الحروب الإسلامية، والجهاد في سبيل الله: التقوى، والاعتماد على الله تعالى، والدعوة إلى الخير، والدخول في دين الله تعالى، فإذا دخل الإنسان في الإسلام، فليس هو مستعمرًا، ولا مسترقًّا، ولا مضطهدًا، وإنما هو مسلمٌ له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. فإن لم يجيبوا إلى الإسلام، فلهم الحرية في البقاء على دينهم، على أن يؤدوا جزيةً، هي لحقن دمائهم، والحفاظ عليهم من عدوهم، ورعاية مصالحهم. فإن أبوا عن هذا، وأصروا على الوقوف في وجه الدعوة، فلم يدعوها تبلغ المستعدين لقبولها، فالمسلمون مضطرون لقتالهم؛ لتصل دعوة الله، ودينه حيث أراد الله تعالى، فإذا قام قتال المسلمين مع عدوهم، فإنَّه قتال رحمة، فكل من لا علاقة له بالقتال لا يقتل، فلا يقتل شيخ كبير، ولا راهب في معبده، ولا صبي، ولا امرأة، وإنما يوجه القتال إلى المقاتلين المعاندين، الصادين دين الله تعالى، ثم إنَّ هذا القتال ليس قتال ثأر وانتقام، يحصل به تمثيل، وتشويه للقتلى، فلا تمثِّلوا. وإذا أُبرم عهد مع العدو، فليحافظ على الوفاء به، والتزام شروطه وبنوده، وليُعقد على ذمة القائد، ولاَ يُعقد على ذمة الله تعالى وذمة رسوله؛ خشية أن يحصل غدر، فتنسب الخيانة، والغدر إلى عهد الله جلَّ وعلا، وإلى رسوله، وهما مبرآن من ذلك. وكذلك إذا أريد نزول العدو على الحكم، فلا ينزلون إلاَّ على حكم منسوب إلى اجتهاد القائد، لا إلى حكم الله تعالى؛ لئلا تخطئوا في الحكم، فيكون الخطأ منسوبًا إلى أحكام الله، فإنَّ القائد باجتهاده لا يدري هل يقع على الحق نفس الأمر، وهو حكم الله ومراده، أم لا؟.

16 - قال الأستاذ سيد قطب: إنَّ الإسلام يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع، وحروب الاستعمار والاستغلال، والبحث عن الأسواق والخامات، واسترقاق المرافق والرجال، كما يستبعد أيضًا الحروب التي تثيرها حب الأمجاد الزائفة، والمغانم الشخصية، فلا مكان لهذه الحروب، وهو يأمر بالتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. ***

1104 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا ارَادَ غَزْوَةٍ، وَرَّى بِغَيْرِهَا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وَرَّى بغيرها: -بفتح الواو، وتشديد الراء، آخره ألف مقصورة أي: أخفاها، وسترها، وكنَّى عنها، وأظهر غيرها، ويفسره معنى الزيادة التي وردت في أبي داود "ويقول: الحرب خدعة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث الشريف يبين جانبًا من جوانب قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- العسكرية، وتدابيره الحربية. 2 - فهو إذا أراد غزو بلدة، أو قبيلة في الشمال، أظهر أنَّه يريد وجهة الجنوب مثلاً، فصار يسأل جهرة عن تلك الطريق، ومواردها، وطرقها، والقبائل التي في طريقه إليها؛ ليوهم أنَّه يقصد تلك الطريق. 3 - الغرض من هذا: أن يفاجأ عدوه على غرة وغفلة، قبل أن يُنذَر، ويعلم عن قصده إليه فيستعد، وإنما يريد أن يصل إليه، بدون استعداد منه. 4 - ففي هذه المفاجأة فائدتان: الأولى: أنَّ خسائر الأرواح تقل بين الطرفين في هذه المفاجأة، فإنَّه إذا لم يحصل صدام بين جيشين متكافئين، خفَّت الخسارة، وحربه -صلى الله عليه وسلم- حرب رحمة وإحسان، فإنَّه يكفيه من عدوه الإذعان والاستسلام؛ لتحل الرحمة محل القسوة، ويكون الإحسان إلى الأسرى مكان الانتقام. ¬

_ (¬1) البخاري (2947)، مسلم (2769).

الثانية: أنَّ في هذا توفيرًا لطاقة جيش المسلمين من رجال وعتاد، وهذا التوفير سيكون ذخيرة لمعركة لا تجدي فيها الخدعة، والمسير أمام الجيش المسلم طويل. 5 - ففي الحديث دليل على جواز مثل هذا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحرب خدعة"، ولكنه خداع ليس معه غدر، ونقض عهود. 6 - تقدم أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يهجم على عدوه، إلاَّ بعد دعوته إلى الإسلام، والإعذار إليه. ***

1105 - وَعَنْ مَعْقِلٍ؛ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ القِتَالَ حَتَى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد صحَّحه الترمذي، والحاكم، وقال: إنَّه على شرطهما، وأصله في البخاري. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - معقل بن يسار المزني: ألحقناه تصحيحًا من "الأطراف" للمزي، وإلاَّ فقد اختلفت نسخ "بلوغ المرام" في هذا، فقد جعل بعضهم "ابن" مكان "أنَّ"، فقال: وعن معقل بن النعمان، ولكن ما أثبتناه هو الصحيح إن شاء الله تعالى. 2 - النعمان بن مقرن المزني من القواد الكبار، ومن الشجعان المشاهير، له مواقف عظيمة في حروب الإسلام ضد الفرس، وقد استشهد عند فتح مدينة "نهاوند"، بعد أن قرَّ الله عينه بفتحها. 3 - كان -رضي اللهُ عَنْه- يقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في جهاده وغزواته، فكان قتاله أوَّل النَّهار، حينما تكون الأنفس، والأبدان نشيطة بعد راحة الليل، وحينما يكون الوقت باردًا، وحينما تكون البركة التي قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "بورك ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 444)، وأبو داود (2655)، النسائي في الكبرى (5/ 191)، الحاكم (2/ 116)، البخاري (3160).

لأمتي في بكورها". 4 - إذا فات وقت الصباح، ولم يحصل إنشاب القتال فيه، فإنَّه لا يقاتل في وسط النهار حين خمود الأذهان، وخمول الأبدان، وارتفاع الشمس، وإنما يؤخره حتى تزول الشمس، ويبرد الجو، وتهب الرياح التي يرسلها الله تعالى عادة بنصر عباده المؤمنين، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرتُ بِالصبا، وأُهلِكت عاد بالدبور". فكان يتوخى هذا الوقت حين برودة الجو، وهبوب الرياح المسائية. 5 - وكل هذا ما لم يباغتهم العدو، أو يفاجئهم بغارة غير منتظرة، فحينئذٍ يجب ردها، وصدُّها، ولا يؤخذ ذلك لأي وقت من الأوقات. 6 - وهذه خطة حميدة جيدة من خطط القتال، وحكمة رشيدة في استغلال الأوقات الصالحة، والحالات المناسبة التي تزيد الجيش المحارِب قوَّة مادية، ومعنوية في وجه عدوه. 7 - فيه حسن قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكمته في تدبير أمر القتال، فهؤلاء كبار القواد يجعلونه أسوة لهم في خططه الحربية، وتصرفاته القيادية، فصلوات الله وسلامه عليه. 8 - في الحديث اتخاذ الأسباب النافعة، والتدابير المفيدة، مع الاستعانة بالله تعالى، والاتكال عليه، ورجاء نصره وعونه؛ لتجتمع القوَّة المادية والمعنوية. ***

1106 - وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ المُشْرِكينَ يُبيَتُّونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الصَّعب: بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة. - جَثَّامَة: بفتح الجيم، والميم، وتشديد الثاء المثلثة، يقال: رجل جثامة، للنؤوم الذي يلازم، ولا يسافر. - الذراري: جمع: "ذرية"؛ وهم نسل الإنسان. - يبيَّتون: مبني للمجهول بصيغة المضارع، من بيَتَّه والتبييت: الإغارة عليهم في الليل على غفلة، مع اختلاطهم بذراريهم ونسائهم، فيصاب النساء والذرية، بغير قصد لقتلهم ابتداء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في غالب حروبه لا يهجم على عدوِّه إلاَّ نهارًا، حينما ينحاز الرجال المقاتلين عن النساء، والصبيان، والمسنين؛ لأنَّ حروبه -صلى الله عليه وسلم- لا تقصد الإفساد، وإنما تهدف إلى الإصلاح، ولذا نهى عن قتل غير المقاتلين، فقال: "ولا تقتلوا وليدًا" [رواه مسلم]، و"نهى عن قتل النساء والصبيان" [متَّفقٌ عليه]. ورأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" [رواه أحمد، وأبو داود]. وقال: "لا تغدروا، ولا تغُلَّوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب ¬

_ (¬1) البخاري (3012)، مسلم (1745).

الصوامع" [رواه أحمد] وغير ذلك من النصوص. 2 - إلاَّ أنَّ الخطة الحربية قد تلجئه إلى تبييت عدوه، والقتل الجماعي، الذي قد يصيب النساء، والذرية من غير قصد. وإنما هذا من باب إعمال القاعدة الشرعية: "إذا تزاحمت المفاسد، ولابد منها، ارتكب أخفها". فقتل بعض الأطفال، والنساء، الذين لا يمكن أن ينحازوا عن المقاتِلِين، يسوغ في سبيل إضعاف العدو، وكسر شوكته والنكاية به، وصد كَلبه، وشراسته عن المسلمين، لاسيَّما وقد حكم عليهم بالكفر. 3 - قال في "الإقناع وشرحه": "ويجوز تبييت الكفار، وقتلهم وهم غارون، ولو قتل في التبييت من لا يجوز قتله، من امرأة: وصبي، ومجنون، وشيخ فانٍ، إذا لم يُقصدوا". 4 - قال -صلى الله عليه وسلم- مبررًا قتل النساء، والصبيان في مثل هذه الحال: "هم منهم" في إباحة القتل، تبعًا لا قصدًا، إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل. 5 - جواز قتل النساء من الكفار، وصبيانهم، ونحوهم، إذا تترس بهم المقاتلون منهم، وهو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، عملاً بهذا الحديث. وذهب الإمام مالك، والأوزاعي إلى: أنَّه لا يجوز قتل النساء، والصبيان، ونحوهم بحال، حتى لو تترس أهل الحرب، أو تحصنوا بهم، لم يجز قتالهم، ولا تحريقهم. ***

1107 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: ارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّه لا يجوز الاستعانة بالمشركين في القتال. والحكمة في هذا ظاهرة؛ ذلك أنَّ الكافر لا يقاتل عن إيمان، ولا عن عقيدة، فلا يؤمن مَكْره، ولا يطمئن إلى حسن نيته، وطويته. 2 - ويجوز -عند الحاجة، وترجُّح كفة الأمان منه- الاستعانة به؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- استعان بصفوان بن أمية يوم حنين. 3 - وكذلك استعان -صلى الله عليه وسلم- بقبيلة خزاعة؛ لأنَّهم كانوا في زمن الجاهلية نصحةً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولجده عبد المطلب، فإذا وجدت الحاجة، وأمنت الخيانة، جازت الاستعانة بهم، جمعًا بين الأدلة، وهذا مذهب أبي حنيفة. 4 - أما الأئمة الثلاثة: فذهبوا إلى أنَّه لا يجوز، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لهذا الحديث، ولأنَّ الكافر لا يؤمن مكْره، وغدره. 5 - أما شراء الأسلحة منهم، وتبادل الخبرات العسكرية، ونحو ذلك من الفنون الحربية، فلا ينبغي أن تكون موضع خلاف بين العلماء؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- استعار من صفوان بن أمية أدراعًا، وهو كافر، وجعل فداء الأسرى يوم بدر تعليم أبناء المسلمين الكتابة، والقراءة. ¬

_ (¬1) مسلم (1817).

* قرارات وتوصيات المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج: المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 21 - 23/ 2/ 1411 هـ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد، أفضل المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنظرًا للأحداث الجديدة التي نزلت بمنطقة الخليج، من اجتياح القوات العراقية للكويت، وتهديدها المملكة العربية السعوية، ودول الخليج الأخرى، وما تبعه من الاستعانة بالقوات العربية، والإسلامية، والأجنبية، لمساندة قواتها. فقد دعت رابطة العالم الإسلامي إلى مؤتمر إسلامي عالمي، ضم علماء المسلمين، ومفكريهم من أنحاء العالم؛ حيث انعقد في الفترة من 21 - 23 صفر 1411 هـ، الموافق 10 - 12 سبتمبر 1990 م. وقد تداول أعضاء المؤتمر الأحداث الخطيرة؛ انطلاقًا من واجبهم الديني، ومسؤوليتهم الإنسانية، والتاريخية. وبعد مداولات استغرقت ثلائة أيام، أصدر المؤتمر القرارات، والتوصيات التالية: [ومما جاء فيه هذا القرار، وهو مناسب لشرح هذا الحديث]: خامسًا: فيما يتعلَّق بالاستعانة بالقوات الأجنبية، فإنَّ المؤتمر بعد الاطلاع على بحوث العلماء يقرر أنَّ ما حدَث من استعانة المملكة بقوات أجنبية؛ لمساندة قواتها في الدفاع عن النفس، إنما اقتضته الضرورة الشرعية، والشريعة الإسلامية تجيز ذلك بشروط الضرورة المقررة شرعًا. ومتى زالت أسباب وجود هذه القوات، من انسحاب العراق من الكويت، وعدم تهديد المملكة، ودول الخليج -فإنَّه على هذه القوات مغادرة المنطقة.

1108 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى امْرَأةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). 1109 - وَعَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْتُلُوا شُيُوخ المُشْرِكِينَ , وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد صحَّحه الترمذي، وابن حبان، وهو من رواية الحسن عن سمرة، التي اختلف العلماء في صحتها، ولكنها رواية مقبولة عند العلماء. قال في "التلخيص": رواه أحمد، والترمذي من حديث الحسن عن سمرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. * مفردات الحديث: - شُيوخ المشركين: الشيخ: من استبانت فيه السن، والمراد هنا: الرجال المسنون، أهل الجَلد، والقوة على القتال، ولم يرد: الهَرْمى. - شَرْخَهُمْ: -بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، ثم خاء معجمة- والمراد بهم: الصغار، الذين لم يدركوا، قاله في "النهاية". ¬

_ (¬1) البخاري (3014)، مسلم (1774). (¬2) أبو داود (2670)، الترمذي (1583).

* ما يؤخذ من الحديثين: 1 - تقدم أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل النساء، والشيوخ الكبار، والذرية، وأصحاب الصوامع، ونحوهم ممن لا شأن له في القتال، قال الإمام أحمد: الشيخ لا يكاد يسلم، والنساء أقرب إلى الإسلام. 2 - هذان الحديثان يؤكدان هذا المعنى في النَّهي عن قتل النساء، والشيوخ المسنين، ما لم يكن لهم في الحرب عون، بفعلٍ، أو رأيٍ، فيقتلون كما يأتي بيانه. 3 - ذلك أنَّ حروب الإسلام ليست حروبًا عدوانية، وليست حروب إفساد، وإنما هي حروب رحمةٍ، وشفقةٍ، ودعوة إلى الخير. قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": "ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب، ولا غيرها، لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتلهم، كما نهى عن قتل الضعفاء، وعلى القائد أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله بالتزام أحكامه". 4 - فمِن نهْج الإسلام، ما قاله أبو بكر الصديق، يوصي قوَّاده: أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني. "لا تخونوا، ولا تغُلُّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً، ولا تقطعوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تذبحوا شاةً، ولا بقرةً، ولا بعيرًا، إلاَّ لمن أراد أكله، وستمرون بأقوام أهل صوامع، فدعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له". 5 - فالحكم هو تحريم قتل النساء، والصبيان، والمسنين، وأصحاب الصوامع، والمعابد، ونحوهم ممن ليس لهم شأن في القتال، فإن كان لهم يد في الحرب، فيقتلون. ومن تلجِىء الضرورة إلى قتلهم، كأن يتترسوا بهم، أو تقتضي الحرب بياتهم، أو ترمى حصونهم بما يعمّ قتلهم، كالمدافع، وغير ذلك، فحينئذٍ

ضرورة القتال تبيح ذلك، فإن الكفّ عنهم حينئذٍ يفضي إلى تعطيل الجهاد. قال في "شرح الإقناع": وحرِّم قتل صبيٍّ، وامرأةٍ، وراهبٍ، وشيخٍ فانٍ، وزَمِنٍ، وأعمًى، وعبدٍ، وفلاحٍ، لا رأى لهم، فمن كان من هؤلاء ذا رأي، جاز قتله؛ لأنَّ دريد بن الصمة قتل يوم حنين، وهو شيخ لا قتال فيه؛ لأجل استعانتهم برأيه، فلم ينكر -صلى الله عليه وسلم- قتله، إلاَّ أن يقاتلوا، فيجوز قتلهم بغير خلاف؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قتل يوم قريظة امرأة، ألقت رحى على محمود بن سلمة، فقتلته، أو يحرضوا على القتال. ***

1110 - وَعنْ عَلِىٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يوْمَ بَدْرٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلاً (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تبارزوا: يقال: بارزه مبارزةً وبرازًا: برز إليه، ونازله بين الصفين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - لما اصطف المسلمون يوم بدر، واصطف أمامهم المشركون، تهيُّئًا للقتال، برز من صفوف المشركين عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والوليد بن عتبة، فخرج إليهم من جيش المسلمين: عُبَيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليُّ الوليد، فأما حمزة وعلي: فقتلا قرينيهما، وأما عبيدة وقرينه: فاختلفا ضربتين، كل منهما أثبت صاحبه، ثم كر حمزة وعلي على عتبة، فأجهزا عليه، وحملا صاحبهما الجريح، فمات من جرحه شهيدًا، رضي الله عنه وعن صاحبيه. 2 - فالحديث يدل على جواز المبارزة لمن علم في نفسه الكفاءة، وأما من ليس كفأً فلا يبارز؛ لئلا يعرض نفسه للقتل بحالة لم يتَّخذ لها الحيطة والحذر، ولئلا يَفُتَّ في عضد جيش المسلمين، ويكسر قلوبهم. 3 - قال في "شرح الإقناع": وإن دعا كافر إلى البراز، استُحب لمن يعلم من نفسه القوَّة، والشجاعة مبارزته بإذن الأمير؛ لأنَّ في الإجابة إظهارًا لقوَّة المسلمين، وجلَدِهم على الحرب. ¬

_ (¬1) البخاري (3965)، أبو داود (2665).

4 - وقال أيضًا: ويباح للرجل المسلم الشجاع طلب المبارزة ابتداءً، ولا يستحب له ذلك؛ لأنَّه لا يأمن أن يُقْتل، فتنكسر قلوب المسلمين. ***

1111 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ". رَوَاه الثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِم (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث الحديث صحيح. قال ابن كثير في "تفسيره": رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبد ابن حميد، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه". قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي على تصحيحه. * مفردات الحديث: - معْشَر الأنصار: منصوب على الاختصاص، والمعشر: الجماعة، والجمع: معاشر. - لا تُلْقُوا بأيديكم: كناية عن الأنفس. - التَّهلُكَة: مصدر: هلك يهلك هلكًا وهلاكًا وتهلكة، وهو الموت، وكل شيء يكون سببًا إليه. - الروم: جيل من الناس صار لهم دولة، وحضارة، وقوَّة قبل الإسلام. ¬

_ (¬1) أبو داود (2512)، الترمذي (2972)، النسائي في الكبرى (6/ 299)، ابن حبان (1667)، الحاكم (2/ 275).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من حديث أبي أيوب الأنصاري أنَّه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التَّهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إنَّ هذه الآية نزلت في الأنصار، حين أرادوا أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم. وأما هذا، فهو الذي قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. 2 - الحديث دليل على جواز المبارزة لمن عرف في نفسه البلاء في الحروب، والشدة، والشجاعة؛ فإنَّ انتصاره على خصمه يقوي عزائم المسلمين، ويشحذ هممهم، بينما يفُت في عضد عدوهم. 3 - تقدم أنَّ المبارزة لا تكون إلاَّ بإذن الأمير، ولا يأذن إلاَّ حينما تنتفي المفاسد والأخطار، وهو صاحب تدبير الحرب، فطاعته بالمعروف واجبة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". 4 - قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه يجوز للرجل الشجاع أن يحمل على الكثير من العدو، إذا كان له قصد حسن، كأن يرهب العدو، أو يجرىء المسلمين على الإقدام، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة، أما إذا كانت حملته مجرد تهور فلا يجوز، لاسيَّما إذا ترتَّب على ذلك وهن المسلمين، وكسر قلوبهم. ***

1112 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَخْلَ بنَي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حرَّق: حرقت النار الشيء: أهلكته. - بني النضير: قبيلة من اليهود كانت تسكن المدينة، وكان بينهم وبين المسلمين عهود، فغدروا، ونقضوا عهدهم، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ست ليال، ثم صالحهم على أن يرحلوا من بلادهم، فرحلوا. - قطع: يقال: قطع لشيء، فصل بعضه عن بعض، وأبانه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بنو النضير إحدى قبائل اليهود المقيمين قرب المدينة، وقد أبرم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معهم عهدًا، يأمن به كل من الآخر، ولكنهم لم يَفُوا بهذا العهد؛ حسدًا وبغيًا، وأرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصة مشهورة في السيرة، فانتقض عهدهم، فكان من الحزم ألا يبقوا مصدر خطر على الإسلام وأهله، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة أيَّام، فقطع الصحابة أثناء الحصار بعض نخيلهم، وحرَّقوها؛ نكاية بهم، وجزاء لغدرهم، فشكَّ الصحابة في جواز هذا العمل، فأنزل الله تعالى قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر]. 2 - اصطلحوا مع المسلمين: بأنَّهم يجلون من بلادهم، على أنَّ لهم ما حملته ظهور إبلهم إلاَّ السلاح، فحملوها، وجلوا عن ديارهم، وصارت بلادهم، ¬

_ (¬1) البخاري (4031)، مسلم (1746).

وما خلفوا من أموالهم فيئًا، لم يقسم بين المجاهدين؛ لأنَّه لم يحصل بالقتال. قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، ثم ذكر تعالى مصرف الفيء بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. 3 - الحديث يدل على جواز قطع النخل، وحرقها، وهدم الحصون، ونحو ذلك، إذا كان هذا يحقق مصلحة للمسلمين، ويحصل به نكاية للعدو، كما حصل في حصار بني النضير. 4 - الفيء: هو ما أخذ من مال الكفار -ممن ليس لهم عهد- بحق من غير قتال، سمي: فيئًا، لأنَّه فاء؛ أي: رجع من الكفار، الذين هم غير مستحقين له إلى المسلمين، الذين لهم الحق الأوفر فيه. 5 - ويدل الحديث على أنَّ التدمير إذا كان وسيلة إلى مصلحة أعظم من مفسدته فهو جائز، أما قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فإنَّه إذا كانت إفسادًا محضًا، أو كانت المفسدة أرجح من المصلحة. ***

1113 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَغُلُّوا، فَإِنَّ الغُلُولَ نَارٌ، وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابهِ فِي الدُّنْيَا، وَالآخِرَةِ". رَوَاه أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحه ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن، صحَّحه ابن حبان. رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان، وله ما يؤيده مما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكر الغلول، وعظم أمره ... " إلخ الحديث. قال الهيثمي: في هذا الحديث أم حبيبة بنت العرباض، لم أجد من وثَّقها، ولا من جرحها، وبقية رجاله ثقات. * مفردات الحديث: - الغُلول: بضم الغين، مصدر: غلَّ غلولاً، من باب قعد، وهو الخيانة في الغنيمة، وغيرها. - عار: يعني: عيب، وفضيحة على صاحبها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغلول: هو الخيانة في الغنيمة، وهو من كبائر الذنوب؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]. وذلك بإجماع العلماء؛ لما يجمعه من المفاسد، فهو سفه وخيانة، وهو ظلم لعموم المجاهدين، وأصحاب الخمس. ¬

_ (¬1) أحمد (22207)، النسائي (4138).

وهو يدل على أنَّ صاحبه لم يقصد بغزوه الجهاد في سبيل الله، فتكون كلمة الله هي العليا، وإنما أراد المَغْنَم، وإنَّما الأعمال بالنيات. 2 - الغلول عار؛ لأنَّه عيب، وفضيحة أمام المسلمين، وقادتهم، وهو نار؛ لأنَّه عذاب في الآخرة. روى أصحاب السنن، وأحمد من حديث زيد بن خالد الجهني: "أنَّ رجلاً توفي من المسلمين بخيبر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: صلوا على صاحبكم، فتغيَّرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم، قال: إنَّ صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتَّشوا متاعه، فوجدوا خرزًا لليهود ما يساوي درهمين". 3 - الأخذ من أموال الدولة، وبيت مال المسلمين بغير حق حكمه حكم الغلول، فمن ولي على عمل من أموال الدولة، فأخذ منه شيئًا بطرق غير مشروعة -فهو غال. 4 - قال شارح "البلوغ": العار: الفضيحة في الدنيا، إذا ظهر افتضح به صاحبه، وأما في الآخرة: فلعلَّ العار يبيِّنه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكر الغلول، وعظم أمره، فقال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، أو على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك من الله شيئًا، قد أبلغتك" فلعلَّ هذا هو العار في الآخرة. 5 - يؤخذ من هذا الحديث: أنَّ هذا ذنب لا يغتفر بالشفاعة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أملك لك من الله شيئًا"، ويحتمل أنَّه أورده مورد التغليظ والتشديد". والغلول عام لكل ما فيه حق العباد. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّ الغال يعيد ما غلَّ قبل القسمة. ***

1114 - وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. ذلك أنَّه ثابت في "صحيح مسلم" في حديث طويل بإسنادٍ صحيح ثابت، ليس فيه إلاَّ إسماعيل بن عياش، ولكن بروايته عن الشاميين، وهي عنهم ثابتة مقبولة. * مفردات الحديث: - السلب: بفتحتين، قال العيني: هو ما يأخذه أحد القرينين من قرنه، مما يكون عليه، ومعه، من سلاح، وثياب، ومركوب، وغيرها. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2719)، مسلم (1753).

1115 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهمَا حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انصْرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالاَ: لاَ، قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا، فَقَالَ: كلاَكُمَا قَتَلَهُ، فَقَضَى -صلى الله عليه وسلم- بسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ابتدرَاهُ: يقال: بدره يبدره بدرًا: أسرع إليه، وعاجله. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - السَّلَب: هو ما على الكافر القتيل: من لباس، وحلي، ومِنطقة، ودرعٍ، ومِغفر، وبيضة، وتاج، وخُف، وسلاح: من سيف وبندق، وفرد، ورصاص، وحزام، ولو مذهبًا، وسيارته، أو دبابته، أو طيارته، التي يقاتل عليها، نحو ذلك من أنوع اللباس، والسلاح، والمراكب، التي معه حين قتله، قلَّ ذلك، أو أكثر، فكله يسمى: سلَبًا. 2 - السَّلَب المذكور كله لمن قتل الكافر مبارزة، أو حال انتشاب الحرب، وذلك إذا كان قتل المسلم الكافر حال الحرب لا قبلها، ولا بعدها. 3 - إعطاء السلب لقاتل الكافر من باب المكافأة، والمجازاة على إقدامه، وفعله الطيب، وتشجيعًا وتقديرًا لبطولته، وبلائه في سبيل الله تعالى. 4 - يثبت استحقاق السلب بالبينة، ومن البينات أثر القتل في السلاح، إذا كان القتال مما يسمى بالسلاح الأبيض، أو بنوع الرصاص، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري (3141)، مسلم (1752).

فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما رأى ضربة معاذ بن عمرو بن الجموح، هي المؤثرة في قتل أبي جهل؛ لعمقها، أعطاه السلب، وطيَّب قلب ابن عفراء بقوله: "كلاكما قتله"، وإلاَّ فالضربة القاتلة لمعاذ بن عمرو. 5 - وكذا يستحقه لو ثبت قتله بشهادة؛ لما في الصحيحين من حديث أبي قتادة قال: رأيتُ رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته على حبل عاتقه، فأدركه الموت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل قتيلاً له عليه بينته، فله سلبه"، فقلتُ: من يشهد لي؟ فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! سَلبُ ذلك القتيل له، فأرضه عن حقه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطه إيَّاه فأعطاني". 6 - قال في "شرح الإقناع": ولا تقبل دعوى القتل لأخذ السلب إلاَّ بشاهدين رجلين؛ لأن الشارع اعتبر البينة، وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين، وسيأتي في أقسام المشهود أنَّه يقبل رجل وامرأتان، ورجل ويمين، كسائر الأموال. 7 - وقال أيضًا: وإن قتله اثنان فأكثر، فسلبه غنيمة؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يشرك بين اثنين في سلب، ولأنَّه إنما يستحق بالتفرد في قتله، ولا يحصله بالاشتراك. 8 - صفة مقتل أبي جهل هو أنَّ شابين من الأنصار، هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، أخذا يتعرفان أبا جهل يوم بدر، ليقتلاه، فلما بصرا به، انطلقا إليه، فضربه معاذ، وبتر قدمه، فسقط يختبط في دمه، ثم ضربه معوذ، فأوجعه طعنًا، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، ثم نظر في سيفيهما، فقال: "كلاكما قتله" ولكنه قضى بالسلب لمعاذ. وقال بعض العلماء: لأنَّ ضربته هي القاضية، ثم مرَّ بأبي جهل عبدُ الله بن مسعود، فوجده في آخر رمق، فاحتزَّ رأسه، وجاء به إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه قال: هذا فرعون هذه الأمة، وقضى بسيفه لابن مسعود، رضي الله عنه. ***

1116 - وَعَنْ مَكْحُولٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَصَبَ المَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "المَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1)، وَوَصَلَهُ العُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رجاله ثقات. قال في "التلخيص": رواه أبو داود في المراسيل عن ثور عن مكحول: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَصَبَ علَى أَهْلِ الطائف المنجنيق". ورواه الترمذي معضلاً عن ثور، وروى أبو داود بسند صحيح عن الأوزاعي قال: قلتُ ليحيى بن أبي كثير، أبلغك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رماهم بالمنجنيق، فأنكر ذلك، وقال: ما يعرف هذا. وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن سنان؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- حاصر أهل الطائف خمسة وعشرين يومًا. وأما حديث علي: ففيه عبد الله بن خراش، وهو منكر الحديث. * مفردات الحديث: - نصب: يقال: نصب الشيء ينصبه نصبًا: رفعه ووجهه. - المنجنيق: جمعه: مجانق، ومجانيق، ومنجنيقات. وهو آلة للحرب تقذف بها الحجارة على الحصون، فتهدمها، رمى به النبي ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل (335). (¬2) العقيلي (2/ 244).

-صلى الله عليه وسلم- الطائف حين حصاره، والذي أشار به سلمان الفارسي، كما أشار بالخندق في غزوة الأحزاب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّه عند الحاجة يجوز رمي الكفار بما يعم إتلاف ذريتهم، ونسائهم معهم، كأن يُبيَّتون وهم غارون، أو يتترس مقاتلتهم بأطفالهم، ونسائهم. 2 - وفي هذا الحديث أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رمى أهل الطائف بالمنجنيق، ومثله بالجواز غيره من المدافع، والصواريخ وغيرها. 3 - ومثل هذا الحديث تؤخذ القاعدة الشرعية: "ارتكاب أخف المفسدتين" فإنَّ قتل النساء، والأطفال ونحوهم مفسدة، وتعطيل الجهاد في سبيل الله مفسدة أكبر منه، فارتكبت الخفيفة منهما. 4 - أما قصد من لا يقاتل: من النساء، والصبيان، والشيوخ، والمسنين، وأصحاب الصوامع، والأديرة، ونحوهم بالقتل -فلا يجوز، ما لم يكن لهم في الهيجاء غناء، أو منفعة برأي وتدبير، أو يكون منهم من ارتكب جريمة قتل، مثل ما أقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل دريد بن الصمة يوم حنين؛ لأنَّه يدبر برأيه، وكما قُتلت المرأة القرظية؛ لأنَّها قتَلتْ أحد الصحابة. ***

1117 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ! فَقَالَ: اقْتُلُوه". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المِغْفَر: -بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، ففاء، بوزن "مِنْبَر"- نوع من الدروع، ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة، للوقاية من السلاح. - ابن خطل: بفتحتين اسمه: عبد الله بن خطل، أسلم ثم ارتد، ولحق بمشركي مكة، فكان له قينتان يأمرهما بالغناء بهجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان يوم فتح مكة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اقتلوه، ولو وجدتموه متعلقًا بأستار الكعبة، فقُتِل". - أستار الكعبة: جمع "سترة"؛ أي: كسوتها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ مكة -شرَّفها الله- فتحت عنوة، لا صلحًا، كما هو الراجح من قولي العلماء. 2 - مشروعية أخذ الأهبة، والحذر من الأعداء، بأخذ الحيطة من الاعتداء، والتحصن من العدو، ووقوع الشر. 3 - أنَّ الاستعداد والحزم، والاحتياط من الشر لا ينافي التوكل على الله تعالى، فإنَّه أحد أسباب الوقاية المطلوبة عقلاً، وشرعًا. 4 - جواز دخول مكة -شرَّفها الله- بدون إحرام، لمن لم يقصد حجًّا، ولا عمرة. ¬

_ (¬1) البخاري (3044)، مسلم (1357).

5 - إباحة القتال بمكة تلك الساعات التي أحلَّت فيها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: لما فتح الله تعالى على رسوله مكة، قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إنَّ الله حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنَّها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلَّت لي ساعة من نهار، وإنَّها لن تحل لأحد بعدي". 6 - أنَّ الحرم لا يعيذ جانيًا، فمن وجب عليه حد من حدود الله تعالى -سواء كان جلدًا، أو حبسًا، أو قتلاً- أقيم عليه الحد، ولو كان في الحرم، فإنَّ ابن اخطل المرتد قُتل، وهو متعلق بأستار الكعبة بأمر من النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. 7 - تعظيم البيت الحرام عند الله تعالى، وعند رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي صدور الناس، فالكافر تعلق بأستاره، والصحابة هابوا قتله في هذه الحال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في وصيته عند دخول مكة: "اقتلوا ابن خطل، ولو وجدتموه متعلقًا بأستار الكعبة" فهذا منتهى الملجأ، ولكن لعلَّ الذين وجدوه، لم يسمعوا وصيته. 8 - تقديم المصالح العامة على المصلحة الخاصة، فهنا قدم الجهاد على النسك؛ لأنَّ مصالح الجهاد أعم، وأنفع. 9 - ابن خطل: اسمه: عبد الله بن خطل القرشي التيمي، أسلم فبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا، وبعث معه رجلاً من الأنصار، فقَتل الأنصاريَّ، ثم ارتد مشركًا، وكان له قنينان، تغنيان بهجو النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فأهدر -صلى الله عليه وسلم- دمه، فقُتل وهو متعلق بأستار الكعبة، لعنه الله تعالى. قال الخطابي: قَتْلُهُ بحق ما جناه في الإسلام، يدل على أنَّ الحرم لا يعصم من إقامة واجب. * خلاف العلماء: قال ابن القيم في "زاد المعاد": ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ مكة فتحت

عنوة، ولا يعرف في ذلك خلاف إلاَّ عند الشافعي، وأحمد في أحد قوليه. قال أصحاب الصلح: لو فتحت عنوة لقسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الغانمين، ولو فتحت عنوة، لملك المجاهدون رباعها، ودورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولجاز إخراجهم منها، فهذا منافٍ لأحكام فتح العنوة. قال أصحاب العنوة: لو كان صالحهم، لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره، وإغلاق بابه، وإلقائه سلاحه فائدةٌ، ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتَلَ منهم جماعة، ولم ينكر عليه. ولو فتحها صلحًا، لم يقل: "إنَّ الله أحلها لي ساعة من نهار"، فإنَّها إذا فتحت صلحًا، كانت باقية على حرمتها، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة. ولو فتحت صلحًا، لم يعبىء جيشه: خيالتهم ورجالتهم، ميمنة وميسرة، ومعهم السلاح. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين". واختلفوا في جواز إقامة الحدود فيها: فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه يستوفى فيها الحدود، والقصاص؛ لعموم الأدلة، ولأنَّ حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، ولأنَّ الحد فيما دون النفس جار مجرى التأديب، فلا يمنع فيه. وذهب أبو حنيفة إلى: أنَّه لا يستوفى فيها حدود القصاص؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. ***

1118 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلاَثَةً صَبْرًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "المَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. ورجاله ثقات. قال في "التلخيص": في "المراسيل" لأبي داود عن سعيد بن جبير: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبرًا: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط". وفي قوله: "والمطعم" تحريف، والصواب "طعيمة بن عدي"، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، ووصله الطبراني بذكر ابن عباس، وقال الحافظ: رجاله ثقات، ولم أقف على إسناده، ورويت قصة مقتل هدؤلاء الثلاثة صبرًا عن عدة طرق، وهي قصة مشهورة؛ لكن لا تخلو طرقها من إرسال، أو انقطاع، أو ضعف. أما الشيخ الألباني فيقول: وجملة القول "أني لم أجد لهذه القصة: -مقتل عقبة، والنضر- إسنادًا تقوم به الحجة، على شهرتها في كتب السيرة، وأما ما أخرجه أبو داود في عقبة خاصة، فيما رواه عمرو بن مرة عن إبراهيم قال: أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقًا، فقال له عمَّار بن عقبة بن أبي معيط: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان؟ فقال مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، كلما أراد قتل أبيك قال: من للصبية؟ قال: النار". قلت: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، فهم رجال الشيخين. اهـ. ¬

_ (¬1) أبو داود في المراسيل (337).

* مفردات الحديث: - الثلاثة: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، وقيل: ثالثهم: طعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، والحقيقة أنَّ طعيمة قتل في معركة بدر، وأنه لم يكن مع الأسرى. - صبرًا: -بفتح الصاد، وسكون الباء الموحدة، آخره راء-: هو كل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنَّه مقتول صبرًا. ***

1119 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَى رَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مُشْرِكٍ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (¬1). 1120 - وَعنْ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى -لَتَرَكْتُهُمْ لَه". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديثين: - فدى: يقال: فداه من الأسر، يفديه فداءً: استنقذه بمالٍ، أو غيره، فهو فادٍ، وذاك مُفْدًى. - أسارى: جمع: "أسير"، ويجمع أيضًا على: "أسرى"، مثل: سكارى وسكرى، والأسير: هو من يشد بالقِدّ أو غيره، وسمي كل أخيذ: أسيرًا، وإن لم يشد بالقِدّ أو غيره. - المطعم بن عدي: بن نوفل بن عبد مناف، وهو أخو طعيمة السابق ذكره، وكان المطعم من رؤساء قريش، ولما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطائف دخل مكة بجواره، وحمايته، وهو أحد الخمسة الذين قاموا بنقض الصحيفة، وتوفي قبل بدر بنحو سبعة أشهر، وفي بعض الروايات أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لجبير: "لو كان الشيخ أبوك حيًّا، فأتانا فيهم، لشفعناه" يريد -صلى الله عليه وسلم- يكافئه على صنيعه الطيب. - النَّتْنَى: قال في "النهاية": النتنى: واحدهم "نتن"، كزمن وزمْنى، قال في ¬

_ (¬1) الترمذي (1568)، مسلم (1641). (¬2) البخاري (3139).

"الوسيط": نتن نتنًا: خبثت رائحته. وسمَّاهم نتنا؛ لكفرهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. ووصفهم بالنتن؛ لخبث عقائدهم، فالنتن يشمل النجاسة المادية، والنجاسة المعنوية العقائدية. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: - إذا أسر المسلمون مقاتلة عدوهم، خيِّر الأمير فيهم بين أربعة أمور: إما قتلهم، أو استرقاقهم، أو إطلاقهم بفداء يسلمونه، أو فداء أسير منهم بأسير مسلم، أو المن عليهم بالإطلاق، بلا فداء، وبلا أسير. وهو تخيّر مصلحةٍ، لا تخيّر شهوةٍ. قال في "شرح الإقناع": ويخير الأمير تخير مصلحةٍ، واجتهاد في الأصلح في الأسرى الأحرار المقاتلين بين: قتل؛ لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل رجال بني قريظة. أو استرقاق؛ لما في الصحيحين أنَّ سبية من بني تميم عند عائشة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعتقها؛ فإنَّها من ولد إسماعيل". أو منّ؛ لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} [محمد: 4]، ولأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- منَّ على أبي عزة الجمحي يوم بدر، وعلى أبي العاص بن الربيع، وعلى ثمامة بن أثال. أو فداء بمسلم؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، ولما روى أحمد والترمذي من حديث عمران بن حصين: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل". أو فداء بمال؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فادى أهل بدر بالمال. فما فعله الأمير من هذه الأمور الأربعة تعين، ولم يكن لأحد نقضه،

ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين؛ لأنَّه يتصرَّف لهم على سبيل النظر، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ؛ لأنَّ كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى. 2 - أنَّ المُطعِم هو أحد الرجال الخمسة الذين قاموا بنقض الصحيفة التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم، إن لم يسلموا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يقتلوه، وقد توفي المطعم بن عدي قبل بدر بأشهر. 3 - أما الحديث رقم (1118): فيدل على جواز قتل الأسير الكافر، إذا كان في قتله جلب مصلحة للمسلمين، أو دفع مضرة عنهم، والثلاثة الذين قتلوا من أسرى بدر هم: طعيمة بن عدي من بني نوفل بن عبد مناف. النضر بن الحارث من بني عبد الدار. عقبة بن أبي معيط من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. والسبب في صبرهم وقتلهم-: أنَّ لهم سوابق في الشر كثيرة كبيرة معروفة في كتب التاريخ والسيرة مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مع أتباعه بمكة. 4 - قال الألباني: "وجملة القول أني لم أجد لهذه القصة "مقتل الثلاثة" إسنادًا تقوم به الحجة على شهرتها في كتب السيرة. نعم وجدت لقصة عقبة خاصة أصلاً فيما أخرجه أبو داود والبيهقي أنَّ الضحاك بن قيس استعمل مسروقًا، فقال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان؟ فقال له مسروق: حدَّثنا عبد الله بن مسعود، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما أراد قتل أبيك، قال: من للصِّبية؟ قال: "النار" وإسناده ورجاله كلهم رجال الشيخين. 5 - وأما الحديث رقم (1119): فيدل على جواز فداء أسرى المسلمين بأسرى المشركين، وتقدم ذكر الدليل.

6 - وأما الحديث رقم (1120): فيدل على جواز إطلاقهم، والمنّ عليهم بلا فداء: لا بمال، ولا بأسير. 7 - جواز مكافأة المشرك على إحسانه، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: لو كان المطعم بن عدي حيًّا، وكلَّمني في هؤلاء النتنى -لأطلقتهم له، كل هذا وفاء لجميله؛ ذلك أنَّ المطعِم له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يدان: أولاهما: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الطائف قبل الهجرة داعيًا أهلها، خاف من عدوان كفار مكة، فدخلها بجوار المُطعم بن عدي، الذي لبس السلاح هو وأبناؤه، وأبناء أخيه، فدخلوا معه المسجد الحرام، فقال أبو جهل: أمجير، أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، فلا يُخْفَر جوارك. الثانية: ما قام به مع أربعة من رجال قريش من نقض الصحيفة، التي كتبتها قريش في مقاطعة بني هاشم، وعلَّقوها بالكعبة. ***

1121 - وَعَنْ صَخْرِ بْنِ العَيْلَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ القَوْمَ إِذَا أسْلَمُوا، أَحْرَزُوا دمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، ورجاله موثوقون، وفي معناه ما جاء في الصحيحين من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلهَ إلاَّ الله، فَإذا قَالُوها، أَحرزوا مني دماءهم، وأموالهم". وقال ابن عدي: إسناد الحديث جيد. * مفردات الحديث: - أحرزوا: منعوا دماءهم بتحريم قتلهم واسترقاقهم لما أسلموا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في معنى هذا الحديث ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فمن قال لا إله إلاَّ الله، عصم مني ماله ونفسه، إلاَّ بحقها، وحسابه على الله عزَّ وجل". 2 - فحديث الباب وشواهده تدل على أنَّ من أسلم من الكفار، حرُم دمه وماله؛ لأنَّه أصبح في عداد المسلمين. 3 - ومفهوم الحديث، وشواهده تدل على أنَّ من أبى الإسلام، فإنَّه يجب قتاله حتى يسلم؛ تنفيذًا لأمر الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]. ¬

_ (¬1) أبو داود (3067).

أي: شرك، ويكون الدين لله، قاله ابن عباس وغيره. وهذا مما يؤيد القول الراجح؛ أنَّ قتال الكفار ليس هو مجرد دفاع، وإنما هو قتال لأجل سير الدعوة وإبلاغها، وإزاحة من يقوم في وجه تبليغها. 4 - قال ابن رجب: من المعلوم بالضرورة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إلله إلاَّ الله، لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه. 5 - قال ابن رجب أيضًا: وقد ظنَّ بعضهم أنَّ معنى الحديث: أنَّ الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، وفي هذا نظر. فإنَّ سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتال الكفار تدل على خلاف هذا، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دعا عليًّا يوم خيبر، فأعطاه الراية، وقال: "قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد عصموا منك دماءهم، وأموالهم إلاَّ بحقها، وحسابهم على الله عزَّ وجل". فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عصمة للنفوس والأموال إلاَّ بحقها، ومن حقها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة بعد الدخول في الإسلام، كما فهمه الصحابة، رضي الله عنهم. 6 - قال في "شرح الإقناع": وتوبة كل كافر موحدًا كان كاليهودي، أو غير موحد كالنصراني، وعبدة الأوثان -إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله كان مسلمًا، وإن لم يأت بلفظ: "أشهد". 7 - وقال الأستاذ محمد ياسين: الجهاد يعتبر الوسيلة العملية المشروعة؛ لتحقيق عقائد البشر، والعدل بين العباد، والقضاء على ظلم الطواغيت،

وإزاحتهم من مركز القوة، وطريق الدعوة، فمن الطبيعي إذن أن ينتهي القتال كلَّما وصل الدعاة إلى تحقيق الدعوة الإسلامية، فغاية القتال في الإسلام يدل بوضوح على وجوب كف القتال عن قوم يقبلون الدخول في الإسلام. 8 - وفي الحديث وأمثاله دلالة ظاهرة لمذهب المحققين، وجماهير السلف والخلف أنَّ الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا، كفاه ذلك عن تعلم أدلة المتكلمين، ومعرفة الله تعالى بها، خلافًا لمن أوجب ذلك، وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وهذا خطأ ظاهر، فإنَّ المراد: التصديق الجازم، وقد حصل، ولأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اكتفى بالتصديق بما جاء به، ولم يشترط المعرفة بالدليل. وقد تظاهرت بهذا الأحاديث التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، والله أعلم. ***

1122 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَجٌ، فَتَحَرَّجُوا، فَأَنْزلَ اللهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ...} الآية". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سبايا: جمع "سبية"، قال في "النهاية": السبية المرأة المنهوبة، جمعها "سبايا". - أوطاس: تقدم تفصيل الكلام فيها، وهو موضع بين مكة والطائف، صار فيه معركة بين المسلمين، والكفار من قبيلة هوازن، في شوال سنة ثمان من الهجرة، وهي امتداد لمعركة حنين. - فتحرَّجوا: خافوا أن يقعوا في الحرج، وهو الذنب والإثم. - المُحصنات: من حصن المكان حصانة، فهو حصين، فالمادة تدور على الحصانة والحفظ، قال الراغب في: "مفردات القرآن": والحَصَان في الجملة إما بصفتها، أو تزوجها، أو بمانع من شرفها، وحديثها. اهـ. فالمحصنات جاءت في القرآن على أربعة معان: العفيفات، والمسلمات، والحرائر، والمتزوجات، والأخير هو المراد هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا استولى المسلمون بالجهاد على نساء الكفار وذريتهم، فإنَّهم صاروا أرقَّاء بمجرد السبي. ¬

_ (¬1) مسلم (1456).

قال في "شرح الإقناع ": وإن سبيت المرأة وحدها -دون زوجها- انفسخ نكاحها، وحلَّت لسابيها؛ لحديث أبي سعيد الخدري. 2 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ومن المحرَّمات في النكاح: "المحصنات من النساء" أي: ذوات الأزواج {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فإنَّه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؛ أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج، حلَّت للمسلمين، بعد أن تُستبرأ. 3 - الحديث دليل على انفساخ نكاح المسبية وجواز وطئها، ولو قبل إسلامها؛ سواء كانت كتابية أو وثنية، فإنَّ الآية عامة، فإنَّه لا يعلم أنَّه -صلى الله عليه وسلم- عرض على السبايا الإسلام، ولا نهى سابيها عن وطئها قبل إسلامها، وهو مذهب جمهور العلماء. 4 - أما المشهور من مذهب الإمام أحمد: فقال في "المقنع": ومن حرُمَ نكاحها، حرم وطؤها بملك اليمين. قال في "الإنصاف": هذا المذهب، وعليه الأصحاب. واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء إماء غير أهل الكتاب. قال ابن القيم في "الهدي": "بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشًا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا، فكأنَّ الصحابة تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عزَّ وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ} [النساء: 24]، أي: لكم حلال إذا انقضت عدَّتهن" [رواه مسلم]. فتضمن هذا الحكم إباحة وطء المسبية، وإن كان لها زوج من الكفار، وهذا يدل على انفساخ نكاحه، وزوال عصمته بغُنم امرأته، وهذا هو الصواب. ودلَّ هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين،

فإنَّ سبايا أوطاس لم يكنَّ كتابيات، ولم يشترط -صلى الله عليه وسلم- في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع إلاَّ الاستبراء فقط. 5 - القصد أنَّه لا يحل وطؤها إذا كانت حاملاً حتى تضع، ولا غير ذات الحمل حتى تسْتبرىء بحيضة؛ وذلك لما روي أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال في سبي أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". ***

1123 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّةً -وَأَنَا فِيهِمْ- قِبلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نجد: -بفتح النون، وسكون الجيم، آخره دال- هي لغةً: المكان المرتفع، وهي قلب الجزيرة العربية، ذلك أنَّ حدودها ما يلي: غربًا: سفوح جبال السراة الشرقية. شرقًا: حدود بلدان الخليج، والإحساء. جنوبًا: الربع الخالي. شمالاً: مشارف بلدان الشام. - سُهْمَانُهُم: -بضم السين- جمع "سهم"؛ هي نصيبهم من الغنيمة. - نُفِّلوا: بتشديد الفاء، ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل، وهي المفعول الأول. - بعيرًا بعيرًا: "بعيرًا" الأول مفعول ثانٍ، منصوب، و"بعيرًا"، الثاني مفعول ثانٍ منصوب لفعل محذوف تقديره: نفل كل واحد بعيرًا. والتنفيل: هي زيادة يزادها الغازي على نصيبه من المغنم. ... ¬

_ (¬1) البخاري (3134)، مسلم (1749).

1124 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يوْمَ خَيْبرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا" مُتَّفَقٌ عَليْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبخَارِيِّ، وَلأبِي دَاوُدَ: "أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أبي داود جاءت من طريق ابن معاوية، وسفيان الثوري عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، فسندها صحيح؛ لأنَّه على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - الفَرس: بفتحتين، واحد الخيل، يطلق على الذكر والأنثى، جمعه أفراس وفروس. - الرَّاجِل: هو الماشي على رجليه، خلاف الفارس، يجمع على رجال ورجالة. ... ¬

_ (¬1) البخاري (4228)، مسلم (1762)، أبو داود (2733).

1125 - وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ نَفَلَ إِلاَّ بَعْدَ الخُمُسِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال محرره: الحديث أخرجه أبو عبيد في الأموال، بقوله: حدَّثنا عفَّان عن أبي عوانة عن أبي الجورية عن معن بن يزيد أنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا نفل إلاَّ بعد الخُمُس" ثم ساق أبو عبيد الحديث من طريق أخرى إلى حبيب بن مسلمة يرفعه، كما ذكر أثرًا عن عمر بن الخطاب، ثم قال: وكذلك يروى عن التابعين. قال المؤلف: صحَّحه الطحاوي. اهـ. وقال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه أحمد، وأبو داود بإسنادٍ صحيح. * مفردات الحديث: - الخُمس: خُمسُ الغنيمة، يقسم إلى خمسة أسهم: 1 - سهم لله ورسوله، وهو للمصالح العامة. 2 - وسهم لذوي القربى. 3 - وسهم لليتامى. 4 - وسهم للمساكين. 5 - وسهم لابن السبيل. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 470)، أبو داود (2753)، الطحاوي (3/ 242).

1126 - وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَفَّلَ الرُّبعُ فِي البَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصحَّحه ابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم عن حبيب بن مسلمة، وله شواهد: 1 - حديث عبادة بن الصامت؛ وقد صحَّحه ابن حبان. 2 - حديث معن بن يزيد، رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الطحاوي. * مفردات الحديث: - البَدْأَة: -بفتح الباء، وسكون الدال المهملة، ثم ألف،. فهمزة، فتاء التأنيث -هي ابتداء السفر إلى العدو. - الرَّجعة: -بفتح الراء، وسكون الجيم المهملة- هي الرجوع، والإيقاع بالعدو مرَّة ثانية. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2750)، الجارود (1079)، ابن حبان (4815)، الحاكم (2/ 133).

1127 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الجَيْشِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - في الحديث رقم (1123) بيان مشروعية بعث السرايا إلى العدو , لاستنزاف قوته، وعدته، وإرهابه. 2 - أنَّ ما تغنمه السرايا المستقلة عن جيش من الكفار هو خاص لها، لا يشاركها المسلمون فيه، وإنما يؤخذ منه الخُمس الذي يصرف مصرف الفيء. 3 - أنَّ الغنيمة وإن كثرت تكون بين غزاة السرية بقدر سهمانهم، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه. 4 - إباحة تنفيل مقاتلة السرية زيادة على سهمانها، بما يراه الإمام؛ تقديرًا لجهادهم، وإخلاصهم، وتشجيعًا لهم، ولغيرهم على الجهاد. 5 - أما الحديث رقم (1124): فيدل على صفة قسمة الغنيمة بين أفراد الجيش المجاهد، فيعطي الراجلَ سهمًا واحدًا، ويعطي الفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه؛ تقديرًا لبلائه، وعنَائه في الحرب، فإنَّ الخيل لها دور كبير في الجهاد من الكر والفر، والهجوم على الأعداء، قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} [العاديات]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. ¬

_ (¬1) البخاري (3135)، مسلم (1750).

6 - وأما الحديث رقم (1126): فيدل على جواز تنفيل السرية التي تقطع من الجيش، فتغير على العدو، وتغنم منه، فيعطى أفرادها زيادة على سهمانهم، تقديرًا لأعمالهم، وما قاموا به من بلاء في الجهاد على بقية الغزاة، لكن إن كانت غارة السرية في ابتداء سفر الغزو، والمجاهدين، فتعطى ربع ما غنمت، وإن كانت غارة السرية بعد عودة المجاهدين، فتعطى ثلث ما غنمت. 7 - ووجه زيادة أفراد السرية في حالة القفول على حالة البدء، أنَّها في حالة القفول قد فقدت السند الذي تتقوى به، والجيش الذي تأوي إليه، والفئة التي تنحاز إليها، بخلاف حال البدء، فإنَّ الجيش يسندها، ويقويها، ويؤمها، كما أنَّ الغزو في حالة القفول في حال شوق ورغبة إلى أهله ووطنه، ومتشوف لسرعة الأوبة، لهذا -والله أعلم- استحقت السرية زيادة التنفيل في حالة الرجعة. 8 - وفي الحديث ما يدل على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يزيد عن الثلث في التنفيل. 9 - وصفة التنفيل: أنَّ السرية التي تنهض في جملة العسكر، إذا أوقعت بالعدو، فما غنموا في البداءة، كان لهم فيه الربع، وما غنموا في القفول، كان لهم فيه الثلث، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة الأرباع، أو في الثلثين. 10 - أما الحديث رقم (1127): فيدل على أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينفل كل من يبعثه من السرايا، بل إن التنفيل، أمر راجع إلى اجتهاد الأمير ورأيه، فإن رأى مصلحة في التنفيل وتزويد السرية على الجيش زادها، وإن رأى المصلحة في تَرْكِهِ تَرَكَهُ. 11 - القاعدة أنَّ العبد إذا خيِّر بين شيئين فأكثر، فإن كان التخيير لمصلحته، فهو تخيير يرجع إلى شهوته واختياره، وإن كان لمصلحة الغير، فهو تخيير يلزمه فيه الاجتهاد، واختيار الأصلح، وتخيير الأمير هنا بين التنفيل، أو عدمه من النوع الأخير، الراجع إلى وجوب اختيار الأصلح.

1128 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كُنّاَ نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالعِنَبَ، فَنأْكُلُهُ، وَلاَ نَرْفَعَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَلأَبِي دَاوُدَ: "فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الخُمُسُ". وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). 1129 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الجَارُودِ، وَالحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: أما حديث ابن عمر: فرواية أبي داود صحيحة، فقد صححها كلٌّ من ابن حبَّان والبيهقي، وسكت عنها المنذري. وأمَّا حديث عبد الله بن أبي أوفى: فصحيح. قال في "التلخيص": رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي، وقال هنا: صحَّحه ابن الجارود، والحاكم، وللحديث شواهد كثيرة من نوعه: منها: ما رواه الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: "لم يُخَمَّس الطعام يوم خيبر". ومنها: ما رواه الطيالسي في مسنده بإسناد، صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن مغفل -رضِي الله عنه- قَال: أصبتُ جرابًا يوم خيبر من شحم، فالتفت، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستحييت منه، فقال: هو لك. ¬

_ (¬1) البخاري (3154)، أبو داود (2701)، ابن حبان (4805). (¬2) أبو داود (2704)، ابن الجارود (1072)، الحاكم (2/ 126).

1130 - وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر، فَلاَ يَرْكبُ دَابَّةً مِنْ فيْءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلاَ يَلْبَسُ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرِجَالُهُ لاَ بَأْسَ بِهِمْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال في "التلخيص": رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، وقال في "البلوغ": رجاله لا بأس بهم، وحسَّنه في "فتح الباري"، وللحديث ما يشهد له، ويقويه من تحريم الغلول من الغنيمة، كالحديث الذي أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبَا بَكر، وعمر حرَّقوا متاع الغال، ومنعوه أسهمه". * مفردات الحديث: - الفَيء: أصله: الرجوع، يقال: فاء الظل: إذا رجع نحو المشرق، وسمي المال المأخوذ من الكفار بلا قتال: فيئًا؛ لأنَّه رجع من المشركين إلى المسلمين. - أعجفَهَا: بفتح الهمزة، وسكون العين المهملة، أهزلها وأضعفها، والعجفاء: الهزيلة، جمعها عِجاف وعجف. - أخْلقه: بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجمة، بمعنى: أبلاه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2159)، الدارمي (2/ 230).

* ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - الحديثان رقم (1128 و1129) يدلان على أنَّ لأفراد الجيش، أو السرية أخذ الأشياء المستهلكة من القوت، والفاكهة، وما يصلح القوت، وكذلك علف الدواب ونحو ذلك من الأشياء التي جرت العادة بالسماحة بها، وجواز الانتفاع بها، دون استئذان الأمير. 2 - ويدل الحديثان أيضًا على أنَّ أخذ هذه الأشياء ليس من الغلول المحرَّم المنهي عنه. 3 - أما الحديث رقم (1130): فيفيد تحريم أخذ الأشياء التي من أعيان الغنيمة، وما سيقسم بين الغانمين، ولو كان ذلك على وجه الاستعمال، ثم يرده إلى الغنيمة. وذلك مثل أخذ دابة. من الغنيمة، أو من الفيء، فيستغلها، ثم يعيدها، أو يأخذ ثوبًا، أو فراشًا من الفيء، أو الغنيمة: فيستعمله، ثم يرده في الغنيمة، فهذا لا يجوز؛ لأنَّه من أنواع الغلول، فهو اغتصاب لمنافع مشتركة. 4 - ولعلَّ إعجاف الدابة، وإهزالها، وإبلاء الثوب، وتمزيقه غير مراد، وإنما جاء الأسلوب هكذا؛ لتشويه الغال ما يستعمله من أعيان الغنيمة، أو الفيء بغير حق. 5 - ولا تحصل البراءة من تبعتها في الدنيا والآخرة إلاَّ بردها في الغنيمة، فإن لم يمكن، صرَفَها في مصالح المسلمين. قال شيخ الإسلام: وإن بقيت بيد تائب غصوب لا يعرف أربابها، صَرَفَها في مصالح المسلمين، وكذا حكم الرهون، والودائع، وسائر الأمانات. ***

باب الأمان

باب الأمان مقدمة الأمان: مصدر: أمن أمنًا وأمانًا، وهو ضد الخوف. والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. وما جاء في الصحيحين من أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "ذِمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم". ويشترط لعقد الأمان ثلاثة شروط: الأول: أن يكون عقده من مسلم، عاقل، مختار، ولو امرأة؛ لما روى البخاري من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء". الثاني: ألا يكون في عقده ضرر على المسلمين، فإنَّ الغرض من عقده مراعاة المصلحة. الثالث: ألا تزيد مدته على عشر سنين. قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الإمام يجوز له مهادنة المشركين عشر سنين فما دونها، واختار الشيخ، وابن القيم: أنَّها تجوز ما شاء المسلمون بلا تحديد مدة. قال ابن القيم: يجوز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، ويجوز فوقها للحاجة، والمصلحة الراجحة، كما إذا كان في المسلمين ضعف، وعدوهم أقوى منهم، وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للمسلمين،

والإسلام. والأمان مراتب: فيصح من الإمام لجميع المشركين؛ لأنَّ ولايته عامة، ويصح من أمير لأهل بلدةٍ، وقبيلةٍ وَلِيَ قتالهم؛ لأنَّ ولاية قتلهم جُعلت له، ويصح من أحد أفراد الرعية، ولو امرأة لواحدٍ، وعشرةٍ، وقافلةٍ صغيرةٍ، وحصنٍ صغيرٍ، ولا يجوز للإمام نقض أمان مسلم، حيث صحَّ وقوعه لازمًا، إلاَّ أن يخاف خيانة من أُعطيه، ويحرم بالأمان قتل المؤمَّن، وأسره، واسترقاقه. ويقيم المؤمَّنون مدَّة الأمان في ديارنا بغير جزية؛ لأنَّ لهم المقام فيها من غير التزام بها. ***

1131 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). وَلِلطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ: "يُجِيْرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ" (¬2). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ: "ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ". زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: "وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ" (¬3). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِىءٍ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ" (¬4). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الروايات بيَّن الحافظ درجتها، وهي في معنى ما ورد في الصحيح، وللحديث شواهد. * مفردات الحديث: - يُجير على المسلمين: من: الإجارة، وهي إعطاء الأمان، أي: يؤمّن، ويحمى، ويمنع على المسلمين أدناهم. ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (6/ 509)، أحمد (1/ 195). (¬2) أحمد (4/ 197). (¬3) البخاري (6755)، مسلم (1370)، ابن ماجه (2685). (¬4) البخاري (3171)، مسلم (336).

- أدناهم: أقلهم عددًا، وهو الواحد، وأقلهم شأنًا، وهم ضعاف السوقة من امرأة وأجير. - ذِمةُ المسلمين: العهد، والأمان، والكفالة، سميت بذلك؛ لأنَّ نقضها يوجب الذم. - أقصاهم: أبعدهم من حيث اعتبار أحوال الحياة الدنيا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم في المقدمة أنَّ الأمان الخاص للفرد، والعشيرة، أو القافلة، أو الحصن الصغير، يصح من أحد أفراد الرعية. 2 - فالحديث هنا يفيد أنَّه يجوز لبعض المسلمين أن يعطي أمانًا للكفار، ويكون أمانه نافذًا مقبولاً عند جميع المسلمين، فيحرم خفر ذمته، ورد أمانه. 3 - يفيد جواز الأمان ونفوذه؛ سواء كان عامًّا من إمام، أو خاصًّا من أمير، أو من أحد أفراد الرعية، إلاَّ أن يكون فيه ضرر على المسلمين، فإن كان فيه ضرر فلا يصح عقده؛ لأنَّه الواجب مراعاة مصلحة المسلمين. 4 - وتفيد طرق هذا الحديث جواز عقد الأمان من الفرد المسلم؛ سواء كان ذكرًا، أو أنثى، حرًّا كان أو عبدًا، وهذا مذهب جمهور العلماء. 5 - يوجد خلاف بين الفقهاء في جواز نفوذ أمان المرأة، والعبد والصبي المراهق، ومذهب الجمهور جوازه ونفوذه؛ لعموم الأحاديث الصحيحة في ذلك، التي جاء فيها: "يسعى بها أدناهم". 6 - ومن طلب الأمان؛ ليسمع كلام الله تعالى، ويعرف شرائع الإسلام -لزمت إجابته، ثم يرد إلى مأمَنه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. قال الأوزاعي: حكم هذه الآية إلى يوم القيامة. 7 - جاء في إحدى الروايات: "المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم

أدناهم". قال القاضي: كان أهل الجاهلية يتعاهدون، فيقول الرجل للرجل: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتُطلب بي، وأُطلب بك، وتعقل عني، وأعقل عنك، فيعدون الحليف من القوم الذين دخل في حلفهم، ويقررون له، وعليه بمقتضى الحلف، والمعاقدة غُنمًا، وغرمًا. فلما جاء الإسلام، أقرَّهم على ما في ذلك من حقن الدماء، والنصر على الأعداء، وحفظ العهود، والتآلف بين الناس، وألغى ما يتعارض مع أحكام الإسلام: من الثورات، وتحمل عقل الجنايات، وتحمل النفقات، المبينة بالنصوص الدالة على اختصاص ذلك بأشخاص، وجهات مخصوصة معيَّنة، وبأسباب خاصة معلومة. ***

1132 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لأَخْرِجَنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ العَرَب، حَتَّى لاَ أدَعَ إِلاَّ مُسْلِمًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - مجاورة الكفار، ومعاشرتهم شرٌّ، وتجر إلى شرور كبيرة، من خشية التشبه بهم، واستحسان عقائدهم، والرغبة في تقليدهم، من بسطاء المسلمين، وقليلي الإدراك منهم. 2 - فيجب تميز المسلمين، واستقلالهم في بلادهم، وبُعدهم عن مخالطة غيرهم، ممن يخالفهم في العقيدة. 3 - لذا يجب إخراج اليهود، والنصارى، والمجوس، وسائر أصحاب الملل من الكفار من جزيرة العرب. 4 - ومن هذا نعلم الخطأ الذي وقع فيه كثير من المسلمين من جلبهم السائقين، والخدم في البيوت من غير المسلمين، اللاتي يربين أولادهم، ويسكن دارهم، ويعاشرنهم، فهذا خطأ كبير، وعواقبه وخيمة، ولو كانت هذه المعاملة معهم غير محرَّمة، لكنها مخوفة، والخوف من هذه الخلطة، والملازمة، والعِشرة لا ينافي ما سيأتي في الفقرة (6). 5 - جزيرة العرب خاصة بهم، والعرب هم أصحاب الرسالة المحمَّدية، وبلادهم هي مهبط الوحي، فلا يصح بحال من الأحوال أن يقيم فيها غير المسلمين. ¬

_ (¬1) مسلم (1767).

6 - يجوز إقامتهم في جزيرة العرب، وديار المسلمين إقامة عمل، لا إقامة استيطان؛ كأصحاب السفارات، والشركات، والعمَّال، والتجَّار، والسوَّاح. 7 - أجمع العلماء على منع الكافرين من دخول حرم مكة المشرفة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في دخول الكفار المساجد: فذهب الإمامان: مالك، وأحمد، إلا أنَّه لا يجوز دخولهم؛ لأنَّ حدث الجنابة، والحيض يمنع، فالشرك أولى. قال في "كشاف القناع": وليس لهم دخول مساجد الحل، ولو بإذن مسلم؛ لأنَّ حدث الحيض يمنع، فالشرك أولى، ويجوز دخولها للذمي، إذا استؤجر لعمارتها، لأنَّه نوع مصلحة، وصحح في "الشرح الكبير"، وغيره أنَّه لا يجوز إلاَّ بإذن مسلم؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- قدم عليه وفد الطائف، فأنزلهم في المسجد قبل إسلامهم، وأجيب عنه، وعن نظائره بأنَّه كان بالمسلمين حاجة إليه. ***

1133 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَتْ أَمْوَالُ بنَي النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوْجِفْ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ، وَلاَ رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلاَح؛ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بني النضير: بنو النضير: قبيلة من اليهود، كانت تقيم في قريتها قرب المدينة المنوَّرة، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة صالحهم، فنقضوا العهد، وغدورا به، فهمُّوا باغتياله، فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم- على أن يجلوا عن المدينة، ويحقنون دماءهم، أمّ أموالهم فصارت فيئًا. - أفاء: يفيء، من باب أفعل يفعل، من: الفيء، وأصله: الرجوع، يقال: فاء يفيء فيئة وفيئًا، وهو ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب، ولا جهاد، ويسمى: فيئًا، كأنَّه كان في الأصل لهم، فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي بعد الزوال: فيء؛ لأنَّه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق. - لم يُوجف عليه المسلمون: الإيجاف هو: الإسراع، يقال: أوجف فلان دابته: حثَّها على السير. - خيل: هي جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه. - رِكَاب: -بكسر الراء، وفتح الكاف، ثم ألف، بعدها باء موحدة- هي الإبل ¬

_ (¬1) البخاري (2904)، مسلم (1757).

التي تركب للجهاد، ولغيره من مصالح الدين والدنيا. - الكُراع: -بضم الكاف، وفتح الراء، ثم ألف، آخره عين مهملة بزنة غُراب- هو اسم للخيل، والسلاح. - عُدَّة: -بضم العين، وتشديد الدال-: ما يعد من مالٍ، وسلاحٍ، أو غير ذلك للحرب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم أنَّ بني النضير هي إحدى قبائل اليهود المقيمة حول المدينة، وأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عاهدهم على ألا يكونوا معه، ولا عليه، ثم إنَّهم نكثوا العهد، وغدروا، فأرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ديارهم، وانتهى الصلح معهم بأن يخرجوا من ديارهم، وليس معهم إلاَّ ما حملته الإبل من متاعهم إلاَّ السلاح، وما بقي من أموالهم فهو فيء. 2 - كانت أموال بني النضير بالصلح من الفيء الذي يصرف في مصالح المسلمين، وليس من الغنيمة، التي تقسم بعد أخذ الخُمس منها على المجاهدين. 3 - قال تعالى في أموال بني نضير: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحشر]. وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. 4 - الفيء هو: ما أخذ من مال كافر بحق بغير قتال، فالمال الذي يتركونه فزعًا منَّا، أو بذلوه خوفًا منا، وخمس خُمس الغنيمة، والجزية، والخراج، ونحو ذلك، فهذا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، نفقته منه، ونفقة أهله مدة سنة، أما بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فيبقى لأقاربه، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، ولمصالح المسلمين، الأهم

فالأهم، والاستعداد للأعداء بالسلاح، والعُدَّة عليها من أهم الأمور. ومثل ذلك نشر الدعوة الإسلامية، وبث الرسالة المحمَّدية، والرد على الملاحدة، من الشيوعيين، والمنصرين، والماسونيين، وجميع أعداء الدين. وذلك بإعداد الدعاة على مستوى كبير، ونشر الكتب، وتأليفها، وتنشيط وسائل الإعلام، لمكافحتها، ومحاربتها. ثم تأتي بعد ذلك مصالح المسلمين في الطرق، والجسور، والمدارس، والمساكن العامة، وإنشاء المرافق العامة، التي تخدم مصالح المسلمين، والبحث عن المحتاجين من المسلمين، وإعطائهم كفايتهم. وأن يراعى في هذا التوزيع كله المصالح العامة، وما ينفع المسلمين في أمر دينهم، وديناهم. 5 - قال شيخ الإسلام في الكلام على الفيء: يبدأ بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، ولا يجوز لولي الأمر أن يعطي أحدًا ما لا يستحقه؛ لهوى في نفسه: من قرابةٍ، أو مودةٍ، أو نحو ذلك، وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنَّما هم أمَنَاء، ونواب، ووكلاء. ونصَّ العلماء: أنَّه يجب أن يقدم في مال الفيء أهل المنفعة العامة، وإذا كان العطاء لمنفعة المسلمين، لم ينظر إلى الآخذ هل هو صالح النية، أو فاسدها؟ وإنما العطاء بحسب مصلحة دين الله تعالى. قال رحمه الله: ولا ريبَ أنَّ السَّعي في تمييز الحق من غيره، والعدل بين الناس بحسب الإمكان من أفضل أعمال ولاة الأمور، بل ومن أوجبها عليهم. ***

1134 - وَعنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْبرَ، فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا، فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- طَائِفَةً، وَجَعَلَ بقِيَّتَهَا فِي المَغْنَمِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ لاَ بَأسَ بِهِمْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: رجاله لا بأس بهم اهـ. وقال ابن عبد الهادي: رجاله ثقات، قاله ابن القطان. * مفردات الحديث: - غنمًا: الغنم بفتحتين: اسم جنس، لا واحد له من لفظه، يطلق على الضأن والمعز، وقد يجمع على: أغنام وغنوم. - طائفة: هي الفرقة من الناس، والقطعة من الشيء، وهو المراد هنا. - المغنم: يقال: غنم يغنم غنيمة، جمعها: غنائم، ويقال: مغنم، فجمعها: مغانم. قال أبو عبيد: الغنيمة: ما نيل من أهل الشرك عنوة، والحرب قائمة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على جواز تنفيل أمير الغزو بعض المجاهدين بشيء من الغنيمة، ثم رد الباقي في الغنيمة على عامة أفراد الجيش. 2 - والتنفيل راجع إلى اجتهاد الأمير، فإن رأى فيه مصلحة نفّل، وإن لم ير مصلحة لم ينفل، لأنَّ هذا تخصيص لبعض الجيش على بعضهم الآخر، ¬

_ (¬1) أبو داود (2707).

وهو يرجع إلى المصلحة العامة، التي تنفع المسلمين، وتخدم مصالحهم. 3 - وتقدم، في التنفيل وأحكامه، وأقسامه، وأصحابه، ولو قدَّم المؤلف هذا الحديث مع نظائره، لكان أولى. ***

1135 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالعَهْدِ، وَلاَ أَحْبسُ الرُّسُلَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صححه ابن حبان، وقال: رجاله ثقات، وصححه السيوطي في الجامع الصغير. قال المؤلف: رواه أبو داود، والنسائي، وصحَّحه ابن حبان. قال محرره: وسكت عنه أبو داود، والمنذرىِ، وقال أبو داود: هذا كان في ذلك الزمان، فأما اليوم فلا يصلح. وصححه إسناده الشيخ شعيب أرناؤوط في تعليقه على كتاب: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان". * مفردات الحديث: - أخيس بالعهد: بفتح الهمزة، ثم خاء معجمة، فمثناة تحتية، فسين مهملة، يقال: خاس بالعهد يخيس خيسًا وخيسانًا: غدر ونكث، ومعناه: لا أنقض العهد، ولا أخونه. - ولا أحبس الرسل: الحبس هو: الإمساك والمنع، والرسل مفرده: "رسول"، وهو المرسَل الذي يبعث في حاجة، والرسل هنا: المراد بهم السفراء الذين يتوسطون في أداء الرسالات بين زعماء الدول في شؤون الدولة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2758)، النسائي في الكبرى (5/ 205)، ابن حبان (1630).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدم لنا أنَّ الأمان إذا عُقد، فإنه يلزم؛ سواء كان من الإمام، أو ممن هو دونه، كل على حسب اختصاصه، فلا يجوز نقضه ما لم يُخف منهم خيانة، ولا يجوز قتل المؤمَّن، ولا أسره، ولا استرقاقه، فإنَّ عهد الأمان جعل له حصانة. 2 - وتقدم أنَّه بالعهد يكون الأمان لكل من الطرفين، فكل يأتي إلى ديار الطرف الآخر آمنًا مطمئنًا بعهده؛ فقد جاء في البخاري من حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتَل معاهدًا، لم يرح رائحة الجنة". 3 - أما الرسل الذين يكونون وسطاء بين المسلمين، وأعدائهم، في حمل الرسائل، ورد جوابها، وللتفاهم والتفاوض على ما يريدون، من أمور تتعلَّق بالعلاقات بينهم، من صلح، وحرب، وغيرهما، فيحرم قتلهم. 4 - أنَّ قتل الرسل عين المفسدة؛ لأنَّ ذلك يسبب قطع الاتصالات الدولية، وعرقلة مساعي التفاوض، والتفاهم بين الدول والحكومات. 5 - السفارات في البلدان الأجنبية هي الوسيط بين الدولة صاحبة السفارة، وبين الدولة التي اعتمدتها سفارة في بلادها. 6 - أصبح الآن بين الدول علاقات سياسية، وثقافية، واقتصادية، وشؤون رعايا، والذي يتولى تنظيم، وترتيب اللقاءات لها، والقيام بها هي السفارات، والقنصليات. ولذا فإنَّ الدولة المعتمدة بها في بلادها تجعل لها، ولأفرادها حصانة خاصة، فتحرص على أمنها واستقرارها؛ لأنَّ هذا مما يهم الدولتين، فإنَّ الأعراف الدولية جعلت لها من الحماية، والحصانة ما يكفل لها أداء مهمتها. 7 - وهذه النظم، والأمن المتبادل هو مأخوذ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أخيس بالعهد، ولا أحبس الرسل".

1136 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَيُّمَا قَرْيةٍ أَتَيْتُمُوهَا، فَأَقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيةٍ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإنَّ خُمُسَهَا للهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أيما: "أي" اسم موصول، ويكون بلفظ واحد للذكر، والأنثى، والمفرد، والمثنى، والجمع، وتستعمل للعاقل وغيره، وهي معربة بالحركات الثلاث، و"ما" زائدة. - فأقمتم: أي: حاصرتموها، فهربوا بدون قتال، فهذه لها حكم الفيء، أما القرية التي عصت، وقام بينكم وبينها قتال، واستوليتم عليها، فلها حكم الغنيمة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث يبيِّن الفرق بين الأموال، التي تؤخذ من الكفار بحق، فنوع يؤخذ بلا قتال فهذا فيء، ونوع يؤخذ بقتال فهذا غنيمة، ولكل منهما حكمه. 2 - فما أخذه المسلمون من مال الكفار بحق، ولكن بغير قتال، وإنما تركوه فزعًا منا، وكذا الجزية، والخراج، ومال المرتد إذا مات على ردته بقتل أو غيره، فهذا فيء يصرف في مصالح المسلمين العامة، ومرافقهم النافعة، ومِن أهمها الجهاد في سبيل الله بالسلاح، أو بالدعوة إلى الله. ¬

_ (¬1) مسلم (1756).

3 - وما أخذه المسلمون من أموال الكفار بحق، وحصل منهم قهرًا بقتال، فهذا غنيمة، يقسمها الأمير خمسة أقسام، قسم منها يكون تابعًا للفيء، فيكون مصرفه على الصالح العالم للمسلمين، والأربعة الأخماس الباقية تقسم بين الغانمين: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه. 4 - الأصل في الفيء: قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. 5 - الأصل في فرض الخمس: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي} [الأنفال: 41] يعني والباقي للغانمين. والأصل في الغنيمة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، وقد صحَّ واشتهر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قسم الغنائم بين الغانمين، فقد روى أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه"، وأما رواية الصحيحين فإنَّه: "أسهم للفرس سهمين، وللراجل سهمًا". 6 - فهذا الحديث يبين أنَّ القرية، أو القبيلة التي يقيم عليها المسلمون، ويحاصرونها، ولكنه لم يحصل بينهم، وبين أهل قتال، وإنما الله تعالى بقوته، وعزَّته قذف في قلوبهم الرعب، فهربوا عنها، فهذه أموالها فيء، يعود إلى مصالح المسلمين العامة، وأما القرية، أو القبيلة التي عصت الرسول، ثم قام بينهم وبين أهلها قتال، واستولوا على أموالهم فهي غنيمة، تقسم بين الغانمين، وما ضرب عليها من خراج يلحق بالفيء، فيصرف مصرفه. ***

باب الجزية

باب الجِزية مقدمة الجِزية: مأخوذة من: الجزاء بمعنى: القضاء، أو من: المجازاة بمعنى: المكافأة؛ لأنَّهم يجزوننا عن إحساننا إليهم بها. وشرعًا: مال يؤخذ من أهل الكتاب كل عام، مجازاة عن إقامتهم بدار المسلمين، وحقْن دمائهم، وحمايتهم ممن يعتدي عليهم. ولا تؤخذ إلاَّ من أهل الكتابين: التوارة والإنجيل، وهما اليهود والنصارى، ومَن وافقهما في التدين بهذين الكتابين. وألحق بهما العلماء المجوس؛ لأنَّ لهم شبهة كتاب، فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخَذَ الجزية من مجوس هجر". وروى الشافعي أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب". أما من عدا هؤلاء، فلا تؤخذ منهم الجزية، ولا يقبل منهم إلاَّ الإسلام، أو القتل؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عمر، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرتُ أن أُقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله". قال في "شرح الإقناع": ولا جزية على من لا يجوز قتله إذا أسر، كامرأةٍ، وصغيرٍ، ومجنونٍ، وزمِنٍ، وأعمًى، وشيخٍ فانٍ، وراهب بصومعة؛ لأنَّ قتلهم ممتنع، والجزية بدل عن قتلهم. ولا تجب على فقير يعجز عنها، غير معتمل.

ومرجع تقدير الجزية إلى الإمام؛ لأنَّه يرجع فيها إلى اجتهاده. ومتى بذلوا الواجب عليهم من الجزية، لزم قبوله، ودفع من قصدهم بأذى في دارنا، ولو كانوا منفردين ببلد، وحرُم قتالهم، وأخذ مالهم؛ لأنَّ الله تعالى جعل عطاء الجزية غاية لقتالهم فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة]. ***

1137 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَخذَهَا -يَعْنِي: الجِزْيَةَ- مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَلَهُ طَرِيقٌ فِي "المُوطَّإ" فِيْهَا انْقِطَاعٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَجوس: واحدهم: "مجوسي"، منسوب إلى: المجوسية: ملة تطلق على أتباع الديانة الزرادشتية، وقد انقرضت، أو كادت تنقرض بعد استيلاء المسلمين على بلاد فارس. - هَجر: -بفتحتين-: هي ما يسمى الآن: الإحساء، وكانت تلك المقاطعة تسمى: البحرين، وعاصمتها هجر، والآن اقتصر اسم البحرين على تلك الجزر المعروفة، وهي المنامة، والمحرق، وتوابعهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الكفار نوعان: أحدهما: أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، فأصحاب هاتين الديانتين، يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا، عُرِض عليهم تسليم الجزية، فإن أبو، قوتلوا. الثاني: من عداهم من طوائف الكفار: من عبدة الأوثان، والدهريين، والهندوس، والبوذيين، وغيرهم ممن ليس يهوديًا، ولا نصرانيًا، فهؤلاء لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام، أو القتال. 2 - أما المجوس: فقد أُلحقوا بأهل الكتاب؛ لأنَّ لهم شبهة كتاب، قال الوزير، ¬

_ (¬1) البخاري (3157)، مالك (1/ 278).

وابن رشد وغيرهما: اتَّفق العلماء على أنَّ الجزية تُضرب على أهل الكتاب، والمجوس. 3 - ووجه إلحاق المجوس بأهل الكتاب حديث الباب، وما رواه الشافعي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب". * خلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن عدا أهل الكتاب، والمجوس: هل تؤخذ الجزية منهم، أم لا؟. فذهب الإمام أحمد إلى: أنَّها لا تؤخذ إلاَّ من أهل الكتاب، والمجوس. وذهب جمهور العلماء إلى: أنَّه يجوز مهادنة الكفار كلهم، وأخذ الجزية منهم، واختاره الشيخ تقي الدين، وابن القيم. قال الشيخ: إذا عرفت السنة تبين لك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يفرق بين عربي وغيره، وأنَّ أخذ الجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا، ولم يخص العرب بحكم في الدين. * فائدة: قال الشيخ عبد الله أبا بطين: الفرق بين المعاهد، والمستأمَن، والذمي: فالمعاهد هو من أُخذ عليه العهد من الكفار، والمستأمَن هو من دخل دارنا منهم بأمان، والذمي هو من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية، فبالجملة الفارق بين المعاهد والمستأمن، وبين الذمي أنَّهما لم يستوطنا دار الإسلام، والذمي هو من استوطن دارنا بالجزية، والله أعلم. ***

1138 - وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيْدِ إِلَى أُكيْدِرِ دُومَةَ الجَنْدَل، فَأَخَذُوهُ، فَأَتوْا بِهِ، فَحَقَنَ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الجِزْيَةَ". روَاهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث محتج به مقبول، سكتَ عنه أبو داود والمنذري. قال في "التلخيص": رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك، كما رواه أبو داود والبيهقي من حديث محمَّد بن إسحاق قال: حدَّثني يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ... فذكر الحديث مطولاً، وقد قواه البيهقي. * مفردات الحديث. - بعث النَّبي خالدًا: وذلك في غزوة تبوك. - أُكَيْدِر: بضم الهمزة -تصغير: أكدر- ابن عبد الملك الكندي ملك دُومَة الجندل في الجاهلية، له قصر يسمى (مارد) وهو حصن منيع لا تزال آثاره باقية، بعث إليه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد من تبوك، فأسره وفتح حصنه، وعاد به إلى المدينة، فردَّه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بلاده، وضرب عليه الجزية، فنقض العهد بعد وفاة النَّبي-صلى الله عليه وسلم-، فبعث أبو بكر خالدًا إليه، فقتله واستولى على دومة الجندل. - دُومَة: -بضم الدال المهملة ثم واو ساكنة وميم وهاء، وبعضهم: يرى أنَّها بفتح الدال-: وهي بلدة بالجوف أثرية زراعية تقع على حدود المملكة العربية ¬

_ (¬1) أبو داود (3037).

السعودية في منطقة الجوف، وهي عاصمتها، وفيها آثار هامة منها: حصن (مارد)، وقد ألف الشيخ عبد الرحمن بن عطا الشائع مؤلفًا من جزأين، ذكر فيه الآثَار والسكان والعمران والنَّهضة الحديثة فيها، فهو مؤلَّف مستوفى عن تلك المنطقة الشمالية من المملكة العربية السعودية. - حقَن دمَه: أي: صانه ومنعه أن يقتل ويسفك دمه. ***

1139 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: "بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلَى اليَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِيرِيًّا". أَخْرَجَهُ الثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنِ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح: أخرجه الثلاثة، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأقرَّه الذَّهبي. قال الترمذي: حسن صحيح، وهذه رواية الأعمش عن أبي وائل عن مسروق، وهي رواية محفوظة، قد رواها عن الأعمش جماعة، منهم: سفيان الثوري، وشعبة، ومبشر، وحرب، وأبو عوانة، ويحي بن شعبة، وحفص بن غياث. وأما الرواية التي أنكرها الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حزم-: فهي رواية أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ، فهي غير محفوظة، بخلاف الأولى، والله أعلم. وللحديث طرق عديدة. * مفردات الحديث: - حالِمٍ: يقال: حلَم الغلام، فهو حالم؛ أي: بلغ سن الحلم، فصار في عداد المكلفين. - دينارًا: تقدم تحديده عدة مرات. ¬

_ (¬1) أبو داود (3038)، النسائي (5/ 25)، الترمذي (623)، ابن حبان (794)، الحاكم (1/ 398).

- عِدله: بكسر العين المهملة، وفتح، وسكون الدال؛ أي: ما يعادله، ويساويه قيمةً. - معافرِيًّا: بفتح الميم، والعين؛ أي: ثوبًا معافريًا، نسبة إلى بلد في اليمن، تسمى: معافر. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان من أدلة أصل مشروعية أخذ الجزية من الكفار بشرطها. 2 - أما الحديث رقم (1138): فيدل على جواز أخذ الجزية من العرب كغيرهم، قال الخطابي: الأكيدر من العرب يقال: إنَّه من غسَّان، ففيه دليل على جواز أخذ الجزية من العرب، كجوازه من المعجم، وهذا هو الصحيح من قولي أهل العلم. 3 - أما الحديث رقم (1139): فيدل أيضًا، على جواز أخذ الجزية من العرب، فإنَّ قبائل اليمن هم أصل العرب، فهم شعب قحطان المسمون: "العرب العاربة". 4 - ويدل على أنَّ الجزية لا تؤخذ إلاَّ ممن قد بلغ الحلم؛ لأنَّ ضابط الذي لا تؤخذ منه: هو الذي لا يجوز قتله إذا أسر: من صغيرٍ، وامرأة، وغيرهما. 5 - ويدل على قدر الجزية، فمعاذ أخذها من أهل اليمن دينارًا، وبما أنَّ النقود قد لا تتيسر في اليمن، فإنَّه يؤخذ عوض الدينار ثوبًا معافريًا، مشهورًا عندهم، نسبة إلى البلدة التي ينسج فيها، وهي بلدة معافر اليمنية. 6 - قال في "شرح الإقناع": إنَّ عمر -رضي الله عنه- جعل على الموسر ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، وعلى الأدنى اثني عشر درهمًا، وكان بمحضر من الصحابة، ولم ينكر، فكان كالإجماع. 7 - الصحيح أنَّ الجزية يرجع في تقديرها إلى اجتهاد الإمام، فإنَّها تختلف حسب اختلاف المكان والزمان، والغنى والفقر، والدليل على ذلك أنَّ النَّبيَّ

-صلى الله عليه وسلم- هو الذي قدرها على أهل اليمن، فقال لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا"، بينما زادت الجزية في تقدير عمر حينما قدرها على أهل الشام، وقد قيل لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ فقال: جعل ذلك من أجل اليسار. قال في "شرح الإقناع": ومرجع الجزية إلى اجتهاد الإمام. ***

باب الهدنة

باب الهُدْنَة مقدمة الهُدنة: لغة: السكون: من هدنت الرجل وأهدنته: إذا أسكنته. ومعناها شرعًا: أن يعقد الإمام، أو نائبه لأهل الحرب عقدًا على ترك القتال مدة معلومة بقدر الحاجة، وتسمى: مهادنة، وموادعة، ومعاهدة. والأصل فيها: قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. وما روى الإمام أحمد، والبخاري من حديث مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صالح قريشًا على وضع القتل عشر سنين". والقياس يقتضي ذلك؛ لأنَّه قد يكون بالمسلمين ضعف، وفي عدوهم قوة، فيعقدوها حتى يقووا ويستعدوا. قال في "شرح الإقناع": ولا يصح عقدها إلاَّ من إمام أو نائبه؛ لأنَّه يتعلَّق بها نظر واجتهاد، وليس غيرهما محلاًّ لذلك؛ لعدم ولايته. ويكون العقد لازمًا، ولا يبطل بموت إمام أو نائبه، بل يلزم الثاني إمضاؤه؛ لئلا ينقض الاجتهاد باجتهاد، ويستمر ما لم ينقضه الكفار بقتال، أو غيره. ولا تصح المهادنة إلاَّ حيث جاز تأخير الجهاد للمصلحة. ولا تجب حمايتهم؛ لأنَّ الهدنة معناها الكف عنهم فقط. وإن خاف الإمام نقض العهد منهم بأمارة تدل عليه، جاز نبذ العهد إليهم، فيقول لهم: نبذت عهدكم، وصرتم حربًا؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ

مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أي: أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم. ومتى نقض الإمامُ الهدنة، وفي دارنا منهم أحد، اوجب ردهم إلى مأمنهم؛ لأنَّهم دخلوا بأمان، فوجب أن يردوا آمنين. ***

1140 - وَعنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو المُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الإِسْلاَمُ يَعْلُو، وَلاَ يُعْلَى". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬1). 1141 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَم، وَإِذَا لَقِيْتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديثين: أما حديث عائذ فحسن. أورده الضياء في "المختارة"، مما يدل على صحته، وقد حسَّنه الحافظ في "الفتح"، وقد روي عن عمر، ومعاذ نحوه، وصحَّ موقوفًا عن ابن عباس. وأما حديث أبي هريرة فضعيف. كما قال الحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه المناوي في "فيض القدير"، لكن السيوطي اعتمد تحسينه في "الجامع الصغير". * مفردات الحديث: - فاضطروه: يقال: اضطره إليه اضطرارًا: أحوجه إليه، وألجأه، والمراد: ألجئوه إلى أضيق الطريق. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الإسلام ليس دين عدوان ودماء، وإنما هو دين سلامٍ، ورحمةٍ، ووئامٍ، ولذا ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 252). (¬2) مسلم (2167).

فإنَّه يعالج الوصول إلى آذان الناس وإلى قلوبهم بأسهل الطرق وأفضلها، ولا يعتبر الحرب إلاَّ ضرورة يلجأ إليها عند التعذر في إبلاع دعوته إلى عامة الناس، حينما يقف في سبيله خاصتهم، وذوو النفوذ فيهم. 2 - لذا فإنَّ الإسلام يعقد مع الكفار عقد الأمان والمعاهدة، اللَّذين يتمكن الكافر بهما من سماع كلام الله تعالى، والاطلاع عن كثب على حقيقة الدعوة الإسلامية. ويعقد مع الكفار أيضًا عقد الذمة، الذي به يقر الكافر على كفره، ولو في ديار المسلمين، بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة الإسلامية. 3 - هذه العقود مع الكفار تكون حتى في قوة الإسلام وعزته، إذا كانت المصلحة العامة للإسلام والمسلمين تقتضي عقدها، ولذا فإنَّها لا تبرم على حساب تنقص الإسلام، واستضعافه أمام الأديان الأُخرى، وأهلها، فإنَّ الإسلام يعلو، ولا يُعلى عليه. 4 - لذا يجب على الذميين التزام أحكام الإسلام فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزنا والسرقة، دون ما يعتقدون حله كالخمر. 5 - عليهم ضمان إتلاف الأنفس، والأموال، وانتهاك الأعراض، فتقام عليهم الحدود. 6 - يجب عليهم التميز عن المسلمين في قبورهم، فلا يدفنون مع المسلمين. 7 - يجب عليهم التميز عن المسلمين بلباس خاص يُعرفون به. 8 - لا يجوز تصديرهم في المجالس، ولا القيام لهم عند قدومهم. 9 - لا يجوز بدؤهم بالسلام، ولا كيف أصبحت، وأمسيت، أو نحو ذلك من ألفاظ اللطافة، والحفاوة. 10 - لا يجوز تهنئتهم في أعيادهم، ولا حضورها، ولا الإعانة عليها. 11 - إذا التقوا مع المسلمين في الطرق، فليضطرهم المسلمون إلى أضيقها.

12 - يُمنعون من إحداث الكنائس، والبِيع، والمعابد، وبناء ما انهدم منها، أو تجديد ما خرب من أجزائها. 13 - يُمنعون من إظهار خمرٍ، وخنزيرٍ، والجهر بنواقيسهم، والجهر بقراءة كتبهم. 14 - يمنعون من تعلية مبانيهم السكنية على مساكن المسلمين، سواء ملاصقة، أو مقاربة. 15 - هذا كله إذا كانوا في ديار المسلمين. أما إذا كانوا في ديارهم فلا يمنعون شيئًا من ذلك، بل يبقون على لباسهم، وعاداتهم، ومعابدهم، ومساكنهم، وغير ذلك. * فوائد: الأولى: هذه الأمور يعامل بها الكفار؛ لقصدين: الأول: أنَّ الإسلام يعلو، ولا يُعلى عليه، ويجب أن يكون هو الدين الذي أراد الله تعالى أن يظهره على الدين كله، فنحن بعملنا ننفذ إرادة الله تعالى الشرعية. الثاني: أنَّ هذه المضايقة تسبب للكفار القلق من البقاء على دينهم، واعتناق دين الإسلام، لاسيَّما إذا رأوا عزَّة المسلم، وعلوَّ قدره، والإسلام يعالج الأمور بالوسائل التي تكون كفيلة بتحقيق مقاصده، وإلاَّ فالإسلام أحسن الأديان، وأفضلها في تحقيق العدالة والمساواة، والبعد عن الطبقية، والسيطرة على الآخرين، وفي دخولهم في الإسلام فلاحهم، وصلاحهم في الدنيا والآخرة. الثانية: نحن نكتب الآن أحكام أهل الذمة التي ذكرنا بعضًا من معاملة الإسلام لهم، وهي أمور وأحكام كانت سارية المفعول، قائمة التنفيذ يوم كانت الدولة دولة إسلام، والصوت هو صوت الحق. أما الآن، فإنَّ المسلمين ذلوا، وضعفوا أمام سيطرة أعداء الإسلام،

وصاروا هم الأتباع الرعاع، وأصبحوا يقلدون أعداء الإسلام في لباسهم، وزيهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وفجورهم، وانحلالهم، وصار الرجعي الغبي في نظر أدعياء الإسلام، وأذناب الكفار، هو الذي يكف نفسه، وبيته، وأهله عن مشابهتهم، ومحاكاتهم، فهذا هو المتخلف الذي يعيش بعقل قديم من عهد القرون الأولى، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حتى صار مدعو الثقافة منا والعلم يخدمونهم في بث سمومهم في تحريف عقائد المسلمين، والطعن في الإسلام وأحكامه، وتوجيه النقد على مصادره، محاولين طمس معالم الإسلام، وانتزاع بقيته من صدور البقية من أهله، ووجَّه هؤلاء الملاحدة حربًا شعواء ضد الإسلام، واستعانوا على إشعالها بذوي النفوس المريضة من أهله. والطامة الكبرى أن توجد إعانة الملاحدة على الإطاحة بالإسلام من كثير من قادة المسلمين، وولاة أمرهم. ولكن أملنا في الله تعالى وحده، فهو الذي بيده التدبير، وله الخلق والأمر، وهو الذي وعد بحفظ دينه، وإظهاره على الدين كله، ولو كره الكافرون، وتباشير صباح الإسلام أخذت تظهر بهذا الشباب المؤمن الواعي المستيقظ، الذي نرجو الله تعالى بأن يحمل على عاتقه إعلاء كلمة الله، والسير بها في مشارق الأرض ومغاربها، ليبلغها إلى المتعطشين إلى دعوته، ويومئذٍ يتحقَّق النصر إن شاء الله تعالى، وتَعلُو كلمة الله، وترفع رايتها، فلله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله. ***

1142 - وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - خرَجَ عَامَ الحُدَيْبِيةَ ... " فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولهِ، وَفِيهِ: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، عَلَى وَضْعِ الحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (¬1). وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَفِيهِ: "أنَّ مَنْ جَاءَ مِنكمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا" فَقَالُوا: أَنَكْتُبُ هَذا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ، فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا، وَمَخرَجًا" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فأصله في البخاري، كما قال المؤلف، ورجاله ثقات؛ ذلك أنَّه جاء من طريق محمَّد بن ثور عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة. * مفردات الحديث: - المِسور بن مخرمة: بن نوفل القرشي الزهري، له ولأبيه صحبة، وهو من صغار الصحابة، وأبوه من مسلمة الفتح، وحسن إسلامه، وكان عالمًا ¬

_ (¬1) أبو داود (2766)، البخاري (2731). (¬2) مسلم (1784).

بالأنساب، والمثالب. - مروان: بن الحكم الأموي ابن عم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من صغار الصحابة، له ولأبيه صحبة، وتولى إمارة الشام، ثم صارت الخلافة العامة في ابنه عبد الملك، ثم في أحفاده، حتى قامت الدولة العباسية عام (132 هـ). - الحُدَيْبِيَة: بضم الحاء المهملة، وفتح الدال، وسكون الياء، ثم باء مكسورة، ثم فتح الياء الثانية، تصغير: "حدْباء"، وبعض اللغويين يثقلها، وبعضهم يخففها، والصواب التخفيف، سميت باسم بئر فيها، وكان فيها الشجرة التي بايع الصحابة تحتها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة ست، والحديبية فضاء على طريق مكة جدة، بعضه في الحل، وبعضه في الحرم، وهو أبعد حدود الحرم، وفيه أنصاب الحرم، ويسمى الآن الشميسي، صار فيه الصلح المشهور بين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكفار قريش، سنة ست من الهجرة، يبعد حد الحرم في الحديبية عن المسجد الحرام بنحو ثلاثة وعشرين كيلو مترًا. - الفَرَج: لغة: الشق، والمراد هنا: سهولة الأمر وانكشاف الهمّ، والغمّ. - المَخرج: موضع الخروج، والمراد هنا: الأمر الذي ينجيه، ويخرجه من كل كرب في الدنيا والآخرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - خلاصة عمرة الحديبية، والصلح الجاري فيها: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج من المدينة إلى مكة مُحْرمًا، يريد العمرة، ومعه نحو "ألف وأربعمائة" رجل من أصحابه، فلما قرب من مكة خرج إليه مشركو قريش؛ ليمنعوه من دخولها عليهم عنوة، فتواقف الطرفان عدة أيام في الحديبية، ترددت بينهم الرسل، حتى تم الصلح على شروط. منها: أن يعود النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا العام، ويأتي من العام القابل؛ ليعتمر، ويقيم فيها ثلاثة أيام، ثم يخرج، ومنها: وضع الحرب بين الطرفين عشر

سنين. ومنها: أنَّ من جاء من كفار قريش مسلمًا، رده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّ من جاء إليها من المسلمين، لم ترده قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، في شروط مذكورة في هذا الصلح المشهور. فحلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إحرامهم، وعادوا بعد إبرام هذا الصلح، الذي وفَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ببنوده وشروطه، إلاَّ أنَّ قريشًا نقضته، فصار نقضه سبب فتح مكة المشرفة، ولله الحمد. 2 - ففي القصة، والصلح الواقع فيها دليل جواز مهادنة الكفار، بوضع الحرب بينهم وبين المسلمين، ولا يعتبر هذا تعطيلاً للجهاد، وإنما هو تأجيل؛ نظرًا إلى مصلحة المسلمين العامة التي قد تقضي ذلك. 3 - لذا فإنَّ هذه الموادعة، والهدنة تكون مؤقتة بمدة معلومة. قال في "الروض المربع": والهدنة عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة، ولو طالت بقدر الحاجة. 4 - قال الشيخ تقي الدين: يجوز عقدها مؤقتًا، والمؤقت لازم الطرفين، يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو، وإذا مات الإمام، أو عُزِل، لزم من بعده الوفاء بعقده. 5 - يصح أن يكون من الشروط أنَّ من ارتد عن الإسلام، ولجأ إلى الكفار أنَّهم لا يردونه على المسلمين، وأنَّ من أسلم وجاء إلى المسلمين من الكفار يرد إليهم، والرضا بهذا الشرط الأخير إنما يكون عند الحاجة إليه، بظهور مصلحة الصلح للمسلمين. 6 - الموافقة على هذا الشرط، وإن كان فيه غضاضة على المسلمين حسب الظاهر، لكن فيه خير أراده الله تعالى، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بيَّنه ووضَّحه بقوله: "إنَّه من ذهب منَّا إليهم، فأبعده الله تعالى؛ لأنَّه مرتد عن الإسلام ولا خير

فيه، وأما من جاء منهم، ثم رددناه إليهم، فإنَّ الله تعالى سيجعل له فرجًا ومخرجًا". 7 - هذا الشرط خاص بالرجال، أما النساء فإنَّهن مستثنيات منه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. 8 - الإمام ابن القيم -رحمه الله- بعد أن ساق قصة الحديبية في "زاد المعاد"، أبرز كثيرًا من فوائدها، وأحكامها، ونحن هنا ننقل بعض الأحكام، والفوائد المتعلقة بهذه القطعة من القصة، التي ساقها ابن القيم، ونزيد عليها ما تيسر فهمه، وقد تقدمت بعض أحكامها، وأما البعض الآخر فمنه: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] فإنَّه لولا هذا الكف الذي قدره الله، فإنه سيحصل مقتلة بين المسلمين وبين المشركين، وستكون المقتلة من الطرفين كبيرة جدًا، وذلك أنَّ المسلمين متحمسون للقتال، وقد بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على ألا يفروا إلى الموت، وهم صفوة الصحابة، وحملة الشريعة، ومنهم الخلفاء الأربعة، الذين أعزَّ الله بهم الإسلام. أما المشركون فعندهم حقد شديد، وعندهم أنفة وعزة أن يدخل عليهم عدوهم دارهم عنوةً وقهرًا، وسيقاتلون، ويدافعون عن هذه الإهانة والمذمة، وسيجالدون، ويقاتلون حتى الموت. ومنهم في ذلك الوقت من أسلموا، فصاروا قواد المسلمين بعد إسلامهم، من أمثال خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث، وأبي سفيان بن حرب من الأعيان، والوجوه الذين أسلموا بعد قليل من هذا الصلح، فصاروا زينة الإسلام، وعز الإيمان.

9 - ومن هذه الفوائد والأحكام أنَّ هذه الهدنة، والموادعة مع مشركي أهل مكة، هي التي صارت سببًا لإسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأبي سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية من أعيان مكة، وزعماء قريش، الذين لما أسلموا انقاد بسبب إسلامهم خلق كثير منهم. فهذه الموادعة عرَّفت المشركين أحوال الإسلام، وآدابه، ووفاء أهله. 10 - ومن الحِكم والفوائد أنَّ هذا الصلح صار سبب فتح مكة بعد أقل من سنتين؛ ذلك أنَّ قريشًا نقضت العهد باعتدائهم على حلفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبيلة خزاعة، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشرة آلاف مقاتل، ففتح مكة، ودخلها عنوة بقتال يسير، وأصبحت بفضل الله تعالى بلدة إسلامية. ولذا فإنَّه لما انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إتمام الصلح عن الحديبية ببضعة أميال، أنزل الله تعالى عليه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح]. فقد روى البخاري من حديث البراء قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ولكن نحنَّ نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية". 11 - ومنها: تحقق الفرَج والمخرَج، الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق المسلمين المردودين على الكفار، فإنَّهم هربوا من قريش ولم يأووا إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أقاموا في طريق قوافل قريش إلى الشام، فصاروا يعرِضون لها، ويقتلون من معها، ويغنمون أموالهم حتى ضجَّت قريش، وطلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلغاء هذا الشرط، وإيوائهم مع أصحابه في المدينة، ومن يتَّق الله يجعل له مخرجًا، ويجعل له من أمره يسرًا. 12 - الدليل على هذه الإرادة الإلهية، والتدبير الرباني-: أنَّ المسلمين لما وصلوا الثنية التي تهبط على حدود الحرم من جهة الحديبية- المسماة الآن "الشميسي" -بركت ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال الصحابة: خلأت القصواء؛ أي:

حزنت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بُخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألون خطة يعظمون بها حرمات الله، إلاَّ أعطيتهم إيَّاها، ثم زجروها، فوثبت به بعد هذا القسم، فعدل عن قصد مكة، حتى نزل بأقصى الحديبية مما يلي جدة، كل هذا تجنبًا للقتال في الشَّهر الحرام، والبلد الحرام، إلاَّ أن تلجيء إليه الضرورة. 13 - قال ابن القيم: ومنها أنَّ المشركين، وأهل البدع، والبغاة، والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى -أجيبوا إليه، وأعطوه، وأعينوا عليه، فيعانون على تعظيم ما فيه حرمات الله، لا على كفرهم، وبغيهم. فكل من التمس المعاونة على محبوب الله تعالى، أجيب إلى ذلك، كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مكروه أعظم منه، وهذا في أدق المواضيع، وأصعبها، وأشقها على النفوس. ولذلك ضاق عنه من ضاق من الصحابة في إجابتهم إلى هذه الشروط. 14 - ومنها: جواز بدء الإمام بطلب صلح من العدو، إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على ابتداء الطلب من الكفار. 15 - ومن الفوائد: أنَّ المشهود عليه إذا عُرف باسمه، واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر جده وقبيلته، فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اكتفى بكتاب الصلح بقوله: "محمَّد بن عبد الله"، و"سهيل بن عمرو". 16 - فهذه القصة العظيمة، وذلك الصلح الهام، وتلك الوثيقة المحكمة، أجراها الله تعالى العليم الخبير، ظاهرها الغِبطة للمشركين، ولكن باطنها الحكمة، والفائدة، والعز، والتمكين للمسلمين. ولذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: هي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلاَّ الله الذي أحكم أسبابها، فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته.

1143 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". أَخَرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُرِح: بضم الياء، وكسر الراء؛ أي: لم يجد رائحة الجنة. - رائحة الجنة: الرائحة: النسيم، ورائحة الجنة: ريح نسيمها الطيب العطر. قال ابن القيم في "حادي الأرواح": وريح الجنة نوعان: ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحيانًا، ولا تدركه العبارة، وريح يدرك بحاسية الشم للأبدان، وهذا يشترك في إدراكه في الآخرة من قَرُب، ومن بعُد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال في "شرح الإقناع": ويحرم بالأمان قتل، ورِق، وأسر، وأخذ مال، والتعرض لهم، لعصمتهم به، وروى سعيد بن منصور في "سننه"؛ أنَّ عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لو أنَّ أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء فنزل بأمانه فقتله، لقتلته به". 2 - الحديث يدل على تحريم قتل المعاهد، وأنَّه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنَّه رتَّب عليه حرمانه من دخول الجنة في ظاهر الحديث. 3 - جاء في بعض روايات الحديث بأنَّ القتل "بغير جرم"، و"بغير حق"، ولكن التقييد معلوم من قواعد الشرع. 4 - أما بالحق فإنَّ الذمي والمعاهد تقام عليهما الحدود؛ لأنَّهما ملتزمان بأحكام المسلمين، بخلاف حربي، ومستأمن، فإنَّهما غير ملتزمين بأحكام الإسلام. ¬

_ (¬1) البخاري (3166).

باب السبق والرمي

باب السبق والرمي مقدمة السبق: مصدر سبق يسبق سبقًا، والسَّبَقُ بتحريك الباء: الجُعل الذي يسابق عليه. وبسكون الباء: هو الفعل، أي: المجاراة بين حيوان ونحوه. قال الشيخ تقي الدين: السباق بالخيل، والرمي بالنَّبل، ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّه مما يعين على الجهاد في سبيل الله. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: المغالبات ثلاثة أقسام: الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بالعوض، وهذا هو الأصل، فدخل في هذه: المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد فيما ليس فيه تهلكة. الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو أدخلت في محرم. الثالث: تجوز بعوض؛ وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل. وقال الأستاذ طبارة: الصلاة هي رياضة دينية إجبارية، لكل مسلم يؤديها خمس مرات، بلا إجهاد، ولا إرهاق، فتكون خير مقوم للبدن، ومنشط لأمعائه، ورياضة صالحة لعضلات جسمه ومفاصله، وإذا تأملنا حركات الصلاة وجدنا شبهًا بينها وبين النظام السويدي في

الرياضة، والنظام السويدي لا يزيد عمره عن مائة سنة، في حين أنَّ نظام الصلاة في الإسلام مضى عليه ألف وأربعمائة عام. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: اللعب بأنواع الرياضيات في وقت الصلاة المكتوبة لا يجوز بحال، وهو من المنكرات الواجب إنكارها، فإن لم تكن وقت صلاة، فلا نرى مانعًا يمنع جوازها. وحكم الرياضة في الإسلام الجواز والاستحباب، ما كان منها بريئًا هادفًا إلى ما فيه التدريب على الجهاد، وتنشيط الأبدان، وتقوية الأرواح. ***

1144 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "سَابَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالخَيْلِ الَّتِي قَدْ ضُمِّرَتْ مِنَ الحَفْيَاءِ، وَكانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لمْ تُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بنَي زُرَيْقٍ، وَكانَ ابْنُ عُمَرَ فِيْمَنْ سَابَقَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ البُخَارِيُّ، قَالَ سُفْيَانُ: "مِنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاع خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بنَي زُرَيْقٍ مِيلٌ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ضُمِّرتْ: مبني للمجهول، فهي مضمومة الأول، مشددة الميم، فراء مفتوحة. قال علماء اللغة: التضمير: أن يكثر له العلف، والماء مدة أربعين يومًا حتى يسمن، ثم يرده إلى القوت، ويجريه في الميدان، حتى تجف، وتدق، وتضمر. - الحفياء: -بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، بعدها مثناة تحتية ممدودة، وقد تقصر-. قال السمهودي: الحفيا: بأدنى الغابة، شامي البركة، مغيض العين. قال محرره: والغابة: وهي محل السباق من شمال المدينة، من وراء جبل أحد. - أمدها: بفتح الهمزة، وفتح الميم، ثم دال مهملة؛ أي: غايتها. ¬

_ (¬1) البخاري (420، 2868)، مسلم (1870).

- ثنية الوداع: الثنية: هي العقبة، وجمعها ثنايا، وقد اختلف العلماء في ثنية الوداع التي قرب المدينة: هل هي على طريق مكة، أو على طريق الشام؟ وقال الفيروزآبادي في "معالم طابة": ثنية الوداع، بفتح الواو من التوديع، وهي ثنية مشرفة يطؤها من يريد مكة، وقال أهل السير، والتاريخ، وأصحاب المسالك: إنَّها من جهة مكة، وأهل المدينة يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن القيم، فإنَّه قال: من جهة الشام ثنيات الوداع، ولا يطؤها القادم من مكة ألبتة، ووجه الجمع أنَّ كلتا الثنيتين تسمى: ثنية الوداع، والله أعلم. - مسجد بني زُريق: بنو زريق بطن من الخزرج من الأنصار، وهو تصغير أزرق، ومحلتهم: قِبلة المسجد النبوي الشريف، داخل سور المدينة المنورة. قال السمهودي: وقد أحدث في جهة قبلة المصلى مما يلي المغرب مسجدان بعد (850) ذراعًا، نبهت على ذلك؛ لئلا يتقادم العهد بها، فيظن أنَّ أحدهما مسجد بني زريق؛ لكون ذلك بالناحية المذكورة، والله أعلم. - خمسة أميال: الميل: ألف وستمائة متر. ***

1145 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ، وَفَضَّلَ القُرَّحَ فِي الغَايَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن عبد الهادي: إسناده صحيح. وقال الشوكاني: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وصححه ابن حبان، وقد حسَّنه الترمذي. * مفردات الحديث: - سابق: من: المسابقة، وهي السبق الذي يشترك فيه اثنان، وباب المفاعلة يقتضي ذلك، وهذا اللفظ الذي جاء في الصحيحين. أما الشيخ محمَّد أمين كتبي فقال: "سابق الخيل"، هكذا بالألف من باب فاعل. وفي نسخ "البلوغ"، و"سبل السلام"، والذي في النسخة الهندية، والمصرية: "سبَّق" بتشديد الباء، ومعناه: أعطى السبق للسابق. - القُرَّح: -بضم القاف، وتشديد الراء، آخره حاء مهملة- جمع: قارح، وهي التي سقطت سنها، التي تلي الرباعية، ونبت مكانها نابها، وذلك إذا أتمت السنة الخامسة. - فضَّل القُرح: يجعل غايتها أبعد؛ لقوتها وجلدها. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 157)، أبو داود (2577)، ابن حبان (4669).

- الغاية: بالغين المعجمة، ثم ألف، بعده ياء مثناة تحتية، ثم تاء التأنيث، غاية كل شيء نهايته وآخره، وجمع الغاية: غاي وغايات، والغاية: مسافة المضمار من مبتدأ انطلاق المتسابقين إلى نهايته. ***

1146 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أوْ نَصْلٍ، أو حَافِرٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال ابن عبد الهادي: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصحَّحه ابن القطان. اهـ. وصححه ابن دقيق العيد، كما في التلخيص لابن حجر. قال الشيخ الألباني: أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي، وقال الترمذي: حديث حسن، وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات، وللحديث طرق: 1 - عن أبي هريرة أيضًا: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، وفيه أبو الحكم، وهو مجهول. 2 - عن أبي هريرة أيضًا: أخرجه أحمد، والنسائي، وفيه ابن لهيعة، وإسناد النسائي صحيح، فرجاله كلهم ثقات. 3 - عن ابن عباس: أخرجه الطبراني، ورجاله موثوقون، وفيه الغروي ضعيف. 4 - عن ابن عمر: أخرجه ابن عدي، وابن حبَّان، وفيه عاصم بن عمر ضعيف، فالحديث بهذه الطرق صحيح. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 474)، أبو داود (2574)، الترمذي (1700)، النسائي (6/ 226)، ابن حبان (4671).

* مفردات الحديث: - لا سبَقَ: السبق بفتح الباء: هو الجُعل، والعِوض الذي يوضع لذلك، فهو المنفي المنهي عنه، وأما بسكون الباء فهو مصدر: سبق يسبق سبْقًا. - خُف: بضم الخاء، ثم فاء مشدَّدة، المراد بالخف: الإبل؛ لأنَّها ذوات الأخفاف. - نصْل: بفتح النون، وسكون الصاد المهملة، آخره لام، المراد به: السهم. - حافر: المراد بالحافر: الخيل؛ لأنَّها من ذوات الحافر، وكلها من إقامة المضاف مقام المضاف إليه. * فائدة: قال ابن بطال في "غريب المهذب": الخف للإبل، والحافر للفرس، والبغل، والحمار، والظِّلْف لسائر البهائم، والمِخْلب للطير، والظفر للإنسان. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - المغالبات، والمراهنات، والمخاطرات ممنوعة كلها، لاسيَّما إذا كانت بِعِوض؛ لأنَّها من أنواع الميسر الذي قال تعالى فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة]. 2 - الميسر هو القمار، ويدخل فيه كل المغالبات على عوض، ذلك القمار الذي يفضي إلى العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله بما يسبب لأصحابه من الغفلة، والذهول، وتعلق القلب بالكسب والخسارة. فهو يجلب أرباحًا كبيرة بلا تعب، ولا عناء، ولا جهد، ولا كدّ، أو يسبب خسارة عظمى، وإفلاسًا، وبسبب هذا -أي: التقلب المفاجيء- يصبح الإنسان غنيًّا كبيرًا، أو يمسي فقيرًا مُدقِعًا، فمن أجل مفاسده الكبيرة، حرَّمه الله.

3 - فالشرع أجاز من هذه المغالبات ما أعان على الجهاد في سبيل الله، فإنَّه أجاز السباق على الخيل، والإبل، كما أجاز الرمي والمناضلة؛ لأنَّ هذا كله مما يعين تعلمه، والمهارة فيه على الجهاد في سبيل الله، ونصر دينه. 4 - الحديث رقم (1144): يدل على جواز المسابقة على الخيل؛ لأنَّ الخيل في ذلك الزمن هي العُدة التي يقاتل عليها أعداء الإسلام. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. 5 - ومن نظام المسابقة عليها أنَّ كل نوع من الخيل يتسابق أفراده بعضه مع بعض، فالخيل المُضمرة تتسابق وحدها، والخيل التي لم تُضمر تتسابق وحدها؛ ليحصل الفوز بين واحد، وآخر بنفس الجودة والقوة، فلا يعزى السبب إلى شيء آخر خارج عن موضوع المنافسة. 6 - الفرق بين المضمرة، وغير المضمرة: أنَّ المضمر أخف، وأسرع في الجري، وأمتع في طول الحضر، بخلاف غير المضيرة، فهي بطيئة الجري. 7 - الخيل المضمرة: هي التي دقت، ولطفت بطونها، ونشف الماء من لحمها، وأعدت للسباق، أو القتال؛ وذلك بأن تعلف حتى تسمن، ثم بعد السمن تعطى من العلف قليلاً جدًا، حتى يذهب ماؤها ورهالها، وتخفف حتى يكون فيها بقية السمن، وفيه الخف، والضمر من الترهيل. أما غير المضمرة: فقد علفت حتى سمنت، وبقيت في زيادة الأكل، فلا تزال في بدانتها، وانتفاخها. 8 - ليأخذ السباق دوره الحقيقي، فإنَّه جعل لكل نوع من الخيل غايته، ومداه الذي يناسبه، ويليق به، فالخيل المضمرة غايتها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وقدر هذه المسافة خمسة أميال، أو ستة. وأما التي لم تضمر فأمدها، وغايتها من الثنية إلى مسجد بني زريق،

وغاية هذه المسافة، وأمدها ميل واحد. 9 - أما الحديث رقم (1145): فإنَّ النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- سابق بين الخيل، وفضَّل القُرَّح، وهي ما كمل سنها خمس سنين؛ لأنَّها أمتع، وأقوى على الجري، والسباق. 10 - القتال وسلاحه وعُدته تطور الآن عن حالته السابقة تطورًا بعيد المدى، وأصبحت العلوم العسكرية، والفنون الحربية تتلقى الآن في المدارس والكليات المنوعة، وميادين التدريب، وأصبحت الحرب بمعرفة استعمال أسلحته من الرشاشات، والمدافع والصواريخ، والطائرات الحربية المقاتلة، والدبابات، والمدرعات، والغواصات، وما أشبه ذلك. وأصبح رجال الحرب، والدفاع برتبهم، ومؤهلاتهم وتخصصاتهم وحماية الأوطان، وإعطاء الرتب الرفيعة، لمن قام بعمل بطولي، أو تقدم في ميدان علمي عسكري مشروع؛ لتنشيط وتشجيع البارزين، والمتفوقين في هذه الميادين، كما أنَّ إجراء المنافسة، والتسابق في التفوق في الميادين الحربية هو من الأمور المحبوبة المشروعة؛ لأنَّها يعز بها الإسلام، ويرد به كيد أعداء الإسلام والمسلمين، ويحمي الوطن والمواطنين من الأعداء، والطامعين، والمعتدين. 11 - أما الحديث رقم (1146): فهو يدل على ما قلنا من أنَّ المراهنة والمخاطرة لا تجوز إلاَّ في ثلاثة أشياء هي: 1 - الخف: والمراد بها: الإبل. 2 - النصل: هو الرمي بالنشاب ونحوه. 3 - حافر: والمراد بها: الخيل. 12 - وتقدم أنَّ هذه الأمور هي أداة القتال، والجهاد في سبيل الله في ذلك الزمن، وأنَّ ما ظهر من الأسلحة المتطورة، وآلات القتال، ومراكبه

الحديثة، فإنَّها داخلة في هذا النص، نظرًا إلى أنَّ العبرة عموم المعنى، لا خصوص اللفظ. 13 - قال ابن القيم: السبق: عقد مستقل بنفسه، له أحكام يختص بها، ويتميَّز بها عن الإجارة، والجعالة، والنذور، والفداء، ونحوها، وليس من باب الجعالة، ولا الإجارة، ومن أدخله في أحد هذين البابين تناقض. إلاَّ أن يقصد الباذل تمرين من يسبقه، كولده، والمعلم للمتعلم، فهذا هو الجعالة المعروفة، والغالب فيها مسابقة النظراء بعضهم لبعض. 14 - قال شيخ الإسلام: السباق بالخيل، والرمي بالنبل، ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّه مما يعين على الجهاد في سبيل الله، فالسبق والصراع ونحوهما طاعة، إذا قصد به نصرة الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق. 15 - وقال: يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة، بلا مضرة، وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالتجارة، وأما سائر ما يتلهى به من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: اللعب بأنواع الرياضيات في وقت الصلاة، أو ما يقارب وقتها لا يجوز بحال، وهو من المنكرات، وحكمه حكم ما يلهي عن ذكر الله، وعن الصلاة. فإن لم تكن وقت صلاة، ولا قرب المساجد، فلا نرى مانعًا يمنع جوازها، فحكم الرياضة في الإسلام الاستحباب؛ لما كان بريئًا منها، هادفًا إلى ما فيه التدريب على الجهاد، وتنشيط الأبدان. 16 - وقال الأستاذ طبارة: الصلاة رياضة فى ينية بغير إجهاد، ولا إرهاق، فهي خير مقوٍّ لبدن الإنسان، ومنشط لأمعائه وعضلات جسمه، ومفاصله.

وإذا قارنَّا بين حركات الصلاة، وبين ما جاء به نسج السويدي، نرى أنَّ حركة الجسم أثناء الصلاة أحكم، وأصلح لكل سن، وجنس. * قرار المجمع الفقهي بشأن موضوع: "الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران": الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ، الموافق 21 أكتوبر 1987م، قد نظر في موضوع الملاكمة والمصارعة من حيث عدهما رياضة بدنية جائزة، وكذلك في مصارعة الثيران المعتادة في بعض البلاد الأجنبية، هل تجوز في حكم الإسلام أو لا تجوز؟ وبعد المداولة في هذا الشأن من مختلف جوانبه، والنتائج التي تسفر عنها هذه الأنواع التي نسبت إلى الرياضة، وأصبحت تعرضها برامج البث التلفازي في البلاد الإسلامية وغيرها. وبعد الاطلاع على الدراسات التي قدمت في هذا الشأن بتكليف من مجلس المجمع في دورته السابقة من قِبل الأطباء ذوي الاختصاص، وبعد الاطلاع على الإحصائيات التي قدمها بعضهم عما حدث فعلاً في بلاد العالم نتيجة لممارسة الملاكمة، وما يشاهد في التلفزة من بعض مآسي المصارعة الحرة، قرَّر مجلس المجمع ما يلي: أولاً: الملاكمة: يرى المجلس بالإجماع أنَّ الملاكمة المذكورة، التي أصبحت تُمارس فعلاً في حلبات الرياضة، والمسابقة في بلادنا اليوم، هي ممارسة محرَّمة في الشريعة الإسلامية؛ لأنَّها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من

المتغالبين للآخر إيذاءً بالغًا في جسمه، قد يصل به إلى العمى، أو التلف الحاد، أو المزمن في المخ، أو إلى الكسور البلغية، أو إلى الموت، دون مسؤولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصِر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى. وهو عمل محرم، مرفوض كليًّا وجزئيًّا في حكم الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ ضرر , ولا ضرار". وعلى ذلك، فقد نص فقهاء الشريعة على أنَّ من أباح دمه لآخر، فقال له: "اقتلني" أنه لا يجوز له قتله، ولو فعل كان مسؤولاً، ومستحقًا للعقاب. وبناءً على ذلك، يقرر المجمع أنَّ هذه الملاكمة لا يجوز أن تسمى رياضة بدنية، ولا تجوز ممارستها؛ لأنَّ مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين، دون إيذاء أو ضرر، ويجب أن تحذف من برامج الرياضة المحلية، ومن المشاركات فيها في المباريات العالمية، كما يقرر المجلس عدم جواز عرضها في البرامج التلفازية، كيلا تتعلَّم الناشئة هذا العلم السيء، وتحاول تقليده. المصارعة الحرة: وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر، والإضرار به، فإنَّ المجلس يرى فيها عملاً مشابهًا تمام المشابهة للملاكمة المذكورة، وإن اختلفت الصورة؛ لأنَّ جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة، التي تجري على طريقة المبارزة، وتأخذ حكمها في التحريم. وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية، ولا يستباح فيها الإيذاء، فإنَّها جائزة شرعًا، ولا يرى المجلس مانعًا منها.

ثالثًا: مصارعة الثيران: وأما مصارعة الثيران المعتادة في بعض بلاد العالم، والتي تؤدي إلى قتل الثور ببراعة استخدام الإنسان المدرَّب للسلاح، فهي أيضًا محرَّمة شرعًا في حكمِ الإسلام؛ لأنَّها تؤدي إلى قتل الحيوان تعذيبًا، بما يغرس في جسمه من سهام، وكثيرًا ما تؤدي هذه المصارعة إلى أن يقتل الثورُ مصارِعَه. وهذه المصارعة عمل وحشي، يأباه الشرع الإسلامي الذي يقول رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "دخلت امرأة النار في هرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". فإذا كان هذا الحبس للهرة يوجب دخول النار يوم القيامة، فكيف بحال من يعذب الثور بالسلاح حتى الموت؟! رابعًا: التحريش بين الحيوانات: ويقرر المجمع أيضًا تحريم ما يقع في بعض البلاد من التحريش بين الحيوانات؛ كالجمال، والكباش، والديكة، وغيرها، حتى يقتل، أو يؤذي بعضها بعضًا. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين. ***

1147 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لاَ يَأْمَنُ أنْ يَسْبِقَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ". رَوَاهُ أَحمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. وللأئمة في هذا الحديث كلام كثير، قال ابن معين: هذا باطل، وقد غلَّط الشافعي من رواه عن سعيد عن أبي هريرة، وهذا هو الحديث الذي أنكره المزى، وابن القيم، وغيرهما، وسيأتي وجه بطلانه إن شاء الله في الكلام على فقه الحديث. * مفردات الحديث: - قِمَار: بكسر القاف، وفتح الميم، بعدها ألف، آخره راء، والقمار هو: الميسر، ويشمل جميع المغالبات، والمخاطرة بالمال، غير ما استثني من ذلك، والقِمار الآن تطورات وسائله وآلاته، فهم يُجرُونَهُ بالنقود، والأشياء الثمينة على لعب الحظ والمهارة، وتُعد أوراق اليانصيب نوعًا من القمار. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال في "الدليل وشرحه": تصح المسابقة إذا كان فيها جُعل بشروط خمسة: أحدها: تعيين المركوبين، لا الراكبين. الثاني: اتحاد المركوبين، فلا يصح بين عربي، وهجين. الثالث: تحديد المسافة، والغاية بما جرت به العادة. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 505)، أبو داود (2579).

الرابع: العلم بالعوض؛ لأنَّه مال في عقد، فوجب العلم به كسائر العقود. الخامس: الخروج من شُبه القمار؛ وذلك بأن يكون العوض من واحد، فإن أخرج كل واحد من المتسابقين شيئًا لم يجز، إلاَّ بمحلل لا يخرج شيئًا. 2 - أما ابن القيم: فقال عن الشرط الخامس في كتابه "الفروسية": إنَّ هذا الشرط ليس صحيحًا شرعًا، فما علمت أحدًا من الصحابة اشترط المحلل، وأما لفظ: "من أدخل فرسًا بين فرسين" فليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو من كلام سعيد بن المسيب، وجوازه بغير محلل هو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح، وعلى فرض صحة الخبر، فإن لفظه يدل على أنه إذا سبق اثنان، وجاء ثالث دخل معهما، فإن كان تحقق من نفسه سبقهما كان قمارًا؛ لأنَّه دخل على بصيرة ليأكل مالهما، كان دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سبقًا، بل يرجو ما يرجوانه، ويخاف ما يخافانه، كأحدهما، لم يكن أكلُ سبَقهِما قمارًا. 3 - فإن كان المال من الإمام، أو ممن لم يدخل في السباق، أو من أحد المتسابقين دون الآخر، فهو جائز بذله، وأخذه لمن حاز السبق، إن كان المال من المتسابقين كليهما، ففيه الخلاف السابق، والراجح جوازه بلا محلل. 4 - وقال الدكتور عمر الأشقر: وكلام ابن القيم حق؛ لأنَّ الحديث الذي احتج به لهذا الاشتراط غير صحيح، ولأنَّ إخراج كل واحد من المتسابقين جُعلاً مساويًا لجعل صاحبه أولى بالعدل. قُلت: والحديث ضعَّفه الألباني في "إرواء الغليل". 5 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح جواز المسابقة على الخيل، والإبل، والسهام بعوض، ولو كان المتسابقان كل منهما مخرجًا العوض، ولأنَّه لا يشترط المحلل، وتعليلهم لأجل أن يخرج عن شبه القمار تعليل فيه

نظر، فإنَّه لا يشترط أن يخرج عن شبه القمار، بل هو قمار جائز. 6 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى:- المغالبات بالنسبة لأخذ العوض ثلاثة أقسام: الأول: يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، وهذا هو الأصل والأغلب، فدخل في هذه المسابقة على الأقدام، والسفن، والمصارعة، ومعرفة الأشد في غير ما فيه تهلكة. الثاني: لا يجوز بعوض، ولا بغير عوض؛ وذلك كالشطرنج، والنرد، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو دخلت في محرم، والحكمة منها ظاهرة. الثالث: تجوز بعوض، وهي المسابقة، والمغالبة بين السهام، والإبل، والخيل؛ لصريح الحديث المبيح. ***

1148 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقْرَأُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ...} الآية، أَلاَ إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِن القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ". رَواهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أعِدُوا: أمر من: الإعداد، وهو تهيئة الشيء للمستقبل. - ما استطعتم: عام يشمل جميع إمكانات الإنسان حسب الظروف، والأوضاع. - رباط الخيل: بكسر الراء، هو في الأصل: حبسها، واقتناؤها، ثم سمي الإقامة في ثغور البلاد، وحدودها: رباطًا. - ألا إنَّ القوة الرمي: يعني: أنَّ الآية الكريمة تشير إلى أنَّ القوَّة هي في الرمي؛ لأنَّه أنكى، وأبعد عن خطر العدو، وكان الرمي وقت نزول الآية الكريمة هو بالسهام، ولكن الآية بإعجازها أطلقت القوة؛ لتكون قوَّة كل زمان ومكان، وكذلك الحديث الشريف جاء إعجازه العلمي بإطلاق الرمي، الذي يشتمل الرمي بأنواعه، وأن يفسر بكل رمي يتجدد، وبأي سلاح. - ألا: بفتح الهمزة، وتخفيف "لا"، وهي أداة تنبيه، واستفتاح، وطلب برفق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. في هذه الآية الكريمة يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالجهاد في ¬

_ (¬1) مسلم (1917).

سبيل الله تعالى، وأن يستعدوا له بكل ما يقدرون عليه من أسباب القوة في وجه أعداء الإسلام، والقوة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكانت الآية مطلقة التفسير في كل زمان بما يناسبها. 2 - قال الشيخ محمد رشيد رضا: أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ النفس، ورعاية العدل، والفضيلة، بإعداد جميع أسباب القوة لها، بقدر الاستطاعة. ومن المعلوم بالبداهة أنَّ إعداد المستطاع من القوة يختلف باختلاف درجات الاستطاعة، في كل زمان ومكان بحسبه. 3 - وقال الأستاذ سيد قطب: إنَّه لابد للإسلام من قوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها. إنَّ الإسلام ليس نظامًا لاهوتيًّا، يتحقق بمجرد استقراره عقيدةً في القلوب، وتنظيمًا للشعائر، ثم تنتهي مهمته، إنَّ الإسلام منهج عملي واقعي للحياة، يواجه مناهج أخر، تقوم عليها سلطات، وتقف وراءها قوى مادية، فلا مفر للإسلام لإقرار منهجه الرباني من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخر، وتقاوم المنهج الرباني، فينبغي للمسلم ألا يستشعر الخجل حينما يعلن هذه الحقيقة الكبيرة. إنَّ الإسلام حينما ينطلق في الأرض إنما ينطلق لاعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده، وتحطيم ألوهية العبيد، وألا ينطلق بمنهج من صنع البشر، ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس لاسترقاق العبيد، ولا لاستغلال الأسواق، والخامات الرأسمالية، ولا لفرض مذهب

من صنع بشر جاهل قاصر؛ كالشيوعية، وما إليها من المذاهب البشرية، وإنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم، الحكيم، الخبير، البصير. هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون، الذين يقفون بالدين موقف الدفاع، وهم يتمتمون، ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي، والجهاد الإسلامي. 4 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: إنَّ كل ما يقدر عليه المسلمون من القوَّة العقلية، والبدنية، والعلمية داخل في ذلك كله. فيدخل في هذه القوَّة أنواع الأسلحة من المدافع، والرشاشات، والطائرات المقاتلة، والمدرعات، والدبابات، وجميع آلات القتال المناسبة لوقتها، كما يدخل فيها الرأي الحكيم، والسياسية الرشيدة، التي بها يتقدم المسلمون، ويدركون مطلوبهم، ويندفع بها عنهم شر أعدائهم. 5 - وقال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أقسم تعالى بالخيل، فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} [العاديات]، وقد جاء في سنن أبي داود، والنسائي من حديث أبي وهب الحتيمي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها، وأعجازها". وجاء في الصحيحين من حديث جرير قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يلوي ناصية فرسه بأصبعه، ويقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة". 6 - قال محمَّد رشيد: عظم الشارع أمر الخيل، وأمر بإكرامها. 7 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أمر الله بالاستعداد بالمراكب عند القتال؛ فقال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وكانت هي الموجودة في ذلك الزمن، ففيها إرهاب الأعداء، والحُكم

يدور مع علته، فإذا كان شيء موجودًا أكثر إرهابًا منها في القتال، فإنَّ النكاية فيها أشد، وكانت مأمورًا بها، والسَّعي في تحصيلها، حتى إذا لم توجد إلاَّ بتعلم الصنعة وجب ذلك؛ لأنَّ ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب. 8 - وقال سيد قطب: ويخص "رباط الخيل"؛ لأنَّه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة، ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك العين مما سيجد مع الزمن، لخاطبهم بمجهولات محيرة، والمهم هو عموم التوجيه. 9 - وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إنَّ القوَّة الرَّمي"، فهذا التأكيد تفسير منه -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ القوَّة المذكورة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] هي الرمي، قال الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. 10 - وأما الأحاديث: فقد روى أصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة، صانعه الذي يحتسب في صنعه الخير، والذي يجوز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله، وقال: ارموا واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا". وروى الخمسة من حديث عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ومن رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدلُ محررةٍ" والمحررة: الرقبة المعتقة. وروى الإِمام مسلم عن عقبة بن عامر قال؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من علِم الرمي ثم تركه، فليس منَّا". 11 - قال القرطبي: ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب،

والنكاية في العدو، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالذكر لها، والتنبيه عليها. 12 - وقال محمَّد رشيد: إنَّ رمي العدو عن بُعد بما يقتله، أسلم من مصاولته على القُرب بسيف أو رمح، أو حربة، وإطلاق الرمي يشمل كل ما يرمى به العدو، من سهم، أو قذيفة منجنيق، أو طيارة، أو مدفع، أو غير ذلك، وإن لم يكن هذا معروفًا في عصره -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ اللفظ يشمله، والمراد منه يقتضيه، وما يدرينا لعلَّ الله أجرى الرمي على لسان رسوله مطلقًا ليدل على العموم؛ لأنَّه في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه، ومن قواعد الأصول: أنَّ العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب. فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والدبابات، والطيارات، والمناطيد، وإنشاء المراكب الحديثة بأنواعها، ومنها الغواصات، وتجب عليهم تعلم الفنون، والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء، أو غيرها من قوى الحرب بدليل: "ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب". 13 - ثم قال السيد رشيد رضا: نعلم أنَّ الإِسلام دين رحمة، قد منع من التعذيب بالنار، كما يفعل الظالمون، والجبارون من الملوك بأعدائهم، كأصحاب الأخدود. ولكن من الجهل والغباوة أن نعدَّ حرب الأسلحة النارية للأعداء لنحاربهم بها من هذا القبيل بأن يقال: إنَّ ديننا دين رحمة بهم يأمرنا أن نتحمل قتالهم إيانا بهذه المدافع، وألا نقاتلهم بها رحمة بهم، أفلا يكون من العدل أن نعاملهم بمثل ما يقاتلوننا به، وهم ليسوا أهلاً للعدل في حال الحرب.

قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى]، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، والله أعلم. ... انتهى الجزء السادس ويليه الجزء السابع وأوله (كتاب الأطعمة)

توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام تَأليف رَاجي عَفو رَبّه عَبْد الله بن عَبْد الرحمن البَسَّام غفر الله له ولوالديه وللمسلمين طبعَة مصحَّحَة ومحقّقة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة الجزء السَّابعْ مكتَبة الأسدي مكّة المكرّمة

جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعَة الخامِسَة مُصحَّحَة وَمحَقَّقَة وَفيهَا زيَادَات هَامَّة 1493 هـ - 2003م مكتبة الأسدي مَكّة المكرَّمة - العزيزية - مَدخَل جَامِعَة أم القُرَى هاتف 5570506 - فاكس: 5575241 صَ. بَ: 2083

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة المقدمة واحدها: طعام، وهو جمع قلَّة؛ لكنَّه لما عُرِّف بالألف والَّلام أفاد العموم، وهو ما يُؤكل، وما يُشْرَب. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، قال القرطبي: "دلَّ على أنَّ الماء طعام". قال في تيسير العلاَّم: "الأصل في الطعام والشَّراب والِّلباس: الحل؛ فلا يَحرم منها إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله؛ لأنَّها داخلة في عموم العادات المبنية على الحل، والمحرَّم منها محدودٌ ومعدودٌ، ممَّا يدل على بقاء المتروك على أصله، وهو العفو. والأصل في هذا القول وصف النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ووصف شريعته: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وهذا يتناول جميع الأشياء: من مطعم، ومشرب، فكل ما ليس بخبيثٍ فهو طيبٌ حلال، فدخل فيه أنواع الحبوب، والثمار، وهي أوسع الأصناف حِلاًّ، ودخل فيه الحيوانات البحرية كلها، ودخل فيه الأنعام الثمانية، والخيل، ودخل فيه الطيور، والدجاج، والطواويس، ونحوها من حيوانٍ، وطيرٍ، إلاَّ ما كان خبيثًا. والخبث يعرف بأمور:

1 - أنْ ينص الشَّارع على خبثه؛ كالحمر الأهلية. 2 - أو ينص على حدِّه؛ ككل ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مِخْلَبٍ من الطير. 3 - أو يكون خبثه معروفًا؛ كالفأرة، والحية، والحشرات. 4 - أو يكون الشَّارع أمر بقتله، أو يكون نهى عن قتله. 5 - أو يكون معروفًا بأكل الجيف؛ كالنسر، والرخم، ونحوهما. 6 - أو يكون متولدًا من بين حلال وحرام، فيغلَّب التحريم، كالبغل. 7 - أو يكون خبثه عارضًا؛ كالجَلاَّلة التي تغذى بالنَّجاسة، والمائعات المتنجسة. 8 - أو يكون محرَّمًا لضرره البدني؛ كأنواع السموم. 9 - أو يكون محرَّمًا لضرره العقلي؛ كالخمر، والمخدرات. 10 - أو مذكَّى؛ تذكية غير شرعية؛ إمَّا لآلته، وإمَّا لمذكِّيه، وإمَّا للقصد من تذكيته. وما لم يوجد فيه سبب الخبث فهو حلال. ***

1149 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّباعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَأَخْرَجَهُ مِن حَدِيثِ ابنِ عبَّاسٍ بِلَفْظِ: "نهى"، وَزَادَ: "وَكلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - النَّاب: من الأسنان، هو الَّذي يلي الرباعيات. - السِّباع: بكسر السِّين، فالتخفيف، جمع سَبُع، وهو الحيوان المفترس، كالأسد، والنَّمر، والذئب، ونحوها ممَّا فيه غريزة سبعية، يعدو بها على النَّاس، والدواب، والأنثى سَبُعة. - مِخْلَب: بكسر الميم، وسكون الخاء، هو ظفر كل سبع من الماشي والطَّائر، جمعه مخالب ومخاليب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأصل في الأطعمة الحل؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، وأوسع الأشياء في الطيب والحل هي الحبوب والثمار. 2 - أمَّا اللحوم: فقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. ¬

_ (¬1) مسلم (1933). (¬2) مسلم (1934).

فهذه الآية الكريمة عامَّة في حل أكل لحم الحيوانات، إلاَّ ما ورد الشرع بتحريمه، فما ورد من المحرمات في سورة المائدة، وفي الأحاديث الواردة في التحريم، كحديث الباب فهو رافعٌ لمفهوم هذه الآية. 3 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وإذا كان الله لم يحرِّم من المطاعم إلاَّ ما ذكر، والتحريم لا يكون مصدره إلاَّ شرع الله، دلَّ ذلك على أنَّ المشركين الَّذين حرَّموا ما رزقهم الله مفترون على الله، متقوِّلون عليه ما لم يقله. 4 - حديث الباب يُثبِت تحريم كل ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير، فكل ذي نابٍ من السِّباع فهو محرَّم، وكل ذي مخلب من الطير فهو محرَّم، كالأسد، والنمر، والذئب، وهو الحيوان المفترس الذي جمع الوصفين النَّاب، والسبعيَّة لطبيعِيَّة فيه، والافتراس، فإذا تخلَّفت إحدى الصفتين لم يحرم، فهذا الحديث مبيِّن ومفسِّر لما أجمل في الآية، وإليه ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، والشَّافعي، وأحمد. 5 - أمَّا ذو المخلب من الطير فقال النووي: "تحريمه هو مذهب الجمهور، أبي حنيفة، والشَّافعي، وأحمد، وغيرهم، فقد استفاضت السنَّة بالنَّهي عنه، والنَّهي يقتضي التحريم". قال ابن القيم: "تواترت الآثار عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالنَّهي عن كل ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مخلب من الطير، وصحَّت صحَّة لا مطعن فيها". 6 - قال شيخ الإِسلام: "إنَّ العادي شبيه بالمعتدي، فيصير في نفسه من الظلم والعدوان بحسب ما اعتدى به". قال الأستاذ طبارة: "حرَّم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كل ذي مخلبٍ من الطير وكل ذي ناب من السباع؛ لما فيها من صلابة العضلات وقبح الرائحة، فلحوم هذه الحيوانات غير صالحةٍ لمعدة الإنسان؛ لأنَّها تبتذل مجهودًا عضليًّا في افتراسها غيرها، فتقوى بذلك عضلاتها، وتتصلَّب، وتكون عسرة الهضم.

* خلاف العلماء: اختلف العلماء أي المكاسب أفضل؟ فبعضهم فضَّل الزراعة، وبعضهم فضَّل التجارة، وبعضهم فضَّل العمل باليد. وأحسن ما يُقال: إنَّ الأفضل لكلِّ أحدٍ ما يناسب حاله، ولابُدَّ في جميعها من النصح، وعدم الغش. * فوائد: الأولى: حيوانات البحر كلها حلالٌ على الصحيح، فلا يستثنى منها شيء، ولا يحرم من الحيوانات البريَّة إلاَّ ما كان خبيثًا، وخبثه يُعرف بأمور: 1 - إمَّا أنْ ينص الشَّارع على خبثه؛ كالحُمر الأهلية. 2 - أو على حدِّه؛ كذي النَّاب من السِّباع. 3 - أو يكون معروف الخبث؛ كالحية. 4 - أو يأمر الشَّارع بقتله؛ كالفأرة. 5 - أو ينهى عن قتله؛ كالهدهد، والصرد. 6 - أو يكون معروفًا بأكل الجِيَف؛ كالنسر. 7 - أو متولدًا من حلالٍ وحرام؛ كالبغل. 8 - أو يكون خبثه عارضًا بسبب تولَّد النَّجاسة في بدنه؛ كالجلالة. 9 - أو يكون محرَّمًا لضرره البدني؛ كأنواع السموم، أو لضرره العقلي؛ كالخمر، والمخدرات. 10 - أو مذكًّى ذكاةً شرعيَّة، وقد تقدَّم في مقدَّمة الباب. فهذه الأسباب كلها تجعله خبيثًا. الثانية: قال الخطابي: "كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه؛ لحديث: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك". وقال شيخ الإِسلام: "الفرق بين الورع والزهد: أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخاف ضرره في الآخرة".

1150 - وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ في لُحُوْمِ الْخَيْلِ" مُتَّفَقٌ عليهِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "وَرَخَّصَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الحُمُر الأهلية: قال في المعجم الوسيط: الحمار حيوانٌ داجن، من الفصيلة الخيلية، يستخدم للحمل والركوب. قال في حياة الحيوان: ويوصف الحمار بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها, ولو مرَّة واحدة، كما يوصف بحدة السمع. وللناس في مدحه وذمّه أقوالٌ متباينة، بحسب الأغراض. - الخيل: جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، جمعه أخيال وخيول، وسُمِّيت خيلاً؛ لاختيالها في مشيتها، وقيل: أوَّل من ركبها -إسماعيل عليه السَّلام-، وذلك في مكَّة، ومن ذلك سُمِّيت بالعراب؛ فقد روى النسائي أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اركبوا الخيل؛ فإنَّها ميراث أبيكم إسماعيل". وقد سابق النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عليها، وجعل أمدًا وغايةً لسباقها، وكان سليمان -عليه السلام- يسابق عليها، ويحتفي بمنظر سباقها، فلها شانٌ كبير في أوَّل الدهر وآخره، ولذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]؛ قال الدميري: "الخيل أشرف ما رُكِب من الدواب". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، ولو توحشت. ¬

_ (¬1) البخاري (4219)، مسلم (1941).

قال ابن عبد البر: "لا خلاف في تحريمها"، أمَّا شارح البلوغ فقال: "تحريم أكل لحومها مذهب جماهير العلماء، من الصحابة، والتَّابعين، ومن بعدهم، إلاَّ ابن عبَّاس فقال: "ليست بحرام". فالإجماع الَّذي نقله ابن عبد البر بعد انتهاء الخلاف في عصر ابن عبَّاس. 2 - ثبت تحريم لحوم الحمر الأهلية بأحاديث كثيرة صحيحة، وجاء في تعليل تحريمها في رواية: "إنَّها نجس"، وفي لفظٍ: "إنَّها رجس". 3 - كما يحرم لحمها فإنَّ لبنها حرامٌ نجسٌ أيضًا، فلا يجوز شربه، ولو لدواء. 4 - مفهوم الحديث حل لحوم الحمر الوحشية، وهو صيد، فمن قتلها في الحرم أو الإحرام فعليه الجزاء، قال في شرح الإقناع: ويجب في حمار الوحش بقرة، قضى به عمر، وقاله عروة، ومجاهد. وهذا هو المسمَّى حمار الزرد، وهو من الحيوانات الإفريقية. 5 - يدل الحديث على حل لحوم الخيل؛ وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وصاحبا أبي حنيفة، وإسحاق، وجماهير العلماء من السلف والخلف؛ لهذا الحديث، ولما في معناه من الأحاديث الصحيحة. وأمَّا أبو حنيفة، ومالك: فذهبا إلى كراهة أكل لحومها، واستدلا بما رواه خالد بن الوليد قال: "نهى -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الخيل، والبغال، والحمير، وكل ذي نابٍ من السباع" [رواه أحمد (6376)] لكن ضعَّف الحديث أحمد، والدَّارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، قال البيهقي: إسناده مضطرب، مخالف لرواية الثقات. ومن أدلَّة من كره لحوم الخيل قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، فذكر الركوب والزينة، ولم يذكر الأكل. وأجاب المبيحون أكلها: بأنَّ ذكر الركوب والزينة لا يدل على أنَّ منافعها مقصورة عليهما، وإنَّما خصَّا بالذكر؛ لأنَّهما المقصود الأعظم من الخيل، والله أعلم.

1151 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَ غَزوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الجَرَاد: بفتح الجيم، والرَّاء، الواحدة جرادة، تطلق على الذكر والأنثى، قيل: إنَّه مشتقٌّ من الجرد؛ لأنَّهُ ما ينزل على شيءٍ إلاَّ جرده. قال في بعض الموسوعات العلمية: "الجراد يتبع فصيلة الحشرات، حجمه كبير، ولونه أحمر قبل البلوغ، وأصفر بعده، يُغِير غالبًا من شرق إفريقيا، ويهاجر ليجتاز المسافات الشَّاسعة؛ ليغزو مناطق جديدة، فإذا وصل إلى أرض مزروعة أكلت الزرع". قال في حياة الحيوان: "الجراد مفرده جرادة، تطلق على الذكر والأنثى، والجراد أصناف مختلفة، فبعضه كبير الجثَّة، وبعضه أحمر، وبعضه أصفر، وبعضه أبيض". قال في الوسيط: "الجراد فصيلة الحشرات المستقيمات الأجنحة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حديث الباب يدل على حِل أكل الجراد، وقد أجمع المسلمون على إباحة أكله، وروى ابن ماجة (3220) من حديث أنس قال: "كان أزواج النبَّي -صلى الله عليه وسلم- يتهادين الجراد في الأطباق". 2 - قال الأئمة الأربعة بحل أكله، سواء مات حتف أنفه، أو باصطياد مجوسي، أو مسلم، قُطِعَ منه شيء، أم لا. ¬

_ (¬1) البخاري (5495)، مسلم (1952).

فقد روى الإِمام أحمد (5690)، وابن ماجة (3218) من حديث ابن عمر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الجراد والحوت، والدمان: الكبد والطحال". 3 - قال ابن كثير: "وأمَّا الجراد فمعروف مشهورٌ، وهو مأكول، سُئِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الجراد فقال: "لا آكله ولا أحرمه" [رواه أبو داود (3813)] وإنَّما تركه؛ لأنَّه كان يعافه؛ كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب، وأَذِنَ فيه. وكان عمر يشتهيه ويحبه، ويقول: "ليت عندنا منه قفة أو قفتين نأكله". ***

1152 - وَعَنْ أَنسٍ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصَّة الأرْنَب قَالَ: "فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَبِلَهُ" مُتَّفَقٌ عليْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قِصَّة الأرنب: قال أنس: أنفجنا أرنبًا ونحن بمَرّ الظهران، فسعى القوم وتعبوا، فأخذتها، فجئت بها إلى أبي طلحة، فبعث بوَرِكها .... الحديث. - أرنب: بفتح الهمزة، وسكون الرَّاء، حيوان ثديي، منه البري والداجن، كثير التوالد، سريع الجري، يده أقصر من رجليه، يُقال: أرنب، للذكر والأنثى، جمعه أرانب. قال في حياة الحيوان: "الأرنب: جمعه أرانب، وهو حيوان يشبه العَناق، قصير اليدين، طويل الرجلين، يطأ الأرض على مؤخرة قوائمه، وهو اسم جنس، يطلق على الذكر والأنثى". قال في الوسيط: "الأرنب حيوان ثديي، يؤكل لحمه، ومنه البري والدَّاجن، كثير التوالد، سريع الجري، يداه أقصر من رجليه، يطلق على الذكر والأنثى، والأفصح اختصاصه بالأنثى، وخُصَّ الخزز بالذكر. - وَرِكها: بفتح الواو، وكسر الرَّاء، ويجوز كسر الواو، وسكون الرَّاء: هو ما فوق الفخذ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أجمع العلماء على حِل أكل الأرنب، فقد جاء في صحيح البخاري (2572): "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ وركها، وفخذها، وأكل منه". ¬

_ (¬1) البخاري (2572)، مسلم (1953).

2 - حديث الباب يدل على حل أكلها، والإجماع واقع على حل أكلها. 3 - كَرِه أكلها عبد الله بن عمر، وعكرمة، وابن أبي ليلى؛ لما روى أبو داود (3792) والبيهقي (9/ 321) من حديث عبد الله بن عمر: "أنَّها جيء بها إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يأكلها, ولم ينه عنها". وتقدَّم أنه جاء في البخاري: "أنه أكلها"، وإذا صحَّ أنَّه لم يأكلها، فإنَّ هذا لا يدل على تحريمها، وإنَّما يدل على كراهة نفسية، لا شرعية. ***

1153 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنْ قَتْلِ أَرْبعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، والنَّحْلةِ، وَالهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو داودَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنِّف: رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه ابن حبان. وقال البيهقي وابن دقيق العيد: "رجاله رجال الصحيح، وهو أقوى ما ورد في هذا الباب" وصحَّحه الحافظ في التلخيص. وله شاهد من حديث سهل بن سعد عند البيهقي. * مفردات الحديث: - الدواب: جمع دابَّة، ويصغَّر على "دُوَيْبَّة". قال في المصباح: كل حيوانٍ في الأرض دابة، وخالف فيه بعضهم فأخرج الطير من الدواب، ورُّدَّ بالسماع، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]. وأمَّا تخصيص الفرس والبغل بالدَّابة عند الإطلاق فعُرْفٌ طارىء. - النَّمْلة: مفرد النمل، والجمع نمال، سميت نملة؛ لتنملها، وهو كثرة حركتها، وهي حشرة ضئيلة الجسم من رتبة غشائيات الأجنحة، وقسم ذوات الحمة، تتخذ مساكنها تحت الأرض، وتعيش في جماعة من أفراد نوعها، دائبة العمل، متعاونة، عظيمة الحيلة في طلب الرزق، ومن طبعه أن يحتكر ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 332)، أبو داود (5267)، ابن ماجة (3224)، ابن حبان (1078).

قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار أمور عجيبة. - النَّحْلَة: هي حشرة من الفصيلة النحلية، وإليها تنسب فصيلة النحليات، تربَّى للحصول على عسلها وشمعه. - الهُدْهُد: جنس طير من الجواثم الرقيقات المناقير، له قنزعة على رأسه. - الصُّرَد: بضم الصاد وفتح الراء، طائرٌ أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار، يصيد صغار الحشرات، وربما افترس العصفور. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حديث الباب يدل على تحريم قتل النملة، وجاء في البخاري (3319) ومسلم (2241) من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نزل نبيٌّ من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تحت شجرة، فلدغته نملة، فأَمَر بقرية النمل فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة! " قال أبو عبد الله الترمذي: لم يعاتبه الله على تحريقها، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء بغير البريء. 2 - النحلة: حشرةٌ من رتبة غشائيات الأجنحة في الفصيلة النحلية، تُرَبَّى للحصول على عسلها وشمعه، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} [النحل: 68]. قال الزجاج: "سُمِّيت نحلاً؛ لأنَّ الله تعالى نحل النَّاس العسل الَّذي يخرج منها، إذ النِّحْلة العطية". قال الدميري: "النَّحل حيوانٌ فهيمٌ، ذو كَيَسٍ، وشجاعةٍ، ونظرٍ في العواقب، ومعرفة بفصول السنة، وأوقات المطر، وتدبير المطعم، والطاعة لكبيره، والاستكانة لأَميره". وله أحوالٌ، وترتيبٌ، وتنظيمٌ يطول عدّه، فسبحان من أعطى كل شيءِ خلقه، ثمَّ هدى. 3 - الهدهد: بضم الهاءين، وإسكان الدال المهملة، جمعه هداهد وهداهيد،

وهو طائر معروف، ذو خطوط وألوان كثيرة، رقيق المنقار، له قنزعة على رأسه، وهو من فصيلة الجواثم. وهو منتن الريح طبعًا؛ لأنَّه يبني أفحوصه بالزبل، وهذا عامٌّ في جميع جنسه. 4 - الأصح هو تحريم أكله؛ لأنَّه منتن الريح، ويقتات الدود والخبث، وَلأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتله. 5 - الصُّرد: قال في شرح الإقناع: هو طائر أبقع أبيض البطن، أخضر الظهر، ضخم الرَّأس والمنقار، وهو نوعٌ من أنواع الغربان، يصيد العصافير، وصغار الطير، ويصرصر كالصقر. قال الدميري: "هو طائر شرس النفس، شديد النقرة، غذاؤه من اللحم، ومأواه الأشجار، ورؤوس القلاع، وأعلى الحصون". 6 - الأصح تحريم أكله لهذا الحديث. 7 - الحديث دليل على تحريم قتل هذه الأصناف الأربعة، كما يدل على تحريم أكلها؛ لأنَّه لو حلَّ أكلها لما نهى عن قتلها. 8 - من ضوابط معرفة محرم الأكل من الحيوان والطير: أنْ يأمر الشَّارع بقتله؛ كالخمس الفواسق، أو ينهى عن قتله؛ كالأربعة المذكورة في هذا الحديث. 9 - كل ما نُهِيَ عن قتله من الحيوان، والطير، والحشرات، هو ما لم يكن منه أذى، فإن حصل منه الاعتداء، والأذى، حل قتله، ولو بما يبيده جميعه، كاستعمال الأشياء المبيدة له. ***

1154 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَال: "قُلْتُ لجابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الضَّبُعُ صَيْدٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قلْتُ: قالَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ البُخَارِيُّ وابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أبو داود، والدَّارمي، والطحاوي، وابن حبان، والدَّارقطني، والحاكم، وغيرهم من طرق، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر، قال: "سألت النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الضبع؟ فقال: هو صيد". وصحَّحه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. * مفردات الحديث: - الضَّبع: بتشديد الضاد المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وضمها، جنس من الفصيلة الضبعية، ورتبة اللواحم، كبيرة الرَّأس، قويَّة الفكين. قال الدميري: "الذكر ضَبْعَان، والجمع ضباعين، وأضبُعٌ، ويتغذَّى ببقايا الفريسة". الضبع: جنس من الحيوان من فصيلة ورتبة آكلة اللحوم، ولفظ الضبع مؤنثة، وقد تطلق على الذكر، ولا يقال: ضبعة، جمعه: أضبع وضباع، ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 318)، أبو داود (3801)، الترمذي (851)، النسائي (5/ 191)، ابن ماجة (3236)، ابن حبان (1068).

والذكر يُقال له: ضبعان، والأنثى: ضبعانة، جمعه: ضباعين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حديث الباب يدل على حل أكل لحمها، وأنه صيد، والصيد مباح، وقد اختلف العلماء في حلها: فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى حلّها؛ مستدلين بهذا الحديث، وبما رواه الحاكم (1/ 623) وصحَّح إسناده من حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الضبع صيد، وجزاؤه كبش مسن". قال الترمذي: "سألت البخاري عنه؟ فقال: إنَّه حديثٌ صحيح". أمَّا أبو حنيفة: فقال: يحرم. وأمَّا مالك: فقال: يكره. ودليل أبي حنيفة على تحريمها حديث: "كل ذي نابٍ من السباع فأكله حرام"، والضبع ذو ناب. قال الأوزاعي: "كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها". قال في المغني: "وهو القياس، إلاَّ أنَّ اتباع السنَّة أولى". والصحيح حل أكلها، فقد قال الشافعي: "ما زال النَّاس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير". 2 - قال شيخ الإِسلام: "مباحة عند جماهير العلماء، ومنهم مالك، والشَّافعي، وأحمد، وغيرهم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّها صيدٌ"، وأمر بأكلها, ولأنَّ العرب تستطيبه وتمدحه". 3 - قال الدميري في حياة الحيوان: "الضبع لا يغتذي بالعدو فهو يعيش بغير أنيابه". قال ابن القيم: "إنَّما حُرِّم ما له نابٌ من السباع العادية بطبعها، كالأَسد،

وأمَّا الضبع فإنَّما فيها أحد الوصفين، وهو كونها ذات نابٍ، وليست من السباع العادية، والسبع إنَّما حرم؛ لِما فيه من القوَّة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهًا, ولا تعد الضبع من السباع لا لغةً ولا عرفًا". قلت: وبهذا فحديث "كل ذي نابٍ من السباع" لا يصلح دليلاً على تحريمها. ***

1155 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ القُنْفُذِ؟ فَقَالَ: " {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} الآيَةَ، فقال شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: إِنَّهَا خَبِيثَةٌ مِنَ الخبَائثِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ هَذَا فَهُو كمَا قَالَ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاودَ، وإِسْنَادُهُ ضعِيفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي من طريق عيسى بن نميلة عن أبيه. قال البيهقي: هذا حديثٌ لم يرد إلاَّ بهذا الإسناد، وهو ضعيف. وقال الخطابي: "ليس إسناده بذاك". وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف". وقال الألباني: "علته عيسى بن نميلة، وأبوه، فهما مجهولان". * مفردات الحديث: - القُنْفُذ: بضم القاف، وسكون النون، آخره ذال معجمة، هو حيوانٌ ثدييٌّ، صغيرٌ، مغطًّى بالأشواك، وإذا واجهه خطرٌ كوَّر نفسه، فلا تظهر منه إلاَّ أشواكه الحادَّة في كلِّ اتجاه، وبذلك يُدافع عن نفسه، يتغذَّى بالفاكهة، وجذور النبات، والحشرات. قال في الوسيط: دويبة من الثدييات، ذات شوكٍ حادٍّ، يلتف فيصير ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 381)، أبو داود (3799).

كالكرة، وبذلك يقي نفسه من خطر الاعتداء عليه، وجمعه قنافذ، ويُقال: العسعاس؛ لكثرة ترددها بالليل. وهو مولعٌ بأكل الأفاعي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على تحريم أكل القنفذ، وأنَّها خبيثةٌ من الخبائث، وكأنَّ ابن عمر -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يبلغه الحديث، فأفتى على موجب اجتهاده من عموم الآية الكريمة بحلها، فلمَّا بلغه النَّص قدَّمه على الاجتهاد. 2 - اختلف العلماء في تحريم القنفذ، فذهب إلى ذلك الإمامان: أبو حنيفة: وأحمد؛ لهذا الحديث، ولأنَّه من الخبائث، والله تعالى حرَّم الخبائث. وذهب مالك، والشافعي؛ إلى حله؛ تمشيًا مع القول بأن الأصل في الحيوان الإباحة، وفيها خلافٌ أصوليٌّ، وأمَّا الحديث فلم يثبت لديهم. ***

1156 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنِ الجَلاَّلةِ، وألْبَانِهَا" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائِيَّ، وحسَّنَهُ التِّرمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ورجاله ثقات، إلاَّ أنَّه اختلف فيه على ابن أبي نجيح، لكن رواه البيهقي من وجهٍ آخر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر. وقد حسَّنه الترمذي، فإنَّ له شواهد تشهد له بالصحة، جاءت عن ابن عبَّاس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة: فحديث ابن عباس: رواه أحمد، والأربعة، وصححه ابن دقيق العيد، وحسَّنه الحافظ. وحديث ابن عمرو: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم. وحديث أبي هريرة: رواه الحاكم، والبيهقي، وإسناده قوي. * مفردات الحديث: - الجَلاَّلة: من صيغ المبالغة، هي الحيوان الَّذي يأكل الجُلّة، والعذرة، والنَّجاسات، سواءٌ أكانت الجلالة من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج، أو غير ذلك من الحيوان، والطير المأكول. ¬

_ (¬1) أبو داود (3785)، الترمذي (1824)، النسائي (3189).

قال الدميري: الجلاَّلة من الحيوان: هو الَّذي يأكل الجلَّة، والعذرة. وقال في شرح الإقناع: "الجلاَّلة هي التي علفها النجاسة". وقال النووي: "لا تكون جلالة إلاَّ إذا غلب على علفها النجاسة". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حديث الباب له شواهد كلها مرفوعة إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، منها: (أ) ما رواه أحمد (1990)، وأبو داود (3786)، والترمذي (1825) عن ابن عبَّاس: "نهى عن شرب لبن الجلالة"، وفي رواية: "نهى عن ركوب الجلاَّلة". (ب) ما رواه أبو داود (3787) عن ابن عمر: "نهى عن الجلاَّلة في الإبل: أنْ يركب عليها، أو يشرب من ألبانها". (ج) ما رواه أحمد (6999)، وأبو داود (3811)، والنسائي (4447)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "نهى عن لحوم الحمر الأهلية والجلالة: عن ركوبها وأكل لحومها". 2 - وأمَّا حبسها عن النجاسة فهناك روايات: (أ) ما أخرجه الحاكم (2/ 46)، والدَّارقطني (4/ 283)، والبيهقي (9/ 333) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "حتَّى تعلف أربعين ليلة". (ب) "كان ابن عمرو إذا أراد أكلها، حبسها ثلاث ليال بأيَّامها". 3 - الأحاديث تفيد النَّهي عن أكل لحوم الجلاَّلة، وشرب لبنها، وركوبها؛ لأنَّ لحمها, ولبنها، وعرقها، متولدات من النجاسة، فهي نجسة. 4 - قال في شرح الإقناع: وتحرم الجلَّالة، ويحرم لبنها، وبيضها؛ لأنَّه متولدٌ عن نجاسة. ويكره ركوبها؛ لأجل عرقها حتَّى تحبس ثلاث ليال بأيامهنَّ، وتطعم الطَّاهر، وتُمنع النجاسة، طائرًا كان أو بهيمة، فإذا تمَّت المدَّة طهرت وحلَّت.

1157 - وَعَنْ أَبِي قتادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قِصَّةِ الحِمَارِ الْوَحْشِيِّ: "فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال في حياة الحيوان: الحمار الوحشي يسمَّى الفَرَاء، ويعيش طويلاً، وهو من الصيد، قال في شرح الإقناع: ويجب في كلِّ واحدٍ من حمار الوحش بقرةٌ، قضى به عمر، وقال عروة ومجاهد: لأنَّها شبيهة به. 2 - تمام حديث الباب، كما في الصحيحين عن أبي قتادة قال: "كنت يومًا جالسًا مع رجال من أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في منزل في طريق مكَّة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم -عام الحديبية- فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغولٌ أخصف نعلي، فلم يُؤذنُوني، وأحبوا لو أنِّي أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس، فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح، فقلت: لهم ناولوني السوط والرمح، فقالوا: والله لا نعينك عليه، فغضبت، ونزلت، فأخذتهما ثم ركبت، فشددت على الحمار، فعقرته، ثمَّ جئت به، وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنَّهم شكوا في أكلهم إيَّاه -وهم حرمٌ- فرحنا وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألناه، فقال: هل معكم منه شيء؟ فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها وهو محرم، وسأل هل أشار إليه إنسان منكم، أو أمره بشيءٍ؟ فقالوا: لا، قال: فأكلوه". 3 - الحديث يدل على إباحة وجواز أكل الحمار الوحشي، وأنَّه من الصيد الطيب، وجواز أكله إجماع العلماء، قال الإِمام الشافعي: لا نعلم في حل الحمار الوحشي خلافًا، إلاَّ ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، وأهلُ العلم قاطبةً على خلاف قوله. ¬

_ (¬1) البخاري (2854)، مسلم (1196).

1158 - وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: "نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الفرس: قال في الموسوعة الدينية: "حيوان ثدي، وحيد الحافر، يتبع الفصيلة الخيلية، يستعمل للركوب، والحصان العربي أرقى أنواع الخيل، يمتاز بالسرعة، وقوة الاحتمال، وخفَّة الحركة". 2 - الحديث دليل على إباحة أكل لحم الفرس، فقد أقرَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أكله، وإقراره على الشيء من سنته. 3 - النحر: هو تذكية الإبل خاصَّة، وما عداها فهو يذبح ذبحًا، لا نحرًا، ورواية الحديث عن أسماء تقول: إنَّهم نحروه. وقد أجاز جمهور العلماء نحو ما يذبح من الحيوان والطير، وذبح ما ينحر منها، إلاَّ أنَّ الأفضل في الإبل النحر، وفيما عداها الذبح. * خلاف العلماء: ذهب الإِمام مالك: إلى أنَّ أكل لحوم الخيل مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ. وذهب الإِمام أبو حنيفة: إلى أنَّه يكره أكله، واستدل على كراهته بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]؛ فالآية جاءت للامتنان، ولو أُبيح أكلها, لكان أعظم منَّة من الركوب والزينة. والجواب: أنَّ الآية خرجت مخرج الغالب؛ لأنَّ الغالب في الخيل إنَّما هي للزينة والركوب دون الأكل. ¬

_ (¬1) البخاري (5510)، مسلم (1942).

وذهب الإمامان: الشافعي، وأحمد إلى إباحة أكل لحومها؛ لما يأتي: 1 - حديث الباب صحيحٌ صريح. 2 - ما في البخاري (4219) ومسلم (1941) من حديث جابر: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأَذِنَ في لحوم الخيل". 3 - وفي رواية الترمذي (1793): "أطعمنا رسول الله لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر". وحِلها هو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، ومنهم ابن الزبير، وشريح، والحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحمَّاد بن زيد، والليث، وابن سيرين، وسفيان الثوري، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم من السلف، والله أعلم. ***

1159 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أُكِلَ الضَّبُّ علَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الضَّبّ: بفتح الضاد، وتشديد الباء الموحدة، جمعه ضباب وأضب، وهو حيوان من جنس الزواحف، من رتبة العظاه، غليظ الجسم، خشنه، وله ذنب عريض ذو عُقَد، يسكن في الصحاري العربية. قال في الوسيط: "الضب حيوانٌ من جنس الزواحف، من رتبة العظاه، غليظ الجسم، خشنه، وله ذنب عريض حرش أعقد، يكثر في صحاري الأقطار العربية". وقال في الموسوعة الميسرة: "الضب آكل عشب، يعدو بسرعة، ويتسلق بخفة". وقال الدميري: "الضب حيوان بري، يشبه الورل، جمعه ضباب وأضب، والأنثى ضبة". وقال ابن خالويه: "الضب: لا يشرب الماء، ويعيش سبعمائة سنة، لا تسقط له سن، وهو طويل الدم؛ فإنَّه يمكث بعد الذبح ليلة، ويُلْقَى في النَّار فيتحرَّك". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام حديث الباب ما جاء في البخاري (5391) ومسلم (1946) عن ابن عباس، عن خالد بن الوليد؛ أنَّه أخبره أنَّه دخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ¬

_ (¬1) البخاري (7358)، مسلم (1947).

ميمونة -وهي خالة ابن عبَّاس- فوجد عندها ضبًّا محنوذًا، قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فَقَدَّمَتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأهوى بيده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أَخْبِرْنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قدمته له، قلن: هو الضب يا رسول الله! فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده، فقال خالد بن الوليد: أحرامٌ الضب يا رسول الله؟ قال: "لا, ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر، فلم ينهني. 2 - الحديث يدل على جواز أكل الضب، وأنَّه حلال، وهو من الصيد الذي يحرم قتله وصيده في الحرم والإحرام، قال في شرح الإقناع: "وفي الضب جدي قضى به عمر، والجدي الذكر من أولاد المعز، ما بلغ ستَّة أشهر". 3 - وقال في شرح الإقناع: فيباح ضب، قال أبو سعيد: "كُلُّنا معشر أصحاب محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن يُهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة". وحِلُّ أكله هو إجماع العلماء، وقال النووي: "لا تصح كراهته عن أحد، وإنْ صحَّ فمرجوحٌ بالنصوص، وإجماع من قبله". وكونه عافه -صلى الله عليه وسلم- لا ينافي كونه لا يعيب طعامًا قط، وما ذُكِر أنَّه ممسوخٌ، فقد ثبت بالأحاديث أنَّ كُلَّ ممسوخ لا عقب له. ***

1160 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنِ الضِّفْدَع يَجْعَلُهَا في دَوَاءً؟ فنَهَى عَنْ قَتْلِهَا" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المصنِّف: أخرجه أحمد، والحاكم، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي، وقال: هو أقوى ما ورد في النَّهي عن قتل الضفدع؛ وله شاهدٌ في الصحيح. وقد جاء من حديث ابن عمر: "لا تقتلوا الضفدع، فإنَّ نقيقها تسبيح"، قال البيهقي: إسناده حسن، وقد صحَّحه الحاكم. * مفردات الحديث: - الضِّفْدَع: جمع ضفدعة، حيوان برمائي (نسبة إلى البر والماء)، ذو نقيق، ويُقال للذكر والأنثى، وجمعه ضفادع. قال في الموسوعة: "الضفدع: حيوانٌ برمائي يوجد بالمياه العذبة الهادئة، والأحراج، أملس الجلد، أخضر اللون في الغالب، أو بني. لبعض أنواعه إفرازات بهيجة أو سامَّة، يعيش الضفدع في جميع أنحاء العالم". قال الدميري: "الضفدع: بكسر الضاد، وسكون الفاء، والعين المهملة، بينها دال مهملة، واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة". ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 499)، الحاكم (4/ 411)، أبو داود (3871)، النسائي (7/ 210).

الضفادع أنواع كثيرة، وتتولد في المياه القاتمة الضعيفة الجري، ومن العفونات، وعقب الأمطار الغزيرة، وهي من الحيوانات التي لا عظام لها، ومنها ما يَنِق وما لا يَنِق، وتوصف بحدة السمع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يفيد النهي عن قتل الضفدع، والنهي يقتضي تحريم قتلها. 2 - تحريم قتلها يفيد تحريم أكلها؛ فإنَّه لو جاز أكلها, لما حرم قتلها، وتحريم أكلها والنَّهي عن قتلها: هو إجماع العلماء. قال البيهقي عن حديث الباب: هو أقوى ما ورد في النهي عن قتل الضفدع. 3 - الطبيب سأل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الضفدع يجعلها في دواء؟ فنهى عن قتلها. قال الدميري: لحوم الضفادع تغثي النفس، وتورث إسهالًا دمويًّا، فيتغير منه لون البدن، ويختلط العقل، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمَّد. ***

باب الصيد

باب الصيد مقدمة الصيد: مصدر صاد يصيد صيدًا، فهو صائد، وقد أطلق المصدر على اسم المفعول، فعومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيدة كقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} و {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 95 - 96]. وتعريفه شرعًا: الصيد: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا، غير مملوك، ولا مقدور عليه. وهو مباح بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس: قال تعالي: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 95 - 96]. والأحاديث كثيرة، ومنها ما في البخاري (2322)، ومسلم (1575) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اتخذ كلبًا -إلاَّ كلب صيدٍ، أو زرعٍ، أو ماشيةٍ- انتقص من أجره كل يوم قيراط". وقد أجمع العلماء على حله، وإباحة أكله، ويقتضيه القياس الصحيح. قال في شرع الإقناع: والصيد أفضل مأكول؛ لأنَّه حلال لا شبهة فيه. وقال أيضًا: الزراعة أفضل مكتسب؛ لأنَّها أقرب إلى التوكل من غيرها، وأقرب للحل، ومنها عمل اليد، والنفع العام للآدمي، والدواب. وقيل: التجارة أفضل المكاسب، وأفضلها التجارة في البز والعطر، وأبغضها التجارة في رقيقٍ، وصَرْفٍ؛ للشبهة.

ويُسن التكسب، ومعرفة أحكامه؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. فالأخذ بالأسباب المباحة المشروعة من التوكل. ولا يُعتَقد أنَّ الرزق من الكسب، بل هو من الله، بواسطة أسبابه التي هدانا الله تعالى إليها. ويُشترط لحلِّ الصيد أربعة شروط: أحدها: أهلية الصَّائد، وهو الَّذي تحل ذبيحته. الثاني: الآلة، وهي نوعان: إمَّا آلة حادة، أو سهم يخرق الجلد. والنوع الثاني: الجارح المعلَّم؛ كالكلب، والصقر. الثالث: إرسال الآلة قاصدًا للصيد؛ فلا يحل إنْ استرسل بنفسه. الرَّابع: قول الصائد: "باسم الله" عند إرسال جارحه، أو سهمه؛ فلا يُباح ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى من عالِمٍ عامد. ***

1161 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا -إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أوْ زَرْعٍ- انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيراطٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ماشية: الماشية اسم يقع على الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما تستعمل في الغنم، ويُجمع على مواشٍ. - أو: من حروف العطف، ولها فيه معان كثيرة، أحدها: التنوع، وهو المراد هنا. - قِيراط: القيراط: معيار في الوزن، اختلفت مقاديره باختلاف الأزمنة، وهو الآن وزن أربع قمحات، وفي القياس جزء من أربعة وعشرين جزءًا، ولكنه في مثل هذه النصوص أمرٌ مجهول المقدار، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تبع جنازة مسلم، وكان معها حتَّى يفرغ من دفنها، فإنَّه يرجع بقيراطين: كل قيراط مثل جبل أُحُد". قيراط: مرفوع على أنَّه نائب فاعل. - الكلب: حيوانٌ أهليٌّ، من الفصيلة الكلبية، من رتبة اللواحم، جمعه كلاب وأكلب. قال الدميري: الكلب حيوان ليس سبُعًا, ولا بهيمة، فهو من الخلق المركَّب؛ لأنَّه لو تمَّ له طباع السبعية، ما ألف النَّاس، ولو تمَّ له طباع البهيمة، ما أكل لحم الحيوان، وهو نوعان: أهلي، وسلوقي؛ نسبة إلى ¬

_ (¬1) البخاري (2322)، مسلم (1575).

أسلوق وهي مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية، وكذا النوعين في الطبع سواء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء في البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهنَّ بالتراب" فهذا يدل على أنَّ نجاسة الكلب نجاسة مغلَّظة لشدَّة قذارته. 2 - حديث الباب يدل على تحريم اقتنائه، واتخاذه. فقد روى مسلم (2113) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصحب الملائكة رفقةً فيها كلبٌ أو جرس". 3 - ويدل الحديث على نقص أجر مقتني الكلب كل يوم قيراطًا من الأجر، وهو قدرٌ عظيم قرَّبه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأفهام في بعض الأحاديث بأنَّه مثل الجبل العظيم: جبل أُحُد. 4 - اكتُشفت بالمكبرات الحديثة أنَّ في لعاب الكلب ميكروبات معدية فتاكة؛ ولذا صارت نجاسته مغلظة، فلا يطهر ما أصابته إلاَّ بغسله سبع مرَّات، إحداهن بالتراب الَّذي يحمل قوَّة الإنقاء والتطهير. 5 - قال الأستاذ عفيف طبارة: ومن حِكَم الإِسلام وقاية الأبدان من نجاسة الكلاب، وهذه معجزة علمية للإسلام، سبق بها الطب الحديث الَّذي أثبت أنَّ الكلاب تنقل كثيرًا من الأمراض إلى الإنسان. قال الدكتور الألماني (كوسموس): إنَّ زيادة شغف النَّاس باقتناء الكلاب في هذا العهد الأخير، يضطرنا إلى لفت الأنظار للأخطار التي تنجم عن ذلك، وخاصَّة إذا دفع اقتناؤها إلى مداعبتها وتقبيلها، والسماح لها بلمس أيدي أصحابها، وتركها تلعق فضلات الطعام من أوانيها.

فكل ما ذكر مع نبوّه عن الذوق السليم، فإنَّه لا يتفق ومبادىء الصحة، فإنَّ الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب هذا التسامح ممَّا لا يستهان بها؛ فإنَّ الكلاب تصاب بدودة شريطية تتعدَّاها إلى الإنسان بمرض عُضال، قد تصل إلى حد العدوان على حياته. وقد ثبت أنَّ جميع أجناس الكلاب حتَّى أصغرها حجمًا لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية. 6 - استثني من تحريم اقتناء الكلب ثلاث حالات: إحداها: الكلب الَّذي يحرس الماشية من السباع، كالذئاب، ويحرسها من اللصوص. الثانية: الكلب الَّذي يعد لحراسة المزارع، لاسيما مزارع الأطراف والضواحي، التي يخشى على أهلها، وعلى مواشيهم، وثمارهم، وزروعهم من اللصوص والسباع. الثالثة: الكلب المعد للصيد، الَّذي سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى. فاقتناء الكلاب واتخاذها لواحدةٍ من هذه الحالات الثلاثة مباح، ومستثنى من التحريم. 7 - قال العلماء: حكمة التحريم في بقاء الكلب في البيت واقتنائه، هو ما يسبب من ترويع النَّاس، وامتناع دخول الملائكة في بيتٍ فيه كلب، وما فيه من النجاسة والقذارة. * خلاف العلماء: اختلف العلماء هل اقتناؤه واتخاذه لغير حاجة، محرم، أو مكروه؟ فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى أنَّ اقتناءه محرَّم لما جاء من الأحاديث الصحيحة من شدَّة نجاسته، وعدم دخول الملائكة بيتًا هو فيه، ونقص الثواب والأجر باقتنائه لغير حاجة.

قال في المجموع: وحكى الروياني عن أبي حنيفة جوازه. قال النووي: ويجوز اقتناء الكلب للصيد أو الزرع أو الماشية بلا خلاف. وأمَّا اقتناؤه لحفظ الدور والدواب فوجهان مشهوران: أحدهما: لا يجوز؛ للخبر. الثاني: يجوز؛ لأنَّه لحفظ مال، فأشبه الزرع والماشية. واختلف العلماء في جواز بيع الكلب: فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى بطلانه، وأنَّه لا يجوز؛ لما جاء في البخاري (5346)، ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود عقبة بن عامر قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". وغيره من الأحاديث. وقال بتحريم بيعه وبطلانه كل من: الحسن البصري، وربيعة، وحماد، والأوزاعي، وداود. وذهب أبو حنيفة: إلى جواز بيع الكلاب كلها، وأخذ ثمنها، وضمانها على من أتلفها. واختلف أصحاب مالك: فبعضهم أجاز بيع الكلب المأذون في إمساكه، وبعضهم قال: لا يجوز. واحتج من أجاز بيعه بما أخرجه مسلم (1569) من حديث جابر قال: "زجر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب والسنور"، ولأنَّه يُباح الانتفاع به، ويصح نقل اليد فيه، والوصية به، فصح بيعه؛ كالحمار. وممَّن أجاز بيعه من السلف: جابر بن عبد الله، وعطاء، والنخعي. ***

1162 - وعَنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ ادْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يأكلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلاَّ أثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا في المَاءِ، فَلاَ تَأْكُلْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (¬1). 1163 - وَعَنْ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنْ صَيْدِ المِعْرَاضِ فَقَالَ: "إِذَا أصَبْتَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَإِذَا أصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ؛ فَلاَ تأْكُلْ" رواهُ البُخاريُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المِعْرَاض: بكسر الميم، وسكون العين المهملة، ثمَّ ألف، بعدها ضاد معجمة، وهو عصا في طرفه حديدة يرمي بها الصائد، فما أصاب بحده، يؤكل، وما أصاب بغير طرفه الحاد فهو وقيذٌ لا يؤكل. - حدّه: حدّ كل شيءٍ: طرفه الرقيق الدقيق الحاد. - عَرضه: العرض بفتح العين المهملة، وسكون الراء: جانب الشيء، وناحيته. ¬

_ (¬1) البخاري (5484)، مسلم (1929). (¬2) البخاري (5476).

- وقيذ: بفتح الواو، وكسر القاف المثنَّاة، وذال معجمة، بزنة عظيم، والموقوذة: هي المضروبة بمثقل من عصا، ونحوه، حتَّى يموت. - السهم: واحد النبل، وهو نصل يُرمى به من القوس، جمعه أسهم وسهام. ***

1164 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكتَهُ، فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ما لم يُنتن: بضم الياء، وفتحها، وكسر التاء، من أنتن الرباعي، ومعناه: ما لم تتغير رائحته، وتخبث. * ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة: 1 - إباحة صيد الكلب المعلَّم للصيد؛ قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي: وأحل الله لكم صيد ما علَّمتم من الجوارح، وهي الكواسب من الكلاب ونحوها. قال القرطبي: "إنَّ الكلب إذا لم يأكل من صيده الَّذي صاده، وذُكر اسم الله عند إرساله، فإنَّ صيده مباح، يؤكل بلا خلاف. 2 - لا يحل صيد الكلب وغيره من الجوارح إلاَّ بعد التعليم؛ قال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أي: مؤدبين لهذه الجوارح، ومعلمين لهنَّ ممَّا خلقه الله فيكم من العقل، الَّذي تهتدون به إلى تدريبها وتعليمها، حتَّى تصير قابلة لإمساك الصيد. 3 - قال في نيل المآرب: الثاني من شروط حل الصيد: أنْ يكون الجارح معلَّمًا، وتعليم الكلب ونحوه من السباع يكون بثلاثة أشياء: (أ) إذا أرسل استرسل. ¬

_ (¬1) مسلم (1931).

(ب) إذا زُجر انزجر. (ج) إذا أمسك لم يأكل. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قال بعض الأصحاب: التعليم ما يُعَدّ بالعرف تعليمًا، وهو أقرب لظاهر الآية، ولسهولة الأمر. 4 - لا يحل الصيد ما لم يذكر اسم الله تعالى عند إرسال الجارح؛ قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه" [رواه مسلم (1929)]. فإنْ تَرَك التسمية عمدًا، فمذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: أنَّها لا تحل. وذهب الشافعي: إلى أنَّها سنَّة، وليست بواجبة، وهي رواية عن أحمد. وإنْ ترك التسمية ناسيًا، أبيح صيده، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم. 5 - قوله: "إذا أرسلت كلبك" مفهوم الشرط أنَّ غير المرسَل ممَّا يسترسل بنفسه لا يحل صيده، وهو قول جمهور العلماء. ذلك أنَّه صاد لنفسه، ولم يصد لمقتنيه؛ فإنَّ حقيقة التعليم هو أنْ يكون بحيث يرسل فيقصد الصيد، ويزجر فيكف عنه. 6 - قوله: "فأدركته حيًّا، فاذبحه" فهذا دليل على وجوب تذكية الصيد إذا وجد حيًّا، فإنَّه لا يحل إلاَّ بالتذكية، وهذا بإجماع العلماء. قال النووي: وإنْ أدركه وفيه بقية من حياة، فإنْ كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوته، فيحل بلا ذكاة إجماعًا. 7 - قوله: "وإنْ أدركته قد قتل، فَكُلْهُ" وأصرح من هذه الرواية ما جاء في البخاري (5484) ومسلم (1929) أيضًا من حديث عدي بن حاتم قوله

-صلى الله عليه وسلم-: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، قلت: وإنْ قتلن؟ قال: وإنْ قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها". قال المجد: وهو دليل على الإباحة، سواءً قتله الكلب جرحًا، أو خنقًا. وما قاله المجد رحمه الله رواية عن الإِمام أحمد، اختارها ابن حامد، وابن الجوزي، وهي ظاهر كلام الخرقي، وهو قول للإمام الشافعي. أمَّا المشهور من المذهب فعبارة شرح الإقناع وغيره وهي: "ولابد أنْ يجرح ذو المخلب الصيد، فإنْ قتله بصدمه أو خنقه لم يبح، لأنَّه قتله بغير جرح". 8 - قوله: "فإنْ أمسك عليك" وجاء هذا المعنى صريحًا بما في البخاري (5484) ومسلم (1929) من حديث عدي: "فإنِّي أخاف أنْ يكون إنَّما أمسك على نفسه". وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. فهذه تدل على أنَّ الجارح إذا أمسك لنفسه لا يحل ما صاد، ما لم يُدرك وبه حياة مستقرَّة، فيذكى ذكاة شرعية، ويدخل تحت قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. قال في شرح الإقناع: وإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه، فقتل صيدًا لم يحل؛ لأَنَّ إرسال الجارح جعل بمنزلة الذبح، فالفصد في إرسال الجارح شرط حل الصيد. 9 - قوله: "ولم يأكل منه فَكُلْه" وجاء في إحدى روايات البخاري (5484)، مسلم (1929): "إذا أرسلت كلابك المعلَّمة، وذكرت اسم الله فكل، إلاَّ أنْ يأكل الكلب فلا تأكل، فإنِّي أخاف أنْ يكون إنَّما أمسك على نفسه". إنَّ إرادة الجارح الصيد لمقتنيه أمرٌ مقصود لحل صيده، ولا يعلم عن هذا إلاَّ بدلالة تصرفه، فإنْ أكل منه علمنا أنَّه لم يقصد الصيد لمرسله، وإنَّما

صاد لنفسه، وإنْ لم يأكل دلَّنا ذلك على أنَّه قصد بصيده مقتنيه، فهذا ما تشير إليه هذه النصوص وغيرها. وإلى عدم حل ما أكل منه ذهب العلماء. قال الوزير: واشترط جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد ترك الأكل، ولم يشترطه مالك. 10 - قوله: "وإنْ وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وقد قُتل فلا تأكل، فإنَّك لا تدري أيهما قتله". الأصل في هذا أنه إذا اجتمع مبيحٌ وحاظر غُلِّب جانب الحظر؛ لأنَّ الأصل التحريم. قال في شرح الإقناع: وإن وجد مع كلبه كلبًا آخر، ولا يعلم أي الكلبين قتله، أو علم أنَّهما قتلاه معًا، أو علم أنَّ الكلب المجهول هو القاتل للصيد وحده، لم يبحٍ الصيد؛ تغليبًا للحظر؛ لأنَّه الأصل. 11 - قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} دليل على أنَّ جميع الجوارح من السباع والطيور كلها يباح صيدها، فالكواسب: كالكلب، والفهد، والأسد، والنمر، والطير: كالصقر، والشاهين، والبازي، والعقاب، وإنَّما جاء ذكر الكلب في الأحاديث؛ لأنَّه الغالب؛ ولأنَّه أسرع وأقبل من غيره للتعليم والتأديب. على أنَّ لفظ الكلب لغةً يشمل جميع السباع، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك، فأكله الأسد" [رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 338)]. قال في شرح الإقناع: "الجوارح نوعان: أحدها ما يصيد بنابه: كالكلب، والفهد، والثاني من الجوارح، ذو المخلب: كالبازي، والصقر. 12 - قوله في الحديث رقم (1163) "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيد المِعْراض ... إلخ" فهذا يدل على أنَّ المعراض هو سهمٌ لا ريش له ولا نصلَ، إن قتل الصيد بحده فهذا قد مضى في جسمه وجرحه فهو مباح، وأمَّا إنْ قتل بعرضه فهذا قتل بصدمه وثقله، فإنَّه لا يحل، وهو الوقيذة،

التي قال الله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي المضروبة، فلا تحل إلاَّ إذا تركت حيَّة، وذكيت ذكاة شرعية. فقد روى الإِمام أحمد عن عدي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! إنَّا قومٌ نرمي فما يحل لنا؟ قال: "يحل لكم ما ذكرتم اسم الله عليه، وخزقتم؛ فكلوا منه". قال المجد في المنتقى: وهو دليلٌ على أنَّ ما قتله السهم بثقله لا يحل. قال في شرح الإقناع: وإنْ صاد بالمعراض، أكل ما قتل بحده، دون عرضه، وكذا سهم، ورمح، وسيف، وسكين، يضرب به صفحًا فيقتل، فأكله حرام؛ لأنَّ القتل إنَّما يكون بثقله لا بحده. 13 - تحريم صيد السهم ونحوه بعرضه، هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة. وذهب بعض أهل الشَّام، ومنهم مكحول، والأوزاعي: إلى حله، ووجه الاختلاف اختلافهم في أصل المسألة، فالمقتولة بعرض السهم ونحوه وقيذة؛ لأنَّها قُتِلت بثقل السلاح، لا بحدِّه، والكتاب والسنَّة يحرمان الموقوذة، وهما أصلا التشريع. أمَّا الأصل الذي بني عليه المخالفون، فهو أنَّ قتل الصيد بالسهم عقر، على أي صفة قتل عليها، والعَقْر حلال، على أي نوعٍ حصل به القتل. والقول الأوَّل أولى وأحوط. 14 - قوله: "وإنْ رميت بسهمك ... إلخ" فإذا رمى الصيد بسهمه ثمَّ غاب عنه، ولكنَّه لم يجد فيه أثرًا قاتلاً إلاَّ سهمه، فإنَّه يحل أكله. ومفهومه أنَّه إنْ وجد أثرًا آخر يصلح أنْ يكون مات منه، فإنَّه لا يحل؛ لأنَّه اجتمع مبيح وحاظر، فيغلَّب جانب الحظر. ومن ذلك: لو رماه فوجده في الماء غريقًا؛ فإنه لا يعلم هل مات من

السهم، أو من الغرق؟ فيغلب جانب الغرق، ولا يحل. لكن لو رماه وسقط من رميته في الماء، فأخذه، فإنه حلال؛ لأنَّه سقط في الماء من رميته، ولا يوجد وقت يحتمل أنَّه غرق فيه. 15 - قوله: "فكله ما لم ينتن" المنتن: هو ما تغير طعمه، ولا يكون إلاَّ بعد فساده، وإذا فسد، ذهب نفعه، وصار مضرًّا؛ ففيه دليل على كراهة أكل النتن. قال في شرح الإقناع: ويكره أكل لحم منتن؛ ذكره جماعة. وقد جاء في صحيح مسلم (1931) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته، فكل ما لم يُنتن". ***

باب الذبائح

باب الذبائح مقدمة الذبح: مصدر ذبح الحيوان، فهو ذبيح ومذبوح، والذبيحة ما يُذبح، وجمعها ذبائح، فهي ما ذُبح من الحيوان، وذلك بقطع أوردة الرقبة. وشرعًا: ذبح حيوان مقدور عليه مباح أكله، يعيش في البر غير جراد، بقطع حلقوم ومريء، أو عَقْر ما لم يقدر عليه منه. وحكمه ثابت، بالكتاب، والسنَّة، والإجماع. قال تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وما رواه الدارقطني أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ببديل ابن ورقاء يصيح في فِجَاج مني: "ألا إنَّ الذكاة في الحلق واللبة". وما جاء في البخاري (5509)، ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معنا خيل، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا". قال ابن المنذر: "أجمعوا على أنَّ المرء إذا ذبح ما يجوز ذبحه، وسمَّى الله، وقطع الحلقوم والودجين، وأسَالَ الدَّمَ، فإنَّ الشاة مباح أكلها". وقال الوزير، في الحيوان البري: أجمعوا على أنَّ ما أبيح أكله لا يباح إلاَّ بالذكاة، كما أجمعوا على أنَّ الميتة حرام. قال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ محل الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين. وصفة الذبح، والنحر، والعقر: واحدة في جميع الشرائع السماوية من

حيث وجوب إسالة الدم، ومن حيث وجوب إجراء عملية الذبح أو النحر في الموضع الَّذي حدَّده الشرع في جسم المذبوح أو المنحور. ولولا توحد الشرائع السماوية في أصول الذكاة، لما أحل الله للمسلمين ذبائح أهل الكتاب، كما أحل ذبائح المسلمين. ويشترط للذكاة ذبحًا أو نحرًا أربعة شروط: أحدها: أهلية الذابح، أو النَّاحر، أو العاقر، وهو أنْ يكون عاقلاً، قاصدًا التذكية، فلا تحل ذكاة مجنون، وسكران، وطفلٍ دون التمييز؛ لأنَّه لا قصد لهم. الثاني: الآلة: وهو أنْ يذبح بآلة محدَّدة تقطع، أو تخرق بحدها, لا بثقلها سواءٌ من حديد، أو حجر، أو خشب، أو غيرها، غير عظم وظفر؛ فلا تحل الذبيحة بهما. الثالث: أنْ يقطع الحلقوم: وهو مجرى النفس، والمريء: وهو مجرى الطعام والشراب، ولا يشترط قطع الودجين، بل يستحب، والودجان: عرقان بجانب الرقبة. الرَّابع: التسمية عند حركة يده بالذبح بقوله "باسم الله"، ولا يجزىء غيرها، ووجوبها إذا ذكرها، ويسقط مع السهو، وهو مذهب الجمهور. ***

1165 - وعَنْ عائشَةَ -رَضِيَ الله عنهَا-: "أنَّ قومًا قالوا لِلنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ قومًا يَأْتُونَنَا بالَّلحْمِ، لاَ نَدْرِي أَذَكرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، أمْ لا؟ فَقَالَ: سَمُّوا الله علَيْهِ أَنْتُم، وَكُلُوهُ" روَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث له روايات يظهر معناه جليًّا بإيراد بعضها: فقد جاء في البخاري: "وكانوا حديثي عهد بالكفر" وفي رواية: "وذلك في أوَّل الإِسلام". 2 - شروط التذكية: (أ) أنْ يقول "باسم الله" عند إرادة التذكية، فإنْ تركها عمدًا، لم تحل التذكية عند جمهور العلماء، وإنْ تركها جهلًا أو نسيانًا، حلَّت على الرَّاجح من قولي العلماء. (ب) أهلية المذكي بأنْ يكون مسلمًا أو كتابيًّا، ويكون عاقلاً مميزًا. (ج) أنْ تكون التذكية على الطريقة الشرعية، وذلك من رقبة المذكى المقدور عليه، وأنْ يقطع الحلقوم والمريء. (د) أن تكون التذكية بألة حادة، تنهر الدم، كسكين ونحوه. 3 - قال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ مكان الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين الموضعين للمقدور عليه. وعند مالك: لا تصح إلاَّ بقطع أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين. وعند الشَّافعي وأحمد: تصح بقطع الحلقوم، والمريء، ولو لم يقطع ¬

_ (¬1) البخاري (5507).

الودجان. 4 - قال الشيخ عبد العزيز بن باز: أجمع علماء الإِسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان، ومنكري الأديان، ونحوهم من جميع أصناف الكفَّار، غير اليهود والنصارى. 5 - إذا كانت هذه أحكام حل التذكية، وأنَّ ما خالفها محرم، لا يحل أكله، فالَّذين سألوا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه اللحوم المستوردة من قوم مسلمين، إلاَّ أنَّ عهدهم بالكفر قريب، فيغلب عليهم الجهل، فلا يعلم هل ذكروا اسم الله عليه أو لا؟ فأمر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- السَّائلين أن يأكلوا تلك اللحوم، وأنْ يذكروا اسم الله عند أكلها. قال المجد في المنتقى: الحديث دليل على أنَّ التصرفات تحمل على الصحة والسَّلامة إلى أنْ يقوم دليل الفساد. 6 - هذا الحديث يذكرنا بمسألة اللحوم التي يستوردها المسلمون من بلدان غير إسلامية، وقد أكثر علماء العصر من الكلام عليها. ونحن نورد -هنا- فقرتين من تلك الفتاوى: (أ) قال الشيخ عبد العزيز بن باز: اللحوم التي تُباع في أسواق دول غير إسلامية، إنْ عُلم أنَّها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يُعلم أنَّها ذُبِحَت على غير الوجه الشرعي، إذ الأصل حلها بالنص القرآني، فلا يعدل عن ذلك إلاَّ بأمرٍ محقَّق يقتضي تحريمها. أمَّا إنْ كانت اللحوم من ذبائح بقيَّة الكفار، فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع، ولا تكفي التسمية عليها عند أكلها. (ب) وقال الشيخ عبد الله بن حميد: "وأمَّا اللحوم المستوردة فما وردت من بلاد جرت عادتهم أو أكثرهم يذبحون بالخنق، أو بالصعق الكهربائي، ونحو ذلك، فلا شكَّ في حرمته.

وأمَّا إِذا جُهِل الأمر: هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم بغيرها؛ فلا شكَّ في حرمتها؛ تغليبًا لجانب الحظر، كما قرره أهل العلم، منهم؛ النووي، وشيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن رجب، وابن حجر، وغيرهم. 7 - القاعدة الشرعية: أنَّه متى وُجِدَ مبيح وحاظر، غُلِّبَ جانب الحظر؛ لحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [رواه الترمذي (2518)]. ولحديث "إذا أرسلت كلبك المعلَّم، ووجدت معه كلبًا آخر، فلا تأكل؛ فإنَّما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره" [رواه البخاري (5484)، ومسلم (1929)]. قال ابن رجب: "ما أصله الحظر كالأبضاع، ولحم الحيوان، فلا تَحِل إلاَّ بيقين حله من التذكية والعقر، فإنْ تردَّد في شيئٍ من ذلك لسببٍ آخر، رجع إلى الأصل، فبني عليه، فما أصله التحريم بقي على حرمته". ولو فرضنا أنَّه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحًا شرعيًّا، ويوجد من يذبح ذبحًا آخر كالخنق والوقذ، فلا تحل للاشتباه، كما هي القاعدة الشرعية. ***

1166 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ رَسُولَ اللهَ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الخَذْفِ وقَالَ: إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا، وَلاَ تَنكَأُ عَدُوًّا؛ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الخَذْفُ: قال في فتح الباري: بفتح الخاء المعجمة، فذال معجمة، ففاء، هو رمي الإنسان بحصاة أو نواة بين إصبعيه: السبابتين، أو السبابة والإبهام. - فإنَّهَا: الضمير راجع إلى الخذف، وأنَّث الضمير نظرًا إلى المحذوف به، وهو الحصاة. - لاَ تنكأ: بفتح حرف المضارعة، وفتح الكاف، وهمزة في آخره، أي: لا تجرح عدوًّا, ولا تقتله، وروي بكسر الكاف بغير همزة، والحديث مروي بالوجهين، وكلاهما صحيح؛ لكن قال العيني: المناسب هنا كسر الكاف بغير همزة؛ لأنَّ معناه نكيت في العدو نكاية: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، وأمَّا الَّذي في الهمز فهو من نكأت القرحة، إذا قشرتها, ولا يناسب هنا إلاَّ الأوَّل. - تفقأ: فقأ بفتحات، فقأ العين: شقَّها، وأخرج ما فيها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الخذف: هو رمي الإنسان بحصاة، أو نواة، أو نحوهما، يجعلهما بين إصبعيه: السبابتين، أو السبابة والإبهام. وقد نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، والنَّهي يقتضي التحريم؛ فدلَّ على أنَّ هذا الفعل محرَّم. ¬

_ (¬1) البخاري (5479)، مسلم (1954).

2 - ذلك أنَّه مفسدة محضة، لا مصلحة فيه؛ فإنَّه يكسر السن, ويفقأ العين، ويشج الوجه، ولا يحصل به فائدة؛ فإنَّ القتل به إذا قتل لا يحل؛ لأنَّه يقتل بثقله، لا بحدِّه وموره وجمهور العلماء لا يحلون قتل الصيد بالثقل؛ لأنَّه من الوقيذة؛ قال تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ}، وقتل الحيوان بغير حقٍّ؛ ولا انتفاع حرامٌ؛ فقد جاء في مسند الإِمام أحمد (6515) وسنن النسائي (4445) من حديث عبد الله بن عمرو أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل عصفورًا بغير حقِّه، سأله الله عنه يوم القيامة، قيل: يا رسول الله، وما حقه؟ قال: أنْ تذبحه، ولا تأخذ بعنقه فتقطعه". 3 - يلحق بهذا "النبيلاء" التي يرمي الصبيان بها صغار الطير كالعصافير، فكم حصل فيها من أذيةٍ للنَّاس في منازلهم، حينما يرمي بها الصبيان الطير التي على أسوار البيوت، وما ينتج عن ذلك من تساقط الأحجار، وترويع الصغار. وإِذَا قتلت الطير الصغير فإنَّه لا يحل أكله؛ لأنَّها ماتت بثقل الحجر الذي رميت به، لا بحدِّه. فعلى ولاة أمورهم كفهم عن هذا، وعلى رجال الأمن تأديبهم عن ذلك، فهي محرَّمةٌ؛ لإلحاقها بما نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عنه في هذا الحديث. ***

1167 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - غَرَضًا: بفتحتين، وغينه معجمة، أي هدفًا، والمراد: لا تتخذوا الحيوان الحي غرضًا ترمون إليه، والنهي يقتضي التحريم؛ فإنه تعذيبٌ للحيوان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه النهي عن اتخاذ شيء من ذي روح هدفًا يرمى إليه، والنَّهي يقتضي التحريم؛ فهذا تعذيبٌ للحيوان. وقد جاء في البخاري (5513) ومسلم (1956) من حديث أنس قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ تُصْبرَ البهائم"، والصبر قتلها محبوسة مقهورة. 2 - وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله من فعل هذا" يعني: جعلها هدفًا يرمى إليه. فهو تعذيبٌ للحيوان، وإتلافٌ لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذبحة" [رواه مسلم (1955)]، وهذا أساء لقتله من وجوه. 3 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، حول قتل الحمر الأهلية: إنَّ قتل هذه الحيوانات السائبة لا يحل شرعًا؛ لما صرح بها الفقهاء. قال في الإقناع وشرحه: ولا يجوز قتل البهيمة، ولا ذبحها؛ للإراحة، كالآدمي المتألِّم بالأمراض الصعبة. ¬

_ (¬1) مسلم (1957).

وقال في المنتهى: ويحرم ذبح حيوان غير مأكول لإراحته من مرضٍ ونحوه، والواجب علينا القيام عليها بما يلزم لها مؤن وعلفٍ، وغيره. 4 - الحديث يدل على تحريم أكل المصبورة؛ لأنَّها لو كانت ذكاةً شرعية يحل بها أكل المصبورة، لما نهى عنها. قال في الإقناع وشرحه: ولا تؤكل المصبورة، ولا المنخنقة؛ لما روى سعيد قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنخنقة، وعن أكل المصبورة"، والمنخنقة لا تكون إلاَّ في الطائر، والأرنب، وأشباهها، والمصبورة كل حيوانٍ يحبس للقتل. ***

1168 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ امْرَأةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذلِكَ؟ فأَمَرَ بِأَكلِهَا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث من رواية البخاري عن كعب بن مالك أنَّه قال: "كانت لنا غنمٌ ترعى بِسَلْعٍ، فأبصرتْ جارية لنا بشاة من غنمنا موتًا، فكسرت حجرًا، فذبحتها به، فسُئِل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فأمر بأكلها". 2 - في الحديث جواز تذكية المرأة، وحلّ أكل ما ذكته. وهو قول جماهير العلماء، وليس فيه إلاَّ خلافٌ شاذٌّ مخالفٌ للنصوص. 3 - جواز التذكية بالحجر الحادّ إذا قَطَع الحلقوم والمريء، وسيأتي قريبًا: "ما أنهر الدم، فكلوا" [رواه البخاري (5503) ومسلم (1968)]. 4 - أنَّ الآلة التي يُذَكَّى بها لابُد أن تكون حادة، تقتل بحدِّها ونفوذها, لا بثقلها، وتقدَّم حديث عدي بن حاتم في البخاري (5476) ومسلم (1929): "إِذَا أصبتَ بحده فَكُل، وإذا أصبت بعَرْضه فلا تأكل". 5 - أنَّ الَّذي أصابه سبب الموت من الحيوان المأكول إذا ذكي، حل أكله. واختلف العلماء في ذلك: فمذهب الشَّافعي وأحمد: لا تحل ما فيها سبب الموت، إلاَّ إذا كانت فيها حياةٌ مستقرَّة، وذلك بأنْ تزيد حياتها على مدَّة حركة المذبوح. وقال شيخ الإِسلام: وما أصابه سبب الموت فيه نزاع بين العلماء؛ ¬

_ (¬1) البخاري (5504).

والأظهر: أنَّه متى ذبح فخرج الدم الأحمر الَّذي يخرج من المذكَّى المذبوح في العادة، ليس هو دم ميتة، فإنَّه يحل، وإنْ لم يتحرَّك في أظهر قولي العلماء. قال ابن القيم: ومتى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف، كان جائزًا؛ كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه. 6 - جواز تذكية المرأة الحائض؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل، وترْكُ الاستفصال، في موضع الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال. 7 - إباحة ما ذبحه غير مالكه بغير إذنه؛ فإنَّ الجارية لما خافت أنْ تفوت المنفعة بموت الشاة، ذبحتها, ولم تستأذن صاحبها. ***

1169 - وَعَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ والظُّفُرَ؛ أمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ: فَمُدَى الحَبَشَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ مفردات الحديث: - ما أنهَر الدم: "ما" شرطية، أو موصولة، و"أنهر" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمعلوم، وأنهره: أي أساله, وصبَّه بكثرة. - فكُلُوه: جواب الشرط، أو متضمن معناه. - ليس: فعل ماض من أخوات كان، وهي فعل شبيه بالحرف، وهنا أتت للاستثناء بمعنى إلاَّ، والمستثنى بعدها واجب النَّصب؛ لأنَّه خبرٌ لها، نحو: جاء القوم ليس خالدًا. قال في المحيط: وقد تخرج "ليس" عن ذلك في مواضعٍ، أحدها: أنْ تكون حرفًا ناصبًا للمستثنى بمنزلة "إلاَّ" نحو: أتوني ليس زيدًا، والصحيح أنَّها النَّاسخة، وأنَّ اسمها ضميرٌ راجعٌ للبعض المفهوم ممَّا تقدَّم، واستتاره واجب، فلا يليها في اللفظ إلاَّ المنصوب. قلت: وهي التي وردت في هذا الحديث. - السِّن: منصوب على أنَّه خبر ليس، وهو بكسر السين، قطعة عظم تنبت في الفك، مؤنثة. -الظفر: منصوبٌ؛ لأنَّه معطوف على خبر ليس، والظفر: مادة قرنية في أطراف الأصابع، جمعه أظافر وأظافير. ¬

_ (¬1) البخاري (5503)، مسلم (1968).

- مُدًى: جمع مُدْيَة، بضم الميم، وسكون الدَّال، هي الشفرة الكبيرة. - الحَبَشة: هي بلاد تقع في الشمال الشرقي من إفريقيا، وتُسمَّى الآن إثيوبيا، عاصمتها أديس أبابا، يحدها شمالاً إرتيريا، وشرقًا وجنوبًا الصومال، وغربًا السودان، وهي منبع النيل الأزرق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنه يشترط لحل الذبيحة ذبحها أو نحرها، وإسالة الدم من مكان الذبح أو النحر، وذلك بقطع الحلقوم والمريء. 2 - يشترط في آلة الذبح أنْ تكون محدَّدة، تقتل الذبيحة بحدها، سواء أكانت حديدًا، أو خشبًا، أو حجرًا، أو غيرها، فلا تحل آلة لقتل الذبيحة بثقلها وصدمها. 3 - أنَّه يستثنى من الآلة المحددة، السن وجميع العظام، كما يستثنى الظفر؛ فإنَّها وإنْ كانت محددة، فإنه لا يجوز الذبح بها, ولا تحل الذبيحة بها. 4 - أمَّا الظفر: فإنَّها مدى الحبشة الذين يذبحون بها, ولا تحل مشابهتهم، كما أنَّ فيه مشابهة للسباع التي تفرس الصيد بأظفارها، وجوارح الطير التي تفرس بمخالبها. 5 - مثل السن سائر العظام، فلا يجوز الذبح بها, ولا تحل الذبيحة بهذا السن, فهي -والله أعلم- للبعد عن مشابهة السباع التي تفرس بأنيابها. وأمَّا بقية العظام، فإنْ كانت من ميتة، أو حيوان نجس: فهي لنجاستها، وإنْ كانت طاهرة: فلحرمتها عن ملامسة النجاسة، وهو الدم المسفوح، فقد نهى عن الاستنجاء بها خشية تنجسها؛ لأنَّها طعام إخواننا من الجن، كما في الحديث الصحيح، ولأنَّه -صلى الله عليه وسلم- علَّل حرمة الذبح بالسن بأنَّه عظم. 6 - الرقبة فيها أربعة مَجَارٍ: الحلقوم، وهو مجرى النَّفس، ومن خلفه المريء، وهو مجرى الطعام والشراب، وعن جانبي الرقبة الودجان: وهما عرقان يجري

معهما الدم، فالواجب، قطع الحلقوم والمريء، والأفضل: أن يقطع معهما الودجين، لأنَّه يحصل بقطعهما كمال النزيف، وطهارة المذبوح، وسرعة إراحته. وللأئمَّة فيها خلاف؛ فعند الشَّافعي وأحمد: الواجب قطع الحلقوم والمريء، وعند أبي حنيفة: زيادة قطع أحد الودجين، وعند مالك: لابدَّ من قطع الأربعة. وقول الإِمام مالك جيد جدًّا، فقد علمنا من أصحاب الخبرة أنَّ إخراج الدم ونزيفه لا يكون إلاَّ بقطع الودجين الَّلذين هما مجرى الدم. 7 - ويدخل فيما أنهر الدم ما له نفوذٌ في البدن، كالرصاص من البندقية، فإنَّها تنهر الدم وتسيله، وتقتل الصيد بنفوذها ومرورها في البدن، لا بصدمها وثقلها، فالقتل بها حلالٌ، وقد انعقد الإجماع عليه. 8 - ومثل الصيد: الحيوان الأهلي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج، إذا ندَّت وتأبدت وعُجِزَ عن إدراكها, ولم يُقدَر عليها، فإنَّها تكون كالصيد، يحل قتلها بالسهام، والرصاص من البندقية، والمسدس، والرشاش، ونحو ذلك من السلاح، بجرحها في أي موضع من بدنها. فقد جاء في البخاري (5559) ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج قال: كُنَّا مع النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا". 9 - قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الذبح الشرعي هو الَّذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم، فقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أنهر الدم، وذُكِرَ اسم الله عليه، فكُل، ليس السن والظفر" [رواه البخاري (5503) ومسلم (1968)]. وأمَّا ما خُنق من الحيوان والطير حتَّى مات، أو سلط عليه تيار كهربائي حتَّى مات، فلا يؤكل بالاتفاق، وإنْ ذُكِر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أوعند أكله، فهذا لا يحله.

10 - وقال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ محل الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين الموضعين للمقدور عليه؛ فلا تصح الذكاة إلاَّ بقطع الحلقوم والمريء عند الشَّافعي وأحمد، وعند مالك يشترط معهما قطع الودجين. 11 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ جميع العظام لا تحل الذكاة بها، كما علَّل ذلك النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "أمَّا السن فعظم"، وممَّن اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى. 12 - وقال الأستاذ صالح العود: لفظة الذكاة تنبىء عن الطهارة، فقد ذهب علماء وظائف الأعضاء إلى أنَّ الذبح يحدث صدمة نزيفية، فيجتذب كلَّ الدم السَّائل إلى دورة الدم، وينساب من خلال العروق المقطوعة. أمَّا الطرق الإفرنجية الحديثة لإزهاق روح الحيوان كالصعق بالكهرباء، وضرب المخ بالمسدس، وتغطيس الطيور بالماء، وفتل أعناقها، وما إلى ذلك من الطرق، فهي -التي حرمتها الشرعية- طرق عقيمة مضرة بالصحة؛ فإنَّ الحيوان بالتدويخ والصعق يُصاب قبل إزهاق روحه بالشلل، ويسبب احتقان الدم باللحم والعروق، حيث لا يجد منفذًا، واحتقان الدم في اللحم يضر بصحة الإنسان، كما يسبب تعفن اللحم، وتغير لونه. وقد أدرك هذا منتجو اللحوم الدنماركية، فرفعوا شكوى إلى حكومتهم مطالبين بوقف التدويخ بالكهرباء، وحظر استعمالها. وهنا نتبيَّن عظمة الإِسلام، وأنَّه دين العقل والنظافة والصحة والرحمة. * قرار المجمع الفقهي الإِسلامي: بشأن موضوع: الذبح بالصعق الكهربائي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم.

أمَّا بعد: فإنَّ مجلس المجمَّع الفقهي الإِسلامي برابطة العالم الإِسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ، الموافق 17 أكتوبر 1987 م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ، الموافق 21 أكتوبر 1987 م، قد نظر في موضوع (ذبح الحيوان المأكول بواسطة الصعق الكهربائي) وبعد مناقشة الموضوع، وتداول الرَّأي فيه، قرَّر المجمَّع ما يلي: أوَّلاً: إذا صعق الحيوان المأكول بالتيار الكهربائي، ثمَّ بعد ذلك تمَّ ذبحه أو نحوه، وفيه حياة، فقد ذكي ذكاةً شرعية، وحلَّ أكله؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. ثانيًا: إذا زهقت روح الحيوان المصاب بالصعق الكهربائي قبل ذبحه أو نحوه، فإنَّه ميتة يحرم أكله؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. ثالثًا: صعق الحيوان بالتيار الكهربائي -عالي الضغط- هو تعذيب للحيوان قبل ذبحه أو نحوه، والإِسلام ينهى عن هذا، ويأمر بالرحمة والرَّأفة به، فقد صحَّ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" [رواه مسلم]. رابعًا: إذا كان التيار الكهربائي منخفض الضغط، وخفيف المس بحيث لا يعذَّب الحيوان، وكان في ذلك مصلحة، كتخفيف ألم الذبح عنه، وتهدئة عنفه ومقاومته، فلا بأس بذلك شرعًا، مراعاة للمصلحة، والله أعلم. وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين.

1170 - وعَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الدواب: جمع دابَّة، وهي كل ما يدب على الأرض، ولكن غلب إطلاقه على ما يُركب من الحيوان، للذكر والأنثى. - صَبْرًا: بفتح الصاد وسكون الباء، قال في النهاية: "نهى عن قتل الدواب صبرًا: هو أنْ يمسك شيء من ذوات الأرواح حيًّا، ثم يُرمى بشيءٍ حتَّى يموت. * ما يؤخذ من الحديث: تقدَّم معنى هذا الحديث في الحديث رقم (1167). والحديث ينهى عن صبر الدواب، وكل ذي روحٍ، وذلك بأنْ يُحبس ويُقتل لغير غرض صحيح، ولا قصد فائدة من قتله. كما ينهى عن إتلافه بقتلة غير شرعية، كأنْ يجعل هدفًا للرمي. ففي ذلك تعذيبٌ للحيوان، وإتلافٌ لنفسه، وإضاعة لماليته، وتفويتٌ لذكاته الشرعية، ومساهمة في انقراضه من الوجود، ولو على مدى طويل. فلهذه المفاسد، ولعدم الفائدة من قتله، نهي عن صبره، والنَّهي يقتضي التحريم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1959).

1171 - وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" روَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الإحسان: الإحسان: بمعنى إتقان العمل وإحكامه، وبمعنى التفضل والإنعام، والمعنيان صالحان هنا، فإراحة الذبيحة بإتقانِ ذبحها هو إنعامٌ عليها بذلك. - القِتلة -الذِّبحة: القتلة بكسر القاف، والذبحة بكسر الذال، اسم هيئة، أي: هيئة القتل، وهيئة الذبح. - يُحِد: بضم الياء، يُقالُ: أحَدَّ السكين وحدَّدها، بمعنى شحذها حتَّى صارت قاطعة. - شَفْرَته: بفتح الشين، الشفرة: هي السكين الكبيرة العريضة. - وليُرح: بضم الياء، مجزوم بلام الأمر، من الرَّاحة والسكون، والمعنى: ليوصل إليها الرَّاحة بإعجال إمرار الشفرة، ولا يسلخ قبل أنْ يبرد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيان رحمة الله تعالى الشَّاملة بخلقه كلهم: من إنسانٍ، وحيوانٍ، وكل ذي روح، فهو جلَّ وعلا المحسن إلى خلقه، المتفضل عليهم، وأمر الخلق أنْ يحسن بعضهم إلى بعض. ¬

_ (¬1) مسلم (1955).

2 - الإحسان نوعان: منه الواجب وهو العدل والإنصاف، وأداء الحقوق الواجبة، والقيام بالواجبات نحو الله تعالى في عباداته، وطاعاته، ونحو خلقه بإيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. ومنه الإحسان المستحب، وهو بذل المنافع، وتقديم المساعدات إلى الخلق بحسب القدرة والاستطاعة. وهو يختلف -أيضًا- بحسب حال المحسَنِ إليهم، بحسب قرابتهم، وحسب حاجاتهم. فالإحسان إذا وقع موقعه المناسب الَّذي يتطلبه ويقتضيه، صار له وقعٌ كبيرٌ، ونفعٌ عظيمٌ. ومن أعظم فائدة الإحسان وأجل ثمراته: أنْ يحسن الإنسان إلى من أساء إليه بقولٍ أو فعلٍ؛ فهذه المعاملة الكريمة، وهذه المقابلة الطيبة يحصل عليها من الأجر عند الله تعالى، ومن الثناء عند الخلق، ومن جلب محبَّة المسيء، وإزالة بغضه وحقده، ومن الانتصار على النَّفس الطالبة للانتقام، يحصل مِن هذا ما لا يدرك نفعه، ويحصي أثره إلاَّ الَّذي قال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. ومَن عادتُهُ الإحسان أحسن الله إليه؛ قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. 3 - من صور الإحسان: الإحسان في القتل والذبح، إذا دعت الحاجة إليهما. 4 - وذلك بأنْ لا يذبح أو ينحر بآلةٍ كالّة، فيعذب الحيوان، وإنَّما يجب أنْ تكون الآلة حادة، أو يحدها عند الذبح. ففي هذا راحةٌ للذبيحة بسرعة إزهاق روحها؛ فقد روى الإِمام أحمد

(5830) وابن ماجة (3172) من حديث ابن عمر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ذبح أحدكم، فليُجهِز". 5 - ومن الإحسان في الذبح أنْ لا يذبح الحيوان أو الطير، وأليفه يراه، فإنَّها تحس بذلك فترتاع، فيحصل لها عذابٌ نفسي، وألمٌ قلبي. ولذا جاء في مسند الإِمام أحمد: "أنَّ النَّبي ع -صلى الله عليه وسلم- أمر أنْ تُحد الشفار، وأنْ توارى عن البهائم". قال النووي: يستحب أنْ لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأنْ لا يذبح واحدةً بحضور أُخرى. 6 - ومن الإحسان في الذبح أنْ لا يكسر عنق المذبوح، أو يسلخه، أو يقطع منه عضوًا، أو ينتف منه ريشًا، حتَّى تزهق نفسه، وتخرج الروح من جميع أجزاء بدنه؛ لما روى الدَّارقطني (4/ 283) من حديث أبي هريرة: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بديل بن ورقاء على جمل أورق يصيح في فجاج مني: ألا إنَّ الذكاة في الحلق، ولا تعجلوا الأنفس قبل أنْ تزهق". 7 - ومن الإحسان أنْ ينحر الإبل نحرًا، وذلك بطعنها بالسكين في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وأنْ يذبح غيرها من الحيوان والطير ذبحًا، فهذا أسهل لموتها، وأسرع في إزهاق روحها، وإنْ عكس جاز، ولكن هذا هو الأفضل. قال في شرح الإقناع: والأفضل نحر الإبل، وذبح بقرٍ وغنمٍ وغيرها، ويجوز أن يذبح الإبل، وينحر البقر والغنم؛ لأنَّه لم يتجاوز محل الذكاة. قال شيخ الإِسلام: يجوز الذبح سواء أكان القطع فوق الغلصمة، أو كان القطع تحتها، والغلصمة هو الموضع النَّاتىء من الحلقوم. 8 - إذا عرفنا وجوب الإحسان إلى الذبيحة حال الذبح، وحرمة تعذيبها بدنيًّا ونفسيًّا، علمنا حرمة ما يفعله كثيرٌ من الجزَّارين في المسالخ الفنية، وذلك

فيما بلغنا من أنَّهم يذبحونها والأخرى تراها، وأنَّهم يسرعون إلى كسر عنقها، وسلخ جلدها، وتقطيع أوصالها قبل أنْ تزهق روحها. وأنَّهم يدوخونها قبل الذبح، إمَّا بصعقٍ كهربائي يشل حركتها ويفقدها وعيها، أو يضربون رأسها بمثقل تصاب منه بالدوار، الَّذي يسقطها على الأرض بلا حركة. وغير ذلك من أعمال العنف والقسوة التي يمارسونها مع البهائم، التي تتألَّم كما يتألمون، وتحس كما يحسون. فعلى العلماء والمسلمين توعيتهم وتعليمهم حرمة ذلك، ووجوب الرفق بالحيوان. وعلى الجهات المسؤولة من الدوائر الحكومية منعهم من ذلك، والله من وراء القصد. ***

1172 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْريِّ -رضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدَّارقطني، والبيهقي، من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد. ورواه أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد. قال الترمذي: حسنٌ صحيح. وقال المنذري: إسناده حسن، وللحديث طرق أخر عن أبي سعيد، عند أحمد، والطبراني، والخطيب. وصحَّحه ابن دقيق العيد بإيراده إياه في "الإلمام بأحاديث الأحكام". وله شاهدٌ من حديث جابر: رواه أبو داود، والدرامي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وقال كلٌّ من ابن القطان، والعراقي، والحافظ: إنَّه بمجموع طرقه حجَّة. * مفردات الحديث: - ذكاة الجنين: مبتدأ، وخبره ما بعده. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 39)، ابن حبان (1077).

- الذكاة: التذكية، ومثلها الذبح والنحر، قال ابن الجوزي: الذكاة في اللغة تمام الشيء. - الجَنين: هو الولد ما دام في بطن أمِّه؛ سُمِّيَ بذلك لاستتاره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الجنين إذا أخرج من بطنها ميتًا بعد ذكاتها أنَّه حلال، وأنَّ ذكاة أمه كافية عن ذكاته؛ ذلك أنَّ الذكاة قد أتت على جميع أجزاء الأُمِّ، وجنينها وقت الذبح جزء منها، وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاةٍ مستقلة، وهذا هو القياس الجلي. وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. 2 - وذهب أبو حنيفة إلى أنَّه لا يحل بذكاة أمه. قال ابن المنذر: لم يرد عن أحدٍ من الصحابة، ولا من العلماء: أنَّ الجنين لا يحل إلاَّ باستئناف الذكاة فيه، إلاَّ ما يروى عن أبي حنيفة، وكان النَّاس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه. قال ابن رشد في بداية المجتهد: "وسبب اختلافهم: اختلافهم في صحَّة الأثر المروي في ذلك، مع مخالفته للأصول؛ لأنَّ الجنين إذا كان حيًّا ثمَّ مات بموت أُمِّهِ، فإِنَّما يموت خنقًا، فهو من المنخنقة التي ورد تحريمها". اهـ. 3 - أما إنْ خرج حيًّا حياةً مستقرة: فقال في شرح الإقناع؛ وإنْ كان في الجنين حياةً مستقرة، لم يبح إلاَّ بذبحه أو نحره؛ لأنَّه نَفْس أخرى، وهو مستقل بحياته. قال ابن المنذر: اتفقوا على أنَّه إنْ خرج حيًّا يعيش مثله، لم يبح إلاَّ بالذبح. ***

1173 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيُسَمِّ، ثُمَّ لْيَأْكُلْ" أَخرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الحِفْظِ، وأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ في مَرَاسِيلِهِ بِلَفْظِ: "ذَبيحَةُ المُسْلِمِ حَلاَلٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا، أمْ لَمْ يَذْكُرْ" وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوفًا. رجال سند الحديث موقوفًا إلى ابن عباس ثقات؛ فأخرجه عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح إلى ابن عباس موقوفًا، وأخرجه البيهقي بسنده إلى ابن عبَّاس مرفوعًا, ولكن الرَّاجح وقفه مع صحته إليه. أمَّا المرفوع فضعيف، والله أعلم. وهناك من صحَّحه كابن السكن، وقال ابن القطان: ليس في إسناده من تُكُلَّمَ فيه عدا محمد بن سنان، فإنَّه صدوق صالح، لكنْ فيه تفصيل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية تسمية الذابح عند حركة يده للذبح؛ لأنَّ تلك ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (4/ 296)، عبد الرزاق (4/ 481). (¬2) أبو داود في المراسيل (378).

اللحظة هي وقت إزهاق روح الحيوان. 2 - ووجوب التسمية إذا كان ذاكرًا لها، وأمَّا إنْ تركها نسيانًا فذبيحته حلال، وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد. أمَّا الشَّافعي فيرى أنَّ التسمية سنَّة، فإنْ أسقطها عمدًا أو نسيانًا فلا حرج عليه، وسيأتي تفصيل الخلاف إنْ شاء الله تعالى. 3 - الحديث يدل على مشروعية التسمية عند الأكل. فقد جاء في البخاري (5376) ومسلم (2022) من حديث عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ياغلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل ممَّا يليك". قال في شرح الإقناع: وتسن التسمية على الطعام والشراب، فيقول: باسم الله. قال الشيخ تقي الدِّين: لو زاد "الرحمن الرحيم" لكان أحسن؛ فإنَّه أكمل، بخلاف الذبح؛ فإنَّه لا يناسب، وإنْ نَسِيَ التسمية في أوَّل الأكل أو الشرب، قال إذا ذَكَر: باسم الله أوله وآخره. 4 - الرواية المرسلة عند أبي داود على فرض صلاحيتها للاستدلال، فإنَّها تحمل على أنَّ المراد به النَّاسي؛ لأنها لا تقاوم الأحاديث التي صحَّت على وجوب التسمية، والله أعلم. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم التسمية عند الذبح على ثلاثة أقوال: الأوَّل: أنَّها واجبةٌ مطلقًا، فلا تسقط لا عمدًا ولا سهوًا؛ وهذا مذهب الظاهرية، وسبقهم ابن عمر، والشَّعبي، وابن سيرين. الثاني: أنَّها واجبة إذا كان ذاكرًا، وتسقط مع النسيان؛ وهذا مذهب

جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة. الثالث: أنَّها سنَّةٌ مؤكدة؛ وهو مذهب الشَّافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس، وأبي هريرة. فمن ذهب إلى وجوبها مطلقًا استدل بالآية: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والآية ناسخةٌ لحديث عائشة، وحديث ابن عباس. وأمَّا من شرط التسمية مع ذكرها وإسقاطها عند نسيانها فصار إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وإلى قوله عليه الصلاة والسلام: "عُفِيَ عن أُمَّتي الخطأ والنسيان" [رواه ابن ماجة (2045)]. ومن ذهب إلى أنَّها سنَّة عمل بالحديثين، ولم يرَ النسخ؛ لأنَّ الحديثين بالمدينة، والآية مكية، فلا تصلح دعوى النسخ. والقول الثاني هو الرَّاجح، والله أعلم. ***

باب الأضاحي

باب الأضاحي مقدمة الأضاحي: مشدَّدة الياء، جمع أُضحيَّة، بضم الهمزة، ويجوز كسرها. ويُقال: ضحِيَّة، جمعها ضحايا. فاسمها مشتقٌّ من الوقت الَّذي شرع بدء ذبحها فيه. وبهذا سمي: عيد الأضحى، ويوم الأضحى. وهي مشروعةٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع: قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر]. وفي السنَّة كثير؛ ففي البخاري (5564) ومسلم (1966) أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "كان يضحِّي بكبشين أملحين أقرنين". وفي المسند (8074) أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له سعةٌ ولم يضح، فلا يقربنَّ مصلاَّنَا". وأجمع العلماء على مشروعيتها، واختلفوا في وجوبها: فذهب أبو حنيفة: إلى وجوبها، ويروى ذلك عن مالك. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الشَّافعي وأحمد-: إلى أنَّها سنَّةٌ مؤكدة على كلِّ قادرٍ عليها من المسلمين. والمشهور عن مالك: أنَّها لا تجب على الحجاج اكتفاء بالهدي، واختاره شيخ الإِسلام. وأفضل الأضحية إنْ ضحَّى كاملًا: إبل، ثُمَّ بقر، ثمَّ غنم.

قال الشيخ تقي الدِّين: الأضحية، والعقيقة، والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، وهي من النفقة المعروفة، فيضحي عن اليتيم من ماله، وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تُضَحِّي به عن أهل البيت، وإنْ لم يأذن في ذلك، ويضحي المدين إذا لم يطلب بالوفاء. ***

1174 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِحَافِهِمَا" وَفِي لَفْظٍ: "ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1)، وَفِي لَفْظٍ: "سَمِينَيْنِ"، وَلأبِي عَوَانَةَ في صحيحه: "ثَمينيَنِ" بالمُثلَّثةِ بَدَلَ السِّينِ (¬2)، وفِي لفْظٍ لِمُسْلِمٍ، ويَقُولُ: "بِاسْمِ اللهِ، وَاللهُ أكْبَرُ". وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أمَرَ بِكَبْشٍ أقْرَنَ، يَطَأُ في سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ في سَوَادٍ، ويَنْظُرُ في سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ، لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائشِةُ هَلُمِّي المُدْيَةَ، ثمَّ قالَ: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أخَذَهَا، وأَخَذَهُ فَأَضْجَعَهُ، ثمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللهِ، الَّلهُمَّ تَقَبلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يُضحِّي: الأضحيَّة جمعها أضاحيَّ، والضحيَّة جمعها ضحايا، ومن العرب من قال: ضِحيَّة، بكسر الضاد. - كبشين: مثنَّى كبش بفتح الكاف، وسكون الباء الموحدة، آخره شين معجمة، هو فحل الضأن في أي سن كان، جمعه أكبش وكباش. ¬

_ (¬1) البخاري (5565)، مسلم (1966). (¬2) الَّذي نقله الحافظ في الفتح عن صحيح أبي عوانة أنَّه بالسِّين المهملة. (¬3) مسلم (1967).

- أملحين: الأملح: هو الَّذي بياضه أكثر من سواده، وفيه أقوال أخر. - أقرنين: الأقرن: هو الَّذي له قرنان. - صِفاحهما: جمع صفحة، وهي وجه الشيء وجانبه، والمراد عنق الكبش. - ثمينين - سمينين: يروى بالثاء، والسين، فإن كان بالثاء: فهو غالي الثمن؛ لحسنه، والسمين: ضد الغث الهزيل. - يطأ في سواد: يعني قوائمه سود. - يبرك في سواد: يعني بطنه أسود. - ينظر في سواد: يعني أنَّ ما حول عينيه أسود. - هَلُمِّي: أي هاتي، وفيها لغتان: فأهل الحجاز يطلقون على الواحد، والجمع، والمثنَّى، والمؤنث بلفظٍ واحدٍ، مبنيٍّ على الفتح، وأمَّا بنو تميم فيثنونها، ويجمعونها، ويؤنثونها. - المُدْية: بضم الميم، وسكون الدَّال المهملة، بعدها ياء مفتوحة، وآخرها هاء، جمعها مدى ومديات، هي السكين العريضة المسمَّاة: الشفرة. - اشحذيها: يُقال: شحذت السيف والسكين: إذا حددته بالمسن وغيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيان مشروعية الأضحية، وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها, لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}. قال قتادة وعطاء وعكرمة وغيرهم: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية. ولا شكَّ في عموم الآية لكلِّ صلاة، وكل ذبح، أنَّ المسلم مأمورٌ بأنْ يخلصهما لله تعالى. 2 - استحباب استحسان الأضحية واستسمانها، وأنْ تكون بأحسن الألوان، فتكون من جنس الغنم، ومن نوع المذكور منها، وأنْ تكون بيضاء، أو بياضها أكثر من سوادها، وأنْ تكون قرناء؛ لأنَّ ذلك دليل القوَّة، فهذا هو الأفضل،

وإلاَّ فيجزىء ما خالف هذا. 3 - ومن الألوان المستحسنة في الأضاحي أنْ تكون قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود، وبقيته أبيض، والأبيض هو الأملح الَّذي لونه شبيهٌ بلون الملح. 4 - أنْ تكون ذات قَدْرٍ وثمن غال؛ لأنَّ هذا دليل نفاستها وحسنها، وأنْ تكون سمينة؛ لأنَّه أكثر منفعة واستفادة ماديَّة ومعنوية فيها. 5 - قوله: ثمَّ قال: "باسم الله" ليس معناه أنَّ التسمية وقعت بعد الذبح، وإنَّما معناه التراخي في الرتبة، وإنَّما محل التسمية قبل الذبح عند تحريك يده. 6 - أنَّ اختيار الأضحية كريمة وطيبة هو من تعظيم شعائر الله؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]؛ فهي من أعلام دين الإِسلام، قال ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها. 7 - الأضحية من أفضل الأعمال الصَّالحة؛ فقد روى الترمذي (1493) وابن ماجة (3126) والحاكم (4/ 246) بإسنادٍ صحيحٍ من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عمل ابن آدم يوم النَّحر عملًا أحب إلى الله من هراقة دم؛ فطيبوا بها نفسًا". ذهب كثيرٌ من الفقهاء منهم الحنابلة: إلى أنَّ ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، وقد اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 8 - ويشرع التسمية عند ذبحها يقول "باسم الله"؛ لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. والمشروع عند الذبح الاقتصار على "باسم الله"، فذكر صفة رحمة الله تعالى لا تناسب الذبح الَّذي فيه القسوة، وإراقة الدم. 9 - وقول "باسم الله" عند الذبح واجب عند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}

[الأنعام: 121]، ومستحب عند الإِمام الشَّافعي. قال الغزالي: الأخبار متواترة فيها، واتفقوا على مشروعيتها. 10 - ويُشرع مع "باسم الله" أنْ يقول عند الذبح: "الله أكبر"؛ لقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37]. قال ابن المنذر: ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يقول ذلك. ومن تلك الأحاديث حديث الباب من قوله: "باسم الله، والله أكبر". وأجمع العلماء على أنَّ التكبير عند الذبح مستحب، وليس بواجب. 11 - يستحب للمضحِّي أنْ يتولَّى ذبح أضحيته بنفسه إنْ كان يحسن الذبح؛ لأنَّ الذبح عبادة وقُربة إلى الله تعالى. قال في الإقناع: وإنْ ذبحها بيده كان أفضل بلا نزاع، وفي ذلك اقتداءٌ بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم-، الَّذي نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة من هديه، وذبح أضحيته بنفسه. وقد أجمع العلماء على أنَّ ذبح المضحي أو المهدي، أضحيته أو هديه أنَّه: مستحب، وليس بواجب. 12 - وإنْ لم يتول ذبحه بيده، فالأفضل أنْ يَحْضُر عند ذبحه؛ لما روي أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "احضري أضحيتك، يُغفر لك بأوَّل قطرة من دمها" [رواه الحاكم (4/ 247)]. ولما جاء في حديث ابن عباس أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "احضروها إذا ذبحتم؛ فإنَّه يغفر لكم عند أوَّل قطرةٍ من دمها". 13 - استحباب الذبح بآلةٍ حادَّةٍ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اشحذيها بحجر"، وَلأنَّ في ذلك إراحةٌ للذبيحة بسرعة زهوق روحها، وهو إحسان الذبح، والإجهاز عليها؛ فقد قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا ذَبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته" [رواه مسلم (1955)].

14 - ويستحب إضجاع ما يذبح من البقر والغنم ونحوهما على جنبها الأيسر، وحمل الذَّابح على الآلة بقوَّة، وإسراع القطع، وأنْ تكون موجهة إلى القبلة. قال في شرح الإقناع: "ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة، ويكره أنْ يحد السكين والحيوان يبصره، أو يذبح الشاة وأخرى تنظر إليه؛ لما روى أحمد (5830) وابن ماجة (3172) عن ابن عمر: "أنَّ النبَّي -صلى الله عليه وسلم- أمر أنْ تحد الشفار، وأنْ توارى عن البهائم". 15 - ويستحب أنْ يقول عند ذبح الأضحية ونحوها: "اللهم هذا منك ولك" أي: هذا من فضلك ونعمتك عليَّ، لا من حولي، ولا من قوتي، "ولك" التقرب به لك وحدك، لا إلى سواك، فلا رياء، ولا سمعة. فقد روى أبو داود (2795) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حين وجَّهها إلى القبلة قال: "باسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك". 16 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم تقبَّل عن محمَّد، وآل محمد، ومن أمَّة محمد". قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: هذا هو المعتمد في التضحية عن الأموات، والأصل في التضحية أنَّها في حق الحي، فيضحي عن نفسه. 17 - قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اختلف العلماء هل الأضحية عن الميت أفضل، أم الصدقة بثمنها؟ فذهب الحنابلة، وكثيرٌ من الفقهاء: إلى أنَّ ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. وذهب بعضهم: إلى أنَّ الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول أقوى في النظرة لأنَّ التضحية عن الميت لم يكن معروفاً، والأمر في ذلك واسعٌ إنْ شاء الله.

18 - فيه أنَّه يستحب الدعاء بقبول الأضحية وغيرها من أعمال الطاعة، وقد أمر تعالى بالدعاء، ووعد بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد؛ فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. 19 - وقوله: "من محمد، وآل محمد" دليلٌ على أنَّ الأُضحية الواحدة تجزىء عن الرجل وأهل بيته، ويشركهم في ثوابها، فقد روى مالكٌ في الموطأ (1050) بسندٍ صحيحٍ، والترمذي (1505) وصحَّحه من حديث أبي أيوب قال: "كان الرجل على عهد النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُضَحِّي بالشَّاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون". ***

1175 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كانَ لَهُ سَعَةٌ، ولَمْ يُضَحِّ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ موقوفًا؛ فرجاله ثقات. قال المصنِّف: رواه أحمد، وابن ماجة، وصحَّحه الحاكم، ورجَّح الأئمة غير الحاكم وقفه. قال في الفتح: رجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره مع أنَّ الَّذين رفعوه ثقات. وفي الباب له أحاديث شواهد لا تخلو من الكلام: منها حديث أبي سعيد عند الحاكم، وفي إسناده عطية. وحديث عمران بن حصين عند الحاكم، وفي إسناده أبو حمزة الثمالي ضعيف جدًّا. وحديث علي عند الحاكم، وفي إسناده عمرو بن خالد الواسطي وهو متروك. * مفردات الحديث: - سَعَة: بفتحتين، يُقال: وسع يسع سعة، والسعة: الاتساع، والجِدَة، والطَّاقة، والهاء -في السعة- عوض عن الواو. - مصلاَّنَا: المصلَّى موضع الصَّلاة، والمراد هنا مصلَّى العيد. ¬

_ (¬1) أحمد (8256)، ابن ماجة (3123)، الحاكم (4/ 231).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على وجوب الأضحية مع القدرة والسعة، وهو مذهب أبي حنيفة، وذهب الأئمة الثلاثة، وصاحبا أبي حنيفة إلى أن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة. 2 - قال شارح البلوغ: ولضعف أدلة الوجوب، ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين إلى أنها سنة مؤكدة، قال ابن حزم: لا يصح عن أحدٍ من الصحابة أنها واجبة. وقد أخرج الدارقطني (2/ 21)، والحاكم (1/ 441) عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثٌ هي عليَّ فرائض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر". ***

1176 - وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا قَضى صَلاَتَهُ بِالنَّاسِ، نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَال: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةَ، فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأضحية عبادة مؤقتة لا تصح بغير وقتها الَّذي شرعت فيه. 2 - يدل الحديث على أنَّ الابتداء وقت ذبح الأضحية بعد صلاة عيد الأضحى، ولو قبل الخطبة، وأنَّ الذبح قبل انتهاء الصَّلاة لا يجزىء، بمعنى أنَّ ذبيحته لم تقع أضحية، وإنَّما هي شاة لحم. قال الشيخ عبد الله بن بطين: من ضحَّى بعد صلاة الإِمام فأضحيته مجزئة ولو لم يصل؛ لأنَّ العبرة بصلاة الإِمام، لا بصلاة إنسان نفسه. 3 - قال في شرح الإقناع: ووقت ابتداء ذبح أضحية يوم العيد بعد الصلاة، ولو كان قبل الخطبة، أو بعد مضي مدَّة قدر الصَّلاة بعد دخول وقتها في حق من لا صلاة عليه في موضعه؛ كأهل البوادي. 4 - ظاهر الحديث أنَّ الذبح قبل الوقت لا يجزىء مطلقًا، سواء أكان الذَّابح عامدًا، أو جاهلًا، أو ناسيًا؛ كمن صلَّى الصَّلاة قبل دخول وقتها. 5 - المذاهب في أوَّل دخول وقت الذبح ثلاثة: عند الإِمام مالك: أنَّ الوقت يدخل بنحو الإِمام. وعند الشَّافعي: يبتدىء بوقت صلاة العيد. ¬

_ (¬1) البخاري (5562)، مسلم (1960).

وعند أبي حنيفة وأحمد: بانتهاء صلاة العيد، وهو الصحيح الَّذي يدل عليه الحديث. 6 - أمَّا آخر وقت الذبح، فالمشهور من مذهب الإِمام أحمد: أنَّه ينتهي بغروب اليوم الثاني عشر من ذي الحجَّة. ومذهب الإِمام الشَّافعي: أنَّه يمتد إلى غروب اليوم الثالث عشر، واختاره ابن المنذر والشيخ تقي الدِّين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل يوم التشريق ذبح" [رواه أحمد (16309)]. قال ابن القيم: إنَّ الأيام الثلاثة تختص بكونها أيَّام مني، وأيام تشريق، ويحرم صومها، ويشرع التكبير فيها، فهي إخوة في هذه الأحكام؛ فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نصٍّ ولا إجماع؟! ويروى من وجهين مختلفين يشير أحدهما للآخر: "كل أيَّام التشريق ذبح" من رواية جبير بن مطعم، ومن حديث أسامة بن زيد، وعن عطاء عن جابر، ومذهب الإِمام الشَّافعي هو الرَّاجح، والله أعلم. 7 - قال في بداية المجتهد: سبب اختلافهم أمران: أحدهما: الاختلاف في الأيَّام المعلومات ما هي؟ الثاني: معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، بحديث جبير بن مطعم: "كل أيَّام التشريق ذبح" [رواه أحمد 16309]: فمن قال في الأيَّام المعلومات: إنَّها يوم النَّحر ويومان بعده، رجَّح دليل الخطاب في الآية، على الحديث المذكور. ومن رأى الجمع بين الحديث والآية قال: لا معارضة بينهما؛ إذ الحديث اقتضى أمرًا زائدًا على ما في الآية، مع أنَّ الآية ليس المقصود فيها تحديد

أيَّام النَّحر، والحديث المقصود منه ذلك؛ وعلى هذا قالوا: يجوز الذبح في اليوم الرَّابع إذَا كان من أيَّام التشريق باتفاق. 9 - وهذا الوقت للذبح من ابتدائه إلى انتهائه على القولين كليهما هو للأضحية، والهدي، ودم المتعة، أو القرآن. قال ابن القيم: النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرخص في نحو الهدي قبل طلوع الشمس البتة، فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة. 10 - قال فقهاؤنا: فإنْ فات وقت الذبح، قضى واجبه؛ كالمنذور، والمعيَّن، والموصى به؛ لأنَّ حكم القضاء كالأداء لا يسقط بفواته؛ لأنَّ الذبح أحد مقصودي الأضحية، فلا يسقط بفوات وقته، كما لو ذبحها ولم يفرقها حتَّى خرج الوقت. 11 - قال في الروض والحاشية: ويسقط التطوع بفوات وقته؛ لأنَّ المحصل لفضيلة الزمان، وقد فات فلو ذبحه وتصدَّق به كان صدقة مطلقة، وليست أضحية. قال الوزير: اتَفقوا على أنه إذا خرج وقت الأضحية على اختلافهم فيه، فقد فات وقتها. ***

1177 - وعن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أربعٌ لاَ تَجُوزُ في الضَّحَايَا: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ البَيِّنُ ضَلَعُهَا، وَالْكَبِيرَةُ الَّتي لاَ تُنْقِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الإِمام أحمد، والأربعة، وصحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وقال الحافظ ابن حجر: لم يخرجه البخاري ومسلم، ولكنَّه صحيح أخرجه أصحاب السنن بأسانيد صحيحة، وحسَّنه الإِمام أحمد، فقال: ما أحسنه من حديث، وقال الترمذي: صحيح حسن. * مفردات الحديث: - العَوْرَاء: بالمدّ، هي التي ذهب بصر إحدى عينيها، سواءٌ بقيت الحدقة أو فُقدت، وهذا على القول الرَّاجح. - البيِّن عَوَرها: أصحابنا يفسرون بيان العور: بانخساف عينها، فإنْ كانت قائمة أجزأت ولو ذهب بصرها. ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 84)، أبو داود (2802)، الترمذي (1497)، النسائي (7/ 214)، ابن ماجة (3144)، ابن حبان (1046).

- العَرْجَاء البَيِّن عَرَجهَا: العرجاء هي الَّتي تغمز يزيدها أو رجلها، خِلْقةً، أو لعلَّة طارئة، فهو أعرج وهي عرجاء، أمَّا بيان العرج فهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح. - لا تُنْقِي: بضم التَّاء الفوقية، وكسر القاف، بينهما نون ساكنة، أي التي لا نِقْيَ فيها، والنقي بكسر النون: هو منع العظم، جمعه أنقاء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ الموصوفات الأربع في الحديث لا تجزىء، وسكت عن غيرها من العيوب. فذهب أهل الظاهر: إلى أنَّه لا عيب غير الأربعة، وذهب الجمهور: إلى أنَّه يُقاس عليها غيرها، ممَّا هو أشدُّ منها، أو مساوٍ لها؛ كالعمياء، ومقطوعة السَّاق، وسيأتي كلام بعضهم في هذا. 2 - فمن العيوب: العوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها، فإنْ كانت العين قائمة، أجزأت ولو لم تبصر بها. 3 - يُقاس على العوراء من باب أولى العمياء، فإنَّها لا تجزىء، وإنْ لم تنخسف عيناها؛ لأنَّ العمى يمنع مشيها مع رفيقتها، ويمنعها من المشاركة في العلف. 4 - ولا تجزىء المريضة البين مرضها؛ كالجرباء؛ فإنَّ المرض يمنعها من الأكل، ويفسد لحمها، ويهزل جسمها. 5 - ولا تجزىء العرجاء البيِّن عرجها، وهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح إلى المراعي، والكسيرة لا تجزىء من باب أولى. 6 - ولا تجزىء الهزيلة الَّتي لا تُنْقِي، وفي بعض روايات هذا الحديث: "ولا العجفاء التي لا تنقي"، والعجفاء، هي الهزيلة التي لا مخ فيها. 7 - قال النووي: أجمعوا على أنَّ الَّتي فيها العيوب المذكورة في حديث البراء لا

تجزىء التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح منها؛ كالعمى، وقطع الرِّجل، ونحوه. وقال الوزير: اتفقوا على أنَّه لا يجزىء في الأضحية ذَبْحُ مَعِيب بنقص. 8 - عدم إجزاء هذه المعيبات المذكورة في الحديث، وما هو أشد منها عيبًا، ليس خاصًّا في الأضحية، بل يشمل الهدي الواجب والتطوع، ودم المتعة، والقران، والعقيقة، فكل ما لا يجزىء في الأضحية لا يجزىء في ذبائح القُرَب. 9 - في دورة مجلس هيئة كبار العلماء (34) بحث المجلس إذا ذبحت الأضحية أو الهدي ونحوهما، فلم يعلم مرضها إلاَّ بعد الذبح، فأجاز المجلس بالأكثرية إجزاءَهَا، وأنَّها حين الذبح ليست بينة المرض. وعارض بعض الأعضاء، فرأى أنَّها لا تجزىء إذا ظهر المرض بعد الذبح، وهذا هو الرَّاجح عندي، فإنِّي من الأعضاء المعارضين؛ لأنَّهم لم يستدلوا على الإجزاء إلاَّ بلفظ "البين مرضها"، وأنَّها حين الذبح ليست بينة المرض، وإنَّما ظهر ذلك بعد الذبح. والحقيقة: أنَّ الحديث ليس فيه تقييد بيان المرض قبل الذبح ولا بعده، كما أنَّه قد حكى الإجماع جماعةٌ من العلماء؛ كابن قدامة، والنووي، وابن هبيرة، وابن حزم، على عدم الإجزاء. ولأنَّ القصد من الهدي والأضحية وغيرهما من ذبائح القُرَب هو الفائدة منها، فإذا عدمت فات القصد؛ قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ولأنَّ العيب معتبرٌ شرعًا في البيع بعد تلف المبيع وقبله. والمريضة يعرف أهل الخبرة مرضها قبل ذبحها، وهم المعتبرون في مثل هذه الأمور، والله أعلم.

1178 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً، إِلاَّ أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المُسِنَّة: هي الثنية من بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، فما فوقها. - الجَذَع: أصل الجذع من أسنان الدواب: هو ما كان شابًّا فتيًّا، فهو من الضَّأن ما تمَّ له ستَّة أشهر، وبعضهم قال: ما تمَّ له سنة، والأوَّل أرجح: ومن الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر ما دخل في السنة الثالثة، والمراد هنا الجذع من الضأن، وسيأتي بيان حكمه إن شاء الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الأزهري: ليس معنى أسنان البقر والشَّاة كبر سن، كالرجل، ولكن معناه طلوع الثنية. فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تذبحوا إلاَّ مسنَّة" ليس معناه كبيرة متقدمة في السن, وإنَّما معناه -كما قال أهل اللغة- ثنية؛ فهو كبر نسبي. 2 - الثني من الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر والجاموس ماله سنتان، ومن المعز ما له سنة. 3 - ظاهر الحديث أنَّ جذع الضأن وهو ما تمَّ له ستَّة أشهر أنَّه لا يجزىء إلاَّ عند تعسر المسنَّة، ولكن حكى غير واحدٍ الإجماع على إجزاء الجذع من الضأن، ولو لم يتعسَّر غيره، وحملوا الحديث على الاستحباب بقرينة ما ¬

_ (¬1) مسلم (1963).

رواه الإِمام أحمد (26532) من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضحوا بالجَذع من الضأن". 4 - الثني من بهيمة الأنعام ما تجاوز لحمه طور الرخاوة والميوعة، ولم يصل إلى درجة العسر والعضالة، فهو أحسن وألذ؛ لأنَّ هذا دور طعمه ولذته ونفعه؛ ولهذا نصح بِهِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. 5 - إنْ لم توجد تلك المسنَّة عُدِلَ إلى جذع الضَّأن، فهو أسرع بهيمة الأنعام نموًّا وطيبًا. ***

1179 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ والأُذُنَ، وَلاَ نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلاَ مُقَابلَةٍ، وَلاَ مُدَابَرَةٍ، وَلاَ خَرْقَاءَ، وَلا ثرْمَاءَ" أخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. الحديث أخرجه الإِمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وصحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وسكت عنه أبو داود، والمنذري فظاهره الصحة. * مفردات الحديث: - أنْ نستشرف العين ... إلخ: مأخوذٌ من الاستشراف، وهو رفع البصر للنظر إلى الشيء، لتأمله وفحصه، لمعرفة سلامته من آفة تكون فيه. - مقابَلة: بفتح الباء، هي الشَّاة التي قطعت أذنها من قدام، وتركت معلقة، كأنَّها زنمة. - مدابَرة: بفتح الباء الموحدة، هي التي قطعت من جانب أذنها المدبر. - خَرْقَاء: بالمد، قال في النهاية: هي التي في أذنها خرق مستدير. - ثَرْمَاء: بالثاء المثلثة، والثرم: هو سقوط الثنية من الأسنان. ¬

_ (¬1) أحمد (853)، الترمذي (1498)، أبو داود (2804)، النسائي (4372)، ابن ماجة (3143)، ابن حبان (13/ 242)، الحاكم (1/ 640).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأفضل أنْ تكون الأضحية، والهدي، والعقيقة على أحسن الصفات، وأجمل الهيئات، وأنْ تكون بعيدة عن عيب تكون معه غير مُجزِئةً، رغبةً في استحسانها وجمالها؛ لأنَّها عبادةٌ وقربةٌ، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. 2 - من كمال الأضحية وحسنها أنْ تكون سليمة الأذن، والعين، والقرن، فلا تكون أذنها مقطوعة، ولا مخروقة، ولا مشقوقة، وأنْ يكون قرنها سليمًا من الكسر، وأنْ تكون عينها سليمةً من البياض، والغشاء. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في مثل مكسورة القرن، ومقطوعة أكثر الأذن. فجمهور العلماء: أنَّها لا تجزىء، قال الإِمام أحمد: "لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن"؛ لحديث علي الَّذي صحَّحه الترمذي: وظاهره التحريم والفساد. وذهب الإِمام الشَّافعي: إلى أنَّها تجزىء؛ لأنَّ في صحَّة الحديث نظرًا؛ ولأنَّ الأذن والقرن لا يقصد أكلها، واختار ابن مفلح في الفروع الإجزاء مطلقًا، وصوَّبه في الإنصاف. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح قول من قال من أهل العلم: إنَّ عضباء الأذن والقرن تجزىء؛ لأنَّ النَّهي عن التضحية بأعضب الأذن والقرن إذا صحَّ الاحتجاج به يدل على الكراهية، كما أمر باستشراف الأذن والقرن. أمَّا مقطوعة الإلية أو بعضها، ومجبوبة السنام، فلا تجزىء؛ لأنَّ هذا

شيءٌ مقصود منها. * قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم التضحية بمقطوع الإلية: جاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم (183) في 12/ 7/ 1414 هـ ما يلي: لا تجزىء الأضحية، ولا الهدي، ولا العقيقة بمقطوع الإلية؛ لأن الإلية عضوٌ كاملٌ مقصودٌ، فصار مقطوعها أولى بعدم الإجزاء من مقطوع القرن والأذن، والله ولي التوفيق. هيئة كبار العلماء ***

1180 - وَعَنْ عَلِيِّ بْن أِبي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنْ أَقُومَ عَلَى بُدُنِهِ، وأَنْ أَقْسِمَ لُحُومَهَا، وَجُلُودَهَا، وَجِلاَلَهَا عَلَى المَسَاكِينِ، وَلاَ أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بُدُنِه: بضم الباء والدَّال، جمع بَدَنَة، تطلق على النَّاقة أو البقرة، وإنَّما المراد هنا الإبل فقط؛ فإنَّها هي هدي النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام. - جِلاَلها: بكسر الجيم المعجمة، وفتح الَّلام، جمع جُلٍّ، بالضم، هو ما تغطَّى به الدَّابة، وتجلَّل؛ لتصان عن البرد ونحوه، فهو للدَّابة كالثوب للإنسان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جواز التوكيل على ذبح ونحر الأضحية والهدي، وتقسيم لحومها على مستحقيها. 2 - أنَّ مستحقي قسم الصدقة منها هم المساكين، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. وفي الآية الأخرى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج]. 3 - أنَّ جلودها لا تُباع، بل يكون مصرفها مصرف لحومها، فإمَّا أنْ ينتفع بها صاحبها، أو يهديها، أو يتصدق بها على الفقراء والمساكين. 4 - أنَّ جازرها لايعطى شيئًا من لحومها أو جلودها، على أنَّه أجرة على جزارته ¬

_ (¬1) البخاري (1707)، مسلم (1317).

باتفاق الأئمة، وإنَّما يجوز إعطاؤه هدية منها إنْ كان غنيًا، أو صدقة إنْ كان فقيرًا، لاسيما ونفسه تائقة إليها لمباشرته لها، وبهذا يتخصص عموم الحديث. 5 - استحباب الهدي والأضحية بأكثر من واحدة لذي سعة في ماله، فإنَّه من الصدقة، وإراقة دم لله تعالى في هذا اليوم العظيم. 6 - الأفضل في الأضحية، والهدي، والعقيقة: أنْ يأكل منها، ويهدي على غني ممَّن بينه وبينه علاقة قرابة، أو جوار، ونحوهما، ويتصدق على فقيرٍ أو مسكين؛ قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج]. ولما أخرجه الإِمام الترمذي (1510) من حديث بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ ليتسع ذُو الطَّول له، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا"، وقال: حديث حسن صحيح. * خلاف العلماء: أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز بيع لحوم الأضاحي، أو الهدي. وذهب الجمهور: إلى أنَّه لا يجوز -أيضًا- بيع جلودها، وأصوافها، وأوبارها، وشعرها. وأجاز أبو حنيفة بيع الجلود، والشعر، ونحوه بعروض لا بنقود، ملاحظًا في ذلك أنَّ المعاوضة بالنقود بيعٌ صريح، وأمَّا بالعروض ففيه شبه انتفاع كل من المتبادلين بمتاعِ الآخر. ***

1181 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عامَ الحُدَيْبِيَةِ: الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - البدنة هي من الإبل والبقر كبيرتا الحجم، كثيرتا اللحم؛ ففيهما فائدة، ومنفعة للمهدي والمضحي أكثر من الضَّأن والمعز؛ ولذا صارت كل واحدة منهما تقوم مقام سَبعْ من الغنم، فإذا ضحَّى ببدنةٍ أو ببقرة أجزأت عن سبع ضحايا، أو سبع هدايا. 2 - يجوز أنْ يشترك سبعة مضحون أو مهدون ببدنة أو بقرة، فيكون لكلِّ واحدٍ منهم أضحيته أو هديه، ويقسمون لحمها أسباعًا. 3 - قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في منسكه: الاعتبار في إجازة البدنة أو البقرة عن سبعة فأقل، أنْ يشترك الجميع في البدنة أو البقرة دفعة واحدة، فلو اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية أشركناه، فجاء قومٌ فشاركوهم، لم تجزىء البدنة أو البقرة إلاَّ عن الثلاثة، نقله الزركشي عن الحقي عن الشيرازي. قال في الإقناع وشرحه: والمراد إذا أوجبها الثلاثة على أنفسهم؛ لأَنَّهم إِذا لم يوجبوها، فلا مانع من الاشتراك قبل الذبح؛ لعدم التعيين. وقال في شرح المنتهى: وإنْ اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة وأوجبوها, لم يجز أنْ يشركوا غيرهم. ¬

_ (¬1) مسلم (1318).

4 - يجوز للمضحي أنْ يجعل ضحية الشَّاة عنه وعن أهل بيته، فيشترك فيها عدد من المضحَّى عنهم. وإنْ كانت الأضحية سُبُعَ بدنة، أو سُبُع بقرة، فقال الشيخ أحمد القصير: إن سبع البدنة أو سبع البقرة لا يكفي عن الرجل وأهل بيته؛ لأنَّه شرك في دم، ولفظ الحديث في الشَّاة، بخلاف سُبُع البدنة أو البقرة. أمَّا الشيخ عبد الرحمن السعدي فقال: لا شكَّ أنَّ سبع البدنة أو سبع البقرة قائمٌ مقام الشَّاة، وهذا هو الَّذي تدل عليه الأحاديث النبوية، وهو الَّذي فهمه أهل العلم منها؛ ولذلك فالإفتاء بمنع إهداء سُبُع البدنة أو سبع البقرة، لأكثر من واحد، في حياة الإنسان أو في موته، إنَّما حدث الإفتاء به في الأوقات الأخيرة، وهو لا شكَّ غلطٌ، وإلاَّ فجميع الأصحاب في الكتب المختصرة والمطولة ذكروا أنَّ حكم أضحية البقرة والبدنة حكم أضحية الغنم في كلِّ شيء، كما ذكروه في آخر كتاب الجنائز، وصرَّح به صاحب الإقناع تصريحًا لا يحتمل الشك، وكذلك ذكروه في آخر جزاء الصيد من كتاب الحج، ولله الحمد. واعلم أنَّ سند من أفتى من المتأخرين بعدم إجزاء التشريك فيها قول الأصحاب: "وتجزىء البدنة والبقرة عن سبعة"؛ ففهم أنَّ المراد أنَّه لا يشرك بها كلها أكثر من سبعة، وليس هذا مراد الأصحاب، ونحن نسلم أنَّه لا يجزىء إلاَّ عن أضحية واحدة، كما أنَّ الشَّاة لا تجزىء إلاَّ عن أضحية واحدة. وأمَّا كون الشَّاة يجوز إهداء ثوابها لأكثر من واحد، وسُبُع البدنة لا يجوز، فهذا قولٌ بلا علم، وهو مخالف للأدلة، ولكلام الفقهاء. وقد أشكلت على كثيرٍ من المشايخ، وذلك لاشتباه مسألة الإجزاء بمسألة الإهداء:

أمَّا مسألة الإجزاء: فإنَّ سُبُع البدنة لا يجزىء إلاَّ عن واحد. ومسألة الإهداء بأنْ يضحي الإنسان ويهدي ضحيته لأكثر من واحد، سواءٌ في الحياة، أو أوصى بها بعد الوفاة، فهذه تجزىء فيها الشَّاة وسُبُع البدنة عن أكثر من واحد. وقد قال الشيخ عبد الله أبا بطين حين سُئِل عن هذه المسألة: لم أجد ما يدل على المنع، وبعض من أدركنا يهدون سُبُع البدنة لأكثر من واحد، وإنَّما وجه الاشتباه على بعض المشايخ قول الأصحاب: "وتجزىء البدنة والبقرة عن سبعة"؛ وهذا في باب الإجزاء، لا في باب الإهداء، والله أعلم. 5 - حديث الباب في الهدي، ولكن يقاس عليه الأضحية، بل جاء في الأضحية ما أخرجه الترمذي (905)، والنسائي (4392) من حديث ابن عباس قال: "كُنَّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة". وفي إجزاء البدنة عن عشرة أو سبعة خلافٌ بين أهل العلم، ولكن الأثر الأخير -وهو في حجَّة الوداع- إجزاؤها عن سبعة كالبقرة، والله أعلم. ***

باب العقيقة

باب العقيقة مقدمة الأصل في العقيقة: الشعر الَّذي على رأس المولود، فسميت الذبيحة عند حلق ذلك الشعر: عقيقة، فاشتهر حتَّى صار من الأسماء العرفية، بحيث لا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلاَّ الذبيحة. والعقيقة مستحبَّة بالسنَّة المطهرة: قال الإِمام أحمد: والعقيقة سنَّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد عقَّ عن الحسن والحسين، وفعله الصحابة والتابعون. وقال ابن القيم: ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنَّها سنَّة، ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله تعالى على الوالدين؛ ففيها معنى القربان، والشكران، والصدقة، والفداء، وإطعام الطعام عند السرور، فإذا شرع عند النكاح، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة منه، وهو وجود النسل، فيكون أولى، ولمَّا كانت النعمة بالذكر على الوالد أتم، والسرور والفرحة به أكمل، كان الشكران عليه أكثر بذبح شاتين له بدل شاة واحدة عن الأنثى، فإنَّه كما كانت النعمة أتمَّ، كان شكرها أكثر. قال في شرح الإقناع: ولا يعق المولود عن نفسه إذا كبر؛ لأنَّها مشروعة في حق الأب. واختار جمعٌ أنَّه يعق عن نفسه استحبابًا إذا لم يعق عنه أبوه. قال الشيخ تقي الدِّين: يعق عن اليتيم من ماله كالأضحية وأولى؛ لأنَّه مرتهنٌ بها. ولا تجزىء قبل الولادة، كالكفارة قبل اليمين؛ لتقدمها على سببها.

1182 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَقَّ عَن الحَسَنِ والْحُسَيْنِ كبْشًا كبْشًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَعَبْدُ الحَقِّ، لَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ (¬1)، وأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. فقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود، وعبد الحق، وابن دقيق العيد، وقال في المحرر: إسناده على شرط البخاري. وله شواهد عديدة: فقد جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم: علي، وابن عباس، وجابر، وأنس، وبريدة، وعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم-: أمَّا حديث ابن عباس: فأخرجه أبو داود، والطحاوي، والبيهقي، وإسناده صحيح على شرط البخاري. حديث عائشة: أخرجه الطحاوي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن السكن. حديث بريدة: أخرجه أحمد، والنسائي، والطبراني، قال الحافظ: سنده صحيح، وهو على شرط مسلم. حديث أنس: أخرجه الطحاوي، وابن حبان، والطبراني، ورواية أنس هذه قال الهيثمي عنها: رجالها رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) أبو داود (2841)، ابن الجارود (911). (¬2) ابن حبان (1061).

وأما حديث جابر: فأخرجه أبو يعلى، والطبراني، ورجاله ثقات، فكلهم رجال مسلم. وأما حديث علي بن أبي طالب: فأخرجه الترمذي، وقال: حسنٌ غريب، وإسناده ليس بمتصل؛ لكن وصله الحاكم، وسكت عنه هو والذهبي، ورجاله ثقات معروفون. والروايات تختلف فيما عقَّ به النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن والحسين، فبعضها بكبش، وفي أخرى كبشان، والثاني هو الَّذي ينبغي الأخذ به. * مفردات الحديث: - كبشًا كبشًا: منصوبات بنزع الخافض، أو أنَّ "عق" ضمنت معنى "ذبح"، فصارا مفعولين. - كبشًا: الكبش ذكر الضأن في أي سنٍّ كان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العقيقة من ذبائح القرب والعبادة، وهي شكر لله تعالى على نعمة تجدد الولد؛ من ذكر أو أنثى. قال الإِمام أحمد: العقيقة سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد عقَّ عن الحسن وعن الحسين، وفعله أصحابه والتَّابعون. 2 - الحديث فيه أنَّه -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا؛ ولكن جاء نفس الحديث برواية أبي داود والنسائي: أنَّه عقَّ عنهما كبشين كبشين، وصحَّح الزيادة جماعة من العلماء، منهم: عبد الحق، وابن دقيق العيد. كما أخرج ابن حبَّان، والحاكم، والبيهقي، وابن السكن، من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّه عقَّ عنهما يوم السَّابع وسمَّاهما، وأماط عنهما الأذى، وجعل بدله خلوقًا"، مخالفًا بذلك عادة الجاهلية الَّذين يضعون على رأس المولود قطنة فيها دم من دم العقيقة.

3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ العقيقة سنَّة مؤكدة، وأنَّها في حق الأب. وذهب الظاهرية إلى وجوبها. أمَّا دليل الجمهور: فما أخرجه مالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحبَّ منكم أنْ ينسك عن ولده، فليفعل: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة". وأمَّا دليل الظاهرية فما سيأتي من حديث عائشة عند أحمد (24722): "أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أنْ يعقوا: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة". 4 - قال ابن القيم: ذبح العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنَّها سنَّة، ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين؛ ففيها معنى القربان، والشكران، والصدقة، والفداء، وإطعام الطعام عند السرور، فإذا شرع الإطعام عند النكاح، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة منه، وهو وجود النسل أولى. ***

1183 - وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). وأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ نَحْوَهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة، عن عائشة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يعق عن الغلام ... الحديث. قال الترمذي: حسن صحيح. وإسناده صحيح على شرط مسلم، وله طرق وشواهد: منها: حديث عائشة أخرجه الطحاوي والبيهقي، وإسناده حسن، ورجاله ثقات، رجال الشيخين. ومنها: حديث أم كرز الكعبية، وحديث أسماء بنت يزيد، وحديث عمرو ابن شعيب، وغيرها. والحديث صحَّحه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي. ¬

_ (¬1) الترمذي (1513). (¬2) أحمد (6/ 381)، أبو داود (2835)، الترمذي (1516)، النسائي (164)، ابن ماجة (3162).

* مفردات الحديث: - مُكَافِئَتَانِ: بكسر الفاء، وبعدها همزة، أي: متساويتان في السنِّ والإجزاء، فلا تكون إحداهما مسنَّة، والأخرى غير مسنَّة، ويكونان ممَّا يجزىء في الأضحية. وقال الإِمام أحمد وأبو داود: متساويتان أو متقاربتان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث دليلٌ على مشروعية العقيقة، وهو من أدلَّة وجوبها؛ لأنَّ الأمر يدل على الوجوب، ومذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- أنَّها سنَّةٌ مؤكدة، وليست واجبة، ولم يرَ وجوبها إلاَّ الظاهرية. 2 - والحديث صريحٌ في أنَّ عقيقة الغلام شاتان، وعقيقة الجارية شاةٌ واحدة. 3 - الحكمة في تمييز الذكر عن الأنثى أنَّ العقيقة هي نسيكة شكر لله تعالى على نعمة تجدد المولود، ولما كان الذكر أعظم نعمة، وامتنانًا من الله تعالى، كان الشكر عليه أكثر، فصار له شاتان، وللجارية شاة. قال ابن القيم: التفضيل تابع لشرف الذكر، وما ميزه الله به على الأنثى، ولما كانت النعمة به أتم، والسرور به أكمل، فكان الشكر عليه أكثر. 4 - ويسن أنْ تكون الشاتان اللتان يعق بهما عن الغلام متكافئتين متشابهتين في السن والسمنة، فلا تكون إحداهما أكبر من الأخرى كثيرًا، وأنْ تكونا بلونٍ واحدٍ، وحجمٍ واحد. قال في الشمائل: بأنْ تكون هذه نظير هذه، ولعلَّه للتفاؤل بتناسب أخلافه. ***

1184 - وَعَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ غُلاَمٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم كلهم من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة به. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصحَّحه عبد الحق، وقد روى البخاري في صحيحه من طريق الحسن؛ أنَّه سمع حديث العقيقة من سمرة، ولا يعرف سماع للحسن عن سمرة إلاَّ هذا الحديث. * مفردات الحديث: - مرتهن بعقيقته: شبَّه المولود في لزوم العقيقة عنه، وعدم انفكاكه منها، بالرهن في يد المرتهن، قال الخطابي: اختلف النَّاس في معنى هذا، وأجود ما قيل فيه: ما ذهب إليه الإِمام أحمد قال: هذا في الشفاعة إذا مات طفلاً، ولم يُعَقَّ عنه، لم يشفع في أبويه. * ما يؤخد من الحديث: 1 - الحديث يدل على تأكد العقيقة، وأنَّه لا ينبغي تركها مهما كانت الأحوال، ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 7)، أبو داود (2838)، النسائي (7/ 166)، الترمذي (1522)، ابن ماجة (3165).

ولذا قال الإِمام أحمد: إذا لم يكن عنده ما يعق به فاستقرض، أرجو أن يخلف الله عليه؛ فقد أحيا سنَّة. قال ابن المنذر: صدق أحمد؛ إحياء السنن واتباعها أفضل. وقال الشيخ تقي الدِّين: يعق عن اليتيم من ماله. 2 - اختلف العلماء في معنى كون المولود مرتهنًا بعقيقته: فقيل معناه: أنَّ العقيقة لازمة للمولود؛ كلزوم الرهن للمرهون يزيد الرَّاهن. وقال الإِمام أحمد: معناه إذا مات وهو طفل لم يعق عنه فلا يشفع لأبويه؛ ويقوي هذا القول ما أخرجه البيهقي من حديث بريدة بن الحصيب قال: "إنَّ النَّاس يعرضون يوم القيامة على العقيقة، كما يعرضون على الصلوات الخمس"، وقيل غير ذلك. والمهم أنَّ مثل هذه التشبيهات تدل على تأكيد هذه الشعيرة، وأنَّه لا ينبغي إهمالها، فمن أحياها، فقد أحيا سنَّة أمر بها النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بها. 3 - قال في شرح الإقناع: ولا يعق غير الأب، وأمَّا عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن والحسين، فلأَنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. واختار جمع أنْ يعق المولود عن نفسه استحبابًا إذا لم يعق عنه أبوه، وهو قول عطاء والحسن؛ لأنَّها مشروعةٌ عنه، ولأنَّه مرتهنٌ بها، فينبغي أنْ يشرع في فكاك نفسه. 4 - أخرج الترمذي (2832) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه، والعق"، والله أعلم. انتهى كتاب الأطعمة ***

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان مقدمة الأيمان: بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأطلقت على الحَلِف؛ لأنَّهم كانوا إذا تحالفوا، أخذ كل واحدٍ يمين صاحبه. واليمين شرعًا: هي توكيد الأمر المحلوف عليه، بذكر معظَّم على وجه مخصوص. واليمين أنواع كالآتي: 1 - ما يجري على لسان المتكلِّم بدون قصد؛ كـ"والله" و"بلى والله" و"تالله"، فهذا لغو. 2 - إذا حلف على أمرٍ ماض يظن صدق نفسه، فبان بخلافه، فهو لغو. 3 - إذا حلف على أمرٍ ماض كاذبًا عالمًا، فهذه هي اليمين الغموس، وهذه الثلاث لا كفارة فيها. 4 - إذا حلف على أمرٍ مستقبل قاصدًا لليمين، فهذه هي اليمين التي فيها الكفَّارة بشروطها الآتية: (أ) أنْ يكون الحالف مكلَّفًا. (ب) كونه مختارًا للحلف. (ج) كونه قاصدًا لليمين؛ فلا تنعقد بما يجري على لسانه.

(د) أنْ يكون على أمرٍ مستقبل، فلا كفَّارة على ماضٍ كاذبًا عالمًا به، وهي الغموس. (هـ) أنْ يحنث في يمينه بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله. ***

1185 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب في رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أوْ لِيَصْمُتْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ لأبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: "لاَ تَحْلِفُوا بِآبائكُمْ، وَلاَ بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلاَ بِالأَنْدَادِ، وَلاَ تَحْلِفُوا إلاَّ بالله، وَلاَ تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلاَّ وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أبي داود والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ذكرها ابن حجر في الفتح في زيادات الباب؛ فهي صحيحة، أو حسنة على قاعدته التي نصَّ عليها في مقدمة الفتح. * مفردات الحديث: - الأنداد: جمع ند، بكسر النون، وهو مثل الشيء الَّذي يضاده في أموره، وينادّه، أي: يخالفه، ويراد به هنا الأصنام التي يتخذونها آلهةً من دون الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اليمين هي القسم بألفاظ مخصوصة لتأكيد الحكم المحلوف عليه بذكِر مُعَظَّمٍ على وجه مخصوص، والحالف إذا أراد تأكيد أمرٍ من الأمور نفيًا أو ¬

_ (¬1) البخاري (6646)، مسلم (1646). (¬2) أبو داود (3248)، النسائي (7/ 5).

إثباتًا، أكَّده بالحلف بأعظم ما عنده من معظَّم، فما زال النَّاس منذ أقدم الأزمان يعتقدون أنَّ المحلوف به له تسلطٌ على الحالف يقدر على نفعه وضرِّه بالأسباب الطبيعية، وبما فوق الأسباب الطبيعية، فإذا أوفى الحالف بما حلف، يرضى المحلوف به، وينفعه، وإنْ لم يرض، يضره، ومن هذا صار الحلف بغير الله تعالى أو بغير صفاته شركًا بالله تعالى. 2 - وفي الحديث وجوب الحلف بالله تعالى لمن أراد اليمين. فقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لأن أحلف باللهِ كاذبًا أحب إليَّ من أنْ أحلف بغيره صادقًا". قال شيخ الإِسلام: لأنَّ حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48]. وقال الماوردي: لا يجوز لأحدٍ أنْ يحلف بغير الله تعالى، لا بطلاقٍ، ولا عتاق، ولا نذر. والأحاديث واضحةٌ في الدلالة على التحريم. ومنها ما أخرجه أبو داود (3251) والحاكم (1/ 65) من حديث ابن عمر أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد كفر". 3 - ويحرم الحلف بالبراءة من الإِسلام، أو من الدِّين، أو هو يهودي، أو نصراني، ونحوه؛ لما أخرجه أبو داود (3258) والنسائي (3772) بإسنادٍ على شرط مسلم، من حديث بريدة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف فقال: إنِّي بريء من الإِسلام، فإنْ كان كاذبًا فهو كما قال، وإنْ كان صادقًا فلن يرجع إلى الإِسلام سالمًا". 4 - وإذا كان الحلف بالآباء منهيًّا عنه ومحرمًا، فالحلف بالأنداد، وهي الأصنام، أشد تحريمًا، وأعظم عقوبة.

5 - وفي الحديث النَّهي عن الحلف بالله تعالى كاذبًا، فإنَّه اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنَّم، فقد جاء في صحيح البخاري (6675) أنَّ أعرابيًّا قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فذكر أشياء، وقال: "واليمين الغموس". ***

1186 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَمِينُكَ علَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ". وَفِي رِوَايَةٍ: "اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ" أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اليمين في الدعاوى تكون على صفة دعوى المدعي، أو جواب المدعى عليه، فإذا حلَّف القاضي المدعى عليه بطلب المدعي، خلَّى سبيله بعد تحليفه إيَّاه، وانقطعت الخصومة؛ لأنَّ اليمين تقطع الخصومة، وإنْ كانت بجانب المدعي، استحق بها ما ادعاه. 2 - الحديث يدل على أن اليمين المطلوبة من الحالف في الدعاوى يجب أنْ تكون على نية المستحلف، ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهر، وهذا بإجماع العلماء. قال في شرح الإقناع: وتكون يمين الحالف على صفة جوابه لخصمه، فلا يصلها بما لا يفهم. كما تحرم التورية، والتأويل فيها. 3 - الحاصل أنَّ القاضي إذا حلَّف من توجهت عليه اليمين في الدعاوى، فإنَّ اليمين تكون على نية المستحلف، ولا تكون على نية الحالف، فيما لو حلف ونوى بها غير ما أظهر، وأنَّه لا ينفعه تأويله، وتوريته. 4 - قال النووي: وأمَّا إِذَا حلف بغير استحلاف القاضي، وورَّى، فتنفعه التورية ولا يحنث، سواءً حلف ابتداءً من غير تحليف، أو حلَّفه غير القاضي، وغير نائبة في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف -بكسر اللام- غير القاضي. ¬

_ (¬1) مسلم (1653).

1187 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِذَا حَلَفْتَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ". وَفِي رِوَايةٍ لأبِي دَاوُدَ: "فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثم ائْتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ" وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أبي داود إسنادها صحيح، كما قال المؤلِّف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحلف على أمرٍ مستقبل يريد الحالف تحقيق فعله أو تركه، لا يخلو من أمور: فإنْ حلف على فعل واجب، أو حلف على ترك محرَّم، حرم حنثه، ووجب بره بقسمه. وأمَّا إنْ حلف على فعل محرم، أو ترك واجب، وجب حنثه، وحرم بره. 2 - وأمَّا إنْ حلف على فعل مندوبٍ، أو ترك مكروه، فهنا يكره حنثه؛ لما يترتب على بره من الثواب الحاصل بفعل المندوب، وترك المكروه. وأمَّا إنْ حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فهذا هو ما أشار إليه حديث الباب من أنَّ المستحب أنْ يحنث، فيترك المكروه أو يفعل ¬

_ (¬1) البخاري (6622، 6722)، مسلم (1652)، أبو داود (3278).

المندوب، ويكفِّر عن يمينه، وهذا هو معنى قوله: "وإذا حلفت على يمينٍ، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك، وائت الَّذي هو خير". 3 - قال في الروض المربع وحاشيته: ويشترط لوجوب الكفَّارة إذا حلف بالله ثلاثة شروط: الأوَّل: أنْ يَقصد الحالف عقدها على أمرٍ مستقبل ممكن، فإنْ حلف على أمرٍ ماضٍ كاذبًا فهي اليمين الغموس. وإنْ كانت ممَّا يجري على لسانه بغير قصدٍ ولو في الزمن المستقبل فلغو اليمين، ولا كفَّارة فيه؛ للآية. الثاني: أنْ يحلف مختارًا لليمين، فإنْ حلف مكرهًا، لم تنعقد يمينه. الثالث: أنْ يحنث في يمينه بأنْ يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، مختارًا، ذاكرًا ليمينه، حَنِثَ، وعليه الكفَّارة. 4 - قال الوزير: أجمعوا على أنَّ اليمين المعتمدة المنعقدة هو أنْ يحلف بالله تعالى على أمرٍ في المستقبل أنْ يفعله، أو لا يفعله، وإذا حنث، وجبت عليه الكفَّارة؛ لأنَّ العقد إنَّما يكون في المستقبل دون الماضي. قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ***

1188 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنِّف: رواه الإِمام أحمد، والأربعة، وصحَّحه ابن حبان، ونقل المناوي عن ابن حجر، أنَّ رجاله ثقات، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير. قال الترمذي: لا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني. قال ابن عليه: كان أيوب يرفعه تارة، ولا يرفعه تارة. قال البيهقي: لا يصح رفعه إلاَّ عن أيوب، مع أنَّه شكَّ فيه. قال الحاكم: صحيح إسناده، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن دقيق العيد، ورجَّح الزيلعي والصنعاني صحَّة رفعه. * مفردات الحديث: - حِنْث: بكسر الحاء، وسكون النون، بعدها شاء مثلَّثة، هو عدم الوفاء باليمين. هذا معناه هنا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الحالف على يمين تدخلها الكفَّارة إذا استثنى بيمينه فقال: إنْ شاء الله لأفعلنَّ كذا، أو إنْ شاء الله لأتركنَّ كذا، أنَّه لا يحنث في ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 10)، أبو داود (3261)، الترمذي (1531)، النسائي (7/ 25)، ابن ماجة (2105)، ابن حبان (1184).

يمينه إنْ فعل المحلوف عليه، أو تركه. 2 - يشترط لذلك ثلاثة شروط: الأوَّل: أنْ يقصد تعليق المحلوف عليه على مشيئة الله تعالى وإرادته، ولم يقصد مجرَّد التبرك، أو سبق لسانه بلا قصد. الثاني: أنْ يتصل الاستثناء بيمينه لفظًا أو حكمًا، بأنْ لا يقطعه إلاَّ نحو سعال، أو عطاس، أو تثاؤب، أو قيء، ونحو ذلك. الثالث: أنْ يستثني لفظًا ونطقاً؛ فلا ينفعه، ولا يكفيه أنْ يستثني بقلبه. 3 - مثل الاستثناء في اليمين يصح -أيضًا- الاستثناء في الطلاق، والظهار، والنَّذر، والإقرار؛ فإنَّ الاستثناء فيه ينفع بشروطه: من القصد، والنطق، والاتصال. 4 - قال في شرح الإقناع: ولا يستحب تكرار الحلف، فإنْ أفرط كره، لقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم: 10]، وهذا ذمٌّ، ولأنَّه لا يكاد يخلو من الكذب، وعُلِمَ أنَّه لا كراهة في الحلف مع عدم الإفراط؛ لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- حلف في غير حديث. 5 - وقال أيضًا: وإنْ دُعِيَ إلى الحلف عند الحاكم، وهو محقٌّ، استُحِبَّ له افتداء يمينه، فإنْ حلف فلا بأس؛ لأنَّه حلف صادقًا على حقٍّ. ***

1189 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ، وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). 1190 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يارَسُولَ اللهِ! مَا الْكَبائِرُ؟ ... " فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وَفِيهِ: "الْيَمِينُ الغَمُوسُ" وفيه: قُلْتُ: "وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسُ؟ " قَالَ: "الَّتي يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الكبائر: جمع كبيرة، والمراد بها كبائر الذنوب، وفواحشها. - الغَموس: بفتح الغين المعجمة، سميت غموسًا؛ لأنَّها تغمس صاحبها في النَّار. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اليمين الغموس: هي اليمين على شيءٍ ماضٍ عالمًا كاذبًا في يمينه، سُمِّيت غموسًا؛ لأنَّها تغمس الحالف بها في الإثم، ثمَّ في النَّار. 2 - حديث الباب من أدلَّة تحريم اليمين الغموس، وأنَّها من كبائر الذنوب، ويزيد إثمها، ويعظم خطرها، حينما يقتطع بها الحالف مال امرئٍ مسلمٍ، وهو كاذب. ¬

_ (¬1) البخاري (6628). (¬2) البخاري (6920).

3 - اليمين الغموس لا كفَّارة فيها؛ لأنَّها أعظم من أنْ تمحو ذنبها الكفَّارة، وهو مذهب جمهور العلماء، لما روى البيهقي عن ابن مسعود قال: "كُنَّا نعد اليمين التي لا كفَّارة فيها اليمين الغموس". وهي من الكبائر؛ للخبر، ويجب المبادرة بالتوبة النصوح بأنْ لا يعود إليها. 4 - أمَّا الحديث رقم (1189) فيدل على القسم الَّذي كان -صلى الله عليه وسلم- يقسم به، ويواظب عليه، وهو "لا ومقلِّب القلوب" والمراد بتقليب القلوب هو تقليب أغراضها وأحوالها, لا تقليب ذات القلب، قال الرَّاغب الأصفهاني: تقليب الله القلوب والبصائر هو صرفها عن رأيٍ إلى رأيٍ آخر، قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل: 46]. قال ابن العربي: القلب جزءٌ من البدن خلقه الله، وجعله للإنسان محل العلم والكلام. 5 - أقسم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعدة صيغ؛ منها: "لا، ومصرِّف القلوب"، "ورب الكعبة"، "والَّذي نفس محمد بيده"، وإذا اجتهد قال: "والَّذي نفس أبي القاسم بيده" وغيرها من الصيغ، وكلها جاءت بأحاديث صالحة، والله أعلم. ***

1191 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "في قولهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لاَ وَاللهِ، وَبلَى وَاللهِ" أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح موقوفًا؛ كما أخرجه البخاري. قال ابن حجر في الفتح عن رواية أبي داود المرفوعة: إنَّ أبا داود أشار إلى أنه اختلف على عطاء، وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه. اهـ. ورجَّح ابن القيم وقفه على عائشة رضي الله عنها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فسَّرت عائشة -رضي الله عنها- لغو اليمين هنا: بأنَّه ما يتردَّد على ألسنة النَّاس أثناء المحادثة عن قولهم: لا والله، وبلى والله، ممَّا يجري على اللسان، ولا يقصده الجنان؛ وهذا التفسير هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة. أمَّا أبو حنيفة: فجعل لغو اليمين المذكور في الآية هو حلف الإنسان على أمرٍ ماضٍ، يظنه كما قال، وهو خلاف ما ظن؛ قال ابن المنذر: وهو قول أكثر العلماء. 2 - وذهب الإِمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى أنَّ لغو اليمين يراد به النوعان السَّابقان كلاهما. قال في الروض وحاشيته: وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه، فبان ¬

_ (¬1) البخاري (6663)، أبو داود (3254).

خلافه، فلغو غير منعقدة، ولا كفَّارة فيهاة لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي: لا يعاقبكم، ولا يلزمكم كفَّارة بما صدر منكم من الأيمان التي لا يقصدها الحالف. وقال الشيخ تقي الدِّين: وكذا لو عقدها ظانًّا صِدْقه، فلم يكن، كمن حلف على غيره يظن أنَّه يطيعه، فلم يفعل. ***

1192 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وتسْعِينَ اسْمًا مَنْ احْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَاقَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ الأسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث في الصحيحين، وزيادة الترمذي مدرجة. قال ابن حبان: إنَّ زيادة الترمذي مدرجة، وبهذا قال كلٌّ من ابن حزمٍ، وأبي بكر بن العربي، وابن عطية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وغيرهم. قال الصنعاني: اتفق الحفَّاظ من أئمة الحديث أنَّ سردها إدراجٌ من بعض الرواة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ساق المؤلِّف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث لبيان أنَّ أسماء الله الحسني التي يجوز الحلف بها، ويجوز القسم بأي واحدٍ منها، وانعقاده بها. قال فقهاؤنا: فاليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث فيها هي اليمين بالله تعالى، والرحمن الرحيم، أو بصفة من صفاته تعالى؛ كوجه الله تعالى، وعظمته، وجلاله، وعزته. قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنَّ اليمين بالله تعالى منعقدة بأسماء الله الحسنى؛ كالرحمن، والرحيم، والحي، وغيرها. ¬

_ (¬1) البخاري (2736)، مسلم (2677)، الترمذي (3507)، ابن حبان (808).

2 - الحلف بغير الله تعالى، وصفاته محرَّمٌ، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان حالفًا، فليحلف بالله، أو ليصمت" [رواه البخاري (6108) ومسلم (1646)]. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أنْ أحلف بغيره صادقًا". قال شيخ الإِسلام: لأنَّ حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. 3 - جاءت أسماء الله تعالى التسعة والتسعون في سنن الترمذي، وفي صحيح ابن حبان، ولكن اتفق الأئمة والحفاظ على أنَّ سردها ليس مرفوعًا إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّما هو مدرجٌ من بعض الرواة. قال شيخ الإِسلام: اتفق أهل المعرفة بالحديث أنْ تعيينها ليس من كلام النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو الوفاء محمد درويش: وأسماء الله تعالى كثيرةٌ، منها ما نزَّله في كتبه وعلَّمه رسله وأنبياءه، ومنها ما استأثر بعلمه؛ لأنَّ عقول البشر أعجز من أن تدرك معناه، أو تحيط بمكنون أسراره، ويدل على هذا ما رواه الإِمام أحمد (3704) عن ابن مسعود عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَسْأَلك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أو اسْتَأْثَرْتَ بهِ فِي عِلْمِ الغَيْب عِنْدَكَ". قال النَووي: اتَّفق العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الحديث ليس فيه حصرٌ لأسمائه تعالى، وليس معناه أنه ليس له تعالى أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنَّما المقصود منه أنَّ هذه التسعة والتسعين اسمًا، مَنْ أَحْصاها دخل الجنَّة. 4 - قوله: "منْ أحصاها دخل الجنَّة" المراد بإحصائها هو حفظها، والإيمان بها، وبمقتضاها، والعمل بمدلولاتها. 5 - قال ابن بطال: طرق العمل بها: أنَّ ما كان يسوغ الاقتداء به كالرحيم

والكريم، فيمرِّن العبد نفسه، على أنَّه يصح له الاتصاف بالرحمة والكرم الَّلائقة به، وما كان يختص بالله جلَّ وعلا كالجبَّار والعظيم، فعلى العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفةٍ منها، وما كان فيه معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة. ويؤكِّد هذا أنَّ حفظها لفظًا من دون عملٍ واتصاف، كحفظ القرآن من دون عمل؛ كما جاء في الحديث: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" [رواه البخاري (3166) ومسلم (1063)]. 6 - وهذه الأسماء لما لم يصح تعيينها، وعددها عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد اختلف العلماء فيها اختلافًا كبيرًا. وبعضهم تتبعها من الكتاب والسنَّة، ومنهم الشيخ أبو الوفاء محمد درويش في كتابه "الأسماء الحسنى". 7 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: في "توحيد الأنبياء والمرسلين": وأتباعهم يعترفون، ويتبعون كل صفة للرحمن وردت في الكتب الإلهية، وثبتت في النصوص النبوية، يعرفون معناها ويعقلونها بقلوبهم، ويتعبدون الله تعالى بعلمها واعتقادها، ويعملون بما تقتضيه، وذلك من الأحوال القلبية، والمعارف الربانية. - فأوصاف العظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال، تملأ قلوبهم هيبةً لله وتعظيمًا له. - وأوصاف العز، والقدرة، والجبروت، تخضع لها القلوب، وتذل بين يدي ربها. - وأوصاف الرحمة، والبر، والجود، والكرم، تملأ قلوبهم رغبةً وطمعًا فيه، وفي فضله، وإحسانه، وجوده.

- وأوصاف العلم، والإحاطة، توجب لهم المراقبة في جميع الحركات والسكنات. ويعلم هذه المعاني الجليلة، وتحقيقها يُرجى للعبد أنْ يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنَّة"، فإحصاؤها: فهمها، وعقلها، والاعتراف بها، والتعبد لله تعالى بها. * فوائد: الأولى: أهل السنَّة أثبتوا كلَّ ما جاء به الكتاب والسنَّة من صفات الله تعالى، لا فرق عندهم بين صفات الذَّات، وصفات الأفعال المتعلقة بمشيئة الله تعالى. فكلها قائمةٌ بالله، والله تعالى موصوفٌ بها، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، وإنَّما أثبتوا حقيقة الصفة على الوجه الَّذي يليق بجلال الله تعالى، وأمَّا كيفية الصفة؛ ففوَّضوا علمها إلى الله تعالى، وبهذا سَلِموا من تعطيل صفات الله تعالى، وسَلِمُوا من تشبيه الله بخلقه، حيث تورط فيهما طائفتان ضالتان ممَّن أسرفوا في النَّفي، أو في الإثبات. فإثبات صفات الله تعالى إثباتًا يليق بجلاله، وتفويض علم كيفية الصفة إلى الله تعالى: قاعدةٌ مهمَّة اعتمدها السلف الصَّالح في فهم صفات الله، فأغنتهم عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، كما عصمتهم من أنْ يفهموا من الكتاب والسنَّة مستحيلاً على الله تعالى من تشبيهه بخلقه؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. الثانية: التحريف تغيير النص لفطًا، أو معنًى، فالتغيير اللفظي: يتغير معه المعنى، وأمَّا التغيير المعنوي: فهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل. وأمَّا التعطيل فمعناه إنكار جميع صفات الله تعالى، أو إنكار بعضها. وأمَّا التمثيل؛ فهو إثبات مثيلٍ له ممَّا يقتضي المماثلة والمساواة.

وأمَّا التكييف: فهو تكييف صفات الله تعالى بأنْ يحكي للصفة كيفية مطلقة. وأمَّا التشبيه: فهو أنْ يجعل لصفة الله شبهًا مقيدًا بصفة خلقه. الثالثة: كما يجب تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عن جميع النقائص والعيوب، فإنه -أيضًا- يجب تنزيه الله في أسمائه تعالى عنها. الرَّابعة: أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، فلا يصح أنْ يسمَّى الله تعالى، أو يوصف إلاَّ بما سمَّى به نفسه، أو وصف به نفسه، أو سمَّاه به أو وصفه نبيه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ممَّا جاء في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-. الخامسة: أسماء الله الحسنى يدل الاسم منها على ثلاثة أمور: أحدها: دلالته على ذات الله تعالى. الثاني: دلالته على صفة الله تعالى. الثالث: دلالته على صفاتٍ أخرى بطريق الالتزام. فإنْ دلَّ الاسم على الذَّات وحدها، أو دلَّ على الصفة وحدها، فهي دلالة تضمن؛ لأنَّ المعنى المراد بعض اللفظ، وداخل ضمنه. وأمَّا إنْ أُريد بدلالته الذات والصفة معًا، فهي دلالة مطابقة؛ لأنَّ اللفظ طابق معناه بالكامل. مثال ذلك: "الرحمن": فإنه يدل على الذَّات وحدها، وعلى الرحمة وحدها؛ فدلالته على واحدٍ منهما دلالة تضمن. أمَّا دلالته على الذَّات والرحمة معًا، فهي دلالة مطابقة؛ لأنَّ اللفظ طابق معناه. أمَّا دلالة الالتزام: فإنَّ الذَّات المتصفة بالرحمة يلزم لها الحياة والعلم؛ فدلالته على هاتين الصفتين دلالة التزام.

والمتأمِّل للمعاني، وما يلزم لها يستفيد علمًا كثيرًا تحصل له من الدليل الواحد. السَّادسة: أنَّ أسماء الله تعالى تدل على الذَّات، وعلى الصفة كما تقدَّم، والوصف الَّذي يدل عليه الاسم نوعان: متعدٍّ وغير متعدٍّ: فإنْ كان متعديًا فهو يتضمن أمرين: أحدهما: ثبوت الصفة. الثاني: ثبوت حكمها. مثال ذلك "الحكيم": فهو يدل على ثبوت الحكمة من لله تعالى. ويدل على حكمها ومقتضاها؛ وذلك بأنَّ أفعال الله وتدابيره قائمةٌ كلها على الحكمة الرشيدة، وذلك بوضع الأمور في مواضعها المناسبة لها واللاَّئقة بها. أمَّا صفة الاسم التي لا تتعدَّى، فإنَّها تدل على مجرَّد ثبوت الصفة لله تعالى، بدون تعدية إلى حكم ومقتضى؛ كصفة الحياة. ***

فصل حول أسماء الله تعالى وصفاته من كتاب "بدائع الفوائد" لابن القيم رحمه الله تعالى

فصل حول أسماء الله تعالى وصفاته من كتاب "بدائع الفوائد" لابن القيم رحمه الله تعالى وقد يكون في بعض فقراته تكرار مع ما تقدَّم: أوَّلا: ما يجري صفة أو خبرًا على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات؛ كقولك: ذات، وموجود، وشيء. الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية؛ كالعليم، والقدير، والسميع. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله؛ كالخالق، والرازق. الرَّابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض؛ كالقدوس، والسَّلام، ولابُدَّ في هذا من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العلم المحض. الخامس: الاسم الدَّال على جملة أوصاف عديدة، نحو المجيد، والعظيم، والصمد: فإنَّ المجيد: هو من اتصف بصفاتٍ متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا. ومثله العظيم: فهو من اتصف بصفاتٍ كثيرةٍ من صفات الكمال. وكذلك الصمد: فإنَّه الَّذي كمل في سؤدده، فهو الَّذي يصمد إليه النَّاس في حوائجهم وأمورهم.

ثانيًا: ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع ممَّا يدخل في باب أسمائه وصفاته؛ كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه؛ فإنَّه يُخْبِرُ به عنه، ولكنَّه لا يدخل في أسمائه الحسنى، وصفاته العلى. ثالثًا: لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أنْ يشتق منه اسم مطلق؛ كما غلط فيه بعض المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى "المضل"، و"الفاتن"، "الماكر"، تعالى الله عن قوله؛ فإنَّ هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلاَّ أفعال مخصوصة معيَّنة؛ فلا يجوز أنْ يسمَّى بأسمائها المطلقة. رابعًا: أنَّ الاسم من أسمائه له دلالاتٌ: (أ) دلالة على الذَّات، والصفة؛ فهذه المطابقة. (ب) ودلالةٌ على أحدهما، فهي بالتضمن. (ج) ودلالة على الصفة الأخرى؛ فهي باللزوم. خامسًا: أسماء الله تعالى الحسنى هي أعلامٌ، وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العلمية. سادسًا: أسماؤه الحسنى لها اعتباران: اعتبارٌ من حيث الذَّات، واعتبارٌ من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأوَّل مترادفة، وبالاعتبار الثاني متباينة. سابعًا: أنَّ ما يطلق عليه تعالى من باب الأسماء والصفات فهو توقيفي. وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أنْ يكون توقيفيًّا، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. ثامنًا: أنَّ الاسم إذا أُطلق عليه، فإنه يجوز أنْ يشتق منه المصدر، والفعل، فيخبر عنه به فعلًا، أو مصدرًا؛ نحو السميع، والبصير، والقدير، يطلق عليه السمع، والبصر، والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من نحو {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] و {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]. تاسعًا: أسماؤه تعالى كلها حسنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا؛ فإنَّ من

أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل؛ نحو الخالق، والرَّازق، وهذا يدل على أنَّ أفعاله كلها خيرٌ محض، لا شرَّ فيها؛ لأنَّه لو فعل الشر لاشتُقَّ منه اسم، ولم تكن كلها حسنى، فالشر ليس إليه، فلا يضاف إليه، لا فعلًا، ولا وصفًا، وإنَّما يدخل في مفعولاته، وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشر قائمٌ بمفعوله المباين له، لا بفعله الَّذي هو فعله. فتأمَّل هذا فإنه قد خفي على كثيرٍ من المتكلمين، وزلَّت فيه أقدام، وضلَّت فيه أفهام، وهدى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. عاشرًا: أسماء الله الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد؛ فإنَّ لله تعالى أسماءً وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسل؛ كما في الحديث الصحيح: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" [رواه أحمد (3704)]. أي: انفردت بعلمه. ومن هذا قول النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشَّفاعة: "فيفتح الله عليَّ من محامده بما لا أحسنه الآن" [رواه البخاري (4435) ومسلم (194)]. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" [رواه مسلم (486)]. حادي عشر: أنَّ أسماء الله تعالى منها: ما يطلق عليه مفردًا، ويكون -أيضًا- مقترنًا بغيرها، وهذا هو غالب الأسماء، كالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحكيم، فهذا يسوغ أنْ يدعى به مفردًا أو مقترنًا بغيره. ومنها: ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله؛ كالمانع، والضار، والمنتقم، فهذا لا يجوز أنْ يفرد عن مقابله، فتقول: المعطي المانع، الضار النَّافع، المنتقم العفو، المعز المذل؛ لأنَّ الكمال في اقتران كل اسمٍ من هذه بما يقابله، لأنَّه يراد به أنَّه المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم،

عطاءً ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وعفوًا وانتقامًا، وأمَّا أن تثني عليه بمجرَّد المنع والانتقام فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد، وإنْ تعددت لم تطلق إلاَّ مقترنة. ثاني عشر: أنَّ من أسمائه تعالى الحسنى ما يكون دالًّا على عدَّة صفات، ويكون الاسم متناولاً لجميعها؛ كالعظيم، والمجيد، والصمد. فالعظيم: الَّذي قد كمل في عظمته، والصمد: الَّذي كمل في سؤدده، وهذا ممَّا يخفى على كثيرٍ ممَّن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى، ففسَّر الاسم بدون معناه الكامل، ونقصه من حيث لا يعلم. فمن لم يحط بهذا علمًا، بخس الاسم الأعظم حقه، وهضمه معناه، فتدبره. ثالث عشر: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصلٌ للعلم بكلِّ معلوم، فإنَّ المعلومات إمَّا أنْ تكون خلقًا له، أو أمرًا، فهي إمَّا علم بما كونه، أو علَّم بما شرعه، فالخلق والأمر مرتبطان بالأسماء الحسنى ارتباط المقتضى بمقتضيه؛ لذا صار العلم بها أصلًا لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي فقد أحصى جميع العلوم؛ لأنَّ المعلومات هي مقتضاها، ومرتبطةٌ بها، وتأمَّل صدور الخلق والأمر عن علمه، وحكمته تعالى؛ فإنَّك لا تجد فيها خللًا ولا تفاوتًا؛ لأنَّ الخلل الواقع فيما يأمر به العبد، أو يفعله؛ إمَّا أنْ يكون لجهله به، أو لعدم حكمته. وأمَّا الرب فهو العلم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خللٌ ولا تفاوت. رَّابع عشر: وهي الجامعة لما تقدم. وذلك معرفة الإلحاد في أسماء الله تعالى حتَّى لا يقع المسلم فيه؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف].

والإلحاد في أسمائه: هو العدول بها، وبحقائقها، ومعانيها، عن الحقِّ الثَّابت لها، وهو مأخوذٌ من الميل؛ كما يدل عليه مادته. والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع: أحدها: أنْ تسمى الأصنام بها؛ كتسميتهم اللات من الله، والعزَّى من العزيز. الثاني: نسبته تعالى إلى ما لا يليق بجلاله؛ كنسبة النصارى له ابنًا، ونسبة الفلاسفة له موجبًا بذاته، أو علَّة فاعلة بالطبع. الثالث: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدَّس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود: إنَّه فقير، وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]. الرَّابع: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها؛ كقول الجهمية وأتباعهم: إنَّها ألفاظ مجرَّدة، لا تتضمن صفات، ولا معاني، فيقولون: هو السميع، والبصير، ولا سمع، ولا بصر، وهذا من أعظم الإلحاد عقلًا وشرعًا. فكل من جحد شيئًا ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، فقد ألحد في ذلك. الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه؛ فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة؛ فإنَّ أولئك نفوا صفات كماله، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه، وبرَّأ الله أتباع رسوله عن ذلك، فلم يصفوه إلاَّ بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنزيههم خاليًا من التعطيل. وبعد: فهذه قواعد عليك بمعرفتها ومراعاتها، ثمَّ اشرح الأسماء الحسنى إنْ وجدت قلبًا عاقلاً، وإلا فالسكوت أولى بك، فجناب الربوبية أجل ممَّا يخطر بالبال، أو يعبر عنه المقال، والله أعلم. ***

1193 - وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صُنعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ في الثَّنَاءِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الألباني: قال في الفردوس للديلمي: رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان، عن أُسامة بن زيد، ورمز له السيوطي بالصحة. قال الترمذي في جامعه: حسنٌ صحيح غريب. وقد صحَّحه الترمذي وابن حبان، وقال المناوي: إسناده صحيح. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الدعاء، وفيه يوسف بن عبيدة، وهو ضعيف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فاعل المعروف ابتداءً له فضل ومنَّة على المسدى إليه ذلك المعروف، سواءٌ أكان معروفا ماديًّا، أو معنويًّا؛ لأنَّ الابتداء بالإحسان يدل على نفسٍ كريمةٍ لصاحبه، ومحبَّةٍ للخير والإحسان. 2 - فمِن حسن الأدب، وكمال المروءة، وطيب المقابلة: أنْ يكافئه المحسَنُ إليه على إحسانه ومعروفه، وأنْ لا يهمله ويتركه؛ فإنَّه من الجفاء، وبلادة الطبع. 3 - إذا لم يجد المحسَنُ إليه من الأشياء المادية ما يكافىء بها المحسِنَ، فليَدْعُ ¬

_ (¬1) الترمذي (2035)، ابن حبان (3404).

له، وليشكُرْهُ، ومن أفضل ألفاظ الدعاء والشكر قوله: "جزاك الله خيرًا" فإنَّ هذا أبلغ الثناء؛ ذلك أنَّ الجزاء إذا كان من الله تعالى كان عظيمًا؛ فإنَّ جزاء الله وعطاءه لا نهاية له، ولفظ "الخير" كلمة طيبة تشمل خيري الدنيا والآخرة. 4 - وإذا كان مكافأة المخلوق المحسن مستحبة وجميلة، وهو ليس له من المعروف والإحسان إلاَّ أنَّه سبب، وإنَّما المعطي هو الله تعالى، فكيف يكون وجوب شكر المنعم الأوَّل، وصاحبِ النعم العظمى والهبات الكبرى, الَّذي لا ينقطع مدده، ولا يتوقف إحسانه. فالواجب أنْ يكون دائم الشكر لله تعالى على إحسانه وامتنانه؛ قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7]، والمراد هنا كفر النعم وجحدها، بعدم أداء الشكر فيها، اعتقادًا، وقولًا، وعملًا، والله الموفق. ***

باب النذر

باب النذر مقدمة النذر لغةً: مصدر نذرتُ أَنذُر، بضم الذَّال وكسرها، فأنا ناذر، أي: أوجبتُ على نفسي شيئًا لم يكن واجبًا عليَّ. وشرعًا: هو إلزامُ مكلفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى شيئًا غير لازم بأصل الشرع، بكلِّ قولٍ يدل عليه، ولو كان من كافر لعبادة فيصح. والنذر مكروه، ولو عبادةً، والوفاء به بشروطه: واجب. والنذر المنعقد ستَّة أقسام: 1 - النذر المطلق: كقوله: لله عليَّ نذر، ولم يسم شيئًا, ولله عليَّ نذر إنْ فعلت كذا، وفعله، فيلزمه كفَّارة يمين. 2 - نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذر بشرط يقصد منه المنع، أو الحمل عليه؛ فيخير بين فعل ما نذره، وبين كفَّارة يمين. 3 - نذر فعل مباح: كقوله: لله عليَّ أن ألبس ثوبي ونحوه؛ فيُخيَّر أيضًا بين فعله وكفَّارة يمين. 4 - نذر المكروه: كنذر الطلاق ونحوه؛ فيسن أنْ يكفِّر ولا يفعله. 5 - نذر المعصية: كنذر القتل؛ فيحرم الوفاء به، ويكفر كفَّارة يمين. 6 - نذر التبرر: كالصلاة والصوم ونحوه بقصد التقرب إلى الله مطلقًا، أو أنْ يعلق نذره بحصول نعمةٍ، أو دفع نقمة؛ فيلزمه الوفاء به إذا وجد شرطه. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: النذر للقبور، أو لأهل القبور، أو للشيخ فلان: نذر معصية، لا يجوز الوفاء به.

1194 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّه نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّه لاَ يأْتِي بخيرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يأتي بخير: أي أنَّ عقباه لا تُحْمَد، وقد يتعذَّر الوفاء به. - يُستخرج به من البخيل: يعني أنَّ البخيل لا يُخرج الصدقة، ولا يقدم على الإحسان إلاَّ بأمرٍ يكون لازمًا عليه، والنَّذر يضطره إلى ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النَّهي عن النَّذر، والنَّهي يقتضي التحريم، والَّذي صرفه عن التحريم إلى الكراهة هو مدح الموفين به. قال في الاختيارات: توقف أبو العباس في تحريم النذر، وحرَّمه طائفةٌ من أهل الحديث. وقد أجمع العلماء على الوفاء به. 2 - العلَّة في النَّهي عنه هو: "أنَّه لا يأتي بخيرٍ، وإنَّما يستخرج به من البخيل"، الَّذي غايته القيام بالواجب بأصل الشرع، ويثقل عليه ما عداه من فضائل الأعمال. 3 - وممَّا يجعل النَّذر مكروهًا هو أنَّ النَّاذر يشارط الله تعالى، ويعاوضه على أنَّه إنْ حصل له مطلوبه، أو زال عنه ما يكرهُ، قام بالعبادة التي نذرها، وإلاَّ لم يقم بها، والله تعالى غنيٌّ عن العباد، وعن طاعاتهم. ¬

_ (¬1) البخاري (6608)، مسلم (1639).

4 - النَّذر لا يرد من قضاء الله شيئًا, ولكن رُبَّما لو صادف أنَّ النذر وافق حصول مطلوب، أو دفع مكروه، ظنَّ النَّاذر أنَّ هذا بسبب نذره الَّذي علق القيام به على حصول مطلوبه، أو دفع مكروهه. 5 - المسلم في سعة، فإذا نذر عبادة من العبادات، أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه، وقد يقصِّر في أدائها، فيلحقه الإثم. 6 - الله تعالى قدَّر الواجبات على العباد بقدر يسهل عليهم أداؤه، وجعل الزَّائد نوافل حتى لا يثقل على الناس العبادات. وهذا بابٌ واسعٌ، من تتبَّعه، عرف أنَّ العبد إذا أولج نفسه فيما لم يوجبه الله عليه، كان معرَّضًا لعدم الوفاء، وأنَّه لا يفي بما ألزم به نفسه إلاَّ القليل؛ وذلك لتقصير النَّفس، وتثبيط الشيطان له، وقد أشار الله تعالى إلى القليل الموفين بعهده؛ فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب]. 7 - باب النَّذر من غرائب مسائل العلم؛ لأنَّ عقده مكروه، والوفاء به واجب، والأصل أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، ولكن الحكمة ظاهرة في ذلك. 8 - النَّذر المكروه هو ما كان لطاعة الله، فأمَّا النذر للموتى، وللقبور، والطواغيت، والشياطين، وغيرهم، فهذا هو الشرك، نعوذ بالله تعالى من غضبه، وأسباب غضبه. 9 - قال شيخ الإِسلام: ما وجب بأصل الشرع إذا نذره العبد، أو عاهد، أو بايع عليه الإِمام، يكون وجوبه من وجهين، ويكون تركه موجبًا لترك الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، بحيث يستحق تاركه من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والمواثيق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله، وهذا هو التحقيق، ونصَّ عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء. ***

1195 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كفَّارَةُ يَمِينٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: "إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ" وَصَحَّحَهُ (¬1). وَلأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمَّ، فَكَفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا في مَعْصِيةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ"، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّ الحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ (¬2). وَلِلبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله، فَلا يَعْصِهِ" (¬3). وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: "لاَ وَفَاءَ لِنَدْرٍ في مَعْصِيةٍ" (¬4) ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الزيادات التي ليست في الصحيحين، بيَّن الحافظ ابن حجر درجتها. * مفردات الحديث: - نذر: نذر ينذر من باب ضرب، وقال في المصباح: الصواب أنَّه من باب قتل. ¬

_ (¬1) مسلم (1645)، الترمذي (1528). (¬2) أبو داود (3322). (¬3) البخاري (6700). (¬4) مسلم (1641).

النذر لغة: الإيجاب. وشرعًا: إلزام مكلف مختارٍ نفسَهُ لله تعالى شيئًا. - كَفَّارة: على وزن فعالة بالتشديد، من الكفر، وهو التغطية، سميت بذلك؛ لأنَّها تكفِّر الذنب، أي: تستره، واصطلاحًا: ما يكفر به؛ من عتقٍ، أو صومٍ، أو صدقةٍ. * ما يؤخذ من الحديث: في الحديث بيان أنواع النذور: أحدها: أنَّ ينذر نذرًا مطلقًا، كأنْ يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسم شيئًا، أو لله عليَّ نذر إنْ فعلت كذا، وفعله، فهذا يجب عليه في حنثه كفَّارة يمين. الثاني: أنْ ينذر فعل معصية من المعاصي، أو ترك واجب من الواجبات عليه، فهذا يجب عليه الحنث؛ لحديث: "من نذر أنْ يعصي الله، فلا يعصه"، وعليه كفَّارة يمين. قال في المقنع: ويحتمل أنْ لا ينعقد النذر المباح، ولا المعصية، ولا يجب به كفارة، وجزم به الموفَّق في العمدة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد" [رواه مسلم (1641)]. ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ نَذْرَ إلاَّ فِيمَا ابتغي به وجه الله" [رواه أبو داود (2190)]. قال الإِمام مالك: لم أسمع أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر ناذر المعصية، أو تارك الطاعة بكفارة. وذكر الوزير: أنَّه مذهب الأئمة الثلاثة، واختاره الشيخ تقي الدِّين. الثالث: أن ينذر نذرًا لا يطيقه ويشق عليه مشقَّة كبيرة؛ من عبادة بدنية مستمرة، أو نفقات من ماله باهظة، فعليه كفارة يمين؛ فقد أخرج البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- في رجلٍ جعل ماله للمساكين صدقة، فقالت: "كفارة يمين".

وقال الأثرم بسنده إلى عكرمة، عن ابن عباس: سُئِل عن رجل جعل ماله في المساكين؟ فقال: أمسِكْ عليك مالك، وكفِّر عن يمينك. وقال شيخ الإِسلام: لو نذر عبادةً مكروهةً؛ مثل قيام الليل كله، أو صيام الدهر كله، لم يجب الوفاء بهذا النَّذر، وعليه كفَّارة يمين. وقالت الهيئة الدَّائمة في دار الإفتاء؛ لأنَّ نذر الطَّاعة عبادةٌ من العبادات مدح الله الموفين به؛ فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، فإنْ نذر العبادات المكروهة فيكره؛ لأنَّه معصية، ولا وفاء بالنذر بها. الرَّابع: نذر التبرر؛ كالصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، بقصد التقرب إلى الله تعالى، فيلزم الوفاء، سواءٌ نذره نذرًا مطلقا، أو علَّقه على حصول نعمة، أو اندفاع نقمة؛ كقوله: إنْ شَفَى الله مريضي، أو سَلِمَ مَالِي الغائب، ونحوه، فعليه كذا، أو حلف بقصد التقرب، كقوله؛ إنْ سلم مالي لأتصدقنَّ بكذا، فيلزمه الوفاء به إذا وُجِدَ شرطه. ***

1196 - وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَفْتَيْتُهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَلأحْمَدَ وَالأرْبَعَةِ: "فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَصْنعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية أحمد، والأربعة: قال عنها الترمذي: إنَّه حديثٌ حسنٌ صحيح، لكن قال المنذري: في إسناده عبيد الله بن زحر، وقد تكلَّم فيه غير واحد. وقال عنه ابن حجر في التقريب: صدوقٌ يخطىء؛ لكن ذكر هذه الرواية ابن حجر في الفتح في زيادات الباب ممَّا يدل على حسنها، والله أعلم. * مفردات الحديث: - حافية: قال في المحيط: حَفِيَ الرَّجل يحفى حفًى: رقَّت قدمه من كثرة المشي، أو هو المشي بلا خف ولا فعل، فهو حافٍ، وهي حافية. - شقاء: يُقال: شقي يشقى شقاءً، والشقاء: الشدَّة والعسرة. - تختمر: يُقال: اختمرت المرأة، أي: لبست الخمار، والخمار ما تغطي به المرأة رأسها ووجهها، وجمع الخمار: خُمُر. ¬

_ (¬1) البخاري (1866)، مسلم (1644)، أحمد (4/ 143)، أبو داود (3293)، الترمذي (1544)، النسائي (7/ 20)، ابن ماجة (2134).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ من نذر الحج أو العمرة ماشيًا أنَّه لا يلزمه الوفاء بنذره، وإنَّما له أنْ يمشي طاقته، ويركب ما شاء، وأنَّ عليه كفَّارة يمين. 2 - أنَّ النَّذر فيما يشق على العبد من الأعمال والطاعات مكروه، وإذا وقع من العبد فلا يلزم به، ومذهب الإِمام أحمد: أنَّ على النَّاذر كفَّارة يمين؛ لعدم الوفاء بنذره، ومذهب الأئمة الثلاثة: أنه لا يجب عليه كفَّارة. 3 - جاء في رواية أحمد (2824) وأبي داود (3295) من هذا الحديث: "ولتكفِّر عن يمينها"، ورواية الباب: "ولتصم ثلاثة أيَّام"، ولأحمد أيضًا: "ولتهد بدنة"، لكن قال البخاري: لا يصح الهدي، ولم يجىء في الأحاديث الصحيحة كفَّارة لما ليس بطاعة. 4 - أما كفَّارة اليمين، فقال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]: قال في شرح الإقناع وغيره مستدلين بهذه الآية: يخير من لزمته الكفارة بين ثلاثة أشياء: - إطعام عشرة مساكين. - كسوة عشرة مساكين. - تحرير رقبة مؤمنة. فإنْ لم يجد بأنْ عجز عن العتق، والإطعام، والكسوة، فصيام ثلاثة أيَّام، ولا ينتقل المكفِّر إلى الصوم إلاَّ إذا عجز؛ للآية. 5 - قال في شرح الإقناع: ويجوز أنْ يطعم بعضًا من العشرة، ويكسو بعضًا منهم. وتجب كفَّارة يمين ونذر على الفور إذا حنث، لأنَّهُ الأصل في الأمر المطلق.

1107 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُباَدَةَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في نَذْرٍ كانَ عَلى أُمِّهِ، تُوفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقْضِيَهُ؟ فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - أنَّ الوفاء بالنَّذر عبادة يجب أداؤها، وقد أثنى الله تعالى على الموفين بالنَّذر في عدَّة آياتٍ كريمات. 2 - أنَّ من مات وعليه نذر طاعة، شُرِعَ لوارثه أنْ يقضيه عنه. 3 - النَّذر الَّذي على أمِّ سعد بن عبادة قيل: كان صومًا، وقيل: عتقًا، وقيل: صدقة، وقيل: نذرًا مطلقًا. وكلٌّ من هذه الأقوال استدل أصحابها عليها بحديث، ولكن قال القاضي عياض: الَّذي يظهر أنَّه كان نذرها في مال ابنها. وقال ابن حجر: بل الظَّاهر أنه كان معينًا من سعد. 4 - في الحديث مشروعية بر الوالدين، وأنَّ من أعظم البر وفاء ما عليهما من الديون، والحقوق، والواجبات، سواءٌ أكانت لله تعالى، أو للآدميين. 5 - الحديث من الأدلة على أنَّ الميت يلحقه ما يفعل له من الأعمال الصَّالحة من عتقٍ، أو صدقةٍ، أو صيام، أو غير ذلك؛ وَهَذا بين في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم]. فقد قال ابن القيم: إنَّ القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنَّما نفى ملكه لغير سعيه، وأمَّا سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإنْ شاء أنْ يبذله لغيره، وإنْ شاء أنْ يبقيه لنفسه، وهو تعالى لم ¬

_ (¬1) البخاري (2761)، مسلم (1638).

يقل: لا ينتفع إلاَّ بما سعى، وكان شيخنا -ابن تيمية- يختار هذه الطريقة، ويرجحها. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في قضاء الصوم عن الميت على ثلاثة أقوال: أحدها: لا يقضى عنه بحال؛ وهو مذهب الأئمة الثلاثة. الثاني: يُقضى عنه النَّذر والواجب بأصل الشرع؛ وهو مذهب أحمد. الثالث: أنَّه يقضى عنه النَّذر دون الواجب بأصل الشرع، وهو مذهب أهل الحديث، ونصره ابن حزم والبيهقي، واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ لحديث: "من مات وعليه صيامٌ، صامَ عنه وليه" متفق عليه. وهل يجب قضاء نذر الصوم عن الميت، في ذلك ثلاثة أقوال: - جمهور العلماء: يرون أنَّ قضاءه عن الميت من وارثه مستحب. - والظاهرية: أوجبوا القضاء؛ عملًا بحديث سعد بن عبادة. - الحنابلة: قالوا: إنْ كان الميت خلَّف تركة وجب القضاء، وإلاَّ فهو مستحب، وقالوا: إنْ صامَ غير الوارث، أجزأه. قال فقهاؤنا: وإنْ مات وعليه صوم نذرٍ، أو حج نذر، أو اعتكاف نذر، أو صلاة نذر، استُحب لوليه قضاؤه؛ لأنَّ النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها، والنَّذر أخفُّ حكمًا من الواجب بأصل الشرع. وإنْ خلَّف تركةً، وجب فعل النَّذر، فيفعله الولي، أو يدفع إلى من يفعله عنه. وهذا كله فيمن أمكنه فعل ما تقدَّم بأنْ مضى وقتٌ يتسع لفعله قبل موته فلم يفعله، فليفعله عنه؛ لثبوته في ذمته لقضاء الدَّين من تركته. فإنْ لم يخلف النَّاذر تركةً، لم يلزم الولي شيءٌ اتفاقًا، لكن يسن فعله عنه؛ لتفرغ ذمته. والولي هو الوارث، قال النووي: الولي: القريب عصبةً أو نسبًا، وارثًا أو غير وارث.

1198 - وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةً، فَأتى رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَ: لاَ، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصيَةِ اللهِ، وَلاَ في قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالَّلفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحيحُ الإِسْنَادِ (¬1). وَلَهُ شاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَرْدَم عِنْدَ أَحْمَدَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في التلخيص: رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك بسندٍ صحيح، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، وسمَّى الموضع "بُوَانَة" ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: أصل هذا الحديث في الصحيحين، وهذا الإسناد على شرطهما، ورجال إسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصلٌ بلا عنعنة. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد: رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما. ¬

_ (¬1) أبو داود (3313)، الطبراني (2/ 75). (¬2) أحمد (3/ 419).

قال ابن عبد الهادي: رجال سنده رجال الصحيحين. * مفردات الحديث: - بُوَانة: بضم الباء، وتخفيف الواو، ثُمَّ نون، وهاء، هَضبةٌ وراء ينبع، قريبةٌ من ساحل البحر الأحمر. - وَثَن: بفتح الواو، والثَّاء المثلثة، هو التمثال يُعبَد، سواءٌ كان من نحاسٍ، أو ذهبٍ، أو فِضَّةٍ، أو حجرٍ، أو خشبٍ، أو غير ذلك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أصل النَّذر، وانعقاده، ولزومه إذا قصد بعقده، والوفاء به وجه الله تعالى. 2 - أنَّ من المحاذير التي يجب اجتنابها مشابهةَ الكفَّار في عباداتهم وأعيادهم، ووجوب البعد عن الأمكنة التي يقيمون فيها لهم عيدًا؛ فإن هذا يُفضي إلى تشابه عبادة المسلمين وأعيادهم بعبادة الكفَّار وأعيادهم، فإذا كان في عقد النَّذر أو الوفاء به شائبة من ذلك، فإنه لا يجوز عقده، وإذا عقد فيحرم الوفاء به. 3 - في الحديث أنَّ تخصيص النَّذر ببقعةٍ جائزٌ، إذا خلا من الموانع الشرعية، التي منها أنْ يكون في البقعة صنمٌ، أو قبرٌ، أو يُقام فيها أعيادٌ للكفَّار، ونحوه من وسائل الشرك بالله تعالى وأسبابه، فإنْ كان فيها شيءٌ من ذلك، فلا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنَّه نذر معصية. 4 - وفي الحديث التحذير من مشابهة الكفَّار في أعيادهم، وأمكنة عبادتهم. قال شيخ الإِسلام: العيد اسمٌ لما يصدر من الاجتماع العام على وجهٍ معتاد، إمَّا بالسَّنَة، أو الأسبوع، أو الشَّهر، أو نحو ذلك، وقد يختص العيد بمكان يعينه، فكلٌّ مِن هذه الأمور قد يُسمَّى عيدًا، وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب.

5 - قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إنَّ المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطَّاعة، وإنَّ تخصيص بقعة بالنَّذر لا بأس به، إذا خلا من الموانع. وإنَّ من المانع أنْ يكون فيه عيدٌ من أعيادهم، ولو بعد زواله، أو يكون فيه وثنٌ من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، فإنْ كان فيه شيءٌ من ذلك، فإنه لا يجوز الوفاء بما نذَرَ في تلك البقعة؛ لأنَّه نذر معصية. 6 - وقال الشيخ محمد -أيضًا-: وفي الحديث الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وفيه المنع من اتخاذ آثار المشركين محلاًّ للعبادة؛ لكونها صارت محلاًّ لما حرَّم الله من الشركِ والمعاصي، والحديث -وإنْ كان في النَّذر- فيشمل كلَّ ما كانَ عبادة، فلا تُفعَل في هذه الأماكن الخبيثةِ. 7 - قوله: "أَوف بنذرك" قال شيخ الإِسلام: فهذا يدل على أنَّ الذَّبحَ بمكانِ عيدهم، ومحل أوثانهم معصيةٌ لله من وجوه: أحدها: أنَّ قوله: "أوفِ بنذرك" تعليقٌ للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أنَّ الوصف هو سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاءِ، ولو لم يكن معصية، لجاز الوفاء به. الثاني: أنَّه عقب ذلك بقوله: "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"، ولولا اندراج الصورة المسؤول عنها في هذا الَّلفظ العام، وإلاَّ لم يكن في الكلام ارتباط المنذور، وإنْ لم يكن معصية، لكن لما مسألة عن الصورتين قال له: "أوف بنذرك" يعني: حيث ليس هناكَ ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه -صلى الله عليه وسلم- فيه أمرٌ بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهي عنه عند وجود هذا. الثالث: أنَّه لو كان الذَّبح في موضع العيد جائزًا، لسوَّغ -صلى الله عليه وسلم- للنَّاذر الوفاء به، كما سوَّغ لمن نذرت الضرب بالدف أنْ تضرب به، بل لأوجب الوفاء به

إذ كان الوفاء بالمكان المنذور واجبًا. 8 - وقال الشيخ تقي الدِّين -أيضًا-: وإذا كان الشَّارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أنْ يدنَّس المسلم بشيءٍ ما، فالخشية من تَدَنُّسِهِ بأوصاف الكتابيين أشد، والنَّهي عنه أكثر. وقال: ومعلومٌ أنَّه لولا نهيه -صلى الله عليه وسلم- ومنعه، لَمَا ترك النَّاس تلك الأعياد؛ لأنَّ المقتضي لها قائمٌ من جهة الطبيعة التي تحب ما يُصنَع في الأعياد، خصوصًا أعياد الباطل من اللعب والَّلذات، فلولا المانع القوي، لما درست تلك الأعياد. 9 - لذا فالواجب على المسلمين الَّذي بُلُوا بمجاورة الكفَّارِ من كتابيين وغيرهم، أنْ يحذروا من مشاركتهم في أعيادهم -المعروفة- وأنْ لا يبادلوهم التَّهاني، أو أنْ يهدوا إليهم، أو يبيعوا لهم شيئًا ممَّا يجعلونه في تلك الأعياد من المأكولات والزهور، أو نقلهم إلى أماكنهم بالسيارات أو غيرها، فإنَّ هذه المشاركة هي إعانةٌ ورضا بأعيادهم الشركية، والإِسلام ينهى أشد النَّهي عن ذلك، فمن فعل ذلك فقد أضاع دينه، وباعه بثمنٍ بخسٍ من متاع الحياة الدنيا، وويلٌ لهم ممَّا يكسبون. 10 - قال الشيخ حامد الفقي: الأعياد التي يسميها أهل العصر "الموالد"، أو يسمونها الذكريات لمعظِّميهم من مُدِّعي الأولياء وغيرهم، ولحوادث يزعمون أنَّها كان لها شأنٌ في حياتهم من ولادة ولد، أو تولي ملك، أو رئيس، أو نحو ذلك، فكل ذلك إنَّما هو إحياءٌ لسننِ الجاهلية، وإماتة لشرائع الإِسلام، وإنْ كَانَ أكثر النَّاس لا يشعرون بذلك؛ لشدَّة استحكام ظُلْمَة الجاهلية على قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذرًا، بل هو الجريمة كل الجريمة التي تولد عنها كل الجرائم، من الكفر، والفسوق، والعصيان. 11 - ويدل الحديث على أنَّ من نذر أنْ يعصيَ اللهَ تعالى بفعل محرَّمٍ، أو ترك واجبٍ؛ كقطيعة رحمٍ، أو نذر على حق غيره، فهذا نذرٌ لاغٍ لا ينعقد، ولا

كفَّارة فيه عند طائفةٍ من العلماء. قال في المقنع: ويحتمل أنْ لا ينعقد النَّذر المباح، ولا المعصية، ولا يجب به كفَّارة، وجزم به الموفق في العمدة، وهو مذهب مالك والشَّافعي. ***

1199 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بيْتِ المَقْدِس، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فَشَأْنَكَ إِذًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المصنِّف: رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن دقيق العيد. * مفردات الحديث: - شأنك: منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به، أي: الزم شأنَك. - إذًا: جواب وجزاء، أي: إذا أَبَيْتَ أنْ تُصلِّيَ هُنَا، فافعل ما نذرت به من صلاتِكَ في بيت المقدس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - انعقاد النذر المعلق على حصول مطلوبٍ؛ كـ: إنْ شفى الله مريضه، أو حصل ماله الغائب، أو نحو ذلك، فلله عليه كذا من العبادة البدنية؛ كالصَّلاة والصيام، أو مالية، كالصدقة والعتق، انعقد نذره، ووجب عليه الوفاء بما نذره، إذا حصل شرطه المعلق عليه. وقد ينذر الطَّاعة بدون تعليق؛ كَـ"لله عليَّ صلاة كذا، وصوم كذا"، ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 363)، أبو داود (3305)، الحاكم (4/ 304).

فيجب عليه الوفاء. ويسمَّى هذا النَّذر: "نذر التبرر، أو نذر التقرب". 2 - قال في شرح الإقناع: ويجوز فعل النَّذر قبل وجود شرطه؛ كإخراج الكفَّارة بعد اليمين، وقبل الحنث. 3 - قال شيخ الإسلام: تعليق النَّذر بالملك؛ نحو: "إنْ رزقني الله مالاً، فللهِ عليَّ أنْ أتصدق به، أو بشيءٍ منه" يصح إجماعاً؛ ويدل عليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]. 4 - يدل الحديث على أنَّ من نذر الصَّلاة، أو أي عبادة في بيت المقدس، أنَّه يجزىء أنْ يصليها في المسجد الحرام؛ لأنَّ المسجد الحرام أفضل من الأقصى؛ لكن لو عيَّن الأفضل -كالمسجد الحرام- لم يجز فيما دونه. وهو مذهب الأئمة الثلاثة، أمَّا أبو حنيفة: فيرى أنَّ الصلاة لا تتعيَّن في مسجد بحال. 5 - يدل الحديث على أنَّ كثرة السؤال، والإلحاح فيه، والتنطع في الأمور: مكروه، وأنَّه يفضي صاحبه إلى إضجار المسؤول، وارتكاب الخطأ. 6 - ويدل الحديث على وجوب الوفاء بالنَّذر ما دام أنَّه نذر تبرر وتقرب إلى الله تعالى. 7 - كما يدل الحديث على فضل المسجد الحرام، وأنَّة أفضل البقاع وسيدها، فمن نذر عبادة في غيره، أغنى أداؤها فيه؛ لأنَّها فيه أفضل، وأكمل، وأتم. ***

1200 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَام، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تُشَدُّ: "لا" نافية، والفعل بعدها مبني للمجهول. تشد: يُقال: شدَّ الشيء يشدُّه شدًّا: عقده وأوثقه، ومنه شدَّ الرِّحال، وهو كنايةٌ عن السفر. - الرِّحال: جمع رحل، والرحل هُنَا: اسمٌ لما يوضع على البعير من قتبه وكوره -بضم الكاف- ويربط ذلك من حبال. - الأقصى: الأبعد، من قصى المكان: إذا بَعُدَ، وسمِّي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام، وقيل: لأَنَّه لم يكن وراءه حينئذٍ مسجد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه المساجد الثلاثة المفضلة، وهي: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، لها ميزات خاصَّة، وفضائل لا يلحقها بها غيرها من بقاع الأرض، فهذه المساجد المطهرة بناها الأنبياء، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم الخليل، والمسجد النبوي بناه رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمسجد الأقصى بناه يعقوب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. 2 - قال شيخ الإسلام: المساجد التي تشد الرِّحال إليها هي المساجد الثَّلاثة، فالسفر إليها للصلاة فيها، والدعاء، والذِّكر، والقراءة، والاعتكاف، من ¬

_ (¬1) البخاري (1197)، مسلم (827).

الأعمال الصَّالحة. 3 - وقال أيضاً: وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتَّى مسجد قباء، يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرِّحال إليه؛ ففي البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر قال: "كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً، وراكباً، وكان ابن عمر يفعله"؛ وفي لفظٍ لمسلم: "فيصلي فيه ركعتين". 4 - وقال الشيخ أيضاً: اتَّفق العلماء على استحباب إتيان المساجد الثلاثة للصَّلاة ونحوها، ولكن لو نذر ذلك هل يجب الوفاء؟: فمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما: أنَّه يجب إتيانها بالنَّذر، ولكن إنْ أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول؛ وذلك لحديث: "من نذر أنْ يطيع الله فليطعه" وهو يعم كل طاعةٍ. 5 - قال الشيخ: اتَّفق الأئمة على صحَّة هذا الحديث "حديث الباب" والعمل به، فلو نذر الرَّجل أنْ يصلي بمسجدٍ أو مشهد، أو يعتكف فيه، ويسافر إليه، غير الثلاثة، لم يجب عليه باتفاق الأئمة، وأمَّا السفر إلى بقعةٍ غير المساجد الثَّلاثة: فلم يوجبه أحدٌ من العلماء. 6 - الحديث صريحٌ في تحريم السفر للعبادة إلى غير المساجد الثلاثة، ويعظم الإثم إذا قصد المسافر بسفره قبراً؛ ليعظِّمه، ويغلو بصاحبه، فهذا إنْ كان يعتقد أنَّ دعاء الله عنده أفضل فهو مبتدع، وإنْ كان يدعو صاحب القبر فعمله كفر. 7 - وتحريم السفر إلى قبور الصالحين ونحوها من المواضع -غير هذه المساجد الثَّلاثة- هو قول محقِّقي العلماء، منهم أبو محمد الجويني، والقاضي عياض، والشيخ تقي الدِّين، وابن القيم، وابن رجب، والشيخ محمد بن

عبد الوهاب، وأبناؤه، وأحفاده، وتلاميذهم، وسائر علماء الدعوة السلفية، وهو قول علماء الحديث. 8 - تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة هو منع للشرك، ووسائله المفضية إليه؛ فإنَّ الشرك لم يحدث إلاَّ من تعظيم البقاع والأمكنة التي لم يعظِّمها الله تعالى، ولم يشرع الرحلة إليها، لاسيما الأمكنة التي فيها قبور أنبياء، أو أولياء، أو علماء، ونحوهم؛ فشدُّ الرِّحال إليها وتعظيمهم هو الَّذي جرى عليه كثير من النَّاس، فأضلَّهم عن دينهم الحق إلى البدع والشرك. 9 - فالإسلام بنصوصه الكريمة، حسم مادَّة تعظيمها والغلو فيها؛ لئلا يكون وسيلة إلى الكفر والضلال. 10 - قال شيخ الإسلام في الرَّد على الأخنائي: والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثَّلاثة، وإنْ كان قبر نبينا -صلى الله عليه وسلم-، هو قول مالك، وجمهور أصحابه، وكذلك أكثر أصحاب أحمد، وأهل الحديث؛ ثمَّ قال رحمه الله: وأهل الجهل يجعلون السَّفر إلى زيارة قبر مَن يعظِّمونه، ويسافرون إليه؛ ليدعوه، ويدعو الله عنده، ويقعدون عند قبره، ويكون عليه، أو عنده مسجد بُني لأَجل القبر، فيصلون في ذلك المسجد؛ تعظيماً لصاحب القبر، وهذا ممَّا لعن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب على فعله، ونهى أمَّته عن فعله؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته: "لعن الله اليهود والنَّصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ممَّا صنعوا" [رواه البخاري (1390)، ومسلم (531)]. 11 - الزيارة الشرعية إلى المدينة المنورة هي أنْ يقصد المسافر العبادة في المسجد النبوي الشريف، الَّذي جعل الله له ميزة وشرفاً، وضاعف فيه ثواب الأعمال الصَّالحة، فإذا وصل إليه زار القبر الشريف، وقبري الصحابيين الكريمين؛ لحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"

[رواه مسلم (1977)]؛ فهذه رحلةٌ شرعية، وقصد حسنٌ مشروع، وكذلك إذا وصل إلى المدينة المنورة، فإنَّه يشرع له زيارة البقيع، وشهداء أحد، كل ذلك للترحم عليهم والاعتبار، وكذلك يذهب إلى مسجد قباء للصَّلاة فيه، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك كله، أمَّا بقية المزارات المعروفة الآن، مثل مسجد القبلتين، والمساجد السَّبعة، ومسجد الغمامة، فلا يشرع الذهاب إليها؛ لأنَّه لم يرد أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يذهب إليها، والعبادات مبناها على التوقيف؛ كما أنَّها غير مؤكَّدة وثابتة. ***

1201 - وَعَنْ عُمَرَ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ اعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ البُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: "فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم أنَّ الاعتكاف شرعاً: هو لزوم مسلمٍ عاقلٍ مسجداً لعبادة الله تعالى، وأنَّه ثابتٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع. وأنَّ الغرض منه: حبس النَّفس والبدن على عبادة الله تعالى، وقطع العلائق عن الخلائق؛ للاتصال بخدمة الخالق، وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله تعالى. 2 - الحديث من أدلَّة مشروعيته، قال الإمام أحمد: لا أعلم عن أحدٍ من أهل العلم خلافاً أنَّه مسنون. 3 - ويدل الحديث على صحَّة الاعتكاف، وجوازه بلا صوم؛ لأَنَّ نذر عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اعتكاف ليلة، ولو كان الصوم شرطاً، لما صحَّ اعتكاف الليل؛ لأنَّه لا صيام فيه، فلم يشترط الصيام كالصَّلاة؛ ولأَنَّ إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلاَّ بالشرع، ولم يصح فيه نصٌّ، ولا إجماع. وهذا مذهب الإمامين؛ الشَّافعي، وأحمد، واشترط أبو حنيفة، ومالك الصيام، والقول الأوَّل أصح، وأسعد بالدليل. قال المجد، وحفيده تقي الدِّين، والشَّارح، وغيرهم: ليس في اشتراط ¬

_ (¬1) البخاري (2032، 2042)، مسلم (1656).

الصوم في الاعتكاف نصٌّ من كتابٍ، ولا سنَّةٍ، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ صحيح، أمَّا ما رُوي عن عَائِشَةَ: "لا اعتكاف إلاَّ بصومٍ" فموقوف، ومن رفعه فقد وهم، وكذا ما جاء في أبي داود (2474) في رواية: "اعتكف وصم" فهو ضعيف. وعلى فرض رفع الأوَّل، وصحَّه الثاني، فالمراد به الاستحباب، فإنَّ الصوم فيه أفضل. 4 - قال الفقهاء: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتكف صائماً، أو يصوم معتكفاً، لزمه الجمع بين الاعتكاف والصيام؛ لما روى البخاري (6700) من حديث عائشة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، والأمر يقتضي الوجوب. 5 - ويدل الحديث على أنَّ الكافر إذا نذر فى حال كفره، وكان نذره على وفاق حكم الإسلام، ثم أسلمَ، أنَّه يجب عليه الوفاء بنذره، وإن عقده وهو كافر؛ وإلى هذا ذهب الإمام أحمد، والبخاري، وابن جرير، وجماعةٌ من الشافعية، والحديث صريح الدلالة على ذلك، ولأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، كما هم مخاطبون بأصولها. وذهب أكثر العلماء: إلى أنَّه لا ينعقد؛ لأنَّ الكافر لا تصح منه العبادة حتَّى يُسلم؛ قال الطحاوي: لا يصح من الكافر التقرب بالعبادة. والقول الأول أصح. 6 - وفيه دليلٌ على أنَّ من حلف في حال كفره فأسلم، ثم حنث، أنه يلزمه كفَّارة. ومثل ذلك ظهاره، فإنه صحيحٌ موجبٌ للكفَّارة، وهذا هو مذهب الإمامين؛ الشافعي، وأحمد، رحمهما الله تعالى. ... انتهى كتاب الأيمان

كتاب القضاء

كتاب القضاء مقدمة القضاء لغةً: مصدر قضى يقضي قضاءً، فهوِ قاضٍ، ويُطلق على عدَّة معانٍ هي: حَكَم، وفَصَل، وأحكم، وأمَضى، وفَرَغ من الشيء، وَخَلَق، والمعنى الظَّاهر في هذا الباب من هذه المعاني: هو حَكَمَ وفَصَلَ. وجمع القضاء: أقضية، وجُمِعَ -مع أنَّه مصدر، والمصادر لا تُجمع- باعتبار أنواعه. وشرعاً: إنشاء للحكم والفصل. والقضاء فرض كفاية، فلابُدَّ للنَّاس من حاكمٍ؛ لئلا تذهب الحقوق. وفيه فضلٌ عظيمٌ لمن قَوِيَ على القيام به، وأدَّى الحقَّ فيه، فهو من أفضل القربات، والأَعمالُ بالنِّيات، وفيه خطرٌ عظيمٌ، ووزرٌ كبيرٌ لمن لم يؤدِّ الحقَّ فيه. ويجب على إمام المسلمين: أنْ يختار لهذا المنصب أفضل من يجد علماً وورعاً، فإنْ لم يجد، قَدَّمَ الأمثل، فالأمثل. وللقاضي آدابٌ وأحوال، ذكرها العلماء في "كتاب القضاء" يحسن الرجوع إليها.

1202 - عَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "القُضَاةُ ثَلاَثةٌ: اثْنَانِ فِي النَّار، وَوَاحِدٌ في الجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ في الحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، ورَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ" رَوَاهُ الأربَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث صحيح. قال في المحرر: إسناده جيد، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في التلخيص: له طرق جمعتها في جزء. ومن هذه الطرق: الأولى: أخرجها أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، عن أبي هاشم، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال أبو داود: وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة، قلت -الألباني-: وهذا إسناد رجاله ثقات، رجال مسلم، غير أنَّ فيه خلف بن خليفة، اختلط في الآخر، ولكن لم يتفرَّد به. الثانية: أخرجها الحاكم عن حكيم بن جبير، عن ابن بريدة، عن أبيه، وقال: صحيح الإسناد، وردَّه الذهبي بقوله: قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث، وهو من رجال السند. الثالثة: أخرجها الحاكم، والبيهقي عن سهل بن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ¬

_ (¬1) أبو داود (3573)، الترمذي (1322)، النسائي في الكبرى (3/ 461)، ابن ماجة (2315)، الحاكم (4/ 90).

والحديث بمجموع هذه الطرق صحيح. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث قسَّم القضاة إلى ثلاثة أصناف: أحدها: قاضٍ عرف الحقَّ، والحكم الشرعي، فقضى به؛ فهذا القوي الأمين على ما ولاَّه الله إيَّاه؛ فهذا من أهل الجنَّة، إنْ شاء الله. الثاني: قاضٍ عرف الحقَّ، واستبان له الحكم الشرعي، ولكن هواه -والعياذ بالله- أغراه، فقضى بغير الحق؛ فهذا من أهل النَّار، والعياذ بالله. الثالث: قاضٍ لم يعرف الحقَّ، ولم يفهم الحكم الشرعي؛ ولكنَّه تجرَّأَ فحكمَ بالجهل؛ فهذا من أهل النَّار، سواءٌ أصابَ في حكمه، أو لا. قال شيخ الإسلام: القضاة ثلاثة: مَن يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول، فلا يُرَدّ من أحكام الصَّالح إلاَّ ما علم أنَّه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلاَّ ما علم أنَّه حقٌّ، واختاره الموفق، وغيره. 2 - ففي الحديث التحذير الشديد من القضاء بالهوى، أو القضاء بالجهل؛ فحقوق الخلق أمرها عظيمٌ، وعذاب الله شديد. 3 - قال شيخ الإسلام: الواجب اتخاذ ولاية القضاء ديناً وقربة؛ فإنَّها من أفضل القربات، وإنَّما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها. وقال في شرح الإقناع: وفي القضاء خطرٌ عظيمٌ، ودورٌ كبيرٌ لمن يريد الحق فيه؛ ولهذا جاء الحديث: "من جُعِل قاضياً، فقد ذُبِحَ بغير سكين". 4 - ويحرم الدخول في القضاء على من لا يحسنه؛ قال شيخ الإسلام: من باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية، وأصرَّ على ذلك، عاملاً بالجهل والظلم، فهو فاسق، ولا تنفذ أحكامه. 5 - وقال الشيخ تقي الدِّين -أيضًا-: الفرق بين القاضي والمفتي: أنَّ القاضي يبين الحكم الشرعي، ويلزم به، والمفتي يبينه فقط.

فالمفتي أوسع دائرةً من القاضي؛ لأَنَّه يُفتي في الأمور المتنازع عليها وغيرها، والقاضي لا يتعلَّق قضاؤه إلاَّ بالمسائل المتنازع فيها بين النَّاس. 6 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يجوز الترويج في الفتيا، وتخيير المسائل، وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أنْ يبين بياناً مزيلاً للإشكال. * فوائد: الأولى: القضاء إلزامٌ بالحكم الشرعي، وفصل للخصومات، فالحاكم له ثلاث صفات: فهو من جهة الإثبات شاهد، وهو من جهة تبيين الحكم مفتٍ، وهو من جهة الإلزام بذلك ذو سلطان. الثانية: الأصل في القضاء قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإنْ أخطأ فله أجر" [رواه البخاري (6919) ومسلم (1716)]. قال شيخ الإسلام: الشَّارع نصوصه كلمات جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامَّة، يمتنع أنْ ينص على كل فردٍ من جزئيات العالم إلى يوم القيامة، فلابد من الاجتهاد في جزئيات، هل تدخل في كلماته الجامعة أو لا؟ الثالثة: القضاء فرض كفاية؛ كالإمامة العظمى، قال الإمام أحمد: لابُدَّ للنَّاس من حاكمٍ؛ لئلا تذهب حقوق النَّاس. وقال شيخ الإسلام: قد أوجب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، وهو تنبيهٌ على أنواع الاجتماع. الرَّابعة: نصبُ الإمام للقاضي واجبٌ؛ لفصل خصومات النَّاس، ولأنَّ القضاء من مستلزمات الإمام الأعظم، فهو القائم بأمر الرعية، فينصب القضاة بقدر الحاجة، نواباً عنه في الأمصار والأقاليم. الخامسة: قال مجلس المجمَّع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في أحد قراراته: على قادة المسلمين أنْ يبادروا إلى تطبيق شريعة الله، لينعموا، وتنعم

رعيتهم بالأمن والطمأنينة في ظلِّ الشريعة الإسلامية، كما حصل ذلك لسلف هذه الأُمَّة، الَّذين وفَّقهم الله لتطبيق شرعه، فجمع لهم بين النَّصر على الأَعداء، والذكر الحسن في هذه الحياة الدنيا. ولا شكَّ أنَّ الحالة التي وصل إليها العرب والمسلمون من ذلك أمام الأعداء: نتيجة حتمية لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية. والله المسؤول أنْ يوفق المسلمين جميعاً إلى ما فيه عزهم وفلاحهم على أعدائهم؛ إنَّه سميعٌ مجيب. السَّادسة: قال الشيخ محمد بن إبراهيم: بلغنا أنَّ بعض القضاة يرد بعض القضايا إلى مكتب العمل، أو إلى غيره من الدوائر؛ بحجة أنَّ ذلك من اختصاص جهة معينة، وغير خافٍ على أنَّ الشريعة الإسلامية كفيلةٌ بإصلاح الأحوال البشرية في كلِّ المجالات، وفيها كفاية لحلِّ النزاع، وفصل الخصومات، وإيضاح كل مشكل، وفي الإحالة إلى تلك الجهات إقرار للقوانين الوضعية، وإظهار للمحاكم بمظهر العجز؛ فاعتمدوا النظر في كلِّ ما يرد إليكم، والحكم فيه بما يقتضيه الشرع الشريف. السَّابعة: قال الشيخ تقي الدِّين: ولا تثبت ولاية القضاء إلاَّ بتولية الإمام، أو نائبه؛ لأَنَّ ولاية القضاء من المصالح العامة؛ فلم تجز إلاَّ من جهة الإمام. والولاية لها كفاية القوَّة والأمانة، فالقوَّة في الحكم ترجع إلى العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى. الثَّامنة: قال الشيخ تقي الدِّين -أيضاً-: شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل، فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولَّى لعدم التقي أنفع الفاسقين، وأقفُهم شرًّا، وأعدل المقلِّدين، وأعرفهم با لتقليد. التاسعة: قال ابن القيم: معرفة النَّاس وأحوالهم أصلٌ عظيمٌ، يحتاج إليه الحاكم، فإنْ لم يكن فقيهاً فيه، وفقيهاً في الأمر والنَّهي، ثم يطبِّق أحدهما على

الآخر، كان إفساده أكثر من إصلاحه. وإذا لم يكن فقيه النَّفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي قرائن الحال، والمقال، كفقيه في كليات الأحكام، أضاع حقوقاً كثيرةً على أصحابها، وحَكَمَ بما يعلم النَّاس بطلانه، اعتماداً منه على نوع ظاهرٍ لم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله؛ فالرجوع إلى القرائن في الأحكام متَّفَقٌ عليه بين الفقهاء. العاشرة: قال في التنوير: ينبغي أنْ يكون القاضي موثوقاً به في عفافه، وعقله، وصلاحه، وفهمه، وعلمه بالسنَّة والآثار، ووجوه الفقه والاجتهاد، وألاَّ يكون فظًّا غليظاً. وقال في ردِّ المحتار للحنيفة، وشرح الإقناع للحنابلة: ينبغي أنْ يكون القاضي شديدًا في غير عنفٍ، ليناً في غير ضعف، فكل من هو أعرف، وأقدر، وأوجه، وأهيب، وأصبر على ما يصيبه من النَّاس، كان أولى. الحادية عشرة: نختم هذه الفوائد بختام مسك، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لأَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أوصيك بتقوى الله في سرِّكَ وعلانيتك، وإذا سألت فأحسن، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً، وإنْ سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين" [رواه أحمد (21063)]. ***

1203 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه أصحاب السنن، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه الدَّارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، ورواه الحاكم، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وله عدَّة طرق، وذكر الدَّارقطني الخلاف فيه على سعيد المقبري قال: والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأعلَّه ابن الجوزي فقال: هذا حديث لا يصح؛ ولكن النسائي قوَّاه بتخريجه، كما قال ابن حجر. قال العراقي: إسناده صحيح. وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث بيان عِظَم خطر القضاء؛ لأَنَّ موضوعه الحكم بين النَّاس في دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، وسائر حقوقهم، فخطره عظيم جدًّا؛ لأَنَّه يخشى أن يكون هناك ميول من القاضي من خصم لآخر؛ لكون أحدهما ذا قرابة، أو صداقة له، أو أنَّه صاحب جاه ومنصب، يراعي جاهه، أو يخاف سلطته، أو يقدم له خدمة، أو منفعة، والمعصوم من عصمه الله، وتغلَّب على أهوائه الشخصية، فالخطر عظيم، نسأل الله السَّلامة. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 230)، أبو داود (3571)، الترمذي (1325)، النسائي في الكبرى (3/ 462)، ابن ماجة (2308).

2 - الذبح بغير سكِّينٍ المترتب على تولي القضاء يشمل أمرين: الأول: عذاب الآخرة لمن لم يقم بحق القضاء من التحري، والاجتهاد في إصابة الحق، ومعرفة الحكم الشرعي حسب الطاقة والقدرة. الثاني: أنَّ معاناة القضاء من البحث، وطلب تصور القضية، ومعرفة حكمها، وطلب الدليل عليه، وإجهاد النَّفس بالاستقصاء بالوصول إلى الصواب أمر ينهك البدن ويضعفه، وربما أدَّى بالحياة إلى الفناء، وهذا ذبحٌ بغير سكِّين، وإنَّما بالمشكلات، والمتاعب البدنية والنفسية. ولعلَّ في هذا إعجازاً علميًّا لم يكشفه إلاَّ الطب الحديث. 3 - وفيه دليل على أنَّ في الذبح بالسكين والآلة الحادة راحةً للمذبوح، وكذلك وصَّت الشريعة بالحيوان المذبوح؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وليُحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" [رواه مسلم (1955)]. وأمَّا الإماتة البطيئة فهي عذابٌ وعناءٌ، ومنه ما يعانيه القاضي من أعماله المرهقة، ونفسه المؤنبة حتَّى يقضي به الأمر إلى الموت، ثمَّ ما يعقبه من الحسرة والنَّدامة يوم القيامة؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد (23943) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليأتينَّ على القاضي العدلِ يوم القيامة يتمنَّى أنَّه لم يقض بين اثنين في عمره"، -وأخرجه البيهقي (10/ 96) بلفظ: "في تمرة". ***

1204 - وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ستحرصون: حرص: بفتح العين وكسرها، من باب ضرب وعلم، حِرْصاً، بمعنى: جشع واشتدت رغبته في الشيء. - الإمارة: بكسر الهمزة، هي منصب الأمير. - ندامة: ندم على ما فعل يندم ندماً وندامة: أسف وحزن على ما فعل. قال الجرجاني: النَّدم غمٌّ يصيب الإنسان يتمنَّى أنَّ ما وقع منه لم يقع. - فنعمت - بئست: نعم وبئس فعلان ماضيان، بدليل دخول تاء التأنيث السَّاكنة عليهما، وهما جامدان لا يتصرفان، جاءا لإفادة المدح، أو الذم. - المرضعة: الرضاع بفتح الرَّاء وكسرها، هو مصدر رضع الثدي: إذا مصَّه، بكسر الصَّاد وفتحها، والكسر أفصح، ويُقال: امرأةٌ مرضع، إذا كان لها ولدٌ ترضعه، فلا تلحقها التَّاء لتأنيثها. والمراد هنا تشبيه منافع الإمارة العاجلة الزَّائلة بالرضاع في مدته القصيرة. - الفاطمة: مؤنث فاطم، جمعها فواطم، يُقال: فطمت الرضيع تفطمه فطماً، من باب ضرب، أي: فصلت المرضعة الرضيع عن الرضاع، شبَّه انقطاع منافع الإمارة بالفطام. ¬

_ (¬1) البخاري (7148).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - طالب ولاية القضاء أو غيرها من الولايات له إحدى حالتين: إحداهما: أنْ يقصد من الحصول عليها الجاه، والرئاسة، والمال، فهذا هو المذموم، وهو الَّذي وردت الأحاديث الصحيحة بذمِّه ومنعه، ومنع طالب الولاية فيها، ومن تلك الأحاديث: - ما أخرجه مسلم (1825) عن أبي ذرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "قلت: يارسول الله! ألا تستعملني؟ قال: إنَّك ضعيف، وإنَّها أمانة، وإنَّها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلاَّ من أخذها بحقِّها، وأدَّى الَّذي عليه فيها". - وما أخرجه الطبراني (18/ 71) والبزَّار (7/ 188) بسندٍ صحيح من حديث عوف بن مالك أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلاَّ من عدل". قال النووي عن حديث الباب: هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، لاسيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل؛ فإنَّه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة. الثانية: أنْ يطلب القضاء أو الولاية؛ لأنَّها متعينة عليه؛ لأَنَّه لا يوجد من هو أهل لها وللقيام بها، وإذا تركها، تولاَّها من لا يقوم بها، ولا يحسنها، فيطلبها بهذه النية، وهو القصد الحسن؛ فهذا مثاب مأجور معان عليها. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: لأن أجلس قاضياً بين اثنين، أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة. قال في المغني: وفي القضاء فضل عظيم. لمن قوي على القيام به، وأداء الحق فيه؛ ولذلك جعل الله فيه أجراً على الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأنَّ فيه أمراً بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء للحق إلى مستحقه، وردًّا للظَّالم عن ظلمه، وإصلاحاً بين النَّاس، وتخليصاً لبعضهم من بعض.

2 - المتوسط لغيره في أمرٍ من الأمور، إنْ كان المتوسَّط له مستحقًّا لتلك الوظيفة، فالمتوسِّط محمود، وإنْ كان المتوسَّط له لا يستحق الولاية، وغيره أولى منه وأنفع، كان التوسُّط مذموماً، غشًّا لله ولرسوله، وغشًّا للمتوسط عنده، وغشًّا لمن توسَّط له؛ لكونه أعانه على ما هو منهيٌّ عنه. 3 - "نعمت المرضعة" بما تدر من منافع المال، والجاه، ونفاذ الحكم، و"بئست الفاطمة" بتبعاتها يوم القيامة، وحسراتها. 4 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: المتوسِّط لغيره في أمرٍ من الأمور إنْ كان المتوسَّط له كفؤًا، فهي وساطة محمودة، وإلاَّ فهو غاشٌّ له، وللعمل، وللمسلمين. فهذا هو الَّذي يحرص عليها للمطامع الدنيوية، "فنعمت المرضعة"؛ لما فيها من حصول الجاه في الدنيا، و"بئست الفاطمة"؛ لما يترتب عليها من التبعات في الآخرة. 5 - قوله: "ستحرصون" هذا فيه دلالة على اغترار النَّفس لمحبتها في الإمارة، لما تنال فيها من نيل لحظوظ الدنيا ولذَّاتها، ونفوذ الكلمة، ولذا ورد النَّهي عن طلبها؛ فقد أخرج البخاري (6622) ومسلم (1652) من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنَّك إنْ أُعطيتها من غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها، وإنْ أُعْطِيتَهَا عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها". 6 - وجاء في سنن الترمذي (1324) من حديث أنس أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ابتغى القضاء وسأله وُكِل إلى نفسه، ومن أُكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدِّده". وإنَّما جمع بين الرغبة فيه وبين طلبه إظهار الحرص عليه؛ فإنَّ النَّفس مائلةٌ إلى جب الرئاسة، وطلب الترفع على النَّاس، فمن منعها، سلم من هذه الآفة، ومن أتبع نفسه هواها، وسأل القضاء، هلك؛ فلا سبيل إلى المشروع فيه إلاَّ بالإكراه، وحينئذٍ يسدّد ويوفّق.

1205 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: حَكَم: الحُكْمُ لُغَةً: المنع، يُقال: حكمت عليه بكذا: إذا منعته من خلافه. واصطلاحاً: تبيينُ الحكم الشرعي، والإلزامُ به. - فاجتهد: الاجتهاد لغةً: مأخوذٌ من الجهد، وهو المشقَّة والطَّاقة. واصطلاحاً: هو بذل الفقيه وسعه في نيل حكمٍ شرعيٍّ عملي بطريق الاستنباط. - أخطأ: الخطأ مهموز وهو لغةً: نقيض الصواب، ويقصر ويمد، واسم من أخطأ يخطىء، فهو مخطىء. واصطلاحاً: هو أنْ يقصد بفعله شيئاً، فيصادف فعله غير ما قصد. - فاجتهد: معطوف على الشرط، على تأويل: وأراد أنْ يحكم فاجتهد. - ثم أصاب: معطوف على "فاجتهد". - فله أجران: جزاء الشرط. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الاجتهاد في الاصطلاح: هو بذل الوسع في نيل الحكم الشرعي بطريق الاستنباط. 2 - قال في شرح الإقناع: المجتهد المطلق: من يعرف من كتاب الله تعالى، ¬

_ (¬1) البخاري (7352)، مسلم (1716).

وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: الحقيقةَ والمجاز، والأمْرَ والنَّهي، والمجمَلَ والمبيَّن، والمحكَمَ والمتشابه، والخاصَّ والعامَّ، والمطلَقَ والمقيَّدَ، والنَّاسخَ والمنسوخ، ويعرف صحيحَ السنَّة من سقيمها، ومتواترها من آحادها، ممَّا له تعلقٌ بالأحكام خاصَّة، ويعرف القياس وشروطه، ويعرفُ اللغة العربية، وكلُّ ذلك مذكورٌ في أصول الفقه وفروعه. 3 - أمَّا المجتهد المقيد: فهو الَّذي يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلِّد كبار أئمة مذهبه في ذلك. 4 - قال الشيخ تقي الدِّين: وهذه الشروط في القاضي تعتبر حسب الإمكان. قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدَّة طويلة، وإلاَّ لتعطَّلت أحكام النَّاس. 5 - وقال الشيخ: الواجب أنْ يكون مجتهداً في الأدلَّة الشرعية من الكتاب والسنَّة، وأنْ تكون هي إمامَهُ؛ فهي أقرب إلى الأفهام، وأدنى إلى إصابة المراد. وقال: من كان متبعاً إماماً، ومخالفاً له في بعض المسائل؛ لقوَّة الدليل؛ فقد أحسن. 6 - قال الشيخ: الشَّارعُ نصوصُهُ كلماتٌ جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامَّة، يمتنع أنْ ينص على كلِّ فردٍ من حدثان العالم إلى يوم القيامة، فلابُدَّ من الاجتهاد في جزئيات: هل تدخل في كلماته الجامعة، أو لا تدخل؟ وتقدَّم هذا، ولكنْ ذِكْرُهُ في الموضعَيْن مناسب. 7 - قال في شرح الإقناع: ويجب على الإمام أنْ يختار للقضاء أفضل من يجد علماً وورعاً؛ لأَنَّ القضاء بالشرع فرْعٌ من العلم به، والأفضل أثبت وأمكن، وكذا من ورعه أكثر الكون النَّفس إلى ما يحكم به أعظم. ويأمره بتقوى الله، وإيثار طاعته في سرِّه وعلانيته، ويأمره بتحري

العدل، والاجتهاد في إقامة الحقِّ؛ لأنَّ ذلك تذكرة له بما يجب عليه فعله. 8 - وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في نصيحة قاضٍ: أوصيك بتقوى الله تعالى ومراقبته، والأناة في قضائك، والتثبت والسؤال عن المشكِل، والصلح مهما وجدت إليه سبيلاً، ما لم يتضح الحكم الشرعي، كما نذكِّر فضيلتكم أنَّ البقاء في عملكم من التعاون، وأداء الواجب، وهو من الجهاد في سبيل الله، والَّذي نؤمله فيكم الصبر والاحتساب، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً. 9 - قال ابن القيم: لا يشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله، فيما يتعلَّق بالأحكام، ولكن أنْ يعلم جمهور ذلك ومعظمه. 10 - الحاكم إذا بذل جهده في القضية، واجتهد فيها حتَّى وصل باجتهاده إلى ما يعتقد أنَّه الحق في القضية، ثم حكم، فإنْ كان حكمه صواباً موافقاً للحقِّ، وهو مراد الله تعالى في أحكامه، فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر إصابة الحق. وإنْ اجتهد؛ ولكنَّه لم يصل إلى الصواب، فله أجرٌ واحد، هو أجر الاجتهاد؛ لأنَّ اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة، وفاته أجر الإصابة. ولكنَّه لا يأثم بعدم إصابة الحق بعد بذله جهده واجتهاده، فقد سقط عنه إثم الخطأ، ولكن بشرط أنْ يكون عالماً مؤهَّلاً للاجتهاد. 11 - مفهوم الحديث: أنَّ القاضي إذا لم يجتهد، بل حكم بدون إمعان، ولا تحرٍّ للصواب: أنَّه آثمٌ؛ لأَنَّه حكم بين النَّاس وهو لا يعرف الحق؛ فهذا في النَّار. 12 - قال ابن القيم: الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له حكمٌ إلاَّ بها: - معرفة الأدلة. - معرفة الأسباب.

- معرفة البينات. فالأدلَّة: معرفة الحكم الشرعي، لا الكلي. والأسباب: معرفة ثبوته في هذا المحل المعتبر، وانتفائِهِ عنه. البينات: معرفة طريق الحكم عند التنازع. فمن أخطأ واحداً من هذه الثلاثة أخطأ، في الحكم. وجميع خطأ الحُكَّام مداره على هذه الثلاثة، أو بعضها. * خلاف العلماء: واختلف العلماء: هل كل مجتهدٍ مصيبٌ، أم أنَّ المصيب واحد، وهو من وافق الحق الَّذي عند الله، وأنَّ الآخر مخطىء؟: فذهب بعضهم: إلى أنَّ كلاًّ منهما مصيب؛ لأنَّ الله تعالى جعل للمخطىء أجراً، فلولا إصابته الحق، لم يجعل له أجراً. وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّ المصيب واحد فقط، وهو من وافق الحق الَّذي هو مراد الله تعالى، وأمَّا الأجر الَّذي للمخطىء فهو لحرصه على الحق، واجتهاده فيه. والرَّاجح: أنَّ المصيب واحد، والله أعلم. ***

1206 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - وهو غضبان: بلا تنوين، لأَنَّه ممنوعٌ من الصرف؛ للوصفية والألف والنون الزائدتين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغضب: هو استجابةٌ لانفعالٍ يغلي منه دم القلب؛ لطلب الانتقام. وإذا وصلت الحال الغضبية بالقاضي إلى هذا الحد من الثورة، فإنَّه معرَّضٌ لأَن يميل في حكمه في حقِّ المغضوب عليه، ولا يتزن في الحكم على غيره، فمتى قويت نار الغضب، أعمته عن الحقِّ. 2 - الحديث فيه النَّهي عن القضاء وهو غاضب؛ لأنَّ الغضب يخرجه عن دائرة العدل، وإصابة الحقِّ. قال في الروض المربع وحاشيته: ويحرم القضاء وهو غضان كثيراً، لا يسيراً؛ فإنَّه لا يمنع فهم الحكم، لأنَّ الغضب يشوِّش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد؛ فهو نوعٌ من الإغلاق. 3 - فإنْ خالف وحكم فأصاب الحقَّ، نفذ حكمه؛ لموافقته الصواب. قلت: أمَّا صحَّة الحكم مع الغضب، فمذهب جمهور العلماء، فإنَّه لا مناسبة بين الغضب، ومنع الحكم، وإنَّما ذلك مظنَّة لحصوله، وهو تشويشٌ ¬

_ (¬1) البخاري (7158)، مسلم (1717).

للفكر، ومشغلةٌ للقلب عن استيفاء ما يجب من النظر، وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ دون الصواب، ولكنَّه غير مطَّرِد مع كلِّ غضبٍ، ومع كلِّ إنْسَان. فإذا أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فلا كلام في تحريمه. 4 - قال في الحاشية: ولا يستريب عاقلٌ أنْ من قصَر النَّهيَ على الغضب وحده، دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع، والظمأ الشديد، وشغل القلب المانع من الفهم -فقد قلَّ فقهه وفهمه. ***

1207 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلاَنِ فَلاَ تَقْضِ لِلأوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلاَمَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي"؛ قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِياً بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ المَدِيِنيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ولَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الحَاكِمِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلِّف: رَوَاه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، وقوَّاه ابن المديني بقوله: حديثٌ كوفي، وإسناده صالح، وصحَّحه ابن حبان، فقد أخرجوا هذا الحديث من طرق؛ أحسنها رواية البزَّار عن عمرو بن مرَّة، عن عبد الله ابن سلمة، عن علي -رضِي الله عنه- وفي إسناده عمر بن أبي المقدام، واختلف فيه على عمرو بن مرَّة، فرواه شعبة عنه، عن أبي البحتري، قال: حدَّثني من سمع عليًّا، رَضِي الله عنه. وأخرجه أبو يعلى، وإسناده صحيح لولا هذا المتهم. وله طرق أُخر تشهد له، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث علي، قال: بعثني النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقال: "إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقضِ ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 90)، أبو داود (3582)، الترمذي (1331). (¬2) الحاكم (4/ 98).

لأحدهما حتَّى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأوَّل"، قال علي: فما زلت قاضياً بعدها. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العدل بين الخصوم هو أساس الحكم؛ فيجب على القاضي أنْ يعدل بين الخصمين إذا ترافعا إليه في كلِّ شيءٍ، حتَّى الَّلفظ واللحظ. قال ابن رشد: أجمعوا على أنَّه يجب عليه أنْ يسويَ بين الخصمين في المجلس. وقال ابن القيم: نهي عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه. 2 - وحديث الباب فيه النَّهْيُ عن القضاء للمدَّعِي حتَّى يسمع الحاكم كلام الآخر، والنَّهْيُ يقتضي الفساد، فإنْ حكم قبل سماع الإجابة، بطل قضاؤه، فإنْ سكت المدَّعَى عليه، وأصرَّ على عدم الجواب، اعتبر ناكلاً، وقُضِيَ عليه بالنكول. هذا إذا كان المدَّعَى عليه حاضراً في مجلس الحكم، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد. 3 - أمَّا إذا كان المدَّعَى عليه متغيباً عن المجلس، أو مستتراً في البلد، أو كانت الدَّعوى على ميت، أو صغير، أو مجنون، فإنَّها تسمع الدَّعوى إذا كان لدى المدَّعِي بينةً على دعواه، ويُحْكَمُ بموجب البينة، ثمَّ إذا قدم الغائب، وبلغ الصغير، وعقل المجنون، وظهر المستتر، فهم على حججهم؛ لأنَّ المانع إذا زال صاروا كالحاضرين المكلفين، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة

الثلاثة، فإنْ لم يكن لدى المدَّعِي بينةٌ، فإنَّ الدَّعوى لا تصح ضدهم. 4 - قال فقهاؤنا: ولا تصح الدعوى إلاَّ محرَّرةً؛ لأنَّ الحكم مرتَّبٌ عليها؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما أقضي على نحو ما أسمع" [رواه البخاري (6967) ومسلم (1713)]. وأنْ يكون المُدَّعَى به معلوماً؛ ليتأتَّى الإلزامُ به إذا ثبت. ولابُدَّ أنْ تَنْفَكَّ عمَّا يكذِّبها عرفاً؛ فلا تصح على إنسان أنَّه قتل، أو سرق منذ عشرين سنة، وسنُّهُ دونها، ولا يعتبر فيها ذكر سبب الاستحقاق لعينٍ، أو دينٍ؛ لكثرة سببه، وقد يخفى على المدَّعي. 5 - قال في الروض وغيره: وإنْ كان عقَدَ نكاح، أو عقد بيع، أو غيرهما كإجارةٍ، فلابُدَّ من ذكر شروطه؛ لأَنَّ النَّاس مختلفون في الشروط؛ فقد لا يكون العقد صحيحاً عند القاضي، فلا يتأتَّى الحكم بصحته مع جهله بها. ***

1208 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نحْوِ مَا أسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَإنَّمَا اقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تختصمون: يُقال: خَصَمَهُ يَخْصُمُهُ خَصْماً: غلبه في الخصومة، وخاصمه فَخَصَمَهُ: إذا غلبه في الخصومة، فالخصم يقع على المفرد والمثنَّى والجمع، وعلى المذكر والمؤنَّث بلفظٍ واحد، واختصم القوم خاصم بعضهم بعضاً، وتجادبوا وتنازعوا. - لعلَّ: حرف مشبه بالفعل، لفتح آخره كالماضي، ووجود معنى الفعل فيه، وهو من أخوات إنَّ، وله معانٍ، منها التوقُّعِ للمكروه، ولعلَّه المراد هنا. - ألحن بحجته: لَحَنَ الرَّجلُ يَلْحَنُ لحناً: فَطِنَ لحجته وانتبه. قال أهل اللغة: أصل هذه المادَّة: الميل عن جهة القصد. قال في المصباح: اللَّحن: سرعة الفهم، وهو ألحن من زيد، أي: أسبق فهماً منه. - القطعة: قطع يقطع قطعاً، والقطعة: الطَّائفة من الشيء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - يدل الحديث على أنَّ الحاكم يحكم على نحو ما يسمع من الخصمين من قوَّة الحجَّة، وبيان البرهان، فإذا اجتهد فأخطأ، فلا إثم عليه، وإنَّما يؤجر على ¬

_ (¬1) البخاري (7169)، مسلم (1713).

اجتهاده؛ كما جاء في الحديث الصحيح: "وإنْ اجتهدَ فَأخطأ، فله أجر". 2 - وفيه أنَّ الَّذي يلحقه التبعة والإثم هو الَّذي كسب القضية بباطله؛ فإنَّ المعصوم -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما أقطع له قطعة من نار". 3 - قال الحافظ: وفيه أنَّ من ادعى مالاً ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه، وحُكِمَ ببراءة الحالف: أنَّه لا يبرأ في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم؛ وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة. وخالف أبو حنيفة فقال: إنَّه ينفذ حكمه ظاهراً وباطناً، وأنَّه لو حكم بصحة الزواج بشهادة الزور، حلَّت للمدَّعِي، واستدل بآثار لا يقوم بها دليل، وبقياس لا يَقْوَى على مقاومة النَّصِّ. 4 - وفي الحديث دليلٌ على عظم إثم من خاصم في باطل، حتَّى لو استحقه في الظاهر، فهو في الباطن حرامٌ عليه، وإنِ احتال حتَّى صار في الظاهر حقًّا، فلا يحل له تناوله في الباطن. 5 - وفي الحديث ردٌّ على المخرِّفين الضَّالين الغالين، الَّذين يرفعون مقام النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فوق المقام الرفيع الَّذي جعله الله له، ويعطونه من صفات الربوبية والألوهية، ومن الاطلاع على المغيبات: ما يبرأ منه دين الإسلام. وقد أمره الله تعالى أنْ يُبَلِّغَ النَاسَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]. قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره: هذه الآية من أعظم أصول الدِّين، وقواعد عقائده ببيانها لحقيقة الرِّسالة، والفصل بينها وبين الربوبية والألوهية، وهدمها لقواعد الشرك، ومباني الوثنية من أساسها، فقد أمره أنْ يُبيِّنَ للنَّاس أنَّ كلَّ الأمور بيد الله تعالى وحده، وأنَّ علم الغيب كله عنده، وأنْ ينفي كلاًّ منهما عن نفسه -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنَّ الَّذين كانوا يسألونه -صلى الله عليه وسلم- عن

السَّاعة من المسلمين كانوا يظنون أنَّ منصب الرِّسالة قد يقتضي علم السَّاعة، وغيرها من علم الغيب، وربما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أنَّ الرَّسول قد يَقْدِرُ على ما لا يصل إليه كسب البشر، من جلب النَّفع، ومنع الضر عن نفسه، وعمَّن يحب، أو يشاء؛ أو منع النفع، وإحداث الضر بمن يكره، أو بمن يشاء، فأمره الله تعالى أنْ يبيِّن أنَّ منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وإنَّما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد والتزكية، وأنَّه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى: بشر كسائر البشر؛ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 115]. والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا مستقلًّا بقدرته، وإنَّما يملك ما يملكه من ذلك بتمليك الرب الخالق جلَّت قدرته، وهو المراد بالاستثناء أي: لا أملك منهما "إلاَّ ما شاء الله" من نَفْعٍ أقدرني على جلبه، وضرٌّ أقدرني على منعه، وسخَّر لي أسبابهما. كما أنَّه لا يملك شيئاً من عالم الغيب، الَّذي هو شأن الخالق دون المخلوق، والنَّاسُ فُتِنُوا منذ قوم نوحٍ بمن اصطفاهم الله، فجعلوهم شركاء لله تعالى فيما يرجوه عباده، من نفعٍ يسوقه إليهم، وما يخشونه من شرٍّ فيدعونه ليكشفه عنهم، وصاروا يدعونهم كما يدعون الله لذلك، إمَّا استقلالاً وإمَّا إشراكاً. ولمَّا كان ملك الضر والنفع خاصًّا برب العباد وخالقهم، وكان طلب النفع، أو كشف الضر عبادةً لا يجوز أنْ توجَّه إلى غيره من عباده مهما يكن فضله: أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يصرِّح بالبلاغ عنه، أنَّه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا، وقد تكرَّر هذا في القرآن مبالغةً في تقريره وتوكيده. 6 - جاء في سنن أبي داود (3627) من حديث عوف بن مالك؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بين رجلين، فقال المقضيُّ عليه لمَّا أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل،

فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يلوم على العجز: "ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ، فقل حسبي الله ونعم الوكيل". ومعنى هذا: أنَّه على الإنسان التيقُّظ في الأمر وعمل الأسباب، فإذا أخفق بعد عمل الأسباب النَّافعة المشروعة، فليقل حينئذٍ: "حسبيَ الله ونِعْمَ الوكيل". وبدون التيقُّظ وعمل الأسباب؛ فإنَّ الله يلوم على العجز، والتهاون في الأمور. ***

1209 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ، لاَ يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟! " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ (¬2)، وَآخَرُ مِنْ حَديْثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلِّف: رواه ابن حبان، وابن خزيمة، وابن ماجه، وله شواهدٌ: 1 - حديث بريدة؛ عند البيهقي. 2 - حديث قابوس بن مخارق عن أبيه؛ عند الطبراني، وابن قانع. 3 - حديث خولة غير منسوبة؛ عند الطبراني، وأبي نعيم. 4 - حديث أبي سعيد؛ عند ابن ماجه. 5 - حديث عائشة؛ عند ابن حبان، والبيهقي. وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والسيوطي، وقال الذهبي: إسناده صالح، وقال الهيثمي: رجاله ثقات إلاَّ أنَّ فيه عطاء بن السَّائب ثقة؛ لكنَّه اختلط. * مفردات الحديث: - كيف تُقَدَّس أمَّة: التقديس: التطهير والتنزيه، يعني تَبْعُدُ الطهارة والنَّزاهة عن ¬

_ (¬1) ابن حبان (1554). (¬2) البزَّار كما في "كشف الأستار" (1596). (¬3) ابن ماجة (4010).

أُمَّة لا تساوي في أحكامها بين القوي والضعيف. - الأمَّة: أتباع النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، والجمع أمم، مثل: غرفة وغرف. - شديدهم: قويهم وغنيهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء]. قال بعض المفسرين: لهذه الآية ثمرات هي أحكام، منها: الأوَّل: وجوب العدل على القضاة والولاة، وأنْ لا يعدلوا عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب، من غِنًى وفَقْرٍ، أو قرابة، بل يستوي عنده الدنيء والشريف، والقريب والبعيد. الثاني: أنَّه يجب الإقرار على من عليه الحق، ولا يحل له أنْ يكتمه؛ لقوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. 2 - قال محمد رشيد رضا: القوَّامون بالقسط هم الَّذين يُقيمون العدل بالإتيان به على أتمِّ الوجوه وأكملها وأدومها؛ فالقيام بالشيءِ هو الإتيان به مستوياً تامًّا، لا نقص فيه، ولا عوج، وهذه العبارة أبلغ ما يمكن أنْ يُقال في تأكيد أمر العدل والعناية. 3 - حديث الباب فيه استبعاد أنْ تتطهَّر أمَّة من الذنوب، وهي لا يُنْصَف لضعيفها من قويها فيما يلزمه من الحق له؛ فإنَّه يجب نصر الضعيف حتَّى يأخذ حقه من القوي. فقد جاء في صحيح البخاري (2444): "انصر أخاك ظالماً، أو مظلومًا"، ونصر الظَّالم: هو رده وكفه عن الظلم.

1210 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ في عُمُرِهِ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ: "فِي تَمْرَةٍ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث إسناده حسن. قال في التلخيص الحبير: رواه أحمد، والعقيلي، وابن حبان، والبيهقي. قال العقيلي: عمران بن حطَّان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه، ولا يتبين لي سماعه منها. قال ابن حجر في التهذيب: ليس كذلك؛ فإنَّ الحديث الَّذي في البخاري وقع عنده التصريح بسماعه منها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه بيان خطر القضاء، وعظم أمره؛ لأنَّ موضوعه هو الفصل في حقوق النَّاس، من الدماء، والأعراض، والأموال؛ فصاحبه مكلَّف بالاحتياط الشديد، والتحري الأكيد؛ لإصابة الحق والصواب. 2 - وفيه دليلٌ على شدَّة حساب القضاة يوم القيامة؛ وذلك لما يتعاطونه من الخطر، فيجب عليهم الحيطة والتقصِّي، وبلوغ الجهد، والاستعانة بالله تعالى، وأهل الحق والإنصاف، والابتعاد عن قرناء السوء، والكتَّاب ¬

_ (¬1) ابن حبان (1563)، البيهقي (10/ 96).

والأعوان أصحاب الأنفس الدنيئة، والقلوب المريضة بإيثار الدنيا على الآخرة. 3 - إذا كان ما جاء في الحديث في القاضي العدل، فكيف بقضاة الظلم، والجور، والجهل، اتخذوا المناصب الدينية، والسلطة القضائية أداةً لجمع الأموال من غير حلها؟! 4 - من هذا الحديث وأمثاله التي تذكر خطر القضاء، وعظيم أمره، هرب من توليه، والسَّلامة منه كثير من أصحاب الورع. فقد دُعِيَ أبو قلابة إلى القضاء؛ فهرب من العراق إلى الشَّام، ودعي إليه سفيان الثوري؛ فهرب إلى البصرة، وتوفي وهو متوار، وضرب على قبوله أبو حنيفة؛ فلم يقبله حتَّى مات، وقال الشعبي: القضاء محنةٌ وبلية، من دخل فيه، عرَّض نفسه للهلاك. وهناك أحاديث وآثار تحث على قبول القضاء، واتباع سلوك العدل؛ فاتخذ العلماء المحققون طريق التوفيق بين الأمرين: وهو أنَّ التحذير لمن طلب القضاء، ولم يف بحقِّه. وأمَّا الترغيب: فهو لمن وَلِيَ بدون طلب، وسلك مسلك الخوف والرَّجاء. ***

1211 - وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَنْ يُفْلحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. قال محمد رشيد رضا: أي: من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية، والرعاية، والولاية، والكفاية، ومن لوازم ذلك: أنْ يفرض عليهم الجهاد دونهنَّ؛ فإنَّه يتضمن الحماية لهن ... وسبب ذلك: أنَّ الله تعالى فضَّل الرِّجال على النِّساء في أصل الخِلْقة، وأعطاهم ما لم يعطهنَّ من الحول والقوَّة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام أثراً للتفاوت في الفطرة والاستعداد؛ {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]، فالرِّجال أقدر على الكسب، والاختراع، والتصرُّف في الأمور، فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أنْ ينفقوا على النِّساء، وأنْ يحموهنَّ، ويقوموا بأمر الرئاسة العامَّة في مجتمع العشيرة، ويتبع هذه الرئاسة: جعل عقدة النكاح في أيدي الرِّجال، هم الَّذين يبرمونها برضا النِّساء، وهم الَّذين يحلونها بالطَّلاق. وأوَّل ما يذكره جمهور المفسِّرين المعروفين في هذا التفضيل: النبوة، والإمامة الكبرى، والصغرى، وإقامة الشَّعائر؛ كالأذان، والإقامة، والخطبة في الجمعة، وغيرها، ولا شكَّ أنَّ هذه المزايا تابعةٌ لكمال استعداد الرِّجال في مقتضى الفطرة. ¬

_ (¬1) البخاري (4425).

2 - الحديث صريحٌ في عدم صحَّة ولاية المرأة، وأنَّ الأمَّة التي توليها لن تفلح في أمور دينها، ولا في أمور دنياها، وعدمُ صحَّة ولايتها هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد. وذهب الحنفية: إلى جواز توليتها الأحكام إلاَّ الحدود، وقولهم مصادمٌ للنَّصِّ، وللفطرة الربانية. 3 - والدول التي ولتها إنَّما هيَ ولاية صورية لا حقيقية؛ فبلادهم يحكمها دستورٌ لا يتخطَّاه أحدٌ منهم، لا حاكمٌ ولا محكوم، وعلى فرض أنَّ لها السيطرةَ، ونفوذَ الكلمة، فإنَّهم لم يفلحوا لا في شؤون دينهم، ولا في شؤون دنياهم، والله المستعان. 4 - ولمَّا قال تعالى في كتابه: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] ليس معناه: أنَّه أهمل جانب المرأة، وأعفاها من المسؤولية وجعلها -فقط- أداة متعة ونظر، وإنَّما جعل لها من الحقوق مثل ما للرَّجل؛ فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]؛ إلاَّ أنَّ هذه المسؤولية، وتلك الحقوق والواجبات هي من نوعٍ آخر؛ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32]. فمسؤولية البيت وشؤون المنزل مهامُّ كبيرة: من ترتيبه، وتنظيمه، والقيام بشؤونه، وحفظه، ورعايته، ثمَّ وظائفُ الحمل، والولادة، وتربية الأطفال، وإصلاح شؤونهم، هي أمورٌ هامَّةٌ جدًّا، ومع أهميتها: فإنَّ الرَّجل لا يستطيع الصبر عليها، ولا يحسن القيام بها، ومتى أُهمِلت هذه الأمور بلا راعٍ مسؤول، تعطَّل كلُّ شيءٍ، وضاع جهد الرَّجل خارج المنزل. فالرجل: عمله خارج المنزل لإعداده، وتكوينه البدني، والنَّفسي، والعقلي، بما يحويه من صلابةٍ في العضلات، وتحكُّمٍ في العاطفة، ومنطقية في التفكير.

وأمَّا المرأةُ: فهي المُعَدَّةُ بدنيًّا، ونفسيًّا، وعقليًّا بكلِّ ما تحويه من مرونة في الملبس، ورقة في المشاعر، وجيشان في العاطفة، وانفعال في الوجدان، هذا هو الاستعداد الحقيقي لأنبل المهام، وأهمها على الإطلاق، وهي مهمة بناء الإنسان. فهذه نظرة الإسلام إلى الجنسين، تلك النظرة القائمة على الاستعدادات "البيولوجية" التي جَعَلَ الله تعالى منها خصائصَ ذات طابعٍ ذكري وأنثوي، وجَّهت كلاًّ إلى ما خُلِقَ له، ولله في خلقه شؤون!! أمَّا الَّذين يُنادون بما يسمَّى "تحرير المرأة" لتشارك الرِّجال في أعمالهم، فهؤلاء جهلوا مراد الله تعالى من خلق الجنسين، وغفلوا عن الإعداد الفطري الَّذي أنشأ عليه المرأة لتقوم بوظائفها الخاصَّة بها، والأعمال التي لا يحسنها غيرها؛ وبهذا الجهل، وتلك الغفلة: هدموا البيوت، وقوَّضوا معالم الأسرة، وأضاعوا الأولاد؛ ليصبحوا مشرَّدين مهملين، وأسعدهم حظًّا الَّذي تليه خادمةٌ جاهلةٌ أجنبيةٌ جافَّة، بدل حنان الأُم وتربيتها وعنايتها وعطفها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلٌّ ميَسَّرٌ لما خُلِقَ لَه" [رواه البخاري (6596) ومسلم (2649)]، والله المستعان. ***

1212 - وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَزْدِيِّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ وَلاَّهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ، وَفَقيرِهِمُ -احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث سنده جيد. قال ابن حجر في التلخيص: رواه الترمذي، وأبو داود، والحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي، وأورد له الحاكم شاهداً، وعنه رواه أحمد، والترمذي، ورواه الطبراني في الكبير، من حديث ابن عباس، قال ابن أبي حاتم عن أبيه في العلل: هذا حديث منكر. والحديث المرفوع سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حديثٌ غريب، ولم يطعن فيه المنذري. قال الصنعاني: ورواه الطبراني برجال ثقات، إلاَّ شيخه فإنَّه قال: المنذري لم يقف فيه على جرحٍ، ولا تعديل. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 133): سنده جيد. * مفردات الحديث: - ولاَّه: يُقال: ولاَّه الأمر تولية: جعله والياً عليه، وملَّكه أمره. - احتجب: يُقال: حَجَبَهُ يَحْجُبُهُ حَجْباً: ستره ومنعه، واحتجب: استتر. - حاجة: يُقال: حَاجَ الرَّجل يحوج: إذا احتاج، والحاجة جمعها حوائج، وهي: ما يفتقر إليها الإنسان ويطلبها. ¬

_ (¬1) أبو داود (2948)، الترمذي (1333).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - من ولاَّه الله تعالى أمراً من أمور المسلمين، فقد أصبح أجيرهم، والقائم بأمورهم، والمتولِّي على شؤونهم، ومثل هذا يجب عليه مقابلتهم، وسماع شكاويهم وحاجاتهم؛ ليقضي ما يتعيَّن عليه قضاؤه، ويوجِّههم إلى ما يحتاجون إليه من التوجيه. 2 - أمَّا من يقفل دونهم بابه، أو يجعل له حُجَّاباً قساةً جفاةً، يمنعون أصحاب الحاجات من الوصول إليه، فهذا حرامٌ لا يجوز، فإنِ احتجب عنهم، فإنَّ الله تعالى يحتجب عن حاجته يوم القيامة، جزاءً وفاقاً؛ فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تُدان. 3 - قال في شرح الإقناع: ولا يتخذ القاضيَ في مجلس الحكم حاجباً، ولا بوَّاباً إلاَّ لعذرٍ؛ لأَنَّ الحاجب ربَّما قدَّم المؤخَّر، وأخَّر المتقدِّم؛ لغرض له، وليس له أنْ يحتجب إلاَّ في أوقات الاستراحة؛ لأَنَّهَا ليست وقتاً للحكومة، ويكون له من يرتَّب النَّاس إذا كثروا، فيكتب الأوَّل فالأوَّل. 4 - فليحذر القاضي -وكل قائمٍ على عملٍ يتصل بجمهور النَّاس- من قرناء السوء، ومروِّجي الدعاوى باسمه، وبواسطة القرب منه؛ فإنَّهم يموِّهون على النَّاسِ أنَّ لهم تأثيراً على القضاة، وأصحاب الأعمال يدركون بها مطلوبهم، ليحذروهم، ولا يكن حوله إلاَّ من يتَّقي الله تعالى ويراقبه، من الأمناء أصحاب النفوس العفيفة، والضمائر الطيبة، والله ولي التوفيق. ***

1213 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "لعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ، وَالمُرْتَشِيَ في الْحُكْمِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو عِنْدَ الأَرْبَعَةِ إِلاَّ النَّسَائِيَّ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبغوي، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. ورجاله ثقات، رجال الشيخين، وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن عمرو. قال الدَّارمي: هو أحسن شيءٍ في هذا الباب وأصح. قال الهيثمي: أخرجه الطبراني في الصغير، ورجاله ثقات. وقال الشوكاني: لا مطعن في إسناده. وله شواهدُ أخر: عن عائشة، وأمِّ سلمة، وعبد الرحمن بن عوف، وثوبان. *مفردات الحديث: - الراشي: يقال: رشاه يرشوه رشواً: أعطاة الرِّشْوة، والرَّاشي: هو الذي يعطي المال الذي يعينه على الباطل. - المرتشي: هو آخذ الرِّشْوة. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 387)، الترمذي (1336)، ابن حبان (1196)، ولم يروه باقي أصحاب السنن. (¬2) أبو داود (3580)، الترمذي (1337)، ابن ماجة (2313).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرَّاشي: هو من يُعطي العطية؛ ليحكم له بباطل، أو يدفع عنه حقًّا. المرتشي: هو الَّذي يأخذ الرشوة؛ ليحكم بإسقاط حقٍّ، أو إثبات باطل. الرشوة: هو ما يُعْطَى الحاكِمُ بعد طلبه لها. 2 - يَحْرُمُ بذلها، وأخذُهَا، والتوسُّطُ فيها، والإعانةُ عليها؛ لأنَّ ذلك من أكل أموال النَّاس بالباطل، مع ما فيها من تغيير حكم الله تعالى، والحكم بغير ما أنزل الله؛ فقد ظَلَمَ بأخذها نفسه، وظَلَمَ المحكومَ له، وظَلَمَ المَحكومَ عليه. 3 - الرشوة من كبائر الذنوب؛ لأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن آخذها، ومعطيها، واللعنُ لا يكون إلاَّ على كبيرةٍ من كبائر الذنوب، وقد أجمع العلماء على تحريمها. 4 - قال في شرح الإقناع: ويحرم قبول القاضي هدية، وهي الدفع للقاضي ابتداءً من غير طلب، إلاَّ ممَّن كان يهدي إليه قبل ولايته، إنْ لم يكن للمهدي حكومة؛ لأنَّ التهمة منتفية؛ لأَنَّ المنع إنَّما كان من أجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة، وكلاهما منتف. ***

1214 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: الحديث فيه ضعف. قال المؤلِّف: رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم وصحَّحه، وأقرَّه الذهبي، ورواه البيهقي، كلهم من رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وفيه كلام، قال أبو حاتم: إنَّه كثير الغلط. وله شاهدٌ من حديث أمِّ سلمة: رواه أبو يعلى، والدَّارقطني، والطبراني، وفي إسناده عبادة بن كثير، وهو ضعيف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العدالة بين الخصمين مطلوبةٌ في كلِّ شيء؛ فيجب على القاضي أنْ يعدل بينهما في مجلسه. قال ابن رشد: أجمعوا على أنَّه يجب عليه أنْ يسوِّيَ بين الخصمين في المجلس. قال الطيبي: ليس على القاضي أمرٌ أشق ولا أخوف من التسوية بين الخصمين. وقال ابن القيم: نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر، ¬

_ (¬1) أبو داود (3588)، الحاكم (4/ 94).

وضعفه عن القيام بحجته. 2 - قال فقهاؤنا: يجب أنْ يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه. ويحرم أنْ يسارَّ أحدهما، أو يلقِّنه حجته، أو يضيِّفه، أو يعلِّمه كيف يدَّعي، إلاَّ أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى؛ كشرطٍ، أو عقد، وسبب إرث، ونحوه، فله أنْ يسأل عنه ضرورةً لتحرير الدعوى، ولأنَّ أكثر الخصوم لا يعلم ذلك، وليتضح للقاضي وجه الحكم. ***

باب الشهادات

باب الشهادات 1215 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؛ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). 1216 - وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حصَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُون، وَينْذُرُونَ، وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خير: جمعه: أخيار وخيار، يستعمل اسم تفضيل، وأصله: أخْيَرُ، فحذف الهمزة على خلاف القياس؛ لكثرة الاستعمال، فصار متصرِّفاً لمغايرته وزن الفعل. - قرني: القرن جمعه قرون، وهو مصدر، وهو مدة، قيل: أربعون سنة، ¬

_ (¬1) مسلم (1719). (¬2) البخاري (2651)، مسلم (2535).

وقيل: أقل، وقيل: أكثر، والرَّاجح عند اللغويين: أنَّه مائة سنة، وعليه جرى المؤرِّخون. ولعل المراد هنا أهل زمانٍ واحد. - يُسْتَشهدون: الشَّاهد جمعه شهود، يُقال: شهد المجلس، أي: حضره، وشهد عند الحاكم لفلان على فلانٍ بكذا: أدَّى ما عنده من الشهادة، أي: أخبر بما عنده خبراً قاطعاً. فمعنى "يستشهدون" أي: يؤدون الشهادة قبل أنْ تُطلَب منهم. - يخونون: خانه في كذا يخونه خوناً وخيانة، فهو خائن، والجمع خَوَنَةٌ، والخيانة: خلاف الأمانة. - يؤتمنون: يُقال: أَمُنَ يَأْمُنُ أمانةً، ضد خان، فهو أمين. فمعنى يُؤتمنون: يُتخذون أمناء. - ينذرون: النَّذر مصدر نَذَرْتُ أَنْذُر بضم الذَّال، من باب قتل، والنَّذْرُ في الشرع: إلزَامُ مكلَّفٍ مختارٍ نَفْسَهُ بعبادة الله تعالى. - يوفون: يُقالُ: وَفَى بالعهد والوعد يفي وفاءً، بمعنى: أتمه وحافظ عليه، وهو ضد الغدر، فهو وفيٌّ ووافٍ، فأوفى نذره: أحسن الإيفاء. - السمن: يُقال: سمن يسمن سمانةً وسِمناً: كثر لحمه وشحمه، ضد هزل، فهو سمين، والجمع سِمَان. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الشَّهادات واحدها شهادة، مشتقَّة من المشاهدة: إمَّا بالبصر، أو البصيرة؛ لأنَّ الشَّاهد يخبر عمَّا شاهده، وتطلق الشَّهادة على التحمُّل والأداء، 2 - الشَّهادةُ: هي الإخبار بما يعلمه بلفظ أَشْهَدُ، أو شَهِدتُّ، وهذا هو المشهور من مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. والرواية الأخرى عن أحمد: أنَّه لا يشترط في أداء الشهادة لفظ

أشْهَدُ؛ واختاره شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم. قال الشيخ: وهو مقتضى قواعد أحمد وغيره، ولا أعلم نصًّا يخالفه، ولا يعرف عن صحابي، ولا تابعي اشتراط لفظ الشَّهَادة. وقال ابن القيم: الإخبار إشهادٌ محض في أصح الأقوال. وهو قول الجمهور؛ فإنَّه لا يشترط في صحَّة الشهادة لفظ أشْهَدُ، بل متى قال الشاهد: رأيتُ، أو سَمِعْتُ، أو نحو ذلك، كانت شهادةً منه، وليس في كتاب الله، ولا في سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضعٌ واحدٌ يَدُلُّ على اشتراط لفظ الشهادة، ولا عن رجلٍ واحدٍ من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط يقتضيه، بل الأدلَّةُ المتضافرةُ من الكتاب، والسنَّة، وأقوال الصحابة، ولغة العرب: تنفي ذلك. 3 - الحِديثان متعارضان؛ فحديث زيد: مدح الَّذي يأتي بالشَّهادة قبل أنْ يُسْأَلَهَا، وتطلب منه، وحديث عمران: ذمَّ الَّذين يَشْهَدون قبل أنْ يُستَشْهدوا، وتُطلَبَ منهم، وجُمعَ بينهما بعدَّة أوجهٍ: أحسنها: كونه يَشْهَد قبل أنْ يُسْتَشهد مذمومٌ، إلاَّ أنْ يكون عنده شهادة بحق لا يعلم بها صاحب الحق، فيأتي إليه، ويخبره بها، أو يموت صاحبُ الحق فيأتي إلى ورثته، فيخبرهم بأنَّ عنده لهم شَهادة؛ فهذا هو أحسن الوجوه في الجمع بين الحديثَيْنِ. قال في الإنصاف: مَنْ عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتَّى يسأله، فإنْ لم يعلمها، استحب له إعلامه بها. 4 - قال شيخ الإسلام: يجب على من طُلِبَتْ منه الشهادةُ أداؤها، فإذا امتَنَعَ الجماعةُ من الشهادة، أثموا كلهم باتفاق العلماء. وقال ابن القيم: إنَّ الشَّاهد إذا كتم الشهادة بالحقِّ، ضمنه؛ لأَنَّه أمكنه تخليص حق صاحبه، فلم يفعل؛ فلزمه الضمان.

5 - قال فقهاؤنا: تحمُّلُ الشهادة في غير حق الله تعالى فرضُ كفاية، وإنْ لم يوجد من يكفي، تعينت عليه، لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، أي: لتحمل الشهادة، فعليهم الإجابة، وعند جمهور العلماء: أن تحملها فرض كفاية، والأداء فرض عين. 6 - قال فقهاؤنا: وأداء الشهادة فرض عين على من تحمَّلها متَّى دعي إليها؛ لقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فهذا وعيدٌ شديد، وإنَّما خصَّ القلب؛ لأنَّه موضع العلم بالشهادة، فدلَّت الآية على فرضية أدائها عيناً على من تحمَّل متَّى دعي إليها. 7 - قال العلماء: إنْ لَحِقَ الشَّاهدَ ضررٌ بتحمُّلِ الشهادة، أو أدائها في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو أهله -لم تلزمه. 8 - حديث عمران بن حصين دليل على أنَّ الصحابة -رَضيَ الله عنهم- هم أفضل الأُمَّة، وهم أفضل من التَّابعين، والتَّابعون أفضل من تابع التَّابعين. 9 - الصحيح أنَّ فضل الصحابة على التَّابعين هو فضل جملة على جملة، لا فضل كل فرد على كل فرد؛ فإنَّه قد يكون في فضلاء التَّابعين من يَفْضِّلُ بعض الصحابة؛ ولكن يستثنى من هذا أمران: أحدهما: مشاهير الصحابة، وأصحاب السَّابقة منهم، من المهاجرين والأنصار، لاسيما أهل بدر وأهل الشجرة؛ فهؤلاء لا يلحقهم أحدٌ في فضلهم، وسابقتهم، ونصرهم دينهم، وما خصَّهم الله تعالى به من صحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. الثاني: أنَّ المفضول من الصحابة أمام الفاضل من التَّابعين وغيرهم، فالصحابي يفضل على غيره بالصحبة، فلا يلحقه أحدٌ فيها، وإن امتاز عليه الآخر بالعلم، والعبادة، والفضل، فللصحابي مهما كانت حاله فضيلةُ الصحبة.

10 - الحديث يدل على فضل هذه القرون الثلاثة المفضَّلة ممَّن ساروا على نهج نبيهم، واقتفوا أثره؛ فكانوا خير أمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ. فلمَّا جاء القرن الرَّابع، بدأت الخلافات في المقالات، وتعددت المذاهب المنحرفة، والمقالات الكلامية، وحدثت البدع؛ فأخذت معالم العقيدة الصحيحة تتغيَّر، ومحاسنها تنطمس. 11 - ويدل الحديث على أنَّ الفضيلة ليست بعمارة الحياة الدنيا، وبهجتها، وزينتها، وإنَّما الفضيلة موجودة حيث توجد الأمانة، ويوجد الوفاء بالعهود، والعقود، والنذور، وتكون الآخرة هي أكبر هم المسلم؛ لأَنَّ المسلم ليس همه، وكده، وجده، فيما يعود عليه بالترف من حسن المآكل، والملابس، والمراكب، والمساكن؛ فإيثار الحياة الدنيا على الآخرة هو عين الخسارة؛ قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى]. ***

1217 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ ذِي غَمَرٍ عَلَى أَخِيهِ، ولاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَهْلِ البَيْتِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديت حسن. أخرجه أحمد، وأبو داود، والدَّارقطني، والبيهقي، وإسناده حسن، قال الحافظ: وسنده قوي. وقال في التنقيح: ومحمد بن راشد -أحد رواته- وثَّقه أحمد ويحيى بن معين، وغيرهما، ولا مطعن فيه. * مفردات الحديث: - خائن: خان الشيء خوناً وخيانة: نقضه وخان العهد فيه، وخان الأمانةَ: لم يؤدها. - ذي غَمَرٍ: بفتح الغين المعجمة، وفتح الميم، بعدها راء، وهو الحقد والشحناء. - القانع: بالقاف، ثمَّ ألف، بعدها نون، ثمَّ عين مهملة: هو الخادم المنقطع لخدمة أهل البيت، وقضاء حوائجهم؛ لما لهم عليه من السلطة، ولما له عندهم من المنفعة، فالتهمة بمواليهم قائمة. - لأهل البيت: الَّلام هنا متعلِّقة بمحذوف، تقديره: مقارنة لأهل البيت، فتكون حالاً من "القانع". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - بيان شيءٍ من موانع الشهادة التي إذا وُجِدَ شَيْءٌ منها في شخص، فإنَّها لا ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 204)، أبو داود (3600).

تقبل شهادته. قال في شرح الإقناع: الموانع تحول بين الشهادة ومقصودها؛ فإنَّ المقصود منها قبولها، والحكم بها، ومن الموانع ما يلي: الأوَّل: الخيانة: فالخائن ضد الأمين، وهي إمَّا أنْ تكون خيانة في حقوق الله تعالى؛ من تضييع ما افترض الله عليه من الواجبات؛ فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]؛ فمن ضيَّع شيئاً ممَّا أمر الله تعالى به، أو ارتكب شيئاً ممَّا نهي عنه، فليس بأمين، وإنَّما هو خائن، لا تصح أنْ تقبل شهادته. وإمَّا أنْ تكون الخيانة فيما ائتمنه النَّاس عليه من الودائع، والأمانات؛ فلا يوجد عنده تقوى تمنعه من الحفاظ عليها وأدائها، فهذا لا يحصل الاطمئنان إلى خبره؛ فلا تصح شهادته. قال في الروض المربع وحاشيته: السَّادس: العدالة، وهي أداء الفرائض، واجتناب المحارم. قال ابن رشد: اتفق المسلمون على اشتراط العدالة في قبول شهادة الشاهد؛ لقوله تعالى: {تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. قال الشيخ: رَدَّ شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء. والعدل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وطائفةٍ بحسبها، فيكون الشَّاهد في كلِّ قومٍ مَنْ كان ذا عدل فيهم، وإنْ كان وجوده في غيرهم، لكان عدله على وجهٍ آخر، بهذا يمكن الحكم بين النَّاس. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: شروط الشهادة تعتبر حسب الإمكان. الثاني: ذو الغَمَر: هو الحاقد ذو الشحناء والبغضاء؛ فلا تقبل شهادته على من يضمر له عداوة وشحناء. قال في الروض المربع وحاشيته: ولا تقبل شهادة عدوٍّ على عدوه؛ وهو

مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد، وحجتهم: "لا تقبل شهادة خصمٍ ولا ظنين" [رواه أبو داود في المراسيل (ص 286)]، قال ابن حجر: ليس له إسنادٌ صحيح؛ لكن له طرق يقوِّي بعضها بعضاً. قال ابن القيم: منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة، وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية. الثالث: القانع: وهو الخادم لأهل البيت، المنقطع للخدمة، وقضاء الحوائج، وموالاتهم، ذلك أنَّ الخادم متعلقةٌ مصالحه وحاجاته بأهل البيت، ولهم عليه سلطة، وتأثيرٌ كبير، وهذا مظنَّة تتهمه أنَه يحب دفع الضرر عنهم، أو جلب المصلحة والخير إليهم؛ فَمُنِعَتْ شهادته من القبول. قال في الروض المربع: ولا تُقبل شهادة من عُرِفَ بعصبيةٍ، وإفراط حمية؛ لحصول التهمة بذلك. 2 - ذكر الفقهاء أشياء أخرى ممَّا تُرَدُّ به الشهادة؛ منها: شهادة عمودي النسب، وهم الآباء وإنْ عَلَوْا، والأولاد وإنْ نزلوا، فلا تُقبل شهادة بعضهم لبعض. قال ابن رشد: اتفقوا على رد شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وكذا الأم لابنها، وابنها لها؛ لتهمة القرابة. 3 - ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه عند أكثر العلماء، لأنَّ كلاًّ منهما يتبسط في مال الآخر؛ فالتهمة موجودة. 4 - وتقبل الشَّهادة من عمودي النسب بعضهم على بعض؛ كما تقبل شهادة أحد الزوجين على الآخر؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]؛ نصَّ عليه الإمام أحمد، قال الموفق: لم أجد خلافاً لأحد.

1218 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَجُوزُ شَهَادَة بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِب قَرْيَةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث منكر. أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وابن الجارود، عن طريق ابن الهاد، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، به. قال ابن دقيق العيد: رجاله إلى منتهاه رجال الصحيح؛ فالحديث صحيح الإسناد، رجاله كلهم ثقات؛ فهم رجال الشيخين. قال ابن عبد الهادي: رواته ثقات. لكن قال الذهبي: هو حديث منكر، مع نظافة سنده. * ما يؤخذ من الحديث: اختلف العلماء في قبول شهادة البدوي على الحضري: فذهب الإمامان: مالك، وأحمد -في إحدى الروايتين عنه:- إلى عدم قبول شهادة البدوي على الحضري؛ لأَنَّ بينهما شحناء لا تمنع البدوي الَّذي يغلب عليه الجفاء في الدِّين، وقلَّةِ معرفة الأحكام الشرعية، وعدم ضبطه ومعرفته لما يُلقى عليه، ويسمعه. قال الإمام أحمد: أخشى أنْ لا تُقبل شهادة البدوي على صاحب القرية؛ لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) أبو داود (3602)، ابن ماجة (2367).

وذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد -في المشهور عنه-: إلى قبولها؛ لأَنَّه الأصل، ولما أخرجه أبو داود (2340) والترمذي (691) من حديث ابن عباس: "أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنِّي رأيت الهلال، فقال: أتشهد أنْ لا إله إلاَّ الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأذِّن في النَّاس يابلال أنْ يصوموا غداً". أمَّا حديث الباب: فحملوه على مَنْ لا تعرف عدالته من أهل البادية. قال في شرح المنتهى: وتقبل شهادة بدوي على قروي؛ وحديث: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" محمولٌ على من لا تعرف عدالته من أهل البدو. والرَّاجح: قبولُ شهادة من عرف بالعدالة منهم على أنفسهم وعلى الحاضرة، فهذا هو الأصل ما دام أنَّه لم يوجد مانع من موانع الشَّهادة، والله أعلم. ***

1219 - وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّه خَطَبَ فَقَالَ: "إنَّ أُنَاساً كَانُوا يُؤْخَدونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يؤخذون: يُقال: أُخِذَ به يؤخذ مؤاخذة، والمؤاخذة: المعاقبة على الذنب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الأثر من عمر بن الخطاب -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- قاله للنَّاس،، وهو أمير المؤمنين؛ فأقروه عليه، فصار مثل الإجماع، وهو موافق لقواعد الشريعة. 2 - يدل على هذا الأصل ما رواه الحافظ ابن كثير في الإرشاد، من أنَّه شهد عند عمر رجلٌ، فقال له عمر -رضي الله عنه-: "لست أعرفك، فأتِ بمن يعرفك" رواه البغدادي يإسنادٍ حسن. 3 - قال الشيخ تقي الدِّين: خبر الفاسق ليس بمردود، بل هو موجب للتبين والتثبت؛ كما قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قال ابن القيم: الفاسق باعتقاده إذا كان محافظاً في دينه، فإنَّ شهادته مقبولة، وإنْ حكمنا بفسقه؛ كأهل البدع من الخوارج، والمعتزلة، ونحوهم؛ هذا منصوص الأئمة. 4 - كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته يعرف المنافقين، فكان يخبر بهم بعض الصحابة، ومنهم حذيفة. ¬

_ (¬1) البخاري (2641).

5 - استدل بالحديث على قبول شهادة من لم تظهر مثه ريبة، نظراً إلى ظاهر حاله، وأنَّه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل الاستقامة، من غير كشفٍ عن حقيقة سريرته؛ لأنَّ ذلك متعذِّرٌ إلاَّ بالوحي، فقد انقطع. 6 - قال في الروض وحاشيته: ويكفي في التزكية عدلان يشهدان لعدالة الشَّاهد، هذا هو المشهور من المذهب، وعنه، تكفي تزكية الواحد للواحد، وعليه العمل. ***

1220 - وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ عدَّ شَهَادَةَ الزُّورِ في أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الزُّور: تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتَّى يخيل إلى من سمعه، أو رآه أنَّه بخلاف ما هو به؛ فهو تمويه الباطل بما يوهم أنَّه حقٌّ. وقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول الزور عديلاً للشرك ومساوياً له؛ فإنَّ لشهادة الزور مفاسد كبيرة كثيرة: - فهي سببٌ في أكل المال بالباطل. - وهي سببٌ لإضلال الحكَّام؛ ليحكموا بغير ما أنزل الله. - وهي سببٌ لإضاعة الحقوق، وحرمان المُحِقِّ من حقِّه. 2 - وإنَّما اهتمَّ -صلى الله عليه وسلم- بإخبارهم عن شهادة الزور، وجلس وأتى بحرف التنبيه، وكرَّر الإخبار؛ لكون قول الزور وشهادته أسهل على الِّلسان، والتهاون بها أكثر، والمفاسد بها أكبر؛ لأَنَّ الحامل عليها أمور كثيرة: من العدواة، والحسد، وغيرهما؛ فاحتيج إلى الاهتمام بشأنها. 3 - فقد جاء في البخاري (6919)، ومسلم (87) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألاَ أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قالوا: بلى يارسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس -وكان متكئاً- ثم قال: ألا وقول الزور، فما زال يكرِّرها حتَّى قلنا: ليته سكت". 4 - وبهذا فشهادة الزور من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب. ¬

_ (¬1) البخاري (2654)، مسلم (87).

1221 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ: "تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ" أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده ضعيف. قال الألباني: أخرجه العقيلي، وابن عدي، والحاكم، والبيهقي، من طريق محمد بن مسمول. قال العقيلي وابن عدي: لا يعرف إلاَّ بابن مسمول، وكان الحميدي يتكلَّم فيه، أمَّا الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: واهٍ؛ فعمرو بن مالك البصري كان يسرق الحديث، وابن مسمول ضعَّفه غير واحدٍ. وقال الحافظ: صحَّحه الحاكم فأخطأ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشَّهادة مشتقَّة من المشاهدة؛ فالشَّاهد يخبر عمَّا شاهده، وهي حجَّةٌ شرعية تظهر الحق. وبناءً عليه: فلابدَّ في أدائها من العلم اليقيني برؤية ما شهد عليه، أو سماعه،: فالرؤية: تختص بالأفعال؛ كالقتل، والغصب، والسرقة. والسَّماع ضربان: سماع من المشهود عليه؛ كالطَّلاق، والإبراء، والعقود، ونحوها، وسماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذَّر علمه غالباً؛ كالنَّسَب، والموت، والنكاح عقداً ودواماً، والطلاق، وشرط الوقف. ¬

_ (¬1) ابن عدي (6/ 2213)، الحاكم (4/ 98).

قال في شرح الإقناع: ويجوز أنْ يشهد بالاستفاضة إذا علم ما شهد به عن عددٍ يقع العلم بخبرهم، واختار المجد والشيخ: ولو واحداً يُسْكَنُ إليه. 2 - وإلى العمل بشهادة الاستفاضة ذهب الشَّافعي وأحمد. قال في فتح الباري: اختلف العلماء في ضابط ما تفيد الشهادة بالاستفاضة: فيصح عند الشَّافعية: في النسب، والولادة، والموت، والولاء، والوقف، والنكاح، والتعديل، والتجريج، والوصية، والرشد، والسفه، وبلَّغها بعض الشَّافعية بضعة وعشرين موضعاً. وأمَّا عند الحنابلة: فشهادة الاستفاضة في تسع مواضعٍ هي: النسب، والموت، والملك المطلق، والنكاح عقداً ودواماً، والوقف، والعتق، والخلع، والطلاق، والولاية، فيشهد بالاستفاضة في ذلك كله؛ لأَنَّ هذه الأشياء تتعذَّر الشَّهادة عليها في الغالب بمشاهدتها، ومشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة. وعند الحنفية: في خمسة مواضع هي: النكاح، والنسب، والموت، والولاء، وولاية القضاء. قال القُدُورِيُّ مع حاشيته: فإنَّه يسعه أنْ يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره مَنْ يثق به؛ لأَنَّ هذه الأمور تختص بمعاينة أسبابها الخواصُّ من النَّاس، ويتعلَّق بها أحكام تبقى القرون والأعوام، فلو لم يقبل فيها بالتسامع، لأدَّى إلى تعطيل الأحكام؛ وإنَّما يجوز للشَّاهد أنْ يشهد بالاشتهار إذا أخبره رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان؛ ليحصل له نوعٌ من العلم. 4 - استدل العلماء على وجوب التحقق من الشهادة بقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء]. ففي الآية الكريمة النَّهي أنْ يقول الإنسان ما لا يعلم؛ فإنَّ هذه الآلاء التي

أنعم الله عليه بها هي ابتلاء واختبار، فإن استعملها في الخير، استحق الثواب، وإن استعملها في الشرِّ، استحق العذاب. ومن ذلك: الشَّهادة إنْ كانت عن يقين، أو كانت عن ظنٍّ وكذب، والله أعلم. ***

1222 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (¬1). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِثْلُهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ *درجة الحديث: رواية أبي هريرة صحَّحها كُلٌّ من: ابن حبان، وأبي حاتمٍ، وأبي زرعة، وحسَّنها الترمذي، ولهذه الرواية طريقان آخران، قال الإمام أحمد: ليس في هذا الباب حديثٌ أصح منه. ورجاله رجال الصحيحين، وقال السيوطي والكتاني: إنَّه من المتواتر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد: إلى الحكم بالشَّاهد الواحد، ويمين المدَّعِي؛ فقد روى مسلم (1712) من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بشاهد ويمين". قال الشَّافعي: حديث ابن عباس ثابت، ومعه ما يشده. قال ابن القيم في الطرق الحكمية: وقد روي القضاء بالشَّاهد مع اليمين: ¬

_ (¬1) مسلم (1712)، أبو داود (3608)، النسائي في الكبرى (3/ 490). (¬2) أبو داود (3610)، الترمذي (1343)، ابن ماجة (2368).

عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسعد بن عبادة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثعلبة، وجماعةٍ من الصحابة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة: "اقض بالشَّاهد مع اليمين؛ فإنَّه سنَّة" [رواه الشَّافعي في الأم (6/ 255)]. 2 - وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه: إلى أنَّها لا تقبل شهادة واحدٍ ويمين في شيءٍ. قال الجصاص: إنَّ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يوجب بطلان القول بالشَّاهد واليمين، ولا يجوز الاقتصار على ما دون العدد المذكور؛ ففي تجويز أقل منه مخالفةٌ للكتاب، ولا يجوز إسقاط العدد؛ إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء أمرين: العدد، والعدالة، فغير جائز إسقاط واحدٍ منهما، وفي مضمون ذلك ما ينفي قبولَ يمين الطالب والحكمَ له بشاهد؛ لما فيه من الحكم بغير ما أمر الله به من الاحتياط والاستظهار، ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه أعظمُ الريب والشك، وأكبر التهمة؛ وذلك خلاف مقتضى الآية. وأما ابن القيم في الطرق الحكمية فقال: "روى الترمذي (1343)، وابن ماجه (2368)، وأبو داود (3610) من حديث أبي هريرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين والشاهد"، وفي مراسيل مالك: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد الواحد"، وذكر أبو الزناد بن عامر قال: "حضرت أبا بكر، وعمر، وعثمان، يقضون بشهادة الواحد، واليمين" [رواه الدارقطني (4/ 215)] وقضى به علي -رضي الله عنه- بالعراق". 3 - وقال ابن القيم أيضاً: قال الشَّافعي: اليمين والشَّاهد لا تتخالف مع ظاهر

القرآن شيئاً؛ لأنَّا نحكم بشاهدين، وشاهد وامرأتين، فإذا كان شاهد واحد حكمنا بشاهدٍ ويمين، وليس ذا يخالف القرآن؛ لأَنَّه لم يحرِّم أنْ يكون أقل ممَّا نصَّ عليه في كتابه، ورسولُ الله أعلم بمراد الله، وقد أمرنا الله أنْ نأخذ ما أتانا به. وقال ابن القيم: وليس في القرآن أنَّه لا يُحْكَمُ إلاَّ بشاهدين، أو شاهد وامرأتين؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى إنَّما أمر بذلك أصحاب الحقوق أنْ يحافظوا على حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحُكَّامَ أنْ يحكموا به، فضلاً عن أنْ يكون قد أمرهم أنْ لا يقضوا إلاَّ بذلك؛ ولهذا يحكم الحاكمُ بالنكولِ، واليمينِ المردودةِ، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهنَّ، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن، فإنْ كان الحكم بالشَّاهد مخالفاً لكتاب الله، فهذه أشد مخالفةً لكتاب الله منه، وإنْ لم تكن هذه الأشياء مخالفة للقرآن، فالحكم بالشَّاهد واليمين أولى ألاَّ يكون مخالفاً. فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيءٌ آخر، وليس بينهما تلازُمٌ، فتحفَظُ الحقوقُ بما لا يَحْكُمُ به الحاكم ممَّا يعلم صاحب الحق أنَّه يحفظ به حقَّه، ولا خطر على باله النكولُ، وردُّ يمين، وغير ذلك، ومن العجائب رد الشَّاهد واليمين، والحكمُ بمجرَّد النكول، الَّذي هو سكوت، ولا ينسب إلى ساكت قول. 4 - وإذا قضى بالشَّاهد واليمين، فالحكم بالشَّاهد وحده، واليمينُ تقوية وتوكيد، هذا منصوص أحمد، فلو رجع الشَّاهد، كان الضمان كله عليه. 5 - الَّذي يظهر من الأحاديث ومن التعليل والتحليل، والمقارنة بين القولين هو رجحان القول بقبول الشَّاهد مع اليمين في الحقوق المالية، والله أعلم.

باب الدعاوى والبينات

باب الدعاوى والبينات مقدمة الدَّعَاوَى: واحدها دَعْوَى، وهي إضافةُ الإنسان إلى نفسه استحقاقُ شيءٍ فى يد غيره، أو ذمَّته. والمدَّعِي: من يطلب غيره بحقٍّ يذْكُرُ استحقاقَهُ عليه، وإذا سكت عن الطلب، تُرِكَ. أمَّا البينات: فواحدها بينة، من أبان الشيء، أي: أوضحه، وهى العلامة الواضحة كالشَّاهد؛ هذا مذهب أحمد في البينة. وأمَّا ابن القيم: فلا يَقْصُرُ البينةَ على الشَّاهد، وإنَّما يرى أنَّ البينة اسمٌ لكلِّ ما يبيِّنُ الحقَّ ويُظْهِرُهُ، وَمَنْ خصَّها بالشَّاهدين، أو الأربعة، أو الشَّاهد، لم يُعْطِ مسمَّاها حقَّه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشَّاهدان، وإنَّما أتت مراداً بها الحجَّة، والدليل، والبرهان، مفردةً ومجموعة. والشَّاهدان من البينة، ولا ينفيان غيرهما من أنواع البينة، ممَّا قد يكون أقوى منهما؛ لدلالة الحال على صدق المدَّعي؛ فإنَّها أقوى من دلالة أخبار الشَّاهد، والبينة، والدَّلالة، والحجَّة، والبرهان، والعلامة، والأمارة، متقاربة فى المعنى. والشَّارعُ لم يُلْغِ القرائنَ، والأماراتِ، ودلالاتِ الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره، وموارده، وجده شاهداً لها بالاعتبار، مرتَّباً عليها الأحكام.

1223 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ، وأَمْوَالَهُمْ؛ وَلكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة البيهقي سندها صحيح؛ كما قال المصنِّف -رحمه الله- وحسَّنَهَا النووي في الأربعين، وكذلك حسَّنها ابن الصَّلاح، وقال ابن رجب: قد استدلَّ بهذا الحديث الإمام أحمد وأبو عبيد، وهما لم يستدلا به، إلاَّ أنَّه عندهما صحيح محتجٌّ به، ثمَّ قال ابن رجب: وفي معناه أحاديث كثيرة، ثمَّ سردها في شرح الأربعين. * مفردات الحديث: - البيِّنة: بانَ الأَمْرُ يَبينُ، فهو بَيِّن، من بان الشيء، أي: ظهر، فهي العلامة الواضحة. وشرعاً: اسمٌ لما يبيِّن الحقَّ ويظهره. - اليمين: تطلق لغةً على القوَّة، ومنه اليمين لليد. وشرعاً: توكيد المحلوف عليه بذكر معظَّمٍ على وجهٍ مخصوص، وسُمِّيت يميناً؛ لأَنَّ الحالف يعطي يمينه، ويضرب بها على يمين صاحبه. ¬

_ (¬1) البخاري (4552)، مسلم (1711)، البيهقي (10/ 252).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - يبين النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أنَّ من ادَّعَى على أحدٍ دعوى، فإنَّ عليه الإثبات والبينَةَ على دعواه، فإنْ لم يكن لديه بينةٌ، فعلى المدعى عليه اليمين -لنفي ما ادُّعِيَ- عليه به من حقٍّ. 2 - ثمَّ ذكر -صلى الله عليه وسلم- الحكمة في كون البينة على المدعي، واليمين على من المنكِر، وهي أنَّه لو أُعْطِيَ كُلُّ من ادَّعَى دعوى ما ادعاه، لادَّعَى كلُّ من لا يراقب الله تعالى على الأبرياء دماءً وأموالاً، يبهتونهم بها؛ ولكن الحكيم العليم جعل حدًّا وحكماً؛ لتخف وطأة الشر، ويقل الظلم والفساد. قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على أنَّه لا يجوز الحكم إلاَّ بالقانون الشرعي الذي رُتِّب، وإنْ غلب على الظنِّ صدق المدَّعِي. 3 - أنَّ اليمين على المدَّعى عليه، وأنَّ البينة على المدعي، كما في رواية البيهقي؛ وذلك أنَّ اليمين تكون في الجانب القوي من المترافعين، وجانب المدعى عليه بلا بينة من المدعي هو القوي؛ لأن الأصل براءة ذمته، فاكتفي منه باليمين. قال ابن القيم: الذي جاءت به الشريعة: أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيَيْن، فأي الخصمين ترجح جانبه، جعلت اليمين من جهته. وهذا مذهبُ جمهورِ العلماء؛ كأهل المدينة، وفقهاء المحدِّثين؛ كأحمد، والشَّافعي، ومالك، وغيرهم. 4 - البيِّنَة عند كثيرٍ من أهل العلم هي الشهود، والأيمان، والنكول. وهي عند المحقِّقين: اسمٌ لكلِّ ما أبان الحقَّ وأظهره، من الشهود، وقرائن الحال، وَوَصْفِ المدَّعي في نحو اللُّقَطَة. قال ابن رجب: كل عينٍ لم يدعها صاحب اليد، فمن جاء فوصفها بأوصافها الخفية، فهيَ له، فإنْ نازعه أحدٌ ما في يده، فهي لصاحب اليد

بيمينه، مالم يأت المدَّعي ببينةٍ أقوى من اليد. قال ابن القيم؛ البيِّنة في كلام الله تعالى، وكلام رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكلام الصحابة: اسمٌ لما يبيِّن الحق، فهي أعم من البيِّنة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشَّاهد أو الشَّاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمَّن حجر كلام الله، وكلام رسول -صلى الله عليه وسلم-، فيقع في ذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلِّم منها. 5 - حديث الباب قاعدةٌ عظمى من قواعد القضاء؛ فعليها يدور غالب الأحكام. 6 - هذا حديثٌ عظيم القدر، فهو أصلٌ من أصول القضاء والأحكام؛ فإنَّ القضاء بين النَّاس إنَّما يكون عند التنازع، هذا يدَّعي على هذا حقًّا من الحقوق، والآخر ينكره ويتبرَّأ منه. 7 - من ادَّعى عيناً، أو ديناً، أو حقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه الدعوى، فالأصل مع المنكِر؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمة. فإنْ أتى المدَّعي ببينةٍ تثبت ذلك الحقَّ، ثبت له به، وإنْ لم يأتِ ببينةٍ، فليس له على المدَّعَى عليه إلاَّ اليمينُ على نفي دعواه. 8 - الحديث يدل على مذهب جمهور العلماء، ومنهم الشَّافعية، والحنابلة: على أنَّ اليمين متوجِّهةٌ على المدعى عليه، سواءٌ كان بينه وبين المدَّعي اختلاطٌ، أم لا. أمَّا مذهب المالكية، وأهل المدينة، ومنهم الفقهاء السبعة: فإنَّ اليمين لا تتوجَّه إلاَّ على من بينه وبين المدَّعِي خلطة؛ لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم. 9 - أمَّا من كان عليه دينٌ، أو حقٌّ ثابتٌ بذمته، وطولب به، فادَّعى أنَّ ذمته برئت بوفاءٍ، أو إسقاطٍ، أو صلحٍ، أو غير ذلك، فالأصل أنَّ ما في ذمته باقٍ، فإنْ لم يأت ببينةٍ على الوفاء والبراءة، فإنَّ له على صاحب الحقِّ اليمينَ على أنَّ

حقَّه لا يزال باقياً بذمته؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان. 10 - ومثل ذلك دعوى العيوب، ودعوى الشروط، والآجال، والوثائق، الأصلُ عدَمُهَا، وَعَدَمُ الالتزامِ بها، ومن ادَّعاها فعليه البينةُ، فإنْ لم يكنْ بينةٌ، فعلى منكرها اليمين. 11 - فهذا الحديثُ أصلُ المرافعات، والمنهجُ الَّذي رَسَمَتْهُ هذه القاعدةُ في إنهاءِ الدَّعوى، هو سبيلُ فصلٍ في منع الدَّعاوى الباطلة، وإثباتِ الحقوق الصحيحة. 12 - قال المحقِّقون من العلماء: إنَّ الشريعة جعلت اليمين في أقوى جانبٍ من المدَّعي، أو المدعى عليه، والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ البينة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر. 13 - قال ابن رجب في شرح الأربعين: معنى قوله: "البينة على المدَّعي" يعني: أنَّه يَسْتَحق بها ما ادَّعَى؛ لأَنَّها واجبة يؤخذ بها. ومعنى قوله: "اليمين على المدَّعى عليه" أي: يبرأ بها؛ لأَنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها على كلِّ حالٍ. 14 - وقال رحمه الله تعالى: المدعي إذا أقام شاهداً، فإنَّه قد قَوِيَ جانبه، فإذا حلف معهُ قُضِيَ له. 15 - وقال: البينة كل ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي، وشهد بصدقه، فاللوث مع أقسامه بيِّنة، والشاهد مع اليمين بينة. 16 - وقال: قوله: "لو يعطى النَّاس بدعواهم ... " يدل على أنَّ مدَّعي الدَّم والمال لابدَّ له من بينة تدل على ما ادَّعاه، ويدخل في عموم ذلك: أنَّ من ادَّعى عليه رجل أنَّه قتل مورِّثه، وليس معه إلاَّ قول المقتول عند موته: جرحني فلان، أنَّه لا يكتفي بذلك، ولا يكون بمجرَّده لوثاً؛ وهذا قول الجمهور.

خلافاً للمالكية، فإنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياء، ويُسْتَحَقُّ الدم. 17 - وقال: قوله: "واليمين على المدَّعى عليه" يدل على أنَّ كلَّ من دُعِيَ عليه دعوى، فأنكر، فإنَّ عليه اليمين؛ وهذا قول أكثر الفقهاء. وقال مالك: إنَّما تجب اليمين على المنكر، إذا كان بين المتداعيَيْنِ نوع مخالطة؛ خوفاً من أنْ يبتذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم. قال شيخ الإسلام: كنا عند نائب السلطنة وأنا إلى جانبه، فادَّعى بعض الحاضرين أنَّ له قِبَلِي وديعةً، وسأل إجلاسي معه وإحلافي، فقلت لقاضي المالكيَّة، وكان حاضراً: أتسوغ هذه الدعوى، وتسمع؟ فقال: لا، فقلت: فما مذهبُك في مثل ذلك؟ فقال: تعزير المدَّعي، قلت: فاحكم بمذهبك، فأقيمَ المدَّعِي، وأُخرج. 18 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر"؛ ياله من كلام ما أبلغه، وأجمعه لجميع الوقائع والجزئيات بين النَّاس في جميع الحقوق؛ فهو أصلٌ تنطبق عليه جميع المشكلات. فيدخل في هذا أمور: الأوَّل: من ادَّعى حَقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه. الثاني: من ثبت عليه حقٌّ، ثمَّ ادَّعى البراءةَ منه، وأنكر صاحب الحق. الثالث: من ثبتت يده على شيءٍ، وادَّعى آخر أنَّه له، وأنكر صاحب اليد. الرَّابع: إذا اتفقا على عقد، وادَّعى أحدهما أنَّه مختلٌّ لفقد شرط ونحوه، وأنكر الآخر، فالقول قول مدَّعِي السَّلامة. الخامس: من ادَّعى شرطاً، أو عيباً، أو أجلاً، ونحو ذلك، وأنكر الآخر، فالقول قول المنكر. إلى غير ذلك من الأمور التي تدخل تحت هذه القاعدة.

1224 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ اليَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ في اليَمِينِ، أَيُّهُمْ يَحْلِفُ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عَرَضَ: يَعْرِضُ عرضاً، من باب ضرب، ومعناه هنا: أظهر لهم اليمين؛ لِيُقْدِموا على الحلف أو يَدَعُوا. - يسهم: أسم يسهم إسهاماً، أي: أقرَعَ بينهم، والسهم: هو الحظ والنصيب، جمعه أسهُمٌ وسُهْمَان. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث ما رواه أبو داود (3616)، والنسائي في الكبرى (3/ 487) من طريق أبي رافعٍ، عن أبي هريرة؛ أنَّ رجلين اختصما في متاعٍ ليس معهما بينة، فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها". قال الخطابي: معنى استهما هنا: الاقتراع، فيقترعان، فأيهما خرجت له القرعة، حلف، وأخذ المدَّعَى به. 2 - قال في شرح الإقناع في باب اللقطة: فإنْ وصف اللقطة اثنان فأكثر معاً، أو وصفها الثاني بعد الأوَّل؛ لكن قبل دفعها إلى الأوَّل -أُقرع بينهما. أو أقاما بينتين باللقطة أُقرع بينهما؛ لأنَّه لا مزية لأحدهما على الآخر، فَمَنْ قَرَعَ -أي: خرجت له القرعة- حلف أنَّ اللقطة له، لاحتمال صدق صاحبه، وَأَخذَهَا؛ لأنَّ ذلك فائدة القرعة. ¬

_ (¬1) البخاري (2674).

3 - أمَّا إنْ وصفها إنسانٌ بعد دفعها لمن وصفها أوَّلاً، فلا شيء للواصف الثاني؛ لأنَّ الأوَّل استحقها بوصفه إياها، مع عدم المنازع له، فوجب بقاؤها له؛ كسائر ماله. ***

1225 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الحَارِثِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يسِيراً يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ! " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قضيباً: الغُصْنُ من الشجرة. - أراك: بفتح الهمزة، قال في لسان العرب: شجرٌ معروف، وهو شجر السواك، يُسْتَاكُ بفروعه. وقال في الوسيط: الأراك واحدته أراكة، نباتٌ شُجَيْرِيّ من الفصيلة الأراكية، كثير الفروع، خوَّار العود، ينبت في البلاد الحارَّة. ... ¬

_ (¬1) مسلم (137).

1226 - وعَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ علَى يَمِينٍ يَقْتَطعُ بِهَا مالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيْهَا فَاجِرٌ -لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فاجر: الفاجر: العاصي المصرُّ على المعاصي، غير مكترثٍ بأحد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذين الحديثين وعيدٌ شديدٌ لمن اقتطع مال امرىءٍ بغير حقٍّ، وإنَّمَا اقتطعه بخصومته الفاجرة، ويمينه الكاذبة الآثمة، فهذا يلقى الله وهو عليه غضبان، ومَن غَضِب الله عليه، فهو هالك. 2 - تحريم أخذ أموال النَّاس وحقوقهم، بالدَّعاوى الفاجرة، والأيمان الكاذبة، فهو من كبار الذنوب؛ لأَنَّ ما ترتَّب عليه غضب الحليم -جلَّ وعلا- فهو كبيرة. 3 - تقييده بالمسلم من باب التعبير بالغالب، وإلاَّ فمثله مالُ وحَقُّ المعصوم الذمي، والمعاهَد. هذا ما لم يتحلَّل ممَّن ظلمه، فإنْ فعل، فالتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها بالإجماع. 4 - قوله: "هو فيها فاجر" ليخرج النَّاسي والجاهل؛ فإنَّ العقاب لا يستحقه إلاَّ العامد. 5 - إثبات صفة الغضب لله تعالى، إثباتاً حقيقيًّا يليق بجلاله؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى] ¬

_ (¬1) البخاري (2676)، مسلم (138).

6 - أنَّ أموال النَّاس حرامٌ قليلها وكثيرها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنْ كان قضيباً من أراك" يريد بذلك الشيء الحقير؛ فكيف يكون ذلك بدمائهم، وأعراضهم، وسائر حقوقهم؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- في حجَّة الوداع: "إنَّ دماءكم، وأعراضكم، وأموالكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت" [رواه البخاري (1741) ومسلم (1679)]. 7 - قوله: "حرم عليه الجنَّة" أجمع السلف على أنَّ فاعل الكبيرة ليس كافراً ولا خارجاً من الملَّة، وأنَّه -وإنْ عُذِّبَ على ذنوبه- فلن يخلد بالنَّار؛ ولذا فسَّروا مثل هذا الحديث بعدَّة تفاسير: فبعضهم قال: من فعل ذلك مستحلاًّ له. وبعضهم قال: إنَّ مثل هذه الأحاديث لا يقصد منها معناها الظَّاهر، وإنَّما قصد بها التخويف والزجر، فتبقى على المراد منها. وبعضهم قال: هذا من النصوص التي تُمَرُّ كما جاءت بلا تفسير. أمَّا شيخ الإسلام: فيرى أنَّ الإنسان فيه موجبات العذاب، وموجبات الغفران، فهذا يدفع الآخر، فعمله هذا سبب لدخوله النَّار، ولكن ما معه من الإيمان يمنعه من الخلود فيها. 8 - وفي الحديث: أنَّ صفة البشرية للنَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم تغيرها النبوة والرِّسالة؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]. وقال هو عليه الصَّلاة والسَّلام: "إنَّما أنا بشر" [رواه البخاري (401)، ومسلم (572)]. وبهذا فإنَّه -كما جاء في هذا الحديث- لا يدرك من الأمور إلاَّ ظواهرها، إلاَّ أن تقتضي الحكمة اطِّلاعه على أمور من الغيب، وإلاَّ فالأصل فيه عدمه؛ قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].

1227 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَابَّةٍ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: الحديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدِّه أبي موسى. قال النسائي: إسناده جيد. قال المصنف: إسناده جيد، ووثَّق المنذري إسناده. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العين المتنازع عليها لا تخلو من أحوال: أحدها: أنْ لا تكون العين بيد واحدٍ من المتداعِيَيْنِ، وليس لديهما بينة، ولا ظاهرة فحينئذٍ يحلف كل واحدٍ منهما أنَّها له ولا حقَّ للآخر فيها، فإذا تحالفا، قسمت بينهما نصفين، كما في حديث الباب. الثاني: أنْ تكون العين بيد أحدهما، وليس لدى المدَّعي بينة، فهي لصاحب اليد بيمينه، فإنْ كان لدى كلِّ واحدٍ منهما بينة أنَّها له، ففي المسألة قولان لأَهل العلم: ¬

_ (¬1) أحمد (4/ 402)، أبو داود (3613)، النسائي في الكبرى (3/ 487).

ذهب الإمام أحمد: إلى تقديم بينة المدَّعَي، ويسمونه "الخارج"، وإلغاء بينة المدَّعى عليه صاحب اليد، ويسمونه "الدَّاخل". قال في الروض المربع وغيره: وإنْ أقام كلٌّ منهما بينةً أنَّ العين المدَّعى بها له، قُضِيَ بها للخارج ببينته، ولغت بينة الدَّاخل؛ لحديث ابن عبَّاس: "لو يُعطى النَّاس ... ولكن اليمين على المدعى عليه" [رواه البخاري (4552) ومسلم (1711)]؛ فجعل جنس البينة في جانب المدعي، فلا يبقى في جانب المدعى عليه إلاَّ اليمين. وهذه الرواية هي المشهورة في مذهت الإمام أحمد، وهي من المفردات. 2 - وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: إلى تقديم بينة الدَّاخل، وهو الَّذي العين بيده. قال شيخ الإسلام: وأمَّا حديث "البينة على من إدَّعى، واليمين على من أنكر"، فما قال بعمومه أحد من علماء الملَّة إلاَّ أهل الكوفة، الَّذين يرون أنَّ اليمين دائماً في جانب المنكر حتَّى القسامة، وأمَّا سائر علماء الملَّة، وفقهاء الحديث، وغيرهم: فتارةً يحلِّفون المدَّعي، وتارةً يحلِّفون المدَّعى عليه، والأصل عندهم: أنَّ اليمين مشروعة في أقوى الجانبين، والبينة عندهم اسمٌ لما يبيِّن الحق. قال في شرح المفردات: وقال أكثر أهل العلم: تقدَّم بينة المدعى عليه بكلِّ حال؛ لأنَّ جانبه أقوى، لأنَّ معه الأصل، ويمينه تقدَّم على يمين المدَّعي. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الَّذي يظهر لي، ويترجَّح عندي، هو تقديم بينة الدَّاخل؛ لما روى الدَّارقطني (4/ 209) عن جابر -رضي الله عنه- "أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- اختصم إليه رجلان في دابَّه أو بعيرٍ، فأقام كل واحد منهما

البينة أنَّه أنتجها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي هي في يده"، ولأَنَّ الأصل معه، وجانبه أقوى، ويمينه تقدم على يمين المدَّعي. فإذا تعارضت البينات، وجب إبقاء يده على ما فيها، وتقديمه؛ كما لو لم تكن بينة لواحدٍ منهما، وهذا هو المفتى به عند إمام الدَّعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو قول الأئمة الثلاثة، وأهل المدينة. ***

1228 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الحافظ في الفتح: حديث جابر أخرجه -أيضاً- مالك، وأبو داود، والنسائي، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي. قال الشوكاني: ورجال إسناده عند ابن ماجة كلهم ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة مرفوعاً عند النسائي في الكبرى (3/ 492) بإسناد رجاله ثقات، بلفظ: "من حلف عند منبري هذا، يميناً كاذبَةً يستحل بها مال امرىءٍ مسلم، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرْفاً، وَلاَ عَدْلاً". وللحديث شاهدٌ عن أبي هريرة: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي. * مفردات الحديث: - منبري: يُقال: نَبَرَ الشيءَ يَنْبُره نبراً، أيِّ: رفعه، والمنبر: مكان مرتفع في الجامع يقف فيه الخطيب أو الواعظ، يكلَّم منه الجمع. سُمِّيَ بِذلك؛ لارتفاعه عمَّا حوله، وكسرت ميمه على التشبيه بالآلة، جمعه منابر. - تبوأ: باء يبوء بوءاً، وباء في المكان: تبوأه، أي: اتخذه محلَّة، وأقام به. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 344)، أبو داود (3246)، النسائي في الكبرى (7/ 487)، ابن حبان (1192).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يفيد تحريم اليمين الكاذبة، وتغليظ أمرها، وعظيم خطرها، لاسيما إذا أديت في مكانٍ فاضل، كمنبر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أو زمان فاضل. 2 - من حلف هذه اليمين العظيمة وهو كاذب، لاسيما إذا قطع بها مال امرىءٍ معصومٍ، فقد ارتكب ذنباً من أشد الذنوب، وتجرَّأ على أمرٍ كبير من أفحش الأمور، فكان جزاؤه أنْ يتبوَّأ ويتخذ له منزلاً ومسكناً من النَّار، بدل أنْ تبوَّأ منبر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فحلف عليه كاذباً، ولم يَرْعَ حرمته وقداسته. 3 - صفة تغليظ اليمين في اللفظ أنْ يقول: "والله الَّذي لا إله إلاَّ هو، عالمِ الغيب والشَّهادة، الرحمنِ الرحيم، الغالب الطالب، الضارِّ النَّافع، الَّذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور". وتغليظها في الزمان: بعد العصر. وتغلظها في المكان في مكَّة: بين الركن والمقام. وفي المدينة: عند منبر النَّبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي سائر البلاد: عند المنبر. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في مشروعية تغليظ اليمين: فذهب جمهور العلماء: إلى وجوب تغليظ اليمين في الدَّعاوى التي لها خطر، إذا طلبها مَنْ توجَّهَتْ له اليمين. وذهب الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وأصحابهما: إلى عدم وجوب التلغيظ، وأنَّ أمر هذا راجعٌ للحاكم. قال في الروض المربع وحاشيته: ولا تغلظ اليمين إلاَّ فيما له خطر، كجناية لا توجب قوداً، وعتق، ونصاب زكاة؛ فللحاكم تغليظها، وإنْ أبى الحالف التعليظ، لم يكن ناكلاً في ذلك إجماعاً.

1229 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاَةِ، يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدِ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا، فإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ثلاثة: أي: ثلاثة أشخاص، رفعت "ثلاثة" بالضم على أنَّها مُبتدأ، وقوله: "لا يكلِّمهم الله يوم القيامة" خبره. - لا يزكِّيهم: أي: لا يطهِّرهم من الذنوب، ولا يُثْنِي عليهم. - رجل: مرفوع؛ لأَنَّه عطف بيان. - على فضل ماء: متعلِّق بمحذوف، في محلِّ رفعِ صفةٍ لرجل. - الفلاة: الأرض الواسعة المقفرة، جمعها فَلاً، وفلوات. - ابن السبيل: السبيل: الطريق، ويراد به المسافر، وسمي ابن السبيل؛ لملازمته له. - سِلْعة: بكسر السِّين، وسكون الَّلام: كل ما يُتَّجَرُ به من البضاعة، جمعه سلع. ¬

_ (¬1) البخاري (7212)، مسلم (108).

- بايع إماماً: المراد به الإمامُ الأعظم. - فإنْ أعطاه: الفاء تفسيرية، تفسِّر مبايعته للإمام من أجل الدنيا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه وعيدٌ شديدٌ، وتهديدٌ أكيد، وذلك بأنَّ الله لا يكلمُ هؤلاءِ الأصنافَ الثَّلاثةَ بما يحبُّونه ويتمنَّوْنَهُ، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يزكِّيهم بالمغفرة. هؤلاء الأصناف الثلاثة هم: الأوَّل: رجلٌ نازلٌ بفلاةٍ على ماءٍ لا يوجد غير مائه في تلك الفلاة، فيمنع النَّاسَ من ذلك الماء، ليس لضرورته الخاصَّة به، وإنَّما ليحمي به كلأ تلك الأرض؛ ليختص به من دون بقية النَّاس، وقد جاء في البخاري (2227)، ومسلم (1566) من حديث أبي هريرة عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا فضل الماء؛ لتمنعوا به الكلأ". الثاني: المُنْفِقُ سلعته باليمين المغلَّظة الكاذبة ممَّن يحلف بالله بعد العصر -وهو زمن التغليظ- أنَّه قد اشتراها بكذا، وهو كاذب؛ ليغر ويغش المشتري، فيشتري منه بزيادة عن قيمتها الحقيقية، فيصدِّقه المشتري، ويشتري منه بقدر ما حلف عليه، أو أكثر. فهذا جمع بين الكذب، وبين الحلف بالله تعالى وهو كاذب، وبين الحلف في زمنٍ فاضل، وبين خدعه المشتري، وبين أكله المالَ بالباطل. الثالث: من بَايَعَ إماماً على الولاية العامَّة، لم يبايعه لأجل مقاصد الإمامة: من إقامة شعائر الله تعالى، وإقامة حدوده، ونصرة الإسلام، والنصح للرعية، لم يبايعه لذلك، وإنَّما بايعه لطمع الدنيا؛ ليعطيه منها؛ ولذا فإنَّ هذا المبايع في مبايعته إنْ حصل له مطلوبه بالعطاء والمِنَح، رَضِيَ ووفَى ببيعته، وإنْ لم يعطه منها، لم يَفِ، ولم يراقب مقام الولاية، ووجوب السمع والطَّاعة عليه فيها،

وقد قال تعالى عن هؤلاء: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة]. 2 - الشَّاهد من هذا الحديث هو اليمين الكاذبة، لاسيَّما وقد جمعت الخداع، والتغرير لأكل أموال النَّاس بالباطل، فكان جزاء صاحبها شديداً، فهو ممَّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة نظرةَ رحمة، ولا يكلِّمه كلامَ بر، ولا يزكِّيه ولا يطهِّره من ذنوبه بالمغفرة؛ فإنَّ له عذاباً أليماً، جزاءً وفاقاً، نسأل الله تعالى العافية والمعافاة. 3 - وفي الحديث: إثباتُ عذابِ الآخرة، وشدَّته، وألمه. 4 - وفيه تحريم الأوصاف الثلاثة المذكورة: من منع النَّاس من الماء؛ لمنع الكلأ، والحلف الكاذب، لترويج السلع، وغش النَّاس، ويدخل في ذلك -وإنْ لم يكن يميناً- الدَّعايات الكاذبة في وسائل الإعلام؛ لترويج السلع، وغش النَّاس بها. 5 - كما أنَّ في الحديث تحريمَ مبايعة الولاة وموالاتِهِمْ لأجل الدنيا، وتحريم معاداتهم والكلام السيِّىء فيهم؛ لأجل حرمانه من الدنيا وعطاياها. فإنَّ مناصحتهم، والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد، والسكوت عن قالة السوء فيهم: هو واجب المسلمين نحوهم. ***

1230 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نُتِجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَن هِىَ فِي يَدِهِ". رَوَاهُ الدَّاَرقُطْنُّيِ، وَفِي إِسْنَادهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص: رواه الدَّارقطني، والبيهقي، من حديث جابر، وإسناده ضعيف؛ لأَنَّ فيه يزيد بن نعيم، قال ابن القطان: لا تعرف حاله. * مفردات الحديث: - نُتِجَت: نتج الرَّاعي النَّاقة ينتجها نتجاً: وَلِيَ أمرها حتَّى وضعته، فالنَّاقة منتوجة؛ والولد نتيجة، والأصل في الفعل: أنْ يتعدَّى إلى مفعولين، وربما بني الفعل للمجهول؛ فيقال: نُتِجَت النَّاقةُ ولداً، ويجوز حذف المفعول الثَّاني، كما في هذا الحديث. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على ما سبق تحقيقه في الحديث رقم (1227) من أنَّ العين المتنازع عليها إذا كانت في يد أحدهما دون الآخر، فالَّذي هي في يده يسمَّى داخلاً، والآخر يسمَّى خارجاً. فإنْ كان لدى الخارج بينةٌ على صحَّة دعواه، استحقها وأخذها، وإنْ لم ¬

_ (¬1) الدَّارقنطي (4/ 209).

يكن له بينة، فإنَّه يحلف له الدَّاخل على صفة دعواه، وتكون العين للدَّاخل؛ لقوَّة يده عليها. 2 - أمَّا إنْ أقام كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنَّها له -كما في هذا الحديث- فقد اختلف العلماء فيمن تقدَّم بينته، وتكون العين له: فمذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: أنَّها للدَّاخل، وهو صاحب اليد؛ وذلك عملاً بما يلي: - حديث الباب. - أنَّ الدَّاخل عنده زيادة على بينته؛ لأَنَّ يده على العين. - جنبه أقوَى من الآخر. 3 - أمَّا تقديم بينة الخارج، فهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو من مفرداته. 4 - ولكن القول الأوَّل -قول الجمهور- أرجح؛ ولذا اختاره جمعٌ من علمائنا، منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز ابن باز مفتيا الدِّيار السعودية سابقاً، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي أحد علماء الدِّيار السعودية وصاحب المؤلَّفات النَّافعة، والله أعلم. ***

1231 - وعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ اليَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في التلخيص: رواه الدَّارقطني، والحاكم، والبيهقي، وفيه محمد بن مسروق لا يعرف، وفيه إسحاق بن الفرات مختَلَفٌ فيه. قال البيهقي: والاعتماد في هذا -يعني رد اليمين- على حديث القسامة، وهو حديثٌ صحيح، ثمَّ ساق الروايات في القسامة، وفيها رد اليمين قال: فهذه الأحاديث هي المعتمدة في ردِّ اليمين على المدَّعِي إذا لم يحلف المدَّعَى عليه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إذا ادَّعى المدَّعي شيئاً، وأنكر المدَّعَى عليه تلك الدعوى، وليس عند المدَّعِي بينةً تثبت دعواه، فإنَّ له اليمينَ على المدَّعَى عليه على نفي الدَّعوَى، فإنْ نَكَلَ عن اليمين، فهل يحكم عليه بالنكولِ وحده، أو يحكم به مع ردِّ اليمين على المدَّعِي فيحلف على صحَّة دعواه ويحكم له بما ادَّعاه؟ فيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أنَّه يحكم على النَّاكل بدون رد اليمين على المدَّعي؛ وهذا مذهب الإمامين: أبي حنيفة، وأحمد، وأصحابهما. قال في شرح الإقناع: وإنْ لم يحلف المدَّعَى عليه، قال له الحاكم: إنْ ¬

_ (¬1) الدَّارقطني (4/ 213).

حلفت، وإلاَّ قضيت عليك بالنكول، ويستحب أنْ يقول ذلك ثلاثاً؛ لمعذرته، ولا تردُّ اليمين على المدَّعي. الثاني: وذهب الإمامان: مالك، والشَّافعي هُوَ رَدُّ اليمينِ على المدَّعِي، فإنْ حلف، قُضِيَ له؛ وهو قول علي بن أبي طالب، وشُرَيّح، وابن سيرين، والأوزاعي، والنخعي، واختاره أبو الخطَّاب، وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم. قال ابن القيم: واحتج بهذا القول بأنَّ الشَّارع شرع اليمين مع الشَّاهد الواحد، ونكول المدعَى عليه أضعفُ من شاهد المدَّعي، فهو أولى أنْ يقدَّم بيمين الطَّالب؛ فإنَّ النكول ليس بينة من المدَّعى عليه، ولا إقراراً، وهو حجَّةٌ ضعيفة، فلم يَقْوَ على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معها المدَّعِي، قوي جانبه، فاجتمع النكول من المدَّعَى عليه، واليمينُ من المدَّعِي، فقاما مقام الشَّاهدين، أو الشَّاهد واليمين. 2 - وقال أيضاً: والصحيح أنَّ النكول يقوم مقام الشَّاهد والبينة، لا مقام الإقرار، ولا البذل؛ لأَنَّ النَّاكل صرَّح بالإنكار، وأنَّه لا يستحق المدَّعى به، وهو مصرٌّ على ذلك، متورِّعٌ عن اليمين، فكيف يقال: إنَّه مقرٌّ مع إصراره على الإنكار، ويجعل مكذِّباً لنفسه. ***

1232 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "دَخَلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُوراً تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِةِ، فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ المُدْلِجِيِّ، نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ!! " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مسروراً: فرحاً، باديةً أسارير وجهه؛ من الغبطة، والفرح، والسرور. - تَبْرُق: بضم الرَّاءِ: تلمع، وتضيء، وتنير من الفرح. - أسارير وجهه: جمع أسرار، والأسرار جمع سِرًّ أو سَرَرٍ، وهو الخط في باطن الكف، وأريد بها هنا الخطوطُ التي في الجبهة. - مُجَزِّز المدلجي: بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر الزَّاي الأولى مشتدَّة، علىِ صيغة اسم الفاعل، وبنو مدلج قبيلةٌ من قبائل كنانة من العدنانية مضرية، عُرِفَتْ بعِلْمِ القيافة، والقائف: هو من يتتبَّعُ الآثار، ويعرف بها شَبَهَ الرجل بأخيه وأبيه، والجمع قافة. - أسامة بن زيد: بن حارثة، من كلبا بن وبرة، من شعب قضاعة، كان زيد أبيض اللون، وابنه أُسامة أسمر، وكان النَّاس يرتابون فيهما، وكان هذا يؤذي النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فسُرَّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لشهادة هذا القائف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - كان زيد بن حارثة أبيض اللون، وكان ابنه أسامة أسمر، وكان النَّاس -من ¬

_ (¬1) البخاري (6770)، مسلم (1459).

أجل اختلاف لونيهما- يرتابون فيهما، ويتكلَّمون في صحَّة نسبة أسامة إلى أبيه، ممَّا كان يُؤْذِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2 - مرَّ عليهما مُجَزِّز المدلجي "القائف"، وهما قد غطيا رأسيهما في قطيفة، وقد بدت أرجلهما، فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض، لما رأى بينهم من الشبه، وكان هذا على مسمعٍ من النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فسُرَّ بذلك سروراً كثيراً. 3 - دخل -صلى الله عليه وسلم- على عائشة، وأسارير وجهه تبرق فرحاً واستبشاراً؛ للاطمئنان إلى تأييدِ نَسَبِ أسامة إلى أبيه، ودحض كلامِ الَّذين يُطْلِقُون ألسنتهم في أعراض النَّاسِ بلا علم. 4 - فالحديث يدل على صحَّة العمل بقول القافة، واعتبارِهِمْ في صحَّة النسب، مع عدم ما هو أقوى منها؛ كالفراش؛ وهذا قول الأئمة الثلاثة؛ استدلالاً بهذا الحديث. وهذا هو الشَّاهد من الحديث في هذا الباب. 5 - يكفي قائفٌ واحد، ولكن اشترط العلماء فيه أنْ يكون عدلاً مجرَّباً في الإصابة، وهذا حقٌّ؛ فإنَّه لا يقبل الخبر، ولا ينفذ الحكم، إلاَّ ممَّن اتصف بهذين الوصفَيْن. 6 - تشوف الشَّارع الحكيم إلى صحَّة الأنساب، وإلحاقها بأصولها، وعدم إضاعتها. 7 - الفرح والاستبشار بالأخبار السَّارَّة وإشاعتها، خصوصاً ما فيه إزالة شبهة أو قولِ سوء. 8 - اعتبار تأثير الوراثة بين الأصول والفروع شرعاً، وعرفاً، وعلماً. 9 - ظن الفقهاء أنَّ القائف يلحق الولد بأكثر من أب، لكن أثبت الطب الحديث أنَّ بيضة الأنثى لا يلحقها إلاَّ حيوان منويٍّ واحد، وأنَّه لا يمكن من حيوانين اثنين.

قال الدكتور محمد علي البار: ممَّا لدينا من عِلْمِ الأجنَّة نرى استحالة ذلك، لأنَّ البيضة إنَّما تلقَّح بحيوان منوي واحد، وإذا تلقَّحت، لا يمكن تلقيحها مرَّة أخرى بوطءٍ ثان؛ وهذا ما ذهب إليه من علماء الشريعة: الشَّافعي، وابن القيم، رحمهما الله تعالى. ... انتهى كتاب القضاء

كتاب العتق

كتاب العِتْق مقدمة العتق: بكسر العين، وسكون التَّاء، يُقال: عَتَقَ العبدُ -من باب ضرب- عَتْقاً وعِتَاقاً وَعَتَاقَة، فهو عتيق. والعتق لغة: الخلوصُ والحريَّة، والخروجُ من الملكية. قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عَتَقَ الفرسُ: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: طار واستقل؛ لأنَّ العبد يتخلَّص بالعتق ويذهب حيث شاء، فصارت المادَّة تعبِّر عن الكرم، وما يتصل به، فيقال: فرس عتيق رائع، وعِتَاقُ الطير: كرائمها. وشرعاً: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وتثبيتُ الحرية لها. والأصل فيه الكتاب، والسنَّة، والإجماع: فأمَّا الكتاب: فمثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. وأمَّا السنَّة: فكثيرةٌ جدًّا؛ ومنها ما جاء في البخاري (6715) ومسلم (1509) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكلِّ عضوٍ منه عضواً منه من النَّار، حتَّى فرجه بفرجه". وأحاديث الباب الآتية. وأجمعت الأمَّة على صحَّة العتق، وحصولِ القربة به. وهنا مبحثان:

أحدهما: في فضله. والثانى: في موقف الإسلام من الرِّق والعتق. أمَّا فضله: فيكفيك فيه هذا الحديث الصحيح، وهو ما رواه الترمذي (1547) عن أبي أمامة وغيره من الصحابة، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرىءٍ مسلمٍ أعتق امْرَأً مسلماً، كان فكاكه من النَّار". والأحاديث والآثار الحاثَّة على فضل العتق والترغيب فيه كثيرة. وقد جعله الله تعالى أوَّل المكفِّرات؛ لما فيه من محو الذنوب، وتكفير الخطايا والآثام، والأجر العظيم، بقدر ما يترتَّب عليه من الإحسان. وليس إحسانٌ أَعظَمَ من فكاك المسلم من غلِّ الرِّق، وقيد الملك، فبعتقه تكمل إنسانيته، بعد أنْ كان كالبهيمة فى تصريفها وتدبيرها. فمن أعتق رقبةً، فقد فاز بثواب الله، والله عنده حسن الثواب. المبحث الثاني: عاب بعض أعداء الدِّين الإسلامي إقرار الشريعة الإسلامية الرق الَّذي هو -في نظرهم- من الأعمال الهمجية جملة. لذا نحب أنْ نُبيِّنَ حال الرِّقِّ في الإسلام وغيره، ونبين موقف الإسلام منه بشيءٍ من الاختصار؛ لأَنَّ المقام لم يخصَّص لمثل هذه البحوث. فالإسلام لم يختص بالرقِّ، بل كان منتشراً في جميع أقطار الأرض. فهو عند الفرس، والروم، والبابليين، واليونان وأقرَّه أساطينهم من أمثال أفلاطون، وأرسطو. وللرِّقِّ -عندهم- أسبابٌ متعدِّدة في الحرب، والسبي، والخطف، واللصوصية، بل يبيع أحدهم من تحت يده من الأولاد، وبعضهم يعدُّون الفلاحين أرقاء، وكانوا ينظرون إلى الأرقاء بعين الاحتقار والازدراء؛ فكانوا يمتهنونهم في الأعمال القذرة، والأعمال الشَّاقة. فـ"أرسطو" من الأقدمين يرى أنَّهم غير مخلَّدين، لا في عذابٍ، ولا في

نعيم، بل هم كالحيوانات. والفراعنة استعبدوا بنى إسرائيل أشنع استعباد حتَّى قتلوا أبناءَهُمْ، واستَحْيَوْا نساءهم. والأوربيون -بعد أنْ اكتشفوا أمريكا- عاملوا الأمريكيين أسوأ معاملة. هذا هو الرِّق بأسبابه وآثاره وكثرته في غير الإسلام. ولم نأتِ إلاَّ بالقليل من شنائعه عندهم. فلننظر في الرق في الإسلام: أولاً: إن الإسلام ضيَّق مورد الرِّق؛ إذ جعل النَّاس كلهم أحراراً، لا يطرأ عليهم الرِّق إلاَّ بسببٍ واحدٍ، وهو أنْ يؤسروا وهم كفَّار مقاتلون، مع أنَّ الواجب على القائد أنْ يختار في المقاتلة من رجالهم الأصلح من الرق، أو الفداء، أو الإطلاق بلا فداء، حسب المصلحة العامَّة. فهذا هو السبب وحده في الرق، وهو سبب كما جاء في النقل الصحيح،؛ فإنَّه يوافق العقل الصحيح أيضاً: فإنَّ من وقف في سبيل عقيدتي ودعوتي، وأراد الحدَّ من حريتي، وألَّب علىَّ، وحاربني، فجزاؤه أنْ أمسكه عندي ليفسح المجال أمامي وأمام دعوتي. هذا هو سبب الرِّق في الإسلام، لا النهب، والسلب، وبيع الأحرار، واستعبادهم؛ كما هو عند الأمم الأخرى. ثانياً: إنَّ الإسلام رفَقَ بالرقيق، وَعَطَفَ عليهم، وتوعَّد على تكليفهم وإرهاقهم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلاة، وما ملكت أيمانكم" [رواه أحمد (11759)]. وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: "للمملوك طَعَامُهُ وقُوتُهُ، ولا يكلَّف من العمل مالا يطيق" [رواه مسلم]. بل إنَّ الإسلام رفع من قَدْرِ الرقيق حتَّى جعلهم إخوان أسيادهم: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "هم إخوانكم وخَوَلُكُمْ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن

كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلفتموهم، فأعينوهم" [رواه البخاري (30) ومسلم (1661)]. ورفع من مقامهم عند مخاطبتهم حتَّى لا يشعروا بالضَّعَة؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- "لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتايَ وفتاتي" [رواه البخاري (3552) ومسلم (2249)]. كما أنَّ المقياس في الإسلام لكرامة الإنسان في الدنيا والآخرة لا يرجع إلى الأنساب والأعراق، وإنَّما يرجع إلى الكفاءات، والقيم المعنوية. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وقد بلغ شخصيات من الموالي -لفضلهم وقدرتهم- ما لم تبلغه ساداتهم؛ إذ قادوا الجيوش، وساسوا الأُمم، وتولَّوا الأعمال الجليلة بكفاءاتهم، التي هي أصل مجدهم. ومع ما رفع الشَّارع من مقام المملوك، فإنَّ له تشوُّفاً، وتطلُّعاً إلى تحرير الرقاب وفكِّ أغلالهم: فقد حثَّ على ذلك، ووَعَدَ عليه النَّجاةَ من النَّار، والفوزَ بالجنَّة، وقد تقدَّم بعضٌ من ذلك. ثمَّ إنَّه جَعَلَ لتحريرهم عدَّة أسباب بعضها قهرية، وبعضها اختيارية: فمن القهرية: أنَّ مَن جَرَحَ مملوكه، عَتَقَ عليه، فقد جاء في الحديث أنَّ رجلاً جدع أنف غلامه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب فأنت حر، فقال: يارسول الله! فمولى من أنا؟ قال: مولى الله ورسوله" [رواه أحمد (6671)]. ومن أعتق نصيبه من مملوك مشترك، عَتَقَ نصيب شريكه قهراً؛ كما في الحديث: "مَنْ أعتق شِرْكاً في مملوكٍ، وجب عليه أنْ يُعْتِقَهُ كله" [رواه البخاري (2503)، ومسلم (1501)] على تفصيلٍ فيما يأتي.

ومن ملك ذا رحمٍ محرم عليه، عتق عليه قهراً؛ لحديث: "من ملك ذا رحمٍ محرم، فهو حرٌّ" [رواه أبو داود (3949) والترمذي (1365)]. فهذه أسبابٌ قهرية تزيل ملك السيد عن رقيقه خاصَّة في هذا الباب؛ لما له من السراية الشرعية، والنفوذ القوي الَّذي لم يُجْعَلْ في عتقه خيارٌ ولا رجعة. ثمَّ إن المشرِّع -مع حثِّه على الإعتاق- جعله أوَّل الكفَّارات في التخلُّص من الآثام، والتحلُّل من الأيمان: فالعتق هو الكفَّارة الأولى في الوطء في نهار رمضان، وفي الظهار، وفي الأيمان، وفي القتل الخطأ. * دين العزَّة والكرامة والمساواة: فكيف بعد هذا يأتي الغربيون والمستغربون، فيعيبون على الإسلام إقراره الرق، ويتشدَّقون بالحرية، والمناداة بحقوق الإنسان، وهم الَّذين استعبدوا الشعوب، وأذلُّوا الأمم، واسترقُّوهم في عُقْرِ دارهم، وأكلوا أموالهم، واستحلُّوا ديارهم؟!. أفيرفعون رؤوسهم، وهم الَّذين يعامِلون بعض الطبقات في بلادهم أدنى من معاملة العبيد؟! فأيْنَ مساواة الإسلام ممَّا تفعله أمريكا بالزنوج، الَّذين لا يُباحُ لهم دخول المدارس، ولا تحل لهم الوظائف، ويجعلونهم والحيوانات سواسية؟! وأين رفق الإسلام وإحسانه، ممَّا يفعله الغرب بأسارى الحرب الَّذين لا يزالون في المجاهل، والمتاهات، والسجون المظلمة؟! وأين دولةُ الإسلامِ الرحيمةُ التي جعلتِ النَّاسَ على اختلاف طبقاتهم، وأديانهم، وأجناسهم أمَّةً واحدةً، في مالها وما عليها، ممَّا فعلته "فرنسا" بأحرار الجزائر في بلادهم، وبين ذويهم؟!

إنَّها دعاوَى بِاطلةٌ!!. بعد هذا: أَلَمْ يأنِ للمصلحين ومحبِّي السلام أنْ يُبْعِدُوا عن أعينهم الغشاوة، فيراجعوا تعاليمَ الإسلام بتدبُّر وإنصافٍ؛ ليجدوا ما فيه من سعادة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟. اللهم، بَصِّرِ المصلحين بهذا الدِّين؛ ليعلموا ما فيه من العزَّةِ وَالكرامة، وما فيه من الرحمة والرأفة. ***

1233 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِماً، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: "وَأَيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ" (¬2). ولأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: "وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ" (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: رواية الترمذي صحيحةٌ، صحَّحَهَا الترمذي، وتبعه الشوكاني، وأمَّا رواية أبي داود، فسكت عنها أبو داود؛ فهي مقبولة محتجٌّ بها، والله أعلم. * مفردات الحديث: - أيما: "أي" شرطية، مبتدأ دخلت عليها "ما" الزَّائدة، "امرىءٍ" يصلح فيها الجر على الإضافة، ويجوز فيها الرفع على البدلية. - امرىء: المرء مثَّلث الميم، هو الرجل، فإنْ لم تأت بالألف والَّلام، قلت: امرُؤٌ، بكسر همزة الوصل، جمعه: رجال من غير لفظه، والأنثى: امرأة جمعها: نساء من غير لفظها. ¬

_ (¬1) البخاري (2517)، مسلم (1509). (¬2) الترمذي (1547). (¬3) أبو داود (3967).

- أعتق: يُقال: عَتَقَ العبد يَعْتِقُ، من باب ضرب، ومصدره عَتَقٌ وعَتَاقٌ وعَتاقةٌ بفتح الأوائل، والعِتْق بالكسر: اسم منه، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أَعْتَقَهُ فهو معتق، ولا يتعدَّى بنفسه فيقال: عَتَقَهُ، والعتق لغةً: الخلوص، وشرعاً: تحرير رقبة، وتخليصُهَا من الرِّق. - عضو: يُقال: عضا الشَّاةَ يعضوها عضواً: جزَّأَها، والعضو بالضم والكسر، والضم أشهر، وهو جزءٌ من مجموع الجسد؛ كاليد والرِّجل والأذن، وجمعه أعضاء. - فكاكه: يُقال: فكَّ الأسير فكًّا وفكاكًا: خلَّصه وأطلقه؛ فالفكاك: الخلاص. ***

1234 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ، وجِهَادٌ فِي سَبيلِهِ، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلاَهَا ثَمَناً، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهلِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أغلاها ثمناً: في رواية الأكثرين: "أعلاها" بالعين المهملة. - أنفسها: أكرمها، وأكثرها رغبةً عند أهلها؛ لمحبتهم فيها. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الرقيق في حكم المعدوم؛ فلا تصرُّف له في نفسه، وإنَّما يتصرَّف فيه كما يتصرف في الدَّابة؛ لذا كان عتقه كإخراجه من العدم إلى الوجود، فقد جعل الشَّارع لمن أعتقه حقَّ ميراثه، إذا لم يوجد مَنْ هو أقربُ منه من النسب. فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الولاء لُحْمَةٌ كلُحمة النسب" [رواه الحاكم (4/ 231)]. ولذا قال الفَرَضِيُّون: الولاء عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه. 2 - من أجل هذا صار الإعتاق عظيماً، وأجره كبيراً؛ "فأي امرىءٍ مسلمٍ أعتق امرأً مسلماً، استنقذَ الله بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النَّار"؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-[رواه البخاري (6715) ومسلم (21509)]. 3 - وجعله الشَّارع أوَّلَ الكفارات في محو الذنوب، وتكفير الخطايا المترتبة على قتل الخطأ، والوطء في نهار رمضان، والظهار، والأيمان الحانثة، كل هذا رغبة أكيدة من الشَّارع الرحيم الحكيم في فكاك الرقاب، وجعلها حرَّة ¬

_ (¬1) البخاري (2518)، مسلم (84).

تتمتَّع بنفسها وبتصرفاتها. 4 - الأحاديث التي في معناها جاء الفضل والأجر بعتقِ واحدٍ، وبعتق امرأتين مسلمتين، وبعتق امرأةٍ مسلمة. فالأجر والفضل حاصلٌ في كل واحد من هذا. قال الفقهاء: وأفضل الرقاب فكاكاً: أَنْفَسُهَا عند أهلها، وَذَكَرٌ، وتعدُّد أفضل. 5 - قال في نيل المآرب: يسن عتق من له كسب؛ لانتفاعه بكسبه؛ قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ويُكره عتق من لا قوَّة له، ولا كسب؛ لسقوط نفقته بإعتاقه، فيصير كَلاًّ على النَّاسِ، ويحتاج إلى المسألة. 6 - أمَّا الحديث رقم (1234) فرتَّب الفضائلَ على ما يأتي: المرتبة الأولى: الإيمان بالله؛ ذلك أنَّ الإيمان بالله تعالى هو أصلُ الأعمال الصالحة وأساسُهَا، وَعَمَلٌ لا يقوم على الإيمان بالله تعالى فإنَّه عملٌ لاغٍ باطلٌ. والإيمان بالله هو الطريق المستقيم الموصِّل إلى خيري الدنيا والآخرة. وبالإيمان الكامل يحرَّم الإنسان على النَّار، وبالإيمان -ولو قليلاً- ينجو من الخلود في النَّارِ. المرتبة الثانية: الجهاد في سبيل الله؛ قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف]. وقد جاء في البخاري (2792) ومسلم (1880) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما

فيها". والنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الجهاد في الإسلام هو الذروة، فقال: "وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله". وثمرةُ الجهادِ إخراجَ النَّاس من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإسلام والعلم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأَنْ يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم" [رواه البخاري (3009) ومسلم (2406)]. وحُمْرُ النَّعَمِ، بسكون الميم: كرائمها، وهو مَثَلٌ في كل نفيس. المرتبة الثالثة: إعتاق الرِّقاب؛ فقد جاء في المرتبة الثالثة من شعائر الإسلام الكبار، وتقدَّمت الإشارة إلى فضله. 7 - أفضل الرِّقاب أغلاها ثمناً؛ لأنَّ غلاء الثمن دليلٌ على توفُّر المنفعة في المعتق، وقد قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. فإذا كانت الرقبة ثمينة نفيسة عند أهلها، تحقَّق أنَّ صاحبها لم تَطِبْ نفسه بإعتاقها إلاَّ إيثاراً للأجر وَلِمَا عند الله، على حاجته وهوى نفسه؛ بخلاف إعتاق العاجز، وكبير السن، والضعيف، والأخرق؛ فهذا ليس نفيساً، وربما أنَّ الَّذي حمل صاحبه على إعتاقه هو التخلُّص من نفقاته ومؤنته، لا ابتغاء ما عند الله تعالى، ثمَّ إنَّ هذا العاجز سيكون عالة على مجتمعه، وعبئاً عليهم؛ وإنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكلِّ امرىٍ ما نوى!!. ***

1235 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُركَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهُ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، وَقِيلَ: إنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ في الخَبَرِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من أعتق: ظاهره العموم؛ ولكنَّه مخصَّص بالإجماع؛ فلا يصح من المجنون، والصبي، والمحجور عليه بسَفَهٍ. - شِرْكًا: بكسر الشِّين، أي: حصَّة ونصيبًا. - ثمن العبد: أي: ثمن بقية العبد، وأوضح ذلك في رواية النسائي بلفظ: "وله ما يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنَّه يضمن لشركائه أنصباءهم". - قُوّمَ: مبني للمجهول، من قوَّم المتاعَ بكذا، أي: جَعَلَ له قيمةً معلومة. - عدل: عَدَلَ الشيءَ بالشيء: سوَّاه به، وجعله مثله، والمراد: أنْ يقوِّمه بقيمة مثله. - فأعطى شركاءه: بالبناء للفاعل على رواية الأكثرين، و"شركاء" منصوب على أنه مفعول، وروي على صيغة المجهول و"شركاؤه" مرفوعٌ على أنه نائب ¬

_ (¬1) البخاري (2522)، مسلم (1501). (¬2) البخاري (2527)، مسلم (1503).

فاعل. - عبد: يشمل الذكر والأنثى. - وإلاَّ: أي: وإن لم يكن موسرًا، فقد عَتَقَ منه حصته، وهي ما عَتَقَ. - استُسْعِيَ: طلب من العبد أن يسعى، فيعمل ليحصّل حصة الشريك. - غير مشقوق: أي: غير مكلَّف عليه، فلا يشق عليه سيده في الخدمة فوق طاقته، ولا فوق حصته من الرق. - حصصهم: جمع حِصَّة -بكسر الحاء وتشديد الصاد- وهي: النصيب، يقال: تحاصُّوا: اقتسموا حصصهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - للشارع الحكيم الرحيم تشوُّفٌ إلى عتق الرقاب من الرق؛ فقد حثَّ عليه، ورغَّب فيه، وجعله أجلَّ الكفَّارات، وأعظم الإحسان، وجَعَلَ لَهُ من السراية والنفوذ ما يفوِّت على مالك رقه بغير اختياره في بعض الأحوال، التي منها ما ذكر في هذين الحديثين، وهي أن له شراكة، ولو قليلة في عبدٍ أو أمةٍ، ثم أعتق جزءًا منه، عَتَق نصيبه بنفس الإعتاق. 2 - فإنْ كان المعتِق موسرًا -بحيث يستطيع دفع نصيب شريكه- عَتَقَ العبد كله، نصيبه، ونصيب شريكه، وقوِّم عليه نصيب شريكه بقيمته التي يساويها، وأعطَى شريكَهُ القيمة. فإنْ لم يكن موسرًا -بحيث لا يملك قيمة نصيب صاحبه- فلا إضرار على صاحبه، فيعتق نصيبه، ويبقى نصيب شريكه رقيقًا كما كان. وبعضهم يرى أنَّه يعتق، ويُسْتَسْعَى العبد بالقيمة، ويأتي الخلاف فيه. 3 - أنَّه إنْ ملكَ بعض قيمة نصيب شريكه، عَتَقَ عليه بقدر ما عنده من القيمة. 4 - جوازُ الاشتراك في العبد، والأمة في الملك. 5 - تشوُّف الشَّارع إلى عتق الرقاب؛ إذ جعل للعتق هذه السرايةِ والنفوذ.

6 - ظاهر الحديثين الاختلافُ في عتق العبد كلِّه، مع إعسار مباشر العتق، واستسعاء العبد. 7 - الجمع بين الحديثين: دلَّ الحديث الأَوَّل -في ظاهره- على أن من أعتق نصيبه من عبدٍ مشتركٍ، عتق نصيبه: فإنْ كان موسرًا، عتق باقيه، وغرم لشريكه قيمة نصيبه. وإنْ كان معسرًا، لم يعتق نصيب شريكه، وصار العبد مبعَّضًا، بعضه حر، وبعضه رقيق. ودلَّ الحديث الثَّاني: على أنَّ المباشر لعتق نصيبه: إنْ معسرًا، عتق العبد كله أيضًا؛ ولكن بأنْ يُسْتَسْعَى العبد بقدر قيمة نصيبه الَّذي لم يعتق وتعطى له. وذهب إلى الأخذ بظاهر الحديث الأوَّل الأئمة: مالك، والشَّافعي، وأحمد -في المشهور من مذهبه- وأهل الظاهر. ودليلهم: ظاهر الحديث، وجعلوا الزيادة في الحديث مُدْرَجة، وهي قوله: "فإنْ لم يكن له مالٌ، قُوِّمَ المملوك قيمة عدل، ثمَّ استسعي العبد غير مشقوقٍ عليه". قال الحافظ: قيل: إنَّ السِّعاية مدرجة. قال النسائي: "بلغني أنَّ همَّامًا رواه، فجعل هذا الكلام -أعني الاستسعاء- من قول قتادة"، وكذا قال الإسماعيلي إنَّما هو من قول قتادة، مدرج على ما روى همام، وجزم ابن المنذر والخطابي بأنَّه من افتيات قتادة. ولكن قال صاحب شرح البلوغ: وقد رُدَّ جميعُ ما ذُكِرَ من إدراج السعاية باتفاق الشيخين على رفعه؛ فإنَّهما في أعلى درجات الصحيح. ولذا فإنَّه ذهب إلى الأخذ بهذه الزيادة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره بعض أصحابه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم،

وشيخنا عبد الرحمن السعدي، رحمهم الله تعالى. وَجُمِعَ بين الحديثين، وصفة الجمع: ما قاله شارح بلوغ المرام: أنَّ معنى قوله في الحديث الأوَّل: "وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق" أي: بإعتاق مالك الحصَّة حصَّته، وحصَّة شريكه تعتق بالسعاية، فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه، ويكون كالمكَاتَبِ، وهذا هو الَّذي جزم به البخاري. ويظهر أنَّ ذلك يكون باختيار العبد؛ لقوله: "غير مشقوق عليه". فلو كان ذلك على جهة الإلزام بأنْ يكلَّف العبد الاكتساب والطلب حتَّى يحصل ذلك، لَحَصَلَ له بذلك غايةُ المشقَّة، وهو لا يلزم في الكتابة: ذلك عند الجمهور، ولأنَّها غير واجبة، فهذا مثلها. وإلى هذا الجمع ذهب البيهقي وقال: لا تبقى معارضة بين الحديثين أصلاً، وهو كما قال، إلاَّ أنَّه يلزم منه أنْ يبقى الرق في حصَّة الشريك إذا لم يختر العبد السعاية. اهـ. ***

1236 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلاَّ أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا يجزي: يُقال: جزاه يجزيه جزاءً: كافأه وأثابه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الله جلَّ وعلا عظَّم حقَّ الوالدين بكتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15]. أمَّا الأحاديث فكثيرةٌ؛ منها: ما في البخاري (527) ومسلم (85) عن ابن مسعود قال: "قلت: يارسول الله، أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين"، ومنها حديث الباب. 2 - الحديث يدل على أنَّ فضلَ برٍّ بِالوَالدَيْنِ، أو أحدهما: هو أنْ يجد أباه أو أمه رقيقًا مملوكًا، فيشتريه ويعتقه؛ لأَنَّه خلَّصه من الرق، الَّذي حَرَمَه من الحرية، والاستقلال بالنفس، والكسب. 3 - وفي إعتاق الإنسان أباه، أو أُمَّه مجازاةٌ على إحسانهما إلى ولدهما؛ ذلك أنَّهما سبب وجوده من العدم، وهو بإعتاقهما أو إعتاقِ أحدهما -كأنَّه أخرجهما من العدم إلى الوجود؛ فإنَّ الرَّقيق مملوك المنافع والمكاسب، ¬

_ (¬1) مسلم (1510).

فكأنَّه غير موجود في الحياة، فإذا عَتَقَ، ومَلَكَ نفسه وكسبه، صار من الموجودين. 4 - يدل الحديث على أنَّ الوالد لا يَعْتِقُ بمجرَّد شراء ولده له، وأنَّه لابُدَّ من إعتاقه بعد الشِّراء؛ لقوله: "فيعتقه"؛ وهذا مذهب الظاهرية. وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة-: إلى أنَّه يَعْتِقُ بمجرَّد الشراء، ويؤكِّده الحديث الآتي عن سمرة: "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر". 5 - والجواب عن هذا الحديث ليوافق حديث: "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر" كما سيأتي، فقد قال الطِّيبِيُّ في شرح المِشْكَاة: إنَّ هذا تعليق بالمحال للمبالغة، والمعنى: لا يجزى ولد والده إلا أنْ يملكه فيعتقه، وهو محال؛ إذ المجازاة محالة، وبهذا تكون الفاء في قوله "فيعتقه"، للسببية، يعني: أنَّه عتق بسبب شرائه، لا أنَّ الفاء للتعقيب، لتفيد المعنى الَّذي ذهب إليه الظاهرية، والله أعلم. ***

1237 - وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. وهو مُختَلَفٌ في رفعه ووقفه، والوقف له حكم الرفع. قال المؤلِّف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح جمعٌ من الحفاظ أنَّه موقوف، وأخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية حماد، وموقوفًا من رواية شعبة، وشعبة أحفظ من حماد، فالوقف حينئذٍ أرجح. قلت: ولو فرض وقفه، فله حكم الرَّفع؛ لأنَّ هذا مما لا مجال للرَّأي فيه. قال ابن المديني والنسائي: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة عليه، وهو خطأ، ولكن صحَّح الحديثَ: ابن القطان، وعبد الحق، وابن حزم، وقد رواه الخمسة مرفوعًا، وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم. وله شاهدٌ من حديث ابن عمر بإسنادٍ صحيح، رواه ابن ماجه (2525) وابن الجارود (972). ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 15)، أبو داود (3949)، الترمذي (1365)، النسائي في الكبرى (3/ 173)، ابن ماجة (2524).

* مفردات الحديث: - ذا رَحِم: بفتح الرَّاء، وكسر الحاء، وأصله: موضع تكوين الولد، ثمَّ استعمل للقرابة؛ فالمراد بها هنا: كل من كان بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح. - مَحْرَم: بفتح الميم، وسكون الحاء، وفتح الرَّاء المخففة، ويُقال: "مُحَرَّم" بصيغة المفعول من التحريم، والمحرم: من لا يحل نكاحه من الأقارب. - فهو حر: جواب الشرط، أي: فذو الرحم المحرم حر، والجملة اسمية، فهو تقتضي الدوام والثبوت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الشَّارع الحكيم الرحيم جَعَلَ للعتق عدَّةَ أسباب، ومن تلك الأسباب: أنَّ القريب إذا ملك قريبه، فإنَّه يعتق، عليه على تفصيل سيأتي إنْ شاء الله تعالى. 2 - قال ابن رشد: جمهور العلماء على أنَّه يعتق عليه بالقرابة؛ فقد أجمع الأئمة الأربعة على هذا الحكم، على اختلاف بينهم في تحديد ذلك، وتفصيله. 3 - أبو حنيفة: جعل العتق بالآباء والأمهات وإنْ عَلَوْا، وبالأولاد وإنْ نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والأخوال دون أولادهم. 4 - ومالك: قصره على الأصول، والفروع، والإخوة، والأخوات فقط. 5 - والشَّافعي: قصره على الآباء؛ للنص في حديث أبي هريرة، وألحق الأبناء قياسًا عليهم؛ لأنَّه لم يثبت عنده حديث سمرة. 6 - أمَّا أحمد: فمذهبه: أن من ملك ذا رحم محرم عليه، وهو الَّذي لو قدِّر أحدهما ذكرًا والآخر أنثى، حَرُمَ نكاحه للنسب -عَتَقَ عليه بالملك. بخلاف ولد عمه، وولد خاله، ولو كان أخاه في الرضاع؛ فإنَّه لا يعتق عليه. ***

1238 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَهُ عِنْدَ مَوْتهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بهِمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاَثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مماليك: جمع مملوك، اسم مفعول، وهو العبد الرقيق، والأنثى مملوكة. - جزَّأ: يُقال: جزَّأ المالَ يُجَزِّئُهُ تجزيئًا، وتجزئة: قسَّمه أجزاء، والجُزْءُ البعض. - أَقْرَعَ: يُقال: أقرع بين القوم،: ضَرَبَ بينهم القرعة، والقرعة: طريق يبين بها السهم والنصيب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الَّذي دبَّر مماليكه الستَّة بأنْ يكونوا عتقاء بعد موته، حكمهم حكم الموصى بهم، الَّذين لا تنفذ الوصية بهم إلاَّ بعد موت الموصي. لذا فإن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز عتقه بقدر ما تجوز الوصية به وهي ثلث ماله، فأمضى منهم اثنين، ولم يُجزِ العتق في الأربعة الآخرين. 2 - قال الفقهاء: ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي، إلاَّ بإجازة الورثة لها بعد الموت؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد: "الثلث والثلث كثير" [متَّفق عليه]، والأجنبي هنا من ليس بوارث. ¬

_ (¬1) مسلم (1668).

3 - قال الوزير: أجمعوا على أنَّه يستحب للموصي أنْ يوصي بدون الثلث، مع إجازتهم للثلث؛ عملًا بإطلاق النصوص. 4 - ويدل الحديث على أنَّ التبرعات في مرض الموت حكمها حكم الوصية، فينفذ منها ما يجوز تنفيذه في الوصية، ويمنع منها ما يمنع فيها. قال فقهاؤنا: وإنْ كان المرض الَّذي اتصل به الموت مَخُوفًا، فعطاياه كوصية، تنفذ في الثلث فما دونه لأجنبي؛ لما روى ابن ماجه (2709) والدَّارقطني (4/ 150) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادةً لكم في أعمالكم" ضعَّفه الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 91). 5 - قوله: "قولاً شديدًا" أي: تغليظًا عليه؛ كراهةً لفعله، والرواية الأخرى: "لقد هممت ألاَّ أُصلِّي عليه"؛ وهذا محمولٌ على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي عليه وحده، دون الصحابة؛ تغليظًا له، وزجرًا لغيره. ***

1239 - وَعَنْ سَفِينَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَعْتِقُكَ، وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخدُمَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا عِشْتَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الشوكاني: الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي، وقال النسائي: لا بأس بإسناده، وأخرجه الحاكم، وفي إسناده سعيد بن جُمْهان الأسلمي، وثَّقه يحيى بن معين، وأبو داود السجستاني، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: إسناد الحديث حسن. قلت: جُمْهَان، بضم الجيم، وسكون الميم، ثمَّ هاء، فألف، وآخره نون. * مفردات الحديث: - سفينة: بفتح السين، وكسر الفاء، من مولَّدي العرب، قيل: اسمه مهران، وكنيته أبو عبد الرحمن، كان مولى لأم سلمة، فأعتقته، واشترطت عليه خدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمَّاه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- سفينة؛ لقصَّة غريبة ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على جواز تنجيز العتق مع اشتراط نفعه للمعتِق، أو اشتراط ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 221)، أبو داود (3932)، النسائي في الكبرى (3/ 190)، الحاكم (2/ 213).

نفعه لغير المعتِق. 2 - قال في شرح الإقناع: لو قال: أعتقتك على أنْ تخدم زيدًا مدَّة حياتك، صحَّ؛ لحديث سفينة، وإنَّما اشترط تقدير زمن الاستثناء في البيع؛ لأَنَّه عقد معاوضة، فيشترط فيه علم الثنيا وزمنها؛ لأنَّ الثمن يختلف من حيث طولها وقصرها. 3 - قال في الحاشية: واستثنى منافعه، فقد أخرج الرقبة، وبقيت المنفعة، ولخبر: "المؤمنون على شروطهم"، ولقصَّة سفينة. 4 - وقصَّة سفينة ليست من باب تعليق العتق على الشرط، وإنَّما هي من باب استثناء منافع العتق. 5 - وجه الاستدلال من الحديث: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علم بما أجرته به أم سلمة -رضي الله عنها- فأقرها، فصار جواز هذا الشرط من السنَّة، والله أعلم. ***

1240 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حديثٍ طوِيلٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث جملة من حديث بريرة المتقدِّم في كتاب البيع. 2 - الحديث يدل على أنَّ الولاء لمن أعتق، وأنَّ بائعَ الرقيق لو اشترط على المشتري أنَّ الولاء له، فإن شرطه باطل. 3 - قال -صلى الله عليه وسلم- في حقِّ البائع الَّذي اشترى الولاء على المشتري: "ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنْ كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنَّما الولاء لمن أعتق". 4 - قال في الروض وحاشيته: وإنْ شرط البائع إنْ أعتق المشتري، فالولاء للبائع، بطل الشرط وحده، ولم يبطل العقد؛ لقصَّة بريرة؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أبطل الشرط، أمَّا العقد فقال: "اشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الولاء لمن أعتق". 5 - قال ابن القيم: كل شرطٍ ليس في حكم الله، فهو مخالف له؛ فيكون باطلًا، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله تعالى، ولم يمنع منه. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2168)، مسلم (1504).

1241 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). وأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ هَذَا الَّلفْظِ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. أخرجه الشَّافعي، ومن طريق الشَّافعي أخرجه الحاكم، والبيهقي. قال الألباني: قال النيسابوري: رواه الحسن مرسلًا، قلت: وإسناد هذا المرسل صحيح، وهو ممَّا يقوي الموصول؛ فإنَّ طريق الموصول غير طريق المرسل. فالحديث إذًا صحيح من طريق الحسن البصري، والله أعلم. * مفردات الحديث: - الوَلاء: بالفتح: ولاء العتاقة، وهي عصوبة سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق. - لُحمة كلُحمة النسب: اللحمة بالضم: علاقة وارتباط، كعلاقة وارتباط النسب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرق هو عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر؛ فالرق معناه فَقْد الإنسان ¬

_ (¬1) الشَّافعي (1232)، ابن حبان (4929)، الحاكم (4/ 231). (¬2) البخاري (6756)، مسلم (1506).

حريته الشخصية، وحريته المالية؛ فهو مملوك الذَّات والتصرفات لسيده. فإذا أعتقه، فكأنَّه أخرجه من العدم إلى الوجود؛ لذا صارت منَّة السيد على رقيقه كبيرة، ونعمته عليه عظيمة. 2 - العتق هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وخصَّت الرقبة -مع أنَّ وقوع الرق على جميع البدن- لأنَّ ملك السيد له كالغل في رقبته المانع له من التصرفات، فإذا عَتَقَ، فكأنَّ رقبته أطلقت من ذلك الغل. 3 - ولاء العتاقة: هي عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه من العتق؛ فالولاء لمن أعتق. 4 - صار الولاء لُحمة كلحمة النسب، وصار عُلْقَةً وارتباطًا كعلقة وارتباط النسب؛ لما بينهما من التشابه من حيث الإيجاد، والصلة القوية. 5 - وكما أنَّ القرابة لا تباع، ولا توهب؛ فكذلك الولاء المكتسب من نعمة الإعتاق لا يصح بيعه، ولا هبته، وإنَّما يورث به من جانب واحد، وهو جانب المنعم بالعتق، أو من جاء عن طريقه بالإرث. 6 - الَّذي يرث بالولاء هو من باشر العتق، ثم عصبته المتعصِّبون بأنفسهم، لا بغيرهم، ولا مع غيرهم؛ لأنَّ الولاء يورث به، ولا يورث، وأمَّا العتيق: فلا يرث من معتقه على قول جمهور العلماء؛ لأنَّ النِّعمة عليه لا له. ***

1242 - عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبلغَ ذلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَاحْتَاجَ". وَفي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: "وَكَان عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ، وَقَالَ: اقْضِ دَيْنكَ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أنَّ رَجُلاً: جاء في مسلم: "أنَّ الرَّجل من الأنصار"، وجاء في روايةٍ أخرى فيه أيضًا: "أنَّه من بني عذرة"، واسمه "أبو مذكور"؛ وهكذا عند الذهبي. - غلامًا له: اسمه يعقوب. - عن دُبُر: بضم الدَّال المهملة، وضم الباء الموحدة، وهو نقيض القُبُل من كلِّ شيءٍ، والمراد هنا: علَّق عتقه بموته. - نُعَيْم: بضم النون، تصغير نعم، ابن عبد الله النحام القرشي العدوي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - علَّق رجلٌ من الأنصار عتق غلامه بموته، ولم يكن له مالٌ غيره، فبلغ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فعدّ هذا العتق من التفريط، وتضييع النَّفس، فردَّه، وباع غلامه بثمانمائة درهم، وأرسل بها إليه؛ فإنَّ قيامه بنفسه وأهله أولى له، وأفضل ¬

_ (¬1) البخاري (6716، 2141)، مسلم (997)، النسائي (8/ 246).

من العتق، ولئلا يكون عالة على النَّاس. 2 - فيه دليلٌ على صحَّة التدبير؛ وهو متَّفق عليه بين العلماء. 3 - أنَّ المدبَّر يعتق من ثلث اليال لا من رأس المال؛ لأنَّ حكمه حكم الوصية؛ لأنَّ كلًّا منهما لا ينفذ إلاَّ بعد الموت؛ وهذا مذهب جمهور العلماء. 4 - جواز بيع المدبر مطلقًا، للحاجة؛ كالدين والنفقة، بل أجاز الشَّافعي وأحمد بيعه مطلقًا للحاجة وغيرها، واستدلا بهذا الحديث الَّذي أثبت بيعه في صورة من جزئيات البيع، فيكون عامًّا في كلِّ الأحوال، وقياسًا على الوصية التي يجوز الرجوع فيها. 5 - أنَّ الأولى والأحسن لمن ليس عنده سعة في الرزق أنْ يجعل ذلك لنفسه، ولمن يَعُولُ؛ فهم أولى من غيرهم؛ ولذا يتفقَّه في نوافل هذه العبادات: من الصدقة، والعتق، ونحوها. أمَّا الَّذي وسَّع الله عليه رزقه، فليحرص على اغتنام الفرص بالإنفاق في طرق الخير، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110]. ***

1243 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبتَهِ دِرْهَمٌ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1)، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، والثَّلاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث إسناده حسن. قال في التلخيص: رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم من طرق، ورواه النسائي، وابن حبان من وجهٍ آخر، من حديث عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه: "ومن كان مكاتبًا على مائة درهم، فقضاها إلاَّ أوقية، فهو عبد". قال النسائي: هذا حديثٌ منكر، وهو عندي خطأ، وقال ابن حزم: عطاء هذا هو الخراساني، ولم يسمع من عبد الله بن عمرو، وقال الشَّافعي: في حديث عمرو بن شعيب: لا أعلم أحدًا روى هذا إلاَّ عمرو بن شعيب، ولم أرَ من رضيت من أهل العلم يثبته. وحسَّن إسناده المصنِّف، وصحَّحه الحاكم، وقال ابن عبد الهادي: هو رواية إسماعيل بن عياش عن شيخ شامي ثقة، وابن عياش إذا روى عن الشَّاميين فهو ثقة. ¬

_ (¬1) أبو داود (3926). (¬2) أحمد (2/ 178)، أبو داود (3927)، النسائي في الكبرى (3/ 197)، الترمذي (1260)، ابن ماجة (2519)، الحاكم (2/ 218).

* مفردات الحديث: - المكاتب: يُقال: كاتب عبده مكاتبة، أي: باعه لنفسه بآجالٍ معلومةٍ، وأقساطٍ معلومة. سميت مكاتبة؛ لأَنَّه يكتب -في الغالب- للعبد على مولاه كتابًا بالعتق عند أداء النجوم. ***

1244 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ لإحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مختلَفٌ فيه، منهم من صحَّحه، ومنهم من تكلَّم فيه. أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طريق الزهري، عن نبهان مولى أمِّ سلمة، عنها، به. وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وذكره ابن حجر في "التلخيص" دون أنْ يتكلَّم عليه. قال ابن عبد الهادي: تكلَّم في هذا الحديث غير واحدٍ من الأئمة. قال الألباني: ونبهان هذا أورده الذهبي في "ذيل الضعفاء"، وقال ابن حزم: مجهول، قلت: وقد أشار البيهقي إلى جهالته، وقال الشَّافعي: لم أرَ من أهل العلم من يثبت هذا الحديث. قلت: وممَّا يدل على ضعف الحديث عمل أمهات المؤمنين على خلافه. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - الحديثان يدلان مع الآية الكريمة: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} على أصل ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 289)، أبو داود (3928)، الترمذي (1261)، النسائي في الكبرى (3/ 198)، ابن ماجة (2520).

الكتابة، ومشروعيتها. 2 - يدل الحديث رقم (1243) على أنَّ المكاتب لا يعتق من رقه حتَّى يوفي جميع دين الكتابة، فتجري عليه أحكام الرقيق ما بقيَ عليه درهم؛ هذا هو منطوق الحديث، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة. 3 - أمَّا مفهومه فهو يوافق منطوق الحديث رقم (1244) من أنَّ الرقيق إذا صار معه جميع دين كتابته، فإنَّه أصبح حرًّا، له أحكام الأحرار؛ حيث خلص من الرق، وصار حرًّا. 4 - يدل الحديث رقم (1244) على أنَّ المرأة لا تحتجب من رقيقها، بل يجوز لها كشف وجهها عنده؛ لقوَّة العلاقة، ولأنَّ الرَّقيق لا ترتفع نفسه إلى سيدته، والسيدة لا تنزل نفسها إليه، وفي المسألة خلافٌ بين الفقهاء. 5 - ويدل على أنَّه بعد أداء جميع دين الكتابة، أو وجودها عنده، أصبح حرًّا؛ فيجب عليها حينئذٍ أنْ تحتجب عنه؛ لانفصاله عنها، ولأَنَّه بعد الحريَّة أصبح كامل الإنسانية والحرية. 6 - اسم مولى أم سلمة "نبهان" قالت له: ماذا بقيَ عليك من كتابتك؟ قال: ألفا درهم، قال: هما عندك؟ قال: نعم، قالت: ادفع ما عليك، وعليك السَّلام، ثم ألقت دونه الحجاب، فبكى، وقال: لا أعطيه أبدًا، قالت: إنَّك -والله- يا بني أبدًا لن تراني أبدًا، إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا، أنَّه إذا كان عبد لإحداكنَّ، ووفى بما بقي عليه من كتابته، فاضربي دونه الحجاب. 7 - ويدل الحديث على أصل مشروعية الحجاب من الأجنبي، أي: غير المحرَم. ***

1245 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُودَى المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الحُرِّ، وَبقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيةَ العَبْدِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وحسَّنه، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. قال الشوكاني: حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود، والترمذي، وهو عند النسائي مسند ومرسل، ورجال إسناده عند أبي داود ثقات. قال ابن عبد الهادي: وقد أُعِلَّ الحديث. اهـ. * مفردات الحديث: - دية الحر: ودى القاتلُ القتيلَ، يَدِيهِ، دِيَةً -مخففة-: إذا أعطى وليه المال الَّذي هو بدل النَّفس، وفاؤها محذوفة، والهاء عوض، والأصل وَدِيَه مثل: وَعِيَه، فتقول في الأمر "دِ" القتيلَ بدالٍ مكسورة لا غير، فإنْ وقفت قلت: "دِهْ"، ثمَّ سمي المال تسمية بالمصدر، والجمع ديات، مثل هبة وهبات، وعدة وعدات. والدية شرعًا: المال المؤدَّى إلى مجني عليه أو وليه، بسبب جناية، وهي مقدرة شرعًا ومحدَّدة، وقدرت في كتاب الجنايات. - رَقَّ: الشخص يرق، فهو رقيق، ويطلق الرقيق على الذكر والأنثى، والجمع أرقاء. والرِّقُّ شرعًا: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر؛ فالعجز يمنعه من ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 222)، أبو داود (4581)، النسائي (8/ 46).

التصرفات الشرعية، ويسلبه الأهلية. دية العبد: أمَّا دية العبد، أو الأمة، فهي قيمتهما، ولو بلغت دية الحر أو زادت عليها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - إِذَا أدَّى المكاتب بعض أقساط دين الكتابة، صار مبعَّضًا، بعضه حر، وبعضه رقيق، وحريته بقدر ما أداه من دين الكتابة. أمَّا حريته الكاملة: فمراعاة بإيفاء جميع دينه، أمَّا ما جاء في الحديث المتقدم: "المكاتب عبدٌ ما بقيَ عليه من مكاتبه درهم" فمعناه: إنْ لم يُوفِ جميع أقساط كتابته، عاد إلى كامل رقه. 2 - إذا اعتُدِيَ على هذا المبعَّض، فإنَّ ديته تسلَّم على نوعين: النوع الأوَّل: تسلم دية كاملة هي دية الأحرار؛ وذلك بقدر ما فيه من الحريَّة. النوع الثاني: تسلم دية رقيق، وذلك بقدر ما بقيَ من رقه. قال في شرح الإقناع: ومن نصفه حر، ونصفه رقيق، فعلى قاتله نصف دية حر، ونصف قيمته. 3 - وقال: أمَّا المكاتَبُ والمدبَّر وأمُّ الولد، فقال في شرح الإقناع: والمدبر، والمكاتب، وأم الولد، والمعلق عتقه بصفة عند وجودها -فكالقن؛ لحديث: "المكاتب قِن ما بقيَ عليه درهم"، والباقي بالقياس عليه. 4 - ما ذكره صاحب الإقناع مخالفٌ للحديث الَّذي جعل حكم ديته كدية المدبر، وأم الولد، وهو في الحقيقة مخالف لهما؛ لأَنَّه عتق منه بقدر ما سلَّم، والحكم يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا؛ أمَّا المدبَّر، والمعلَّق عتقه بصفة لم توجد، وأم الولد: فهؤلاء لا زالوا أرقاء لم يأتِ الوقت الَّذي يعتبرون فيه أحرارًا بخلاف المكاتب. ولذا فالرَّاجح: أنَّ المكاتب من حيث الدية حكمه حكم المبعَّض فيما نصَّ عليه الحديث.

1246 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنْدَ مَوْتهِ دِرْهَمًا، وَلاَ دِينَارًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ أَمَةً، وَلاَ شَيْئًا، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاَحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بَغْلَتَهُ البيضاء: البغل: حيوان، أمه فرس، وأبوه حمار، فهو متولِّد منهما، وهي البغلة التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-. - صَدَقة: هي أرضه -صلى الله عليه وسلم- في قرية فدك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث من أدلَّة ما عليه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من إعراضه عن الدنيا الفانية إلى الدَّار الباقية، وتقلُّله منها، وشمائله في هذا الباب كثيرة، وأخباره مشهورة، صلوات الله وسلامه عليه، فإن مثل قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء] نصب عينيه؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- خُلُقه القرآن. 2 - فالحديث يبين أنَّه -صلى الله عليه وسلم- توفيَ ولم يخلِّف عند موته درهمًا، ولا دينارًا، ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئًا. وإنَّما الَّذي ترك هو شيء من عدة سلاحه للجهاد في سبيله، وهو بغلتُهُ، وسلاحُهُ، وأرضٌ جعلها بعده صدقة؛ لأَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نُوْرَثُ، ما تركناه فهو صدقة" [رواه البخاري (3092) ومسلم (1758)]. 3 - الشَّاهد من الحديث إثبات الرق في الإسلام، وإثبات العتق أيضًا؛ فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ملك رقيقًا؛ ولكنَّه أعتقه. ¬

_ (¬1) البخاري (2739).

باب أحكام أم الولد

باب أحكام أم الولد مقدمة الأحكام: جمع حكم، وهو لغة: القضاء والحكمة. واصطلاحًا: خطاب الله المفيد فائدة شرعية. وأحكام أم الولد: هو جواز الانتفاع بها، وتزويجها، وتحريم بيعها، ونحو ذلك. الأم: تجمع على أمات باعتبار اللفظ، وتجمع على أمهات؛ لأنَّ أصلها أُمَّهَةٌ؛ لأَنَّ الجمع يردُّ الشيء إلى أصله. أم الولد: هي مَنْ ولدت ما فيه صورة إنسان، ولو كانت الصورة خفية وميتًا من مالك، ولو كان مالكًا بعضها. قال عمر -رضي الله عنه-: "إذا ولدت الأمة من سيدها، فقد عَتقت، وإنْ كان سقطًا". قال الموفق: لا أعلم خلافًا بثبوت حكم الاستيلاد. قال الوزير: اتفقوا على أنَّها لا تباع أمهات الأولاد، وأنَّها حرَّة من رأس مال سيدها إذا مات. ويتبعها ولدها من غير سيدها بعد إيلادها، فيعتق بموت سيدها. ويجوز من التصرف فيه ما يجوز فيها، ويمتنع فيه ما يمتنع فيها. وأمَّا ولدها قبل إيلادها من سيدها: فلا يتبعها، وليس حكمه حكمها.

1247 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِن سَيِّدِهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتهِ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. قال المؤلِّف: أخرجه ابن ماجه، والحاكم، وصحَّحه؛ ولكن رده الذهبي، وذلك لأَنَّ في سنده الحسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف جِدًّا، ورجَّح جماعةٌ وقفه على عمر، رضي الله عنه. وقال الحافظ في التلخيص: الصحيح أنَّه من قول ابن عمر، وذكر ضعف الطرق المرفوعة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأمة إذا ولدت من سيدها ما فيه خلق الإنسان، ولو أنَّها صورة خفية لم يبن إلاَّ بعض تخطيطها، فهي أم ولد، تعتق مبدئيًا بولادة الجنين، ولو ميتًا، وتكمل حريتها بوفاة سيدها. 2 - أمَّا أحكامها فهي في الوطء، والخدمة، وتأجيرها، وإعارتها: كأحكام القن؛ ذلك أنَّها مملوكة لسيدها، فتبقى كذلك إلى كمال عتقها بموته. 3 - أمَّا أحكام أم الولد في نقل الملك في رقبتها من بيع، أو وقف، أو هبة، أو ¬

_ (¬1) ابن ماجه (2515)، الحاكم (2/ 19).

جعلها صداقًا، أو عوض خلع ونحوه، أو عقود يراد بها نقل الملك؛ كالرهن والوصية-: فلا تصح؛ لأَنَّها استحقت أنْ تعتق بموته، وبيعها ونحوه يمنع ذلك. قال الوزير: اتفقوا على أنَّ أمهات الأولاد لا يُبَعْنَ. قال ابن رشد: الثَّابت عن عمر أنَّه قضى أنَّها لا تباع، وأنَّها حرَّة من رأس مال سيدها إذا مات، وروي مثله عن عثمان، وهو قول أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار، وحكى ابن عبد البر، وأبو حامد الإسفراييني، وأبو الوليد الباجي، وابن بطال، والبغوي، وغيرهم: الإجماع على أنَّه لا يجوز بيعها، ولا نقل الملك فيها. ***

باب التدبير

باب التدبير مقدمة التدبير: مصدر دبَّر العبدَ، والأمةَ تدبيرًا: إذا علق عتقه بموته؛ لأَنَّه يعتق دبر حياته، فالممات دبر الحياة. واصطلاحًا: تعليق العتق بموت المعتق. والأصل فيه: أنَّ رجلًا من الأنصار أعتق غلامًا له عن دبر، لم يكن له غلام غيره، فبلغ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من يشتريه منِّي؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، وقال: أنت أحوج" [رواه البخاري (6716) ومسلم (997)]. ويعتبر لعتق المدبر: خروجه من الثلث بعد الديون، ومؤن التجهيز، سواء دبَّره في الصحة أو المرض؛ لأَنَّه تبرع بعد الموت أشبه الوصية، بخلاف العتق المنجز في الصحة؛ فإنَّه لم يتعلَّق به حق الورثة، فنفذ في جميع المال؛ كالهبة المنجزة. ***

1248 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبيلِ اللهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ -أَظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. وأصله في الصحيحين إلاَّ المكاتب. قال في التلخيص: رواه الحاكم من حديث سهل بن حنيف بلفظ ... وذكر الحديث، ورواه البيهقي عنه به. قال المؤلف: صحَّحه الحاكم. اهـ. والذهبي في موضع سكت عنه، وفي موضع قال: بل فيه عمرو بن ثابت رافضي متروك، ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير، وقال المناوي: حديثه حسن، ورواه الحاكم من غير طريق عمرو بن ثابت، وسنده حسن. * مفردات الحديث: - غارمًا في عُسْرته: وهم المدينون، وهما قسمان: أحدهما: غارمٌ لإصلاح ذات البين. والثاني: غارمٌ لإصلاح نفسه. فالأوَّل: لا تشترط عسرته، والثَّاني: لا يعطى إلاَّ إذا كان معسرًا، لا يجد سدادًا لدينه وغرامته. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 487)، الحاكم (2/ 89).

- مكاتبًا في رقبته: المراد به الرقيق المكاتب في الَّذي لا يجد وفاء ليؤدي دين كتابته، وتحرير رقبته، فيعطى ما يفي به دين كتابته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث فيه ثلاثة من فضائل الأعمال: الأولى: من أعان مجاهدًا في سبيل الله، فإنَّ الله تعالى يظله يوم لا ظلَّ إلاَّ ظله؛ ذلك أنَّ الجهاد في سبيل الله هو رأس الأعمال الصَّالحة وذروتها، فمن أعانه على جهاده بمالٍ، أو استخلافٍ في أهله، أو غير ذلك، نال هذا الأجر العظيم في ذلك اليوم الشديد؛ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقد جاء في الصحيحين، من حديث زيد بن خالد الجهني، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيًا في أهله بخيرٍ فقد غزا". الثانية: مساعدة الغارم، وهو المدين الَّذي بقي بذمته غرامات، أو ديات بسبب تحمله ذلك للإصلاح بين قبيلتين، أو أهل بلدتين. فهذان الفرعان من الغارمين من أعانهم على ضيقة الأوَّل وعسرته، وعلى مروءة الثَّاني وإصلاحه، فإنَّ الله تعالى يظله بظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظله. وهؤلاء الغارمون جعل الله تعالى لهم نصيبًا من الزكاة؛ فقال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]. وقد جاء في مسلم (2699) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "مَنْ نفَّس عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". وجاء في مسند أحمد (11869) وسنن أبي داود (1641) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ المسألة لا تحل إلاَّ لثلاثة: لذي فقرٍ مدقعٍ، أو لذي غرمٍ مفظع، أو

لذي دمٍ موجعٍ"؛ وهذا الَّذي أشار إليه الحديث الأخير هو الغارم لنفسه فيعطى ما يسد به دينه. الثالثة: إعانة المكاتب على فكاك رقبته من الرق. والرقيق: معدوم الحرية، ناقص التصرف، محبوسٌ على أعمال سيده، فإذا عَتَقَ، مَلَكَ نفسه، ورجعت إليه حريته من سجن الرِّق، وانحل من غل العبودية. ففكاك المكاتب من أَجَلِّ الطَّاعات، وأفضل القربات، وأعظم الحسنات. قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} [البلد: 13]، وجاء في سنن الترمذي (1655) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثةٌ كلهم حقٌّ على الله أنْ يعينهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتَب الَّذي يريد الأداء، والنَّاكح المتعفِّف". 2 - فهذه الأعمال الثلاثة عظيمة الفضل، كبيرة الأجر، ومن أعان عليها، أو على شيءٍ منها، فقد أتى بابًا كبيرًا من أبواب الإحسان. 3 - الشَّاهد من الحديث للباب هي الخصلة الأخيرة. والله الموفق. انتهى كتاب العتق ***

كتاب الجامع

كتاب الجامع مقدمة هذا الكتاب جمع ستَّة أبوابٍ من آداب النفس البشرية: أحدها: الأدب. الثاني: البر والصلة. الثالث: الزهد والورع. الرَّابع: الترهيب من مساوىء الأخلاق. الخامس: الترغيب في مكارم الأخلاق. السادس: الذكر والدعاء. وهذه الأبواب تدور على تهذيب النفس، وإقامة السلوك، وتصحيح المنهج، وسيأتي بيان كل بابٍ في مكانه، إنْ شاء الله تعالى. ***

باب الأدب

باب الأدب الأدب: بفتح الهمزة والدَّال، مصدر أَدُبَ الرجلُ، بكسر الدَّال وضمها، أي: صار أديبًا في خُلُق، أو علم. قال ابن حجر في الفتح: الأدب: استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، وهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وهو الهدى الَّذي كمَّل الله به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم]. ووصفته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: "كان خلقه القرآن" [رواه مسلم (746)]. وهو النهج الَّذي يحاول أنْ يسير عليه أرباب القلوب، وعلماء السَّيْر، والسلوك إلى الله تعالى. قال السَّفَاريني في "شرح منظومة الآداب": أدب أهل الدِّين مع العلم رياضة النفس، وتأديب الجوارح، وتهذيب الطباع، وحفظ الحدود، وترك الشهوات، وتجنب الشبهات، وحفظ القلوب، واستواء السريرة والعلانية. قال الغزالي: الخلق الحسن: صفة سيد المرسلين، والأخلاق السيئة: هي السموم القاتلة، والمخازي الفاضحة؛ فحسن الخلق هو الصورة الباطنة في الإنسان، ولا تزكو النفس إلاَّ بالمجاهدة، ومن غلبت عليه البطالة، استثقل المجاهدة، والرياضة، والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وزعم أنَّ الأخلاق لا يتصور تغييرها. ونقول له: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير، لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "يا معاذ، حَسِّنْ خلقك". والطاعات: هي صقال القلوب وشفاؤها، والمعاصي؛ هي أدرانها وأمراضها، واعتدال الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقمٌ ومرض.

1249 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:"حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إذا دعاك فأجبه: أجاب الدَّاعي إجابة، مصدر، والاسم: الجابة، بمنزلة الطاعة، تقول: منه إجابة، وأجاب عن سؤاله، والاستجابة بمعنى الإجابة، وأصله: أجابه إجْوَابًا، حذفت الواو، وعوضت عنها التاء؛ لأنَّ أصلها أجوف واوي. - وإذا عَطَسَ فحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْه: العطاس: اندافع الهواء من الأنف بعنف لعارض. فَشَمِّته: بالشين المعجمة، ثمَّ ميم مشدَّدة، من التشميت، والتفعيل يجيء للسلب، والمراد هنا: إزالة شماتة الأعداء عنه بالدعاء له بالخير، لاسيما بلفظ: يرحمك الله، ويأتي بالسين المهملة، ولكن بالشين المعجمة أفصح. قال في تهذيب اللغة: سمَّته بالسين والشين: إذا دعا له. وقال أبو عبيد: بالشين المعجمة أعلى وأفشى. - وإذا فمرض فعُدْه: عاد المريض يعوده عيادة: إذا زاره في مرضه، وسأل عن حاله، وأصل العيادة عِوَادَةٌ، قلبت الواو ياء؛ لكسر ما قبلها؛ طلبًا للخفة. ¬

_ (¬1) مسلم (2162).

* ما يؤخذ من الحديث: الدِّين الإسلامي دين المحبَّة، والمودة، والإخاء، يحث عليها، ويرغب فيها؛ لذا فإنَّه شرع الأسباب التي تحقق هذه الغايات الشريفة. وإنَّ من أهمها القيامِ بالواجبات الاجتماعية بين أفراد المسلمين، من إفشاء السلام، وإجابة الدعوة، والنصح في المشورة، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة. هذا الحديث الَّذي معنا أكَّد هذه الحقوق، ونحن نعرضها واحدًا واحدًا إنْ شاء الله تعالى: الأوَّل: السلام؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] , وقال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. وجاء في صحيح مسلم (54) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السَّلام بينكم". فالتحية المباركة الطيبة جعلها الله رابطة مودة، وحب، وإخاء بين المسلم والمسلم، وبين القلب والقلب. لذا يحسن أنْ تؤتى بألفاظها، ومعانيها الكاملة، وهي: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". قال في الإقناع: "وابتداء السلام سنة، ومن الجماعة سنة كفاية، ولو سلَّم على إنسان، ثمَّ لقيه عن قُربٍ، سُن أنْ يسلِّم عليه ثانيًا، وثالثًا، وأكثر، ولا يترك السلام إذا كان على ظنِّه أنَّ المسلم لا يرد عليه". ورد السَّلام فرض عين على المنفرد، وفرض كفاية على الجماعة.

وتزاد الواو في رد السلام وجوبًا. ويكره أنْ يسلم على امرأةٍ أجنبية إلاَّ أنْ تكون عجوزًا، أو برزة. ويكره على تالٍ، وذاكرٍ، وملبٍّ، ومحدِّثٍ، وخطيبٍ، وواعظٍ، ونحوهم، وعلى من يسمع لهم. والهجر المنهي عنه يزول بالسلام. ويسن أنْ يسلِّم عند الانصراف، وإذا دخل بيته، أو بيتًا خاليًا، أو مسجدًا خاليًا، قال: السَّلام علينا، وعلى عباد الله الصَّالحين. ويجزىء: "السَّلام عليكم"، وفي الرد: "وعليكم السَّلام"، وكماله: "السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، والجواب مثله. ولا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية الشَّابة. وتسن مصافحة الرجل للرجل، والمرأة للمرأة، ولا ينزع يده من يد مصافحه حتَّى ينزعها إلاَّ لحاجة. ولا بأس بالمعانقة، وتقبيل الرأس واليد لأهل العلم، والدِّين ونحوهم. الثاني: "إذا دعاك فأجبه"؛ قال تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]. وجاء في سنن أبي داود (3741) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن دعي فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله"، ولمسلم: "إذا دعا أحدكم أخاه، فليُجب"، وفي لفظ: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس، فليجب". قال في الإقناع: والإجابة إلى وليمة العرس واجبة إذا عيَّنه دل مسلم، يحرم هجره، ومكسبه طيب، في اليوم الأوَّل، وهو حق الدَّاعي تسقط بعفوه، وإنْ كان المدعو مريضًا، أو ممرضًا، أو مشغولًا بحفظ مال، أو كان في شدَّة حر، أو برد، أو مطر يبل الثياب، أو كان أجيرًا ولم يستأذن المستأجر -لم تجب الإجابة.

والإجابة في دعوة العرس واجبة -كما تقدَّم- وفيما عداها من الدعوات المباحة مندوبة. الثالث: "إذا استنصحك فانصحه"؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال عن أخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف]. وجاء في البخاري (57)، ومسلم (56) من حديث جرير بن عبد الله، قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم". وجاء في البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحِب لأخيه ما يحب لنفسه". وروى مسلم في صحيحه (55) من حديث تميم الدَّاري؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدِّين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". فالنصيحة: هي عماد الدِّين وقوامه. والنصيحة لعامَّة المسلمين: هي إرشادهم لصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفقٍ وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتَخَوُّلهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأنْ يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه. والنصيحة فرض كفاية؛ إذا قام بها من يكفي، سقطت عن غيره. وهي لازمة على قدر الطَّاقة. ومعنى الحديث: أنَّه إذا طلب منك النصيحة، فيجب عليك أنْ تنصح له،

وأمَّا بدون طلب، فلا يجب، ولكن النَّصيحة من أخلاق الإسلام الفاضلة، فالدَّال على الخير كفاعله. الرَّابع: "إذا عطس فحَمِدَ الله فشمتْه"؛ صفة ذلك كما جاء في صحيح البخاري (6224) عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، وليقل: يهديكم الله، ويُصْلحُ بالَكم". قال النووي: إنَّه متَّفق على استحبابه. قال في الإقناع: وإذا عطس، خمَّر وجهه، ولا يلتفت، ويحمد الله. وتشميته فرض كفاية، ويكره أنْ يشمت من لم يحمد الله، لكن يعلِّم الصغير أنْ يحمد الله، وحديث عهد بالإسلام ونحوه. ويشمِّت الرجل الرجلَ، والمرأةَ العجوز والبرزة، ولا يشمت الشَّابة، ولا تشمته. فإنْ عطس ثانيًا، وثالثًا، شمته، ورابعًا، دعا له بالعافية. الخامس: "إذا مرض فعُدْه"؛ فقد جاء في جامع الترمذي (969) عن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلمٍ يعود مسلمًا غدوةً إلاَّ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتَّى يمسي، وإنْ عاده عشية إلاَّ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتَّى يصبح، وكان له خريف في الجنة" حديث حسن. قال الشيخ تقي الدِّين: الَّذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض، وجزم بها البخاري، وذهب جمهور الفقهاء: إلى أنَّها مندوبة، ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب. ومفهوم الحديث: أنَّ حقَّ العيادة للمسلم، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام عاد يهوديًّا، كما في البخاري، وعاد عمه أبا طالب؛ كما في الصحيحين.

قال في الإقناع: ويسأله عن حاله، وينفِّس في أجله بما يطيب نفسه، ولا يطيل الجلوس عنده، ويَغِبُّ بها". جاء في البخاري (5743) ومسلم (2191)، عن عائشة: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يعوِّذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب النَّاس، أذهب الباس، اشْفِ أنت الشَّافي، لا شافي إلاَّ أنت، شفاءً لا يغادر سَقَمًا". السَّادس: "إِذَا ماتَ فاتَّبعْهُ"؛ فقد جاء في البخاري (1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة -رَضِيَ الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شهد الجنازة حتَّى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتَّى تدفن: فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين". قال في الإقناع: واتباع الجنازة سنَّة، وهو حق للميت، وحق لأهله. قال الآجري: من الخير أنْ يتبعها لقضاء حق أخيه المسلم. ويكره رفع الصوت، والصيحة عند رفعها، ولو بقراءة، أو ذكر، ويسن أنْ يكون متخشعًا متفكِّرًا في حاله، متعظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ويكره التبسم، والضحك أشد منه، والتحدث بأمر الدنيا. ***

1250 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَجْدَر: مشتق من الجدر الَّذي هو أصل الشجرة؛ فكأنَّهُ ثابتٌ بثبوت الجدر، ومعناه: أحق وَأخلق ألَّا تحتقروا نعمة الله عليكم. - تزدروا: يُقال: ازدراه ازدراء: احتقره واستخف به. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الطمأنينة القلبية لا تحصل إلاَّ بحسن النظر، والقناعة بما قسم الله للعبد، فإذا قنع نفسه، وألهم شعوره بنعم الله تعالى عليه، حصلت له راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، ورضيَ بما قسم الله له؛ فلا تطمح نفسه في أمور الدنيا إلى مَنْ هم أعلى منه، ولا تمتد عيناه إلى من هم فوقه فيها. وإذا فعل ذلك، حصل له راحةُ قلب، وطيب نفس، وهناءة عيش. وإلاَّ فإنَّه مهْمَا حصَّل، ومهما زادت أموره الدنيوية، فإنَّه سيجد من هو أحظ منه؛ فلا يزال في شقاء قلب، وتعب ضمير، وإنهاك بدن، ولهو، وغفلة عن الاستعداد لحياته الباقية، وسعادته الدَّائمة. 2 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد أمَّته إلى طريق القناعة، ودلَّهم على منهج الرضا؛ فأمرهم أنْ ينظروا في أمر دنياهم إلى من هو أسفل منهم، وأقل منهم حظًّا فيها؛ فإنَّ العبد مهما افتقر، فسيجد من هو أفقر منه، ومهما مرض فسيرى من هو أشد ¬

_ (¬1) البخاري (6490)، مسلم (2963).

منه مرضًا، وإنْ كان ذا عاهة، فسيجد من هو أعظم منه عاهة، وأشد بلاءً، فإذا أمعن النظر، فسيجد أنَّ الله تعالى فضَّله على كثيرٍ ممَّن خلق تفضيلا. وهذه النظرة الحكيمة ستريح قلبه، وتسعد نفسه، وتزيده إيمانًا بربِّه، وشكرًا له على نعمه، وصبرًا على ما ابتلاه؛ ابتغاء ما عند الله تعالى. 3 - أمَّا النظر في الطَّاعات والقربات، فينبغي أنْ ينظر إلى من هم أعلى منه، وأنْ يعتبر نفسه من المقصِّرين، وأنْ يغبطهم على سبقهم، وَيَجِّدَّ في اللحاق بهم. قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين]. وقد جاء في صحيح مسلم (5664) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز". وجاء في البخاري (6122) ومسلم (2823) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُفَّت النَّارُ بالشَّهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره". ***

1251 - وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ البِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - البِر: بكسر الباء، التوسع في فعل الخير؛ فهو اسمٌ جامعٌ للخيرات، من اكتساب الحسنات، واجتناب السيئات، والعمل الخالص الدَّائم المستمر. - حُسن الخلق: قال ابن دقيق العيد: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين. - الإثم: هو المعاصي والذنوب بحق الله، أو بحقِّ خلقه؛ قال ابن دقيق العيد: الإثم هو الشيء يورث نفرة في القلب، وهذا أصلٌ يتمسَّك به لمعرفة الإثم. - حَاكَ: تردد، وتحرَّك به الخاطر في صدرك، وخشيت أنْ يكون ذنبًا. * ما يؤخذ من الحديث: الحديث يشتمل على تفسير لفظين: "البر" و"الإثم"، وهذا معناهما: البر: قال ابن رجب: البر يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والطَّاعات الظَّاهرة؛ كإنفاق الأموال فيما يحبه الله، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على الأقدار؛ كالمرض والفقر، وعلى الطَّاعات، كالصبر على لقاء العدو. وقد يكون جواب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال كلها؛ ¬

_ (¬1) مسلم (2553).

لأنَّ حسن الخلق قد يُراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله، التي أدَّب بها عباده في كتابه؛ كما قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم]. قالت عائشة: "كان خلقه القرآن" يعني: تأدَّب بآدابه، فيعمل بأوامره، ويتجنَّب نواهيه؛ فصار العمل بالقرآن له خلقًا، كالجبلة والطبيعة، لا يفارقه. وهذا هو أحسن الأخلاق، وأشرفها، وأجملها، وقد قيل: "إنَّ الدِّين كله خلق". وقال ابن دقيق العيد: "البر حسن الخلق": المراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين الَّذين وصفهم الله تعالى، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيات [الأنفال: 2]، وقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112]. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} الآيات [المؤمنون]، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الآيات [الفرقان: 63]. فمن أشكل عليه حاله، فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميعها علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على عدم كمالها، فليشتغل بحفظ ما وجده، وتحصيل ما فقده. ولا يظن ظانٌّ أنَّ حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش فقط، وأنَّ من فعل ذلك، فقد هذَّب خلقه، بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين، والتخلق بأخلاقهم، ومن حسن احتمال الأذى. وقال الشيخ أحمد حجازي في شرح الأربعين: البر: عبارة عمَّا اقتضاه الشرع وجوبًا وندبًا؛ فهو عبارة عن الإحسان، فيدخل فيه ثلاثة: طلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل النَّدى، وأنْ يحب للنَّاسِ

ما يحب لنفسه، ومنه الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والإحسان في السر، والإيثار في العسر، وحسن الصحبة، ولين الجانب، واحتمال الأذى، وفعل الواجبات، واجتناب المحرمات. الإثم: هو ما أثَّر في الصدور، وجاء ضيقًا واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، مع هذا فهو عند النَّاس مستنكر، بحيث يكرهونه عند اطلاعهم عليه، وهذا هو أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر النَّاس فاعله، وغير فاعله. ومن هذا قول ابن مسعود: "ما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيح". وفي الجملة: فما ورد النص به فليس للمؤمن فيه إلاَّ طاعة الله ورسوله؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وينبغي أنْ يتلقَّى ذلك بانشراح الصدر والرضا؛ فإنَّ ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له؛ كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]. وأمَّا ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله، ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن -المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين- منه شيءٌ، وحاك في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتيه فيه بالرخصة، ولا من يخبره عن رأيه، وهو ممَّن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوى: فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون. وقال الشيخ أحمد حجازي: الإثم: هو الذنب، وما حاك، أي: رسخ، وأثَّر في النفس اضطرابًا، وقلقًا، ونفورًا، وكراهية بعدم طمأنينتها، وكرهت أنْ

يطلع عليه وجوه النَّاس وأماثلهم الَّذين يسخرون منه؛ وذلك أنَّ النَّفس لها شعور من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته، وما تذم عاقبته، ولكن غلبت عليها الشهوة حتَّى أوجبت لها الإقدام على ما يضرها. ووجه كون كراهة النَّاس على الشيء يدل على أنَّه إثم: أنَّ النَّفس بطبعها تحب الاطلاع على خيرها، وتكره ضد ذلك. ومن ثم أهلك الرياءُ -أكثر النَّاس، فبكراهتها اطلاع النَّاس يعلم أنَّه شرٌّ وإثم. ***

1252 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ يُحْزِنُهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فلا: الفاء هنا رابطة لجواب إذا. - لا: ناهية، يطلب بها ترك الفعل؛ فهي جازمة. - يتناجَ: بجيم فقط، فهي مجزومة، كما في بعض نسخ البخاري؛ ولكنَّها عند الأكثر بألف مقصورة، فهو بلفظ الخبر؛ كما أوضح ذلك في فتح الباري. - تختلطوا: الخلط مصدر خلط يخلط، من باب ضرب، فالاختلاط هنا الاجتماع بالنَّاس. - من: بكسر الميم، وسكون النون، لها عدَّة معانٍ؛ أحدها: أنْ تكون للتعليل، وهي المرادة هنا. - حتَّى: حرف يأتي لعدَّة معاني، والمراد به هنا أنَّها: للغاية؛ فهي بمعنى "إلى". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسلام يأمر بجبر القلوب، وحسن المجالسة والمحادثة، وينهى عن كل ما يسيء إلى المسلم ويحزنه، ويوجب له الظنون؛ فمِن ذلك: أنه إذا كانوا ثلاثة، فإنه إذا تناجى اثنان وتسارَّا دون الثالث الذي معهما، فإن ذلك يسيئه ويحزنه، ويشعره بأنه لا يستحق أن يدخل معهما في حديثهما؛ كما يشعره ¬

_ (¬1) البخاري (6290)، مسلم (2184).

بالوحدة والانفراد. 2 - مفهوم الحديث أنهم إذا كانوا أكثر من ثلاثة من الأربعة فصاعدًا، فلا بأس من التناجي والتسارِّ. وآداب المجالس هي الأنس والانبساط من الجميع، وتبادل الأحاديث المفيدة والنكات اللطيفة، والمزاح المعتدل إذا كان بين الأصحاب الذين ارتفعت بينهم الكلفة. 3 - ومن التناجي المكروه: أن يتكلم بلغة لا يحسنها الثالث الذي معهما؛ فهذه لها حكم التسارِّ والتناجي الممقوت. 4 - ظاهر الحديث: أن التناجي المذكور محرَّم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، فإن لم يصل إلى درجة التحريم، فأقل الأحوال الكراهة الشديدة. ***

1253 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تفسَّحوا: يقال: فسح له في المجلس يفسح فسحًا، من باب نفع: وسَّع وفرَّج له عن مكان يسعه. - توسَّعوا: يُقال: وسع يسع سعة، من باب علم، وتوسَّع القوم في المجلس، أي: تفسحوا فيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث فيه أدبان من آداب المجالس: الأوَّل: أنَّه لا يحل للرَّجل أنْ يقيم الرجل الآخر من مجلس سبقه إليه قبله، ثمَّ يجلس فيه، فمن سبق إلى مباح، فهو أحق به، و"من سبق إلى ما لم يُسْبَقْ إليه، فهو له" سواءٌ كان المقيم وجيهًا، أو غير وجيه؛ فإنَّ السَّابق أحق بمكانه، سواءٌ أكان في مسجد، أو مجلس، أو حفل، أو غير ذلك. الثاني: أنَّ المتعين على الحضور أنْ يتفسَّحوا للقادم حتَّى يوجدوا له مكانًا بينهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]. قال القرطبي: أمر الله المسلمين بالتعاطف والتآلف حتَّى يفسح بعضهم لبعض؛ حتَّى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنظر إليه. ¬

_ (¬1) البخاري (6270)، مسلم (2177).

2 - قال: الصحيح أنَّ الآية عامَّةٌ في كلِّ مجلس، اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء أكان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الَّذي سبق له؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سبق إلى ما لم يُسْبَقْ إليه، فهو أحق به" [رواه أبو داود (3071)]. 3 - وقال أيضًا: قال علماؤنا: هذا يدل على صحَّة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أنْ يقوم منه؛ لأَنَّه إذا كان أولى به بعد قيامه، فقبله أولى به. ***

1254 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكمْ طَعَامًا، فَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يَلْعَقها أَوْ يُلْعِقها: الأوَّل من الفعل الثلاثي "لعق"؛ فهو بفتح الياء، والثَّاني من الرباعي "ألعق"؛ فهو مضموم الياء، فالأوَّل: يلعقها بنفسه، والثَّاني: يُلْعِقها زوجته، أو ولده، أو خادمه، واللَّعْقُ: تتبُّعُ ما عليها من طعام بلسانه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - نعمة الله تعالى في الطعام والشراب لها حرمتها وكرامتها، ومن ذلك: أنَّ الآكل إذا لم يلعق ما بأصبعه، أو يده من بقايا الطعام، فإنَّه لا ينبغي أنْ يغسل يده، فيجري الطعام مع المياه الوسخة، والأقذار، والأبوال، فإنَّ هذا من كفران النعمة وإهانتها؛ ولكن عليه أنْ يلعق يده وأصابعه حتَّى لا يبقى فيها أثر من الطعام الرَّاسخ، أو يُلْعِقها من له عليه دالَّة وميانة؛ كالولد، والزوجة، والخادم، ونحوهم. 2 - إنْ لم يحصل هذا كما هو الحال في زماننا من إهمال كثيرٍ من السنن، فأقل أحوال الآكل أنْ يمسح بقية الطعام من يده بالمناديل التي تلقى بأمكنة طاهرة نظيفة، ثمَّ يغسل يديه بعد ذلك، والأفضل اتباع السنة. 3 - بعضهم فهم أنَّ المراد بلعق اليد بعد الطعام: أنَّ ذلك لأجل قلَّة الماء، وأنَّه جعل اللعق بدل الغسل حتَّى لا يبقى على يديه أثر الطعام، والحق: أنَّ ¬

_ (¬1) البخاري (5456)، مسلم (2031).

المراد هو الأوَّل، والله أعلم. 4 - جاء في البخاري (211) ومسلم (358) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- شرب لبنًا، وتمضمض، وقال: "إنَّ له دسمًا". قال في الآداب الشرعية: لذلك ينبغي أنْ يتمضمض بعده بالماء من كل ما له دسم؛ لتعليله -صلى الله عليه وسلم-. ***

1255 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لِيُسَلِّم الصَّغِيْرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "وَالرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يفيد الترتيب المندوب في حقِّ البداءة بالسلام؛ فذكر أربعة أنواع فيها: أحدها: أنَّ حقَّ التكرمة هي من الصغار للكبار، فعلى الصغير أنْ يجل الكبير، ويبدأه بالسَّلام والتحية. الثاني: أنَّ المارَّ الَّذي يتخطَّى أمام القاعد، هو الَّذي ينبغي له البداءة بالسَّلام؛ لأنَّه بمنزلة القادم عليه. الثالث: أنَّ الكثير هو صاحب الحق على القليل؛ فالأفضل للقليل أنْ يكون هو البادىء بالسَّلام؛ لأنَّ القليل ينوي الجمع كله ببداءة السَّلام، فيشملهم جميعًا. الرَّابع: أن الرَّاكب له مزية الاعتلاء، وفضل الركوب؛ فكان البدء بالسلام من أداء شكر الله تعالى على نعمته عليه؛ ليشعر الماشي بعدم الزهو والكبر؛ فإنَّ عليه أنْ يتواضع، فيبدأ بالسَّلام على الماشي. 2 - قال في شرح الإقناع: ويسن أنْ يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على الجالس، والرَّاكب على الماشي؛ للحديث، فإنْ ¬

_ (¬1) البخاري (6231)، مسلم (2160).

عكس؛ بأن سلم الكبير على الصغير، والكثير على القليل، والقاعد على الماشي، والماشي على الرَّاكب، حصلت السنَّة؛ للاشتراك في الأمر بإفشاء السَّلام، والأوَّل أكمل في السنة؛ لامتيازه بخصوص الأمر السَّابق. 3 - هذا إذا تلاقوا في الطريق ونحوها، أمَّا إذا وردوا على قاعد أو قعود، فإنَّ الوارد يبدأ مطلقًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، أو راكبًا، أو قليلاً، وضدهم. ***

1256 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُجْزِىءُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِىءُ عَنِ الجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بمجموع طرقه. وقد أخرجه أبو داود، وأحمد، والبيهقي، وأبو يعلى، والضياء في المختارة، ونقل عن النيسابوري، قال: هذا حديث حسن، وحسَّنه الحافظ في "نتائج الأفكار". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم أنَّ الابتداء بالسَّلام سنة كفاية، إذا قام به أحد المسلمين، كفى عن الباقين، وإنْ حصل السَّلام منهم، كان أفضل. 2 - وأنَّ الجواب فرض كفاية، إذا قام به واحدٌ منهم، كفى عن الباقين، ولكن الأفضل أنْ تكون الإجابة من الجميع. 3 - والحديث الَّذي معنا يبين الحد الأدنى من المجزىء. 4 - قال في شرح الإقناع: وابتداء السَّلام من جماعة سنة كفاية، والأفضل السَّلام من جمعهم؛ لحديث "أفشوا السلام" [رواه مسلم (54)]. ورده فرض عين على المنفرد، وفرض كفاية على الجماعة المسلَّم عليهم، فيسقط برد واحد منهم. 5 - اختلف العلماء في معنى السَّلام، فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله؛ ¬

_ (¬1) أبو داود (5210)، البيهقي (9/ 49).

السَّلام عليك، يعني؛ أنت في حفظ الله. تقول له: الله يصحبك، الله معك. وقال بعضهم: إنَّه بمعنى السَّلامة، أي: السَّلامة ملازمة لك. ***

1257 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَبْدَؤُوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بالسَّلاَم، وَإِذَا لَقيْتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - جاء في سنن الدَّارقطني (3/ 252) من حديث عائذ المزني، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإسلاَم يعْلُو، وَلاَ يُعْلَى". 2 - فيه دليلٌ على أنَّ اليهود والنصارى إذا صاروا ذميين في حماية الإسلام مقابل الجزية، وساكنوا المسلمين في ديارهم: أنَّ لهم أحكامًا خاصَّة ذكرت في باب أحكام أهل الذمة. 3 - من تلك الأحكام: أنَّ الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق، فإنَّ المسلم يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم؛ إشعارًا بعزَّة الإسلام عليهم، ولعلَّ في هذه المضايقات لهم ما يدفعهم إلى الإسلام؛ لأنَّه ليس بينهم وبين هذه العزَّة إلاَّ الدخول في الإسلام، ليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. 4 - هذه الأحكام الآن معطَّلة بسبب ضعف الإسلام، وتبعية المسلمين للأمم الكافرة؛ ولكنَّنا لا نيأس أنْ يعود للإسلام عزَّته، وغلبته، وسيادته؛ فقد قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة]. 5 - وفي الحديث النَّهي عن بداءة اليهود والنَّصارى بالسَّلام، فإنْ بدؤوا ¬

_ (¬1) مسلم (2167).

بالسلام، فقد جاء في البخاري (6258) ومسلم (2163) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم". وإثبات الواو في الرد عليهم: هو مذهب جمهور العلماء، وذهب بعضهم: إلى حذفها، والنص أولى بالاتباع، والله أعلم. ***

1258 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُل لَهُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلحُ بَالَكُمْ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يصلح: يُقال: صلح الشيء يصلُح ويصلَح، من بابي نصر وفتح، ومصدره صلاحٌ وصلوحٌ، والصَّلاح ضد الفساد. - بالكم: البال: القلب، والحال، والشَّأن؛ يُقال: رجل رضي البال، أي: واسع الحال، فالمعنى: يصلح قلبكم وحالكم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العطاس: زفير مفاجىء قوي يخرج عن طريق قصبة الأنف دون إرادة الشخص، ينشأ عن تهيُّج الغشاء المخاطي للأنف، أو يخرج مرضًا؛ كما يحدث في الزكام، وانحباسه يحدث خمولاً في الجسم، أمَّا خروجه: فيحس العاطس بعده بخفة في بدنه. 2 - لذا استحب للعاطس أنْ يحمد الله تعالى: أنْ سهَّل خروج الأبخرة من جسمه، فيقول سامعه: يرحمك الله، وهو دعاء مناسب لمن عوفي في بدنه، ثم يجيب العاطس، فيقول؛ يهديكم الله، ويصلح بالكم. وجواب العاطس كإجابة المسلَّم عليه للمسلِّم، ويكون بدعاء مشابه لدعائه. 3 - قال في الآداب الشرعية: قال ابن هبيرة: إذا عطس الإنسان، استدل بذلك ¬

_ (¬1) البخاري (6224).

على صحة بدنه، وجودة هضمه، واستقامة قوته؛ فينبغي أنْ يحمد الله. وفي صحيح البخاري (6223): "إنَّ الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"؛ لأنَّ العطاس يدل على خفة بدن ونشاط، والتثاؤب يدل غالبًا على ثقل البدن، وامتلائه، واسترخائه. وقال في شرح الأدب المفرد: قوله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "إنَّ الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"، المحبة والكراهية منصرفان إلى أسبابهما؛ وذلك أنَّ العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام، بخلاف التثاؤب؛ فإنَّه يكون من الثقل والامتلاء، فالأوَّل يجلب النشاط للعبادة، والثَّاني يجلب الكسل والفتور، فندبت الشريعة حمد الله بعد العطاس؛ لسلامة الأعضاء، ولخفة البدن بدفع الأذى والثقل من الدماغ، وزوال مواد النزلة، وهذه كلها من منن الله تعالى، فيستحب حمد الله عليها، وظاهر الأمر الوجوب، ولكن لم يقل به أحد. قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فحقٌّ على كلِّ مسلمٍ سَمِعَهُ أنْ يشمته". قال ابن القيم: قال جماعةٌ من علمائنا: إنَّ التشميت فرض عين؛ لأنَّهُ جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحقِّ الدَّال عليه. وذهب آخرون: إلى أنَّه فرض كفاية، ورجَّحه ابن رشد، وابن العربي، وقال به أبو حنيفة، وجمهور الخنابلة، قال الحافظ: وهو الرَّاجح من حيث الدليل. 4 - وقد جاء في السنن عند أبي داود (5029) والترمذي (2745) بسندٍ حسن، من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عطس، وضع يده أو ثوبه على فمه". 5 - قال في الآداب الشرعية أيضًا: تشميت العاطس وجوابه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب مالك وغيره، وقيل: سنة، وهو مذهب الشَّافعي وغيره.

1259 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه النَّهي عن الشرب، والأصل في النَّهي التحريم؛ ولذا ذهب الظاهرية إلى تحريم الشرب قائمًا. 2 - أمَّا الجمهور: فحملوه على أنَّه خلاف الأولى؛ لمعارضته ما في صحيح مسلم (2027) من حديث ابن عباس قال: "سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زمزم، فشرب وهو قائم". وجاء في صحيح البخاري (5615) "أَنَّ عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شرب قائمًا، وقال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل كما رأيتموني فعلت"؛ ممَّا يدل على أنَّ النَّهي ليس للتحريم. 3 - قال في الآداب الشرعية: ويتوجَّه أنَّه -عليه الصلاة والسلام- شرب قائمًا ليبين الجواز، وأنَّه لا يحرم؛ فالنَّهي للكراهية، أو لترك الأولى. قال السفَّاريني في شرح منظومة الآداب: الأخبار في الشرب قائمًا صحيحة؛ فالنَّهي محمولٌ على خلاف الأولى، وشربه -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لبيان الجواز. قال الحافظ ابن حجر: إِذَا رُحْتَ تَشْرَبُ فَاقْعُدْ تَفُزْ ... لِسُنَّةِ صُفَّةِ أَهْلِ الحِجَازِ وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قَائمًا ... وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازْ ¬

_ (¬1) مسلم (2026).

وقال ابن القيم في الهدي: من هديه -صلى الله عليه وسلم- الشرب قاعدًا حيث كان هديه المعتاد، وصحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه نهى عن الشرب قائمًا، وصحَّ عنه أنَّه شرب قائمًا: فقالت طائفة: لا تعارض بينها أصلاً؛ فإنَّما الشرب قائمًا للحاجة. وما قاله ابن القيم من الجمع بين النصوص بهذه الطريقة هو الأولى؛ ذلك أنَّ النَّهيَ للكراهة فقط، والكراهة تبيحها الحاجة، والمكان الَّذي عند زمزم الَّذي شرب عنده قائمًا، ليس محل جلوس، والله أعلم. ***

1260 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأ بالشِّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ" (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حديث عائشة الَّذي في البخاري (168) ومسلم (268): "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنهِ كلَّه"، فكان -صلى الله عليه وسلم- يبدأ باليمين، ويقدمها للأشياء الطيبة، ويؤخرها لما سوى ذلك؛ فكان إذا انتعل قدم اليمنى، وإذا لبس القميص قدم اليمنى، وإذا دخل المسجد قدم اليمنى. ويقدِّم الشَّمال لما سوى ذلك، فيقدمها عند دخول الخلاء، وعند الخروج من المسجد، ويقدمها عند خلع النعلين، والقميص، ونحو ذلك. 2 - وكان يخص اليمين في الأكل، والشرب، والمصافحة، وتناول الأشياء الطيبة، ويخص الشمال للأوساخ، والأشياء المستكرهة، هذه هِيَ سنته -صلى الله عليه وسلم- التي يستطيبها، ويعجبه فعلها. 3 - وكان في الطهارة يقدِّم غسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى، وفي حلق النسك يقدم الجانب الأيمن من رأسه على الأيسر؛ وهكذا شأنه صلوات الله وسلامه عليه. 4 - أنَّ تقديم اليمنى في الأشياء المستطابة، وتخصيصها لها، وتخصيص الشمال للأشياء المستقذرة: هو الأفضل شرعًا وعقلاً وطبًّا؛ ولذا صارت القاعدة الشرعية المستمدَّة من سنته هي تقديم اليمين نفسها في كلِّ ما كان ¬

_ (¬1) البخاري (5856)، مسلم (2097).

فعله من باب التكريم، وما كان ضدها استحب له الشِّمال. 5 - قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصَّالحة؛ لفظ اليمين حسًّا في القوَّة، وشرعًا في الندب إلى تقديمها. وقال الحليمي: إنَّما يبدأ بالشمال عند الخلع؛ لأنَّ اللباس كرامة، ولأنَّه وقاية، فلمَّا كانت اليمين أكرم من اليسرى، بُدِىءَ بها في اللبس، وأخرت في الخلع؛ لتكون الكرامة لها أدوم، وحصَّتها منها أكثر. ***

1261 - وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَمْشِ أَحَدُكُمْ في نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخلَعْهُمَا جَمِيعًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لينعلهما: ضبطه النووي بضم حرف المضارعة، من باب الإنعال، وضمير التثنية للرِّجلين، وإنْ لم يَجْرِ لهما ذكر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسلام كامل، ويدعو إلى الكمال، وجميل يحب الجمال؛ فإن مشي الإنسان في نعل واحدة، أو خفٍّ واحدة، ففيه مُثْلَةٌ وتشهير، ومخالفة للمعتاد؛ لذا نهى عن المشي في نعل واحدة، فإما أن ينعل الرجلين جميعًا، وإما أن يتركهما، ويكون حافيًا، وكان -صلى الله عليه وسلم- تارة ينتعل، وتارة يمشي حافيًا. 2 - الأصل في النَّهي هو التحريم، إلاَّ أنَّ جمهور العُلماء حملوا هذا النَّهي على الكراهية؛ لما روى الترمذي (1777) عن عائشة قالت: "رُبما انقطع شسع نعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمشى في النعل الواحدة حتَّى يصلحها". قال في الفروع: يكره المشي في نعلٍ واحدة بلا حاجة، ونصَّ عليه الإمام أحمد، ولو يسيرًا. 3 - قال الخطابي: الحكمة في النَّهي: أن النَّعْل شُرِعت لوقاية الرجل عمَّا يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أنْ يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجيَّة ¬

_ (¬1) البخاري (5855)، مسلم (2097).

مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار. وقيل: لأنَّه لم يعدل بين جوارحه، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرَّأي، أو ضعفه. وقال ابن العربي: قيل: العلَّة فيه أنَّها مشية الشيطان. ***

1262 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبه خُيَلاَءَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - خُيَلاء: بضم الخاء، آخره ألف ممدودة، الخيلاء: التكبُّر والعُجْبُ بالنفس، و"خيلاء": حال من فاعل "جر". * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه وعيد شديد لمن جر ثوبه خيلاء، بأنَّ الله تعالى يُعْرِض عنه، ولا ينظر إليه نظرة رحمة، وعطف، ولطف. وهذ الوعيد يدل على تحريم الإسبال، وأنَّه من كبائر الذنوب. 2 - أجمع العلماء على تحريم إسبال الثياب تِيهًا وخيلاء، واختلفوا فيما إذا فعل ذلك من غير خيلاء: فذهب طائفة منهم: إلى أنَّ الإسبال ونزول الثوب عن الكعبين حرام، سواء فعل ذلك من أجل الكبر والخيلاء، أو فعله وليس في قلبه من ذلك شيء، وقالوا: إنَّ النصوص كلها تدل على تحريم ذلك، لكن من جرَّه جرًّا وأرخاه حتَّى لمس الأرض، فهذا هو صاحب الوعيد، الَّذي لا ينظر الله إليه، ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم. وأمَّا الَّذي نزل إزاره، أو قميصه عن الكعبين فقط، فما نزل عن ذلك، فهذا الجزء الَّذي نزل إليه القميص في النَّار، وهو وعيد أخف من الأوَّل؛ لأنَّ هذا العمل أخف من العمل الأوَّل. ¬

_ (¬1) البخاري (5783)، مسلم (2085).

وقالوا: لا يصلح حمل مطلق النصوص على مقيدها؛ لأنَّ من شرط حمل المطلق على المقيد هو اتحاد السبب واتحاد الحكم، وهنا لم يتحدا، فالسبب مختلف في الثوب؛ فإنَّ إسباله وجره غير نزوله عن الكعبين، والحكم مختلف؛ فكون الله تعالى لم ينظر إلى المسبل، ولا يكلِّمه، وله عذابٌ أليم، مغايرٌ ومخالفٌ لمن لا يمس العذاب منه إلاَّ أسفل كعبيه. أمَّا الطائفة الأُخرى: فذهبوا في هذه النصوص إلى حمل مطلقها على مقيدها، وأنَّ الوعيد على ذلك كله واحد، وهو الإسبال مع الخيلاء والكبر، وأنَّ الإسبال ابتداؤه ما نزل من الكعبين، وقد يطول ويقصر، وهو كله محرَّم بالنصوص، بلا تفريق بين هذا وهذا. وإنَّ القاعدة الأصولية هي حمل المطلق على المقيد، وهي قاعدة مطردة في عموم نصوص الشريعة. والشارع الحكيم لم يقيد تحريم الإسبال "بالخيلاء" إلاَّ لحكمة أرادها، ولولا هذا، لم يقيده. والأصل في اللباس الإباحة؛ فلا يحرم منها إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله، والشَّارع قصد من تحريم هذا اللبسة الخاصَّة قصد الخيلاء من الإسبال، وإلاَّ لبقيت اللبسة المذكورة على أصل الإباحة. وإذا نظرنا إلى عموم اللباس وهيئاته وأشكاله، لم نجد منه شيئًا محرَّمًا إلاَّ وتحريمه له سبب، وإلاَّ فما معنى التحريم وما الغرض منه؟! لذا فإنَّ مفهوم الأحاديث أنَّ من أسبل، ولم يقصد بذلك الكبر والخيلاء، فإنه غير داخل في الوعيد. ويؤكِّد هذا ما جاء في صحيح البخاري (3665) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن جرَّ ثوبه لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: يارسول الله! إنَّ إزاري يسترخي، إلاَّ أنْ أتعاهده؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إنَّك

لست ممَّن يفعله خيلاء". فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في المسألة في أنَّ القصد من التحريم هو الخيلاء، لا كثرة نزول الإزار، أو قلته، وإلاَّ لقيد به. قال الإمام النووي في شرح مسلم: وأمَّا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسبل إزاره" فمعناه: المرخي له، الجار طرفه خيلاء؛ كما جاء مفسَّرًا بالحديث الآخر. وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصِّص عموم من أسبل إزاره، ويدل على أنَّ المراد بالوعيد مَنْ جرَّه خيلاء، وقد رخَّص النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لأَبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- وقال: "لست منهم"؛ إذ كان جرَّه لغير الخيلاء. وقال الإمام ابن جرير: وذَكَرَ الإسبال للإزار وحده؛ لأنَّه كان عامَّة لباسهم، وحكم غيره من القميص حكمه. قال النووي: وقد جاء ذلك مبينًا منصوصًا عليه من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، فمن جرَّ شيئًا خيلاء، لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة" [رواه أبو داود (4094) والنسائي (5334) وابن ماجة (3576) بإسنادٍ حسن]، والله أعلم. والرَّاجح فقهًا: هو ما ذهب إليه حاملو مطلق نصوص المسألة على مقيدها، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل. ***

1263 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فلْيَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم لنا في حديث عائشة الصحيح: "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنهِ كله" [رواه البخاري (168) ومسلم (268)]. ومن هذه الشؤون التي يعجبه التيمن فيها: الأكل والشرب، فكان عادته الكريمة أنْ لا يأكُل ولا يشرب إلاَّ بيمينه، وقال لعمر بن أبي سلمة: "يَاغَلاَم! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بيمينك، وكل ممَّا يليك" [رواه البخاري (5376) ومسلم (2022)]. وقال لرجلٍ أكل عنده بشماله: "كل بيمينك، فَقَالَ: لا أستطيع -لم يمنعه إلاَّ الكبر- فقال: لا استطعت، فما رفعها إلى فمه". 2 - وحديث الباب فيه الأمر بالأكل باليمين، والشرب باليمين؛ فيدل على أنَّ هذا للوجوب؛ لأنَّ مقتضى الأمر الوجوب، ويدل على أنَّ ضده -وهو الأكل والشرب بالشمال- حرام. 3 - وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الأكل والشرب بالشمال هو عمل الشيطان، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، والتشبه بالشياطين محرَّم لا يجوز. 4 - قال في شرح منظومة الآداب؛ اليد اليمنى يستحب مباشرتها للخيرات، ¬

_ (¬1) مسلم (2020).

وتقديمها في القربات، فهي لما شَرُفَ، واليسرى لما خبث. فيندب تقديم اليمنى في الوضوء، والغسل، والتيمم، ولبس الثوب، والنعل، والسروال، والخف، ودخول المسجد، والمنزل، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشَّارب، وحلق الرَّأس، ونتف الإبط، والسَّلام في الصَّلاة، والأكل، والشرب، والمصافحة، والمناولة، واستلام الحجر الأسود، والركن اليماني، وما في ذلك كله. وأمَّا ما خبث من نحو تقديم رجله اليسرى، لدخول الخلاء، والحمام، والامتخاط، والاستنجاء، وما شابه ذلك، فيندب أنْ تكون باليسرى. والأصل في ذلك: قول عائشة -رضي الله عنها-: "كَانت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلافه وما كان من الأذى" [رواه أبو داود (33) وغيره بإسنادٍ صحيح]. ***

1264 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ في غَيْرِ سَرَفٍ، وَلاَ مَخْيَلَةٍ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح أوَّل كتاب اللباس لأبي داود الطيالسي، والحارث ابن أبي أُسامة في مسنديهما، ولابن أبي الدنيا في الشكر، وهو حسنٌ أو صحيح على قاعدة ابن حجر؛ حيث أورده في زيادات الباب، وقد صحَّحه الحاكم، وقال المنذري: رواته ثقات محتجٌّ بهم في الصحيح. * مفردات الحديث: - سَرَف: بفتح السين والرَّاء: قال النحاس: أحسن تفسير للسرف أنَّه الإنفاق في غير طاعة الله تعالى. وقال العيني: السرف: صرف الشيءِ فيما ينبغي زائدًا، والتبذير: صرف الشيء فيما لا ينبغي. - المَخْيَلة: الخيلاء والتكبر والعجب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الله تبارك وتعالى أباح لعباده الطيبات من الرِّزق: من مأكلٍ، ومشربٍ، ¬

_ (¬1) الطيالسي (2261)، أحمد (6695)، البخاري (10/ 252/ فتح).

وملبسٍ، ومسكنٍ، ومركبٍ، وغير ذلك من طيبات الحياة الدنيا، ولم يحرم من ذلك إلاَّ ما فيه مضرَّةٌ على الدِّين، أو على البدن، أو العقل، أو العِرض، أو المال؛ وهي الضروريات الخمس. 2 - وفي هذا الحديث الإباحة في أكل، وشرب، ولبس ما طابَ من متع الحياة الدنيا المباحة؛ فلا يحرم نوعٌ من الأنواع، ولا جنسٌ من الأجناس، ولا قدر معيَّنٌ منها، فالله تعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. 3 - إنَّما المحرَّم من ذلك ما بلغ حدَّ الإسراف والخيلاء والاستعلاء بذلك على النَّاس، فهذا محرَّم؛ لأنَّه خروج عن حدِّ الإباحة إلى السرف؛ قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، فالآية الكريمة أباحت الأكل، ولم تحده إلاَّ بالسرف، والسرف: مجاوزة الحد المباح. 4 - قال الشيخ عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النَّفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإنَّ السرف مضرٌّ بالجسد، ومضر بالمعيشة، ويؤدِّي إلى الإتلاف، فيضر بالنَّفس؛ إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال. والمَخْيَلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من النَّاس. ***

باب البر والصلة

باب البر والصلة 1265 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَانْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَنْ أحبَّ: "من": اسم شرط جازم، "أحب": فعل الشرط، وجوابه: "فليصل رحمه". - أَنْ يُبْسَط له في رزقه: بالبناء للمجهول، أي: يوسع، قال النووي؛ بسطه وتوسيعه: كثرته، ورزقه، أي: مرزوقه، مصدر بمعنى المفعول. - أنْ يُنسَأ: مبني للمجهول، فهو مضموم الياء، ثمَّ نون ساكنة، بعدها سين مهملة، ثمَّ همزة، من الإنساء وهو التَّأخير، و"أنْ" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به. - أثره: بفتحتين، مصدر أثر، من باب قتل، أي: أجله وبقية عمره، وسمي الأجل أثرًا؛ لأنَّه يتبع العمر. - فليَصِلْ رَحِمَهُ: أمر بصلة الرحم، والصَّلة مصدر وصل، ضد قطع، وصلة الرحم: كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتفضل عليهم، والرفق بهم. ¬

_ (¬1) البخاري (5985).

- فليَصِلْ: جواب "مَنِ" الشرطية؛ فلذا دخلته الفاء، وصلة الرحم تكون بصلة ذوي القربى، وقد يكون بالمال، وبالخدمة، وبالزيارة، ونحوها. - رَحِمَهُ: الرحم في الأصل منبت الولد، ووعاؤه في البطن، ثمَّ سميت القرابة من جهة الولادة رحمًا. واختلف العلماء في الرحم، فقيل: كل ذي رحمٍ مَحْرَم، وقيل: كل وارثٍ، وقيل: هو القريب، سواء كان مُحْرَمًا أو غيره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21]. قال القرطبي: ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة، وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. 2 - وجاء في البخاري (5989) ومسلم (2555) من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرحم معلَّقةٌ بالعرش تقول: مَنْ وَصلني، وصله الله". 3 - صلة الرحم سببٌ قويٌّ جعله الله في سعة رزق الواصل، وبركة في آثاره، وطول عمره؛ لاكتساب الأعمال الصَّالحة، والتزود من دار المَمَرِّ إلى دار المَقَرِّ. قال ابن علان في شرح رياض الصالحين: قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} [الأعراف: 34]، والجمع بينهما على أحد الوجهين: الأوَّل: أن تحمل الزيادة على أنَّها كنايةٌ عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى طاعة الله، وعمارة وقته بما ينفعه، ويقرِّبه من مولاه تعالى؛ ويقوي هذا: ما جاء من أنَّه -صلى الله عليه وسلم- اشتكى تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأَعمار من

مضى من الأمم؛ فَأُعطيَ ليلة القدر. الثاني: أنْ تحمل الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة للأجل المعلَّق المكتوب في اللوح المدفوع للمَلَك، مثلاً: كتب أنَّه إنْ أطاع فلان، فعمره كذا، وإلاَّ فعمره كذا، والله سبحانه وتعالى عالمٌ بالواقع منهما، والأجل المحتوم في الآية على ما في علم الله سبحانه وتعالى الَّذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد]. فالحديث فيه ما أشارت إليه أوَّل الآية من الأجل المعلَّق، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] أشار به إلى العلم الإلهي الَّذي لا تغير فيه ألبتَّة، ويعبر عنه بالقضاء المحتوم، وعن الأوَّل بالقضاء المعلَّق. والوجه الأوَّل أليق بلفظ حديث الباب، فإنَّ الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخَّر، حسن أنْ يحمل على الذِّكر الحسن بعد فَقْد المذكور. وقال الطيبي: الأوَّل أظهر؛ وإليه يشير كلام صاحب الفائق. 4 - وأرى أحسن من هذين القولين بأنَّ الله تعالى قدَّر الأسباب والمسببات، وأنَّ الله تعالى إذا قدَّر إطالة عمر الإنسان هيأ له من الأسباب الحسيَّة والمعنوية ما تكون سببًا لطول عمره، والنَّسْءِ في أجله. 5 - وهذا ما ذهب إليه بعض المحقِّقين، ومنهم الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ حيث قال عند شرح هذا الحديث: فيه حثٌّ على صلة الرحم، وبيان أنَّها كما هي موجبةٌ لرضا الله تعالى، فإنَّها موجبةٌ أيضًا للثواب العاجل بحصول أحب الأمور إلى العبد، وأنَّها سببٌ لبسط رزقه وتوسيعه، وسببٌ لطول العمر، وذلك على حقيقته، فإنَّه تعالى هو الخالق للأسباب والمسببات، وقد جعل الله لكلِّ مطلوبٍ سببًا، وطريقًا يُنال به، وهذا جارٍ على الأصل الكبير، وأنَّه من حكمته وحمده: جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وَصَل

رَحِمَه بالبرِّ والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وَصَلَ الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرِّزق وبركاته ما لا يحصل له بدون ذلك السبب الجليل. وكما أنَّ طيب الهواء، وجلب الغذاء، واستعمال الأشياء المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعله الله سببًا ربَّانيًّا؛ فإنَّ الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان: أمور محسوسة، وأمور ربَّانية، قدرها من هو على كلِّ شيءٍ قدير، والَّذي جميع الأسباب منقادة لمشيئته. 6 - وفي الحديث دليل على أنَّ قصد العامل يترتَّب على عمله من ثواب الدنيا، ولا يضره إذا كان القصد وجه الله تعالى والدَّار الآخرة؛ فإنَّ الله بحكمته رتَّب الثوابَ العاجل والآجل، ووعد بذلك العاملين؛ فالمؤمن الصَّادق يكون في فعله وتركه مخلصًا لله، مستعينًا بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى، والله الموفِّق. ***

1266 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ" يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة]. وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد]. وجاء في البخاري (5987) ومسبلم (2554) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أنْ أصلَ من وصلك، وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لكِ". 2 - واختُلِفَ في الرحم التي يجب وصلها، ويحرم قطعها إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها الرحم التي يحرم النكاح بينهما؛ بحيث لو كان أحدهما ذكرًا، والآخر أُنثى، لم يصح النكاح بينهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمَّات، ولا أولاد الأخوال والخالات. واحتج أصحاب هذا القول: بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها في النكاح؛ فإنَّه لم يحرم إلاَّ خشية القطيعة، وما دام أنَّه لم يحرم، فليس هناك رحم يخشى من قطيعتها. ¬

_ (¬1) البخاري (5984)، مسلم (2556).

الثاني: أنَّه من كان بينهما توارث؛ واحتج هؤلاء بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ثمَّ أدناك أدناك"؛ فالحث هنا على الأدنى فالأدنى، والقرابة الموالية هى الوارثة. الثالث: أنَّها عموم القرابة بقطع النظر عن حرمة النكاح أو الإرث. وهذا قولٌ وجيه؛ ولكنَّها تختلف الصلة والبر بحسب القرب والبعد بينهم، وباختلاف القدرة والحاجة. 3 - الصلة الحقيقيَّة والبر ليست لمن بينك وبينه من أقاربك تبادل بالصلة والبر والعطاء والزيارة، ونحو ذلك، فهذا يسمَّى مكافئًا. فقد جاء في البخاري (5991) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الَّذي إذا قطعت رحمه وصلها". فهذا يدل على أنَّ الوصل الممدوح حقًّا هي الصلة في القريب الَّذي قطعك، فهذه هي الصلة الكاملة، والأولى حميدة أيضًا. 4 - فالدرجات مع الأقارب ثلاث: - واصل. - مكافىء. - قاطع. 5 - جاء في صحيح مسلم (2558) من حديث أبي هريرة: "أنَّ رجلاً قال: يارسول الله! إنَّ لي قرابةً أصلهم، ويقطعونني، وأُحسن إليهم، ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليَّ؟ فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: إنْ كُنت كما قلت، فكأنَّمَا تُسِفهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك". 6 - قال الإمام النووي في معنى الحديث: "إنَّك بإحسانك إليهم تحزنُهم، وتحقرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك، وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف الملَّ، والمل: هو الرَّماد الَّذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج.

1267 - وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إنَّ اللهَ حرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكثْرَةَ السُؤالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عقوق الأمَّهات: بضم العين؛ من عَقَّه يعقُّهُ عقوقًا: إذا آذاه وعصاه، والأُمَّهات: جمع "أمَّهة" لغة في الأُم، لا تطلق إلاَّ على من يعقل، بخلاف الأم، فإنَّها تعم. والعقوق المحرَّم إيذاءٌ لها، وهو ليس بالهيَّن عرفًا، وإنَّما خصَّ الأُمَّهات؛ لضعف النساء، وعظم حق الأم. - ووأد البنات: بفتح الواو، ثمَّ همزة ساكنة، آخره دال، الوأد: مصدر وأد بنته يئدها وأدًا: دفنها حية، وكانت عادةً جاهليةً في بعض قبائل العرب، إمَّا لخوف العار، أو خشية الفقر. - منْعًا: الإمساك، أي: منع ما يجب أداؤه: من المال، والقول، والفعل، والخلق. - وهَاتِ: بكسر التاء، فعل أمرٍ مبني على الكسر، أي: نهي عن طلب واستدعاء ما ليس لكم أخذه من الحقوق، فهات، بمعنى: أعطني. - قيل وقال: كلاهما فعلان ماضيان، الأوَّل منهما مبني للمجهول، أصله "قُوِلَ"، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، ثمَّ قُلبت ياءً؛ ¬

_ (¬1) البخاري (5975)، مسلم (3/ 1341).

لسكونها وانكسار ما قبلها. وأمَّا "قال" فإنَّ اصلها "قَوَلَ"، قُلِبتِ الواو ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها. واستعمل هذان الفعلان استعمال الأسماء، وأبقي فتحهما؛ ليدل على أصلهما. ويرويان بالتنوين؛ فحينئذٍ يكونان مصدرين، والمراد: كراهة كثرة نقل حكاية أقاويل النَّاس. -كثرة السؤال: يراد به سؤال المال ممَّن لا يحل له السؤال؛ كما أنَّه يشمل السؤال عن المسائل التي لم تقع، ولم يحتج إلى بحثها، وأغلوطات المسائل، أو يسأل النَّاس من أموالهم استكثارًا منه. - وإضاعة المال: يُقال: ضاع الشيء يضيع ضيعًا وضياعًا: فُقِد، وهَلَكَ، وتلف، وصار مهملاً، والمراد: إنفاقه في غير الأوجه المشروعة، أو تركه من غير حفظ فيضيع، أو يتركه حتَّى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيرًا؛ كبرًا عن تناوله، فهذه أمثلة من إضاعة المال المنهي عنه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه جملةٌ من الأحكام ممَّا حرَّمه الله تعالى: الأوَّل: "عقوق الأمهات"؛ قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان]، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15]. وجاء في البخاري (5971) ومسلم (2548) من حديث أبي هريرة: "أنَّ رجلاً قال: يارسول الله! من أحق النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: أُمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أبوك". وجاء في البخاري (2654) ومسلم (87) من حديث أبي بكرة -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ أنبئكَ بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق

الوالدين". والأحاديث في الباب كثيرة. الثاني: "وأد البنات": قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء]، وخصَّ البنات؛ لأنَّها عادة الجاهلية. الثالث: "منعًا وهات": أي: يمنع الحقوق الواجبة عليه: من الزكاة، والنفقات الواجبة، ويستكثر من جمع الأموال التي لا تحل له من حقوق النَّاس، يحتال عليها بالطرق المحرمة. قال الحافظ: الحاصل من النَّهي منع ما أُمِرَ بإعطائه، وطلب ما لا يستحق. الرَّابع: "كره لكم قيل وقال": المراد بهذا: أنْ يكون مشيعًا للأخبار التي لم يتحققها، ولا علاقة له فيها؛ مثل هذا يكثر زلله وخطؤه، وهو مناف لخلق الإسلام الموصوف بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" [رواه الترمذي (2317)]. الخامس: "كره لكم كثرة السؤال"؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وقد جاء في البخاري (6859) ومسلم (2358) من حديث سعد بن أبي وقَّاص؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". قال ابن علان في شرح رياض الصالحين: الأولى حمل السؤال على ما يعم المسائل المشكلات والمعضلات من غير ضرورة، وعن اخبار النَّاس، وحوادث الزمان، وسؤال الإنسان بخصوصه عن تفصيل أحواله، فقد يكره ذلك. وقد ثبت عن جمعٍ من السلف: كراهة تكلَّف المسائل التي يستحيل

وقوعها عادة، أو يندر وقوعها جدًّا، لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الَّذي لا يخلو صاحبه من الخطأ. السَّادس: "كره لكم إضاعة المال": المراد بذلك: إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءً أكانت دينية أو دنيوية. والمنع من إضاعته؛ لأنَّ الله تعالى جعله قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح. 2 - ويستثنى كثرة الإنفاق في وجوه البر؛ لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقًّا آخر أهم منه. 3 - قسم العلماء الإنفاق إلى ثلاثة أنواع: الأوَّل: محرَّم، وهو أنْ ينفق المال في الوجوه المذمومة شرعًا. الثاني: مستحب، وهو الإنفاق في وجوه الخير والطاعة، الإعانة على نشر دين الله تعالى وإعلاء كلمته، والنفقات المستحبات. الثالث: النفقات المباحة، وهي منقسمة إلى قسمين: أحدهما: على وجهٍ يليق بحال المنفِق، وبقدر ماله وحاله، فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف، فهو جائز. الثاني: أنْ ينفق فيما لا يليق به عرفًا، فالجمهور على أنَّه إسراف. قال ابن دقيق العيد: ظاهر القرآن أنَّه إسراف. ***

1268 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رِضَا اللهِ في رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ اللهِ في سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. رواه الترمذي عن شعبة بطريقين: أحدهما: مرفوع، والثاني: موقوف على عبد الله بن عمرو، وقال ابن عدي: وقفه أصح، فلا أعلم رفعه غير خالد بن الحارث عن شعبة، وخالد بن الحارث ثقة مأمون، وهناك ثقتان آخران محتج بهما في الصحيح أيضًا روياه مرفوعًا؛ كما بيَّن فضيلة محقِّق صحيح ابن حبان (2/ 173). قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود. أمَّا الحاكم فقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير. * مفردات الحديث: - رضا: رضي بالشيء رضًا، فهو راضٍ به، أي: مختار له، فالرضى بالشيء، ضد السخط، وأمَّا رضا الله: فهي صفة من صفاته التي تليق بجلاله تبارك وتعالى، نثبت حقيقتها اللائقة بجلاله، ولا نكيفها. - سَخِطَ: لسَخِطَ سَخطًا، من باب تعب، فالسخط بالضم، اسم فيه، وهو الغضب، وأمَّا سخط الله: فهو صفة من صفاته التي وصفه بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ¬

_ (¬1) الترمذي (1900)، ابن حبان (2026)، الحاكم (4/ 151).

فنثبت حقيقتها لله تعالى إثباتًا حقيقيًّا، ونفوِّض كيفية صفتها إلى الله تعالى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حق الوالدين كبير؛ فقد قرن تبارك وتعالى حقَّه بحقِّهما؛ فقال تعالى: {وَوَصَّيْأَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. 2 - وفي هذا الحديث جعل الله رضاه من رضائهما، وسخطه من سخطهما، فمن أرضاهما فقد أرضى الله، ومن أسخطهما فقد أسخط الله. 3 - فيه وجوب إرضائهما، وتحريم إسخاطهما؛ ذلك أن إرضاءهما من الواجبات، وإسخاطهما من المحرمات. 4 - النصوص في وجوب بر الوالدين، وتحريم عقوقهما كثيرة جدًّا، ومنها: ما رواه مسلم (2551) من حديث أبي هريرة، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَغِمَ أنف، ثمَّ رغفَ أنف، ثمَّ رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنَّة". وجاء في البخاري (527) ومسلم (85) من حديث ابن مسعود قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصَّلاة لوقتها، قلت: ثمَّ أي؟ قال: بر الوالدين، قلت؛ ثمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله". وجاء في الصحيحين، من حديث أبي بكرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ أُنَبِّئُكم بأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوق الوالدين". 5 - وطاعة الوالدين إنَّما تكون بالمعروف؛ فلا طاعة لهما في معصية الله تعالى؛ فقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ طاعَة لمخلوقٍ في معصية الخالق". قال صديق حسن في تفسيره: وجملة هذا الباب أنَّ طاعة الوالدين لا

تراعى في ركوب معصية، ولا ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات. وقال في شرح الإقناع: ولا طاعة للوالدين في ترك فريضة؛ كتعلم واجبٍ عليه، وما يقوم به دينه، من طهارةٍ، وصلاةٍ، وصيام، ونحو ذلك، وإنْ لم يحصل ذلك ببلده، فله السفر لطلبه بلا إذنهما؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. 6 - أمَّا بخصوص طاعة الوالدين في المباحات: فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الَّذي ينتفع به الأبوان، ولا يتضرَّر هو بطاعتهما فيه قسمان: قسم: يضرهما تركه؛ فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه. وقسم: ينتفعان به، ولا يضره؛ فتجب طاعتهما فيه. 7 - وقال فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أنْ يطلِّقها، بل عليه أنْ يبرها، وليس تطليق امرأته من برها. قال في الآداب الكبرى: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته، لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، وسأل رجلٌ الإمام أحمد، فقال: إنَّ أبي يأمرني أنْ أُطلِّق امرأتي، فقال: لا تطلِّقها. قال الرَّجل: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أنْ يطلِّق امرأته، قال: حتَّى يكون أبوك مثل عمر، رضي الله عنه. ***

1269 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حق الجار على جاره كبير جدًّا؛ قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وجاء في البخاري (6015) ومسلم (2625) من حديث عائشة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا زَالَ جبريل يوصيني بالجار، حتَّى ظننت أنَّه سيورِّثه". وجاء في مسلم (48) من حديث أبي شريح الخزاعي؛ أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره". والنصوص في الباب كثيرة. 2 - حديث الباب صريحٌ في نفي الإيمان عن العبد الَّذي لا يحب لجاره من حصول الخير وبعد الشر، ما يحب لنفسه. 3 - أوَّل العلماء نفي الإيمان هنا بأنَّ المراد به نفي كماله الواجب؛ إذ قد علم من قواعد الشريعة: أنَّ من لم يتصف بذلك لا يخرج من الإيمان. 4 - المحبوب المذكور لم يعين، وقد عيَّنه في رواية النسائي (5017) بلفظ: "حتَّى يحب لأَخيه من الخير ما يحب لنفسه". قال العلماء: المراد: من الطاعات وأعمال الخير والأمور المباحة، وهذا فيه صعوبةٌ على النفوس الشحيحة، ولكنَّه سهل على ذوي القلوب السليمة. ¬

_ (¬1) البخاري (13)، مسلم (45).

5 - قال الشيخ العساف في مختصر الإحياء: وأمَّا حقوق الجار: فالجوار يقتضي حقًّا وراء كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، والرِّفق، وابتداء الخير، فيبدؤه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاَّته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع على كلامه، ويغض طَرْفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب. 6 - وقال في شرح البلوغ: الجار عامٌّ للمسلم، والكافر، والفاسق، والصديق، والعدو، والقريب، والأجنبي، فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبَّة الخير له، فهو في أعلى المراتب، ومن كان فيه أكثرها، فهو لاحق به، وهلمَّ جَرًّا إلى الخصلة الواحدة، فيعطي كلَّ ذي حقٍّ بحسب حاله. وجاء في الطبراني من حديث جابر: "الجار الكافر له حق الجوار، والجار المسلم له مع الجوار حق الإسلام، والجار المسلم القريب له ثلاثة حقوق". ***

1270 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قَلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانَي حَلِيلَةَ جَارِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نِدًّا: بكسر النون، وتشديد الدَّال، هو الشبيه والمثيل والشريك. - تزاني حليلة: الحليلة هي الزوجة، ولفظ "تزاني" يدل على رضاها، وهو خيانة كبرى للجار الَّذي يجب إحسان جواره. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث اشتمل على ثلاث من الموبقات: إحداها: "أنْ تجعل ندًّا"؛ فهذا هو الشرك الأكبر الَّذي هو أعظم الذنوب، وأكبر المعاصي، ولا يغفر لصاحبه إلاَّ بالتوبة، وذلك بالدخول بالإسلام، وأمَّا من مات على الشرك، فهو مخلَّدٌ في النَّار. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة]. والنصوص من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة في هذه المسألة كثيرة. الثانية: "أنْ تقتل ولدك؛ خشية أنْ يأكل معك"؛ فقتل النفس التي حرَّم ¬

_ (¬1) البخاري (4477)، مسلم (86).

الله هي المرتبة الثانية الذنوب العظيمة، والموبقات المهلكة، ويزيد الإثم ويتضاعف والعقاب إذا كان المقتول ذا رحم من القاتل، ويتضاعف مرَّة أخرى حينما يكون الهدف هو قطع المقتول من رزق الله الَّذي أجري على يد القاتل؛ ففيه نهاية الشح، وغاية سوء الظن بالله تعالى؛ ولذا قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء]. الثالثة: "أنْ تزاني حليلة جارك"، الزنى هو الرتبة الثالثة بعظم الموبقات شناعتها، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء]. ويعظم إثم هذه الموبقة إذا كانت المزني بها حليلة الجار، الَّذي وصى الله تعالى رسوله على البر به، والإحسان إليه، وحسن صحبته وجواره؛ فكيف يكون الأمر إذا أفسد فراشه، وانتهك حرمته، وداس عرضه، وخان جواره؟! 2 - الحديث يدل على أنَّ أعظم الذنوب هي الشرك بالله تعالى، ثمَّ قتل النفس التي حرَّم الله بغير حقٍّ، ثمَّ الزنى. 3 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وهو خلقك" هذا سياق تبشيع؛ فإنَّه من أبشع الأشياء، أنْ تقابل النعم عليك بالإساءة، فكيف إذا كان المنعم هو صاحب النعم العظيمة، والمنن الكبيرة، التي أولها الإيجاد من العدم؟! ***

1271 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من الكبائر: جمع كبيرة، وهي: الفعلة القبيحة، أو الخصلة الكبيرة من الذنوب المنهي عنها شرعًا، العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى. - يسب: يُقال؛ سبَّه يسبه سبًّا: شتمه، فالسب الشتم. قال في التعريفات: الشتم: وصف الغير بما فيه نقص وازدراء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم بيان حقوق الوالدين، ووجوب برهما، والإحسان إليهما؛ كما تقدَّم أنَّ من أكبر الكبائر عقوقهما؛ فقد قال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. إذ علمنا أنَّ شتمهما من أعظم المنكرات. 2 - لما قال النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "من الكبائر شتم الرَّجل والديه"، استغرب الصحابة -رضي الله عنه- ذلك؛ فقالوا للنَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: وهل يسب الرَّجل والديه؟ فأخبر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه إذا تسبب في شتمهما؛ فكأنه شتمهما؛ وذلك بأن يسب أبا الرجل، فيقابله ذلك الرجل بأن يسب أباه، فهو وإن لم يسب أباه مباشرة، إلاَّ أنه تسبَّب في ذلك، والقاعدة الشرعية: "إنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد". ¬

_ (¬1) البخاري (5973)، مسلم (90).

3 - الواجب على الإنسان الكف عن شتم النَّاس، وشتم آبائهم؛ لأنَّ هذا هُجْرٌ من القول محرَّم، ولأنَّه سببٌ لأَن يشتمه النَّاس، ويشتموا أباه معه بسببه. 4 - الحديث فيه بيان حكم المتسبب من أنَّه يشارك المباشر في عمله، إنْ خيرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فشر. 5 - قال ابن بطال: هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذرائع، ويؤخذ منه أنَّه إِذَا آل أمره إلى محرَّم، حرم عليه الفعل، وإنْ لم يقصد المحرَّم؛ وعليه دلَّ قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسير هذه الآية: نهى الله المؤمنين عن أمرٍ كان جائزًا بل مشروعًا في الأصل، وهو سبّ آلهة المشركين، لكن لما كان طريقًا إلى سب المشركين لربِّ العالمين، نهى الله عنه؛ فالآية دليلٌ للقاعدة الشرعية "إنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد" فوسائل المحرَّم، تكون محرَّمة ولو كانت جائزة. 6 - أمَّا الوسائل المذكورة في الحديث، فهى وسائل محرَّمة، ومقاصدها محرَّمةٌ أيضًا. ***

1272 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أنْ يهجر أخاه: الهجر هو الترك، والمراد: أنْ يترك المؤمن كلام أخيه المؤمن إذا تلاقيا، ويعرض كل واحدٍ منهما عن صاحبه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - للمسلم على المسلم حقوق كبيرة، كثيرة، جاءت في كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وقد تتَّبعها الإِمَام الغزالي، فجاء منها في "الإحياء" بطائفة طيبة، منها: أنْ تسلِّم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قَسَمه، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، وهذه الخصال الطيبة مستقاة من أحاديث صحيحة. 2 - إذا كانت هذه بعض الحقوق التي حثَّ عليها دينك الحنيف، فكيف يجمل بك أنْ تهجره، وتقاطعه، وتُعْرِض عنه؟! لا شك أن هذا خلق مناف لآداب الإسلام كل المنافاة!! 3 - يحرم هجر المسلم أكثر من ثلاثة أيَّام، فلا يحل أنْ يزاد عليها. 4 - قال في شرح الإقناع: والهجر المنهي عنه يزول بالسلام؛ لأنَّه سبب التحابِّ ¬

_ (¬1) البخاري (6077)، مسلم (2560).

للخير، فيقطع الهجر؛ روي مرفوعًا: "السَّلام يقطع الهجران". ويدل على هذا ما جاء بالحديث: "يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الَّذي يبدأ بالسَّلام". وزوال الهجر بالسَّلاَم هو مذهب جمهور العلماء. 5 - النَّفس البشرية تحب التشفي والانتقام؛ فاعطاها الشَّارع الحكيم مدَّة ثلاثة أيَّام تقضي وطرها ممَّن أغضبها، ولم يزد على ذلك. 6 - في الحديث فضيلة الَّذي يبدأ صاحبه بالسَّلام، ويزيل ما بينهما من التهاجر والتقاطع، ذلك أنَّه استطاع أنْ يتغلَّب على نفسه الأمَّارة بالسوء، فيسامح صاحبه ويصافيه؛ قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت]. 7 - وقال في شرح منظومة الآداب: من أعلن المعاصي -سواءٌ أكانت فعلية، أو قولية، أو اعتقادية- فهجره سنَّة يثاب الإنسان على فعلها؛ حيث كان الهجر لله تعالى غضبًا لارتكاب معاصيه، أو لإهمال أوامره. قال الإمام أحمد: إذا علم أنَّه مقيمٌ على معصيةٍ لم يأثم إنْ جفاه حتَّى يرجع، وقد جفى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كعبًا وصاحبيه، وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يومًا. ***

1273 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). 1274 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بوجه: بالتنوين. - طَلْق: بفتح الطاء، وسكون الَّلام، أي: طليق سهل منبسط باشٍّ مشرق، ويأتي طليق كأمير. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - أبواب طرق الخير كثيرة، والمستحب للمسلم أنْ يضرب في كلِّ بابٍ بسهمٍ؛ فقد قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} [البقرة]، وقال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة]. 2 - وقد عدَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- جملةً طيبةً في بعض الأحاديث الصحيحة من أعمال الخير، وجعلها صدقة، فقال: "كُلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونَهيٌ عن ¬

_ (¬1) البخاري (6021). (¬2) مسلم (2626).

المنكر صدقة، وفي بُضْعِ أَحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة، تعين الرَّجل فتحمل له على الدَّابة صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكلِّ خطوةٍ تمشيها إلى الصَّلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وطلاقة الوجه بوجه أخيك المسلم صدقة"؛ وهذه الجمل الكريمات من ثلاثة أحاديث. 3 - كل معروفٍ يفعله الإنسان صدقة، والصدقة هي ما يعطيه المتصدِّق؛ فيشمل الواجبة والمندوبة، يبيِّن أنَّ له حكم الصَّدقة في الثواب. 4 - الحديث يدل على أن الصَّدقة لا تنحصر فيما هو أصلها، وهو ما أخرجه الإنسان من ماله متطوِّعًا؛ فلا تخص بأهل اليسار، بل كل أحد قادر على أنْ يفعلها في أكثر الأحوال من غير مشقَّة؛ فإنَّ كلَّ شيءٍ يفعله الإنسان، أو يقوله من الخير: يكتب له به صدقة. 5 - لعلَّ من حِكَم تنويع العبادات، وأنواع البر، هو امتحان العباد بالقيام بها؛ فإنَّ منهم من تسهل عليه العبادات المالية دون البدنية، ومنهم من تسهل عليه العبادات البدنية دون المالية، فأراد جلَّ وعلا اختبار عباده؛ من يقدم طاعة ربه على هوى نفسه، كما أنَّ تنويعها؛ ليقوم كل مريدٍ للخير بما يقدر عليه، وما يناسبه. ***

1275 - وَعَنْ أبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَرَقة: المَرَق: بفتح الميم، والرَّاء، بعدها قاف، هي الماء أغلي فيه اللحم، فصار دسمًا، والجزء منه: مرقة. - تعاهد جيرانك: تفقَّدْ جيرانك، وَصِلْهم، ولو بمرقة تهديها إليهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تقدَّم الحثُّ على فضل صلة الجار، وبرِّه، والإحسان إليه، وهذا الحديث يحث الرجل أنْ يتعاهد جيرانه بقدر حاله، وأنْ لا يحقر من المعروف شيئًا، حتَّى ولو لم يكن عنده إلاَّ مرقة، فليكثر ماءها، وليتعاهد جيرانه ببعث شيء منها. 2 - العادة أنَّ الجيران قد سقطت بينهم الكلفة، وزالت فيما بينهم الهيبة، والهدية -ولو صغرت- توثق الصلة، وتقوي العلاقة، وتحكم المحبة؛ فالأفضل أنْ يتعاهدوا فيما بينهم الوسائل التي تربط بينهم علاقة الجوار؛ ففي الحديث: "تهادَوْا تحابوا". ... ¬

_ (¬1) مسلم (2625).

1276 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، واللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - نَفَّسَ: بفتح النون، وتشديد الفاء، آخره سين، من تنفيس الخناق، أي: إرخائه حتَّى يأخذ له نفسًا، والمراد: إزالة الضيق. - كُرْبَة: بضم الكاف، وسكون الرَّاء، ثمَّ باء موحَّدة، وآخرها تاء التأنيث، هي: ما أهم النفس، وغمَّ القلب، كأنَّها لشدَّة غمِّها عطَّلت مجال التنفس منه. - يسَّر على معسرٍ: سهَّل عليه بإبراءٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو إنظارٍ إلى ميسرة، قال في الفتح: ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها، لأنَّه حِصن بالنسبة للعامي. - سَتَر: أخفى عيب أو ذنب ذوي الهيئات والمروءات الَّذين لم يُعْرَفوا بالشرِّ، فالله تعالى يستره يوم القيامة بمحو ذنوبه، بحيث لا يسأله عنها ابتداءً، أو يسأله عنها بدون أنْ يطَّلِعَ عليها أحد. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال ابن دقيق العيد: هذا حديثٌ عظيم جامع لأنواعٍ من العلوم والقواعد ¬

_ (¬1) مسلم (2699).

الآداب. وهذه القطعة التي معنا فيها أربع فقرات كريمات: الأولى: "من نفَّس عن مسلمٍ كربةً ... إلخ": قال ابن رجب: الكربة هي الشدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أنْ يخفف عنه منها؛ وذلك بأنْ يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه، وتفريج الكربات بابه واسع؛ فإنَّه يشمل كل ما يلزمه، وينزل بالعبد من ضائقة. قال النووي: فيه دليلٌ على استحباب الرضا، وفك الأسير، والضمان على المعسر، وليس في الحديث جزاء الحسنة حسنة في الآخرة واحدة، وإنَّما كربة الآخرة تشتمل على أحوال صعبة، ومخاوف جمَّة، وتلك الأهوال تزيد على العسرة؛ كما أنَّ الحديث وعد بأنْ يختم للمنفِّس بخير، بأنْ يموت على الإسلام، فهو وعد بثواب الآخرة، فبهذا الوعد فليثق المؤمنون. الثانية: "من يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه فى الدنيا والآخرة": قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة]؛ فإنظار الغريم في الدَّين، أو إبراؤه سببٌ قويٌ، ووعدٌ من الله تعالى أنْ ييسِّر الله أموره في الدنيا والآخرة. قال ابن رجب: التيسير على المعسر يكون بأحد أمرين: إمَّا إنظاره، وذلك واجب. وإمَّا بالوضع عنه، أو بإعطائه ما يزول به إعساره؛ وكلاهما فيه فضل. وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان تاجرٌ يداين النَّاسَ، فإذا رأى معسرًا، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أنْ يتجاوز عنَّا، فتجاوز الله عنه". الثالثة: "من ستر على مسلم ... إلخ".

قال النووي: في الحديث استحباب ستر المسلم إذا طَّلَعَ على أنَّه عمل فاحشة؛ فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور]. والمستحب للإنسان إذا اقترف ذنبًا أنْ يستر على نفسه. قال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: المراد الستر على ذوي الهيئات، ونحوهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في ستر معصية وقعت وانقضت، أمَّا إذا علم معصيته وهو ملتبس بها، فيجب المبادرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإنْ عجز، لزم رفعها إلى ولي الأمر إنْ لم يترتَّب على ذلك مفسدة. أمَّا المعروف بالفسق: فلا يستر عليه؛ لأنَّ الستر عليه يطمعه في الفساد، والإيذاء، وانتهاك المحرمات، وجسارة غيره على مثل ذلك، بل عليه أنْ يرفعه إلى الإمام إنْ لم يخف من ذلك مفسدة. وكذلك القول في جرح الرواة، والشهود، والأمناء على الصدقات، والأوقاف، والأيتام، ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرَّمة، بل من النصيحة الواجبة. وقال ابن رجب في شرح الأربعين: واعلم أن النَّاسَ على ضربين: أحدهما: من كان مستورًا لا يعرف بشيءٍ من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز هتكها، ولا كشفها، ولا التحدث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمة، وهذا هو الَّذي ورد في النصوص؛ وفي ذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور]، والمراد بإشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، واتهم به ممَّا هو بريءٌ منه. قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أنْ تستر

العصاة، فإنَّ ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا، وأقر بحد لم يفسره، لم يطلب منه أنْ يفسره، بل يؤمر بأنْ يرجع ويستر نفسه؛ فقد جاء في الحديث عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" [أخرجه أبو داود (4375) والنسائي (4/ 310) من حديث عائشة]. الثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي، معلِنًا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسن البصري، وغيره. ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره؛ لتقام عليه الحدود، وصرَّح بذلك أصحابنا؛ واستدلوا بقول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "واغدُ يَا أُنيس إلى امرأة هذا، فإنْ اعترفت فارجمها" [رواه البخاري (6859) ومسلم (1698)]. ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو لم يبلغ السلطان، بل يترك حتَّى يقام عليه الحد، فيكشف ستره، ويرتدع به أمثاله. قال مالك: من لم يعرف منه أذًى للنَّاس، وإنَّما كانت منه زلَّة، فلا بأس أنْ يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ، أو فسادٍ، فلا أحب أنْ يشفع له أحد، ولكن يترك حتَّى يقام عليه الحد، حكاه ابن المنذر وغيره. الرَّابعة: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه": فمن كان في حاجة أخيه، فالله تعالى في حاجته بالتيسير والتسهيل والإعانة، وهو وعدٌ صادق من الله تعالى؛ فقد أخرج الطبراني في الأوسط (5/ 202) من حديث عمر مرفوعًا: "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته". قال مجاهد: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني".

فالحديث يدل على أنَّه تعالى يتولَّى إعانة من أعان أخاه، سواءٌ في حاجة العبد التي يسعى فيها، أو في حوائج نفسه؛ فينال من عون الله ما لم يكن يناله بغير إعانته، وإنْ كان تعالى هو المعين لعبده في كلِّ أموره، لكن إذا كان في عون أخيه، زادت إعانة الله له. 2 - فيؤخذ منه أنَّه ينبغي للعبد أنْ يشتغل بقضاء حوائج أخيه، فيقدمها على حاجة نفسه؛ لينال من الله كمال الإعانة في حاجاته. 3 - وهذه الجمل دلَّت على أنَّه تعالى يجازي العبد من جنس فعله. ***

1277 - وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المؤمن هو الَّذي يكون قدوةً، وأسوةً في عمل الخيرات، وفعل الطيبات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]. وجاء في مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَنَّ سنَّةً في الإِسلام حسنةً، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أنْ ينقص من أجورهم من شيء". 2 - وحديث الباب يدل على أنَّ من دلَّ على خيرٍ، سواءٌ أكان من خير الدنيا، أو خير الآخرة: أنَّ له من الأجر مثل أجر من فعل، من غير أنْ ينقص من أجر المقتدى به شيء، وإنَّما هو أجرٌ بسبب كونه قدوةً في الخير، وأسوةً في عمل الإحسان. 3 - ومن أفضل الأَعمال الصالحة التي يتعدَّى نفعها، وتبقى ثمارها: هو العلم النَّافع، الَّذي هو شرع الله تعالى من أصوله وفروعه، وما أعان على فهمه، فمن نشر هذا العلم، فقد ضرب بسهمٍ وافرٍ من القدوة الحسنة، والدَّلالة على الصراط المستقيم، وقد أخرج النَّاس -بإذن الله تعالى- من ظلمات الجهل إلى نور العلم، والهداية، والإرشاد، ونال بهذا عظيم الأجر من الله تعالى، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهديَ الله بك رجلًا واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم" [رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406)]. ¬

_ (¬1) مسلم (1893).

1278 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ" أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال المؤلف: أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب، والبيهقي، وأبو داود، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي: وقال حسنٌ غريب. وقد أخرجه الطبراني (12/ 397) بسندٍ رجالُهُ رجال الصحيح إلاَّ شيخه. * مفردات الحديث: - استعاذكم بالله: سأل العوذَ والعصمةَ، متوسلًا إليكم بالله، ومُقْسِمًا به عليكم، قَسَمَ استعطافٍ. - فأعيذوه: أي أجيروه منه؛ إجلالًا لمن استعاذ به. - من سألكم بالله: شيئًا، من جليلٍ، أو حقير، متوسلاً إليكم بالله، فأعطوه ما سأل إذا قدرتم عليه. - معروفًا: اسمٌ جامعٌ لكل ما يحسن في الشرع، وتسكن إليه النفس من الخير، والرفق والإحسان، وغيرها. - فكافئوه: بصيغة الأمر، أي: أعطوه على إحسانه بمثل معروفه، أو أحسن منه. ¬

_ (¬1) البيهقي (4/ 199)، أبو داود (1672)، النسائي (5/ 82)، أحمد (2/ 68).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه أربع جمل هي: الأولى: "من استعاذكم بالله، فأعيذوه" أي: من التجأ إليكم، واعتصم بكم في أمرٍ من الأمور التي حَزَبته، والعظائم التي ألجأته، فأعيذوه، وكونوا سندًا له، وعضدًا له في كربته ممَّن ظلمه، أو تعدَّى عليه، ما دام أنَّه مع حق في طلب النجاة والحماية،؛ فقد دخل عليكم هذا المدخل، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". الثانية: "من سألكم بالله، فأعطوه": من سألكم شيئًا، وعزَّز سؤاله بالله أنْ تعطوه سؤاله، فأعطوه ما طلب؛ إعظامًا للسؤال بالله تعالى. الثالثة: "من صنع إليكم معروفًا، فكافئوه" على معروفه، ولا تجعلوا له المنَّة الدائمة عليكم؛ فإن شكر المنعم مكافأته، ومقابلته عليها، والبادىء بالمعروف له سابق الفضل، فيحسن مجازاته على إحسانه. الرَّابعة: إنْ لم يجد ما يكافىء به صاحب المعروف، فعليه أنْ يكافئه بالدعاء، ومن أعظم الدعاء قول: "جزاك الله خيرًا". 2 - وفيه دليلٌ على أنَّ الاستعاذة بالمخلوق بما يقدر عليه جائزة؛ كما أنَّ السؤال عند الحاجة جائز. ***

باب الزهد والورع

باب الزهد والورع 1279 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بإصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: "إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كَالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلاَ وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مُشْتبهات: المشتبهات: بضم الميم، وسكون الشين، وكسر الباء الموحدة، وفيها عدَّة روايات بغير هذا الضبط، هي: غير الواضحات البينات، فهي كل ما تتنازعه الأدلة، وتتجاذبه المعاني؛ فالإمساك عنه ورع. - استبرأ لدينه وعرضه: بالهمزة، من البراءة، أي: احتاط، فحصل له براءة من الذم الشرعي، وصان نفسه وعرضه من ذم الناس. ¬

_ (¬1) البخاري (52)، مسلم (1599).

- عِرْضَه: بكسر العين، والعرض: موضع المدح والذم من الإنسان، فهي الأمور التي بذكرها يرتفع أو يسقط، ومن جهتها يُحمد أو يُذم. - في الشُّبُهَات: بضم الشين والباء، جمع شبهة، وهي الأمر الملتبس. - وقع في الحرام: الوقوع في الشيء: السقوط فيه، وكل سقوط يُعبَّر عنه بذلك، وإنَّما قال: وقع، ولم يقل: يوشك أنْ يقع فيه؛ تحقيقًا لمداناة الوقوع؛ كما يُقال: من اتبع هواه هلك، وإلاَّ فحقيقة الأمر هو: يوشك أنْ يقع فيه. - الحِمَى: بكسر الحاء، وفتح الميم المخففة، مقصور، أطلق اسم المصدر على اسم المفعول، وهو موضعٌ حَظَره الإِمام على النَّاس لنفسه، ومنع غيره منه. - يُوْشِكُ: بضم الياء، وكسر الشين، بمعنى: يقرب ويسرع. - محارمه: معاصيه التي حرمها؛ كالقتل. - أَلاَ: مركَّبة من همزة الاستفهام، وحرف النَّفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقُّق ما بعدها. - مُضْغة: بضم الميم، وسكون الضاد المعجمة، بعدها غين معجمة، آخرها تاء التأنيث، هي: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإنسان. - صلحت بفتح الَّلام وضمها، والفتح أفصح، والصَّلاح ضد الفساد. "ألاَ وإنَّ في الجسد مضغة ... أَلاَ وهيَ القلب": أبهم في الجملة الأولى، وبيَّنَ في الثانية، وكرَّر حرف التنبيه؛ لبيان فخامة شأنها، وعظيم موقعها، وعبَّر عن القلب بالمضغة؛ لأنَّه قطعةٌ من الجسد، كما أنَّ في المضغة معنى التصغير، مع أنَّ صلاح الجسد أو فساده تابعان لهذه المضغة، تعظيمًا لشأنها؛ ذلك أنَّ من معاني التصغير التفخيم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحلال بيِّنٌ حكمه، واضحٌ أمره، لا يخفى حله؛ وذلك كالخبز، والفواكه،

والعسل، واللبن، وجميع المأكولات، والمشروبات، والملابس، الواضح حلها، وكذا المعاملات، والتصرفات. 2 - وإنَّ الحرام بيِّنٌ حكمه، واضحٌ تحريمه؛ من أكل لحم الخنزير، وشُرب الخمر، ولبس الحرير، والذَّهب للرَّجل، والزنى، والغِيبة، والنميمة، والحقد، والحسد، وغير ذلك. فهذان القسمان الحكم فيها بيِّنٌ؛ لما ورد فيهما من النصوص القاطعة. 3 - هناك قسمٌ ثالثٌ مُشْتبه الحكم، غير واضح الحل أو الحرمة، وهذا الاشتباه راجعٌ إلى أمور: منها: تعارض الأدلة: بحيث لا يظهر الجمع، ولا الترجيح بينها؛ فهذا مشتبهٌ في حقِّ المجتهد الَّذي يطلب الأحكام من أدلتها. فمن انبهم عليه الحكم الرَّاجح، فيو في حقِّهِ مشتبه؛ فالورع اتقاء الشبهة. ومنها: تعارض أقوال العلماء وتضاربها؛ وهذا في حق المقلِّد الَّذي لا ينظر في الأدلة؛ فالورع في حق هذا اتقاء المشتبه. ومنها: ما جاء في النَّهي عنها حديث ضعيف، يوقع الشك في مدلوله. ومنها: المكروهات جميعها: فهي رقية -أي: سُلّم وَصْل- إلى فعل المحرمات، والإقدام عليها؛ فإنَّ النَّفس إذا عصمت عن المكروه، هابت الإقدام عليه، ورأته معصية؛ فيكون حاجزًا منيعًا عن المحرمات. ومنها: المباح الَّذي يُخشى أنْ يكون ذريعةً إلى المحرَّم، أو يجرّ -في بعض الأحوال- إلى المحرم، ومثله الإفراط في المباحات، فتسبب مجاوزته إلى الحرام، إمَّا عند فقده، أو للإفراط فيما هو فيه. وبناءً عليه: فإنَّ هذا الحديث أصلٌ في الورع، وهو أنَّ ما اشتبه على الرجل أمره في الحل أو الحرمة، فالورع تركه وتجنبه؛ فإنَّه إذا لم يتركه

واستمر عليه، واعتاده، جَرَّ ذلك إلى الوقوع في الحرام. 4 - وقد كان السلف -رَضِي الله عنهم- يتركون المباحات الكثيرة؛ خوفًا من المكروه والحرام؛ ذلك أنَّ من لم يتعد الشُّبَهَ في كسبه ومعاشه، فقد عرَّض دينه وعرضه للطعن. 5 - ثمَّ ضربَ -صلى الله عليه وسلم- مثلًا للمحرَّمات بالحِمَى، الَّذي يتخذه الخلفاء والملوك مرعى لدوابُّهم. ومثَّل المُلِمّ بالمشتبهات بالرَّاعي، الَّذي يسيم ماشيته حول الحمى، فيوشك ويقرب أنْ ترعى ماشيته فيه؛ لقربه منه، كذلك المُلِمّ بالمشتبهات يوشك أنْ يقع في المحرمات، وهو تصويرٌ بديعٌ، ومثالٌ قريب. 6 - ثم ذكر -صلى الله عليه وسلم- أنَّ في الجسد لحمةً صغيرةً لطيفةً بقدر ما يمضغ، وأنَّ هذه القطعة من اللحم هي القلب، وأنَّ القلب هو السلطان المدبِّر لمملكة الأعضاء، وما تأتي من أعمالٍ؛ فعليه مدار فسادها أو صلاحها. فإن صلح القلب، فإنه لن يأمر إلاَّ بما فيه الخير، وسيصلح الجسد كله، وإن فسد، فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة، والله ولي التوفيق. 7 - وبالجملة فهذا حديثٌ عظيم جليل، وقاعدةٌ من قواعد الإِسلام، وأصلٌ من أصول الشريعة، عليه لوائح أنوار النُّبوة ساطعة، ومشكاة الرِّسالة مضيئة؛ فهو من جوامع كلام النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ويحتاج استيفاء الكلام عليه إلى مصنَّف مستقل طويل. 8 - اتَّفق العلماء على عظم هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنَّه من الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قيل: هو ثلثه، وحديث: "إنَّما الأَعمال بالنِّيات"، ثلث، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" الثلث الباقي. 9 - قوله: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن ... ": معناه: أنَّ الأشياء ثلاثة أقسام:

حلال بيِّن واضح حله، وحرام بيِّن واضح الحرمة، والمتشابه هو الَّذي يحتمل الأمرين؛ فاشتبه على النَّاظر بأيهما يلحق، وإليه أشار -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناَّس"؛ ففيه أنَّه يعلمهنَّ بعض النَّاس، وهم الرَّاسخون من العلماء، فإذا اجتهد المجتهد، فألحقه بأحدهما، صار حلالًا أو حرامًا، فإذا فَقَد هذه "الدلائل" فالورع تركه؛ لأنَّه دخل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن اتَّقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه". ***

1280 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، والدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تَعِسَ: كفَرِح، بفتحٍ، فكسرٍ، وهو الهلاك، والعثار، والسقوط، والانحطاط، والقرب من الشرِّ، والبعد عن الخير. - عبد الدينار: أراد من استعبدته الدنيا بطلبها؛ فصار كالعبد لها، والدينار والدِّرهم، والقطيفة: مجرَّد أمثلة. - عبد: قال الطِّيبيُّ: خصَّ العبد بالذكر؛ ليؤذن بانغماسه في محبَّة الدنيا وشهواتها، كالأسَير الَّذي لا يجد خلاصًا. - القَطِيفة: الثوب الَّذي له خمل، جمعه: قطائف وقطف. - أُعْطِيَ: مبني للمجهول، وكذا "لم يُعْط"؛ قال تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة]. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - العبادة هي ما قصد بها وجه الله والدَّار الآخرة؛ فمن تعبَّد لأجل الدنيا، وليس له غرضٌ ولا مأربٌ سواها، فهذا رَكَن إلى الدنيا، وجعلها همه وغايته؛ وبهذا فقد تعس، وهلك، وسقط، وغرق في مسلكه، فلا قوام له، إلاَّ أنْ يتداركه الله تعالى بالتوبة النصوح. 2 - فهذا قلبه وقالبه معلَّق بالدنيا، إنْ أُعطيَ منها، رضي، وحمد، وأثنى، وإنْ ¬

_ (¬1) البخاري (6435).

لم يعط، سخط، وتبرَّم، وقد وصف الله المنافقين بهاتين الصفتين؛ فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة]. 3 - قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في شرحه على كتاب التوحيد: وأما العمل لأجل الدنيا، وتحصيل أغراضها: إنْ كانت إرادة العبد كلها لهذا المقصد، ولم يكن له إرادةٌ لوجه الله والدَّار الآخرة، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ وهذا العمل لا يصدر من مؤمن؛ فإنَّ المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان لابُدَّ أنْ يريد الله والدَّار الآخرة. وأمَّا من عمل لوجه الله ولأجل الدنيا، والقصدان متساويان، فهذا وإنْ كان مؤمنًا، فإنَّه ناقص الإيمان, والتوحيد، والإخلاص، وعمله ناقصٌ؛ لفقده كمال الإخلاص. وأمَّا من عمل لله وحده، وأخلص في عمله إخلاصًا تامًّا؛ ولكنه يأخذ على عمله جُعلاً يستعين به على العمل والدِّين؛ كالجعالة التي تجعل على أعمال الخير، وكالمجاهد الَّذي يرتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس، والوظائف الدينية التي يقوم بها، فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده؛ لكونه لم يرد بعمله الدنيا، وإنَّما أراد الدِّين، وقصد أنْ يكون ما حصل له معينًا على القيام بالدِّين. ***

1281 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بمَنْكِبَيَّ، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صَحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَنْكِبي: بالإفراد والتثنية، مجمع الكتف والعضد. - عابر: عبر يعبر عبرًا وعبورًا، من باب نصر: قطع السبيل وجازه. - السبيل: الطريق، يذكَّر ويؤنَّث، جمعه على التذكير: سُبُل، وعلى التأنيث: سبول؛ كذا في المصباح. وعابر السبيل: المسافر الَّذي لا يستقرّ حتَّى يصل إلى وطنه. - أمسيت: أمسى الرَّجل مساءً ومُمْسًى: دخل في المساء، والمساء خلاف الصباح، وهو زمان من الظهر إلى الغروب، أو إلى منتصف الليل، قولان. - أصبحت أصبح الرَّجل: دخل في الصباح، والصباح أوَّل النَّهار، وهو نقيض المساء. قال في المصباح عن ابن الجواليقي: إنَّ الصباح عند العرب من منتصف الليل الآخر إلى زوال الشمس. - سقمك: سقم يسقم، من باب عَلِمَ، وسقم يسقم، من باب كَرُمَ، سَقَمًا وسُقْمًا، أي: مرض، والمرض: كل ما خرج بالكائن الحي عن حد الصحة ¬

_ (¬1) البخاري (6416).

والاعتدال، قاله في المعجم الوسيط. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث الشريف من أحسن الأحاديث الواعظة، فهو أبلغ حديث لقطع الأمل، وتذكر الأجل، والحافز على العمل. 2 - يقول: "كن في الدنيا كأنَّك غريب"؛ فإن الغريب لا يركن إلى دار الغربة، ولا يطمئن بها، ولا يستقر فيها, ولا تسكن نفسه إليها؛ فلا ينافس أهلها في حطامها، ويزاحمهم على رغباتهم، فنفسه مشتاقة إلى وطنه، لا تحدثه إلاَّ فيه، فهو عازمٌ على السفر، مزمع على الرِّحلة، جازم على النقلة، وهو في بلد الغربة غير عابىءٍ بأهله؛ فلا يأنف أنْ يُرى على خلاف عادة أهله في الملبس والهيئة. فالحديث فيه الحض على قلَّة المخالطة، والترغيب في الزهد في الدنيا. قال أبو الحسن: إنَّ الغريب قليل الانبساط إلى النَّاس، مستوحشٌ منهم، إذ لا يكاد يمر بمن لا يعرفه يأنس به، ويكثر من مخالطته فهو ذليلٌ خائف. 3 - قوله: "أو عابر سبيل" عابر الطريق مسافر لا يقرّ له قرار، ولا تهنأ له دار، حتَّى يصل إلى داره دار القرار، ومجمع الأحبة والأخيار. قال النووي: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا, ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها, ولا تتعلَّق منها إلاَّ بما يتعلَّق الغريب به في وطنه، الَّذي يريد الذهاب منه إلى أهله، وهذا معنى قول سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَمرنِي خليلي -صلى الله عليه وسلم- أنْ لا أتخذ من الدنيا إلاَّ كمتاع راكب". ففي الحديث دليلٌ على قصر الأمل، والاستعداد للموت. وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في خطبته: إذا لم تكن الدنيا دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حاله على أمرين: إمَّا أنْ يكون فيها غريبًا في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه.

وإمَّا أنْ يكون كأنَّه مسافر غير مقيم ألبتَّة، بل هو ليله ونهاره، على إحدى هاتين الحالتين. وقال الحسن البصري: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها, ولا ينافس في عزِّها, له شأنٌ، وللنَّاس شأن. 4 - جاء في بعض الروايات أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لابن عمر: "اعدد نفسك في الموتى، وإذا أصبحت نفسك، فلا تحدِّثها بالمساء، وإذا أمسيت، فلا تُحَدِّثها بالصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن غناك لفقرك، ومن حياتك لوفاتك". 5 - قوله: وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" هذا من كلام ابن عمر -رضي الله عنه- مدرجٌ في الحديث، ومعناه: أنَّ الشَّخص يجعل الموت بين عينيه، فيُسارع إلى الطاعات، ويغتنم الأوقات، بالأعمال الصالحات، ويقصر الأمل فلا يركن إلى غرور الدنيا؛ فإنَّه كالغريب أو عابر السبيل، لا يدري متى يصل إلى وطنه مساءً أو صباحاً، والمسافة هي أيام العمر القصار. قال ابن دقيق العيد: وأمَّا قول ابن عمر، فهو حضٌّ منه للمؤمن بأنْ يستعد أبدًا للموت، والاستعداد للموت يكون بالعمل الصَّالح. وفيه حضٌّ على تقصير الأمل، بالأعمال، بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحت، فلا تحدِّث نفسك بالمساء؛ فتؤخِّر أعمال الصباح إلى الليل. وقال ابن رجب: وأمَّا وصية ابن عمر، فهي متضمنةٌ لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يَظُنّ أنَّ أجله يُدْرِكُهُ قبل ذلك، وبهذا فسِّر الزهد في الدنيا. وقيل للإمام أحمد: أي شيء يُزَهِّدُ في الدنيا؟ فقال: قصر الأمل. وهكذا قال سفيان.

6 - وقول ابن عمر: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك"، قال ابن رجب: يعني اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أنْ يحول بينك وبينها الموت. وقد جاء في الترمذي (2306) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلاَّ فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائبٍ يُنْتَظر، أو السَّاعة فالسَّاعة أدهى وأمرّ؟! ". أبيات في الزهد والحكمة: قال بعضهم: تَأَهَّبَ لِلَّذِي لاَبُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ المَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ أَتَرْضَى أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ وقال بعضهم: أَتَبْنِي بِنَاء الْخَالِدِينَ وَإِنَّمَا ... مَقَامُكَ فِيهَا لَوْ عَقَلْتَ قَلِيلُ لَقَدْ كَانَ فِي ظِلِّ الأَرَاكِ كِفَايَةٌ ... لِمَنْ كَانَ فِيهَا يَعْتَرِيهِ رَحِيلُ وقال بعضهم: نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ وَلَمْ أَرَ مِثْلَ المَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الأمَانِيُّ بَاطِلُ وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأسِ شَاعِلُ تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلاَئِلُ وقال ابنِ القيم: فحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّها ... مَنَازِلُكَ الأُوْلَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرِى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا ونُسَلِّمُ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الغَرِيبَ إِذَا نَأى ... وَشَطَتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الْتِي ... لَهَا أَضْحَتَ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ

1282 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث سنده حسن. قال المؤلِّف: أخرجه أبو داود، وصحَّحهُ ابن حبان. والحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد عند جماعة من أئمة الحديث، عن جماعةٍ من الصحابة، تُخْرِجه عن دائرة الضعف، ومن شواهده: ما أخرجه أبو يعلى مرفوعًا من حديث ابن مسعود: "من رضيَ عمل قومٍ، كان منهم". قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: سنده جيد، وقال الحافُظ في الفتح: سنده حسن، وحسَّنَهُ السيوطي في الجامع الصغير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في الحديث أنَّ من تشبَّه بقومٍ، فهو منهم؛ فمن تشبَّه بالكفَّار من المسلمين في أمورهم المختصَّة بهم، فَتَشَبُّهُ الظَّاهر يدعوه إلى التشبه الباطن، فيرتضي زيهم، وسمتهم، فيكون معهم. 2 - في الحديث: أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، ووجوب سد الذرائع المفضية إلى المحرمات والشرور؛ لئلا تفضي إلى مقاصدها. 3 - الحديث يدل على أنَّ من تشبَّه بالفسَّاق كان منهم، أو بالكفَّار، أو المبتدعة، في أي شيء ممَّا اختصوا به من ملبوس أو هيئة، كان على طريقتهم، وعلى ¬

_ (¬1) أبو داود (4031).

مسلكهم. 4 - صنَّف شيخ الإِسلام كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" كله لتحقيق هذه المسألة، فكان ممَّا جاء فيه: "فصلٌ في ذكر الأدلة من الكتاب والسنَّة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنَّهي عن التشبه بهم، قال: وقد روى النسائي (5074) عن الزبير؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "غيِّروا هذا الشيب، ولا تشبهوا باليهود". وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم، والنَّهي عن مشابهتهم؛ فإنَّه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشعر والشيب الَّذي ليس من فعلنا، فلأَنْ ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى؛ ولذا كان التشبه بهم محرَّمًا بخلاف الأوَّل. وروى مسلم (260) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس". ولهذا لمَّا فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوص عليها بعينها عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هي من المجوس. فلفظ المخالفة دليلٌ على أنَّ جنس المخالفة أمرٌ مقصودٌ للشَّارع. ***

1283 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوْمًا، فَقَالَ: "يَاغُلاَمُ! احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال ابن رجب في شرح الأربعين: أخرجه الترمذي، من حديث ابن عباسٍ، وأخرجه أحمد، من حديث حنش الصنعاني، عن ابن عباسٍ، وقد رويَ هذا الحديث عن ابن عباس من طرقٍ كثيرةِ، من رواية ابنه علي، وعكرمة، وعطاء ابن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وأصح هذه الطرق طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي؛ فهي حسنةٌ جيدةٌ. * مفردات الحديث: - احْفَظِ اللهَ؛ بصيغة الأمر، أي: اذكُرِ الله، واحفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز والتعدي. - تجاهك: بتثليث التاء، أي: أمامك، فيحفظك من شرور الدَّارين. * ما يؤخذ من الحديث: في هذا الحديث العظيم جمل جامعات: الأولى: "احفظ الله؛ يحفظك": ¬

_ (¬1) الترمذي (2516).

قال النووي: احفظ أوامره وامتثلها، وانته عن نواهيه، يحفظك في تقلباتك، وفي دنياك، وآخرتك. فكل ما يحصل للعبد من النبلاء والمصائب، فهو بسبب تضييع أوامر الله تعالى؛ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. وقال ابن رجب: قوله: "احفظ الله" يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده بأنْ لا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه، إلى ما نهى عنه؛ فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله. وقوله: "يحفظك" يعني: أنَّ من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، حفظه الله فإنَّ الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وحفظ الله لعبده نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه؛ كحفظه في بدنه، وولده، وأهله، وماله، قال تعالي: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر، تخلوا عنه. الثاني، وهو أشرف النوعين: حفظ العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضللة، ومن الشهوات المحرَّمة؛ فيتوفَّاه على الإيمان, وفي الجملة: فإنَّ الله عزَّ وجل يحفظ على المؤمن حدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه، بأنواعٍ من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها. الثانية: "احفظ الله؛ تجده تجاهك": معناه: أنَّ من حفظ حدود الله، وجد الله معه في كلِّ أحواله؛ حيث

توجه: يحوطه، ويحفظه، ويوفِّقه، ويسدِّده، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الَّذي لا ينام، والهادي الَّذي لا يضل. قال تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وما ظنك باثنين الله ثالثهما" [البخاري (2663) ومسلم (2381)]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن إنَّ الله معنا" [رواه البخاري (3615) ومسلم (2009)]. فهذه المعيَّة الخاصَّة تقتضي النصر، والتأييد، والحفظ، والإعانة. أمَّا المعيَّة العامَّة المذكورة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]: فإن هذه معيَّة تقتضي علمه، واطلاعه، ومراقبته لأعمالهم؛ فهي تقتضي تخويف عباده منه. وأمَّا المعيَّة الأولى: فتقتضي حفظه، وحياطته، ونصره، فمن حفظ الله، وراعى حقوقه، وَجَدَهُ أمَامه وتجاهه، فاستأنس واستغنى به عن خلقه. الثالثة: قوله: "إذا سألت، فأسأل الله": قال النووي: فيه إشارة إلى أنَّ العبدَ لا ينبغي له أنْ يعلِّق سرَّه بغير الله، بل يتوكَّل عليه في جميع أموره: ثمَّ إنْ كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه؛ كمطلب الهداية، والعلم، والفهم في القرآن والسنَّة، وشفاء المرض، وحصول العافية من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة-: سأل ربه ذلك. وإنْ كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أنَّ الله سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقه، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور-: سأل الله تعالى أنْ يعطِّف عليه قلوبهم. وقال ابن رجب: قوله: "إِذَا سألت؛ فأسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله": هذا منتزعٌ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}

[الفاتحة]. فالدعاء هو العبادة، فتضمَّن هذا الكلام أنْ يسأل الله تعالى، ولا يسأل غيره، وأنْ يستعين بالله دون غيره. واعلم أنَّ سؤال الله عزَّ وجل دون خلقه هو المتعيِّن؛ لأنَّ السؤال فيه إظهار الذل من السَّائل، والمسكنة، والحاجة، والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وقيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلاَّ لله وحده؛ لأنَّه حقيقة العبادة. ***

1284 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْته، أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ" روَاهُ ابْنُ مَاجَةَ وَغَيْرُهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسنٌ بشواهده. قال ابن رجب في شرح الأربعين: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وذكر النووي؛ أنَّ إسناده حسن، وفي ذلك نظرة فإنَّ فيه خالد بن عمرو القرشي، قال الإِمام أحمد: منكر الحديث، ليس بثقة، يروي أحاديث باطلة، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيءٍ؛ فهو كذَّاب، حدَّث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ضعيف، ونسبه ابن عدي إلى وضع الحديث. قال الحافظ: سنده حسن، أخرجه أبو نعيم من حديث مجاهد عن أنس برجال ثقات، إلاَّ أنه لم يثبت سماع مجاهد من أنس، وقد رويَ مرسلاً، وقد حسَّن النووي الحديث، وكأنَّه لشواهده. * مفردات الحديث: - ازهد في الدنيا: يُقال: زهد في الشيء -بالكسر- يزهد زهدًا وزهادة: إذا لم يرغب فيه، فالزهد خلاف الرغبة، ومنه سمي "الزاهد"؛ لأنَّه لم يرغب في ¬

_ (¬1) ابن ماجة (4102).

الدنيا، وقد عرَّف الزهدَ في الدنيا شيخُ الإِسلام ابن تيمية بقوله: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال في الإحياء: الزهد في الدنيا مقامٌ شريف من مقامات السَّالكين، وينتظم هذا المقام: من علم، وحال، وعمل؛ كسائر المقامات، والزهد عبارةٌ عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، وقد جرت العادة بتخصيص اسم الزَّاهد بمن ترك الدنيا، ومن زهد في الدنيا، مع رغبته في الجنَّة ونعيمها؛ فهو -أيضًا- زاهد؛ ولكنَّه دون الأوَّل. 2 - وليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وإنَّما الزهد أنْ يترك الدنيا؛ للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة. 3 - قوله: "ازهد في الدنيا يحبك الله": قال الشيخ: الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة. وقال ابن رجب: الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء، كلها من أعمال القلب، لا من أعمال الجوارح: أحدها: أنْ يكون العبد بما يزيد الله أوثق منه بما يزيد نفسه، وهذا ينشأ عن صحَّة اليقين وقوته، فإنَّ الله تعالى ضمن أرزاق عباده، وتكفَّل بها؛ قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. الثاني: أنْ يكون العبد إذا أصيب بمصيبةٍ في دنياه من ذهاب ولد، وغير ذلك، كان أرغب في ثواب الله ممَّا ذهب من الدنيا أنْ يبقى له، وهذا ينشأ من كمال اليقين. الثالث: أنْ يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإنْ عظمت الدنيا عنده، اختار المدح، وكره الذم، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دلَّ

على سقوط منزلة المخلوقين في قلبه، وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه. 4 - الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الذهب والفضة، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا، والترفع فيها عن النَّاس، فهو الزَاهد حَقًّا، وهذا هو الَّذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق. 5 - الوصية الثانية: "وازهد فيما في أيدي النَّاس؛ يحبك النَّاس": قال ابن رجب: تكاثرت الأحاديث عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاستعفاف عن مسألة النَّاس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل النَّاسَ ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه؛ لأنَّ المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبون، كُرِهَ لذلك. وأمَّا من زهد فيما في أيدي النَّاس، وعفّ عنهم، فإنَّهم يحبونه ويكرمونه لذلك. 6 - قال أعرابي: مَنْ سيِّد أهل البصرة؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج النَّاس إلى علمه، واستغنى عن دنياهم. ***

1285 - وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - التقي: يُقال: اتقى اللهَ اتقاءً: حَذِره وخافه، وأصل اتقى: اوْتَقَى، قلبت الواو تاءً وأدغمت، والاسم: التقوى؛ فهو تقي، وهو: الممتثل لأوامر اللهِ، والمجتنب لنواهيه. - الغَنِي: يُقال: غَنِيَ فلان غِنًى وغناء: أكثر ماله؛ فهو غني، ومنه غنى النفس، وهو المراد هنا. - الخَفِي: خفي الأمر يخفى خفاء: لم يظهر؛ فهو خافي وخفي، والخفي -هنا- هو: المنقطع إلى عبادة الله تعالى بالسر؛ فهو بعيد عن مظان الرِّياء والسمعة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التقي: هو من أتى بما أوجب الله، واجتنب ما نهى الله عنه؛ ابتغاء رضوانه، وخوفا من عقابه وعذابه. 2 - الغني: هو غني النَّفس، والعافّ عمَّا في أيدي النَّاس، اعتمادًا على ما قسم الله له من الرزق الَّذي يناله من عمل يده. 3 - الخفي: هو الَّذي آثر الخمول، وعدم الشهرة والذكر، وانقطع إلى عبادة الله، والاشتغال بذكره، وما يعنيه من أمور نفسه. 4 - من جَمَعَ هَذه الصفات الثَّلاث، فإنَّ الله تعالى يحبه؛ لأنَّه اتَّقى الله، والله ¬

_ (¬1) مسلم (2965).

يحب المتقين، ولأنَّه استغنى بالله تعالى، ومن استغنى بالله أحبَّه وأغناه. * فائدة: ذكروا للعزلة فوائد منها: 1 - التفرغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه. 2 - التخلص من المعاصي التي يتعرَّض لها الإنسان بالمخالطة؛ من الفتن، والرياء، ونحوهما. 3 - الخلاص من الفتن والخصومات. 4 - الخلاص من شرِّ النَّاس. ***

1286 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث مرسل. وحسَّنه مرفوعًا الإِمام النووي، رحمه الله. قال ابن رجب في شرح الأربعين: أخرجه الترمذي، وابن ماجه، من رواية الأوزاعي، عن قرَّة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال الترمذي: غريب، وقد حسَّنه النووي؛ لأنَّ رجال إسناده ثقات، وقرَّة بن عبد الرحمن بن حيوة، وثَّقه قومٌ، وضعَّفه آخرون. قال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات، وهذا موافق لتحسين الشيخ النووي -رحمه الله تعالى. وأمَّا أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو محفوظًا بهذا الإسناد؛ إنَّما هو محفوظٌ عن الزهري، عن علي بن حسين، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، رواه عن الزهري مالك في الموطأ، ويونس، ومعمر، وممَّن قال: لا يصح إلاَّ مرسلاً، الإِمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، والدَّارقطني، والصحيح أنَّه مرسل. وقال الزرقاني في شرح الموطَّأ: والحديث حسنٌ، بل صحيح. ¬

_ (¬1) الترمذي (2318).

* مفردات الحديث: - من حسن: "من" تبعيضية، ويجوز أنْ تكون بيانية. - ما لا يعنيه: يُقال: عُنِيتُ بالحاجة، فأنا بها مَعْنِيّ، أي: اهتممت بها، واشتغلت بقضائها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: الَّذي يعني الإنسان هو الَّذي تتعلَّق به عنايته، ويكون مقصده ومطلوبه، والعناية شدَّة الاهتمام بالشيءِ. وليس المراد: أنه ترك ما لا عناية به، ولا إرادة، بحكم الهوس، وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإِسلام؛ ولذا جعله من حسن الإِسلام؛ فإنَّ من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، وسَلِمَ من المحرَّمات، والمشتبهات، والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ درجة الإحسان وهو أن يعبد الله كأنَّه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ الله يراه، فمن عَبَدَ الله على استحضار قربه، ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أنْ يترك كل ما لا يعنيه في الإِسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولَّد من هذين المقامين الاستحياء من الله، وترك كل ما يُستحيا معه. 2 - وقال الشيخ أحمد الفشني: الَّذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلَّق بضرورة حياته في معاشه، وسلامته في معاده، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإنِ اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور، سلم من شرٍّ عظيم، والسَّلامة من الشرِّ خير. 3 - قال ابن عبد البر: كلامه -صلى الله عليه وسلم- هذا من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة.

وقال ابن الصلاح: قال أبو زيد إمام المالكية في زمنه: جماع آداب الخير في أربعة أحاديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت" [رواه البخاري (6138) ومسلم (47)] وَ"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" [رواه الترمذي (2317)] وَ"لا تغضب" [البخاري (6116)] وَ"لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [البخاري (13) ومسلم (245)]. فهذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام. 4 - قال الإِمام الغزالي: وحدُّ ما لا يعنيك في الكلام: أنْ تتكلَّم بكلِّ ما لو سكتَّ عنه لم تأثم، ولم تتضرَّر في حالٍ ولا مالٍ، فإنَّك به مضيع زمانك؛ لأنَّك به أنفقت وقتك الَّذي خيرٌ لك لو صرفته في الفكر والذِّكر، فمن قدر على أنْ يأخذ كنزًا من الكنوز، فأخذ بدله مدراة لا ينتفع بها، كان خاسرًا. ***

1287 - وَعَنِ المِقْدَام بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال ابن كثير في تفسيره، بعد أنْ أورد نصَّ هذا الحديث: رواه النسائي، والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر به، وقال الترمذي: حسن، وفي نسخة: حسنٌ صحيح. ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... فذكر الحديث، ورواه الدَّارقطني في الأفراد، وقال: هذا حديثٌ غريب تفرَّد به بقية. قال محرره: ولهذا الحديث شاهدٌ من حديث ابن شعيب. قال الشوكاني في تفسيره: أخرجه عبد بن حميد، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي في شُعَب الإيمان, من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "كلوا، واشربوا، والبسوا، من غير مخيلة، ولا سرف". وقد صحَّح هذا الحديث كل من الترمذي، وابن حبان، والذهبي، وحسَّنه الحافظ في الفتح، والسيوطي في الجامع الصغير. ¬

_ (¬1) الترمذي (2380).

* مفردات الحديث: - ما: حرف نفي، وقد دخلت على جملةٍ فعلية. - وعاء: بكسر الواو، مفعولٌ به منصوب. والوعاء: ظرف يوضع فيه الشيء، جمعه أوعية. - شرًّا: منصوبٌ على أنَّه صفةٌ لوعاء. - بطْنه: بَطَنَ الشيءُ يَبْطُنُ بُطُونًا: خَفِيَ، والبطن: جوف كل شيء. فالبطن -هنا- خلاف الظهر، وهو مذكَّر، والجمع: بطون وأبطن، سمِّيَ بذلك؛ لخفاء ما فيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال ابن رجب: رويَ أنَّ ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث قال: "لو استعمل النَّاس هذه الكلمات، لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت دكاكين الصيادلة". وإنَّما قال هذا؛ لأنَّ أصل كل داء التخم، قال الحارث بن كلدة: الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الدَّاء. فهذا بعض منافع تقليل الغذاء، وترك التملؤ من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته. 2 - وأمَّا منافعه بالنسبة للقلب، وصلاحه، فإنَّ قلَّة الغذاء توجب رقَّة القلب، وقوَّة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك. 3 - ومن حيث الأخلاق: فإنَّ معصية الله تعالى بعيدةٌ من الجائع، قريبةٌ من الشبعان، والشبع يخبث القلب، ومنه يكون الفرح، والمرح، والضحك. فالنَّفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورَقَّ، وإذا شبعت ورويت، عميَ القلب.

قال الحسن الخشني: من أراد أن تغزر دموعه، ويرق قلبه، فليأكل وليشرب في نصف بطنه. وقد ندب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التقلل من الأكل، فقال: "حسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبَه" [رواه الترمذي (2380)]. 4 - الحديث يدل على ذمِّ التوسع في المأكولات، والأخبار في ذلك كثيرةٌ؛ لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية؛ فإنَّ فضول الطعام مجلبةٌ للأسقام، ومثبِّطةٌ عن القيام بالأحكام. قال لقمان لابنه: يابنيَّ! إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وفي الخلو عن الطعام فوائد، وفي الامتلاء مفاسد: ففي الجوع: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة، وإنَّ الشبع: يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر أبخرة المعدة والدماغ، فيثقل القلب. ومن فوائد التخفيف من الطعام؛ كسر شهوة المعاصي كلها، والاستيلاء على النَّفس الأمَّارة بالسوء؛ فإنَّ منشأ المعاصي كلها الشهوات، والسعادة كلها في أنْ يملك الإنسان نفسه، والشقاوة كلها في أن نفسه تملكه، والله المستعان. ***

1288 - وَعَنْ أَنَسٍ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابُونَ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث سنده قوي. قال الشيخ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه الترمذي، واستغربه، والحاكم صحَّح إسناده من حديث أنس، قلت: فيه علي بن مسعدة، ضعَّفه البخاري. لكن قوَّى سنده ابن حجر، وكذلك ابن القطان انتصر لتصحيح الحاكم له، وقال: ابن مسعدة صالح الحديث، وإنَّما غرابته فيما انفرد به عن قتادة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث دليلٌ على أنَّه لا يخلو من الخطيئة إنسان؛ لما جبل عليه من الضعف، وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما دعاه إليه، وترك ما عنه نهاه، ولكنَّه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده، وأخبر أنَّ خيرَ الخطَّائين هم التَّوابون المكثرون للتوبة، والمسارعون إليها كلما وقعوا في الخطيئة. 2 - الذنوب قسمان: كبائر وصغائر: فأمَّا الصغائر: فإنَّ الأعْمَال الصَّالحة تكفرها بإذن الله تعالى؛ من الصلوات الخمس، ومتابعة الحج والعمرة، وصيام رمضان وقيامه، وصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وغير ذلك، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ ¬

_ (¬1) الترمذي (2499)، ابن ماجة (4251).

يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وأمَّا الكبائر: فلا يكفرها إلاَّ التوبة النصوح، المشتملة على الإقلاع عن المعصية في الحال، والعزم على أنْ لا يعود، والنَّدم على ما فات، وإنْ كانت مظلمة لمخلوق فالبراءة منها بأداءٍ، أو استحلالٍ، أو غير ذلك. 3 - وصغائر الذنوب لا سبيل إلى حصرها وعدِّها. أمَّا الكبائر: ففي عدِّها خلافٌ بين العلماء، فبعضهم قال: سبع، وقال بعضهم: سبعة عشر، وبعضهم قال: سبعون، وقال بعضهم: ستمائة. وأحسن الأقوال أنَّها محدودة بتعريف، وليست محصورةً بعددٍ، وقد عرفها العلماء بتعريفاتٍ كثيرة، وأجمعها ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية: "الكبيرة: ما فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، أو غضبٌ، أو لعن صاحبها، أو نفي الإيمان عنه". 4 - والغزالي أرجع المعاصي إلى أربع صفات: "صفات استعلائية، صفات شيطانية، صفات بهيمية، صفات سَبُعِية": فالأولى: صفات استعلائية: ينتج منها الكبر، والفخر، والعجب، وحب المدح، وطلب الاستعلاء، ونحو ذلك، وهذه الصفات مهلكات، وبعض النَّاس يغفل عنها. والثانية: صفات شيطانية: ومنها ما ينتج الحسد، والبغي، والخداع، والمكر، والغش، والنِّفاق، والأمر بالفساد، ونحو ذلك. والثالثة: صفات بهيمية: ومنها يتشعَّب الشر، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومن ذلك: الزنى، واللواط، والسرقة، والرشوة، والغلول، وأخذ حطام الدنيا بدون حق. والرَّابعة: صفات سَبُعِية: ينتج عنها الغضب، والحقد، والتهجم على النَّاس بالقتل، والضرب، وغصب الأموال من النَّاس.

فهذه أمهات الذنوب ومنابعها، ثمَّ تفجَّر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح: فبعضها: في القلب؛ كالكفر، والبدعة، والنِّفاق، وإضمار السوء للنَّاس، وبعضها: على العين، والسمع، وبعضها: على الِّلسان، وبعضها: على البطن، والفرج، وبعضها: على اليدين، والرجلين، وبعضها: على جميع البدن. ولا حاجة إلى تفصيل ذلك؛ فإنَّه واضح. 5 - التوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى بالنَّدم على ما مضى من المعاصي، والعزم على تركها إيمانًا لا لأجل نفع الدنيا، أو أذى النَّاسِ، وأنْ لا يكون على إكراهٍ وإلجاءٍ، بل اختيار حال التكليف. 6 - قال الغزالي: المقبل على الله تعالى لابُدَّ لهُ من التوبة من المعاصي، وذلك لأمرين: أحدها: ليحصل له توفيق الطَّاعة؛ فإنَّ شؤم الذنوب يورث الحرمان، وإنَّ الذنوب تمنع عن السير إلى الله تعالى، والمسارعة إلى خدمته. الثاني: إنَّما تلزم التوبة لتُقْبَل من العبد الطَّاعات؛ فإنَّ التوبة إرضاءٌ للرَّبِّ، فكيف ندعوه ونناجيه، ونثني عليه، وهو غضبان. والتوبة النَّصوح من مساعي القلب، فهيَ ترك اختيار ذنبٍ سبق مثله؛ تعظيمًا لله تعالى، وحذرًا من سخطه. 7 - وللتوبة ثلاثة شروط: أحدها: ترك الذنب اختيارًا لله تعالى. الثاني: العزم على أنْ لا يعود إليه. الثالث: النَّدم على ما فات منه. ثمَّ إذا كان الذنب في حقِّ آدمي، فإنَّه يزاد شرطٌ رابعٌ: وهو أداؤه أو

الاستسماح من صاحبه: فما كان من المال: فيجب عليك رده إنْ أمكنك، وإلاَّ فتستحل صاحبه، فإنْ عجزت عن معرفته، فتصدق عنه. وأمَّا النَّفس: فتمكنه من القصاص أو أولياءه، فإنْ عجزت فالرجوع إلى الابتهال أنْ يرضيه الله عنه يوم القيامة. وأمَّا العرض: فإن اغتبته، أو بهتَّه، أو شتمته، فتكذِّب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وأنْ تستحل من صاحبه، هذا إذا لم تخش زيادة غيظ، وإلا فالمرجع إلى الله تعالى ليرضى عنك. وأمَّا الحرمة: فإنْ خنته في محارمه، فتضرَّع إلى الله ليرضى عنك. وأمَّا في الدِّين: فإنْ فسَّقته، أو بدَّعته، أو ضلَّلته، فتحتاج إلى تكذيب نفسك عند من كفَّرته، أو بدَّعته عنده، وأنْ تستحل من صاحبه إنْ أمكنك ذلك. 8 - فإذا أنت عملت ما وصفناه، وبرَّأت القلب عن اختيار فعلها في المستقبل، فقد خرجت من الذنوب كلها، وإنْ حصلت منك تبرئة القلب، ولم يحصل منك قضاء الفوائت، وإرضاء الخصوم، فالتبعات لازمةٌ، وسائر الذنوب مغفورة. 9 - قال شيخ الإِسلام: من تاب توبةً عامَّة، كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وتصح من بعض ذنوبه في الأصح؛ خلافًا للمعتزلة. 10 - قال الطيبي: من يترك المعاصي، ويندم على فعلها، ويدخل في العمل الصَّالح، فإنه بذلك يكون تائبًا إلى الله مثابًا مرضيَّا عند الله، مكفرًا للخطايا، محصِّلاً للثواب، والله يحب التوابين، ويعرف لهم حقَّهم، والتَّائب من الذنب كمن لا ذنب له. 11 - قال ابن رجب: الهمُّ بالسيئة من غير عملٍ لها:

تارةً: يتركها الهامُّ لخوف من الله تعالى، فهذه يكتب له بها حسنة؛ لما في الحديث القدسي: "إنَّما تركها من جرِّائي". وتارةً يتركها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم؛ فقد قيل: إنَّه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأَنَّ تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرَّم. وإنْ سعى في حصول المعصية بما أمكنه، فلم يقدر عليها، فإنَّه يعاقب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا التقى المسلمان بسيفهما ... إلخ" [رواه البخاري (3) ومسلم (2888)]. وأمَّا إن انفسخت نيَّة الهام بالمعصية، وفترت عزيمته من غير سبب منه، فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا؟ على قسمين: أحدهما: أنْ يكون الهَمُّ بالمعصية خاطرًا خطر، ولم يساكن صاحبه، ولم يعقد قلبه عليه، فهذا معفوٌّ عنه. الثاني: أنْ تقع النَّفس، ويدوم، ويساكن صاحبها، فهذا أيضًا نوعان: الأوَّل: ما كان عملًا منْ أعمال القلوب؛ كالشكِّ في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، أو نحو ذلك من صور الكفر والنِّفاق، فهذا يعاقب عليه العبد، ويصير به كافرًا، أو منافقًا، ويلتحق بهذا سائر المعاصي المتعلِّقة بالقلوب. الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل من أعمال الجوارح؛ كالزنى، والسرقة، والقتل، ونحو ذلك، فالرَّاجح من أقوال العلماء: أنَّه يؤاخذ به؛ وهو قول أكثر الفقهاء والمحدِّثين من أصحابنا وغيرهم؛ واستدلوا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]؛ وحملوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله تجاوز لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفسها، ما لم تتكلَّم به أو تعمل" [رواه البخاري (5269) ومسلم (127)] على الخطرات، وغالبُ ما عقد العبد قلبه عليه، فهو من كسبه وعمله، فلا يعفى عنه.

12 - وإذا أتى المؤمن بالتوبة النصوح، خرج من ذنوبه طاهرًا كيوم ولدته أمه، وأحبه الله سبحانه وتعالى، وحصل له من الأجر، والثواب، والبركة، والرحمة ما لا يحيط به وصف الواصفين، وحصل له الأمن والخلاص بإذن الله تعالى. 13 - وأهل القبلة ثلاثة أقسام: "فائزون، ومعذَّبون، وناجون": الفائزون: هم إمَّا مقرَّبون، أو من أصحاب اليمين، وهؤلاء هم الَّذي أحكموا أصل الإيمان, وقاموا بجميع الفرائض، واجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر، فهؤلاء إمَّا يلتحقون بالمقرَّبين، أو بأصحاب اليمين، بحسب إيمانهم ويقينهم. ومن أتى بكبيرةٍ، أو أهمل واجبًا، أو ترك الإِسلام، ثمَّ تابَ توبةً نصوحًا قبل قرب الأجل، أُلحق بمن لم يرتكب؛ لأنَّ التَّائبَ من الذنب كمن لا ذنب له. أمَّا المعذَّبون: فهم الَّذين ماتوا قبل التوبة من الكبيرة، فهؤلاء على خطرٍ، وهم تحت مشيئة الله تعالى، وإذا ماتَ قبل التوبة وعُذِّبَ، فإنَّ عذابه بحسب قبح الكبائر، ومدَّة الإصرار. وأمَّا النَّاجون: ويُراد بالنَّجاة السَّلامة فقط من العذاب، وهم قومٌ لم يخدموا فَيُخْلَع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا. ويشبه أنْ تكون الحالُ للمجانين، وأولاد الكفَّار، والَّذين لم تبلغهم الدعوة فلم يكن له معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أنْ يكونوا أصحاب الأعراف. ***

1289 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّمْتُ حِكَمٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ" أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الحَكِيمِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث موقوف. قال زين الدِّين العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، من حديث ابن عمر بسندٍ ضعيف، والبيهقي في شعب الإيمان, من حديث أنس بلفظ "الصمت"، والصحيح عن أنسٍ أنَّه من قول لقمان، قال: رواه كذلك هو، وابن حبان في كتاب "روضة العقلاء" بسندٍ صحيحٍ إلى أنس. * مفردات الحديث: - حِكَم: جمعة حكمة، يُقال: حَكَمَ حُكْمًا: صار حكيمًا، والحكمة لها معانٍ كثيرة جليلة، أجمعها: أنَّها وضع الشيءِ في موضعه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه فضيلة الصمت, وأنَّه من الحكمة قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]، وجاء في البخاري (6474) أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ضمنَ لي ما بين لَحييه ورجليه أضمن له الجنَّة"، وما أخرجه الترمذي (2616) من حديث معاذ بن جبل؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوههم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم"، وما أخرجه الترمذي (2406) من ¬

_ (¬1) البيهقي في الشعب (5027).

حديث عقبة بن عامر؛ أنَّه سأل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن النَّجاة؟ فقال: "أمسك عليك لسانك". وكان أبو بكرِ الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يشير إلى لسانه، ويقول: "هذا الَّذي أوردني في الموارد". وقال الحسن البصري: "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه". 2 - ذكر الغزالي من آفات اللسان: الخوض في الباطل، والتقعر في الكلام، والفحش، والسب، والسخرية، والاستهزاء، وإفشاء السر، والمراء، والجدال، واللعن، والكذب، والغيبة، والنميمة، والخصومة. 3 - وبهذا نعلم أنَّ الصَّمْت المحمود هو عن الكلام المحرَّم الَّذي ذكرنا بعضه، ومثله الكلام الَّذي لا فائدة منه؛ إذ ربما يجرَّ إلى الكلام المكروه، أو المحرَّم. أمَّا إذا كان الكلام فيما ينفع، من التلاوة، والذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ومباسطة الأهل والإخوان: فهذا محمود. 4 - واللسان لهذه الأغراض الفاضلة من نِعَمِ الله تعالى العظيمة، ولطائف صنعه، فإنَّه ينطق بالإيمان والإِسلام؛ قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. فهذه الآية الكريمة هي الفصل في قبيح الكلام ومليحه. 5 - قوله: "قليلٌ فاعله": لأنَّ النَّاسَ مجبولون على القيل والقال، وكثرة السؤال. والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل. ***

باب الترهيب من مساوىء الأخلاق

باب الترهيب من مساوىء الأخلاق مقدمة قال في المصباح: رَهِبَ رَهَبًا -من باب تعب-: خاف. وقال في تاج العروس: رهبَ كعلم، يرهب رهبةً، بالضم والفتح، وَرَهَبًا، بالتحريك، أي: أنَّ فيه ثلاث لغات، أي: خاف مع تحرُّز. وهناك مبدأ عند أصحاب السَّيْر والسلوك إلى الله تعالى، وهو التخلِّي عن مساوىء الأخلاق، ثم التحلِّي بفضائلها ومحامدها. وهكذا المؤلِّف -رحمه الله- صنع في ترتيبه أحاديث هذا الباب؛ فإنَّه بدأ هنا بالأحاديث التي تنهى عن القبائح والفضائح: من الحسد، والظلم، والشرك، والنِّفاق، والسباب، والفسوق، والغضب، والفتنة، والبخل، وسوء الخلق، وغير ذلك من المساوىء، والعيوب. ثمَّ ثنى بذكر "باب الترغيب في مكارم الأخلاق" ممَّا سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى؛ فهذا صنع جيد، وترتيب حسن، جزاه الله خيرًا، ورحمه. ***

1290 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ، كمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (¬1)، وَلاِبْنِ مَاجَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. أخرجه أبو داود، وسكت عنه، وقال المنذري: جد إبراهيم لم يُسمَّ، وذكر البخاري إبراهيم هذا في التاريخ الكبير، وذكر له هذا الحديث، وقال: لا يصح، وضعَّفه السيوطي في الجامع الصغير, وقال بعض المحدثين: في سنده عيسى بن أبي عيسى الحناط، قال في التقريب: متروك، والله أعلم. * مفردات الحديث: - الحسد: تمنِّي الإنسان أنْ يحوِّل الله إليه نعمة الآخر، أو فضيلته، ويسلبها منه، هذا هو المذموم، وأمَّا أنْ يتمنَّى النعمة لنفسه من غير أنْ تزول عن صاحبها، فتسمَّى الغبطة، فإذا كانت في أمور الدنيا: فمباح، وإنْ كَانت في أمور الآخرة: فمحمودة؛ لأنَّها منافسةٌ على الخير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه تحذيرٌ من الحسد، ووجوب مجاهدته، وأنَّ وجوده يذهب الحسنات، ويبطل ثوابها؛ كما تأكل النَّار الحطب، فتجعله رمادًا. 2 - الحسد الَّذي نهى عنه هو أن يرى الإنسان نعمة الله عند آخر، فيتمنَّى زوالها ¬

_ (¬1) أبو داود (4903). (¬2) ابن ماجة (4210).

منه، فهذا هو الحسد المذموم. 3 - الحسد قد جاء ذمُّه في الكتاب والسنَّة؛ فقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]؛ فهذا إنكارٌ من الله تعالى لمن يحسد النَّاس على ما أنعم الله عليهم. وجاء في مسند أحمد (1415) وسنن الترمذي (2510) من حديث الزبير ابن العوام، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دبَّ إليكم داء الأُمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدِّين". وفي الحسد آثارٌ كثيرة، وقد قيل: إنَّ أوَّل ذنبٍ عُصِيَ الله به الحسد، حينما أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فحسده، وامتنع من السجود، فطرده الله من الجنَّة. 4 - قال ابن رجب: الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكره أنْ يفوقه أحدٌ من جنسه في شيءٍ من الفضائل. والنَّاسُ ينقسمون فيه مراتب: - منهم: من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل. - ومنهم: من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه. - ومنهم: من يسعى في إزالة المحسود فقط، من غير نقل ذلك إلى نفسه، وهذا كله حسدٌ مذموم، وهو المنهي عنه. - وقسمٌ آخر من النَّاس: إذا حسد غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبْغِ على المحسود بقولٍ ولا بفعل، وقد رُوِيَ عن الحسن أنَّه لا يأثم بذلك. - وقسمٌ آخر: إذا وجد في نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد في نفسه من الحسد حتَّى يبدَّل بمحبته. وهذا من أعلى درجات الإيمان, وصاحبه هو المؤمن الكامل الَّذي يحب

لأخيه ما يحب لنفسه. 5 - وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الحسد نوعان: نوعٌ محرَّمٌ مذموم: وهو أَنْ يتمنَّى زوال نعمة الله عن العبد، سواءٌ أحب ذلك محبَّة استقرَّت في قلبه، ولم يجاهد نفسه عنها، أو سعى مع ذلك في إزالتها وإخفائها، وهذا أقبح؛ لأنَّه ظلمٌ متكرِّر. وهذا النوع هو الذي يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب. النوع الثاني: أنْ لا يتمنَّى زوال نعمة الله عن العبد، ولكن يتمنَّى حصول مثلها له، أو فوقها، أو دونها. وهذا نوعان: محمودٌ، وغير محمود: فالمحمود: أنْ يرى نعمة الله الدينية على عبده، فيتمنَّى أنْ يكون له مثله، فهذا من باب تمنِّي الخير، فإن قارن ذلك سعي وعمل لتحصيل ذلك، فهو نورٌ على نور. وأمَّا الغبطة التي لم تحمد: فيتمنِّي حصول مطالب الدنيا؛ لأَجل اللذات، وتناول الشهوات؛ كقصَّة قوم قارون. 6 - قال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق]: تأمَّل تقييده سبحانه وتعالى شرَّ الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ}؛ لأنَّ الرَّجل قد يكون عنده الحسد، ولكن يخفيه، ولا يظهر عليه بوجهه، ولا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، بل لا يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامل أخاه إلاَّ بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحدٌ إلاَّ من عصم الله. وللحسد ثلاث مراتب: إحداها: هي المتقدمة. الثانية: تمنِّي استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أنْ يحدث الله بعبده نعمة، بل يحب أنْ يبقى على حاله، من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو

شتات قلبه عن الله، أو قلَّة دينه؛ فهو يتمنَّى ما هو فيه من نقص وضعف. فهذا حسد على شيءٍ مقدَّر، والأوَّل حسدٌ على شيءٍ محقَّق؛ وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى وعند النَّاس. الثالثة: حسد الغبطة، وهو تمنِّي أنْ يكون له مثل حال المحسود، من غير أنْ تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريبٌ من المنافسة؛ قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين]. وفي الصحيح عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لا حسد إلاَّ في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا وسلَّطه على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلِّمها النَّاس". فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه كِبَرُ نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأنْ يكون من سابقيهم، وعليه فتحدث له من هذه الهمَّة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمنِّي دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجهٍ ما. 7 - قال الغزالي: الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا دواء لأمراض القلوب إلاَّ بالعلم والعمل: والعلم النَّافع لمرض الحسد: هو أنْ تعرف أنَّ الحسد ضرره عليك في الدِّين والدنيا، والمحسود لا ضرر عليه في الدنيا, ولا في الدِّين، بل ينتفع بحسدك في الدِّين؛ لأنَّه مظلومٌ من جهتك، لاسيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل، وأمَّا منفعته في الدنيا: فهو أنَّه من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا غَمَّ أعظم ممَّا فيه الحاسد. وأمَّا العمل النَّافع فيه: فهو أنْ يتكلَّف نقيض ما يأمره به الحسد، وهو بعْثه على الحقد، والقدح في المحسود؛ فيكلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإنْ حمله على الكبر، ألزم نفسه بالتواضع له، وإنْ بعثه على كفِّ

الإنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام. فهذه أدويةٌ نافعةٌ للحسد إلاَّ أنَّها مُرَّة، ويسهِّل شربها الاستعانة بالله تعالى، ولا حول ولاقوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم. ***

1291 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشديد: المراد بالشدَّة هنا القوَّة المعنوية، وهي مجاهدة النَّفس وإمساكها عن الشرِّ. - الصُّرَعة: بضم الصاد المهملة، وفتح الرَّاء، هو القوي الَّذي يصرع النَّاس كثيرًا؛ لقوته وشدَّته. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على أنَّ القوَّة الحقيقية ليست هي قوَّة العضلات، والقوَّة البدنية، وإنَّما القوَّة الحقيقية هي القوَّة المعنوية؛ فليس الشديد القوي هو الَّذي يصرع دائمًا غيره من الأشداء. وإنَّمَا الشديد هو الَّذي جاهد نفسه، وقهرها حينمَا يشتد به الغضب؛ فيملك زمامها، فلا يقدِّم على فعل محرَّم، من اعتداء، ويمسك لسانه، فلا يتفوه بكلامٍ محرَّمٍ، من شتمٍ، أو لعنٍ، أو قذْفٍ، أو غير ذلك. 2 - الغضب غريزةٌ في الإنسان، فإذا جاء ما يبعثها، تحرَّكت نفسه من داخلها إلى خارج الجسد؛ لإرادة الانتقام؛ فالقوي الشديد هو الَّذي يجاهد هذه الحركة، ويقوى عليها، فيصدها عمَّا تريده من الانتقام. 3 - أمَّا ما جاء من الحديث الَّذي رواه البخاري (6116) من حديث أبي هريرة: ¬

_ (¬1) البخاري (6114)، مسلم (2609).

"أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، فقال: لا تغضب" فالمراد أمران: الأوَّل: يوصيه بأنْ يعمل الأسباب التي توجب له حسن الخلق، من الحلم، والأناة، والحياء، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو، وكظم الغيظ، ونحو ذلك؛ فإنَّ النَّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. الثاني: أنَّه يوصيه أنْ: لا تعملْ بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمرك به، فإنَّ الغضب إذا ملك من بني آدم، كان هو الآمر النَّاهي له؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154]. 4 - فضيلة الحلم: قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]. وقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى]. وأخرج أبو داود (4777) والترمذي (2021) وحسَّنه، من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كظم غيظًا هو قادر على أنْ ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، ويخيره من أي الحور شاء". والآثار والحِكَم المنقولة عن العلماء والحكماء في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا. ***

1292 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قالَ رُسْوُل اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الظُّلمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القيامة" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث من أدلَّة تحريم الظلم، وهو يشمل جميع الظلم، وأعظمه الشرك بالله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان]. وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا". والآيات، والأحاديث، والآثار، في تحريم الظلم، وبيان قبحه كثيرةٌ جدًّا. 2 - قال ابن رجب: الظلم نوعان: أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك؛ فإنَّ المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق؛ وبهذا فقد وضع الأشياء في غير مواضعها، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر. الثاني: ظلم العبد غيره، سواء كان في النفس، أو في المال، أو في العِرض؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجَّة الوداع: "إنَّ دماءَكمْ، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" [رواه البخاري (67) ومسلم (1679)]. وجاء في صحيح البخاري (6534) عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مظلمةٌ لأخيه، فليتحلَّل منها قبل أنْ تُؤْخَذ حسناته، فإنْ لم يكن له حسنات، أُخِذَ مِنْ سَيئات أخيه، فطُرِحَتْ عَلَيْهِ". ¬

_ (¬1) البخاري (2447)، مسلم (2579).

1293 - وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّح؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الشُّح: بضم الشِّين، وتشديد الحاء، هو البخل بما عنده، والحرص على ما ليس عنده، ويشمل غير المال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه التحذير من الظلم، والأمر باجتنابه، والبعد عنه؛ فإنَّه خطر العاقبة، ذلك أنَّه ظلماتٌ يوم القيامة، فالمؤمنون مستضيئون بنور إيمانهم، ويقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، وأمَّا الظَّالمون لربِّهم بالشِّرك، أو لأنفسهم بالمعاصي، أو لغيرهم في الدماء، أو الأموال، أو الأعراض، فهؤلاء يمشون في دياجير الظلم؛ فلا يهتدون سبيلاً. 2 - ويدل الحديث على التحذير من الشح والبخل؛ فإنَّه صارَ سبب هلاك الأمم السَّابقة، حملهم الحرص على المال على الاعتداء على أموال غيرهم، فصارت الحروب والفتن التي صارت سبب هلاكهم، واستحلال محارمهم، وهذا هلاك في الدنيا. 3 - كما أنَّه سببٌ للهلاك الأخروي؛ فإنَّ الاعتداء على مال الغير، والاعتداء على محارمه، وسفك دمه: من أكبر الظلم، وأشد الإثم، وهذه المعاصي هي سببُ الهلاك في الآخرة، وعذاب النَّار. ¬

_ (¬1) مسلم (2578).

4 - جاءت النصوص الكثيرة في ذمِّ البخل والشح؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر]. وقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. [آل عمران: 180]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: 38]. وجاء في مسند أحمد (14) والترمذي (1963) من حديث أبي بكرٍ؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَدخل الجنةَّ بخيل". وأخرج الترمذي (2567) والنسائي في الكبرى (2/ 44) من حديث أبي ذَرٍّ؛ أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إنَّ اللهَ يبغض ثلاثة: الشيخ الزَّاني، والبخيل المنَّان، والمسبل المختال". - قال في مختصر الإحياء: البخيل: هو الَّذي يمنع ما ينبغي منه، إمَّا بحكم الشرع، أو لازم المروءة، ومن قام بواجب الشرع، ولازم المروءة، تبرأ من البخل. 5 - البخل داء، وسبب البخل أمران: أحدهما: حب الشهوات التي لا يتوصل إلاَّ إليها بالمال. الثاني: حب المال الَّذي تنال به الشهوات، ثمَّ تنسى الشهوات والحاجات، ويكون نفس المال هو المحبوب. وعلاج الشهوات: القناعة باليسير، والصبر، والمعرفة يقينًا بأنَّ اللهَ تعالى هو الرَّزاق، ثمَّ ينظر في عواقب البخل في الدني؛، فإنَّه لاَبُدَّ لجامع المال من آفات تلم به رغم أنفه. 6 - هنا ثلاثة أصناف: إسراف، وتقتير، واقتصاد: فالصنفان الأولان مذمومان، والصنف الثالث محمود: فالإسراف: هُو مجاوزة الحد في النفقات المباحة، أو النفقات

المحرمة؛ فهذا كله إسراف ممقوت. الثاني: التقتير: وهذا هو البخل؛ وهو التقصير بالنَّفقات الواجبة، أو النفقات المستحبة التي تقتضيها المروءة. أمَّا الصنف الثالت المحمود: فهو الاقتصاد والتدبير؛ وذلك هو القيام بالنَّفقات الواجبات من حقوق الله، وحقوق خلقه؛ من النفقات، والديون الواجبات، كما هو القيام بالنفقات المستحبة المرغوبة ممَّا تقتضيه المروءة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]؛ فهذه من صفات عباد الرحمن، والله الموفِّق. ***

1294 - وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث إسناده جيد. قال زين الدِّين العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء": أخرجه أحمد، والبيهقي في الشعب، من حديث محمود بن لبيد، ورجاله ثقات. ورواه الطبراني في رواية محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج. قال الشوكاني في تفسيره: أخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وابن جرير في تهذيبه، والحاكم، وصحَّحه، والبيهقي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدَّجال: الشرك الخفي، أنْ يقوم الرَّجل يصلي لمكان الرَّجل"، ونحوه من حديث شدَّاد بن أوس أخرجه أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصحَّحه. قال المنذري: إسناده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرِّياء، وأنَّه الشرك الأصغر، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور، في آخر تفسير سورة الكهف. * مفردات الحديث: - الشرك الأصغر: الشرك نوعان: أكبر يخرج من الملَّة الإسلامية، وأصغر، وضابطه: أنَّه أحد الوسائل المفضية إلى الشرك الأكبر، والأصغر لا يخرج من ¬

_ (¬1) أحمد (5/ 428).

الملَّة إلاَّ أنَّه خطر. - الرياء: بكسر الرَّاء، وتخفيف الياء، ممدود، من الرؤية، وحَدُّهُ: هو إظهار العبادة؛ لقصد رؤية النَّاس لها؛ فيحمدوا صاحبها. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الرِّيَاء: مشتقٌّ من الرؤية يرائي النَّاس بما يطلب به الحظوة عندهم، وهو أقسام: منها: ما يكون بالبدن؛ كإظهار النحول والاصفرار، من طول القيام، وكثرة الصيام. ومنها: الزِّي والهيئة؛ كإظهار أثر السجود على الجبهة، وغلظ الثياب، ومنها: القول؛ كإظهار الغضب عند المنكرات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر النَّاس. 2 - النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، فهو حريص على جلب كل خيرٍ لأُمَّته، ودفع كل أذى وضرر عنها، فيخاف عليها أنْ تقعَ في المهالك التي تذهب بالحسنات، وتجلب السيئات. وإنَّ من أخطر تلك المعاصي الرِّياء الَّذي هو من أنواع الشرك بالله تعالى، ووجه الخوف يأتي من أمرين: الأوَّل: أنَّه خفيُّ المداخل، لطيف المسالك، يقع فيه المسلم المتعبِّد وهو لم يشعر به، إذا كان من الرياء الخفي، الَّذي هو -غالبًا- يقع في المسلمين المتعبِّدين. الثاني: أنَّه من الشرك، والشرك أعظم الذنوب. ووجه كونه من الشرك: أنَّ المرائي إذا عَبَدَ اللهَ، فهو بمراءاته النَّاس أشرك بتلك العبادة من يرائيهم من النَّاس؛ وبهذا فقد أشرك بالله تعالى، إلاَّ أنَّه من الشرك الأصغر؛ والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

3 - قال شيخ الإسلام: إنَّ المرائي في العبادة لا يكتفي ببطلان عبادته، فيرجع منها لا له ولا عليه، وإنَّما عليه -مع بطلان العبادة- إثم الرِّياء، وهو من الشرك الأصغر. 4 - قال ابن رجب في شرح الأربعين: العمل لغير الله أقسام: تارةً يكون: رياءً محضًا؛ بحيث لا يُراد به سوى مراءاة المخلوقين؛ لغرضٍ دنيوي؛ كحال المنافقين في صلاتهم. وهذا الرِّياء لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصَّلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة التي يتعدَّى نفعها؛ فإنَّ الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا شك أنَّه حابط، وأنَّ صاحبه يستحق المقت من الله تعالى، والعقوبة. وتارةً: يكون العمل لله، ويشاركه الرِّياء: فإنَّ شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه. ففي صحيح مسلم (2985) عن أبي هريرة، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه". وممَّن يروى عنه هذا المعنى -أنَّ العمل إذا خالطه شيءٌ من الرِّياء، كان باطلاً- طائفة من السلف؛ منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعض المتأخرين. وقد روي عن مجاهد؛ أنَّه قال في حجِّ الجمَّال، وحج التاجر: هو تامٌّ لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصلي، كان هو الحج دون التكسب.

وأمَّا إذا كان أصل العمل لله، ثمَّ طرأتْ عليه نية الرِّياء: فإنْ دفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإنْ استرسل معه، فهل يحبط عمله، أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟: في ذلك خلافٌ بين العلماء من السلف، وأرجو أنَّ عمله لا يبطل بذلك، وأنَّه يجازى على نيته الأولى. ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله (ص 242) عن عطاء الخراساني؛ أنَّ رجلاً قال: "يارسول الله، إنَّ بني سلمة كلهم يقاتلون في سبيل الله، منهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أنْ تكون كلمة الله هي العليا". وذكر ابن جرير أنَّ هذا الاختلاف إنَّما هو في عملٍ يرتبط آخره بأوله؛ كالصَّلاة، والصيام، والحج، فأمَّا الَّذي لا ارتباط فيه؛ كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنَّه ينقطع بنية الرِّياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية. وأمَّا إذا عمل العمل خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين: فذلك فضل الله ورحمته، فإذا استبشر بذلك، لم يضره ذلك، وفي هذا المعنى حديث أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سئل عن الرَّجل يعمل لله عمل الخير، ويحمده النَّاس عليه؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" [رواه مسلم (2642)]. * فوائد: الأولى: الرياء جلي وخفي: فالجلي: هو الَّذي يبعث على العمل، ويحمل عليه، ولو قصد العبد الثواب.

وأمَّا الخفي: فهو لا يحمل على العمل؛ ولكنَّه بحضور النَّاس يخففه عليه، وقد يخفى؛ فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق، ولكن بالشمائل والهيئات. الثانية: علمنا ممَّا سبق أنَّ الرِّياءَ محبطٌ للأعمال، وسببٌ لمقتِ الله تعالى، وأنَّه من المهلكات، وَمَنْ هذا حاله، فجديرٌ بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ومعالجته؛ وذلك بقلع جذوره وأصوله من القلب إنْ كان موجودًا، ومدافعة ما يخطر منه في الحال. الثالثة: لم يزل المخلصونَ خائفين من الرِّياء الخفي، يجتهدون في مخادعة النَّاس عن أعمالهم الصَّالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ممَّا يحرص النَّاس على إخفاء فواحشهم. كل ذلك رجاء أنْ يخلص عملهم؛ ليجازيهم الله تعالى يوم القيامة بإخلاصهم. الرَّابعة: أنَّ في إسرار الأعمال فائدة الإخلاص، والنَّجاة من الرِّياء. قال الحسن: قد علم المسلمون أنَّ السِّرَّ فيه إحراز العمل، ولكنْ في الإظهار -أيضًا- فائدة القدوة الحسنة؛ ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية؛ فقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. الخامسة: قد ينشط الإنسان على الطاعة إذا وجد من يتعبَّدون، فيظن أنَّ هذا من الرِّياء، وليس كذلك على الإطلاق؛ لأَنَّ المؤمن يكون له رغبةٌ في العبادة، ولكنْ قد تُعوِّقه وتمنعه الأشغال، وغلبة الشهوات، وتستولى عليه الغفلة؛ فمبشاهدة الغير تزول الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع؛ فيبعث له النشاط. وينبغي للمؤمن أنْ يُوقن قلبه بعلم الله لجميع طاعاته. ***

1295 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: "وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - آية: آية أصلها: أَيَيَة، فقلبت الياء الأولى ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، والآية هي العلامة، وسمِّيت آية القرآن آية؛ لأَنَّهَا علامة انقطاع كلامٍ عن كلام. - المنافق: مشتقٌّ من نافقاء اليربوع، فإنَّ أحد بابي جحره يُقال له: النافقاء، وهو موضعٌ يرقِّقه بحيث إذا ضربه رأسه انفتح، وهو يكتمها، ويظهر غيرها. والمنافق في التعريف الشرعي: هو الَّذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فإنْ كان في اعتقاد الإيمان، فهو نفاق كفر، وإلاَّ فهو نفاق عملٍ، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه. - إذا حدث كذب: الكذب نقيض الصدق؛ فهو الإخبار بالشيءِ على خلاف الواقع. - وإذا وَعَدَ: وعد الأمر عِدَة ووعدًا ومَوعِدةً، وموعودًا، وهذا من المصادر التي جاءت على مفعول. وفي الاصطلاح: الوعد: الإخبار بإيصال الخير في المستقبل؛ ولذا قالوا: ¬

_ (¬1) البخاري (33)، مسلم (59). (¬2) البخاري (34)، مسلم (58).

في الخير: وَعَدْتُهُ، وفي الشرِّ: أوعدته. - أَخْلَف: الإخلاف جعل الوعد خلافًا؛ فهو عدم الوفاء به. - اؤتمن: على صيغة المجهول، من الائتمان، وهو جعل الشخص أمينًا. - خَانَ: يُقال: خانه خونًا وخيانة، ورجلٌ خائن وخائنة، والجمع: خانة وخَوَنة، والخيانة: هي التصرف في الأمانة على خلاف الوجه المشروع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قال ابن رجب: النفاق في اللغة: هو جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين: أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أنْ يظهر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الَّذي كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنَّ أهله في الدرك الأسفل من النَّار. الثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أنْ يظهر الإنسان علانيةً صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك. وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث (الأحاديث -ذكرها رحمه الله- في شرح الأربعين النووية ونحن نوردها لتمام الفائدة). 2 - قال رحمه الله: أحدها: "أنْ يُحدِّث بما يُصَدَّق به وهو كاذب"؛ ففي المسند (17183) عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كبرت خيانة أنْ تُحدِّث أخاك حديثًا هو لك مصدِّق وأنت له كاذب". الثاني: "إذا وعد أخلف"؛ وهو على نوعين: أحدهما: أنْ يَعِدَ وفي نيته أنْ لا يوفي بوعده، وهذا أشر الخلق.

الثاني: أنْ يعد وفي نفسه أنْ يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذرٍ له في الخلف، وقد أخرج أبو داود (4995) والترمذي (2633) من حديث زيد بن أرقم، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وعد الرجل، ونوى أنْ يفي به فلم يفِ به، فلا جناح عليه". "إذا خاصمَ فجر"؛ ومعنى الفجور: أنْ يخرج عن الحقِّ عمدًا حتَّى يصير الحق باطلاً، والباطل حقَّا، وهذا ممَّا يدعو إلى الكذب؛ كما قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار". وفي البخاري (2457) ومسلم (2668) عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أبغض الرِّجال إلى الله الألد الخصم". وفي سنن أبي داود (3597) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خاصمَ في باطل، وهو يعلمه، لم يزل في سخطٍ من الله حتَّى ينزع". وفي روايةٍ له: "من أعانَ على خصومةٍ بظلمٍ، فقد جاء بغضبٍ من الله". الرَّابع: "إذا عاهد غدر" ولم يوف بعهده، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد؛ فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]. وفي البخاري (6966) ومسلم (1736) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يُعْرَف به، فيُقال: هذه غدرة فلان". والغدر حرامٌ في كلِّ عهدٍ بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهَد كافرًا؛ ولهذا جاء في البخاري (6914) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل نفسًا معاهدة بغير حقٍّ، لم يَرَح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًّا".

وأمَّا عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثمًا، ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من تابعه ورضيَ به. ففي البخاري (6786) ومسلم (108) من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم ... "، وذكر منهم: "رجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلاَّ للدنيا، فإنْ أعطاه ما يريد وفَّى له، وإلاَّ لم يفِ له". ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر في جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات، والمناكحات، وغيرها من العقود الَّلازمة، التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عزَّ وجل ممَّا يعاهد العبد ربَّهُ عليه من نذر التبرر ونحوه. الخامس: "إذا اؤتمن خان"؛ فإنَّه إذا أُؤتمن الرَّجل أمانةً، فالواجب عليه أنْ يردَّها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقد أخرج الترمذي (1264)، وأبو داود (3534) من حديث أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} ... [التوبة: 75] إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة] قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآية [البقرة: 72]. وحاصل الأمر: أنَّ النِّفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية؛ كما قال الحسن البصري، رحمه الله تعالى. وقال طائفة من السلف: خشوع النفاق أنْ ترى الجسد خاشعًا، والقلب

ليس بخاشع. قال عمر -رَضِي الله عنه-: "إنَّ أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليمًا؟ قال: يتكلَّم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو المنكر". 3 - النِّفاق الأصغر، وسيلة: إلى النِّفاق الأكبر؛ كما أنَّ المعاصي بريد الكفر. 4 - ومن أعظم خصال النِّفاق العملي: أنْ يعمل الإنسان عملًا يظهر أنَّه قصد به الخير، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيء؛ فيتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وَحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّء الَّذي أبطنه. 5 - لمَّا تقرَّر عند الصحابة أنَّ النِّفاق اختلاف السِّر والعلانية، خَشِيَ بعضهم على نفسه أنْ يكون إذا تغيَّر عليه حضور قلبه، ورقته، وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا، والاشتغال بالأهل، والأولاد، والأموال، أنْ يكون نفاقًا؛ حتَّى قال لهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس ذاكم من النِّفاق" [رواه أبو يعلى (6/ 105)]. * خلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على ثلاثة أقوال: فذهب جمهور العلماء على أنَّ الوفاء به مستحب، وليس بواجب، لا ديانة، ولا قضاء، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشَّافعي، وأحمد. قال الحافظ: ونَقْل الإجماع في ذلك مردود؛ فإنَّ الخلاف فيه مشهور، لكن القائل به قليل، واستدلوا على ذلك بأدلَّة: منها: ما أخرجه أبو داود (4995)، والترمذي (2633) وحسنه؛ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا واعد أحدكم أخاه، ومن نيته أنْ يفي له فلم يف، فلا شيءَ عليه". ومنها: أنَّ الرَّجل إذا وعد وحلف واستثنى بقوله: "إنْ شاء الله"، سقط

عنه الحنث بالنص والإجماع؛ فهذا دليلٌ على سقوط الوعد منه. وذهب ابن شبرمة: إلى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء؛ وهو مذهب بعض السلف، منهم عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، والظاهرية. واستدل أصحاب هذا الرَّأي بنصوصِ من الكتاب والسنَّة؛ منها: - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [البقرة]، وغيرهما من الآيات. - جاء في البخاري (33)، ومسلم (59)، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث" وذكر منها: "إذا وعد أخلف"؛ وبهذا يكون إخلاف الوعد من صفات المنافقين، ويكون محرَّمًا. - ما أخرجه الترمذي (1995)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمار أخاكَ، ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه". وذهب المالكية: إلى التفصيل فقالوا: يجب الوفاء به إذا كان الوعد على سبب، كأن يأمر بأنْ يدخل لشراء سلعةٍ، أو القيام بمشروع، فإذا تورَّط الموعود، رجع الواعد بوعده؛ فهذا يجب عليه الوفاء ديانةً وقضاء. وأمَّا إنْ لم يحصل ضررٌ على الموعود من الرجوع بالوعد، فلا يلزم الوعد. وحجَّة هؤلاء في تفصيلهم هذا: أنَّ النصوص الشرعية في هذه المسألة تعارضت، وهذا أحسن جمع بينها. قال الشنقيطي في تفسيره: اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد: فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقًا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطةٍ لزم الوفاء به، وإلاَّ فلا.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعي، والشَّافعي، وسائر الفقهاء: إنَّ العِدَة لا يلزم منها شيء؛ لانَّها منافع لم يقبضها كالعارية؛ لأنَّها طارئة. والَّذي يظهر لي: أنَّ إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به، ولا يلزم به جبرًا، بل يؤمر به، ولا يجبر عليه. وممَّن اختار القول بلزوم الوعد من علماء العصر: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وعبد الرحمن بن قاسم، ومصطفى الزرقاء، ويوسف القرضاوي، وغيرهم. قال الشيخ القرضاوي: الَّذي ينبغي ألاَّ يقبل الخلاف فيه هو الوعد في شؤون المعاوضات، والمعاملات التي يترتَّب عليها التزامات وتصرفات مالية واقتصادية. ويترتَّب على جواز الإخلاف فيها إضرارٌ بمصالح النَّاس وتغريرهم؛ فالوفاء بالوعد هنا كالوفاء بالعهد؛ ولذا وصفت الأحاديث: "إذا عاهدَ غدر" مكان "إنْ وعَد أخلف". وقرَّر مجمَّع الفقه الإسلامي بجدَّة بقراره رقم (40) في الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت فيما بين 1 - 6/ 5/ 1409 هـ ما يلي: الوعد بالوفاء يكون ملزمًا للواعد ديانة إلاَّ لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلَّقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدَّد أثر الالتزام في هذه الحالة إمَّا بتنفيذ الوعد، وإمَّا بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا، بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ***

1296 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سِبَاب: مصدر سبَّ يسب سبًّا، وسبَابًا، بكسر السين، وتخفيف الباء، وهو الشتم، وهو التكلُّم في عرض الإنسان بما يعيبه. قال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أنْ يقول في الرَّجل ما فيه، وما ليس فيه. - فُسوق: يُقال: فسق يفسق فسقًا وفسوقًا، مصدر، أي: فجور وخروج عن الحق، وهو خبر، والمبتدأ "سباب". - قتاله: أي مقاتلته، وهو مبتدأ، خبره "كفر". - كفر: لم يُرد حقيقة الكفر الَّذي هو خروجٌ عن الملَّة، بل إنَّما أُطلق عليه الكفر زجرًا؛ للتحذير، فالإجماع منعقدٌ من أهل السنَّة على أنَّ المؤمن لا يكفر بالقتال، ولا بفعل معصيةٍ أخرى. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الفسوق هو الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته، وأنَّ سباب المسلم من معاصيه التي نهى عنها وحرَّمها. 2 - مفهوم الحديث: أنَّ سباب الكافر جائز، ولكن إنْ كان كافرًا معاهدًا فهو أذيةٌ له، وقد نُهيَ عن أذيته؛ فلا يعمل بمفهوم الحديث في حقِّه من أدلَّة واعتبارات أَخر. ¬

_ (¬1) البخاري (6044)، مسلم (64).

3 - المراد هنا تحريم سباب المسلم المستور الَّذي ظاهره العدالة والاستقامة، أمَّا الَّذي خلع جلباب الحياء، وجاهر بالمعاصي، فهذا لا غيبة له، ولا لسبابه حرمة؛ فقد أخرج مسلم أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمَّتي معافى إلاَّ المجاهرين" [رواه البخاري (6569) ومسلم (2995)]، وهم الَّذي جاهروا بمعاصيهم، فهتكوا ما ستر الله عليهم. 4 - وقوله: "وقتاله كفر" فمعناه: أنَّه إن استحل قتال المسلم، فهو كافر كفرًا يخرج من الملَّة؛ ذلك لأَنَّه مكذِّبٌ للنصوص الصحيحة الصريحة، وأمَّا إذا لم يستحل قتاله، فالمراد بالكفر هنا كفر النعمة، والإحسان، والأخوَّة الإسلامية، فإنكار هذه المعاني الإسلامية الكريمة جحودٌ لها، فهو كفر نعمة لا يخرج من الإسلام، والله أعلم. ***

1297 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إيَّاكم والظن: إيَّاكم في محل نصب، مفعول به لفعلٍ محذوف، تقديره: احذروا الظن، و"الكاف" للخطاب، والظن معطوف على إيَّاكم، أو مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره -أيضًا-: "احذروا"، وتقدير الكلام من جهة المعنى: حذِّروا أنفسكم من الظن، واحذروا الظَّن، والمراد: لا تظنوا بالمسلم شرًّا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الظن: هو ما يخطر بالنفس من تجويز الأمور المحتملة للصحة والبطلان؛ فيحكم بهذا الظن الَّذي لم يبن على قرائن قويَّة، وأمارات صحيحة، ويعتمد عليه، ويُجري عليه أحكام الحقائق الواقعة، وهذا هو الَّذي حذَّر منه هذا الحديث الشريف: "إياكم والظن". وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، قال المفسرون: هو أنْ يظن بأهل الخير سوءًا. فالظن القبيح عمَّن ظاهره الخير لا يجوز، وهو المراد بقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. 2 - أمَّا أهل السوء والفسوق، فلنا أنْ نظنَّ بهم مثل الَّذي ظهر لنا منهم؛ فلا يضر الظن السيِّء لمن بدت منه مخايله، وظهرت منه أماراته؛ فقد أخرج الطبراني في الأوسط (1/ 189) والبيهقي (10/ 129) من حديث أنس؛ أنَّ ¬

_ (¬1) البخاري (5143)، مسلم (2563).

النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "احترسوا من النَّاس بسوء الظن". 3 - قال النووي: المراد: التحذير من تحقيق التهمة، والإصرار عليها، وتقررها في النَّفس دون ما يعرض ولا يستقر؛ فإنَّ هذا لا يكلف به؛ فقد ثبت عن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عمَّا حدَّثت به أنفسها مالم يتكلَّموا، أو يعملوا به" [رواه البخاري (5269) ومسلم (127)]. 4 - الزمخشري قسَّم الظنَّ إلى أربعة أقسامٍ، وهو تقسيمٌ حسن، فقال: - محرَّم: هو سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بكلِّ مَنْ ظاهره العدالة من المسلمين، فمن عرفت منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد والخيانة به محرَّم، بخلاف من اشتهر بتعاطي الريب. - واجب: حُسْن الظن بالله تعالى. - مندوب: حُسْن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين. - مباح: من ظهرت أمارات فسقه، ودخل في مداخل السوء. 5 - إنَّما كان الظن أكذب الحديث؛ لأنَّ الكذب: مخالفة الواقع من غير استنادٍ إلى أمارة. ***

1298 - وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - ما: حرف نفي. - مِنْ: بكسر الميم وسكون النون، حرف جر زائد جاء للتأكيد. - يسترعيه: رعى الماشية يرعاها رعيًا، فهى راعية: إذا سرحت بنفسها، والفاعل راعٍ، والجمع رعاة. ويُقال: رعى الأمير رعيته رعاية: ولي أمرها وساسها؛ فالأمير الرَّاعي، والأمة راعية. - رعية: الرعية: عامَّةُ النَّاس الَّذين عليهم راعٍ، والجمع رعايا. - غاش: غشَّهُ يغشُّهُ غشًّا: لم يمحضه النصح؛ والغاش اسم فاعل، جمعه غُشَّاش. وجملة: "وهو غاش لرعيته" محلها النصب على الحال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث يتضمن وعيدًا شديدًا للولاة الَّذين لا يهتمون بأمور رعيتهم، ولا ينظرون إلاَّ لما يعود على مصالحهم الخاصَّة، والسياسة التي تخدم مصالحهم وأغراضهم، حتَّى ولو كانت هذه السياسة فيما يضر بمصالح الرعية في دينها ودنياها. ¬

_ (¬1) البخاري (7150) مسلم (142).

2 - الوعيد الأكيد، والعذاب الشديد مُنْصَبٌّ على هؤلاء الرعاة الغاشِّين، بأنَّهم إذا ماتوا على هذه الحالة، فإنَّ الله قد حرَّم عليهم الجنَّة التي هي السعادة الأبدية؛ لأنَّهم لم يغشوا رعاياهم إلاَّ لأجل سعادتهم في الدنيا باستعبادهم، وجعلهم يشقون لحساب سعادتهم في حياتهم؛ فكان جزاؤهم أنَّ اللهَ حرمهم من السعادة الحقيقية الخالدة الدَّائمة. 3 - من الغش: ظلمُهُمْ بأخذ أموالهم بالضرائب والمكوس، واستيلائهم على حقوقهم الخاصَّة بأدنى الحيل من اختلاق ضرائب غير مباشرة، ومن غشِّهم: الاحتجابُ عن مصالحهم وحاجاتهم، ومن غشهم: تركُ المفسدين يعيثون فيهم بالفساد، بالنَّهب، والسطو، بدون إقامة الحدود وردع المجرمين، ومن غشِّهم: توليةُ الأمراء، والقضاء، والرؤساء، ممَّن لا كفاءة لهم، ولا أمانة، وإنَّما ولوا من أجل القرابات والصِّلات. 4 - الأحاديث كثيرة تدل على أنَّ الغش من الولاة من الكبائر، وأنَّه من المعاصي المتعدِّي ضررها وشرها. قال ابن بطال: هذا وعيدٌ شديدٌ على أئمة الجور؛ فمن ضيَّع من استرعاه الله عليهم، أو خانهم، فقد توجَّه إليه الطلب بمصالح العباد يوم القيامة؛ فكيف يقدر على التحلل من الظلم من أمَّةٍ عظيمة؟ 5 - قال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية: وقد دلَّت السنَّة على أنَّ الولاية أمانة، يجب أداؤها؛ فقد جاء في البخاري (59) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا ضيعت الأمانة فانتظر السَّاعة، قيل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله، فانتظر السَّاعة". 6 - ثمَّ قال رحمه الله: الولاة نواب الله تعالى على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، والمقصود بالولاية: إصلاح دين الخلق الَّذي متى فاتهم، خسروا خسرانًا بينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلاَّ

به من أمر دنياهم. وهو نوعان: - قَسْم المال بين مستحقيه. - وعقوبات المعتدين. فإذا اجتهد الرَّاعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، فإنَّه أفضل أهل زمانه، وكان من المجاهدين في سبيل الله. فقد رويَ: "يومٌ من إمامٍ عادلٍ أفضل من عبادة ستِّين سنة" [رواه الطبراني (11/ 337)]. وفي مسند الإمام أحمد (10790) عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب الخلق إلى الله إمامٌ عادل، وأبغضهم إليه إمامٌ جائر". 7 - ومن الولاية: النظارة على الوقف، والقيام على الوصية، والولاية على الصغير والقاصر، والوكالة عن الحي، والرَّجل في أسرته، والمرأة في بيت زوجها وغيرهم؛ فكل هؤلاء ولاة فيما تحت أيديهم، وهم مشمولون بدلالة عموم الحديث: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته" [رواه البخاري (893) ومسلم (1829)]. ***

1299 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهُمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - اللهم: هي بمعنى "يا الله" حذفت ياء النِّداء، وعوِّض عنها الميم. - شق: شق عليهم يشق شقَّا ومشقَّة: صعَّب عليهم الأمر؛ فأوقعهم في المشقَّة. - فاشقق عليه: جملة دعائية من جنس عمل الشاق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه وعيدٌ شديدٌ على الولاة، والأمراء، والعمَّال، والموظفين الَّذين يشقون على أصحاب الحاجات، والمراجعين في قضاياهم، وأعمالهم ومعاملاتهم؛ فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- دعا على هؤلاء وأمثالهم، فمن جعل الله حاجاتِ النَّاس وأعمالُ الخلق عندهم، فشقوا عليهم، فقد دعا عليهم بأن يشُقَّ الله تعالى يشق عليهم، كما شَقُّوا على النَّاس، وعلى المراجعين، وذوي الحاجات. 2 - يوجد -والعياذ بالله- كثير من الموظفين ذوي القلوب الميتة، والنفوس المريضة، ممَّن يرتاحون لأذية الخلق بالمشقَّة عليهم، فتجدهم يضيعون الوقت بالقيل والقال، ولا يهمهم أعمال النَّاس، طالت مدَّة مراجعتهم فيها أم قصَّرت، ويصرفون النَّاس عنهم بالوعود الكاذبة. 3 - ومن المشقَّة على النَّاس: فرض ما يسمَّى "روتين العمل ونظامه"؛ ممَّا يعقد ¬

_ (¬1) مسلم (1828).

المسائل، ويطيل المراجعات، ويضيع الحقوق؛ فالواجب تخفيفه ما أمكنَ الحال، وتسهيل مهمَّة سير الأعمال. 4 - ومن المشقَّة على الخلق تولية من ليس فيه كفاءة على العمل، ولا قدرة له عليه، ولا معرفة له فيه. 5 - قال شيخ الإسلام: فيجب على الوالي أنْ يستعمل الأصلح الموجود، ويختار الأمثل، فالأمثل في كل منصب بحسبه. والقوَّة في كلِّ ولاية بحسبها، فالقوَّة في إمارة الحرب ترجع إلى الشجاعة، وإلى الخبرة في الحروب، والقوَّةُ في الحكم بين النَّاس: ترجع إلى العلم والعدل، وإلى القدرة على تنفيد الأحكام. وإذا كانت في الولاية أشد، قُدِّم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها، ويقدم في ولاية القضاء الأعلم، والأشد ورعًا. وأهم ما في هذا الباب: معرفة الأصلح، وذلك إنَّما يتم بمعرفة مقصود الولاية. 6 - بهذه الطريقة في التعيين على الأعمال تحصل السهولة في أعمال النَّاس، ويبعد عنهم العسر والمشقَّة. ***

1300 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المشاجرات مع النَّاس، والخصومات، محرَّمة؛ لما يتولَّد منها من الإضرار، ولما تحدث من القطيعة والبغضاء، وإذا حصلت أو حصل تأديب لمن يستحق التَّأديب من خادمٍ، أو ولدٍ، أو زوجة، أو وجب حدّ لله تعالى، فإنَّ الضارب عليه أنْ يجتنب الوجه فهو أشرف الأعضاء، وهو الَّذي تحصل به المواجهة، وضربه عليه إمَّا أن يتلف منه عضوًا، وإمَّا أنْ يُحْدِثَ فيه شَيْئًا؛ فالواجب اجتنابه، ويحرم الضرب معه، سواء أكان الضرب بحقً، أو عن طريق الاعتداء. 2 - ومثل الوجه المواطن الَّتي يحدث ضربها موتًا؛ فيجب اجتنابها. 3 - قال في شرح الإقناع: ويجتنب الضَّارب الرَّأس، والوجه، والفرج، والبطن، من الرجل والمرأة، ومواضع القتل فيجب اجتنابها؛ لأنَّ ضربها يؤدِّي إلى القتل، وهو غير مأمور به. 4 - قال شيخ الإسلام: على مقيم الحدود أنْ يقصد بإقامتها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ابنه، والطبيب بداوء المريض، فلم يأمر الشرع إلاَّ بما هوَ أنفع للعباد، وعلى المؤمن أنْ يقصد ذلك. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2559) مسلم (2612).

1301 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: "يَارَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لاَ تَغْضَبُ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - لا تغضب: الغضب: استجابة لانفعال يتميز بالميل إلى الاعتداء، والمعنى: تجنَّب أسباب الغضب، وإذا غضبت، فلا تنفذ غضبك. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغضب جماع الشر، وجاءت النصوص الكثيرة في البعد عنه؛ ففي المسند (6597) من حديث ابن عمرو؛ أنَّه سأل النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "ماذا يباعدني من غضب الله عزَّ وجل؛ قال: لا تغضب"، قال الصحابي: ففكَّرت فإذا الغضب يجمع الشر كله. 2 - قال في الإحياء: حقيقة الغضب: هو غليان الدم لطلب الانتقام، والنَّاس في قوَّة الغضب على درجات، فمن قويت نار الغضب في وجهه، أعمته، وأصمَّته عن كلِّ موعظةٍ وإرشاد. 3 - وهذا الرَّجل جاء إلى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "علِّمني شيئًا ولا تكثر عليَّ، فقال: لا تغضب"؛ ردد عليه ذلك مرارًا كل ذلك يقول: "لا تغضب". 4 - قال ابن رجب: قوله: "لا تغضب" يحتمل أمرين: أحدهما: أنْ يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الحلم، والحياء، والأناة، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو، ¬

_ (¬1) البخاري (6116).

وكظم الغيظ، والطَّلاقة، والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنَّ النَّفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادةً، أوجبَ لها ذلك دفع الغضب عند وصول أسبابه. الثاني: أنَّ المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به الله؛ فإنَّ الغضب إذا ملك ابن آدم، كان الآمر النَّاهي له. 5 - قال في مختصر الإحياء: علاج الغضب يكون بحسم مادته التي تهيجه، وأسبابه التي تثيره، وأمَّا إذا هاج فيعالج بأمورٍ منها: أنْ يفكِّر بأمورٍ منها: أنْ يفكِّر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ، والحلم، والاحتمال. وقد جاء في الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الَّذي يملك نفسه عند الغضب" [رواه البخاري (6114) ومسلم (2609)]، وفي البخاري (6115) ومسلم (2610) من حديث سليمان بن صرد قال: "استبَّ رجلان عند النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ونحن عنده، وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم". ***

1302 - وَعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - يتخوضون في مال الله: قال في النهاية: أصل الخوض: المشي في الماء، ثمَّ استعمل في التلبس بالأمر، والتصرف فيه، والمعنى: رُبَّ متصرِّفٍ في مالِ الله تعالى بما لا يرضاه الله. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - المال جعله الله تعالى قوامًا ومتاعًا في هذه الحياة الدنيا؛ فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]؛ فالمال ذو فائدةٍ كبيرةٍ في الدِّين والدنيا. 2 - وإنفاقه في غير سبيل الخير، والطرق النَّافعة المفيدة سفهٌ، وإسرافٌ، وتبذير؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]. 3 - المال بيد المسلمين، وبيد ولاتهم هو مال الله تعالى، استخلفهم عليه؛ لينفقوه في طرقه المشروعة النَّافعة، والمفيدة في أمور الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، أي: جعلكم خلفاء في التصرف فيه؛ فالمال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أنْ يصرفوها فيما يرضيه. ¬

_ (¬1) البخاري (3118).

4 - أمَّا التخوُّض فيه والتصرف بالباطل، وفى غير الطرق المشروعة، فهذا حرام، وأكلٌ لمال الله تعالى بالباطل. 5 - وهذا يشمل أموال النَّاس التي بأيديهم وتخصهم، فلا يجوز لهم أنْ يتصرفوا فيها إلاَّ بما يحبه الله تعالى؛ لتكون عونًا لمرضاته فيما يقيم دينه، وفيما ينفع عباده في دنياهم. 6 - كما يشمل الولاة فَعَلَيْهِمْ أنْ يصرفوا مال الله تعالى فيما يعزِّز دينه، ويعلي كلمته، وعلى ما ينفع الرعية والبلاد، من المشاريع النافعة، والزراعة، والصناعة، والتعليم، والمرافق العامة التي تنفع عموم الرعية، وفيما ينفع عباده في دنياهم. 7 - الحديث يشمل من أخذ من مال لا يستحق أخذه منه بأنْ يكون للمال مصرف ليس هو من أهله، ولكنَّه يعمل الحيل، والطرق التي تمكنه من الأخذ منه؛ فهذا أخذٌ بالباطل. ***

1303 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -قَالَ: "يَاعِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث قطعةٌ من حديثٍ عظيمٍ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره. قال الإمام أحمد: هو أشرف حديثٍ لأَهل الشَّامِ، وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه. 2 - قوله: "ياعبادي! إنِّي حرَّمت الظلمَ على نفسي"، يعني: أنَّه منعه تعالى عن نفسه فلا يظلم عباده؛ قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق]، وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} [آل عمران] وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت]، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة. قال النووي: تقدس وتنزَّه عن الظلم، فالظلم وضع الشيءِ في غير موضعه، وله الحكمة التَّامَّة من أنْ لا يجري الأمور إلاَّ في مجاريها، ووفق مصالحها. 3 - قوله: "جعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالموا": قال ابن رجب: حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أنْ يتظالموا فيما بينهم؛ فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يظلم غيره. 4 - والظلم نوعان: ¬

_ (¬1) مسلم (2577).

أحدهما: ظلم النَّفس، وأعظمه الشرك؛ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [القمان]؛ فالمشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، وبهذا فقد وضع الأشياء في غير مواضعها، وأكثر ما ورد في القرآن وعيدًا للظَّالمين إنَّما أريد به المشركون، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر. الثاني: ظلم العبد غيره، وهو المذكور في الحديث؛ وقد قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع: "إنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" [رواه البخاري (67) ومسلم (6791)]. 5 - الحديث صريحٌ بتحريم الظلم بين النَّاسِ في كلِّ حقٍّ من حقوقهم حتَّى القليل منها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنْ كان عودًا من أراك" [رواه مسلم (137)]؛ فالواجب البراءة من حقوق الخلق، ففي البخاري (6534) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت عنده مظلمة لأَخيه، فليتحلَّل منها قبل أنْ تؤخذ من حسناته، فإنْ لم يكن له من حسناتٌ، أُخِذَ مِن سيئات أخيه، فَطُرِحَت عليه". ***

1304 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أتدرون: الهمزة للاستفهام، وهي الأصل فيه، وجاءت -هنا- بمعنى التقرير؛ لانَّها جاءت -هنا- ممَّن يعلم لمن يعلم. - الغيبة: غاب عنه يغيب غَيبة -بفتح الغين- والغِيبة -بكسر الغين-: ذكر الغائب بما يكرهه. - ذكرك: ذكر يذكر ذكرًا، فالذكر -بكسر الذَّال- خاصٌّ باللسان، ومعناه -هنا- قال عنه ما يكره. - أفرأيت: الهمزة -هنا- للاستفهام حقيقة، والتاء مفتوحة للمخاطب، وقد وردت لطلب التصور، بمعنى: أخبرني. - بهته: بهته يبهته بهتًا وبُهتانًا، قال عنه مالم يفعل، والاسم البهتان، واسم الفاعل باهِت، والجمع بُهْت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغِيبة: بيَّنها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّها ذكرك أخاك المسلم بما يكره، سواءٌ أكانَ في خَلْقه أو خُلُقه، فأي كلمة تقولها فيه ممَّا يكره أنْ تقال فيه، فهذه غيبة، سواءٌ أكانت كبيرةً أو صغيرةً، ولكن يتفاوت الإثم بقدر ما قيل في الشخص، حتَّى ¬

_ (¬1) مسلم (2589).

ولو كانت فيه تلك الصفة. 2 - أمَّا إذا لم تكن الصفة -التي ذكرت- فيه، فقد جمعت بين أمرين: الغيبة، والبهتان والكذب على الإنسان بما ليس فيه. 3 - قال النووي: الغيبة: ذكر المرء ما يكره سواءٌ أكان في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجته، أو خادمه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به ذكر سوء، وذكر ذلك باللفظ، أو بالرمز، أو بالإشارة. وقال أيضًا: ومن ذلك التعريضُ في كلام المصنِّفين؛ كقولهم من يدعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصَّلاح، أو نحو ذلك، ومنه قولهم عند ذكره: "الله يعافينا"، "الله يتوب علينا"، "نسأل الله السَّلامة"، ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة. 4 - قوله: "ذكرك أخاك"، قال ابن المنذر: في الحديث دليلٌ على عدم غيبة اليهودي، والنصراني، وسائر أهل الملل، ومَنْ قد أخرجته بدعته عن الإسلام لا غيبة له. 5 - قال القرطبي: أجمع العلماء على أنَّ الغيبة من كبائر الذنوب، واستدل على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ دماءَكُمْ، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام". 6 - استثنى العلماء من الغيبة ستَّة أمور جائزة؛ لأَنَّها لم يقصد بها الغيبة، وإنَّما قصد بها أمر آخر لا يتحقَّق إلاَّ بها: الأوَّل: التظلُّم. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر. الثالث: الاستفتاء. الرَّابع: تحذير المسلمين من الاغترار بشخص. الخامس: المجاهر بالفسق والبدعة. السَّادس: التعريف بالشخص؛ كالأعمى والأعرج.

1305 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المسلم: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمِ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُهُ" أخرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: هذه المنهيات الأربعة جاءت على صيغة التفاعل، الَّذي تقع المشاركة فيه بين اثنين فأكثر؛ فالنَّهي، والتوجيه، والإرشاد منصب على كلِّ مسلمٍ عن هذه الأفعال. - لا تحاسدوا: يعني: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد مرضٌ قلبيٌّ مركوزٌ في طباع البشر، والمذموم منه تمنِّي، أو السعي في ذلك، زوال نعمة المحسود، وتقدَّم الكلام عن أسبابه وعلاجه. - ولا تناجشوا: النَّجْش -بفتح فسكون- لغة: بعث الصيد، وإثارته من مكانه، وشرعًا: هو الزيادة في السلعة بدون قصد شرائها، إمَّا لنفع البائع، أو لمضرَّة المشتري، أو العبث. - ولا تباغضوا: أي: لا تفعلوا الأمور التي توجب البغضاء بينكم. ¬

_ (¬1) مسلم (2564).

- ولا تدابروا: قال أبو عبيد: التدابر: هو الإعراض والهجر، مأخوذٌ من أنْ يولِّي الرجل صاحبه دبره، ويعرض عنه بوجهه؛ فهو التقاطع. - ولا يبع بعضكم على بيع بعض: معناه: أنْ يكون قد باع شيئًا، فيأتي آخر، ويبذل للمشتري سلعته؛ ليشتريها، ويفسخ بيع الأوَّل. - لا يظلمه: الظلم: هو التعدي على الحقِّ، والميل إلى الباطل، وأنواعه كثيرةٌ وصوره لا تحصر، وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى. - ولا يَخذُله: هو ترك نصرته، وذلك بأنْ يهان المسلم، أو يذلَّ، أو ينقص من حقه، ثمَّ يتأخَّر أخوه المسلم فلا ينصره، وهو يقدر على ذلك؛ فهذا خذلانه. - ولا يحقره: يُقال: حقر الرجلَ يحقره حقرًا: أذلَّه، والمراد: أنْ يتكبَّر عليه، ويترفَّع عنه، ويعظم نفسه بجانبه. - التقوى: فتقوى الله تعالى: هي فعل أوامره؛ رجاء ما عنده، واجتناب نواهيه؛ خوفًا من عقابه، وأصل التقوى في القلب، وأثرها يظهر في الأعمال. - بحسب امرىءٍ من الشرِّ: يعني: حسبه وكافيه من خلال الشرور، ورذائل الأخلاق ... احتقار أخيه، فقوله: "بحسب امرىءٍ" مبتدأ، والباء فيه زائدة، وقوله: "أنْ يحقر أخاه ... إلخ" هو الخبر. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا حديثٌ عظيمٌ فيه جملةٌ من آداب الإسلام الكريمة، التي من شأنها أنْ يتحبَّب المسلم لأخيه المسلم، حتَّى تُوَحَّد كلمة المسلمين، وتُجمع صفوفهم، ويُلمَّ شملهم، ويكونوا أمَّةً واحدةً، وإخوةً مسلمين. أولها: "لا تحاسدوا": يعني: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد مركوز في طباع البشر؛ فالإنسان يكره أنْ يفوقه أحد من جنسه في شيءٍ من الفضائل، والمنهي عنه هنا منه: هو أنْ يتمنَّى زوال نعمة العبد عنه، سواءٌ تمنَّاها أنْ تنتقل إليه، أو تمنَّى مجرَّد زوالها عن المحسود.

وهذا خلقٌ ذميم نهى عنه الشَّارع الحكيم، بما يسببه من الشرور في الدنيا، ولأَنَّه يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب. ثانيها: "لا تناجشوا": والنجش معناه: أنْ يزيد الإنسان في السلعة، لا لقصد شرائها، وانَّما لقصد الإضرار بالمشتري برفع ثمنها عليه، أو لنفع البائع بزيادة الثمن له، وهو حرام، وإذا تحقَّق، خيِّر المشتري بين الإمساك ورد البيع؛ لما ناله من الخديعة، والمكر، وزيادة الثمن. ثالثها: "لا تباغضوا": نهى عن التباغض بين المسلمين؛ فإنَّ المسلمين جعلهم الله إخوة؛ قال عليه الصلاة والسَّلام: "والَّذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابوا، أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلام بينكم" [أخرجه مسلم (54)]. ولهذا المعنى حرَّم الله تعالى المشي بالنميمة؛ لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورخَّص في الكذب في الإصلاح بين النَّاس. أمَّا البغض في الله تعالى، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلاً في النَّهي. وعن ابن عباس: "من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنَّما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان -وإنْ كثرت صلاته وصومه- حتَّى يكون كذلك، وقد صارت عامَّة مؤاخاة النَّاس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي أهله شيئًا" رواه ابن جرير. رابعها: "لا تدابروا": مأخوذٌ من أنْ يوليَ الرَّجل صاحبه دبره، ويعرض عنه بوجهه، فقد جاء في صحيح البخاري (6237)، وصحيح مسلم (2560) من حديث أبي أيوبٍ الأنصاري؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث، وخيرهما الَّذي يبدأ بالسَّلام". فالهجر فوق ثلاث محرَّم لا يجوز، ويحصل إنهاء الهجر بالسَّلام، وأمَّا

الهجر لأجل دين، فتجوز الزيادة من غير تحديد، حتَّى يزول المانع من الهجر؛ واستُدل على ذلك بقصَّة الثلاثة الَّذين خُلِّفوا، ويباح على أهل البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء والمبادىء الهدَّامة، وأصحاب المذاهب المضللة. خامسها: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض": قال الفقهاء: معناه أنْ يكون قد باع عليه شيئًا، فينزل للمشتري سلعته بأرخص ليشتريها، ويفسخ بيع الأوَّل، وهذا إذا كان في خيار المجلس، أو خيار الشرط، وكذلك على الصحيح يشمل فيما إذا تمَّ البيع بينهما، ولم يبق خيار؛ وذلك لئلا يحتال المشتري، أو البائع على فسخ العقد، ويكون في نفسه عداوة وبغض للعاقد معه. قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض": قد تكاثر النَّهي عن ذلك، ففي البخاري (2140) ومسلم (413) عن أبي هريرة، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبع المؤمن على بيع أخيه المؤمن" وفي روايةٍ لمسلم: "لا يسم على سوم أخيه". وفي البخاري (2139) ومسلم (2032) من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه"، هذا دليلٌ على اختصاص ذلك بالمسلم دون الكافر، وهو مذهب أحمد والأوزاعي. وذهب كثيرٌ من الفقهاء: إلى أن النَّهْيَ عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر. وأصح القولين أنَّ النَّهي للتحريم. 2 - "وكونوا عبادًا إخوانًا": ذكره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كالتعليل لما تقدَّم؛ فإنَّ في هذه الجملة اللطيفة إشارةً إلى أنَّهم إذا تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، ولم يبع بعضهم على بيع بعض، صاروا إخوةً متحابين متآلفين. 3 - فيه الأمر باكتساب الأشياء التي تجلب المحبَّة، والمودة، والألفة: من ردِّ السَّلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، ونحو ذلك من الحقوق التي سنَّها الإسلام بين المسلمين؛ لتمكِّن المودَّة، والألفة

بينهم، وتوحد كلمتهم. 4 - قوله: "المسلم أخو المسلم": قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فالأخوَّة الإسلامية هي أوثق رابطةٍ وأقوى صلة بين المسلم وأخيه المسلم، وهي تقتضي حقوقًا بينهما، إنْ قاما بها نمت وزكت، وإلاَّ ضعفت وذوت حتى تموت؛ فعلى المسلمين مراعاتها، وإحياؤها بالقيام بالحقوق والصلات. 5 - قوله: "لا يظلمه": هذا أقل ما يجب للمسلم على أخيه، والظلم يكون في النفس، والعِرض، والمال؛ فعلى المسلم: تجنب غلط أخيه، فالمسلم على المسلم حرامٌ: دمه، وماله، وعرضه. 6 - قوله: "ولا يخذله": الخذلان هو أنْ يُظْلَمَ المسلم وتقدر على نصره فلا تفعل، بل تتخلَّى عنه؛ فإنَّ المؤمنَ مأمورٌ بنصر أخيه المسلم، سواء أكان ظالمًا فتنصره على نفسه، وتمنعه من الظلم، أو مظلومًا فتمنع الظلم عنه، فقد أخرج أبو داود (4884) من حديث أبي طلحة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من امرىءٍ مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلاَّ خذله الله في موضعٍ يحب فيه نصرته، وما من امرىءٍ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلاَّ نصره الله في موضعٍ يحب فيه نصرته". 7 - قوله: "ولا يحقره": احتقار المسلم لأخيه ناشيءٌ عن الكِبْر؛ فقد أخرج مسلم (91) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكِبْر بَطَر الحقَّ، وغَمْط النَّاس" فالمتكبِّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص؛ فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أنْ يقبل من أحدهم الحق إذا ردوه عليه. 8 - قوله: "التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثًا":

فيه إشارةٌ إلى أنَّ أكرم الخلق عند اللهِ من اتصف بالتقوى لا بالجاه والرئاسة والمال؛ فرُبَّ من يحقره النَّاس -لضعفه، وقلَّة حظه من الدنيا- هو أعظم قدرًا ممَّن له قدرة في الدنيا؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [لحجر ات: 13]. والتقوى أصلها في القلب، فلا يطلع على حقيقتها إلاَّ الله تعالى؛ وحينئذٍ فقد يكون ممَّن له صورة حسنة، أو جاه، أو رئاسة في الدنيا، قلبه خالٍ من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك، قلبه مملوءٌ من تقوى الله؛ فيكون أكرم عند الله تعالى. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [رواه مسلم (2564)]. 9 - قوله: "بحسب امرىءٍ من الشرِّ أنْ يحقر أخاه المسلم": يعني: أنَّ احتقار المسلم أخاه المسلم هو كفايته من الشرِّ؛ فإنَّه إنَّما يحقره لتكبره عليه، والكبر أعظم خصال الشر؛ ففي صحيح مسلم (91) أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبر". 10 - قوله: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه". النصوص في تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كثيرة صحيحة صريحة؛ فهو ممَّا عُلِمَ من الدِّين بالضرورة. إنَّما المتعيِّن على المسلم أنْ يحترز عن حقوق المسلمين، فلا يعتدى عليها، وإذا حصل بيده منها شيءٌ فليردها إنْ قدر على ذلك، وإلاَّ استحل أهلها منها قبل أنْ يأتي يومٌ لا يستطيع أداءها إلا من أعماله الصَّالحة، فإذا نفذت أعماله، وضع عليه من سيئات أصحاب الحقوق، ونسأل الله العافية والمعافاة. ***

1306 - وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكرَاتِ الأَخْلاَقِ، وَالأَعْمَالِ، وَالأَهْوَاءِ، وَالأَدْوَاءِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير. واعتمد الشيخ الألباني تصحيحه في صحيح الجامع الصغير، وقال: أخرجه الترمذي، والطبراني، والحاكم. * مفردات الحديث: - جنبِّني: دعاء من التجنب، أي: باعدني. - منكرات الأخلاق: هي الأوصاف المذمومة؛ كالبخل، والكبر، والحسد، والحقد، ونحوها مما ينكر شرعًا وعادةً. - منكرات الأهواء: هي ما تشتهيه النفس، وتميل إليه من غير نظر إلى مقصد يحمد عليه شرعًا. - منكرات الأدواء: هو الأسقام البدنية المنفرة من المرض، أو الأمراض المزمنة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه دعوات كريمات يقولها صاحب الخلق العظيم -صلوات الله وسلامه عليه- يزود بها نفسه الشريفة؛ فإنَّ الله تعالى وصفه بقوله: {وَإِنَّكَ ¬

_ (¬1) الترمذي (3591)، الحاكم (1/ 532).

لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم]. وكان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن. 2 - "اللهمَّ جنبني منكرات الأخلاق": فالتجنب المباعدة، ومنكرات الأخلاق هي الأخلاق الذميمة المستقبحة؛ كالحسد، والحقد، والغش، وقسوة القلب، والبخل، والجُبن، والهلع، ونحو ذلك من الأخلاق المكروهة، شرعًا وعقلاً، وإذا تخلى المسلم عن هذه الأخلاق القبيحة، وتحلى بعدها بالأخلاق المحمودة، شرعًا وعقلاً؛ من الحلم، والعفو، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، وتحمل الأذى، وقضاء الحوائج، والبر، والإحسان، ونحوها، فقد كمل خلقه. ومنكرات الأخلاق تنشأ عن مرض القلب؛ كما أنَّ كرائم الأخلاق تنشأ عن صحته. 3 - أما منكرات الأعمال: فهي كبائر الذنوب، والإصرار على صغائرها؛ فالمسلم يتخلى عنها، ويستعين بالله تعالى على ذلك، ويتحلى بفضائل الأعمال من أداء الواجبات، والحرص على المستحبات، والتزود من الباقيات الصالحات، فإذا فعل ذلك، كمل إيمانه. 4 - أما الأهواء: فهي الشهوات المهلكات، من ارتكاب المعاصي، والإقدام على الآثام، التي تهواها النفوس، ولكن في هذا الهوى والمشتهى هلاكها. فعلى المسلم مقاومة نفسه الأمارة بالسوء، لتكون له مطيعة، مطمئنة، يسهل قيادها؛ لتكون رغبتها في طاعة الله تعالى، من الإيمان الكامل، والإسلام الشامل، والإحسان المقرب. 5 - أما الأدواء: فهي الأسقام، وتكون للأبدان، كالأمراض الشنيعة؛ من الجذام، والسرطان، وذات الجنب، وتكون أسقام القلوب بالشَّهوات، كالمعاصي، وبالشبهات، كالبدع، نسأل الله السلامة.

1307 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُمَارِ أَخَاكَ، وَلاَ تُمَازِحْهُ، وَلاَ تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: سنده ضعيف. قال المصنف: أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف، لكن في معناه أحاديث، فقد روى الطبراني أنَّ جماعة من الصحابة قالوا: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتمارى، فذكر حديثًا طويلاً، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وتتأيد صحة معناه بما أخرج الشيخان مرفوعًا: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". * مفردات الحديث: - لا تمار أخاك: بضم التاء، المماراة: هي المجادلة بغير حق، أو أن تطعن في كلامه تحقيرًا له وإظهارًا لخلله وقصوره. - ولا تمازحه: الممازحة: هي المداعبة لأجل المباسطة، والتلطف؛ ولذا فإنَّ المراد بها هنا هو الممازحة التي تجلب البغض، والنفرة، وتكدر النفس. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الإسلام بتوجيهاته الرشيدة، وتعاليمه الحكيمة، يحث على الألفة والأخوَّة الإيمانية، التي تجمع القلوب، وتؤلف النفوس، وتشرع الأسباب الجالبة للأخوَّة. والمحبة والمودة في الله، هو أساس الاجتماع، والتعاون على ¬

_ (¬1) الترمذي (1995).

البر والإحسان، ونهى عما يسيء إلى الأخوَّة والألفة. 2 - المماراة: هي الجدال والخصومة، التي قد يفعلها الإنسان مع جليسه؛ ليظهر الخلل في كلامه، أو العيب في فكرته؛ فهذا خلق ذميم، ويسبب التنافر والتباغض بين الأصحاب والإخوان، والواجب بين الإخوان والحضور: هو احترام كل واحد منهم صاحبه، وإذا كان هناك نقاش وبحث مسألة؛ فيكون بالتفاهم فيها، وبحثها بأدب واحترام، فإن وجد فكرةَ صاحبه جيدة، حبذها وقبلها وأيَّدها، وإن كانت خاطئة، أو فيها أخطاء، عدَّلهاَ تعديلاً بسياسة كلام، ولطف مدخل، لا يشعر فيه بالعيب والتخطئة. أما إذا كان المجلس عامًّا، وفيه الملَحُ والفكاهات، وأخطأ أحد في حكاية، أو سوق فكاهة، أو طرفة، فالأولى تركها؛ إذ لا يترتب عليها شيء. 3 - أما المزاح: فليكن مزاحًا خفيفًا لطيفًا بأدب واحترام، وأن لا يطول، ولا يثقل حتى يتعدى، ويسبب الغضب، والعداوة، والبغضاء. 4 - أما الوعد: فإنَّك لا تعِد أخاك عِدَةً تمنِّيه في قضائها، وترجيه في إنهائها، ثم لا تفي له بذلك؛ فإنَّ هذا يضره من ناحية، ويثير حقده عليك أيضًا، فإما أن لاتعِده، وإلاَّ فإذا وعدته فأوف بوعدك. 5 - تقدم الخلاف بين العلماء في حكم الوفاء بالوعد، وأنَّ أصح الأقوال وجوبه إذا أوقع الموعود في ورطة أو ضرر، فإما أن يفي له بالوعد، وإما أن يضمن له خسارته التي كانت بسبب وعده؛ وهذا ما قرَّره مجمع الفقه الإسلامي. ***

1308 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَصْلَتَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: البُخْلُ، وَسُوءُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن بغيره. قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: غريب، قلت: وفي الباب أحاديث يعضد بعضها بعضًا، منها: 1 - ما رواه البيهقي مرفوعًا بلفظ: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصبر والسماحة وحسن الخلق" قال العراقي: إسناده صحيح، وصححه السيوطي في الجامع الصغير. 2 - ما أخرجه الديلمي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله: فحسن الخلق والسخاء". * مفردات الحديث: - خصلتان: تثنية خصلة، والخصلة: خلق في الإنسان يكون فضيلة، أو رذيلة. - البخل: البخل في الشرع: منع الواجب. - سوء الخلق: الخلق بضمَّتين: عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأخلاق بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الأفعال الصادرة، سيئة قيل لصاحبها سيِّءُ الخلق. ¬

_ (¬1) الترمذي (1962).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث الشريف يدل على أنَّ المؤمن لا يجمع هاتين الخصلتين الذميمتين، وهما: البخل، وسوء الخلق، ومفهوم الحديث: أنَّهما قد يجتمعان فيمن حُرِمَ نعمة الإيمان، فإنَّه قد يكون فيه البخل وسوء الخلق معًا؛ لأنَّه فقد الإيمان الذي ينها صاحبه عن سيِّء الأخلاق، كما يأمره بالجود والكرم. 2 - البخل: أحسن ما يعرَّف به: بأنَّه التقصير بالنفقات الواجبات، والنفقات المستحبات، وعدم التوسعة على الأهل والأولاد، والتقصير في بر الجار، والقريب، والضعيف، ونحو ذلك. 3 - جاء ذم البخيل والبخل في كثير من نصوص الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] وقال تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} [الحاقة]، وقال تعالى عن أهل النار: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} [الليل]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر]، وقد جاء في صحيح مسلم (2578)، من حديث جابر؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقوا الشح، فإنَّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم". 4 - البخل مذموم شرعًا، وعقلاً، وعرفًا؛ فهو إمساك عن الواجبات، فيحصِّل صاحبه الإثم، والإمساك عن الفضائل والمرواءت، فيحصِّل صاحبه المذمة والعار، وضد ذلك: القيام بالنفقات الواجبة، والنفقات التي تجلب حمدًا وأجرًا. 5 - أما سوء الخلق فضله حسن الخلق؛ من حسن العشرة، ولين الجانب، والحلم، والعفو، والسماح، والصبر، والرحمة، والشفقة، والإحسان، والبر.

6 - والآيات والأحاديث في ذم سوء الخلق، ومدح حسن الخلق كثيرة جدًّا؛ ويكفي منها قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف]، وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]. وجاء في الترمذي (2002) عن أبي الدرداء؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله يبغض الفاحش البْذِيءَ" وجاء في أبي داود (4798) عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم". ***

1309 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعلَى البَادِىءِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - المُسْتبَّان: بتشديد الباء الموحدة، اسم فاعل، من باب الافتعال، يقال: سابَّه مسابَّةً وسبابًا: شتمه، والمراد: المتشاتمان اللذان تبادلا الشتائم بينهما. - فعلى الباديء: أي: فعلى الذي بدأ بالشتم الإثم، دون المجيب المنتصر. - ما لم يعتد: أي: يتجاوز حد ما شتمه الباديء. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - السباب: فسوق لما يصدر فيه من الكلام الفاحش، واللفظ البذيء، وقد يجر الفسوق إلى ما هو أعظم منه؛ من سفك الدماء، وإثارة الفتن، وأقل ما فيه إشعال العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ ولذا كان محرَّمًا؛ فإنَّ الله يكره الفاحش البذيء. 2 - ومن اعتدي عليه بالسباب، فله مجازاة الساب بمثل سبه من غير ذلك زيادة على ذلك؛ قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. ولكن أفضل من المجازاة: الحلم، والصبر، والعفو: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل]، وقال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر]، وقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، ¬

(¬1) مسلم (2587).

وقال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران]. 3 - دلَّ الحديث على أنَّ إثم السباب يقع على الذي بدأ بالسباب: إما مباشرة، أو تسبب له بأفعاله، أو أحواله. ولا يقع على المجازي إلاَّ إذا زاد على حقه، فيصير ظالمًا. 4 - السباب ليس من خلق ذوي الهيئات والمرواءات، وإنما هو خلق السفهاء، ومن ليس لديهم حياء يردهم عن هُجْرِ الكلام، وفاحشه، والبذاءة؛ لذا فإنه يُجمل بالمسلم أن يبتعد عن هذه الأخلاق، وأن ينأى عمن ليس عنده خلق حسن؛ فليتأدب معه بآداب القرآن من الإعراض عن الجاهلين، والصفح الجميل، والصبر، والعفو، والمغفرة؛ لينال درجة المتخلقين بالقرآن، والله الموفق. ***

1310 - وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد حسَّنه الترمذي. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: رمز لحسنه المؤلف، أي السيوطي. ورواه أبو داود، وسكت عنه هو والمنذري، وعزاه لابن ماجه والنسائي، فهو حديث مقبول، والله أعلم. وهناك شواهد كثيرة للحديث؛ منها ما في صحيح مسلم: "اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه" وغيره. * مفردات الحديث: - من ضارَّ مسلمًا: أي: من أدخل على مسلم مضرة في ماله، أو نفسه، أو عِرضه بغير حق، أدخل الله عليه المضرة؛ مجازاة له من جنس فعله. - من شاقَّ مسلمًا: يقال: شاقه مشاقة وشقاقًا: خالفه، وعاداه، وحقيقته: أن يأتي كل واحد منهما بما يشق على صاحبه، فيكون كل واحد منهم في شق صاحبه، والمعنى هنا: من نازع مسلمًا ظلمًا، أنزل الله عليه المشقة. ¬

_ (¬1) أبو داود (3635)، الترمذي (1940).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - أذية المسلم وغيره بغير حق حرام، سواء أكانت الأذية في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو ولده، أو أهله، أو أي شيء يلحقه الضرر به؛ فمن أدخل الضرر على مسلم، أو ذمي، أو معاهد، جازاه الله تعالى من جنس عمله، بأن يدخل عليه المضرة والمشقة. 2 - جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد (22272)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ضرر ولا ضرار"؛ وهذا الحديث جعله علماء الأصول قاعدة شرعية عامة كبرى، استقوا منها عددًا كبيرًا من المسائل الفرعية. ومعناه: نفي الضرر من الرجل لأخيه ابتداءً وجزاءً. فالحديث: "لا ضرر ولا ضرار" وأخوه "حديث الباب": نص في تحريم الضرر بأنواعه كلها؛ لأنَّ النفي بـ"لا" للاستغراق، فيفيد تحريم جميع أنول الضرر؛ لأنَّه الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على نفسه، وجعله بين عباده محرَّمًا. 3 - الضرر قد يكون بحق؛ كإقامة الحدود، والعقوبات، والإكراه على استخلاص الحقوق المستحقة الواجبة. 4 - المضارة المحرَّمة هي المضارة المقصودة، أما غير المقصودة فلا تحرم، قالط شيخ الإسلام: المضارة معناها القصد والإرادة، أو على فعل فيه ضرر، فمتى قصد الإضرار، أو الفعل بالإضرار من غير حاجة، فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة لا لقصد الضرر، فليس بمضار؛ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لصاحب النخلة التي تضر صاحب الحديقة لما طلب صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل، قال: "إنما أنت مضار" [أبو داود: 3636]، ثم أمر بقلعها؛ فدل على أنَّ الضرر محرَّم لا يجوز تمكين صاحبه منه.

1311 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَبْغَضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ" أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وصَحَّحَهُ (¬1). وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَةَ: "لَيْسَ المُؤْمنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الفَاحِش، وَلاَ البَذِيءِ" وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. لكن اختلف في رفعه ووقفه، ورُجِّح وقفه. قال المؤلف: أخرجه الترمذي وصحَّحه، وله شاهد من حديث ابن مسعود يرفعه: "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ولكن رجح الدارقطني وقفه. قال الشيخ شعيب الأرناؤط في تعليقه على رياض الصالحين: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده صحيح، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي. وقال العراقي: أخرجه الترمذي بإسناد صحيح، من حديث ابن مسعود، وروي موقوفًا، قال الدارقطني: والموقوف أصح. وهو -وإن كان موقوفًا- لكن له حكم الرفع، حيث هو إخبار عن الله تعالى، وهذا لا مدخل للرأي فيه. ¬

_ (¬1) الترمذي (2002). (¬2) الترمذي (1977)، الحاكم (1/ 12).

* مفردات الحديث: - الفاحش: الفحش: هو القبح الشنيع من قول أو فعل؛ فالفاحش هو الذي يأتي الفاحشة، من قول، أو فعل. البذيء: البذيء على وزن فعيل، قال: بذأ الرجل يبذأ بذاء وبذاءة: فحش، فهو بذيء وهي بذيئة، والبذاء هو الكلام القبيح. - الطعَّان: يقال: طعن فيه طعنًا: قدحه وعابه؛ فالطعن هو السب، والطعَّان صيغة مبالغة معناه: كثير السب للناس. - اللعان: يقال: لعنه يلعنه لعنًا: طرده وأبعده من الخير؛ فهو لعَّان، صيغة مبالغة من اللعن، معناه؛ كثير اللعن للناس، قال في التعريفات: اللعن من الله هو إبعاد العبد بسُخطه، ومن الإنسان الدعاء بسُخطه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه النهي الأكيد عن هذه الخصال القبيحة، وأنَّها ليست من صفات المؤمن الكامل الذي يمنعه إيمانه من المنكرات، وفاحش القول، وبذيء الكلام، وإنما هذه صفات وأخلاق ضعفاء الإيمان وسَيِّيء الأخلاق، ممن لم يذوقوا حلاوة الإيمان، ولم تخالط بشاشته قلوبهم. 2 - أنَّ الله يبغض الفاحش في قوله، ممن فاه بفاحش القول: من السب، والشتم، واللعن، والقذف، والكذب، وجميع الألفاظ النابية المحرَّمة. 3 - البذيء: صاحب منطق السوء، وقبيح اللفظ ممن يؤذي بهجره، وسفاهة منطقه، فلا يخاطب الناس إلاَّ باللفظ المستكره، ولا يناديهم إلاَّ بالألقاب المستقبحة، ولا يشافههم إلا بخشن الكلام؛ فهذا مكروه يبغضه الله تعالى؛ كما يبغضه خلقه في السموات والأرض. 4 - أما الطَّعَّان: فهو الذي يطعن الناس في أعراضهم، وأنسابهم، ويعيبهم في أقوالهم، وأفعالهم، ويوجِّه إليهم انتقاده المُرَّ الذي لم يقصد به التوجيه،

وإنما يقصد به إظهار العيب والفضيحة. 5 - وأما اللَّعَّان: فهو كثير اللعن والشتم، بسبب، وبدون سبب، وإنما اللعن والشتم سجية قبيحة، طُبعَ على أصلها، ونمت عنده، وزادت من إهماله تهذيبَ نفسه وتزكيتَهَا. 6 - وبالجملة: فليست هذه الأخلاق من أخلاق من نوَّر الإيمانُ بالله تعالى قلوبهم، وزيَّنت التقوى سمتهم، وعدلت العبادة سلوكهم، وهذَّب الذكر ألسنتهم، وإنما هي أخلاق السفلة من الفسقة والمنافقين. نسأل الله العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة. ***

1312 - وَعَنَ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أَفْضَوْا إلى ما قدموا: يقال: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، وأفضى به إلى كذا، أي: بلغ وانتهى به إليه، ومعناه: أنَّهم صاروا إلى ما قدموا من أعمالهم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على تحريم سب الأموات، وعمومه: يفيد أنَّه سواء أكانوا مسلمين أو كفارًا. وحكمة النَّهي جاءت من قوله -صلى الله عليه وسلم- في بقية الحديث: "قد أفضوا إلى ما قدَّموا" يعني: أنَّهم وصلوا إلى ما قدموه من الأعمال، سواء أكانت صالحة، أو طالحة. 2 - الأموات لا فائدة في سبهم، والتفكه في أعراضهم، وتعداد مساويهم وأعمالهم؛ فإنَّ ذلك قد يؤذي الحي من أقاربهم. قال ابن الأثير في أسد الغابة: لما أسلم عكرمة بن أبي جهل، صار الناس يقولون: هذا ابن عدو الله أبي جهل، فساءه ذلك، فشكى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا أباه؛ فإنَّ سبَّ الميت يؤذي الحي". 3 - يستثنى من النَّهي عن سب الأموات إذا كان في ذكر معايبهم فائدة، ولم يقصد به التنقيص منهم، واغتيابهم، وإنما يقصد من ذلك بيان الحقيقة، ¬

_ (¬1) البخاري (1393).

وتحذير الناس؛ وذلك مثل جرح رواة الحديث. 4 - قال النووي: اعلم أنَّ الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلاَّ بها، ثم ذكر منها: تحذير المسلمين من الشر ونصحهم؛ وذلك من وجوه: منها: جرح المجرحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب، ومنها: التعريف إذا كان الإنسان معروفًا بلقب؛ كالأعمش، والأعرج، والأصم، ونحوهم، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك، كان أولى. 5 - مذهب أهل السنة والجماعة في أموات المسلمين: أننا نرجو للمحسن أن يوفيه الله أجره، ويرحمه، ولا يعذبه، ونخاف على المسيء بأن يؤخذ بذنوبه وإساءته، ولا نشهد لأحد بجنة ولا نار، إلاَّ لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة، بخلاف من ظاهره الفسق؛ فلا حرج بسوء الظن به. ***

1313 - وعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - قتَّات: يقال: قَتَّ الأحاديثَ يقتها قتًّا: نَمَّها وبثها، فهو قتات، بالفتح والتشديد، وهو النمام الذي ينقل حديث رجل أو قوم، إلى رجل أو قوم، على طريق الوشاية؛ لإفساد ما بينهما. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - القتات: هو النمام الذي ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض؛ لغرض الإفساد بينهم، وإثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم، وكلما عظم أمرها، واشتد خطرها، كانت أكبر إثمًا، وأعظم جرمًا؛ فهي بين الأقارب وذوي الرحم والأصحاب والجيران أشد منها بين الناس البعيدين. 2 - النميمة من كبائر الذنوب؛ لما يحصل فيها من الأثر السَّيِّء، والعاقبة الوخيمة. قال المنذري: أجمعت الأمة على أنَّ النميمة محرَّمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله. 3 - جاء في النميمة نصوص مخيفة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب]. وجاء في البخاري (218)، ومسلم (292)، من حديث ابن عباس قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما: ¬

_ (¬1) البخاري (6056)، مسلم (105).

فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة بين الناس". وأخرج الإمام أحمد (17637)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "شر عباد الله المشاؤون بالنميمة". ***

1314 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ" أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (¬1)، وَلَهُ شَاهدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده ضعيف. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وفيه الربيع بن سليمان الأزدي، وهو ضعيف. وقال ابن كثير في التفسير (1/ 406): هذا حديث غريب، وفي إسناده نظر. * مفردات الحديث: - كفَّ: يقال: كفَّ يكف كفًّا، أي: منع؛ فالكفّ المنع، والمراد منع نفسه حين الغضب. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغضب: هو غليان القلب، وثورة النفس لأجل الانتقام، وإذا جاءت الأسباب المهيجة للغضب، شق على الإنسان منع نفسه، وقهرها، وكفها. 2 - من هذا صار للذي يجاهد نفسه ويكفها أجر عظيم من جنس عمله، وهو أن يكف الله عنه عذابه يوم القيامة، ولا شكَّ أنَّ هذا جزاءٌ كبيرٌ؛ فإنَّ من زُحْزِح عن النَّار وأُدخل الجنَّة، فقد فاز. ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط (6/ 140)، أبو يعلى (7/ 302). (¬2) الطبراني في الكبير (13646).

3 - تقدمت وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال له: علِّمني، ولا تكثر عليَّ؛ لعلي أعيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تغضب"، ومعنا كما تقدم أحد أمرين: - إمَّا لا تنفذ غضبك إذا غضبت، بل حاول إطفاء الغضب. - أو اجتنب الأسباب الذي تجلب لك الغضب. ***

1315 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ خَبٌّ، وَلاَ بَخِيلٌ، وَلاَ سَيِّءُ المَلَكَةِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب، ولكن في إسناده ضعف؛ لأنَّ فيه صدقة بن موسى، قال عنه الذَّهبي: إنَّه ضعيف، لكن شواهده كثيرة؛ فقد رواه أحمد، وأبو يعلى، وغيرهما، قال الحافظ المنذري، والعراقي، والذَّهبي: وهو ضعيف. * مفردات الحديث: - خَبَّ: يقال خب الرجل يخب خبًّا: كان خدَّاعًا خبيثًا غشَّاشًا، فالخَبّ -بفتح الخاء، وتشديد الباء الموحدة-: هو الخدَّاع. - الملكة: بفتح الميم واللام، يقال: ملكه يملكه ملكًا وملكةً: احتواه قادرًا على الاستبداد به، يقال: فلان حسن الملكة، أو سَىِّءُ الملكة. قال في المحيط: الملكة عند العلماء: هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه: إن كانت هذه الصفة سريعة الزوال فهي حالة، فإذا تكررت رسخت تلك الكيفية، فصارت ملكة وخُلُقًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يشتمل على ثلاث خصال قبيحة حُرِم صاحبها والمتخلِّق بها من ¬

_ (¬1) الترمذي (1947، 1964).

دخول الجنة، مما يقتضي أنَّها من كبائر الذنوب؛ فإنَّ من نُفِيَ عنه دخوله الجنة، فقد أتى كبيرة، كما تقدم تعريفها. الأولى: الخبّ مخادع المحتال على الناس، فلا يعيش إلاَّ بالخديعة، والحيلة الذميمة، فيسلب أموال الناس بطرق الخداع؛ من الكذب في المعاملة، والتغرير فيها، والتدليس، والاحتيال، أو يخادع الناس بالمصاهرة منهم؛ بإظهار الدين، والغنى، والخصال المرغبة في إجابة خطبته، أو تظهر المرأة صفات بها ترغب مكرًا منها، وخداعًا، أو غير ذلك. فالخداع لا تعد أساليبه وطرقه، وإنما يشمله: أنَّ كل من خادع الناس لأي غرض من الأغراض، فخداعه محرَّم مسبب للحرمان من الجنة. الثانية: البخل: تقدمت النصوص من الكتاب والسنة، وكلام العلماء، وإجماع الناس على ذمه وقبحه، وإجماع العلماء على تحريمه إذا وصل إلى منع الزكاة، والنفقات الواجبة، والتقصير في حق من يمونه، فكفى بالمرء إثمًا يمنع عمن يمونه قوته. الثالثة: سيِّء الملكة: هو الذي فقد الشفقة والرحمة، فصار يسيء إلى مماليكه، فيكلفهم من العمل ما يشق عليهم، ولا يطيقونه، ويترك ما وجب عليه من الإنفاق عليهم، والقيام بحقوقهم. ثم مع هذا يتجاوز الحد في تأديبهم، فيعاقبهم على أتفه الأشياء عقاب المجرمين، بلا رحمة، ولا شفقة، ولا هوادة، ومثل المماليك: البهائم التي تحت يده، يقصر عليها بالنفقة، ويكلفها من العمل والحمل ما يشق عليها. 2 - فهؤلاء الثلاثة الموصوفون بهذه الصفات حرَّمت عليهم الجنة؛ لأنَّ الجنَّة لا تكون للمخادع، ولا للكذاب، ولا للبخيل الشحيح، ولا للقاسي الذي خلا قلبه من الرحمة. ***

1316 - وعَنِ ابْنِ عَبَاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ، وَهُمْ لهُ كَارِهُونَ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: الرَّصَاصَ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - من تسمَّع: فعل ماض من التفعُّل، وهو يقتضي التكلُّف، والمعنى: من اجتهد في سماع حديث قوم. - صُبَّ: مبني للمجهول، من باب نصر، بمعنى: انسكب. - الآنك: يقال: أنك الشيء يأنك أنكًا: عظم وغلظ، والآنك بمد الهمزة، وضم النون، آخره كاف: هو الرصاص الخالص. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث دليل على تحريم الاستماع إلى حديث من يكره سماع حديثه، ويعرف هذا بالتصريح من المتكلم، أو بقرائن الأحوال. قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على اثنين في حال تناجيهما. 2 - الوعيد الذي في الحديث يدل على أنَّ استماع حديث من لا يرغب في سماع حديثه: أنَّه من كبائر الذنوب؛ ذلك أنَّ فيه وعيدًا شديدًا في الآخرة، وهو لا يكون إلاَّ على كبيرة. 3 - من أدب المجالسة أن لا يدخل الإنسان في حديث اثنين لم يدخلاه فيه، ما لم يكن الحديث من المجالس العامة، أو يكون من مسائل العلم. 4 - وكما يحرم استماع كلام الاثنين المتناجِيَيْن، فأشد منه حرمة: أن يطلع من ¬

_ (¬1) البخاري (7042).

الأماكن المرتفعة، أو من خلال الأبواب والجدران على عورات الناس في منازلهم. 5 - ولو أنَّ صاحب المنزل أصابه في عينه، أو في أذنه، أو في غيرهما لمعاقبته على نظره وسمعه، لم يكن ضامنًا ما تلف بذلك من أعضائه؛ فقد تقدم حديث أبي هريرة في البخاري (6902) ومسلم (2158)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لَو أنَّ امرأَ اطَّلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينيه، لم يكن عليك جناح" زاد أحمد (8771) والنسائي (8460): "فلا فدية له، ولا قصاص". ***

1317 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ" أَخْرَجَهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حسَّنه الحافظ ابن حجر. قال المناوي: رواه العسكري عن أنس، ورواه أبو نعيم من حديث الحسين بن علي، والبزار من حديث أنس، قال العراقي: وكلها ضعيفة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/ 229)، فيه النضر بن محرز وغيره من الضعفاء. وحسَّن إسناده المصنف، وذلك بمجموع طرقه، والله أعلم. * مفردات الحديث: - طُوبَى: بضم الطاء، آخره ألف التأنيث المقصورة، اسم شجرة في الجنة، وقيل: عيش طيب له في الآخرة، وحياة طيبة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث الشريف فيه توجيه رشيد لمن يريد السير إلى الله تعالى، فيقطع المفاوز المعوِّقة حتى يجد طعم الوصول، وذلك باتباع الآثار المحمَّدية، والتعاليم الإسلامية فمِن ذلك: أولًا: من شغله عيبه، فصار جادًّا في التخلص من رذائل الذنوب، ومعوِّقات المعاصي، والآثام، فمثل هذا يرجى أن يتخلى منها، فيصبح ¬

_ (¬1) أبو نعيم في الحلية (3/ 202).

بهذه المجاهدة نقيًّا صافيًا من أدران الذنوب. ثانيًا: من تخلى من وضر الذنوب، فإنَّه سيتحلى بفضائل الأخلاق، التي أولها طاعة الله تعالى، وفعل ما يجمِّله، ويهذبه، ويقربه. ثالثًا: هو بجهاد نفسه وعسفها للتخلِّي من الرذائل، والتحلي بالفضائل، قد شغل وقته بإصلاح نفسه، فَسَلِمَ من تبعة تتبع الناس. 2 - بهذا السلوك المستقيم، والسير إلى الله تعالى بهذا الاتجاه الحميد، استحق جائزة "طوبى" التي هي: إما شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. وإما درجة عالية في الجنة، والله الموفق. ***

1318 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيِتَهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانٌ" أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال العراقي: أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم وصحَّحه، وأخرجه الحاكم في شعب الإيمان من حديث ابن عمر. قال المؤلف: رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - من: بفتح الميم، وسكون النون، اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ. - تعاظم: عظُم الشيء يعظُم -من باب كرم- عِظَمًا، فهو عظيم، وتعاظم: بمعنى تصنَّع العظمة، وتكبر، وأرى نفسه الكبر؛ فالعظمة: الكبرياء. - اختال: تخايل الرجل تخايلاً، واختال في مشيته اختيالاً: تكبر وأعجب بنفسه؛ فالخائل: المتكبر، جمعه خالة. - مشيته: مشي يمشي مشيًا: إذا كان على رجليه، فهو ماشٍ، والجمع مشاة. والمِشية بكسر الميم، وسكون الشين: مصدر نوعي، جاء لبيان نوع الفعل وصفته. ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 60).

- غضبان: غضب يغضب -من باب علم- غضبًا، فهو غضبان، جمعه غضاب، سخط عليه وأراد الانتقام منه. هذا من حيث التصريفُ اللغويُّ، أما غَضَبُ الله تعالى: فهو صفة، نثبت حقيقتها على المعنى اللائق بجلاله، ونفوِّض كيفية الصفة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على ذم الكبر والتعاظم، ويظهر هذا التعاظم وهذا التكبر في مِشيته،؛ فيختال فيها، وفي لباسه فَيُسبِله، وفي كلامه؛ فيتشدق فيه ويتقعر، وفي نظره؛ فلا ينظر إلى الناس إلاَّ ببعض عينيه، ويصعَّر خده للناس، فيميله كبرًا؛ فمن اتَّصف بهذه الصفات الذميمة الكريهة، فهو ممقوت عند الناس، وثقيل لديهم، ومحل سخريتهم، واستهزائهم به. 2 - أما عند الله تعالى: فإنَّه يلقى ربه يوم القيامة، وهو عليه غضبان، وغضبه مستوجب لعقابه؛ فالكِبر والتعاظم من كبائر الذنوب. 3 - جاءت نصوص كثيرة في ذم الكبر وأهله، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} [النحل]، وقال تعالى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} [غافر]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان]. وجاء في مسَلم (91) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر". وروى مسلم (4095) أنَّ النَّبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما، عذبته". 4 - قال في مختصر الإحياء: الكبر والعجب داءان مهلكان، والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان، وهما عند الله ممقوتان بغيضان، وقد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه؛ فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ

الْحَقِّ} [الأعراف: 146]. وحقيقة الكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن: فالباطن: خلق في النفس، والظاهر: هو أعمال تصدر من الجوارح، والأعمال ثمرات لذلك الخلق، وخلق الكبرياء موجب للأعمال، فالأصل هو الخلق الذي في نفسه فوق غيره من صفات الكمال؛ فعند ذلك يكون متكبرًا. ***

1319 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وحسَّنه، وقد ذكر له السخاوي في المقاصد الحسنة طرقًا كثيرة تقوِّي حسنه، والله أعلم. وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - العَجَلَة: بفتحتين: السرعة في المشي، وفي المثل: "رُبَّ عجلة تهب ريثًا" مدحًا في التأني. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الأناة والرفق أصل كبير في سياسة الأمور وعلاجها؛ ولذا جاء في صحيح مسلم (2594)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما كان الرفق في شيء إلاَّ زانه". 2 - الأمور التي تحتاج إلى تبصر وتفكير وتروٍّ، لا ينبغي السرعة والعجلة فيها؛ بل لابد فيها من التروي والتأني، وبحث الأمور من جميع طرقها ووجوهها، حتى تظهر أمارات العاقبة، وعلامات المستقبل في الرغبة في الأمور والإقبال، أو بضد ذلك. 3 - سلوك الحكمة في الأمور سببٌ لنجاحها، وسبب لتوقِّي مخاطرها؛ ولهذا ¬

_ (¬1) الترمذي (2012).

فإن الشارع الحكيم حث على الشورى؛ فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] , وشرع الله تعالى صلاة الاستخارة ودعاءها؛ ليجمع المسلم بين استخارة الله تعالى في الأمور، وبين مشاورة الخلق، وأخذ ما لديهم من الشورى والنصيحة في ذلك. 4 - هناك أمور واضحة المعالم بينة السبل، فلا ينبغي التأني فيها؛ لئلا يضيع الوقت عنها والمبادرة إليها فتفوت الفرصة. ومن أهمها: طاعة الله تعالى، والمسارعة في الخير والعبادات؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 33]، وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وقال تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]، وجاء في البخاري (1419) ومسلم (1032) من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أي الصدقات أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان"، والنصوص في هذا كثيرة. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالاستعداد. ***

1320 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الشُّؤْمُ سُوءُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده ضعيف. قال العراقي: حديث: "الشؤم سوء الخلق" أخرجه أحمد من حديث عائشة، ولأبي داود (5162)، من حديث رافع بن مَكِيث: "سوء الخلق شؤم"، وكلاهما لا يصح، أما المؤلف فقال: في إسناده ضعف. ورافع بن مكيث: صحابي شهد الحديبية، والفتح، ومعه لواء. * مفردات الحديث: - الشُّؤْم: بضم الشين، وسكون الهمزة، وقد تسهَّل، هو ضد اليمن والبركة. - سوء الخلق: الخلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأخلاق بسهولة ويُسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الأفعال الصادرة سيئة، قيل لصاحبها: سَيِّىء الخلق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الخلق الحسن هو خلق المصطفين من عباد الله تعالى، الذين قال الله عنهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]؛ فهو رأس الأخلاق الفاضلة، ودليل السعادة الأبدية. فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "البر حسن الخلق" [رواه مسلم 2553]. ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 85).

وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ خياركم أحسنكم خلقًا" [البخاري (6035) ومسلم (2321)]. وقال: "إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" [رواه أبو داود (4798)]. فهو سعادة، وفلاح، ونجاح في أمور الدنيا والآخرة. 2 - أما سوء الخلق فهو عذاب على صاحبه، وعلى من حوله من أهلٍ، وأصحابٍ، وعملاء، وزملاء، فسوء خلقه شؤم عليه؛ لأنَّه ممقوت، مكروه، مستثقل، بغيض إلى كل أحد، منبوذ من مجتمعه، فمضارُّ سوء خلقه وبالٌ عليه في دنياه وأخراه. ***

1321 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ شُفَعَاءَ، وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على تحريم اللعن، وأنَّه لا يجوز للمسلم أن يتفوَّه به؛ لأنَّه من السباب المحرم، ومن اللفظ القبيح. 2 - نفى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مكثر اللعن قبول شهادته؛ لأنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ من عدل؛ كما قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فمن لم نرضَهُمْ لا يكونون شهداء، ولا شفعاء، وكثيرو اللعن ليسوا بمرضيِّين عند الله، ولا عند خلقه. 3 - الظاهر أنَّ نفي قبول شهادة كثيري اللعن عامَّة في الحياة الدنيا وفي الآخرة: ففي الدنيا: هم ساقطو العدالة؛ فلا يصلحون شهودًا في الخصومات لإثبات الحقوق. ولا في الآخرة أيضًا حينما تشهد الأمم أنَّ رسلهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة؛ فهؤلاء اللَّعانون ليسوا من هؤلاء الشرفاء، الذين قاموا بأداء الشهادة، والتزكية لأنبيائهم. ***

1322 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَى يَعْمَلَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وحسَّنه، وسنده منقطع. قال الصنعاني: إنَّما حسَّنه الترمذي لشواهده؛ فلا يضره انقطاعه. وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير، وذكر المناوي بعض الشواهد مع بيان انقطاع سند الترمذي، وفيه محمَّد بن الحسن بن أبي زيد، قال أبو داود وغيره: كذاب. * مفردات الحديث: - عيَّر أخاه: بفتح العين، وتشديد الياء، بمعنى: عابه لمجرد التعيير؛ فإنَّه الذي يسبب العقوبة في الآخرة، وحرمان الحياة الطيبة في الدنيا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه التحذير من عيب الإنسان أخاه المبتلى بذنب من الذنوب، أو عيب من العيوب؛ فإنَّه لم يعب أحدًا بعينه إلاَّ لِما يجد في نفسه من العجب بسلامته من ذلك العيب, والعُجب ناشيء من نفسه؛ لأنَّه يرى أنَّ عصمته من العيب جاءته من قوته وإرادته، لا من الله تعالى الذي صرف عنه السوء. 2 - من عاب أخاه بعيب مثاره الإعجاب بنفسه، والشماتة بأخيه، لن يموت حتى يصاب به ويعمله؛ ذلك أنَّه لم يتكل على الله تعالى بالتوقي من الشر، وإنما ¬

_ (¬1) الترمذي (2505).

اعتمد على نفسه، فخذله الله تعالى، وخانته نفسه، فعمل ما عيَّر به أخاه. 3 - فهذا دليل على تحريم الشماتة بالناس، ووجوب الغفلة عن عيوبهم اشتغالاً بعيب نفسه؛ فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. 4 - وقد جاءت النصوص التي تنهى عن هذا الخلق الرذيل؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] , وقد جاء في سنن الترمذي (2506) من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك"؛ فإنَّ إظهار الشماتة ليس من خلق المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فإنَّ خلق المسلمين أن يتألم بعضهم لبعض، ويفرح بعضهم لفرح بعضهم الآخر. والله المستعان. ***

1323 - وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ، فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ! " أَخْرَجَهُ الثَّلاَثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المناوي: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، من حديث معاوية بن حيدة، وقد حسَّنه الترمذي، وقواه المنذري. وقال المؤلف: رواه الثلاثة، وإسناده قوي. * مفردات الحديث: - ويل: الويل الهلاك، وقيل: واد في جهنم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه الوعيد بالهلاك لمن يحدث الناس فيكذب عليهم؛ وذلك ليضحكهم ويفكِّههم، بأكاذيبه، وأقواله الباطلة. 2 - جاء تحريم الكذب في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة: من الكتاب: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]. ¬

_ (¬1) أبو داود (4990)، الترمذي (2315)، النسائي في التفسير (146).

ومن السنة: جاء في البخاري (234) ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا"، وذكر منها: "وإذا حدَّث كذَّب". وجاء في البخاري (6094) ومسلم (2607)، من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". 3 - قال النووي: اعلم أنَّ الكذب، وإن كان أصله محرَّمًا، فيجوز في بعض الأحوال: كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه. - وإن لم يمكن تحصيله إلاَّ بالكذب، جاز الكذب. - ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، كان الكذب مباحًا. - وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله، وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، ومثله الوديعة المخفاة عن ظالم، والأحوط التورية، ومعناها: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب. والدليل على ذلك: ما جاء في البخاري (2692) ومسلم (2605) عن أم كلثوم؛ أنَّها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا" ورواية مسلم عنها قالت: لم أسمعه يرخِّص في الكذب إلاَّ في ثلاث: "في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها". قال عياض: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الأمور الثلاثة.

1324 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "كفَّارَهُّ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ" رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ بِإسنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث ضعيف. قال في فيض القدير: أخرجه ابن أبي الدنيا عن أنس، ورمز له السيوطي بالصحة، وحكم ابن الجوزي بوضعه، وتعقبه السيوطي بأنَّ البيهقي قال: إسناده ضعيف، وبأنَّ العراقي في تخريج الإحياء اقتصر على تضعيفه. قال السخاوي في المقاصد الحسنة: ضعيف، لكن له شواهد. * مفردات الحديث: - الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، وإن كان ما اغتبته فيه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الغيبة من المحرَّمات، ومن كبائر الذنوب، ومعناها: ذكرك أخاك بما يكره، وإن كان ما قلته موجودًا فيه؛ فهو هتك لعرضه, ولا يمكن التوبة منه، ولا من أي حق من حقوق العباد إلاَّ باستحلاله منه. وطلب الحِلِّ ممن اغتيب قد يزيد الأمر شرًّا، وقد يثير فتنًا وعدوانًا؛ فصار الواجب بحق المغتاب أن يستغفر لمن اغتابه، ويدعو له ويذكر محاسنه في المجالس التي اغتابه فيها، وعند الأشخاص الذين عابه عندهم؛ فهذا العمل مع الندم والعزم على عدم العودة يكون سببًا للتوبة النصوح، ¬

_ (¬1) الحارث بن أبي أسامة في مسنده (2/ 974).

وبراءة الذمة من عِرض المسلم، والله أعلم. 2 - قال الغزالي في الإحياء: اعلم أنَّ الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب، ويتأسف على ما فعله؛ ليخرج من حق الله تعالى، ثم يستحل المغتاب؛ ليحلله فيخرج من مظلمته. قال الحسن البصري: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. قال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تُثني عليه، وتدعو له بخير. ***

1325 - وَعَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الألد: اللدود: هو من اشتدت خصومته، وألده: غلبه في الخصومة، وهي لداء، جمعه لُدٌّ؛ قال تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم] أي: مجادلين بالباطل. - الخَصِم: بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة، ومعناه: الذي يحج من يخاصمه، وذلك يكون محرمًا إذا كان في باطل. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الألد: هو الخصم الشديد الخصومة، وشديد التأبي، قال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة]، وقال: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم]. فاللدود: الشديد الخصومة، يبغضه الله تعالى؛ لأنَّ مثل هذا لا يريد بلجاجه طلب الحق، والوصول إلى الصواب، وإنما يريد أن يظهر على مجادله ومخاصمه، ولو بالباطل، وقد أخرج الترمذي (1994)، من حديث ابن عباس أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا". 2 - قال الغزالي: إنَّ الذم إنما هو لمن خاصم بباطل وبغير علم، كالذي يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب؛ وكالذي لا يقتصر على قدر الحاجة؛ بل يظهر الكذب لإيذاء خصمه. 3 - أما الذي يحاجُّ عن حق له هو مظلوم فيه بطرق الحجاج الشرعي، وأصولِ ¬

_ (¬1) مسلم (2668).

المرافعات المشروعة، فلا بأس بها، ولا تدخل في باب الخصومة المذمومة. 4 - ومثل ذلك الذي يجادل لإظهار دين الله تعالى، وإعلاء كلمته، والظهور على أعداء الإسلام بدحض حججهم، ورد شبههم، وإبطال ضلالهم؛ فهذا محمود مثاب صاحبه، وهو ممن جاهد بلسانه، ودافع ببيانه؛ وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. والآيات والأحاديث في الباب كثيرة، والله الموفق. ***

باب الترغيب في مكارم الأخلاق

باب الترغيب في مكارم الأخلاق مقدمة الترغيب: قال في الوسيط: رغب رغبًا ورغبةً: حرص على الشيء، وطمع فيه. قال في المصباح: رغبت في الشيء: إذا أردته، ورغبتُ عنه: إذا لم ترده. والمؤلف -رحمه الله تعالى- أورد كثيرًا من الأحاديث الشريفة المرغِّبة والحاثَّة على المُثُل الكريمة، والأخلاق الفاضلة، والآداب النبوية الرفيعة، وهو بهذا الترتيب اللطيف أحسن صنعًا، وأجاد ترتيبًا وتبويبًا؛ لك أنَّ هناك مبدأ عند أهل السَّير والسلوك إلى الله تعالى، هذا المبدأ يسمى: "التخلي والتحلي" ومعناه: أنَّ مريد السير إلى الله يتخلى عن مساويء الأخلاق وقبائحها، ثم يتحلى بمحامدها ومكارمها؛ فإنَّه قدم الباب الذي فيه: "الترهيب عن مساويء الأخلاق"، ثم أتبعه بهذا الباب الذي فيه: "الترغيب في مكارم الأخلاق"؛ لملاحظة التخلي ثم التحلي. وستأتي هذه الآداب النبوية، والأخلاق الإسلامية، والكلام عليها إن شاء الله تعالى. ***

1326 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - عليكم بالصدق: أي: الزموا الصدق، وهو الإخبار على وفق ما في الواقع. - البر: اسم جامع للعقيدة الصحيحة، والإيمان المثمر، ولكل ما هو طيب من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح؛ فيشمل فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات. - صِدِّيقًا: من أبنية المبالغة، والمعنى: البالغ في الصدق غايته، والتنكير فيه جاء للتعظيم والتفخيم. - الفُجُور: بالضم، فجر فجرًا فجُورًا: انبعث في المعاصي غير مكترث بممارسة الفسق والفساد، والانبعاث في الآثام. قال في المصباح: فجر العبد فجورًا: فسق وزنى، وفجر الحالف فجورًا: كذب. - يكتب عند الله: هو في الموضعين بمعنى: يحكم له. ¬

_ (¬1) البخاري (6094)، مسلم (2607).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - الصدق: هو مطابقة الخبر للواقع، والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع؛ هذه حقيقتهما عند جمهور العلماء. 2 - الحديث فيه الأمر بالصدق؛ لأنَّه يدل ويوصل إلى البر الذي هو جمَاع الخير، والبر هو الطريق المستقيم إلى الجنة؛ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار]. 3 - إنَّ الصدق خلق كريم يحصُلُ بالاكتساب والتحصيل والمجاهدة؛ فإنَّ الرجل ما يزال يصدق في أقواله وأفعاله ويتحرى الصدق فيهما حتى يكون الصدق خلقًا له متأصلاً في نفسه، وسجية من طبعه؛ فيكون عند الله تعالى من الصِّدِّيقين والأبرار. 4 - قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]؛ فالصدق خلق كريم يتضمن الصدق في القول، والنية، والإرادة، فمن اتَّصف الصدق في جميع ذلك فهو صِدِّيق؛ لأنَّه صيغة مبالغة من الصدق، وبقدر ما يتمكن من هذه المقامات، فهو صادق بالنسبة إليه، والله أعلم. 5 - أما الكذب: فهو خلق ذميم يكتسبه صاحبه من طول ممارسته، وتخلقه به، وتحريه قولًا وفعلاً، حتى يصبح خلقًا وسجيَّة قبيحةً فيه، ثم يُكتب عند الله كثير الكذب، عديم الصدق. 6 - ويدل الحديث على التحذير من الكذب؛ لأنَّ الكذب يوصل إلى الفسق والفجور، فتصير أعماله وأقواله كلها على خلاف الحقيقة، خارجة عن طاعة الله تعالى، والخروج عن طاعته هو الهاوية التي تقود صاحبها، وَتَزُجُّ به في نار جهنم. ***

1327 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إيَّاكم والظن: "إيَّاكم": في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: احذروا. - الظن: معطوف على "إيَّاكم"، أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: احذروا. * ما يؤخذ من الحديث: الحديث فيه التحذير من الظن، والمحذَّر منه: هو ما كان بالمسلم الذي ظاهره العدالة؛ فإنَّ هذا لا يجوز فيه ظن السوء، وإنما يحمل على ظاهره؛ فالظن فيه كذب مخالف للواقع. أما الظن بأصحاب الرِّيَب والفِسق: فليس فيه هذا التحذير؛ فأعمالهم شهدت عليهم بسوء السلوك، وعدم الاستقامة، والحديث تقدم معناه. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5143)، مسلم (2563).

1328 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ والجُلُوسَ عَلى الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - إيَّاكم: محله النصب على التحذير، فهو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: احذروا. - الجلوس: "الجلوس": معطوف على"إياكم"، أو مفعول لفعل محذوف، تقديره: احذروا، فهو منصوب على التحذير. - الطرقات: بضم الطاء، والراء: جمع طريق. - ما لنا بُدٌّ: بضم الباء الموحدة، وتشديد الدال، أي: لا محيد لنا عن ذلك، ولا يعرف استعماله إلاَّ مقرونًا بالنَّفي، أي: ما لنا غِنًى عنه. - أبَيْتُمْ: الإباء بمعنى شدة الامتناع، قال الراغب: كل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء. - غض البصر: غض البصر يغضه غضًّا، وأغضَّهُ: خفضه، ولم يذكر ما يُغَضُّ البصر عنه؛ لأنَّه معلوم بالعادة. ¬

_ (¬1) البخاري (6229)، مسلم (2121).

- ورد السلام: يعني على الذي يسلِّم عليه من المارِّين. - والأمر بالمعروف: المعروف: كل أمر جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على النَّهي عن الجلوس في الطرقات، وممرات الناس؛ لما في ذلك من تتبع أحوال المارين، وإلى النظر إلى النساء المارات أمام الرجال، فينبغي أن يكون في البيوت، أو في المقاهي، أو الحدائق العامة الخالية من اختلاط الرجال والنساء. 2 - إذا لم يكن بدٌّ من الجلوس في الطرقات والشوارع، فعلى الجالسين أن يعطوا الطريق حقه من الأمر بالمعروف، وإذا رأوا منكرًا أمامهم فعليهم إنكاره، وغض البصر عن النساء اللاتي يمررن أمامهم، وأن يغفلوا عن الذين يمرون أمامهم من الرجال الذاهبين الآيبين في أغراضهم وحاجاتهم، التي ربما كرهوا أحدًا أن يراهم عليها. 3 - كما يجب عليهم رد السلام وإجابته على من ألقاه عليهم من المارين؛ لأنَّ الابتداء بالسلام سنة من المار على القاعد، أما رده: فهو فريضة على من ألقي عليه. 4 - قال القاضي عياض: فيه دليل على أنَّ النَّهي عن الجلوس في الطريق ليس للتحريم، وإنما هو للتنزيه، لأنَّهم لو فهموا أنَّه للتحريم، لم يراجعوه. 5 - وأيضا كانت مراجعتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- لضيق منازلهم التي فيها النساء، فإذا اجتمع الرجال، تركوا البيوت لضيقها، وجلسوا في الطريق، والله أعلم، كما ذكر هذا ابن أبي جمرة. 6 - المطلوب من الجلوس في الطريق أمور كثيرة منها:

- إرشاد ابن السبيل. - إغاثة الملهوف. - إعانة المظلوم. - الإعانة على الحمل. 7 - ومن الحكمة في النَّهي عن الجلوس في الطرقات خشية الفتنة، وفيه التعرض للزوم حقوق الله وحقوق المسلمين، ولو كان قاعدًا في منزله، كما تعرَّض للفتنة، ولما لزمته الحقوق التي قد لا يقوم بها. ***

1329 - وَعَنْ مُعَاوَيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا، يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - مَن: اسم شرط يجزم فعلين، فـ"يرد" فعل الشرط، و"يفقهه" جوابه، وكلاهما مجزوم. - يُرِد: بضم الياء المثناة التحتية، من الإرادة، والإرادة: صفة مخصِّصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وأما الخير: فهو ضد الشر. - يُفَقِّهْهُ: من فقه بالكسر فقهًا، من باب علم، وفقه بالضم: إذا صار فقيهًا، فمعنى يفقهه: يجعله فقيهًا في الدين. والفقه لغة: الفهم. واصطلاحًا: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. - الدِّين: بكسر الدال، قال في المصباح: وإن قرنت بالإسلام دينًا يقيد به كذلك، والمراد بالفقه بالدين ما يشمل الأصول والفروع. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الحديث دليل على عظمة الفقه في الدِّين، الذي يشمل أصول الإيمان وشرائع الإسلام، وحقائق الإحسان، ومعرفة الحلال والحرام؛ فإنَّ الدِّين يشمل هذه الأمور الهامة العظام كلها؛ فإنَّ جبريل لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه القواعد، وأجابه عنها، قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" [رواه البخاري (50) ومسلم (29)]. ¬

_ (¬1) البخاري (71)، مسلم (1037).

2 - أما تسمية الفقه بأنَّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، فإنَّ هذا إنَّما هو اصطلاح خاصٌّ حادث لعلماء الأصول الفقهية، فيدخل في مدلوله الشرعي -على المعنى العام-: معرفة حقائق الإيمان، ومعرفة أحكام شرائع الإسلام، ومعرفة السَّير والسلوك إلى الله بمعرفة مراتب الإحسان؛ فمن أراد الله به خيرًا فقَّهه في هذه الأمور، ووفَّقه للعمل بها. 3 - دلَّ مفهوم الحديث على أنَّ من أعرض عن الفقه في الدين، والتحلي بعلومه التي هي أشرف العلوم، أنَّ الله تعالى لم يرد به خيرًا. وقد جاء هذا المعنى منطوقًا في رواية أبي يعلى (13/ 371): "ومن لم يُفَقِّهْهُ لم يبال الله به". 4 - العلوم الشرعية من الأعمال النافعة المتعدي نفعها من حاملها إلى غيره، تعليمًا، أو تأليفًا، أو قضاء، أو إفتاء؛ فهي من الأعمال الباقية بعد وفاة صاحبها: "أو علم يُنْتفع به بعده" [رواه مسلم (1631)]. قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة]. 5 - للتفقه في الدين طرق وأسباب، من أخذ بها، نجح، وحصل له الفقه التام في دين الله، فمنها: تقوى الله تعالى، والإخلاص في الطلب، فلا يريد به إلاَّ وجه الله والدار الآخرة، ومنها سلوك الطرق المستقيمة في التحصيل، فيعنى أول طلبه بالمختصرات لتلك العلوم وأصولها، حفظًا وفهمًا، ثم يتوسع فيها شيئًا فشيئًا، ولا يزج بنفسه بالمراجع الكبار في أول الطلب، فيتشتت ذهنه، ويضيع جهده في أسفار العلم، والكتب الكبيرة؛ فيخرج بلا فائدة. ***

1330 - وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ شَيْءٍ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال العراقي: أخرجه أبو داود، والترمذي، من حديث أبي الدرداء، وقال الترمذي: غريب، وقال عن بعض طرقه: حسن صحيح. والحديث له شواهد كثيرة خرَّجها العراقي في تخريجه لأحاديث كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - حسن الخلق هو الصورة الباطنة للإنسان، فالإنسان؛ في حقيقته مركب من جسد ونفس، فالجسد مدرك بالبصر، والنفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة: إما جميلة، وإما قبيحة. فالخلق -بضم الخاء واللام-: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية. فإن كانت الأفعال جميلة، سميت خلقًا حسنًا، وإن كانت قبيحة، سميت خلقًا سيئًا، وليس الخلق عبارة عن الفعل؛ فرب شخص طبعه السخاء يبذله بلا رجاء نفعه. 2 - الخلق الحسن عبارة عن الأفعال الجميلة، والتصرفات المستملحة الصادرة ¬

_ (¬1) أبو داود (4799)، الترمذي (2002).

من نفس طيبة، لم يحمل على صدورها طلب المكافأة، ولم تكن بداعي الرياء والسمعة، ولا من أجل غرض من الأغراض الدنيوية، وإنَّما هي فيض من النفس الصافية، صارت أثقل شيء في ميزان صاحبها يوم القيامة. 3 - وفي الحديث دليل على أنَّ الإنسان إذا فعل الخير بداع من خلق لم يكتسبه، وإنما فطره الله تعالى عليه: أنَّ له على ذلك أجرًا، فلو لم يعلم أنَّه من أهل هذا الخلق الكريم، وأنَّه جدير به، لما جُبِلَ عليه. ***

1331 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الحياء: في اللغة: تغير وانكسار يلحق الإنسان من خوف ما يعاب عليه، وفي الشرع: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحياء خلق كريم يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق؛ لئلا يعاب على فعل القبيح، أو التقصير في الواجب، والحياء -وإن كان فطرة- إلاَّ أنَّه يحتاج إلى اكتساب وتنمية ليكمل. 2 - أما كونه من الإيمان: فإنَّ المستحيي يُقْلِع بحيائه عن المعاصي، ويقوم بالواجبات. وهكذا تأثير الإيمان بالله تعالى إذا امتلأ به القلب، فإنَّه يمنع صاحبه عن المعاصي، ويحثه على الواجبات؛ فصار الحياء بمنزلة الإيمان ميت حيث الأثر والفائدة. 3 - الحياء لا يمنع من التفقه في الدين، والسؤال عما يجب السؤال عنه، والحياء الذي يمنع صاحبه من إنكار المنكر، ونحو ذلك، فهذا ليس حياءً شرعيًّا، وشعبة من الإيمان، وإنما هو خَوَر وذِلَّةٌ ومهانة، لا يُحمد عليه صاحبه. 4 - تقدم أنَّ الحياء غريزي ومكتسب؛ قال القرطبي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جُمِعَ له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي. ¬

_ (¬1) البخاري (24)، مسلم (36).

1332 - وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوُّةِ الأُوْلى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنعْ مَا شِئْتَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - النبوة الأولى: يعني: ما اتَّفق عليه الأنبياء ولم ينسخ؛ لأنَّه أمر طبَّقت عليه الشرائع السماوية، وقَبلَتْهُ العقول السليمة؛ فهو من مكارم الأخلاق. - إذا لم تَسْتَحِ فَاصْنَعْ: قيل: المراد إذا كان الأمر مما لا يستحيا منه فافعله، وقيل: إذا نزع عنك الحياء، وصرت لا تبالي بعمل الأفعال القبيحة والمليحة، فافعل ما تريد؛ فما لجرحٍ بِميتٍ إيلامُ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى": قال ابن رجب: يشير إلى أنَّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تدوالوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرن، وأنَّه لنفاسة هذه الحكمة، فقد اشتهرت بين الناس حتى وصلت إلى أول هذه الأمة. 2 - قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت": قال ابن رجب: في معناه قولان: أحدهما: أنَّه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: أولهما: أنَّ الأمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى إذا لم يكن حياء، ¬

_ (¬1) البخاري (6120).

فاعمل ما شئت؛ فالله يجازيك عليه؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} [فصلت]. ثانيهما: أنَّ الأمر بمعنى الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستح، صنع ما شاء؛ فإنَّ المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء، انهمك في كل فحشاء ومنكر، وما يمنع من مثله من له حياء، على حد قوله: "من كَذَبَ عليَّ متعمدًا، فليتبوَّأ مقعده من النار" [رواه البخاري (110)، ومسلم (3)]؛ فإنَّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر. 3 - ثم قال -رحمه الله تعالى- واعلم أنَّ الحياء نوعان: أحدهما: خلق وجبلة، وهو من الأخلاق التي يمنحها الله للعبد ويجبله عليها. الثاني: مكتسب من معرفة الله وعظمته، ومعرفة قربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان، وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى، ورؤية تقصيره في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء الغريزي والمكتسب، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح. 5 - ثم قال -رحمه الله-: وأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله، أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، وإنما هو ضعف وخور، وعجز ومهانة. 6 - القول الثاني: -في معنى قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت":- أنَّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر أمره، وأنَّ المعنى: إذا كان الذي يريد فعله عملًا لاَ يُسْتَحيا من فعله، لا من الله، ولا من الناس؛ لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق، والآداب المستحسنة -فاصنع منه حينئذٍ ما شئت؛ وهذا قول جماعة من الأئمة، منهم: الثوري، والشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد.

1333 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابكَ شَيءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا، كَانَ كذَا وَكَذَا، وَلكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - فإنَّ "لو": أي: فإنَّ كلمة "لو" بعد وقوع شيء على خلاف المراد. - تفتح عمل الشيطان: لما تُثْنِيهِ عَنْ شِدَّةِ حرصه، وحسرته على ما فات أو وقع, وعن عدم رضائه بالقضاء، وظنه إمكان رد القدر. - قَدَرُ الله: بفتحتين، وهو القضاء الذي يقدِّره الله على عباده. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - فيه استحباب القوة في الأعمال؛ لأنَّه يحصل فيها من الفائدة والثمرة ما لا يحصل من الضعف؛ فإنَّ الضعيف لا ينتج عنه إلاَّ ضَعْفٌ وقلَّة؛ قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص]، وقال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وقال تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. 2 - قال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية: القوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوَّة ¬

_ (¬1) مسلم (2664).

في إمارة الحرب: ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والقوةُ في الحُكم بين الناس: ترجع إلى العلم بالعدل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. واجتماع القدرة والقوة والأمانة في الناس قليل، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدَّ، قُدِّم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها فلابد فيه من قوَّة وأمانة، فيولَّى عليها قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. ومن ذلك السَّعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها؛ فإنَّ ما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب. 3 - أما الحديث هنا، فالمراد في أعمال الآخرة التي يحصل منها إقدامٌ على الجهاد، وصلابة في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصبرٌ على الأذى، وتحمُّلٌ للمشاق في أمر الله، والقيام بحقوقه من الطاعات. 4 - أما الضَّعيف: فهو بالعكس من ذلك؛ فلا يحصل منه كمال المطلوب إلاَّ أنَّ وجود الإيمان معه لا يحرمه من الخير؛ فإنَّ الإيمان أساس الخير والبركة، ولابد له من فائدة مهما كانت. 5 - قوله: "احرص على ما ينفعك" في أمر الدين والدنيا، وأهم المنافع والمطالب هو ما يطلب من طاعة الله تعالى التي فيها السعادة الأبدية؛ فهذه هي المنفعة الكبيرة، والمطلب العظيم، الذي لمثله فليعمل العاملون، وفي الحصول عليه فليتنافس المتنافسون؛ فهذا هو النفع العظيم، والكسب الكبير. والعبد محتاج إلى الأمور الدنيوية؛ كما هو محتاج إلى أموره الدينية، ومأمور بأن يسلك الطرق الموصلة، والوسائل القوية التي تبلغه حاجته في

أمور دينه وأمور دنياه، وهو محتاج إلى معرفة الأحوال والأمور والوسائل التي تبلغه إلى مقصوده، وتوصله إلى مطلوبه، ومن أقوى الوسائل إلى ذلك وأنفع السبل: العلوم النافعة؛ فإنَّها الصراط المستقيم إلى خير الدنيا والآخرة. 6 - قوله: "واستعن بالله": قال ابن القيم في مدارج السالكين؛ الاستعانة: طلب العون من الله تعالى، وإذا التزم العبد بمعبودية ربه، أعانه الله تعالى عليها؛ فكان التزامه بها سببًا لنيل الإيمان، فكلما كان العبد أتم عبودية لربه، كانت الإعانة من الله له أعظم، وأنفعُ الدعاء طلب العون من الله على مرضاته، وأفضلُ المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه. قال شيخ الإسلام: تأمَّلْتُ أنفع الدعاء، فإذا هو سؤاِل العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، والعبد مع استعانته بربه، فهو محتاج إلى عمل الأسباب النافعة، والطرق الموصلة. قال بعضهم: إنَّ كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه، وقد مكَّن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والعون من دفع بعض الموانع، وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل الجهد في إتقان أعمالنا بكل ما نستطيع من حول وقوَّة. ونفوِّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه تعالى وحده، ونطلب منه المعونة المتمِّمة للعمل، والموصِّلة لثمرته منه

سبحانه وتعالى دون سواه؛ إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل بشر إلاَّ مسبِّب الأسباب، ورب العباد. 7 - وقوله: "ولا تعجز" العجز يكون بأمرين: الأول: هو ترك العمل وإهمال القيام بالأسباب الموصِّلة إلى المطلوب، والوسائل المبلغة إلى المقصود، والركون إلى الكسل والعجز. الثاني: عدم الاستعانة بالله تعالى، والاتكال عليه بالإعانة على المهام والمقاصد، وصرف همه وحده بالاعتماد على حوله وقوَّته وسعيه؛ فإنَّ حرص العبد بغير الاستعانة بالله تعالى لا ينفعه، ولا يجديه شيئًا. ونواميس الله تعالى الكونية لا تفضِّل أحدًا دون أحد، فمن أخذ بها، وصل إلى مقصوده، ولكنْ هناك أمورٌ وراء الأسباب والنواميس لا يقدر عليها إلاَّ هو، ولا تطلب إلاَّ منه تعالى. 8 - ومن العجز: أن يدعو العبدُ الله تعالى ويطلب منه تعالى قضاء حاجاته، وتسهيل مهماته، فلا يرى الإجابة الظاهرة، فيكسل، ويعجز عن مواصلة الدعاء. قال ابن القيم في الجواب الكافي: ومن الآفات التي تمنع ترتيب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطيء، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذَر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهد ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله. وفي صحيح البخاري (6340) ومسلم (2735) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي". 9 - قوله: "وإن أصابك شيء ... إلخ". يبيِّن -صلى الله عليه وسلم- بهذه الجملة: أنَّ الإنسان إذا بذل الجهد، واستفرغ طاقته ووسعه،

ثم جاء الأمر بخلاف مطلوبه، بأن فاته مطلوبه، أو حصل له ضرر لم يتوقعه: فعليه بالإيمان بالقضاء، وأن لا يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا؛ فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان، فتُحْدِث للإنسان الأسف، والحزن على الأمور التي فاتته، وتوجب له عدم الصبر بما قدَّره الله عليه، وتجعل عنده "لو" احتمالاً أنَّه لو فعل ذلك، لم يصبه ما وقع عليه. 10 - أما استعمال "لو" في تمنِّي الخير، أو في بيان العلم النافع، فإنَّها محمودة؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سُقت الهَدْي، ولأحللتُ معكم" [رواه البخاري (505) ومسلم (218)]. ***

1334 - وَعنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله تَعَالَى أَوْحَى إِليَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - تواضعوا: التواضع: التذلل والتخاشع، وهو ضد الكبر. - البغي: بغى يبغي، فهو باغٍ، والجمع بغاة، معناه: الظلم والاعتداء. - يفخر: يقال: فخر على غيره يفخر فخرًا: تمدَّح بالخصال، مباهِيًا بالمناقب والمكارم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - التواضع: هو التذلل والاستسلام للحق فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس؛ وبهذا فهو أعم من الخشوع الذي لا يكون إلاَّ الله. 2 - إذا اتصف الناس بهذا الخلق الكريم، فإنَّه لن يتكبَّر أحد على أحد؛ لأنَّ التواضع ضد الكبر، ولن يبغي أحدٌ على أحدٍ؛ لأنَّ المتواضع لا يرى لنفسه مزية على أحد، فيتكبر عليه، أو يبغي عليه، وإنما البغي والكبر ينشآن ممن يرى نفسه فوق الناس، وله ميزة عليهم تحمله على الكبر عليهم، والبغي عليهم. 3 - جاءت نصوص كريمة في مدح التواضع وصاحبه قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء]، وقال تعالى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم]، وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]، ¬

_ (¬1) مسلم (2865).

وفي صحيح البخاري (2262)، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بعث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من تواضع لله، رفعه" [رواه مسلم (2588)]، وفي البخاري (5178) عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع لقبلت". 4 - وفي الحديث التحذير من البغي على الناس، والفخر، والكبر عليهم، وقد جاء في ذلك التحذير؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]. وجاء عن ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" [رواه مسلم (91)]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ***

1335 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بالغَيْب، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (¬1). وَلأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فقد حسَّنه الترمذي، وقال ابن القطان: الذي منع الحديث من الصحة: أنَّ فيه مرزوقاً التميمي، وهو مجهول الحال، لكن للحديث شواهد يتقوى بها. قال المناوي عن حديث أسماء بنت يزيد: إنَّ السيوطي رمز له بالحسن. قال المنذري: إسناد أحمد حسن، وقال الهيثمي: إسناده حسن. * مفردات الحديث: - مَنْ رَدَّ: أي: دفع عنه وحفظه. - عِرْض أخيه: بكسر العين، وسكون الراء، هو النفس والحسب، وما يمدح به الإنسان ويذم. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه فضيلة الرد عن عرض مسلم، يُنَال منه في غَيبته في المجلس، كأن يغتابه أحد الحاضرين؛ فينبري الغيور، ويسكت المغتاب الذي يتفكه بأعراض المسلمين الغافلين. ¬

_ (¬1) الترمذي (1931). (¬2) أحمد (6/ 461).

2 - الرد عن عرض مسلم: من إنكار المنكر الذي يجب القيام به حسب الاستطاعة، ولا يحل تركه؛ فإنَّ هذا من خذلانك لأخيك المسلم الذي يوقَعُ في عرضه، وأنت حاضر قادر على رده. 3 - جاء الوعيد على السامع الساكت القادر على الرد عن العرض؛ ففي سنن أبي داود (4884) من حديث جابر، وأبي طلحة، يقولان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يخذل امرأً مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص من عرضه، إلاَّ خذله الله في موطن يحب فيه نصرته"؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، وقد جاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ المستمع للغيبة أحد المغتابين"، فمن حضر مجلس الغيبة، وجب في حقه واحد من ثلاثة أمور: - الرد عن عِرْض أخيه المسلم. - أو القيام من مجلس الغِيبة. - أو الإنكار بالقلب، والكراهة للقول، إن لم يستطع الرد أو القيام. ***

1336 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلاَّ عِزًّا، وَما تَواضَعَ أَحَدٌ للهِ إلاَّ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: الحديث فيه ثلاث جمل من الأحكام الحكيمة والآداب السامية: الأولى: "ما نقصت صدقة من مال": وهذا يشمل ثلاثة معان: 1 - أنَّ الله تعالى ينمِّي المال بالصدقة، ويزكيه، ويبارك فيه، فتندفع عنه الآفات، وتحل فيه البركات الحسية والمعنوية. 2 - أنَّ الثواب الحاصل من الصدقة جَبَرَ نَقْص عينها؛ فالمتصدِّق إذا نقص من جانب عوِّض عنه ما هو أكثر منه من جانب آخر. 3 - أنَّ الله تعالى يخلفها بعوض يعوِّضه به عن نقص المال، بل ربما زادته؛ قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. الثانية: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلاَّ عزًّا": فيه الحث على العفو عن المسيء، وعدم مجازاته على إساءته، وإن كانت جائزة، لكن العفو عند المقدرة له مقام كبير عند الله وعند خلقه: أما عند الله: فإنه سبحانه يحبه؛ لأنَّه محسن، فيضع له المحبة في الأرض. وأما عند الناس: فإنَّ الناس إذا علموا أنَّه عفا عن مقدرة، صار له عندهم منزلة كبيرة، ومقام عظيم، ونُظِر إليه بعين الإجلال والإكبار، أما المنتقم فإنَّه لا ¬

_ (¬1) مسلم (2588).

ينال هذه المنزلة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل]. الثالثة: "وما تواضع أحدٌ لله تعالى إلاَّ رفعه الله تعالى": فالمتواضع لله تعالى بإظهار التذلل للحق وأهله، والانكسار بين يدي الله تعالى، ولين الجانب، وإظهار الخمول، فإنَّها ما تزيد المتحلِّي إلاَّ رفعة في الدنيا، ومحبة في القلوب، ومنزلة عالية في الجنة، فقد جاء في الحلية لأبي نعيم، من حديث معاذ؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله يحب من عباده الأتقياء الأخفياء الأبرياء" [رواه الطبراني في الأوسط (7/ 145)]، وجاء في الترمذي (3854) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "رب أشعث أغبر ذي طِمْرَين، لا يُعبَأ به، لو أقسم على الله لأبرَّه". ***

1337 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ: -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا ايُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بسَلاَمٍ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذيُّ وَصَحَّحَهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: أخرجه الإِمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم. * مفردات الحديث: - أفشُوا السلام: أمر من الإفشاء، وهو الإشاعة والتعميم. - صِلُوا الأرحام: أمر من الوصل ببرهم، والإحسان إليهم بالقول، والفعل، ولين الجانب، والأرحام: كل قرابة من النسب، أو من الصهر. - نِيَام: بكسر النون، وتخفيف الياء، جمع نائم. - تدْخُلُوا الجنَّة بسلام: أي: بدون سابق عذاب قبل دخولها. * ما يؤخذ من الحديث: في الحديث مناقب حميدة وشمائل رفيعة، من اتصف بها، دخل الجنة بسلام: 1 - إفشاء السلام بين المسلمين بقوله: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ¬

_ (¬1) الترمذي (2485).

والجواب مثله، والبداءة به سنة، ورده فرض؛ وهذان الحكمان في البدء والرد على من عَرَفْتَ، ومن لم تعرف. 2 - صلة الرحم، وهي: القرابة من الأصول، والفروع، والحواشي القربى والبعدى، كل بحسبه؛ فقد أثنى الله تعالى على من وصلها بقوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] ... إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد]، وذم القاطعين وتوعدهم فقال: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27] ... إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد]، والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا. 3 - "إطعام الطعام" من القيام بالنفقات الواجبة والمستحبة، وإطعام الفقراء، والمساكين، والمعوزين؛ قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان]، وقد جاء في الصدقة من الآيات والآثار الكثير. 4 - صلاة الليل، وأفضل ما تكون آخره عند نزول الرب سبحانه إلى السماء الدنيا؛ لإجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والبر بالمحرومين. قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17]، وقال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا (2)} [المزمل]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]. وجاء في مسلم (1163)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". 5 - من قام بهذه الأعمال الصالحة، فإنَّ الله تعالى سيوفِّقه لترك المنهيات، والقيام بسائر الطاعات؛ فيدخل الجنة سالمًا من عذاب الله تعالى. ***

1338 - وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ -ثَلاَثًا- قُلنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ، وَلِكِتَابهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - الدِّين: قال ابن فارس: الدال والياء والنون: أصل واحد، إليه ترجع فروعه كلها، وهو جنس من الانقياد والذل؛ فالدِّين الطاعة. - النَّصيحة: قال في القاموس: نَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً، وَهُوَ نَاصِحٌ وَنَصِيحٌ، والاسم: النصيحة، وَنَصَحَ بمعنى أَخْلَصَ، والناصح هو العمل الصالح، والتوبة النصوح هي التوبة الصادقة. قال ابن فارس: نَصَحْتُهُ ونصحتُ له بمعنى. والنصيحة خلاف الغش. قال في النهاية: النصيحة: كلمة يعبَّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له. - الدين النصحية: هذه جملة تدل على الحصر؛ فلذا صارت هذه الجملة تدل على ما هو عماد الدين. - ثلاثًا: كرر هذه الجملة الجامعة ثلاث مرَّات؛ للاهتمام بها, ولبالغ العناية بها. ¬

_ (¬1) مسلم (55).

* ما يؤخذ من الحديث: 1 - النصيحة لله، وهي الإيمان بالله تعالى، وذلك بصحة الاعتقاد به، وبأنه واجب الوجود، والإيمان بوحدانيته في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وبأنَّه الواحد الأحد في ذلك كله، فليس له شريك، ولا مثيل، ولا شبيه في شيء من ذلك كله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]. وهذا التوحيد الخالص ينافي كل إلحاد في ربوبيته، أو إلهيته، أو أسمائه، أو صفاته. كما أنَّ من النصيحة لله تعالى: إخلاصَ النيَّة والعلم في عبادته، وبذل الطاعة والانقياد له فيما أمر به، أو نهى عنه، والاعتراف بنعمه، واستعمالها في طاعته، وإيثار محبته على من سواه من المخلوقين. وحقيقة هذه النصيحة راجعة إلى العبد نفسه؛ فالله تعالى غني عن نصح كل ناصح؛ {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]. 2 - النصيحة لكتاب الله، وهي الإيمان به، وتصديقه، وبأنَّه كلام الله تعالى، تكلَّم به حقيقة، كلامًا يليق بجلاله، وأنَّه وحيه أنزله على رسوله محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، بواسطة أمينه على وحيه جبريل الأمين، والإيمان بإعجازه في لفظه، وأسلوبه، ومعناه؛ فلن يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله، أو بسورة واحدة من سوره، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ومعينًا. ومن الإيمان بكتاب الله: تعظيم هذا الكتاب، وتنزيهه، وامتثال أوامره، والوقوف عند نواهيه، ورد تحريف الضالين، وشُبه الملحدين، كل مسلم بحسب قدرته، وطاقته، واستطاعته من النصح لكتاب الله تعالى. 3 - النصيحة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهي تصديقه، والإيمان به، وبرسالته إلى الثقلين عامة، وتعلُّم سنته، والعمل بها، والتمسك بها، ومحبة هذا الرسول،

وطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباعه، والتخلق بأخلاقه، والسير على نهجه، وجعله القدوة الصالحة في العبادة والخُلُق. ومن الإيمان به: الإيمان بشمول رسالته وعمومها، وأنَّه رسول الله إلى الإنس والجن كافة؛ فلا يحل لأي صاحب دين ونحلة إلاَّ اتباعه، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع قبلها، وخاتمة لجميعها بعده؛ فلا نبي بعده ولا رسول؛ فهو خاتم المرسلين. وأنَّ سنته هي أحد الوحيين، وثانيهما، فيجب العمل بها فيما أمرت به، وما نهت عنه، ويجب تصديقها فيما أخبرت به، وتحدثت عنه. 4 - النصيحة لأئمة المسلمين، وهي معاهدتهم على السمع والطاعة، وعدم نكث عهدهم، والوفاء لهم، وامتثال أمرهم، واجتناب نهيهم، ما لم يأمروا بمعصية، أو ينهوا عن طاعة؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن النصح لهم: الدعاء لهم بالتوفيق والتسديد في أعمالهم، وبذل المشورة لهم، ونصحهم برفق، ولطف، ولين. ومن النصيحة لهم: الوفاء لهم، وعدم عصيانهم، والخروج عليهم، ولو رأى مواطنوهم وشعبهم شيئًا من القصور في أعمالهم، أو في الحقوق، فإنَّ ما يترتب على الخروج عليهم من المفاسد، واختلال الأمور أعظم وأطم مما هم عليه، ما لم يصل الأمر إلى كفر بواح. ومن النصيحة لهم: القيام معهم في وجه من يقوم ضدهم، ويشق عصا الطاعة عليهم، بالخروج عليهم، ونقض عهدهم. 5 - النصيحة لعامة المسلمين، وتكون بمحبة الخير لهم، فيحب لهم ما يحبه لنفسه من الصلاح، والتوفيق في أمور الدنيا والآخرة، وأن يتمنى لهم الخير، وبُعْدَ الشر عنهم، ويحب اجتماعهم على ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، ويكره لهم الفرقة، والاختلاف، والتفرق.

وأن يبذل لهم النصح والمشورة فيما ينفعهم، ويعود عليهم بالصلاح، ويشفق عليهم برحمة صغيرهم، وفقيرهم، وعاجزهم، ويقدِّر كبيرهم ويحترمه، ويحزن لحزنهم، ويتألم لمصابهم، ويفرح لفرحهم بما يجدِّد الله لهم من النعم، وما يندفع عنهم من النقم. وأن يبعد عنهم كل ما ينافي ذلك من الحقد، والحسد، والغش، والخداع، وغير ذلك مما يضرهم. ومن النصح للمسلمين: القيام بحقوقهم، فهناك حقوق عامة؛ كرد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، والدعاء للأحياء والأموات، وهناك حقوق خاصة؛ كلٌّ فيما يخصه ويناسبه، من الأقارب، والجيران، والأقران، والأصدقاء. 6 - وهكذا: فالنصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير والبر إرادةً وفعلاً؛ فهي بمثابة القلب الطاهر السليم للمنصوح له، وهي نافعة للناصح والمنصوح: فأما الناصح: فلما يحصِّله من الأجر والثواب، ولما يسرُّه ويفرحه من أثر نصحه وأعماله الطيبة. وأما المنصوح له، فلما يحصُلُ له من خير الدنيا والآخرة بسبب توجيه الناصحين، وإرشاد المحبِّين، والدلالة على وجوه الخير، والصلاح، والفلاح. فقد قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدركوا عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة"، والله أعلم. ***

1339 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الجَنَّةَ: تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الخلُقِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. الحديث أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم. وله شواهد كثيرة جدًّا بعضها حسن، وبعضها ضعيف، وأنواع ضعفها مختلفة، وقد أوردها الغزالي في الإحياء في كتاب رياضة النفس، والإمام زين الدين العراقي بيَّن درجاتها، ومن تلك الشواهد: ما أخرجه البخاري (6035) ومسلم (2321): "خياركم أحاسنكم أخلاقًا". ... ¬

_ (¬1) الترمذي (2004)، ابن ماجه (4246)، الحاكم (4/ 324).

1340 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَكمْ لاَ تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. فرجاله ثقات. قال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه البزار، وأبو يعلى، والطبراني في مكارم الأخلاق، من حديث أبي هريرة، وبعض طرق البزار رجاله ثقات. وحسَّنه العلائي، وكذلك السيوطي في الجامع الصغير. * مفردات الحديث: - بسْطُ الوَجْه: بفتح الباء، وسكون السين: البشاشة، وطلاقة الوجه، ولين الجانب. - حُسْنُ الخلُق: الخلق -بضم الخاء واللام-: هي معاملة الناس ومعاشرتهم العشرة الطيبة، المبنية على المحبة، والإخلاص، والنصح، وقضاء حوائجهم، وأداء حقوقهم. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - هذان الحديثان الشريفان فيهما أمران عظيمان: تقوى الله، وحسن الخلق. 2 - فأما حسن الخلق: فصفة حميدة باطنة في القلب، يظهر أثرها بالأقوال ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 124)، أبو يعلى (11/ 428).

الطيبة، ولين الجانب، والأفعال الكريمة، وتهذيب النفس، وتقدم الكلام على حسن الخلق مكرِّرًا في عدة أحاديث. ومن أحسنها هذا الترغيب الكريم من النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسْط الوجه، وحسن الخلق". يعني: أنَّه لا يتم لكم أن تَسَعُوا الناس بإعطاء المال، لكثرة الناس وقلَّة المال؛ فهو أمر غير داخل في مقدور البشر. ولكن عليكم أن تسعوهم ببسط الوجه، والطلاقة، والبشاشة، ولين الجانب، وخفض الجناح، ونحو ذلك مما يجلب التحاب بينكم، فإنَّه مراد الله تعالى. 3 - أما تقوى الله تعالى: فقد فسِّرت بتفسيرين: أحدهما: أنَّ معناها فعل الطاعات، واجتناب المنهيات. الثاني: هي اجتناب معاصي الله عزَّ وجل على نور من الله، خشية عقاب الله، والقيام بطاعة الله على نور من الله، رجاء ثواب الله. 4 - وتقوى الله تعالى: هي الرقيب على تصرُّفات العبد في علانيته وسرِّه، فمن وقرت تقوى الله في قلبه، صانته، وحفظته من المهالك؛ فإنَّها حصانة تمنعه من أن يقوم على قبيح، أو يقصر في واجب. أما إذا غابت التقوى: فإنَّ النَّفس الأمَّارة بالسوء تسيِّر بالإنسان إلى الشهوات، ولو كان فيها معصية الله تعالى. ***

1341 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤْمِنُ مِرآة أخِيهِ المُؤْمنِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن. قال الإِمام أحمد: لا بأس به، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر، كما نصَّ عليه هنا، ونقل المناوي عن الزين العراقي أنَّ إسناده حسن، وله شاهد عن أنس رواه القضاعي والبزار. * مفردات الحديث: - مرآة: بكسر الميم، وإسكان الراء، بعدها ألف ممدودة، ثم تاء التأنيث، قال في المحيط: هي ما تراءيت فيه من بلور وغيره، وهو اسم آلة، جمعها مَرَاءٍ ومرايا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - في هذا الحديث الشريف وصفٌ نبويٌّ بديعٌ، وتشبيهٌ بليغٌ يبيِّن موقف الأخ المسلم من أخيه، ويحدد مسؤوليته تجاهه، وأنَّه منه كالمرآة الصقيلة التي تريه نفسه على حقيقتها، وعلى ما فيها. 2 - المسلم الناصح المحب لأخيه ما يحب لنفسه، يطَّلع على عيوب أخيه المسلم، وأخطائه، وزلاَّته، فينبِّهه إليها، ويدلُّه على إصلاحها، ويرشده إلى تقويمها، وينصحه بالتخلي عنها، حتى يزينه عند مولاه الذي ينظر من عباده إلى قلوبهم وأعمالهم؛ كما يجمل المسلم أخاه المسلم عند الخلق ¬

_ (¬1) أبو داود (4918).

بإزالة الغلطات والزلات. وهو من نصيحة المسلم لأخيه المسلم في حديث تميم الداري السابق برقم (1338). ***

1342 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ علَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال المناوي: أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي بسند جيد، كلهم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، لكن الترمذي لم يسم الصحابي، بل قال: عن شيخ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ العراقي: والطريق واحد، وقد رمز له بالحسن، وهو كذلك؛ فقد قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وكذلك هنا في بلوغ المرام. * خلاف العلماء: هناك مسلكان هما: اعتزال الناس والبعد عنهم، أو مخالطتهم، وهما قولان لأهل العلم وأهل السير والسلوك، وبعرضنا لهذين القولين يكفي شرحًا لهذا الحديث. قال الخَطَّابي في كتابه العزلة: اختلف الناس في العزلة والمخالطة أيهما أفضل؟ مع أنَّ كل واحدة منهما لا تنفك من فوائد وغوائل: فأهل الزهد اختاروا العزلة، ومنهم: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، ¬

_ (¬1) ابن ماجه (4032)، الترمذي (2507).

والفضيل بن عياض، وسليمان الخوَّاص، وبِشْر الحافي، ونحوهم. وذهب إلى تفضيل المخالطة: سعيد بن المسيب، والشَّعبي، وابن أبي ليلى, وشريح، وشريك، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. استدل الأوَّلون على استحباب العزلة: بقول إبراهيم الخليل -عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم: 48]، وبقوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم]، وبما جاء في البخاري (6494) ومسلم (1888)، من حديث أبي سعيد الخدري، قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؛ قال: "رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره". وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "خذوا بحظِّكم من العزلة". وقال سعد بن أبي وقاص: "لوددت أنَّ بيني وبين الناس بابًا من حديد، لا يكلمني أحد ولا أكلِّمه حتى ألقى الله سبحانه". وفي العزلة: تفرغ للعبادة، وبُعد عن معاصي الله، وعمَّا يعرض من الفتنة، والسلامة من الغيبة، ومن آفة الرياء، وصيانة الدين عن الخوض في ذلك فيما لا يرضي الله تعالى. ففي ذلك البعد عن شرور الناس، وأذية كثير منهم، والبعد عما يلهي القلب والعين عند النظر إلى زهرة الحياة الدنيا. وهناك فوائد أخرى يكتسبها المعتزل، إما بتوفير الوقت لاشتغاله بالنافع، وإما بالسلامة من الشرور والآثام. واستدل الذين فضَّلوا الاجتماع والاختلاط: بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {فَأَلَّفَ

بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ...} [آل عمران: 103]. وما جاء عن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" [رواه الترمذي (2165)]. ومن فوائد الاجتماع: التعلم والتعليم، والنفع والانتفاع، والقيام بالحقوق من الاجتماع في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وعيادة المرض، وشهود الجنائز، وتأدية العادات المستحسنة فيما بين المسلمين، وحصول الائتلاف والأخوة الإيمانية من المحبة في الله، والتآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكرات، وقضاء الحاجات؛ فكل هذه الأمور مفقودة مع العزلة. وفصل الخطاب في هذا الباب: أنَّه لكل من العزلة والاختلاط فوائده ومضاره المعروفة، فالعزلة فيها السلامة والبعد عن الشر، إلاَّ أنَّ الاجتماع يحسُنُ ويفضل في حالتين: الأولى: أن يكون الشخص نافعًا مفيدًا في مجتمعه، نافعاً بعلمه؛ تعليمًا، وإفتاءً، وإرشادًا، وقضاءً، وغير ذلك، مثل أن يكون ذا جاه ونفوذ كلمة، فينفع في الوساطات المحمودة، والشفاعات المرغوبة؛ فهو ملجأ بعد الله تعالى للمظلوم والمهضوم حقه ونحو ذلك، أو يكون صاحب بر وإحسان، فيجد عنده المعوزون قضاء حاجتهم، وسد خلاتهم، وغير هؤلاء ممن هم أركان في المجتمعات؛ فعزلة هؤلاء وأمثالهم: ضرر عليهم بحرمانهم من الأجر المتعدي، وضرر على غيرهم -حيث يفقد ذو الحاجات- من المستفيدين، والمعلِّمين، والمظلومين، والمعوزين مَنْ يعينهم على أمورهم. وأفضل ما يقال: إنَّ صاحب الكلمة المسموعة، والإشارة النافذة، والنفع المتعدي، من علم، أو جاه، أو فضل، الأفضل أن لا يعتزل، بل يكون

مع الناس؛ ينفعهم، ويصلحهم، ويرشدهم، ويعلمهم، ويرفع صوتهم بالشفاعة إلى من لا تصل إليه أصواتهم الضعيفة، وأن يجود بفضول ماله، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو المؤمن القوي المحبوب عند الله. وأما الذي ليس له من وجوده فائدة إلاَّ بقدر الواجبات والحقوق السارية بين الناس، فهذا يعتزلهم لِيَسْلَم له دينه وعرضه، ويخالطهم بقدر حاجته إليهم، فهو معهم ببدنه، أما قلبه وروحه فمع خلوته، وانفراده بطاعة ربه وذِكره إيَّاه. وهذا هو المؤمن الضعيف، وفيه خير، فالإيمان بالله، والقيام بطاعته، كل بحسبه نور. والله الموفق. ***

1343 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. صحَّحه ابن حبان، وقال المنذري: رواته ثقات. وقال الهيثمي بعد أن ذكر له طريقين قال: رجالهما رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - حسَّنْتَ: بتشديد السين المهملة، من التحسين والتجميل، وقد جاء بصيغة الخطاب. - خَلْقِي: بفتح، فسكون، هي صورة الإنسان الظاهرة. - خُلُقِي: بضمتين، هي الصورة الباطنة في النفس التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. * ما يؤخذ من الحديث: قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار]، وقال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]؛ فالله جلت قدرته خلق الإنسان فأتم خلقه، وأتقن تركيبه؛ لأنَّه على صورة أبيه آدم الذي خلقه الله بيده، فجاء على تلك الصورة الكريمة المثالية. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 403)، ابن حبان (959).

والإنسان -وإن تفاوت من حيث الجمال والدمامة وما بينهما- إلاَّ أنَّه صُوِّرَ أحسن تصوير، وركِّب أحسن تركيب؛ فعليه أن يشكر الله تعالى على ذلك. وأن يسأل الله الذي أحسن صورته الظاهرة، وجمَّلها، وكمَّلها، أن يحسن صورته الباطنة، فَيهَبَهُ خلُقًا كريمًا سمحًا، تكمُلُ به إنسانيته، وتجمل به صورته، فيكون حسن المظهر والمخبر، كريم الظاهر والباطن، حسن الخَلْقِ والخُلُق. وأهم الصور الباطنة: الإيمان؛ فإنَّ الأخلاق الفاضلة تتبعه، فهو رأسها وأساسها الباطني، والنصوص الشرعية تفرِّق بين الظاهر والباطن؛ ليحصل الكمالان السري والعلني، والجمال الظاهري والباطني: فإنَّه إذا توضأ المسلم وطهر ظاهره، شرع له أن يسأل الله تعالى أن يطهر باطنه من الالتفات إلى سوى الله تعالى. وإذا خرج من الخلاء متخفِّفًا من الفضلات المثقلة، سأل الله المغفرة؛ ليخفف عنه أدران الذنوب بعد أن خفَّ من الوساخات. وهكذا يريد الله تعالى بنا أن نكمِّل أنفسنا، ونزكِّي نفوسنا، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والإفضال. ***

باب الذكر

باب الذكر مقدمة قال أبو حامد الغزالي: ليس بعد تلاوة كتاب الله عزَّ وجل عبادة تؤدِّى باللسان أفضل من ذكر الله تعالى، ويدل على فضل الذكر: قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]؛ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ} [العنكبوت: 45]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت شفتاه بي" [رواه أحمد (10585) وإسناده صحيح]. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: منزلة الذكر، وهي منزلة القوم، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة، بل هم يأمرون بذكر معبودهم، ومحبوبهم، في كل حال. والذكر جلاء القلوب وصقالها، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغفله العبد بغفلته، وهو روح الأعمال، فإذا خمل العبد عن الذكر، كان كالجسد الذي لا روح فيه. والذكر ثلاثة أنواع: ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان وهو أعلاه، وذكر بالقلب وحده وهو بالدرجة الثانية، وذكر باللسان المجرد وهو بالدرجة الثالثة. وأنواع الذكر ثلاثة ثناء، ودعاء، ورعاية، والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة؛ فإنَّها متضمنة للثناء على الله، والتعرض للدعاء، ومتضمنة لكمال الرعاية، ومصلحة القلب، وفيها تعليم القلب مناجاة الرب؛ تعلُّقًا، وتضرعًا، واستعطافًا، وغير ذلك من أنواع المناجاة.

1344 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ -صلى الله عليه وسلم-: "يقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَني، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيقًا (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: صحيح الإسناد. صحَّحه ابن حبان، وذكره البخاري تعليقًا؛ كما قال المؤلف. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: في إسناده محمد بن مصعب القرقساني، قال فيه صالح بن محمَّد: ضعيف، لكن رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أيوب بن سويد، وهو ضعيف، وذكره المنذري في الترغيب، وسكت عنه. والحديث هو معنى الحديث الذي في البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفس، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". وله شاهد، قال الحافظ العراقي: أخرجه الحاكم (1/ 673)، من حديث أبي الدرداء، وقال: صحيح الإسناد. ... ¬

_ (¬1) ابن ماجه (3792)، ابن حبان (815)، البخاري (13/ 499/ فتح).

1345 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضيَ الله عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ، مِنْ ذِكْرِ الله" أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الحافظ العراقي: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف، والطبراني من حديث معاذ، بإسنادٍ حسن. وكذلك حسَّنه المصنِّف هنا. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - أنجى: نجا من كذا ينجو نجاءً ونجاةً: خلص، والمراد هنا: أنَّ ذكر الله تعالى منجٍ ومخلِّص من عذابه. ... ¬

_ (¬1) ابن أبي شيبة (10/ 300)، الطبراني في الكبير (20/ 166).

1346 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - حفَّتْهُمُ الملائكة: يقال: حَفَّ القومُ بالبيت: طافوا به، والمراد: أحدقت بهم الملائكة، واستدارت عليهم. - غشِيَتْهُم الرَّحمة: من التغشي بالثوب، ومعناه: غطتهم، وجللتهم الرحمة، وسترتهم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2700).

1347 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. صحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي. وقال الحافظ ابن حجر: أخرجه الترمذي، وقال: حسن. وقال الحافظ العراقي: أخرجه الترمذي، وحسَّنه من حديث أبي هريرة. وللحديث طريقان عن أبي هريرة عند أحمد، وابن حبان، ورجالهما رجال الصحيح. * مفردات الحديث: - حَسْرة: يقال: حسر عليه: تلهف وأسف، فالحسرة هي: شدة التلهف، والتأسف، والحزن على ما فرط فيه. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - هذه الأحاديث الشريفة كلها في بيان فضل ذكر الله تعالى: فإنَّ الحديث رقم (1344) يدل على أنَّ الله تعالى مع عبده بالعون والتسديد والتوفيق، ما دام عبده يذكره في قلبه، ويعلم قربه منه، ومراقبته إيَّاه، واستماعه لذكره، وقربه من مناجاته، وما دامت شفتاه تنطقان بذكره، ¬

_ (¬1) الترمذي (3380).

وترفَّان بتمجيده. 2 - وأما الحديث رقم (1345) فإنَّه يدل على أنَّ أنجى عمل ينجي العبد من عذاب الله هو ذكر الله تعالى؛ فإنَّه وقاية تامة، وحصن حصين من العذاب يوم القيامة، فملازمة ذكر الله تعالى أمان من عذاب الله، وحرز من غضبه ونقمته. 3 - وأما الحديث رقم (1346) فيدل على فضل مجالس الذكر، وأنَّها المجالس التي تحفها الملائكة وتحضرها، رضًا بها، ومحبةً لأهلها, وليخبروا ربهم عنها، وهو أعلم بها منهم، ويذكُرهم الله تعالى فيمن عنده في الملأ الأعلى، فيباهي بهم ملائكته، ويُشْهدهم على أنَّه غفر لعباده، وأعطاهم سؤالهم من مرضاته، وأنجاهم مما حذروا منه من عذابه، وأعطاهم ما أمَّلوه من جنته. 4 - وأما الحديث رقم (1347) فإنَّه يدل على ندامة وخسارة القوم الذين يقعدون مقعدًا، ثم يقومون منه، ولم يجر على قلوبهم ولا على ألسنتهم ذكر الله تعالى، ولا ذكر رسوله والصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّ هذه المجالس الخالية من ذكر الله، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ستكون عليهم حسرة يوم القيامة؛ لأنَّهم خسروه، ولم يستفيدوا منه. هذا إن كان مجلسًا مباحًا لم تجر فيه غِيبةٌ، ولا سَبٌّ، ولا شتمٌّ، ولم يُؤتَ فيه بألفاظ محرَّمة. وأما إن كان مجلس شرٍّ ولهو، فهي الطامَّة الكبرى على أهله. 5 - معية الله تعالى مع خلقه نوعان: عامة وخاصة: فأما المعية العامة: فهي التي بمعنى الإحاطة، والاطلاع، والمراقبة، والعلم، وهذه هي المعية التي مع جميع خلقه. وأما المعية الخاصة: فهي التي بمعنى النصر، والحفظ، والإعانة؛ وهذه معية خاصة بعباده المؤمنين.

6 - ومذهب أهل السنة والجماعة: أنَّ معيَّة الله تعالى لا تقتضي أن يكون الله تعالى حالاًّ في أمكنة من هو معهم، ولا أنَّه مختلط بهم؛ فهذا معنى باطل يذهب إليه الحلولية. فأهل السنة يرون أنَّه تعالى: عالٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، له العلوُّ الكامل: علو الذات، وعلو الصفة، وعلو القدر، ولا تكاد تحصر أدلة هذه المسألة. 7 - أنَّ أفضل الذكر هو ما نطق به اللسان، واستحضره القلب، وإلاَّ فيكون ذكر في القلب فقط، أو في اللسان فقط، ولكن هذا هو أفضلها. 8 - إنَّ ذكر الله تعالى من أقوى الأسباب في النجاة من عذاب الله. 9 - يدل الحديث (1345) على أنَّ أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وغيرها، أنَّها كلها واقعة بإرادتهم وقدرتهم، وأنَّهم لم يُجبروا عليها، بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم من القدرة، والإرادة، والأعضاء. وأنَّ الأمور كلها واقعة بقضاء الله وقدره، فلا يخرج شيء عن مشيئته، وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وأنَّه لا منافاة بين الأمرين، فالحوادث كلها بمشيئة الله وإرادته، والعباد هم القائمون بأفعالهم المختارون لها. 10 - ويدل الحديث رقم (1346) على أنَّ الملائكة يطوفون في الأرض لسماع القرآن، وحضور مجالس الذكر، وإعلام ربهم عن ذلك لحكمته، وإلاَّ فهو أعلم منهم بخلقه، وأنّهم يحفُّون مجالس الخير، وحِلَقَ العلم، وبيوتَ الله تعالى. 11 - ويدل الحديث على فرح الله تعالى بطاعة خلقه له، وعبادتهم إيَّاه، مع غناه عنهم وعن عباداتهم، ولكنه يرضى ذلك لعباده؛ لكمال فضله ورحمته بعباده، وتحقيق حكمته من خلق عباده.

12 - ويدل الحديث رقم: (1347) على فضل ذكر الله تعالى، وفضل الصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنَّ المجلس الذي يفقد ذلك، فهو مجلس مشؤوم على أهله، وبالٌ عليهم. 13 - ويدل على حفظ الوقت والحرص عليه، وعدم إضاعته فيما لا ينفع ولا يفيد، وأنَّ الواجب هو المحافظة عليه، وأن لا يمر إلاَّ بحصول فائدة وإيداعها فيه، وأنَّ أفضل ما تنفق فيه الأوقات، ويصرف فيه هو ذكر الله تعالى، وأنَّ مِنْ ذكر الله: مجالسَ العلم، وتعلَّمَ أحكام الله تعالى من أصول الدين وفروعه. ***

فوائد ذكر الله تعالى

فوائد ذكر الله تعالى هذه الفوائد ملَّخصة من كتاب "الوابل الصيب" لابن القيم، رحمه الله تعالي: 1 - أنَّه يطرد الشيطان، ويقمعه، ويكسره. 2 - أنَّه يرضي الرحمن، عزَّ وجل. 3 - أنَّه يزيل الهم والغم عن القلب. 4 - أنَّه يجلب للقلب الفرح، والسرور، والنشاط، والحبور. 5 - أنَّه يقوِّي القلب والبدن. 6 - أنَّه ينوِّر القلب والوجه. 7 - أنَّه يجلب الرزق. 8 - أنَّه يكسو الذاكر الجلالة، والمهابة، والنضرة. 9 - أنَّه يورث المحبة التي هي روح الإِسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة؛ فقد جعل الله لكل شيءٍ سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر؛ فمن أراد أن ينال محبة الله، فليلهج بذكره. 10 - أنَّه يورث الإنابة، وهي الرجوع إلى الله، فمن أكثر الرجوع إلى الله بذكره، أورثه ذلك رجوعه بقلبه في كل أحواله، فيبقى الله عزَّ وجل مفْزَعه، وملجأه، وملاذه، ومهربه عند النوازل والبلايا. 11 - أنَّه يورث القُرْبَ من الله تعالى، فعلى قدر ذكره لله يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بُعْده عنه. 12 - أنَّه يفتح له بابًا من أبواب المعرفة، وكلما أكثر من الذكر، ازداد من المعرفة.

13 - أنَّه يورث ذكر الله لعبده؛ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. ولو لم يكن في الذكر إلاَّ هذه وحدها, لكفى به شرفًا وفضلاً. 14 - أنَّه يحطُّ الخطايا ويذهبها؛ فإنَّه من أعظم الحسنات، والحسنات يُذهبن السيئات. 15 - أنَّه يزيل الوحشة التي بين العبد وربه، وهي لا تزول إلاَّ بالذكر. 16 - أنَّه منجاة من عذاب الله، وأنه سبب نزول السكينة وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذكر. 17 - أنَّه سبب اشتغال اللسان عن الغِيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل، وسائر معاصي اللسان؛ فمن عوَّد لسانه ذكر الله، صان لسانه عن الباطل واللغو، ومَن يبس لسانه عن ذكر الله، ترطَّب بكل لغو وباطل وفحش، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله. وفي حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل كلام ابن آدم عليه إلاَّ أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله" [رواه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974) وقال الترمذي: هذا حديث غريب]. 18 - أنَّه أيسر العبادات، وهو مِن أجَلِّها، وأفضلها، وأكرمها على الله؛ فإنَّ حركة اللسان أخف حركات الجوارح، ولو تحرَّك عضو من أعضاء الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة اللسان، لَشَقَّ عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك. 19 - أنَّه غِرَاس الجنة؛ ففي حديث ابن مسعود يرفعه: "إنَّ الجنَّةَ طيبة التربة عذبة الماء، وإنَّها قيعان، وإنَّ غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبر" [رواه الترمذي (3462) وقال: حديث حسن غريب]. وعند الترمذي (3464) من حديث جابر مرفوعًا: "من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِست له نخلة في الجنة" وقال: حديث صحيح.

20 - أنَّ العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال؛ كما دلت على ذلك أحاديث فضل التسبيح، والتحميد، والتهليل، وغيرها. 21 - أنَّ دوام ذكر الرب يوجب الأمان من نسيانه الذي هو شقاء العبد في معاشه ومعاده؛ قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر]، فلو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلاَّ هذه الفائدة، لكفى بها. قال في الكلم الطيب: سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، يعني: ذكر الله وامتلاء القلب بمحبته، والفرح والسرور به. ففيه: ثواب عاجل، وجنة حاضرة، وعيشة مرضية، لا نسبة لعيش الملوك إليها ألبتة، وفي النسيان والإعراض عنه: هموم، وغموم، وأحزان، وضيق، وعقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنَّم حاضرة، أعاذنا الله منها. 22 - أنَّ الإتيان بالذكر عمل يسير يأتي به العبد، وهو قاعد على فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه، ولذته، ومعاشه، وقيامه، وقعوده، واضطجاعه، وسفره، وإقامته، فليس في الأعمال شيء يعم الأوقات والأحوال مثله؛ حتى إنَّه يسيرٌ على العبد، وهو نائم على فراشه، فيسبق القائمَ مع الغفلة؛ وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء. 23 - أنَّ مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس لهم في مجالس الدنيا مجلس إلاَّ هذا المجلس، وفيه حديث أبي هريرة في البخاري (6408) ومسلم (2689) وفيه: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم". ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكلٌّ يضاف إلى شكله وأشباهه. 24 - أنَّ الله عزَّ وجل يباهي ملائكته بالذاكرين؛ كما في حديث أبي سعيد

الخدري عند مسلم، وهذه المباها؛ دليلٌ على شرف الذكر عنده، ومحبته له، وأنَّ له مزية على غيره من الأعمال. 25 - أنَّ جميع الأعمال إنَّما شرعت لإقامة ذكر الله؛ فالمقصود بها تحصيل ذكر الله؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه:]، والأظهر: أنَّها لام التعليل، أي: لأجل ذكري. 26 - أنَّ إدامة الذكر تنوب عن التطوُّعات، وتقوم مقامها، سواء أكانت بدنية، أو مالية، أو بدنية مالية؛ كحج التطوع، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة وفيه: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى" [رواه البخاري (843) ومسلم (595)]؛ فجعل الذكر فيه عوضًا لهم عما فاتهم من الحج، والعمرة، والجهاد، والصدقة، أنهم يسبقون بهذا الذكر. 27 - أنَّ الذكر يسهِّل الصعب، وييسِّر العسير، ويخفِّف المشاق، فقلَّما ذكر الله على صعب إلاَّ هان، ولا عسير إلاَّ تيسر، ولا مشقة إلاَّ خفت، ولا شر إلاَّ زال، ولا كربة إلاَّ انفرجت، فذكر الله هو الفرج بعد الشدة، واليُسر بعد العسر، والفرج بعد الهم أو الغم. 28 - أنَّ الذكر يُذهب عن القلب مخاوفه، وله تأثير عجيب في حصول الأمن, فليس للخائف الذي اشتد خوفه أنفع من ذكر الله، حتى كأنَّ المخلوق يجدها أمانًا له، والغافل خائف مع أمنه، حتى كأنَّ ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن لَهُ أدنى حسٍّ شعر بهذا؛ فقد جُرِّب هذا. 29 - أنَّ الذكر يعطي الذاكر قوَّة؛ حتى إنَّه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه. قال ابن القيم: وقد شاهدت من قوَّة شيخ الإِسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوَّته في الحرب أمراً عظيمًا، وقد

علَّم النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَتَه فاطمةَ وعليًّا التسبيح، والتكبير، والتحميد، كل واحد منها ثلاثًا وثلاثين، لمَّا شكَت إليه ما تلقى من الطحن، والسقي، والخدمة، وقال: "إنَّه خير لكما من خادم". 30 - أنَّ في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع، تكثيرَ الشهود للعبد يوم القيامة؛ قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة]، وفي حديث أبي هريرة يرفعه: "أخبارها: أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا" [أخرجه الترمذي (2429) وقال: الحديث حسن صحيح]. إلى غير ذلك من الفوائد. ***

1348 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: لاَ إِللهَ إلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِن وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - "لا إلله إلاَّ الله": هي نفي الإلهية عن كل ما سوى تعالى كائنًا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون أحد سواه. وهذا هو التوحيد الذي أُرْسِلَت به الرسل، ونزلت من أجله الكتب. قال الوزير: وجملة الفائدة في ذلك: أنْ تَعْلَمَ أنَّ هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنَّك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنتَ ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله. وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلاَّ الله، ولم يعلم معناها، ولم يعمل بمقتضاها: أنه يقاتل حتى يعمل بما دلَّت عليه من النفي والإثبات. 2 - "وحده لا شريك له": هذا تأكيد وبيان لمضمون معنى لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله. 3 - قال شيخ الإِسلام: وقد علم بالاضطرار من دين الإِسلام، واتَّفقت عليه الأمة: أنَّ أصل الإِسلام، وأول ما يؤمن به الخلق: شهادة أن لا إلله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًّا، والمباح دمه معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه، فقد دخل في الإيمان, ¬

_ (¬1) البخاري (6404)، مسلم (2693).

وإن قاله بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإِسلام دون باطن الإيمان. وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة، فهو كافر باتفاق المسلمين باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير العلماء. وقال الشيخ أيضًا: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمَّن إثبات الإلهية، بأن يشهد أن لا إلله إلاَّ الله؛ فلا يعبد إلاَّ إيَّاه، ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يوالي إلاَّ له، ولا يعادي إلاَّ فيه، ولا يعمل إلاَّ لأجله. وليس المراد بالتوحيد مجرَّد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أنَّ الله وحده خلق العالم؛ كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنَّهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل، فقد أثبتوا غاية التوحيد؛ فإنَّ الرجل لو أقرَّ بما يستحقه الرب من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقرَّ بأنَّه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدًا حتى يشهد أن لا إلله إلاَّ الله وحده. 4 - هذه الكلمة العظيمة: إذا قالها العبد المسلم في صباحه عشر مرات، وفي مسائه عشر مرات، كما جاء في المسند (23007): "من قال إذا صلى الصبح لا إله إلاَّ الله عشر مرَّات كانت تعدل أربع رقاب، وإذا قالها بعد المغرب، فمثل ذلك" -نال هذا الأجر العظيم، وهو ثواب عِتْق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، عليه السلام. 5 - وفي الحديث جواز استرقاق العرب الرق الشرعي. 6 - وفي الحديث إثبات فضيلة ذوي الأنساب الرفيعة؛ كما جاء في صحيح البخاري (3374)، ومسلم (2378): "خياركم في الجاهلية خياركم في الإِسلام إذا فَقُهُوا". 7 - وفي الحديث فضيلة هذا الذكر الذي هو أساس الإِسلام وأصله، والذي هو الباب الوحيد إلى الدخول في الإِسلام. ***

1349 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائه مَرَّةٍ، حُطَتْ عَنهُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: - حُطَّتْ خطاياه: مبني للمجهول، يعني: وُضِعت عنه ذنوبه، ومحيت، وأزيلت، بالعفو والمغفرة. - زَبَد البحر: بفتحتين، رغوته عند هيجانه، وهو كناية عن الكثرة. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه فضل هذا الذكر المشتمل على تسبيح الله تعالى، وتنزيهه عما لا يليق به من النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقات. 2 - كما يشتمل على إثبات المحامد له تعالى في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهو الحي الكامل الحياة التي لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال. 3 - فمن سبَّح الله وحمده مائة مرَّة في اليوم والليلة، نال هذا الأجر الكبير؛ وذلك بأن تحط عنه ذنوبه وخطاياه، وإن كانت كثيرة مثل زيد البحر؛ وهذا فضل عظيم، وعطاء جزيل. 4 - العلماء يقيِّدون هذا وأمثاله بصغائر الذنوب، وأما الكبائر فيقولون: إنَّها لا يمحوها, ولا يكفرها إلاَّ التَّوبة النصوح. أما النووي فقال: إنه إذا لم يوجد صغائر، فإنَّه يرجى أن تخفف الكبائر. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6405)، مسلم (2691).

1350 - وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبعَ كلِمَاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مِنْذُ اليَوْمِ، لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَد خَلقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كلِمَاتِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - بعدك: بكسر الكاف؛ لأنَّ الخطاب لجويرية بنت الحارث أم المؤمنين -رضي الله عنها- ومعنى بعدك، أي: بعد خروجي من عندك. - لو وُزِنَت: بالبناء للمفعول بصيغة الغائبة. - لوزَنتْهُنَّ: بالبناء للمعلوم، أي: لرجحت عليهن في الوزن. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - تمام الحديث: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج من عند زوجه أم المؤمنين جويرية بنت الحارث حين صلَّى الصبح، وهي في مسجد بيتها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فيه، فقال: "ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: لقد قُلتُ بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ، لوزنتهنَّ". 2 - قوله: "لوزنتهن" يعني: لعدلتهن وغلبتهن؛ فهي أكثر وأرجح مما قلتِ باعتبار معنى ما قلت؛ إذ هي واقعة على أذكار كثيرة جدًّا، وشاملة لأعداد كبيرة. 3 - قال العز بن عبد السلام عن الذي يأتي في التسبيح بلفظ يفيد عددًا كثيرًا؛ ¬

_ (¬1) مسلم (2726).

كقوله: "سبحان الله عدد خلقه"، هل يستوي أجره في ذلك، وأجر من كرر التسبيح قدر ذلك العدد؟ فأجاب: قد يكون بعض الأذكار أفضل من بعض لعمومها وشمولها، واشتمالها على جميع الأوصاف السلبية، والذاتية، والفعلية؛ فتكون السلبية من هذا النوع أفضل من الكثير من غيره. قال ابن علان: وصريح كلام العز بن عبد السلام: أنَّ أجر التكرار إذا اتَّحد النوع أفضل، ولا إشكال فيه؛ لئلا يلزم الأوصاف، وذلك مما تأباه قواعد الشرع الشريف. وقال الجويني: لو نذر أن يصلي مائة ألف صلاة، لا يخرج من عهدة نذره بصلاة واحدة بالحرم المكي، وإن كانت تعدلها من حيث الثواب. ومثله سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، فلا يخرج من عهدة نذره لو قرأها ثلاث مرَّات، عن نذره قراءة القرآن كله. 4 - قوله: "سبحان الله وبحمده" جملة جمعت بين تنزيه الله تبارك وتعالى عن النقائص والعيوب، وإثبات الكمال المطلق لله تعالى، وذلك بالإقرار بمحامده التي لا نهاية لعدها وإحصائها. 5 - قوله: "ورضا نفسه" يعني: يسبح ويحمد الله تعالى تسبيحًا وحمدًا -لكمالهما وإخلاصه فيهما- رِضا نفس الباري تعالى؛ فإنَّه تعالى لا يرضى من الأعمال إلاَّ ما ابتغي به وجه الله تعالى. 6 - قوله: "وزنة عرشه" يعني: سبحان الله وبحمده تسبيحًا وحمدًا لو وزن لكان بكثرته وعظمته بقدر العرش العظيم. 7 - قوله: "ومِدَاد كلماته" يعني: وله التسبيح والتحميد بعدد كلماته التي لو جعلت البحار مدادًا، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله تعالى وحكمته، ولو جيء بمثل البحر مدادًا، فكلامه وحكمته جلَّ وعلا لا تنفد؛ فله الحمد

والتنزيه عن كل ما يزيد عدد، وقدر هذه الأعداد الكثيرة، والعظيمة، والساحات الواسعة. 8 - حصل الترقي من عدد الخلق إلى رضا النفس، ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات. قال القرطبي: ذكر -صلى الله عليه وسلم- هذه على جهة الكثرة التي لا تنحصر فيها؛ على أنَّ الذاكر لله تعالى بهذه الكلمات ينبغي له أن يكون بحيث لو تمكَّن من تسبيح الله، وتحميده، وتعظيمه عددًا لا يتناهى, ولا ينحصر، لفعل ذلك، فيحصل له من الثواب ما لا يدخل في حساب. ***

1351 - وَعنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. صحَّحه ابن حبان، والحاكم في المستدرك، ووافقه الذَّهبي، والسيوطي في الجامع الصغير؛ لكن فيه درَّاج عن أبي الهيثم وهو ضعيف، لكن له شواهد عند الطبري، وذكرها السيوطي في الدر المنثور, فجعل الحديث حسنًا؛ ولذا قال الهيثمي: إسنادهُ حسن. * مفردات الحديث: - الباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة التي لصاحبها أجرها وثوابها أبد الآباد. - لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله: قال أهل اللغة: الحول: الحركة والحيلة، أي: لا حركة، ولا استطاعة، ولا حيلة إلاَّ بمشيئة الله تعالى؛ فلا حول في دفع شر، ولا قوَّة في تحصيل خير، إلاَّ بالله تعالى. ... ¬

_ (¬1) النسائي في عمل اليوم والليلة كما في التحفة (3/ 362)، ابن حبان (840)، الحاكم (1/ 512).

1352 - وَعنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الكَلاَمِ إِلَى اللهِ أَرْبعٌ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). 1353 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ النَّسَائيُّ: "لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلاَّ إلَيْهِ" (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: زيادة النسائي صحيحة. قال الحافظ ابن حجر: أخرجه النسائي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم. وقال الحافظ العراقي: أخرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وصحَّحه من حديث أبي سعيد، والنسائي، والحاكم، من حديث أبي هريرة دون قوله: "ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله". قال المنذري: رواته ثقات محتج بهم، وقال الحافظ في الفتح: سنده قوي. * مفردات الحديث: - كنز: يقال: كنز المال يكنزه كنزًا: جَمَعَهُ وادَّخره، والكنز: هو المال ¬

_ (¬1) مسلم (2137). (¬2) البخاري (6384)، مسلم (2704)، النسائي في عمل اليوم والليلة (356).

المدخر، جمعُهُ: كنوز. - لا ملجأ: يقال: لجأ يلجأ لجأً: لاذ واعتصم، فالملجأ هو مكان اللجوء. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - قوله: "الباقيات الصالحات" يعني: الأعمال الصالحة من أعمال الخير يبقى ثوابها محفوظًا عند الله تعالى لصاحبها أبدًا، بخلاف زينة الحياة الدنيا؛ فإنَّها زائلة. جاء هذا الحديث في مسند الإِمام أحمد، برواية أخرى، عن أبي سعيد الخدري؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله". 2 - قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله تعالى-: "الباقيات الصالحات تشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة، من حقوق الله، وحقوق عباده؛ من صلاة، وزكاة، وصدقة، وصيام، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتهليل، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبرِّ الوالِدين، وقيام بحقوق الزوجات، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فثوابها يبقى، ويتضاعف بعد الإدبار، ويؤمَّل أجرها، ونفعها عند الحاجة ... ". 3 - فقوله: "لا إلله إلاَّ الله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله" نموذجٌ كريمٌ للأعمال الصالحة، ومثالٌ طيِّبٌ لأحسن ما يدخل فيها من عملٍ كريمٍ؛ لأنَّ هذه الكلمات الطيبات أحب الكلام إلى الله تعالى، "ولا حول ولا قوَّة إلاَّ باللهِ" كنز من كنوز الجنة الثمينة. 4 - هذه الجمل الكريمة تكاثرت الأحاديث في فضلها، وجاءت الأخبار الصحيحة في ثمارها، التي منها أنَّها رضا الرحمن، وأنَّها تسبب للعبد

القرب من ربه، وأنَّ ربه يذكره في نفسه، وفي الملأ الأعلى، فيباهي ملائكته بالذاكرين، وأنَّها أفضل الذكر، وأنَّها غِراس الجنة، وهي سهلة النطق، كثيرة الأجر، عظيمة النفع. 5 - أما معانيها: "فسبحان الله": هي تقديسه وتنزيهه عن العيوب والنواقص، وأعظم ما في ذلك: نفي الشريك له في ربوبيته، وإلاهيته، ونفي الشبيه له في أسمائه الحسنى وصفاته العلى. وأما "الحمد لله": فإثبات جميع المحامد له، التي أهمها إثبات وحدانيته في إلاهيته وربوبيته، وإثبات ما جاء في كتابه وعلى لسان رسوله من الصفات الذاتية والفعلية، من غير تأويل لها, ولا تحريف، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وإنما نثبت حقيقة الصفة له، وندع علم كيفيتها إليه تعالى. وأما "لا إلله إلاَّ الله": فهي الكلمة العظيمة التي هي مفتاح الإِسلام وبابه، وهي عنوانه، وعلامته، وشارتُهُ، وهي الكلمة التي تنفي كل العبادة عن جميع المخلوقات، وتثبتها لله وحده لا شريك له؛ فلا معبود بحق سوى الله تعالى. وأما "الله أكبر": فهي تثبت استحقاق الله وحده لصفات الجلال والعظمة والكبرياء. 6 - قوله: "لا يضرك بأيهنَّ بدأت": فهذا دليل على جواز البداءة بأية جملة منهنَّ؛ لكن بالنظر إلى معاني هذه الجمل، فلعلَّه يحسن أن يقدِّم الذاكر: "سبحان الله"؛ لأنَّه تنزيه الله عن النقائص؛ فهو تخلية. ثم "الحمد لله"؛ فهذا تحلية بعد تخلية، وهو إثبات المحامد، بعد التخلية من النقص. ثم "لا إله إلاَّ الله"؛ فهذه نفي للمشاركة في المحامد الثابتة لله تعالى. ثم "الله أكبر" فهو بعد التنزيه، وإثبات المحامد، ونفي الشريك:

يستحق الإجلال، والإكبار، والتعظيم. 7 - أما "لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله": فهي أنَّ العبد يتبرأ من كل حول، ومن كل قوَّة، ومن أي استطاعة، إلاَّ أن يكون المعين هو الله عزَّ وجل؛ فهو صاحب الحول الكامل، وصاحب الطَّوْل والقوَّة. وهذه الجملة الكريمة تثبت أنَّ للعبد إرادةً وقدرة حقيقتين، وفعلاً حقيقةً يفعل بها ما يشاء، ولكنها إرادة ومشيئة لا تخرج عن إرادة الله تعالى ومشيئته؛ فالله يطلب من عبده العمل الصالح، والعبد يريده ويعلمه، ويسأل الله الإعانة عليه، ويتبرأ من حوله وقوَّته وحده، ويضيفها إلى الله تعالى. ***

باب الدعاء

باب الدعاء مقدمة الدعاء: بالمد، قال في المصباح: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبتُ فيما عنده من الخير. والدعاء نوعان: 1 - دعاء مسألة. 2 - دعاء عبادة. والمراد هنا هو الأول. قال ابن القيم في الجواب الكافي: الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل، أو يخفِّفه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن. فإذا اجتمع مع الدعاء حضورُ القلب، وجمعيَّته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذُلًّا له، وتضرعًا، ورقةً، واستقبال القبلة، وكان على طهر، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بالحمد، والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمَّد عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدَّم بين دعاء رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة-: فإنَّ هذا الدعاء لا يكاد يرد.

لاسيَّما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّها مظنة الإجابة، وأنَّها متضمنة للاسم الأعظم. ولكن يهمنا أمر يجب التفطُّن له، وهو أنَّ الدعاء قد يتخلَّف أثره عن الداعي: إما لضعفه في نفسه، بأن يكون الدعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله وقت الدعاء، وإما لحصول مانع من الإجابة، من أكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشَّهوة. ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء: أن يستعجل العبد، فيتباطأ الإجابة، فيحسر، ويدع الدعاء؛ ففي صحيح البخاري (6340) وصحيح مسلم (2735)؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يُسْتَجَبْ لي". نسأل الله تعالى أن يقبل دعاءنا، ويصلح أعمالنا، إنَّه حميد مجيب، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ***

1354 - وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبادَةُ" رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1). وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: "الدُّعَاءُ مُخُّ العِبادَةِ" (¬2). ولَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَفَعَهُ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءَ" وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬3). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: حديث النُّعمان صحيح، وحديث أنس ضعيف. قال النووي عن حديث النعمان: أسانيده صحيحة. قال الشيخ صديق بن حسن في نزل الأبرار: رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن حبَّان، وصحَّحه الحاكم، والترمذي، أخرجه هؤلاء من حديث النُّعمان بن بشير بلفظ: "الدعاء هو العبادة". وأخرج الترمذي من حديث أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء منع العبادة". وقوله: "هُوَ العبادة" المقتضي للحصر، والآيةُ الكريمة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، تدل على أنَّ الدعاء من العبادة. ¬

_ (¬1) أبو داود (1479)، الترمذي (3247)، النسائي في الكبرى (6/ 450)، ابن ماجه (3828). (¬2) الترمذي (3371). (¬3) الترمذي (3375)، ابن حبان (870)، الحاكم (1/ 490).

وخلاصة القول: هو ما ذكره الحافظ العراقي بقوله: حديث النُّعمان بن بشير: أنَّ الدعاء "هو العبادة" أخرجه أصحاب السنن, والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأما حديث: "الدعاء مخ العبادة" فأخرجه الترمذي من حديث أنس، وقال: غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلاَّ من حديث ابن لهيعة. وضعَّفه السيوطي في الجامع الصغير. وأما حديث أبي هريرة: فرواه أحمد، والترمذي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم. * مفردات الحديث: - مُخُّ العبادة: بضم الميم، وتشديد الخاء، قال في المصباح: خالص كل شيء مخه، ومخ العبادة: خالصها وأصلها؛ لما فيه من امتثال أمر الله تعالى؛ لقوله: {ادْعُونِي}. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - اللفظ الأول: "الدعاء هو العبادة" أثبت أنَّ دعاء الله تعالى هو أصل عبادته التي تعبَّد الله بها خلقه، وخَلَقَهم من أجلها؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]. وأما اللفظ الثاني: "الدعاء مخ العبادة" فأثبت أنَّ خالص العبادة وروحها هو دعاء الله تعالى؛ لأنَّ فيها امتثال أمره بقوله: {ادْعُونِي} ذلك أنَّ طالب الحاجة إذا علم أنَّ نجاح أموره لا يكون إلاَّ من الله تعالى، انقطع عما سواه، وأفرده، وأخلص له الدعاء بطلب الحاجات منه. 2 - وأما قوله: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء": فقد جاء في هذا المعنى الكريم نصوص كثيرة، منها: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

[البقرة: 186]، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه]. وجاء في سنن أبي داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) من حديث سلمان الفارسي؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله تعالى يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما، فيردهما خائبتين". وجاء في صحيح مسلم (2675) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني". 3 - الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ ويراد به في القرآن هذا تارةً، وهذا تارةً أخرى، وقد يراد مجموعهما: فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي، من طلب نفع، أو كشف ضر. وأما دعاء العبادة: فهو التوسل إلى الله تعالى لحصول مطلوبه، أو كف الشر عنه؛ بإخلاص العبادة له وحده. 4 - قال شيخ الإِسلام: الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. وكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكلٍ دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة؛ قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]. وأمثال هذا في القرآن كثير في دعاء المسألة، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأنَّ السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك ذاكر الله، والتالي لكتابه، فهو طالب من الله في المعناة فيكون دعاء عبادة. 5 - وقال الشيخ -أيضًا-: المنتسب إلى الإِسلام في هذه الأزمان قد يمرق من الإِسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشايخ، أو الغلو في علي بن أبي طالب، أو الغلو في المسيح، فكلُّ من غلا في نبيٍّ، أو رجلٍ صالحٍ، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، حتى إنَّه يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، يستتاب، فإن تاب وإلاَّ

قُتِل؛ فإنَّ الله سبحانه إنَّما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليُعْبَدَ وحده لا شريك له، ولا يُدْعَى معه آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنَّها تخلق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] , ويقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. 6 - وقال ابن القيم: ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الميت، والاستعانة به، والتوجه إليه؛ وهذا أصل شرك العالم؛ فإنَّ الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلاً عمَّن استغاث به، أو مسألة أن يشفع له إلى الله تعالى. ***

1355 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِىَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ لاَ يُرَدُّ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: صحيح الإسناد. قال المناوي في فيض القدير: حسَّنه الترمذي، وقال العراقي: رواه النسائي في اليوم والليلة بإسناد جيد، وابن حبان، والحاكم وصححه. * مفردات الحديث: - الدعاء: أصله "دعاو" فألفه واو، فهو من دعوت، إلاَّ أن الواو لما جاءت بعد الألف صارت همزة، والدعاء: واحد الأدعية، ومعنى دعوت الله: ابتهلت إليه بالسؤال. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث فيه الحث على الدعاء، وسؤال الله تعالى حاجات العبد ومطالبه؛ فقد قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى في الحديث القدسي: "مَن يدعوني فَأَسْتَجِيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" [رواه البخاري (1145) ومسلم (758)]. 2 - ويدل الحديث على أنَّ ما بين الأذان وإقامة الصلاة وقتٌ فاضل يستجاب فيه الدعاء، ويسمع فيه النداء؛ فينبغي اغتنامه وسؤال الله تعالى فيه، لعلَّه أن يستجيب لعبده دعوة لا يشقى بعدها أبدًا. ¬

_ (¬1) النسائي في عمل اليوم والليلة ص (168)، ابن حبان (1696).

3 - الحكمة في استجابة الدعاء في هذا الوقت -والله أعلم- أنَّ الإنسان ما دام ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والصلاة موطن استجابة الدعاء؛ لأنَّ العبد يناجي ربه فيها. 4 - قال شيخ الإِسلام: الدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلِّقة بالصلاة إنَّما فعلها -صلى الله عليه وسلم- فيها، وأمر بها فيها، وهو اللائق بحال المصلي المقبل على ربه يناجيه، فيستحيب من الدعاء أحبه إليه، وليكن بخشوع وأدب، فإنَّه لا يستجاب الدعاء من القلب الغافل. ***

1356 - وَعنْ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَبكمْ حَييٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إِلاَّ النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: صحيح الإسناد. قال صديق بن حسن: أخرجه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه, والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث سلمان، وأخرجه أيضًا البيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث أنس. وقال الذَّهبي: هذا حديث مشهور رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدد من الصحابة، منهم: علي، وابن عمر، وأنس. * مفردات الحديث: - حَييٌّ: يقال: حَيِيَ منه حياءً، فهو حَيِيٌّ، والحياء: صفة ثابتة لله تعالى، نؤمن بحقيقتها على ما يليق بجلاله، ونكل علم كيفيتها إلى الله. - صِفْرًا: بكسر الصاد، أي: خالية، والمعنى: لم يعطه ما مسألة. قال في المصباح: صِفْر وزانُ حِمْلٍ، وهو صفر اليدين ليس فيهما شيء، مأخوذ من الصفير: وهو الصوت الخالي عن الحروف. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - الحديث يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ورفع اليدين بالدعاء من ¬

_ (¬1) أبو داود (1488)، الترمذي (3556)، ابن ماجه (3865)، الحاكم (1/ 497).

المسائل التي تواترت فيها الأحاديث تواترًا معنويًّا؛ فقد روي منها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو مائة حديث، لكنَّها في مواضع مختلفة، فكل واحد منها لم يتواتر لفظًا، وإنما القدر المشترك بينها هو رفع اليدين في الدعاء؛ فهو متواتر باعتبار مجموع الطرق الدال كل منها على مسألة بعينها. 2 - حكمة رفع اليدين أثناء الدعاء: إظهار الافتقار والفاقة أمام الغني الكريم، وتفاؤلاً في أن يضع فيهما جلَّ وعلا الحاجة المطلوبة منه. 3 - لذا فإنَّه من كرمه، وجوده، وعطفه على عبده السائل يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خاليتين من العطاء؛ فإنَّه يجود عليه، فيعطيه حاجته، ومطلبه؛ فهو الكريم الجواد. ***

فصل في اداب الدعاء

فصل في اداب الدعاء قال النووي في الأذكار: إنَّ المذهب المختار الذي عليه الفقهاء، والمحدِّثون، وجماهير العلماء من الطوائف كلها، من السلف والخلف: أنَّ الدعاء مستحبٌّ؛ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. 1 - فمن آدابه -وهو آكدها-: تجنب الحرام مأكلًا، وملبسًا، ومشربًا، ووجه ذلك: أنَّ ملابسة المعصية مقتضية لعدم الإجابة، إلاَّ إذا تفضَّل الله على عبده، وهو ذو الفضل العظيم. 2 - ومنها: الإخلاص لله، وهذا الأدب هو أعظم الآداب في إجابة الدعاء؛ لأنَّ الإخلاص هو الذي تدور عليه دوائر الإجابة، وقال عزَّ وجل: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، فمتى دعا ربه غير مخلص، فهو حقيق بأن لا يُجاب له، إلاَّ أن يتفضل الله عليه، فهو ذو الفضل العظيم. 3 - ومنها: الوضوء. 4 - ومنها: استقبال القبلة؛ ووجه ذلك: أنَّها الجهة التي يتوجه إليها العابدون لله عزَّ وجل، والعابدات له، والمتقربات، والمتقربون إليه. 5 - ومنها: الثناء على الله عزَّ وجل. 6 - ومنها: الصلاة على نبيه -صلى الله عليه وسلم-. 7 - ومنها: بسط اليدين، ورفعهما حذو المنكبين. 8 - ومنها: التأدب، والخشوع، والمسكنة، والخضوع، وهذا المقام أحق المقامات بهذه الأوصاف؛ لأنَّ المدعو هو رب العالم، وخالق الخلق، ورازق الكل، وفي ذلك تسبُّب للإجابة؛ لأنَّ العبد إذا خشع وخضع، رحمه

الله، وتفضل عليه بالإجابة ومن ذلك: قول الله عزَّ وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]. 9 - ومنها: أن يسأل الله بأسمائه العظام الحسنى، وبالأدعية المأثورة؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. 10 - ومنها: الاعتراف بالذنوب. 11 - ومنها: أن يسأل بعزمٍ ورغبةٍ، وجدٍّ واجتهادٍ. 12 - ومنها: إحضار القلب، وتحسين الرجاء. 13 - ومنها: تكرير الدعاء، والإلحاح فيه. 14 - ومنها: أن لا يستعجل، فيقول: قد دعوت فلم يُسْتجب لي، ووجهه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَال: "يُسْتَجَابُ لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي". 15 - ومنها: أن يترصد الأوقات الشريفة. 16 - ومنها: أن يغتنم الأحوال الشريفة؛ كحالة السجود، ونزول الغيث. 17 - ومنها: أن يدعو بلسان الذلَّة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق. ***

فصل في أوقات الإجابة وأحوالها

فصل في أوقات الإجابة وأحوالها منها: ليلة القدر، ومنها: يوم عرفة، ومنها: شهر رمضان، ومنها: ليلة الجمعة، ومنها: يوم الجمعة، وساعة الجمعة. ومنها: جوف الليل؛ يدل عليه ما أخرجه الترمذي (3499) وحسنه من حديث أبي أمامة قال: "قيل: يا رسول الله! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل، ودبر الصلوات". والدبر يشمل الدعاء بعد التشهد الأخير في نفس الصلاة، وبعد التحلل منها بالسلام. ومنها: عند النداء بالصلاة؛ لما أخرج مالك في الموطأ (155)، وأبو داود (2540) من حديث سهيل بن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلتحم بعضهم بعضًا". وبين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات المكتوبات، وفي السجود. ***

1357 - وَعنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ في الدُّعَاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬1)، وَلَهُ شَواهِدُ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ (¬2)، وَمَجْمُوعُهَا يَقْضِي بِأَنَّهُ حَدِيث حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الحافظ: حديث حسن، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ضعيف. قال الشيخ صديق بن حسن: أخرجه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب، قال: كان -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه. قال النووي: في إسناد كل واحد رجل ضعيف، وقول الحافظ عبد الحق: إنَّ الترمذي قال في الحديث الأول: إنَّه حديث صحيح، فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي أنَّه صحيح، بل قال: حديث حسن غريب. قلتُ: ولكن الغريب قد يكون من أنواع الصحيح، وله شواهد مجموعها يعضد بعضها بعضاً، وبهذا يقوى الحديث بمجموع طرقه، واختار قوته جمع من العلماء، منهم: إسحاق، والنووي في أحد قوليه، وابن حجر، والمناوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم. ¬

_ (¬1) الترمذي (3386). (¬2) أبو داود (1485).

* ما يؤخذ من الحديث: يدل الحديث على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؛ وفي هذا تفاؤل بأنَّ الله تعالى استجاب دعاء السائل مطلوبه، فإعطاء مسؤوله بيديه الممدودتين، وبعد امتلائهما من عطاء الله تعالى وجُووِهِ، أفرغ خير الله على وجهه، والله عند حسن ظن عبده به. ***

1358 - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَليَّ صَلاَةً" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال صديق بن حسن خان في كتابه "نُزُل الأَبْرَار": أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن حبان، وقال: صحيح، وفي إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، وقد وثقه ابن معين، وأبو داود؛ فلا يضر وجوده في السند بصحته حيث وثق. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عوف، وعامر، وعمار، وأبي طلحة، وأنس، وأبي بن كعب، رضي الله عنهم. * مفردات الحديث: - أولى الناس بي: أقربهم إليَّ، وأحقهم بشفاعتي. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة" معناه: إنَّ أولى الناس بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحقهم بالقرب منه أكثرهم عليه صلاة في الدنيا. 2 - وقد جاء في فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- نصوص كثيرة؛ فمن القرآن: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب]. ¬

_ (¬1) الترمذي (484)، ابن حبان (911).

3 - ما جاء في الترمذي (3546) وابن حبان (3/ 189)، من حديث الحسين بن علي؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "البخيل من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ". فهذا كامل البخل بما لا نقص عليه فيه ولا مؤنة، مع كون الأجر عظيمًا. 4 - وجاء في الترمذي (3545) وابن حبان (3/ 189)، من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رغم أنف رجل ذكرتُ عنده فلم يصل عليَّ". ومعناه: لصق أنف امرىء بالتراب، وهان وذل رجل -أو امرأة- ذُكرتُ عنده فلم يجلَّني، ولم يقدرني بالصلاة والسلام عليَّ، وإنَّما أعطى إعراضًا وتغافلاً. 5 - وجاء في مسلم (384)، من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا". ففي الحديث الفضيلة العظيمة والمنقبة الكبيرة لمن صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّة واحدة، بأنَّ الله تعالى يجازيه من جنس عمله، ولكنه أكثر وأفضل، وهو أنَّ الله يصلِّي عليه، ويعطيه بدل الصلاة الواحدة عشر صلوات من عنده تعالى. 6 - وما أخرجه النسائي (1282)، وابن حبان (3/ 195)، من حديث ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ لله ملائكة سياحين، يبلغوني عن أمتي السلام"؛ ففيه دليل على أنَّ سلام أمته يبلغه -صلى الله عليه وسلم- من البعيد عنه؛ كما يبلغه من القريب. 7 - وجاء في الطبراني من حديث علي: "كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد"، والحديث جاء مرفوعًا وموقوفًا, ولكن الموقوف له حكم الرفع، لأنَّ هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه. * الفوائد الحاصلة بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام، في الصلاة والسلام، على خير الأنام": في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فوائد: الأولى: امتثال أمر الله تعالى بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ

وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب]. الثانية: حصول عشر صلوات من الله على المصلِّي مرَّة. الثالثة: أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدَّمها أمامه، وكان موقوفًا بين السماء والأرض قبلها. الرابعة: أنَّها سبب لغفران الذنوب، وسبب لكفاية الله عبده ما أهمه. الخامسة: أنَّها سبب لقضاء الحاجات. السادسة: أنَّها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة. السابعة: أنَّها سبب لدوام محبته وزيادتها. الثامنة: أنَّها سبب لهداية العبد، وحياة قلبه. التاسعة: أنَّها أداء لأقل القليل من حقه الذي له علينا. العاشرة: أنَّها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكره -صلى الله عليه وسلم-. ثم قال أيضًا -رحمه الله تعالى-: الصلاة من الله على عباده نوعان: عامة، وخاصة: أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]. أما الخاصة: فهي صلاته على أنبيائه ورسله. واختلف العلماء في معنى الصلاة منه سبحانه، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها رحمته؛ وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين. الثاني: أنَّها مغفرته؛ وهذا القول من جنس الذي قبله، وهما ضعيفان. الثالث: أنَّ معنى الصلاة عليه من الله: هو الثناء على الرسول، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله، وحرمته. وهذا حاصل من صلاة العبد، لكن يريد ذلك من الله عزَّ وجل، والله سبحانه يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله.

1359 - وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ" أَخْرَجَهُ البُخَاريُّ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - سيِّد الاستغفار: السيد يقال في الأصل للرئيس الذي يُقْصَد للحوائج، وصار هذا الاستغفار سيدًا؛ لأنَّ فيه الإقرار لله وحده بألوهيته، وعلى نفسه بالعبادة، والاعتراف بالخالق، والإقرار بالعهد، والرجاء بما وعد به، والاستعاذة مما جنى به على نفسه، وإضافة النعم إلى مُوجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، واعترافه بأنَّه لا يقدر على ذلك إلاَّ هو، إلى غير ذلك من بديع المعاني. - على عهدك: أي: ما عاهدتك عليه، وواعدتك من الإيمان, وإخلاص الطاعة لك، وقيل: العهد ما أخذ في عالم الذر. - ما استطعت: أي: مدَّة دوام استطاعتي، وفيه اعتراف بالعجز والقصور. - أبوء بنعمتك، وأبوء بذنبي: أعترف وألتزم لك، قال الطيبي: اعترف بأنه أنعم عليه، ولم يقيده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنَّه لم يقم بأداء شكر النعم عليه. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث العظيم: سيد الاستغفار؛ لما احتوى عليه من ¬

_ (¬1) البخاري (6306).

معاني التوبة والتذلل، مما ليس في غيره من أحاديث التوبة والاستغفار. 2 - قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة، استعير له اسم السيد الذي هو في الأصل الرئيس الذي يُقصد إليه في الحوائج، ويُرجع إليه في الأمور. 3 - وقال ابن أبي جمرة: جمع هذا الحديث من بديع المعاني، وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى بسيِّد الاستغفار. 4 - اشتمل هذا الحديث السيد الشريف على اعترافات ترجع إلى الله تعالى بما يستحقه من العظمة والإجلال، وترجع إلى العبد بما يجب عليه من الذل، والخضوع، والانكسار. 5 - فيه الإقرار لله تعالى بالربوبية، وذلك أنه تعالى هو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، القابض، الباسط، المحيي، المميت، المدبِّر لجميع الأمور. 6 - وفيه الإقرار له بالعبودية، والإلهية، والوحدانية، وأنَّه المألوه المعبود المقصود. 7 - وفيه الإقرار والاعتراف من العبد لربه ومعبوده، بأنَّه العبد، المطيع، الخاضع، الذليل أمام ربه، وخالقه، ورازقه، ومعبوده. 8 - وفيه إقرار العبد بأنَّه ملتزم بالوفاء بالعهد الذي أخذه ربه عليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف]. 9 - قوله: "ما استطعت" وعد بالقيام بعهد الله تعالى بقدر الاستطاعة والطاقة، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" [رواه البخاري ومسلم]؛ فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها. وهو أيضًا: إقرار واعتراف من العبد لربه بالعجز والتقصير، بأن يعبده حق عبادته.

10 - قوله: "أعوذ بك من شر ما صنعت" قال ابن القيم: أعوذ، بمعنى: ألتجيء وأعتصم وأتحرز، فالمستعيذ مستتر بمُعَاذ، ومستمسك به، ومعتصم به، والاستعاذة بقلب المؤمن معنى قائم وراء هذه العبارة التي ليست إلاَّ إشارة وتفهيمًا، وإلاَّ فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء، والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، أمرٌ لا تحيط به العبارة. 11 - وقال أيضًا: المستعاذ به هو الله وحده الذي لا ينبغي الاستعاذة إلاَّ به، فلا يُستعاذ بأحد من خلقه؛ فهو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانًا. 12 - أنواع الشرور المستعاذ منها لا تخلو من قسمين: إما شر وقع به من غيره، وإما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها؛ فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما، وأشرهما اتصالاً بصاحبه. والذنوب التي يستعيذ منها بهذا الحديث الشريف: هي من فعل العبد وقصده؛ فهو يستعيذ من شرها؛ لأنَّها موجبة للعقاب وللعقوبة، إلاَّ أن يعيذه ربه، ويغفر له، ويرحمه، وأقوى سبب لمنع شرها: التوبة النصوح. 13 - قوله: "أبوء لك بنعمتك عليَّ" هذا إقرارٌ واعتراف بنعم الله تعالى على عباده، بأنَّه وحده المنعم المتفضل، وأنَّه المستحق للحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى، وإفضاله الذي لا يحد ولا يعد. 14 - وفي الحديث دليل على أنَّ المقاصد لا ينبغي أن تطلب إلاَّ بوسائلها الصحيحة, وأسبابها الموصلة، أما التعلُّل بالخرافات، والبدع، والتوسُّلات الشركية والبدعية، فهي لا تزيد الإنسان من ربه إلاَّ بعدًا.

1360 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هَؤلاَءِ الكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيةَ في دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بيْنِ يَدَيَّ، وَمنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال الشيخ صديق حسن: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. قال النووي في الأذكار: روي بالأسانيد الصحيحة. وأخرجه ابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. * مفردات الحديث: - العافية: الصحة التامة في البدن، والسلامة التامة في أمر الدين، والسلامة من المعاصي والبدع، والسلامة في الدنيا من شرورها ومصائبها. - عَوْرَاتي: جمع عورة، والعورة: كل ما يُسْتَحْيَا منه إذا ظهر من الذنوب والعيوب. - روعاتي: جمع روعة، يقال: راعه يروعه روعًا: أفزعه؛ فالروع: الفزع. - عظمتك: عظمة الله تعالى: صفة جليلة من صفاته العلى؛ فهو موصوف ¬

_ (¬1) النسائي في عمل اليوم والليلة (566)، ابن ماجه (3871)، الحاكم (1/ 517).

بالعظمة الكاملة، والقدرة النافذة، فله الكبرياء والعظمة المطلقة، فالسائل يستعيذ ويلتجيء من الشرور، بعظمة الله تعالى، وقدرته المحيطة بكل شيء. - أَنْ أَغْتَال: اغتاله: أخذه من حيث لا يدري فأهلكه، من الاغتيال، وهو: أخذ الشيء خفية. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذه الأدعية الكريمات كان -صلى الله عليه وسلم- لا يدعها صباحًا ولا مساءً؛ لتكون حصنًا من الآفات، وحرزاً من الشرور، وأمانًا من المكاره؛ فعلى المسلم أن يلازمها، ولا يدعها؛ اقتداء بنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وحفظًا لنفسه من الشرور وأسبابها. 2 - ففيها سؤال الله تعالى العافية في الدين؛ من المعاصي، والابتداع، وترك الواجبات. أما العافية في الدنيا: فالسلامة من شرورها، ومصائبها، وغوائلها، والانهماك فيها، والغرور بها، وما تجرّه من الغفلة ونسيان الآخرة. وأما العافية في الأهل: فسلامة أديانهم من الشهوات والشبهات، وسلامة أبدانهم من الأمراض والأسقام، وسلامة قلوبهم من فتنة الدنيا، والانهماك فيها دون غيرها، مما ينقصهم في حياتهم الأبدية. 3 - "استر عوراتي": يسأل ربه ستر عورته، بأن يستر أعماله القبيحة عن الناس، ثم يمن عليه بالتوبة منها، والسلامة من فضيحتها، وخزيها في الدنيا والآخرة، ويشمل طلب الرزق بكسوة يتجمَّل بها. 4 - "وآمن روعاتي": يكون التأمين من فجائع الدنيا، ومصائبها، وحوادثها المروعة، ويكون من روعات يوم القيامة، وهو أعظم الأمرين، ففي أهوال يوم القيامة ما يذهل كل مرضعة عما أرضعت: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].

5 - ويسأله حفظًا كاملًا، وصيانةً تامةً، تحيط به من جميع الجهات؛ فلا تخلص إليه الشرور، ولا تصل إليه المصائب، فيحاط بحصن الله تعالى من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه. 6 - ويستعيذ ويلتجيء إلى ربه بأن لا يغتال من تحته من حيث لا يشعر، فيخسف به كما خسف بقارون، أو يغرق كما أغرق فرعون، أو يأتيه حادث مروِّع من حوادث المعدات الثقيلة أو الخفيفة، والله أعلم. ***

1361 - وَعنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - زوال نعمتك: الزوال: التحول والانتقال، وأما النعمة: فهي المنفعة المعمولة للغير على جهة البر والإحسان. - تحَوُّل عافيتك: تحول العافية: هو انتقالها، فلا تنتقل إلى ضدها، وهو المرض. - فَجْاَة نِقْمَتِكَ: بفتح الفاء، وسكون الجيم، مقصور، ويقال: بضم الفاء، وفتح الجيم، والمد "فُجَاءَة"، وهي: الأخذ بغتة من غير توقُّع. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2739).

1362 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبْةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبْةِ العَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وقال الحافظ زين الدين العراقي في حاشيته على الإحياء: أخرجه النسائي، والحاكم من حديث عبد الله بن عمر، وقال: صحيح على شرط مسلم. * مفردات الحديث: - غلبة: يقال: غلبه يغلبه غلبًا، وغلبه: قهره واعتزَّ عليه. - شماتة: يقال: شمت بعدوه يشمت شماتة: فرح ببليَّته، فهو شامت. * ما يؤخذ من الحديثين: 1 - هذان الحديثان اشتملا على أدعية نبوية شريفة، والأدعية النبوية هي أشرف الأدعية؛ لما تشتمل عليه من المعاني السامية، والمطالب العالية، وما فيها من شرف الألفاظ، وجمع المعاني الكثيرة بالجمل القليلة. 2 - قوله: "اللَّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك": الأمور كلها بيد الله تعالى؛ فهو المعطي، وهو المانع، لا رادَّ لأمره، فالاستعاذة والاعتصام من زوال النعم هي في موقعها؛ وواقعة موضعها، فهو يسأل معطيها أن لا يزيلها، وزوالُ النعم يكون غالبًا بسبب الذنوب، فهو يسأل ضمنًا العصمة من الذنوب التي هي سبب زوال النعم. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 265)، الحاكم (1/ 104).

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. 3 - قوله: "وتحوُّل عافيتك" فيه الاستعاذة بالله تعالى من أن ينقل العافية منه إلى غيرها، ويسأله بقاءها سابغة عليه، وهي تشمل العافية في الدين، والبدن، والوطن، والأهل، والمال، بأن تبقى سالمة مما يطرأ عليها فيزيلها، أو يهلكها، أو يذهبها. 4 - وقوله: "وفجأة نقمتك" الفجأة: هي البغتة التي تأخذ الإنسان من حيث لا يكون عنده سابق إنذارٍ وإخطارٍ وتحذير، فيؤخذ من مأمنه، حينما تفجؤه النقمة، ويبغته العذاب، ولات حين مناص ولا مفر. 5 - قوله: "وجميع سَخَطِك" تعميم بعد تخصيص، فهو يستعيذ بالله تعالى، ويعتصم من جميع الشرور والأمور التي توجب سخط الله تعالى، والذي يسخطه جلَّ وعلا على عباده: هو عموم المعاصي والذنوب، من انتهاك المحرَّمات أو ترك الواجبات، والله أعلم. 6 - وقوله: "اللَّهمَّ إني أعوذ بك من غلبة الدَّين" الدَّيْنُ الغالب الظاهر هو الدين الذي ليس عند المدين ما يقضيه به، أما إذا كان عند المدين ما يفي به الدين، فهذا دين ليس بغالب. 7 - الدَّيْنُ إذا غلب يسبِّب الهم والغم، ويكون صاحبه في قلق وتعب بدني وقلبي وفكري، وهذا هو ما استعاذ منه؛ لأنَّ حقوق الآدميين مبنية على الشح. ولذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من المَغْرَم وهو الدَّين، وقال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا آثار الدين السيئة، وعواقبه الوخيمة: "إنَّ الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف" [رواه البخاري (832) ومسلم (2589)]. 8 - أما غلبة العدو: فهي تسبب لصاحبها الذلَّة، والمهانة، والحقارة؛ فإنَّ العدو لا يرحم، ولا يشفق، وإنما يقسو ويعثو.

والقسوة قد تسبب جلاء عن الديار، أو هلاكًا في الأعمار، أو استيلاءً على الأموال، أو غير ذلك من أنواع المضار التي يتعسفها العدو الغالب. وتأمل -أيها القاريء الكريم- ما تفعله دولة إسرائيل العدو في المسلمين من استيلاء على بلدانهم، وتشريد لزعمائهم، وقتل لأبريائهم، وتعذيب لما تحت أيديهم منهم، وانظر إلى الأقليات الإِسلامية؛ كيف هم مضطهدون تحت سيطرة أعدائهم؛ نسأل الله أن يعز الإِسلام والمسلمين. 9 - "شماتة الأعداء" هو فرحهم بما يصيب الإنسان من نكبة في بدنه، أو أهله، أو ماله، أو سُمعته، أو غير ذلك من نكبات الحياة ومصائبها؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله تعالى، ويرشد أمته إلى الاستعاذة من هذه الشرور التي تسبب وينتج عنها هذه الأمور السيئة. ***

1363 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أنَّك أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ سَأَلَ الله بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أُعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث حسن. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: أخرجه أهل السنن الأربع، وابن حبان، وهو من حديث بريدة، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان، وأخرجه أيضًا من حديث بريدة الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما. قال المنذري: قال شيخنا أبو الحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه. وقال ابن حجر: إنَّ هذا الحديث أرجح ما ورد في الاسم الأعظم من حيث السند. وحسَّنه السخاوي كما في الفتوحات الربانية. * مفردات الحديث: - الأحد: أي: الواحد الذي ليس له شريك في الألوهية، والربوبية، والأسماء، والصفات؛ فهو منزه الذات والصفات جلَّ وعلا. - الصمد: هو السيد الذي يَصْمُدُ إليه الخلق في الحوائج، ويقصدونه في ¬

_ (¬1) أبو داود (1493)، الترمذي (3475)، النسائي في الكبرى (4/ 394)، ابن ماجه (3857)، ابن حبان (2383).

المطالب، مِن صَمَدَ إليه، بمعنى قصده؛ فهو فَعَلٌ بمعنى مفعول. - كُفُوًا أحد: الكفء: هو الشبيه، والمثيل، والنظيرة فهو جلَّ وعلا ليس له من خلقه مكافئىٌ، ولا مماثلٌ، ولا نظيرٌ، ولا شبيهٌ. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - قوله: "أسألك بأنَّي أشهد أنك أنت الله" هذا قسم استعطافي وتضرعي، ومعناه: أسألك باستحقاقك لهذه الصفات، ولم يذكر المسؤول والمطلوب بهذه التوسِّلات؛ لعدم الحاجة إلى ذكره. 2 - قوله: "بأني أشهد أنَّك أنت الله لا إله إلاَّ أنت" هذا من باب التوسُّل بالأعمال الصالحة، وهو منع التوسل الجائز، بل المستحب؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وليس في الذكر أفضل من هذه الجملة الكريمة؛ لما اشتملت عليه من الشهادة بإفراده تعالى بالعبادة، ونفي الشريك عنه. وتقدم شرح هذه الجملة العظيمة. 3 - "الأحد" الواحد وحدانيةً حقيقيةً في ربوبيته، وفي ألوهيته، وفي ذاته، وفي صفاته، فقد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال المطلق. 4 - "الصمد" الذي تصمُدُ إليه جميع الخلائق، وتقصده لقضاء حوائجها؛ فالعالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، ويرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنَّه القادر على قضائها. قال الشيخ محمد رشيد رضا: فلو أنَّ مبتدعة عُبَّاد القبور، وأسرى الخرافات يفقهون معنى هذه الحكمة، ويؤمنون بها إيمانًا صحيحًا يملك قلوبهم، لَمَا صَمَدَ أَحَدٌ منهم إلى قبر أحد من الصالحين، ولا إلى دَجَّالٍ يدَّعي استخدام الجن، وتسخير الشياطين؛ ليقضي له ما عجز عنه من منافعه ومصالحه، أو من دفع الأذى عن نفسه وأهله، فإنَّ هؤلاء -أحياءً وأمواتًا-

عاجزون كلُّهم عما يظنه الجاهلون بهم من التصرُّفِ في عالم الغيب والشهادة. 5 - "لم يلد ولم يولد"؛ فهو جلَّ وعلا لكمال غناه، وعدم افتقاره إلى غيره، لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء؛ لاستحالة نسبة العلم إليه سابقًا ولاحقًا؛ ولو كان مولودًا، لكان مسبوقًا بالعلم؛ لأنَّ المولود حادث، ولو كان والدًا، لوجب أن يكون له أولادٌ، وللزم أن يكونْ للخلق آلهة متعددة؛ وهذا مستحيل. 6 - "لم يكن له كفوًا أحد" الكُفُؤ: النظير المكافيء، والله تعالى لا نظير له، ولا شبيه؛ لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذه السورة الجليلة -التي تعدل في معانيها الشريفة ثلث القرآن- قد أبطلت جميع الشرك؛ لاشتمالها على جميع أنواع التوحيد الثلاثة. 7 - "لقد سأل الله باسمه الذي إذا سُئِل به أعطى، وإذا دُعِي به أجاب"، وفي رواية: "لقد سأل الله باسمه الأعظم": إعطاء السؤال والإجابة على الدعاء دليل على شرف السائل والداعي، ووجاهته عند المعطي والمجيب، حيث أجاب سؤاله، ولبى دعاءه ونداءه. كما يدل على فضل هذا الدعاء وحسنه؛ فإنَّه وسيلة قوية، وسبيل قويم إلى حصول المطالب من الله تعالى، وتلبية نداء عبده. 8 - أما الاسم الذي إذا سئل به أعطى، أو كما جاء في رواية أخرى أنَّه "الأعظم" -فهذا هو أحد أسماء الله تعالى، ولكن اختلف العلماء في تعيينه؛ فقد أخفاه الله تعالى لِحكم عظيمة، لعلَّ منها أن يتلمَّسه العباد في جميع أسماء الله، فيدعوه بها، فيكثر عملهم، ليكثر ثوابهم، كما أخفى ليلة القدر، وساعة الجمعة، وساعة الليل، للاجتهاد في طلبها، وكثرة العمل في تلمُّسها.

9 - قال ابن علَّان: الأظهر أنَّ الاسم الأعظم أنَّه لفظ الجلالة "الله"؛ فهو الأعظم عند أكثر العلماء، ومعناه أنَّه امتاز على غيره من الأسماء والصفات بخصوصية ليست في البقيَّة. 10 - قال محرره: اختلف في تعيينه على نحو من "أربعين قولًا"، وقد أفردها السيوطي في مصنف. قال ابن حجر: أرجحها من حيث السند: "الله لا إلله إلاَّ هو، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد". ***

1364 - وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإذَا أَمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. قال صديق حسن: أخرجه أهل السنن, وابن حبان. قال الترمذي: هذا الحديث صحيح، وصححه ابن حبان، والنووي، وأخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح. وحسَّنه الترمذي، وابن حجر، والسيوطي، والمناوي. قال الشيخ الألباني: سنده جيد، ورجاله كلهم ثقات، فهم من رجال مسلم. * مفردات الحديث: - بك أصبحنا: الباء للاستعانة بكل هذه المتعلقات، وقدِّم الجار والمجرور؛ لإفادة الاختصاص والحصر، و"أصبحنا" أي: دخلنا في الصباح وأعماله. - وإليك النشور: النشور: هو البعث بعد الموت، وفيه مناسبة؛ لأنَّ النوم أخو الموت، فالإيقاظ كالإحياء بعد الإماتة. - وإليك المصير: المصير: هو المرجع، وفيه مناسبة ذكر المصير في المساء؛ ¬

_ (¬1) أبو داود (5068)، الترمذي (3391)، النسائي في عمل اليوم والليلة (564)، ابن ماجه (3868).

لأنَّه ينام فيه، والنوم أخو الموت. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - "اللهمَّ بك أصبحنا" أي: بسبب نعمة إيجادك، وإمدادك، دخلنا في الصباح؛ فأنت الموجد لنا وللصباح. "وبك أمسينا" مثله. قال النووي: اعلم أنَّ أشرف أوقات الذكر في النهار بعد صلاة الصبح. قال ابن علَّان: إنَّما فضِّل الذكر هذا الوقت؛ لكونه تشهده الملائكة. 2 - قوله: "وبك نحيا، وبك نموت" فما نعمله في حال الحياة من الأعمال الصالحة، وما يلحقنا ثوابه وأجره من أعمال الخير: من قربات، وصدقات، ومبرات، وآثار صالحة؛ من علم موروث، وعين جارية، وغير ذلك، فكل هذا خالص لوجهك، ومتقرَّب به إليك؛ لأنَّك أنت المستحق له، والهادي إليه، والموضِّح سبله، والميسِّر طرقه، فأعمالنا الصالحة في الحياة والممات منك وإليك. 3 - "إليك النشور" تقال في الصباح لمشابهة الاستيقاظ من النوم بحال البعث والنشور من القبور؛ فكل من الموت والنوم فقدٌ للإحساس، فالأولى الموتة الكبرى، والنوم الموتة الصغرى، والبعث منهما رجوع إلى الحياة من جديد. 4 - "إليك المصير" تقال في المساء حين إقبال النوم المشابه للموت بمفارقة الروح لجسدها، ورجوعها إلى خالقها، وإن اختلفا في نوع المفارقة والانفصال، فيمسك التي قضى عليها الموت، وأما روح الحي: فيرسلها إلى أجل مسمًّى. ***

1365 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * ما يؤخذ من الحديث: 1 - هذا الدعاء هو آية كريمة في القرآن الكريم، كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء به، فهي آية كريمة، وحديث شريف. قال القاضي عياض: إنما كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة، فإنَّ الحسنة هاهنا النعمة، فسأل نعيم الدنيا والآخرة؛ والوقاية من النار، وهذا كمال السعادة في الحياتين: الأولى والثانية. 2 - هذا الدعاء من أجمع الأدعية، وأشملها، وأكملها، ومن أنفع الأدعية، وأجلها، وأحسنها؛ ذلك أنَّه جمع خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من الشر وأسبابه، فشمل من حسنة الدنيا سؤال كل مطلوب ومرغوب: من حصول العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والعافية من الأمراض والأسقام، والسلامة من المشاكل والأزمات والنكبات، والتوفيق بالزوجة الصالحة التي تعجبه إن نظر إليها، وترضيه إن حضر عندها، وتحفظه في نفسها وولدها وماله إن غاب عنها، وحصول الأولاد البررة الصلحاء، الذين بهم تقر العين، وترضى النفس، ويُسر القلب، وحصول الأمن في الأوطان، والاستقرار في البيوت والدور، وحصول الرضا والقناعة بما قسم الله تعالى ¬

_ (¬1) البخاري (6389)، مسلم (2690).

وأعطى، مِنَ الحياة السعيدة، والمعيشة الهنية الرغيدة. 3 - أما حسنة الآخرة فهي النعمة الكبرى، والسعادة العظمى، والحياة الباقية، والنعيم المقيم، وأعلاها رضا الرب، ودخول جنته التي فيها النظر إلى وجهه الكريم، والحظوة بيوم المزيد، وما في الجنة من نعيم لا يفنى، وشباب لا يبلى، وحياة سعيدة لا تنتهي، وتمتُّع دائم بملاذَّ لا تنقطع، مما لا يدور في الخيال، ولا يحيط به البال؛ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال بشر. 4 - أما الوقاية من عذاب النار: فإنَّها كمال النعيم، وتمام الأنس، والحصول على الأمن, وزوال الهم والغم، وذهاب الخوف والكرب؛ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبأنَّه الله الذي لا إله إلاَّ هو الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن يجعلنا من الفائزين بجنته ورضاه، الناجين من عذابه وغضبه، ووالدينا، وأقاربنا، ومشايخنا، وإخواننا المسلمين أجمعين، الأوَّلين منهم والآخرين، وصلى الله على نبيِّنا وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ***

1366 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ مفردات الحديث: -الخطيئة: الذنب. -جهلي: الجهل: ضد العلم، ويحتمل أنَّ المراد به هنا: الخطيئة المتعمَّدة. -إسرافي: الإسراف: مجاوزة الحد في كل شيء. -جِدِّي: بكسر الجيم، ضد الهزل. -خطئي وعَمْدي: من عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الخطيئة تكون عن هزل وعن جد، وتكرير ذلك لتعدد الأنواع التي تقع من الإنسان من المخالفات. -أنت المقدِّم: أي: تقدِّم من تشاء من خلقك، فيتَّصف بصفات الكمال، ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك. -أنت المؤخِّر: لمن تشاء من عبادك بخذلانك وتبعيدك له عن درجات الخير. ... ¬

_ (¬1) البخاري (6398)، مسلم (2719).

1367 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - أصلح لي ديني: بأن تُوفِّقني للقيام بآدابه على الوجه الأكمل. - عِصمة أمري: العصمة المنع والحفظ، أي: ما أعتصم به في جميع أموري. - معاشي: أي: مكان عيشي، وزمان حياتي، بإعطاء الكفاف. - معادي: أي: زمان إعادتي؛ باللطف، والتوفيق على العبادة، والإخلاص. - راحة لي من كل شر: أي: راحة لي من الفتن، والمِحن، والابتلاء بالمعصية والغفلة. وخلاصة آخر هذا الدعاء: اجعل عمري مصروفًا فيما تحب، وجنِّبني ما تكره. ... ¬

_ (¬1) مسلم (2720).

1368 - وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالحَاكِمُ (¬1). 1369 - وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وقَالَ فِي آخِرِهِ: "وَزِدْنِي عِلْمًا، الحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِالله مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ" وإِسْنَادُهُ حسَنٌ (¬2). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: إسناده حسن قاله المصنف والسيوطي. والحديث أخرجه النسائي، والترمذي، وصححه الحاكم، فقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبِي. أما الحافظ ابن كثير في تفسيره فقال: أخرجه ابن ماجه، والبزار، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب، عن عبد الله بن نمير، به، وقال: غريب من هذا الوجه. * مفردات الأحاديث الأربعة السابقة بتوسع أكثر: - الخطيئة: هي الذنب الكبير أو الصغير. - الجهل: ضد العلم؛ قال ابن عباس: "كل من عمل السوء فهو جاهل، فمن جهالته عمل السوء". ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 510)، النسائي في الكبرى (4/ 444). (¬2) الترمذي (3599).

- إسرافي في أمري: مجاوزة الحد في كل شيء، والمراد هنا: الإفراط في المعاصي، والاستكثار منها. - وما أنت أعلم به مني: يعني: إنَّ الله تبارك وتعالى وكَّل بعباده ملائكته، يحصون عليهم سيئاتهم من أقوال وأفعال؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} [المجادلة]. فالعبد يسأل ربه غفران ذنوبه التي يعلمها، والتي نسيها، وعلمها الله تعالى، وأحصاها، وحفظها عنده. - اغفر لي جِدِّي وهزلي: الجِد: الاجتهاد في الأمر، والاهتمام به، والهزل ضده، لم يجدّ فيه. - خطئي وعمدي: الخطأ: ما وقع من الإنسان من غير قصد، والعمد: قصد عين الفعل بعلم. - اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت: الذنوب المتقدمة على طلب المغفرة واضحة معروفة، وأما الذنوب المتأخرة فقيل: معناها أنَّ الله يحفظه، فلا يقع منه ذنب في بقية عمره، وقيل: معناه أنَّه لا يؤاخذ بما سيقع منه من الذنوب المستقبلة، بحيث يوفِّقه للتوبة التي تمحوها. وقد صنَّف الحافظ ابن حجر رسالة سماها: "الخصال المكفِّرة للذنوب" تتبع فيها الأحاديث التي ورد فيها الوعد بغفران الذنوب "ما تقدم منها وما تأخَّر"، وخرَّج أحاديثها وحقَّقها. - أنت المقدِّم: أي: تقدِّم من تشاء من خلقك، فيتَّصف بصفات الكمال، ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك. - أنت المؤخِّر: تؤخِّر من تشاء من خلقك بخذلانك وتبعيدك إيَّاه عن درجات

الخير. - وأنت على كل شيء قدير: عموم بعد خصوص؛ لئلا يتوهَّم الحصر والعدد. - اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري: فوصف الدِّين بأنَّه عصمة الأمر، وهو عين الحقيقة. لأنَّ صلاح الدين هو رأس مال العبد، وغاية ما يطلبه. - وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي: وأما صلاح الدنيا -لأنَّها مكان وموضع معاشه- فحقيقةٌ لابد منها في حياته، فمن لم تستقم معيشته، لا تتم له آخرته. - وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي: وأما صلاح آخرته، التي هي المرجع والمصير -فحول ذلك يسعى العباد بفعل الطاعات، وترك المنهيات، وقد استلزمها سؤال صلاح الدين؛ لأنَّه إذا أصلح الله دين الرجل، فقد أصلح له آخرته التي هي دار المعاد. - واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ: لأنَّه إذا كان الموت دافعًا للشرور قاطعًا لها، ففيه الخير الكثير للعبد. وليس في الحديث دلالة على جواز الدعاء بالموت، وإنما دلَّ على سؤال أن يجعل الموت -في قضائه عليه، ونزوله به- راحةً من شرور الدنيا، ومن شرور القبر؛ لعموم الدعاء من جميع الشرور، والذي ينبغي أن يقوله المسلم الخائف من المِحَن والفتن: "اللَّهمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا، وتوفني إذا كان الموت خيرًا" [رواه البخاري (5671) ومسلم (2680)]. - الَّلهُمَّ علِّمني ما ينفعني، وارزقني علمًا ينفعني: سؤال الله سبحانه وتعالى علمًا نافعًا، والعلم النافع هو العلوم الشرعية أصولها وفروعها؛ فهي من أجَلِّ النعم وأفضل القسم؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" [رواه البخاري (71) ومسلم (1037)]. والنصوص في فضلِ العلم والحثِّ عليه كثيرة جدًا. قال الإِمام أحمد: طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحَّت نيته. وقال الإمامان أبو حنيفة، ومالك: أفضل ما تطوِّع به العلم، تعلمه وتعليمه. وقال الإِمام النووي: اتَّفق السلف على أنَّ الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة، والصيام، والتسبيح، ونحو ذلك؛ فهو نور القلوب، والميراث النبوي، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، فهو أفضل الأعمال وأقربها إلى الله. وأفضل العلوم: أصول الدين، ثم التفسير، ثم الحديث، ثم أصول الفقه، ثم الفقه. - وانفعني بما علَّمتني: هذا هو ثمرة العلم، وزبدته، وفائدته؛ فالعلم الذي لا ينفع صاحبه، وبَال عليه، وحجة قائمة عليه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ أعوذ بك من علمٍ لا ينفع". وثمرة العلم تتلخَّص في أمرين: في الإخلاص لله تعالى في طلبه وتحصيله. وفي العمل به، فمن ضيَّع هذين الأمرين، أو أحدهما، فقد خسر. قال الإِمام الغزالي: أيها المقبل على العلم، إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة، والمباهاة، والتقدم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا -فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة. وإن كانت نيتك من طلب العلم الهداية، فأبشر؛ فإنَّ الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت؛ رضًا بما تطلب.

- وفيه الاستعاذة من حال أهل النار: لأنَّهم أهل المعاصي بتركهم الواجبات، وانتهاكهم المحرمات؛ فمآلهم إلى النار، وبئس القرار. * ما يؤخذ من الأحاديث: 1 - "اللَّهم اغفر لي" الاستغفار: طلب المغفرة من الله، وهي الوقاية من شر الذنوب مع سترها. أما العفو عن الذنوب، فهو محو أثرها؛ ولكن قد يكون بعد عقوبة على المذنب، بخلاف المغفرة؛ فإنَّها لا تكون مع عقوبة. قال ابن رجب: وأفضل الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يُثَنِّي بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة؛ كما في حديث شداد بن أوس "سيد الاستغفار". 2 - قال ابن رجب: أسباب المغفرة ثلاثة: أحدها: الدعاء مع الرجاء؛ فإنَّ الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة؛ قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وفي الحديث: "ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء، ويغلق عنه باب الإجابة". لكن الدعاء سبب مقتضٍ للإجابة، مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه. وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شروطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، ففي المسند (6617) عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "إِنَّ هَذهِ القُلوب أوعية، فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإنَّ الله لا يستجيب لعبد دعاه من قلب غافل". ومن أعظم أسباب المغفرة: أنَّ العبد إذا أذنب، لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنَّه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره.

الثاني: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت في الكثرة عَنَان السماء. والمراد بالاستغفار: الاستغفارُ المقرونُ بعدم الإصرار. أما الاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرَّد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة؛ ففي المسند (6505) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص مرفوعًا: "ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون". وخرَّج البيهقي في الشعب (5/ 436) عن ابن عباس مرفوعًا: "المستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزيء بربه". فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار؛ كما مدح الله أهله، ووعدهم بالمغفرة. فأفضل الاستغفار ما قارن به ترك الإصرار، وهو حينئذٍ يؤمِّل توبة نصوحًا، وإن قال بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة، قد يرجى له الإجابة. وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ بالثناء على ربه، ثم يثنِّي بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة؛ كما جاء في سيد الاستغفار. الثالث: التوحيد، فهو أقوى أسباب المغفرة، فالتوحيد هو السبب الأعظم؛ فمن فقده، فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. جاء مع التوحيد، ولو جاء بقُراب الدنيا خطايا، لقيه الله بقُرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئته عزَّ وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم

كانت عاقبته أن لا يخلَّد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة. قال بعضهم: الموحِّد لا يُلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يبقى كما يبقى الكفار؛ فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه، ولسانه، وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت -أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من الدخول في النار بالكلية. فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبةً، وتعظيمًا، وإجلالاً، ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً، وتوكلاً؛ وحينذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها, ولو كانت مثل زيد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإنَّ هذا التوحيد هو السبَبُ الأكبر الأعظم، فلو وضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا، لقلبها حسنات، كما جاء في المسند (26847) عن أم هاني، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا إله إلاَّ الله لا تترك ذنبًا، ولا يسبقها عمل" اهـ كلامه، رحمه الله تعالى. ***

1370 - وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاء: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، ومَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءَ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (¬1). ـــــــــــــــــــــــــــــ * درجة الحديث: الحديث صحيح. ففد صحَّحه الحاكم وابن حبان. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة. قال الترمذي: حسن غريب، وإنما لم يصححه الترمذي؛ لأنَّ في إسناده ليث بن أبي سليم، وهو -وإن كان فيه مقال- فقد أخرج له مسلم، وحديثه لا يَقْصُرُ عن رتبة الحسن. وقال الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني: أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، من طريق حماد بن سلمة، أخبرني جبر بن حبيب، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، عن عائشة؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علَّمها هذا الدعاء، فذكره. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (3846)، ابن حبان (869)، الحاكم (1/ 521).

قُلتُ: وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات، رواه مسلم، عن جبر بن حبيب، وهو ثقة، ثم رأيت الحديث في المستدرك من طريق شعبة، عن جبر بن حبيب، به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمَّد، انتهى الكلام على درجات أحاديث بلوغ المرام في: ليلة الأحد الموافق: 19/ 6/ 1408 هـ. ثم تمت المراجعة الأخيرة في ضحى يوم الجمعة 5/ 4/ 1410 هـ. ثم أعيدت المراجعة مرَّة أخرى، وكان آخرها في شهر رجب عام: 1421 هـ. * مفردات الحديث: - عاجله: العاجل: مقابل الآجل من كل شيء، ومعناه: الخير الحاضر. - آجله: ما تأخَّر من خير الدنيا والآخرة. - قضاء قَضَيْته: القضاء له عدة معان، وأقربها هنا: أنَّ المراد به ما قدَّرته وأمضيته تجعله لي خيرًا. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - النبي -صلى الله عليه وسلم- علم عائشة -رضي الله عنها- هذا الدعاء الجامع؛ فكذلك ينبغي للمسلم أن يعلِّمه أهله، وأولاده، وأهل بيته، ومن يتَّصل به، يعلِّمهم الخير بما ينفعهم في أمو دينهم ودنياهم. 2 - ففي الحديث سؤال الله تعالى الخير الذي يشمل منافع الدنيا والآخرة، مما لا يعد ولا يحصى، العاجل منها والآجل، والمتأخر المعلوم منها للداعي، والمجهول له مما لا يعلمه إلاَّ الله تعالى. 3 - كما يستعيذه ويلتجيء إليه من شرور الدنيا والآخرة، العاجل الحاضر منها، والآجل المتأخر، مما علم به الداعي، وما جهل.

4 - ثم عمم السؤال من نوع آخر، وهو أنَّ الداعي يسأل الله تعالى من خير ما سأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويستعيذ مما استعاذ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي علم ما عند الله من الخير والشر أكثر مما نعلم، فسأل أفضل سؤال، واستعاذ بربِّه من أسوأ معاذ؛ فنحن به مقتدون في الرَّغبة في الخير، والبعد من الشر. 5 - ثم سأل العبد من ربه الجنة، وهي غاية المطلوب، وسأل الوسيلة إليها من الأقوال الطيبة، والأعمال الصالحة. 6 - ثم سأل الله تعالى العبد أن يجعل كل قضاء قضاه أن يكون خيرًا, ولو ظاهره ومظهره الشر، إلاَّ أنَّه في حقيقة الأمر هو خير؛ فإنَّ تدابير الله تعالى كلها وفق الحكمة والمصلحة، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة]. 7 - فهذه الأدعية الشريفة علَّمها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عائشةَ؛ ليكون عِلْمُهَا لأمته التي نَصَحَهَا، وَبَرَّهَا، وأَحْسَنَ إليها، وهي من أنفع الأدعية، وأجمعها لخيري الدنيا والآخرة. ***

1371 - وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلِمَتَانِ حَبِيبتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ" (¬1). قَالَ مُصَنِّفُهُ: فَرَغَ مِنْهُ مُلَخِّصُهُ، أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَجَرٍ فِي حَادِي عَشْرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، حَامِدًا اللهَ تَعَالَى وَمُصَلِّيًا عَلَى رَسُولهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمُكَرِّمًا، وَمُبَجِّلاً، وَمُعَظِّمًا. ـــــــــــــــــــــــــــــ * مفردات الحديث: - كَلِمَتان: تثنية كلمة، وهو خبر مقدَّم، و"سبحان الله" هو المبتدأ، وما بينهما صفة، وكلمتان يراد بهما الكلام من إطلاق الكلمة على الكلام، مثل قولهم: كلمة الإخلاص: "لا إلله إلاَّ الله" و"كلمتان" خبر مقدَّم، و"حبيبتان" وما بعدها صفة، والفائدة من تقديم الخبر: تشويق السامع إلى المبتدأ. - حبيبتان إلى الرحمن: حبيبة: بمعنا محبوبة؛ على وزن "فعيل" بمعنى مفعول، وأنَّث هنا؛ لأنَّ التسوية بين المذكر والمؤنث في "فعيل" بمعنى مفعول: جائزة لا واجبة؛ وخصَّ لفظ "الرحمن" بالذكر؛ لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله بعباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير. ¬

_ (¬1) البخاري (6406)، مسلم (2694).

- خَفيفتان على اللسان: لقلَّة حروفهما، وأنَّهما من الحروف السهلة المخارج؛ فليس فيهما حرف من حروف الشدة، ثم جاءت بأسماء، والأسماء أخف من الأفعال؛ فالنطق بهما سريع رشيق. - ثقيلتان في الميزان: ثقيلتان ثقلاً حقيقيًّا؛ لكثرة الأجور لقائلهما، والحسنات المضاعفة للذاكر بهما، وقوله: "حبيبتان، خفيفتان، ثقيلتان" صفة لقوله: "كلمتان". - سُبحان الله: اسم مصدر لازم النصب بإضمار فعل محذوف، والمصدر التسبيح. - وبحمده: الواو للحال، أي أسبحه متلبسًا بحمدي له. - سبحان الله العظيم: ذكر صفة العظمة هنا ليجمع في هذا الذكر بين الذي يخافه ويرجوه، وهذه طريقة القرآن في إيراد وعده ووعيده، وختم الآيات بما يناسب المقام. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ففي اليوم الثامن من الشهر الثامن من عام ثمانية وأربعمائة وألف، انتهيت من شرحي لمفردات أحاديث هذا الكتاب المبارك "بلوغ المرام" في منزلي بمكة المكرمة في العزيزية. وفي صباح 30/ 1/ 1409 هـ تمت المراجعة الثانية لشرح غريب "بلوغ المرام"، والحمد لله رب العالمين. وفي مساء يوم الثلاثاء الموافق 9/ 5/ 1421 هـ، انتهينا من إعادة مراجعة "مفردات الحديث"؛ لتعديل ما وقع فيها من خطأٍ، أو نقصٍ، أو خللٍ، والحمد لله رب العالمين. * ما يؤخذ من الحديث: 1 - ختم المؤلِّف -رحمه الله تعالى- كتابه بالتسبيح والتحميد؛ كما فعل الإِمام البخاري في صحيحه, حينما ختمه بهذا الحديث الشريف، وهو ختام

حسن، واقتداء طيب؛ فإنَّ الله تعالى ختم رسالة نبيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]. 2 - "حبيبتان إلى الرحمن" أي: هما محبوبتان، وأيضًا محبوب قائلهما عند الرحمن تبارك وتعالى. وخصَّ الرَّحمن من بين سائر الأسماء الحسنى؛ لأنَّ المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله على عباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير. 3 - "ثقيلتان في الميزان": حقيقةً؛ لكثرة الأجور المدَّخرة لقائلهما، والحسنات المضاعفة للذاكر بهما، فقد ذهب أهل الحديث إلى أنَّ الموزون هو نفس الأعمال؛ قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} [الأعراف: 8]، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأما معرفة كيفية الوزن: فهذه أمور توقيفية، لا يتجاوزها المسلم إلى غير المسموع والمنقول، وليس للعقل دخل في تخيلها ووصفها، وبيان كيفيتها؛ فهذا من علم الغيب. 4 - "سبحان الله وبحمده": قرن التسبيح بالحمد؛ ليعلم ثبوت الكمال له نفيًا وإثباتًا ومعنًى، والتسبيح هنا: تنزيهه وتقديسه عن جميع ما لا يليق به سبحانه، وإلاَّ فهو تعالى مقدَّسٌ أزلًا وأبدًا، وإن لم يقدِّسه أحدٌ، وإذا حصل الاعتراف والاعتقاد بأنه منزَّهٌ عن جميع النقائص، ثبتت له الكمالات ضرورة؛ فثبت أنَّه الرب على الإطلاق. والربوبية حجة ملزمة، وبرهان يوجب توحيد الألوهية، فتضمَّنت هذه الكلمة إثبات التوحيدين، كما تضمنت إثبات الكمالين، وهذان الإثباتان في ضمنهما كلُّ حمد يليق بالله تعالى.

5 - "سبحان الله العظيم": هو الذي يستحق أوصاف العظمة: من الكبرياء، والعزة، والجبروت؛ فهذه صفاته جلَّ وعلا. 6 - قوله: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم": قرنا ليجمعا بين مقامي الرجاء والخوف، فوصفه بالحمد الذي هو الثناء الجميل على الفعل الصادر من فاعله، وعلى ما يتَّصف به من صفات الكمال والجمال، والخوف والرهبة والهيبة ترجع إلى معنى العظمة، والكبرياء، والجبروت. 7 - قال في فتح الباري: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنَّما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، والطهارة من الحرام، والمعاصي العظام؛ فلا تظن أنَّ من أدمن الذِّكْرَ، وأصرَّ على ما شاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنَّه يلتحق بالمطَّهرين المقدَّسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح. 8 - أما ابن رجب فيقول: ومجرَّد قول القائل: "اللَّهمَّ اغفر لي" فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، ولاسيَّما إذا خرج من قلب منكسر بالذنوب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة، كالأسحار، وأدبار الصلوات، فذنوب العبد -وإن عظمت- فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها؛ فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- "ليغفرنَّ الله يوم القيامة مغفرة لم تخطر على بال بشر" أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله تعالى. والحمد لله الذي بنعمته وفضله تتم الصالحات؛ ففي اليوم السادس من شهر جمادى الثانية من عام عشر وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية: تم هذا الشرح المبارك، وذلك بالانتهاء من استنباط أحكامه، وذلك بقلم راجي عفو ربه عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد بن محمَّد بن حمد البَسَّام، في منزله بحي العزيزية في مكة المكرمة، وأسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلِّفه،

وقارئه، وناشره، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، مقرِّبًا لديه في جنات النعيم. وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهى الجزء السابع وبه تم الكتاب ولله الحمد والمنة

مراجع توضيح الأحكام

مراجع توضيح الأحكام - القرآن الكريم. * التفسير: - تفسير القرطبي. - تفسير ابن كثير. - تفسير البغوي. - التفسير القيم لابن القيم. - تفسير ابن جزي. - الجلالين. - تفسير ابن سعدي. - في ظلال القرآن. - مراح لبيد تفسير النووي. - كفاية أهل الإيمان في تفسير القرآن، لعبد الله بغودي. - تفسير الشوكاني. - أضواء البيان للشنقيطي. - تفسير حسنين مخلوف. - جامع البيان للطبري. - غاية البيان في تفسير القرآن. - إعراب القرآن لمحمود صافي. * التوحيد: - كتاب التوحيد. - فتح المجيد.

- اقتضاء الصراط المستقيم. - مدارج السالكين. - كتاب الروح. - السنن والمبتدعات. - الإبداع في مضار الابتداع. - شرح الواسطية للهراس. - مصرع الشرك والخرافة لخالد الحاج. * الحديث: - صحيح البخاري، ترقيم محمَّد فؤاد عبد الباقي. - صحيح مسلم، ترقيم محمَّد فؤاد عبد الباقي. - مستدرك الحاكم. - سنن أبي داود، ترقيم الدعاس. - سنن الترمذي، ترقيم أحمد شاكر. - سنن النسائي، ترقيم أبو غدة. - سنن ابن ماجه، ترقيم محمَّد فؤاد عبد الباقي. - تهذيب سنن أبي داود. - مسند الإِمام أحمد. - الأدب المفرد. - الترغيب والترهيب. - الإلمام لابن دقيق العيد. - الفتح الرباني. - جامع الأصول. - المنتقى للمجد ابن تيمية.

- رياض الصالحين. - مشكاة المصابيح. - الجامع الصغير. - كنز العمال. - المحرر لابن عبد الهادي. - فتح الباري. - العيني على البخاري. - فيض الباري. - شرح النووي على مسلم. - شرح العمدة لابن دقيق العيد. - حاشية شرح العمدة للصنعاني. - تيسير العلام شرح العمدة. - عون الباري على مختصر البخاري. - السراج الوهاج على مختصر البخاري. - شرح الأدب المفرد للجيلاني. - طرح التثريب. - عون المعبود. - تحفة الأحوذي. - بلوغ الأماني للساعاتي. - المسوى على الموطأ. - المنتقى على الموطأ. - أوجز المسالك إلى موطأ مالك. - نيل الأوطار.

- سبل السلام. - فيض القدير للمناوي. - إحكام الأحكام لابن قاسم. - الأربعين للنووي. - شرح الأربعين لابن دقيق العيد. - شرح الأربعين لابن رجب. - شرح الأربعين للفشني. - دليل الفالحين شرح رياض الصالحين، لابن علان. - شرح الأذكار لابن علان. - المرقاة على المشكاة. * أصول الحديث: - المنار لابن القيم. - تخريج أحاديث الإحياء للعراقي. - التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر. - إرواء الغليل. - سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني. - النَّهج الحديث في مختصر علوم الحديث لعلي نصر. - تيسير مصطلح الحديث الدكتور محمود الطحان. - أُسد الغابة في أسماء الصحابة لابن الأثير. - الإصابة في أسماء الصحابة. - تهذيب التهذيب. * كتب الفقه: - المغني.

- الشرح الكبير. - المقنع. - حاشية المقنع. - الفروع. - المبدع. - الإنصاف. - كشاف القناع. - شرح منتهى الإرادات. - شرح الغاية للرحيباني. - الروض المُربع. - حاشية الروض لابن قاسم. - شرح المفردات للبهوتي. - هداية الراغب. - تهذيب هداية الراغب. - نيل المآرب شرح دليل الطالب. - الفقه المختار مخطوط. - الإرشاد عبد الرحمن السعدي. - الفوائد الجليلة عبد الرحمن السعدي. - الاختيارات لابن تيمية. - مجموع الفتاوى لابن تيمية. - مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية. - فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد بن إبراهيم. - الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن السعدي.

- فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز. - فتاوى الشيخ عبد الله بن حميد. - الدرر السنية لعلماء الدعوة السلفية. - قرارات مجمع الفقه الإِسلامي بجدة. - قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي بمكة المكرمة. - قرارات مجمع البحوث الإِسلامية في القاهرة. - قرارات مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية. - أشرطة مسجلة للشيخ محمَّد بن عثيمين في الطهارة والصلاة. - المناسك للشيخ عبد الله بن جاسر. - المناسك للشيخ عبد العزيز بن باز. - المناسك للشيخ عبد الله بن حميد. - فقه الزكاة للقرضاوي. - الأحوال الشخصية لمحيي الدين عبد الحميد. - التعزير للدكتور عبد العزيز عامر. - التشريع الجنائي الإِسلامي عبد القادر عودة. - أحكام أهل الذمة، لابن القيم. - بدائع الصنائع. - حاشية ابن عابدين. - بداية المجتهد. - المجموع شرح المهذب. - الإحياء. - مختصر الإحياء للمؤلف. - مختصر الإحياء للعساف.

- الإجماع لابن المنذر. * أصول الفقه وقواعده - قواعد ابن رجب. - اللمع للشيرازي. - الورقات. - إرشاد الفحول للشوكاني. - أصول الفقه لأحمد إبراهيم. - أصول الفقه عبد الوهاب خلاف. - الموافقات للشاطبي. - إعلام الموقعين. - تاريخ التشريع الإِسلامي للخضري. - القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء. - الوجيز في القواعد الفقهية محمَّد صدقى. - الأشباه والنظائر لابن نجيم. - الأشباه والنظائر للسيوطي. * كتب منوعة: - الجواب الكافي. - حادي الأرواح. - الكبائر للذهبي. - النصائح الدينية للحداد. - روح الدين الإِسلامي لطبارة. - تحفة الذاكرين بِعدَّة الحصين الحصين للشوكاني. - الآداب الشرعية لابن مفلح.

- بدائع الفوائد. * كتب الاجتماع: - سيرة ابن هشام. - الطب النبوي لابن القيم. - الغذاء لا الدواء للقباني. - خلق الإنسان بين الطب والقرآن للبار. - معجم البلدان لياقوت. - وفاء الوفا للسمهودي. - معجم مناطق الحجاز للبلادي. * كتب اللغة: - الصحاح للجوهري. - مختار الصحاح. - المصباح. - لسان العرب. - القاموس. - المعجم الوسيط. - مقاييس اللغة. - النهاية في غريب الحديث. - مفردات الراغب. - الإفصاح في فقه اللغة. - تهذيب الأسماء واللغات للنووي. - الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة. - التعريفات للجرجاني.

- الدروس النحوية للغلاييني. - قواعد اللغة العربية لجنة من العلماء. - علوم البلاغة للمراغي. * تمت قائمة المراجع *

§1/1