توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته

رفعت بن فوزي عبد المطلب

مقدمات

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمات: مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى محمد خاتم النبيين والمرسلين. وبعد: فقد قام المسلمون من لدن الصحابة -رضوان الله عليهم- بالعناية الفائقة بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواية ودراية، ووضعها للأسس التي تحفظها، من تحريف الغالين وانتحال المبطلين. وقد كانت في القرن الثاني الهجري العلامات البارزة في طريق رعاية السنة النبوية الكريمة وتوثيقها؛ ذلك أنه قد هبت في هذا القرن أعاصير عاتية، تهدف إلى الإطاحة بالسنة، وإبعاد المسلمين عنها، وتشكيكهم في طرق نقلها ورواتها ... وقيض الله -عز وجل- أئمة كبارًا في هذا القرن، وقفوا في وجه هذه الأعاصير يردون كيدها، ويحفظون للمسلمين سنة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. حقيقة سعد هذا القرن بالنصيب الأوفى والقدح المعلى من أئمة المسلمين الذين قاموا بجهد كبير في توثيق السنة من أمثال مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه، محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، يعقوب ابن إبراهيم، والشافعي محمد بن إدريس، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، هؤلاء الذين وهب لهم الله البصائر النيرة، والعقول الذكية، مع الإخلاص لله عز وجل، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فقاموا بوضع المصنفات في السنة، ووضع الأسس التي تميز ما نسب حقًّا وصدقًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما وضع عليه زورًا وبهتانًا.

وما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون! فقد نبتت نابتة في عصرنا الحديث، تشكك المسملين في السنة، وتسير على درب أسلافهم الذين كادوا للمسلمين وللإسلام، وردهم الله على أعقابهم خاسرين، زعمت هذه النابتة أن السنة حرفت وبدلت ... وأن أسس توثيقها كانت واهية وشكلية، ولم تنهض بعبء الحفاظ عليها. هل حقًّا ما يزعم هؤلاء؟.. إن الأمر في حاجة إلى دراسة متأنية موضوعية، تكشف وجه الحق، وتبرز ما أخفاه هؤلاء الجاهلون، أو غاب عنهم. وهذا ما دفعني إلى اختيار موضوع هذه الرسالة، "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته". ومهدت لهذا الموضوع بتمهيد وقف عند بعض الموضوعات التي تحدد أبعاده، وتكون الأساس لما يعالجه من قضايا. وإذا كان الحديث الذي هو بمعنى السنة -كما اصطلحنا في هذه الرسالة- ينقسم إلى قسمين: السند والمتن، وكانت عناية أهل القرن الثاني هي توثيق القسمين معًا؛ بهدف التأكد مما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقلًا صحيحًا -فقد قسمت هذه الرسالة إلى قسمين: القسم الأول: ويعنى ببيان الأسس التي وضعت لتوثيق سند الحديث، مما يؤدي إلى توثيق متنه، وهو ما سماه بعض الباحثين بالنقد الخارجي للحديث. والقسم الثاني: ويعنى ببيان الأسس التي تتعلق بتوثيق متن الحديث بعيدًا عن سنده، وبالنظر إلى ألفاظه ومعانيه، وهو ما سُمي حديثًا كذلك بالنقد الداخلي للحديث. والقسم الأول: يتكون من أربعة فصول: يتناول الفصل الأول منه بيان كيفية نقل الحديث إلى أهل القرن الثاني الهجري؛ من حيث عدد رواته، وتواتر نقلته، أو عدم تواترهم.

ويتناول الفصل الثاني أسس توثيق الراوي ناقل الحديث، وبيان الشروط التي ينبغي توافرها فيه؛ حتى يطمأن إلى حمله للحديث، وروايته له نقيًّا غير محرف أو مبدل فيه. والفصل الثالث: يتناول مناهج تحمّل الحديث وروايته وما هو جدير منها بتوثيقه والمحافظة عليه؛ فيكون مقبولًا، وما هو غير ذلك، فيكون مرفوضًا. والفصل الأخير: من هذا القسم تعرض للأسانيد؛ من حيث اتصالها وانقطاعها، ومتى يكون الحديث بها موثقًا، ومتى يكون غير ذلك في رأي بعض الفقهاء والمحدثين. وقد طوف القسم الثاني من الرسالة مع الفقهاء ونقدهم الداخلي للحديث، بعيدًا عن رجاله وأسانيده.. وهو يتكون من ستة فصلول: الفصل الأول: يتناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على القرآن الكريم بين الآخذين به والرافضين له، والأمثلة التي طبق عليها هذا المقياس. والفصل الثاني: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة، ذلك المقياس الذي أخذ به الأحناف، ورفضه الإمام الشافعي كأساس من أسس توثيق الحديث. ومقاييس أخرى عرض لها الفصل الثالث، ومنها عرض أحاديث الآحاد على ما هو مشهور بين الصحابة وعملهم وفتاواهم: وقد تناول هذا الفصل وجهة نظر الآخذين بها والرافضين لها كمقاييس أساسية في نقد الحديث وتوثيقه. والفصل الرابع: تناول مقياس عرض أحاديث الآحاد على عمل أهل المدينة الذي أخذ به أصحاب مالك رضي الله عنه، ورفض الإمام الشافعي له، ومناقشته للآخذين به ومناقشة غيره من مخالفيهم.

والفصل الخامس: تناول مقياس عرض خبر الواحد على القياس، بين من يأخذون به كأساس من أسس توثيق السنة، ومن يرفضون أخذه كذلك. والفصل الأخير: عرض لرواية الحديث بالمعنى، من حيث المجيزون لهما، والرافضون.. كما عرض للأسس والقواعد التي وضعها بعض أئمة هذا العصر، ضمانًا لانتقال الأحاديث صحيحة عند روايتها بالمعنى. ثم جاء دور الخاتمة، التي ذكرت أهم النتائج والاقتراحات التي انتهت إليها هذه الرسالة. وطبيعة البحث في موضوع هذه الرسالة، على هذا المنهج، تقتضي الرجوع إلى نوعين من المصادر: مصادر تتناول أصول الفقه وأدلته، وأخرى تتناول أصول الحديث وأسسه. أما بالنسبة للنوع الأول فقد يسر الله مؤلفات تمثل هذه الفترة خير تمثيل، وتحتوي على كثير من الأسس التي قال بها أئمة عاشوا في القرن الثاني الهجري، ومن هذه المؤلفات كتب الإمام الشافعي؛ كـ"الرسالة"، و"الأم"، و"اختلاف الحديث"، وبعض كتب الإمامين: محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، و"موطأ الإمام مالك بن أنس". وهذه الكتب -بالإضافة إلى إمدادها هذه الرسالة بكثير من أصول توثيق السنة- كانت الفيصل والحكم فيها نسبه المتأخرون إلى أئمة هذا القرن من أسس. أو بعبارة أخرى كانت موازين عادلة وزنت بها كل هذه المنسوبات فأحقت بعضها، وأبطلت بعضها الآخر. وأما النوع الآخر فقد كان بعضه من هذه الفترة، كمؤلفات الإمام أحمد بن حنبل، والإمام علي بن المديني. وبعض منه كان قريبًا منها، ويمتاز بالدقة والصدق فيما نقل عن أئمة هذا القرن، وعن مؤلفاتهم: وأهم هذه المصادر كتب ابن أبي حاتم الرازي: الجرح والتعديل، والمراسيل وآداب الشافعي، وعلل الحديث. وكتاب الرامهرمزي المحدث

الفاضل الذي يعتبر في رأي كثير من الدارسين أول مؤلف في أصول الحديث. وقد قام هذا النوع بنفس الدور الذي قام به النوع الأول. وطبيعي أن تغني هذه المصادر الأصيلة عن كثير من المراجع الحديثة في كثير من الأحيان، وإن كان للأخيرة فضل الاسترشاد وإنارة الطريق، ووضع علامات استفهام في طريق البحث لفتت نظري إلى أهم ما يجب أن يبحث عنه في هذهالفترة، كإجابات عن هذه الاستفهامات. وتتبعت منهج1 أستاذنا الجليل محمد أبي زهرة عليه رحمة الله، فلم أثقل هوامش الرسالة بالإحالة إلى المراجع، واكتفيت بالمصادر عندما تلتقي الأولى بها، وبأهم المصادر وأقدمها عنما تلتقي هي أيضًا على فكرة واحدة. وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هي تلك التي تعتمد على النصوص والوثائق فقد التزمت هذه الرسالة -إلى حد كبير- بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من فكر ومبادئ ... وربما يلمس القارئ نوعًا من الغموض في بعضها، كنصوص الإمام الشافعي.. ولكن يعلم الله مقدار المعاناة في قراءة هذه النصوص والاستفادة منها، ومراجعتها أكثر من مرة ... وقد كنت حريصًا على إيرادها، والاستفادة منها، مؤثرًا الطريق الوعر، وتقديم كثير منها لأول مرة على الرغم من أن كتب الإمام الشافعي منتشرة بين العلماء، وطبعت منذ زمن بعيد.

_ 1 ذكر هذا المنهج في مقدمة كتابه "مالك: حياته وعصره - آراؤه وفقهه" وكان يطبقه كذلك.

وبعد؛ فقد اجتهد ما وسعني الاجتهاد في هذه الرسالة، ولكن الكمال لله عز وجل وحده، والمعصومون من الأخطاء هم أنبياء الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ... فأدعوا الله العلي الكريم أن يغفر زلات هذا العمل وأخطاءه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به؛ إنه نعم المولى، ونعم المجيب. القاهرة في: ربيع الثاني 1396هـ. أبريل 1976م. رفعت فوزي عبد المطلب

تمهيد

تمهيد مدخل ... تمهيد: 1- يجدر بنا قبل أن نسير في بحثنا "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري: أسسه واتجاهاته" أن نقف عند بعض الموضوعات التي تمهد له، وتكون أساسًا لما نعالجه من قضايا، وتوضح أبعاده. ونعني بهذه الموضوعات: تحديد معنى السنة والحديث، ومعنى كلمة التوثيق ... ونظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري ... ودوافع التوثيق في القرن الثاني ... والموثقون للأحاديث فيه. السنة: 2- والسنة لها إطلاقات في اللغة1: فهي السيرة الحسنة أو القبيحة، ومن ذلك قول الشاعر: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وفي الحديث النبوي الكريم الذي رواه مسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 2. وكل من ابتدأ أمرًا واقتدى به فيه من بعده قيل: هو الذي سنه، قال الشاعر: كأني سننت الحب أول عاشق ... من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي

_ 1 انظر هذه الإطلاقات في لسان العرب مادة "س ن ن" طبعة دار صادر بيروت جـ15. 2 صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة. طبعة دار الشعببالقاهرة مج3 ص55. وانظر صحيح مسلم طبعة دار التحرير 1384هـ. المصورة عن طبعة استانبول عام 1329 جـ8 ص61/ 62 مع اختلاف في بعض الألفاظ. - الفقيه والمتفقه: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "392- 463هـ) دار إحياء السنة النبوية 1395هـ - 1975م. المجلد الأول ص: 86 و87.

وقد يراد بها حسن الرعاية، والقيام على الشيء، من قولهم: سننت الإبل، إذا أحسنت رعايتها والقيام عليها. 3- ولكن ماذا تعني "السنة عند العلماء؟ ... إذا بدأنا بالاستعمالات الأولى للسنة، وجدنا أنهم يريدون بها عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته، فقد روى البخاري في صحيحه حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: "إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة"1. قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: وهل يعنون بذلك إلا سنته؟! ... ويعلق السيوطي على هذا بقوله: "فنقل سالم، وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي، صلى الله عليه وسلم"2. ومن هذا قول أبي قلابة: "عن أنس: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا". قال أبو قلابة: "لو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم"؛ أي لو قلت لم أكذب؛ لأن قوله: من السنة" هذا معناه3. وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن زياد بن عبد الله النخعي قال: "كنا جلوسًا مع علي رضي الله عنه في المسجد الأعظم، فجاء المؤذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين. فقال: اجلس، فجلس، ثم عاد، فقال له

_ 1 أي صلها في الهاجرة. والهاجرة اشتداد الحر في نصف النهار، قيل: سميت بذلك من الهجر، وهو الترك، لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون. "فتح الباري جـ2 ص17". 2 تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي "849 - 911هـ" تحقيق عبد الوهاب عبد المطلب -الطبعة الثانية- دار الكتب الحديثة - القاهرة 1285هـ - 1966م - جـ1 ص 188 - 189. 3 المصدر السابق 1/ 189.

ذلك، فقال علي: هذا الكب يعلمنا السنة؟!. فقام علي فصلى بنا العصر، ثم انصرفنا، فرجعنا إلى المكان الذي كنا فيه جلوسًا، فجثونا للركب، لتزور الشمس للمغيب، نتراءاها1. وقد أطلقها عمر رضي الله عنه، وذكرها ابن عباس، وعمرو بن العاص، وعائشة، رضوان الله عليهم، وأرادوا بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم2. ولهذا قال الشافعي، رحمه الله، مطلق السنة يتناول سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقط3. 4- وقد تطلق السنة وبراد بها عمل الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين، سواء أكان ذلك مأخوذًا من الكتاب أو من سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أم من اجتهادهم. وقد ساغ هذا؛ لأن عملهم اتباع لسنة ثبتت عندهم، لم تنقل إلينا، أو اجتهاد مجتمع عليه منهم أو من الخلفاء4. وقد اعتبر الإمام مالك والإمام أحمد، رحمهما الله، فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم من السنة5.

_ 1 المستدرك على الصحيحين في الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم "405هـ"، مكتبه ومطابع النصر الحديثة بالرياض 1/ 192. وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال: الذهبي صحيح. 2 اختلاف الحديث: للإمام الشافعي، على هامش الجزء السابع من كتاب الأم له، طبعة دار الشعب 1388هـ 1968م ص25 -تدريب الراوي: جـ1 ص189. 3 أصول السرخسي: محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي "490هـ" تحقيق أبي الوفا الأفغاني. نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر أباد الدكن بالهند 1372 هـ، جـ1 - ص113، 114 - أصول البزدوي على هامش شرحه كشف الأسرار: لأبي الحسن علي بن محمد بن حسين البزدوي مكتب الصنايع 1307هـ، 2/ 628، 629. 4 الموافقات في أصول الأحكام: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغناطي الشاطبي "790هـ" المكتبة السلفية. القاهرة 1341هـ، جـ4 ص2، 3. 5 ابن حنبل، حياته وعصره - آراؤه وفقهه: للأستاذ محمد أبي زهرة. دار الفكر العربي. مصر ص251.

وينقل السرخسي أن السلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين. وبين أن أصل هذا الإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" 1. 5- ولهذه الإطلاقات اختلف العلماء في قولهم: "من السنة كذا" فقد يحمل هذا القول على سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مقصودًا به من بعده من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وخاصة الصحابة2. 6- على أنه ينبغي أن ننبه إلى أنه على الرغم من وجود المعاني السابقة للسنة - فإنهم كانوا يعتبرون ما صدر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم مميزًا عن غيره، وأنه، بعد كتاب الله عز وجل، له الأولوية على ما عداه، وأنهم إذا أخذوا بغيره فلأنهم لم يجدوا ما يغنيهم من صحيح السنة، عندئذ يلجئون إليه، يقول الإمام الشافعي: "والعلم طبقات شتى، الأولى: الكتاب، والسنة إذا ثبتت السنة، ثم الثانية: الإجماع، فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قولًا، ولا نعلم له مخالفًا منهم، وارابعة: اختلاف أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذلك. الخامسة: القياس على بعض الطبقات، ولا يصدر إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى3". حقيقة وجدنا أن بعض العلماء، وخاصة في القرن الثاني الذي نقوم بدراسته، قد رد بعض الأخبار عدم شهرتها بين الصحابة، أو عدم

_ 1 أصول السرخسي 1/ 114 - أصول البزدوي 2/ 630، والحديث رواه الترمذي في جامعه في كتاب العلم 3/ 378 طبعة دار الكتاب العربي - بيروت، بشرح تحفة الأحوذي، وقاله فيه: "حسن صحيح". 2 أصول البزدوي 2/ 628. 3 الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي، طبعة الشعب جـ7 ص247.

أخذهم بها دليلًا، أو لأن بعض البلدان، وخاصة المدينة، لا تعمل بها، ثم يأخذون بأقوال للصحابة أو بعمل أهل المدينة، ولكن هذا لا يعني إلا أمرين. الأول: أنهم لم يأخذوا بهذا على أنه مثل السنة في المكانة، ولا لأن السنة تطلق عليهما؛ وإنما لأنهم أصبحوا في شك، يقرب من اليقين أن هذا لم يصدر من الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن هناك انقطاعًا باطنيًّا في الحديث، كما يعبر الأحناف. الثاني: أن هذا تمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؛ لأنهم عندما يلجئون إلى عمل، أو إلى الصحابة، فلاعتقاد منهم أنهم ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعبارة أخرى عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول هذا لندرك مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين من أمثال يوسف شاخت، الذي يقول عن علماء القرن الثاني الهجري قبل الشافعي ومعاصريه إن "السنة بالنسبة إليهم لا ترتبط ضرورة بالنبي، ولكنها تمثل الآثار، ولو تصورًا، التي كان عليها العمل بين الجماعة مكونة العرف، فكانت على قدم المساواة مع ما كان يجري عليه العمل من عاداتهم، أو ما كانت تأخذ به عامتهم على وجه العموم". ويؤكد فكرة المساواة هذه بعبارة أوضح، فيقول: "ومن ناحية أخرى، فإنه من المؤكد أن السابقين والمعاصرين للشافعي كانوا يقدمون أحاديث الرسول إلا أنهم كانوا يضعونها في نفس المنزلة، التي يضعون فيها آثار الصحابة والتابعين"1، ثم يناقض نفسه فيجعل سنة الرسول في منزلة أقل فيقول: "وقد كان الاحتجاج بآثار الصحابة والتابعين هو المعمول فيه عند الجيلين السابقين للشافعي، وكان الاحتجاج بأحاديث الرسول الأمر الشاذ"2.

_ 1 Origns of Mohamadan Jurisprudence J.ch. P. 25 عن موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق الفقهية: لمحيي الدين عبد السلام البلتاجي. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة ص130. 2 المصدر السابق ص132.

نقول: لم يتصور أحد من المسلمين قبل الشافعي أو بعده أن عمل الصحابة ومن بعدهم، أو العمل بين الجماعة. والذي يكوِّن العرف يكون على قدم المساواة مع ما ينسب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أو في نفس المنزلة، فضلًا عن أن يكون في منزلة أدنى، أو في وضع شاذ بالنسبة لعمل غيره. والأمر لا يتعدى أن بعض الفقهاء قد وضع بعض المقاييس لتوثيق السنة، وهو الذي جعل الإمام الشافعي يرميهم بترك السنة، وعدم الاعتماد على صحتها من حيث الإسناد. ولم يكن الشافعي هو الذي أتى بالجديد في ذلك، كما يزعم هذا الرجل، ويتبعه في ذلك بعض الباحثين، فقد كان معه ووراءه وقبله المحدثون جميعًا ينادون بترك هذه المقاييس والاقتصار على صحة الإسناد، ويتهمون مخالفيهم بترك السنة والابتعاد عنها، وهي تهمة كان يفزع منها خصومهم، ويحاولون أن يثبتوا أنهم برآء منها، ولو كان الأمر عندهم كما يصور "شاخت" وأمثاله ما بالوا بهذه التهم، ولما كانت شنيعة في نظرهم ونظر مجتمعهم، ما دام الأخذ بالسنة هو الأمر الشاذ. وسيثبت لنا هذا البحث في جزء كبير منه، أنهم في الحقيقة كانوا يقدمون سنة النبي، النبي متى صحت عندهم بالمقاييس التي وضعوها، ولا يقدمون عليها إجماعًا أو قولًا أو عملًا، من الصحابة أو من غيرهم. 7- وغير هذه الإطلاقات قد تطلق السنة في مقابلة البدعة، أي ما يحدثه الناس من قول أو عمل في الدين مما لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، يقول الشاطبي: "فيقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا ... ويقال فلان على بدعة إذا كان على خلاف ذلك "واعتبر في هذا الإطلاق عمل صاحب الشريعة، وإن كان العمل بمقضى الكتاب1". 8- وتطلق السنة على النوافل من العبادات غير الفروض، مما نقل

_ 1 الموافقات 4/ 2، 3.

عن النبي، صلى الله عليه وسلم، سواء كانت مؤكدة يكره تركها أو غير ذلك1. 9- والسنة عند الشيعة لها إطلاق يختلف إلى حد كبير عن كل هذا. لأنها عندهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله أو تقريره، وقول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، أو بعبارة أخرى قول المعصوم أو فعله أو تقريره. وذلك لأن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب الاتباع "والأئمة من آل البيت عندهم ليسوا من قبيل الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية؛ بل لأنهم هم المنصّبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام ... وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي من المعصوم قبله"2. 10- وبعد أن استقرت المصطلحات في مؤلفات أصول الحديث والفقه وأصوله وجدنا للسنة مفهومات محددة تسير عليها هذه المؤلفات، ويسير عليها العلماء المتأخرون في هذه العلوم الثلاثة: فالسنة عند علماء الحديث هي كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، سواء أدل ذلك على حكم شرعي أم لا. والسنة عند علماء أصول الفقه هي كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي. والسنة عند علماء الفقه هي كل ما ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري، لأستاذنا د. عبد المجيد محمود: رسالة دكتوراه - دار العلوم 1388هـ - 1968ص3 الطبعة الأولى مكتبة الخانجي. 2 أصول الفقه: محمد رضا المظفر. الطبعة الثالثة. دار النعمان بالنجف 1391هـ 1971ن م جـ3 ص 61. "2 - توثيق السنة"

ولم يكن من باب الفرض. فهي الطريقة المتبعة في الدين من غير افتراض1. 11- وسنسير في بحثنا -إن شاء الله تعالى- على الإطلاق الأول، وهو إطلاق المحدثين الذين يعنون بالسنة -كما أسلفنا- كل ما أثر عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن التوثيق للسنة اتجه إلى هذا المعنى، وعليه وضعت الأسس لمعرفة الصحيح الذي ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما يتعلق به حقًّا، من زيفه الذي ينسب إليه كذبًا أو ضعيفه الذي يُشك في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم. كما أنه لن يلتفت إلى أسس توثيق الشيعة للحديث؛ لأنهم لم يقوموا بوضع هذه الأسس إلا بعد القرن الثاني الهجري، وفي هذا القرن وما قبله كان هناك الأئمة الذين يأخذون منهم الأحاديث مباشرة، فمثلهم في هذا مثل من كانوا في العهد يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك من حاجة إلى وضع هذه الأسس، ولا إلى تلك الحركة العلمية الهائلة التي قامت بوضع أسس لتوثيق السنة عند أهل السنة. ولم يبدأ التصنيف في علم أصول الحديث عندهم إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، مع التسليم بأن الحاكم النيسابوري منهم "405هـ"2. هل يختلف هذا المفهوم الذي اخترناه للسنة عن مفهوم الحديث؟: الحديث: 12- الحديث في اللغة يطلق على الجديد ضد القديم، كما يطلق على الخبر والقصص، قال في "القاموس المحيط": "والحديث الجديد والخبر"

_ 1 السنة قبل التدوين: د. محمد عجاج الخطيب، الطبعة الأولى -مكتبة وهبة -القاهرة 1383هـ - 1963م، ص15 - 18. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: د. مصطفى السباعي- الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة ص52- 53، ومصادرها. 2 نشأة علوم الحديث ومصطلحه: د. محمد عجاج الخطيب -كلية دار العلوم- جامعة القاهرة 1384هـ - 1965م ص 493. أمثال الحديث، مع تقدمه في علوم الحديث: د. عبد المجيد محمود. دار التراث، الطبعة الأولى 1975 - القاهرة، ص74.

وفي "لسان العرب": "والحديث الجديد من الأشياء، والحديث الخبر يأتي على القليل والكثير، والجمع أحاديث". 13- وتخصيص الحديث بما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد بدأ في حياته صلى الله عليه وسلم، فقد سأله أبو هريرة: "يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة".. فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أدل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث" 1. 14- وقد اتسع استعمال الحديث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح يشمل مع القول فعله وتقريره صلى الله عليه وسلم2. ولهذا يصطلح المحدثون على أنه "ما صدر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة3. وهذا ما يطبق فعلًا في كتب الحديث منذ القرن الثاني الهجري، حتى إننا نجده في الكتب الخاصة بالسنن، أي بأدلة الأحكام من السنة4.

_ 1 صحيح البخاري طبعة الشعب جـ1 ص35/ 36. 2 الاتجاهات الفقهية ص2. 3 قواعد التحديث، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق محمد بهجة البيطار. الطبعة الثانية 1380هـ - 1961م، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي ص64. 4 انظر مثلًا سنن الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي "255هـ) دار إحياء السنة النبوية 1/ 4 - 6. - وانظر جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي - دار الكتاب العربي - بيروت لبنان 1/ 302 - 307.

السنة والحديث

السنة والحديث: 15- وهذا التعريف للحديث عند المحدثين ينطبق تمامًا على تعريف السنة، عندهم كما سبق أن ذكرنا. ولكنه قد يبدو في أقوال بعض العلماء في القرن الثاني الهجري التفرقة بينهما نلمس، ذلك في قول الأعمش1 رحمه الله: "لا أعلم لله قومًا أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث، ويحبون هذه السنة2"، وأوضح منه على هذا قول عبد الرحمن بن مهدي: "الناس على وجوه؛ فمنهم من هو إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث وليس بإمام في السنة". وربما كان أساس هذا التفريق هو أنهم كانوا ينظرون إلى أن "الحديث أمر علمي نظري، وأن السنة أمر عملي؛ إذ أنها كانت تعتبر المثل الأعلى للسلوك في كل أمور الدين والدنيا، وكان هذا سبب الاجتهاد في البحث عنها والاعتناء بحفظها والاقتداء بها4". وربما كان الأساس هو أن بعضهم كان ينظر إلى السنة على أنها أعم من فعلالرسول وقوله وتقريره، وتشمل أفعال الصحابة والتابعين، كما سبق أن ذكرنا. 16- ولكننا سنسير في بحثنا هذا -إن شاء الله تعالى- على أن السنة والحديث يتطابقان في المعنى، ويمكن أن يطلق أحدهما على الآخر. 17- وقد نطلق لفظين آخرين، ونريد بكل منهما ما نريده من كلمتي السنة والحديث بالمفهوم الذي اخترناه، وهما الخبر والأثر، وهما مرادفان للحديث عند المحدثين، ولهما مفهومات أخرى عند غيرهم5 ليس هنا مجال بحثها.

_ 1 هو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي "148هـ" له ترجمة في تذكرة الحفاظ للذهبي - الطبعة الثالثة 1/ 154. 2 المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي "نحو 260 - 360هـ" تحقيق د. محمد عجاج الخطيب. دار الفكر بيروت. الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م، ص 177. 3 تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل: للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (240 - 327هـ) الطبعة الأولى - دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن. الهند 1371هـ - 1952م ص118. 4 الاتجاهات الفقهية ص4. 5 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني - مكتبة القاهرة. ص3 - قواعد التحديث ص 61 - 62.

توثيق السنة والمراد منه

توثيق السنة والمراد منه: 18- في "لسان العرب" في مادة "وث ق": الثقة مصدر قولك: وثق به يثق بالكسر فيهما، وثاقة وثقة: ائتمنه، وأنا واثق به، وهو موثوق به، وهي موثوق بها وهم موثق بهم.... وثقت فلانًا إذا قلت: إنه ثقة، ووثقت الشيء توثيقًا؛ فهو موثق، والوثيقة الإحكام في الأمر ... ويقال: استوثقت من فلان، وتوثقت من الأمر: إذا أخذت منه بالوثاقة. وأخذت الأمر بالأوثق؛ أي: الأشد الأحكم ... وناقة موثقة الخلق: محكمة1. ويضيف "تاج العروس": ووثقه توثيقًا؛ فهو موثق: أحكمه، ووثق فلانًا، قال فيه: ثقة، أي مؤتمن. 19- ونريد من توثيق السنة أو الحديث قريبًا من هذا، وهو الوصول بالحديث، بتطبيق الأسس العلمية التي وضعها العلماء، إلى درجة إحكام اتصاله، ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفر الأمانة في نقله من التحريف والتغيير أو الزيادة فيه. وعدم ائتمان ما يخالف هذه الأسس. ويمكننا أن نقول على غرار هذه المادة اللغوية: وثق بالحديث يثق به، ائتمنه وأنا واثق به، أي آمن نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثقت الحديث توثيقًا، أحكمت نسبته إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 20- وقد شاع استعمال لفظ "ثقة" على لسان النقاد من المحدثين، وكتبهم وصفًا للرواة، ويعنون به ذلك الراوي العدل الضابط الذي يروي الأحاديث الصحيحة، لكنهم لم يتسعملوها كثيرًا -على ما أعلم- وصفًا للحديث الثابت الصحيح، وممن استعمل هذا في القرن الثاني الهجري الإمام محمد بن الحسن الشبياني في كتابه "الحجة" الذي ألفه في الرد على أهل المدينة،

_ 1 لسان العرب: وقارن به تهذيب اللغة للأزهري 9/ 266 تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون - الدار المصرية للتأليف والترجمة. 2 تاج العروس مادة: "وث ق".

فقال: "قد جاءت في الوتر أحاديث مختلفة، فأخذنا بأوثقها1"، ولكنه شاع في العصر الحديث، وخاصة في كتابة التاريخ مدعمًا بالأسانيد التي تثبت الوقائع، والمصادر الأصلية والمضبوطة، وصولًا منها إلى الحقائق التاريخية الثابتة والصحيحة. 21- ونريد ما هو شبيه بهذا من بحثنا، وهو بيان الأسس التي وضعها نقاد الحديث، صيانة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقاء لصحيحه، وإبعادًا للضعيف والموضوع. 22- وقد آثرنا هذه الكلمة على غيرها مما كان شائعًا عند المحدثين، وهو كلمة "النقد2"؛ لأنها، وإن كان معناها الحقيقي بيان الصحيح من غيره، إلا أنه قد شاع استعمالها الآن خطأ في بيان العيوب، وقد يوحي استعمالنا لها في عنوان هذا البحث أننا نبين أسس عيوب السنة، وليس هذا بالطبع هو الواقع، أو ما نريده، وإنما الذي نريده، هو كشف الأسس التي قام عليها تمييز صحيح السنة من ضعيفها وزيفها3؛ لنصل بالدراسة إلى أي مدى كانت هذه الأسس، مؤدية إلى الهدف الذي كان يريد أن يصل إليه علماؤنا من المحدثين والفقهاء؛ وهو تنقية السنة مما علق بها من شوائب التحريف والزيف، ثم تقديمها خالصة نقية؛ كي يستفيد منها المسلمون، كينبوع ثان من ينابيع التشريع الإسلامي، بعد كتاب الله عز وجل: الينبوع الأول.

_ 1 الحجة: للإمام محمد بن الحسن الشيباني "189هـ" مكروفيلم بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، ص 44. 2 انظر مثلًا تقدمه المعرفة ص2 و10 و219. 3 وهذا ما يقوم به علم الحديث دراية، وهو علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها؛ وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها، وعلم الحديث رواية، وهو علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وروياتها وضبطها وتحرير ألفاظها. "تدريب الراوي 1/ 40".

نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري

نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري: 23- إن جهود توثيق السنة في القرن الثاني الهجري لا تؤتي الثمار المرجوة منها إلا إذا سبقتها جهود أخرى قام بها قبلهم رجال القرن الأول الهجري؛ إذ أن هذه الجهود كانت هي الأساس الذي بنى عليه أهل القرن الثاني عملهم. ما هذه الجهود؟: 24- إن القرن الأول الهجري كان فيه الصحابة الذين تلقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيه كبار التابعين الذين أخذوا الحديث عنهم. إذن فلنبين ما قام به الصحابة رضوان الله عليهم من أجل الحفاظ على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجهود التابعين من بعدهم في هذا السبيل، حتى أسلموهها إلى أهل القرن الثاني الهجري. توثيق الصحابة: 25- لقد رأى الصحابة، رضوان الله عليهم، أن سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جزء من الدين الذي يدينون به؛ ففي القرآن الكريم الحث على طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والنهي عن مخالفته، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 1، وقال جل شأنه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} 2، وقال عز من قائل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3، وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4، إلى غير ذلك من الآيات.

_ 1 النساء: 80. 2 النساء: 59. 3 النساء: 65. 4 الحشر: 7.

26- وفي القرآن الكريم أيضًا الحث على الاقتداء به صلى الله عله وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . 27- بالإضافة إلى ذلك فالرسول، صلى الله عليه وسلم، حذرهم من ترك سنته حين قال لهم: " لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: ما أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 2، وحين قال لهم يوم أن حرم عليهم أشياء يوم خيبر: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله" 3. 28- وقد أحسوا بذلك يقينًا حين نزلت بعض آيات من القرآن الكريم، فلم يستطيعوا فهمها، أو تنفيذ ما فيها من الوامر أو النواهي إلا بالرجوع إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبيانه لها؛ تنفيذًا لقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4. لقد نزلت الآية الكريمة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، فأبهم معنى كلمة الظلم عليهم، ويئسوا وقالوا:

_ 1 الأحزاب: 21. 2 رواه الحاكم في المستدرك 1/ 108، وقال على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ويقول شيخنا المحدث الشيخ محمد الحافظ التجاني: "وسند هذا الحديث ورجاله رجال الصحيحين"، "سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب السابع 1389هـ - 1969م، ص21، 22". 3 رواه الحاكم أيضًا في المستدرك 1/ 109 - 110، وسنده صحيح "سنة الرسول ص 23". 4 سورة النحل: 44. 5 سورة الأنعام: 82.

أينا لم يظلم وانشتنهم رسولهم الكريم من هذا اليأس حين وضح لهم أن هذه الكلمة، تبين أن المراد بالظلم في هذه الآية الكريمة هو الشرك1. ونزلت الأوامر مجملة بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففصل هذا الإجمال بسنته القولية أحيانًا وبسنته العملية كثيرًا، ولولا هذا البيان ما استطاعوا أن ينفذوا أمر الله تعالى بذلك. ونزلت بعض الآيات الكريمة تحمل أحكامًا عامة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخصص هذا العموم، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2، فقال صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل"3، وقال: "لا نورث، ما تركنا صدقة"4. وجاءت بعض الآيات الكريمة بأحكام مطلقة، فجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيدتها، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 5 وقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بالثلث6، ولا تكون لوارث7. بالإضافة إلى ذلك فقد جرت السنة بأحكام أخرى، غير توضيح المبهم، وتفصيل المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق؛ فحرمت مثلًا الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها8. وحرمت أكل كل ذي ناب من

_ 1 في رحاب السنة: الكتب الصحاح الستة د. محمد أبو شهبة. مجمع البحوث الإسلامية "الكتاب الثامن" 1389هـ - 1969م ص10. 2 النساء: 11. 3 سنن الترمذي جـ4 ص42، "طبعة مصطفى البابي الحلبي". 4 صحيح البخاري جـ8 ص185 "طبعة دار الشعب". 5 سورة النساء: 11. 6 سنن النسائي جـ6 ص241 - 245 المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة. 7 سنن الترمذي جـ4 ص433. 8 مصنف عبد الرزاق جـ6 ص263 - سنن النسائي جـ6 ص96 - 98.

السباع1، وحللت أكل لحم الضب والأرانب2 وغير ذلك3. 29- أحس الصحابة في هذا كله بالحاجة الملحة إلى أخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسوا أيضًا بالحاجة إلى حملها وصيانتها وحفظها وتسليمها إلى من بعدهم من الأجيال، والقرآن الكريم وجههم إلى حين قال لهم: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 4. والرسول صلى الله عليه وسلم، وجههم إلى ذلك أيضًا حين قال لهم: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها، ووعاها فبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 5. وحين يقول لهم عقب بعض خطبه: "هل بلغت ... اللهم اشهد ... يأيها الناس، ليبلغ الشاهد منكم الغائب" 6. وحين كان يقول لهم: "تسمعون ويُسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم" 7. 30- وحرصوا على عدم الغلط في الأخذ أو في الأداء؛ لأنهم سمعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لهم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 8. لهذا كله جدوا غاية الجد، وأخذوا بكل الوسائل التي تحقق لهم أخذ سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذًا صحيحًا، وأداءها أداءً سليمًا، لا تبديل فيه ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقصان.

_ 1 سنن النسائي جـ7 ص200، 201. 2 المصدر السابق جـ7 ص196 - 200. 3 أصول التشريع الإسلامي: للأستاذ علي حسب الله. دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة 1391هـ - 1971م ص39 - 41. 4 التوبة: 122. 5 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "807هـ" بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر -مكتبة القدس "1352هـ". القاهرة 1-139 ورجاله موثقون. 6 المصدر السابق 1- 139 ورجاله موثقون. 7 شرف أصحاب الحديث الخطيب البغدادي "392 - 463هـ" كلية الإلهيات جامعة أنقرة 1971 تحقيق د/ محمد سعيد خطب أوغل ص38. 8 مجمع الزوائد: 1/ 143 ورجاله رجال الصحيح.

دوافع التوثيق في القرن الهجري

دوافع التوثيق في القرن الهجري: ومن هذه الوسائل: 1- الحرص على سماع الأحاديث: 31- ففي عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان الرجل منهم يحرص على حضور مجلسه، صلى الله عليه وسلم؛ لسماع الأحاديث منه، والتزود من توجيهاته السديدة، ونصائحه الكريمة، وبيانه، صلى الله عليه وسلم، للقرآن الكريم. ولما كانت عندهم أعمال تشغلهم في بعض الأوقات عن حضور مجلسه، صلى الله عليه وسلم، تناوبوا الذهاب إليه، صلى الله عليه وسلم؛ كي يبلغ الشاهد منهم الغائب، فلا يفوت أحدًا منهم أمرًا من الأمور التي يجب أن يحفظوها عنه، وينفذوا ما فيها من تعاليم1. 32- وكان لا يمل أحدهم أن يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مرة، ويذكر بعضهم أنه لا يجيز لنفسه أن يروي الحديث إلا إلا إذا سمعه أكثر من ثلاث مرات2. ولقد كان بعضهم يَلزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ يأكل معه ويشرب، حتى يسمع منه كل ما يحدث به، وحتى لا يفوته من سنة رسول الله شيء، ومن هؤلاء أبو هريرة رضي الله عنه، الذي يقول: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"3. 33- وكانوا يتثبتون في السماع، فيسألون من حضر منهم مجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول جابر بن سمرة، سمعت رسول الله،

_ 1 صحيح البخاري طبعة دار الشعب 1/ 33. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 481 - 473. وانظر لهذا وما قبله بعض الأمثلة في رسالتي للماجستير "عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي" كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ص168. وهي تحت الطبع. 3 صحيح البخاري 1/ 40 - 41.

صلى الله عليه وسلم، يقول: "اثنا عشر قيما من قريسش لا تضرهم عداوة من عاداهم" 1، فالتفت، فإذا عمر بن الخطاب وأبي في أناس، فأثبتوا لي الحديث، كما سمعت. 34- وكان هذا التقليد من الصحابة، رضوان الله عليهم، هو الأساس الذي سار عليه معظم علماء الحديث والفقه بعد ذلك، توثيقًا لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصيانة له، فاعتبروا أن الأحاديث التي تؤخذ سماعًا أصح من غيرها؛ لأن الأخذ من الكتاب قد يؤدي إلى الخطأ إذا قرأه قراءة محرفة. 2- حفظ الأحاديث: 35- وبعد سماعهم للأحاديث وتثبتهم في سماعهم يحفظونها، ويؤدونها أداء سليمًا، ولقد نبههم إلى ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال لهم: "عليكم بالقرآن، وسترجعون إلى أقوام سيبلغون الحديث عني، فمن عقل شيئًا فليحدث به، ومن قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتًا، أو مقعده من جهنم" 3. 36- ولهذا رأينا إقلالهم من رواية الأحاديث، واستثقالهم لها؛ لأنهم يخافون ألا يكونوا قد حفظوا الأحاديث، فيكذبون فيها، أي يخطئون4، وقد روي عن عمر، وعبد الله بن مسعود قولهما: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" 5، وذلك لأنه ليس كل ما يسمع الإنسان يحفظه.

_ 1، 2 المحدث الفاصل ص494. وأخرج الإمام مسلم عنه: "لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة"، قال: ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش". صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 482. 3 رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات "مجمع الزوائد 1 - 144" ورواية أحمد في المسند 4/ 334: "عليكم بكتاب الله، وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ومن حفظ عني شيئًا فليحدثه". 4 انظر المحدث الفاصل ص 553 - 558. 5 معرفة السنن والآثار: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي "384 - 458هـ" تحقيق السيد أحمد صقر - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1/ 47. وقد أخرج الحديث مسلم في صحيحه مرفوعًا عن أبي هريرة "مسلم بشرح النووي 1/ 59 - 60".

37- ومن أجل حفظ الأحاديث وأدائها أداء سليمًا كانوا يتذاكرونها فيما بينهم، ويحضون على ذلك، يقول أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه: "تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيج بعضه بعضًا". وقال علي كرم الله وجهه: "تزاوروا وأكثروا ذكر الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يندرس". وعن عبد الله بن مسعود: "تذاكروا الحديث، فإن حياته مذاكراته"1. 3- تمحيص الرواة: 38- أي الأخذ من الضابطين منهم وترك غيرهم، ممن لا يضبطون أحاديثهم فيخطئون في روايتها. يقول السخاوي: "وأما المتكلمون في الرجال فخلق من نجوم الهدى، ومصابيح الظلام، المستضاء بهم في دفع الردى، لا يتهيأ حصرهم في زمن الصحابة، رضي الله له عنهم، وهلم جرًّا ... سرد ابن عدي في مقدمة "كامله" منهم خلقًا إلى زمنه، فالصحابة الذين أوردهم: عمر، وعلي، وابن عباس، وعبد الله بن سلام، وعبادة بن الصامت، وأنس، وعائشة، رضي الله عنهم، وتصريح كل منهم بتكذيب من لم يصدقه فيما قال"2. 39- ومن هنا نشأ تشديدهم على من يروي لهم الأحاديث التي لم يسمعوها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول البراء بن عازب، رضي الله عنه، مبينًا هذا: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه من أقرانهم، ومن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه"3.

_ 1 معرفة علوم الحديث: للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري "321 - 405هـ" تحقيق السيد معظم حسين - دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1970م ص 140، 141. 2 الإعلان بالتوبيخ، لمن ذم التاريخ: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "902هـ" القدسي. دمشق 1349هـ، ص163. 3 معرفة علوم الحديث للحاكم. ص14.

ومن مظاهر هذا التشدد أن بعض الصحابة كان يستحلف راوي الحديث غير مبال بمنزلة هذا الراوي في الإسلام، أو منزلته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد استحلف بعضهم عليًّا، وهو أمير للمؤمنين1. وكان هذا من مذهب علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، يستحلف من يروي له عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول الحاكم: "وأما أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، فكان إذا فاته عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديث، ثم سمعه من غيره يحلف المحدث الذي يحدث به، والحديث في ذلك عنه مستفيض مشهور ... وكذلك جماعة من الصحابة والتابعين"3. 40- وليس معنى هذا التشدد وذلك التمحيص أنهم كانوا يكذبون ناقل الحديث إليهم، فلم يثبت أن أحدًا من الصحابة، رضوان الله عليهم، رمى أخاه بالكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يخشون أن يخطئوا في نقل الحديث، فلا يؤدونه على وجهه، ويصور هذا عمران ابن حصين حين يقول: "والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومين متتابعين، ولكن يبطأني عن ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي، كما يشبه لهم"، ويعلق ابن قتيبة على هذا بقوله: "فأعلمك أنهم كانوا يغلطون، لا أنهم كانوا يتعمدون"3. 41- ولقد نفى بعضهم الكذب عنه وعن إخوانه من الصحابة، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: "ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ،

_ 1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 118، 119. 2 معرفة علوم الحديث: ص15. المحدث الفاصل ص518. 3 تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء أهل الحديث: للإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة "ت 276هـ" مطبعة كردستان العلمية بمصر، 1326هـ، ص49، 50.

فيحدث الشاهد الغائب"1، وفي رواية: "لم نكن نكذب"، ويقول أنس، رضي الله عنه، "ولكن كان يحدث بعضنا بعضًا ولا يتهم بعضنا بعضًا"2. وتقول عائشة رضي الله عنها: "ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الكذب"3. 42- والحق أن هذا أمر ينبغي أن يعرف وجه الصواب فيه؛ لأن بعض المحدثين اتهم بعض الصحابة بالكذب ... وإذا كان المنبع الأول يكذب، ثم اعتقد موثقوا القرن الثاني وغيره أن ليس فيه كذب، وانشغلوا بوجوه أخرى للتوثيق، أو هكذا فعل معظمهم، فإنه لا فائدة من توثيقهم على هذا النحو؛ لأنهم أخذوا أحاديث الصحابة دون مناقشة لعدالتهم ولم يبحثوا فيمن يكذب منهم ومن لا يكذب، إذن فالسنة لم توثق على الرغم من الجهود التي بذلت، وهذا هو ما توصل إليه هؤلاء بهدف العصف بالسنة وإبعادها عن المسلمين، أو إبعاد المسلمين عنها4. إذن فلنناقش هذه القضية، هل كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يكذبون في أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم؟ 43- لقد تعلق بعض هؤلاء المحدثين برد بعض الصحابة لأحاديث بعضهم الآخر، أو ببعض العبارات التي تتهم بعضهم "بعضًا" بالكذب ... أما اختلافم في بعض الأحاديث، ورد بعضهم لأحاديث بعضهم الآخر، فلا يدلان على أنهم كانوا يكذبون في الحديث، ولا يتعدى

_ 1 المحدث الفاصل: ص230. 2 قبول الأخبار ومعرفة الرجال: لأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي مخطوط بدار الكتب المصرية "ورقة 9". 3 المسند 6/ 152، أحمد بن حنبل الشيباني، دار صادر بيروت 1389هـ - 1969م. 4 إن أبرز محاولتين لهذا كتابان: الأول: أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو رية، والثاني: الأضواء القرآنية، للسيد صالح أبو بكر، وقد رد كثير من علمائنا -جزاهم الله خيرًا- على الكتاب الأول، وناقشت الكتاب الثاني، في كتابينا: كتب السنة، الجزء الأول والإسراء والمعراج. وقد نشرتها مكتبة الخانجي بالقاهرة.

الأمر أن يكون اختلافًا في فهم تلك الأحاديث، وما تدل عليه.. أو أن مدلول الحديث كان معمولًا به أولًا، ثم نسخ بعد ذلك، ولم يبلغ رواية هذا النسخ، فظل على العمل به وروايته.. أو توقف الصحابي فيما لم يبلغه من الأحاديث، حتى يتأكد من أنها صدرت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعند ما يتأكد الصحابي من ذلك، فإنه لا يتردد في التسليم والعمل بما روي له، والندم على عدم سماعه تلك الأحاديث. ومن الاختلاف في فهم النصوص، أن عمر، رضي الله عنه، روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفهمه على أنه عام، وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت. أنكرت عليه ذلك الفهم عائشة وردت الحديث قائلة: "إنما قال النبي، صلى الله عليه وسلم في يهودية: إنها تعذب، وهم يبكون عليها"، يعني تعذيب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء، واحتجت بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. ولم تنسب عائشة، رضي الله عنها، إلى عمر وابنه عبد الله، رضي الله عنهما الذي روى عن أبيه هذا الحديث، أنهما كذبا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما بادرت فصرحت ينفي تهمة الكذب عنهما حين قالت: "إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين؛ ولكن السمع يخطئ"2. وقد نسخ الحديث فلا يبلغ روايه ذلك النسخ، فيظل على روايته والعمل به -كما قلنا- ويكون هذا سببًا في معارضة بعض الصحابة، له، ورد روايته؛ ومثل هذا ما كان يفتي به أبو هريرة، رضي الله عنه، ويحدث به: "أن من أصبح جنبًا فقد أفطر"، ولم يبلغه أن ذلك نسخ، فلما

_ 1 سورة فاطر: 18. 2 صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 589، 593 - والإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، بدر الدين أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الزركشي "745 - 794هـ" تحقيق سعيد الأفغاني. الطبعة الثانية 1390 - 1970 بيروت. لبنان، ص118، 119.

علم بذلك، وأن عائشة، وأم سلمة، زوجتي الرسول؛ أخبرتاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم -رجع عن قوله وفتياه. ويقول الإمام ابن حجر، في شرح حديث عائشة وأم سلمة، رضي الله عنهما: "وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهم أن أبا هريرة غلط في هذا الحديث، ثم رد عليه بأنه لم يغلط، بل أحاله على رواية صادق "الذي روى عنه أبو هريرة هذا الحديث" إلا أن الخبر منسوخ ... فحديث عائشة، رضي الله عنها، ناسخ لحديث الفضل ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه1". ومن التوقف في قبول الحديث حتى يتأكد الصحابي من أنه صدر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما حدث به أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، عمر بن الخطاب، في رجوع الزائر عند ما لا يؤذن له ثلاث مرات، فقد توقف عمر، رضي الله عنه، في قبول الحديث، ولكنه قبله عندما أحضر له أبو موسى الأشعري البينة، ولم يكتف بقبوله، بل قال كأنه يعتذر: "ألهاني الصفق بالأسواق2"، يعني الخروج إلى التجارة. وحدث أبو هريرة، رضي الله عنه، بحديث. "من تبع جنازة فله قيراط"، فتوقف فيه ابن عمر، حتى سأل عائشة التي صدقت أبا هريرة، وعندئذ قبل الحديث. وندم على أنه لم يعمل به، وقال: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة". إذن فما شأن عبارات بعضهم التي ورد فيها لفظ "الكذب" منسوبًا إلى بعضهم الآخر؟

_ 1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني. المكتبة السلفية بالقاهرة 4/ 147. 2 الحديث في صحيح البخاري 3/ 72، 1/ 67. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 611.

44- ومن هذا أن سبيعة الأسلمية تعالت من نفاسها بعد وفاة زوجها بأيام فمر بها أبو السنابل، فقال: "إنك لا تحلين حتى تمكثي أربعة أشهر، فذكرت ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كذب أبو السنابل، ليس كما قال، قد حللت فانكحي"1، ومن ذلك ما روي عن أبي الدرداء أنه قال: "من أدركه الصبح فلا وتر له، فذكر ذلك لعائشة: فقالت: كذب أبو الدرداء، كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصبح فيوتر"2. ومن ذلك: "أن أسماء بنت عميس كانت هاجرت إلى الحبشة فيمن هاجر، فقال لها عمر، رضي الله عنه: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، منكم فغضبت، وقالت: كذبت يا عمر3".نقول: إن العرب قد استعملت الكذب بمعنى الخطأ4، ومن هذا قول الأخطل: "كذبتك عينك أم رأيت بواسط". وقال ذو الرمة: "وما في سمعه كذب". وفي حديث عروة، وقيل له: إن ابن عباس يقول: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، لبث بمكة بضع عشرة سنة، فقال: كذب، أي: أخطأ، وسماه كذبًا، لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد. واستمع الزبير، رضي الله عنه، إلى أبي هريرة يحدث، جعل يقول كلما سمع حديثًا: كذب.. صدق.. كذب، فسأله عروة ابنه، يا أبت، ما قولك: صدق ... كذب. قال: يا بني، أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا شك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه5.

_ 1 سنن سعيد بن منصور ص352 جـ3 ق1 - من ص116 دفاع عن أبي هريرة. 2 الكامل في ضعفاء الرجال: أبو أحمد بن عبد الله بن عدي الجرجاني "360هـ" مكروفيلم في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية جـ1 ورقة 13. وفي المطبوعة: "وهم" المقدمة ص87. 3 صحيح مسلم: 7/ 127. 4 اللسان مادة "كذب" جـ6 - دار صادر. 5 البداية والنهاية في التاريخ: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير "774هـ"، مطبعة السعادة بمصر جـ8 ص108، 109.

ولهذا يقول ابن القيم: الكذب نوعان: كذب عمد، وكذب خطأ، فكذب العمد معروف، وكذب الخطأ ككذب أبي السنابل بن بعكك في فتواه المتوفى عنها، إذا وضعت حملها. ومنه قوله، صلى الله عليه وسلم: "كذب من قالها"، لمن قال: حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ. ومنه قول عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، حيث قال: الوتر واجب، فهذا كله من كذب الخطأ، ومعناه: أخطأ قاتل كذا1. وقبل ابن القيم يقول ابن تيمية شيخه: "إن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ كقول عبادة: كذب أبو محمد، لما قال الوتر واجب، وكقول ابن عباس: كذب نوف لما قال: صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. 45- وقولهم أيضًا: "زعم" لآخر من الصحابة كانت تعني الإخبار فقط، كقول جابر، رضي الله عنه: "زعم أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، وسرد حديثًا3، "وأبو سعيد من أفاضل الصحابة، وجابر أرفع حالًا من أن يشك بصدق أبي سعيد، لكنها اصطلاحاتهم4". ومنه قول زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما للنبي، صلى الله عليه وسلم "زعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق" 5، وقول الزهري: زعم محمود بن الربيع الأنصاري أنه سمع عتبان بن مالك6. وأنشد ابن الأعرابي: وإني أذين لكم أنه ... سينجزكم ربكم ما زعم7

_ 1 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، طبعة المنار بمصر 1331هـ جـ1/ 204. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن القاسم النجدي الطبعة الأولى 1386 السعودية جـ 32/ 266. 3 صحيح مسلم 7/ 184. 4 دفاع عن أبي هريرة: عبد المنعم صالح العلي. الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م مكتبة النهضة ببغداد ودار الشرق ببيروت. 5 صحيح البخاري 2/ 149. 6 المصدر السابق 2/ 74. 7 اللسان مادة "ز ع م" جـ15. دار صادر.

46- وفي آخر عهد الصحابة كان هناك جيل من التابعين يحدث فتبلغهم روايته، فكانوا يتوقون رواية الكذابين والمخطئين: لقد أعرض ابن عباس عن واحد من هؤلاء عندما قال له: مالي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟!. رد عليه: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف1"، وفي رواية: "إنا كنا نحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه. وكانت هذه الوسيلة "اختبار الرواة" من أكثر الوسائل وأنجحها في الكشف عن الحديث وتوثيقه، كما سنرى في بحثنا هذا إن شاء الله الكريم. 4- إسناد الحديث: 47- ومع تمحيص الرواة واختبار ضبطهم وجدنا وسيلة أخرى كانت لها أهميتها الكبيرة فيما بعد، وهي أن بعضهم حرص على ألا يأخذ حديثًا منقطع الصلة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان يسلم الحديث بعضهم إلى بعض، وكل يذكر من رواه له قبل الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نشأت بذور الإسناد في الحديث، والتي كانت من أهم الوسال لتوثيق الحديث، وتصحيحه فيما بعد- كما قلنا. وبطبيعة الحال نشأت البذور فقط؛ لأن الإسناد إنما هو وسيلة للكشف عن الرواة لاختبار عدالتهم وضبطهم، ومعظمهم -في ذلك الوقت عدول ضابطون. 48- وقد قدم لنا الإمام مسلم مثالًا لهذا، فروي بسنده: "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعطي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، العطاء،

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 1/ 67، 68.

فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك". في هذا الحديث أربعة من الصحابة كل منهم يروي عن الآخر، وهم: السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزى، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، رضوان الله عليهم أجمعين، ورواه عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طبيعي؛ لأنه يحكي واقعه بينه وبين رسوله الكريم. وهذا رأينا أن كل واحد من هؤلاء الصحابة لم يكتف بذكر من سمعه منه، ولم يرفعه من بعد عمر إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإنما بين كل منهم كيف وصل إليه الحديث. ويقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: "وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون، يروي بعضهم عن بعض، وأربعة تابعين بعضهم عن بعض"1. كما قدم لنا السيوطي في "تدريب الراوي" أمثلة من هذا النوع؛ بعض الصحابة يروي بعضهم عن بعض، وبعض الصحابيات يروي بعضهن عن بعض. 49- ومن الطريف الذي قدمه لنا أيضًا -ويدل على اهتمام بعض الصحابة بالإسناد- أن بعضهم سمع الحديث من تابعي رواه عن صحابي آخر، فرواه عن التابعي عن الصحابي الذي سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم2. وإلى جانب اتخاذ هذه الوسائل لتوثيق السنة، وكلها تتعلق بعملية نقل الحديث كانت هناك وسائل أخرى لتوثيقه إلى جانب ذلك، وتتعلق بمتن

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 83 - 85. الحديث بطرقه وشرحه. 2 تدريب الراوي 2/ 386 - 389.

الحديث من حيث النظر فيه مرتبطًا ذلك بعرضه على النصوص والمبادئ الإسلامية ومدى ملاءمته أو معارضته لها. ومن هذه الوسائل: 1- عرض الحديث على القرآن الكريم: 50- فقد أنكر بعض الصحابة: رضوان الله عليهم، بعض الأخبار؛ لأنها، في رأيهم، تخالف كتاب الله عز وجل. 51- وقد تقدم حكم عائشة، رضي الله عنها، على عمر، رضي الله عنه، بأنه أخطأ في رواية الحديث، وكان حكمًا مؤسسًا على أن معنى الحديث بهذه الرواية يخالف آية من القرآن الكريم1. وعندما سئلت عن متعة النساء، وقد كانت جائزة بالسنة، قالت: "بيني وبينكم كتاب الله وقرأت هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 2، ثم قالت: فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا"3. 52- وكأن ابن عباس لم ير الأحاديث التي نسخت زواج المتعة صحيحة فردها بالكتاب أيضًا؛ أي بنفس المقياس الذي استعملته عائشة لبيان التحريم. استدل ابن عباس بقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 4. وروي في قراءة عنه زيادة "إلى أجل مسمى5".

_ 1 انظر ص32 من هذا البحث، وانظر الإجابة ص76 و77، وفي رواية: أنها ذكرت الآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: لم تقبله بهذه الآية أيضًا. وهذه الآية من سورة البقرة 286. 2 المؤمنون: 5 - 7. 3 الإجابة ص195. 4 سورة النساء: 24. 5 الاتجاهات الفقهية: ص118 - 119.

53- ومن هذا أيضًا رد عائشة الأحاديث التي حرمت لحوم الحمر الأهلية، لأنها تتعارض مع قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1، "فإن ظاهر هذه الآية يدل على أن ما عدا المذكور فيها حلال، وذكر ابن حزم أن الذاهبين إلى أنها حلال استدلوا بأن عائشة أم المؤمنين احتجت بتلك الآية عند سؤالها عن الحمر الأهلية، فكأنها تذهب إلى حليتها2. وقد وافقها ابن عباس أيضًا فذهب إلى أنها حلال مستدلًا بهذه الآية3. 2- عرض السنة على السنة: 54- ومن هذا ما روى أبو مسلمة بن عبد الرحمن، قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أماه، إن جابر بن عبد الله يقول: "الماء من الماء"، فقالت: أخطأ. جابر أعلم مني برسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! ... يقول: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل"، أيوجب الرجم ولا يوجب الغسل"4؟!. 55- وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من جهة شريك بن عبد الله عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن عائشة قالت: "من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يبول قائمًا" فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا"5.

_ 1 سورة الأنعام: 145. 2 المحلى لابن حزم الظاهري 7/ 407. 3 نيل الأوطار: أحمد بن علي الشوكاني طبعة بولاق 8/ 328 - 332، وانظر البخاري 7/ 123- 124. 4 الإجابة: 145. 5 سنن ابن ماجه جـ1 ص112 "طبعة عيسى البابي".

وقال الترمذي: هو أحسن شيء في هذا الباب1، وأصح، ويقول الإمام بدر الدين الزركشي: وإسناده على شرط مسلم2. 56- ونلمح مقياس عرض السنة على القرآن في قول عمر، رضي الله عنه، عندما رد حديث فاطمة بنت قيس: "طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا سكنى لك ولا نفقة". قال عمر: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها حفظة أو نسيت"، وهو بهذا يشير إلى أن حديث فاطمة يتعارض مع قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 3. 3- عرض الحديث على القياس: 57- روي أبو هريرة، رضي الله عنه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "الوضوء مما مست النار، ولو من ثور أقط4". فرد ابن عباس هذا الحديث بالقياس قائلًا لأبي هريرة: "يا أبا هريرة، أنتوضأ من الدهن؟! أنتوضأ من الحميم؟! "5، 6. 58- وروى أبو هريرة أيضًا: "من غسّل ميتًا اغتسل، ومن حمله توضأ"، والأصح أن هذا موقوف على أبي هريرة، إلا أنه في حكم المرفوع، لأنه لا مجال للرأي فيه. أنكر ذلك ابن عباس قياسًا على غير الجسد الميت، مما يحمل فلا ينقض

_ 1 جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي. المكتبة السلفية بالمدينة 1/ 67. 2 الإجابة ص 166. 3 سورة الطلاق: 6، منهج عمر بن الخطاب في التشريع: د. محمد بلتاجي. الطبعة الأولى. دار الفكر العربي. القاهرة ص84 - 85 - أحكام القرآن: أبو بكر أحمد ابن علي الرازي الجصاص "370هـ" نشر عبد الرحمن محمد - القاهرة 1347هـ 3/ 564 - 569. 4 لبن مجفف مستحجر "تحفة الأحوذي 1/ 256". 5 الحميم: الماء الحار بالنار "نفس المصدر والصفحة". 6 جامع الترمذي بتحفة الأحوذي 1/ 256.

الوضوء، وقال: "لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة"1، وكذلك أنكرته عائشة، وقالت قولًا شبيهًا بقول ابن عباس، وطبقت المقياس نفسه، قالت: "أوَ نجس موتى المسلمين؟!، وما على رجل لو حمل عودًا؟! "2. 4- عرض الحديث على ما يقول به الصحابة: 59- لأنهم إذا كانوا يقولون بخلافة، فمعنى هذا أنه لم يصدر من الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو هو قد نسخ، وخاصة عرضه على من يغلب على الظن أنه لا يخفى عليه لو كان قد صدر فعلًا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كزوجات الرسول، وخاصة في الأمور الجنسية. والقصة التالية تبين ذلك: 60- قال: عبيد بن رفاعة الأنصاري: "كنا في مجلس فيه زيد بن ثابت، فتذاكروا الغسل من الإنزال، فقال زيد: "ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة"، فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر، فأخبره بذلك، فقال عمر للرجل: "اذهب أنت بنفسك، فأتني به، حتى تكون أنت الشاهد عليه"، فذهب فجاءه به، وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، فقال له عمر: أي عُديّ نفسه ... تفتي الناس بهذا؟! "، فقال زيد: "أما والله ما ابتدعه، ولكن سمعته من أعمامي؛ رفاعة بن رافع، ومن أبي أيوب الأنصاري". فقال عمر لمن عنده: "يا عباد الله، قد اختلفتم، وأنتم أهل بدر الأخيار"، فقال له علي: "فأرسل إلى أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان شيء من ذلك ظهرن عليه "فأرسل إلى حفصة، فسألها، فقالت: "لا علم لي بذلك"، ثم أرسل إلى عائشة، فقالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". فقال

_ 1 الاتجاهات الفقهية ومصادره ص114. 2 الإجابة، ص121، 122.

عمر عند ذلك: "لا أعلم أحدًا فعله، ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالًا"1، وهكذا نظروا في متن الحديث، ولم يكن هناك فاصل يفصل بينهم إلا عرضه على الصحابة الذين يطبقون ما يعلمون عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 61- حقيقة لقد ردت عائشة حديث "الماء من الماء" بحديث آخر، كما رأينا، ولكن عرض عمر له على الصحابة، واختلافهم، وفطنة علي إلى عرضه على نساء الرسول لأنه -في الغالب- لا يخفى على بعضهن شيء من هذا-كل هذا دليل على وجود هذا الاتجاه عند الصحابة، رضوان الله عليهم ... هذا الاتجاه نما وأصبح قويًّا عند بعض علماء القرن الثاني الهجري.. سنرى -بإذن الله- عند الأحناف مثلًا عرض الحديث على عمل الصحابة وأقوالهم، وهل اشتهر بينهم إذا كان مما تعم به البلوى؟ أو لا؟. وسنرى عند أصحاب مالك عرض الحديث على عمل أهل المدينة. 62- وبعد؛ فإن هذه المقاييس المتعلقة بالرواية ونقل الحديث وبالمتن نفسه في بعض الأحايين، قد رجعت بكثير منهم إلى الصواب، فيما أخطأ أونسي فيه، بالإضافة إلى أنها قد مهدت الطريق لمن أتى بعدهم، فقد وضعت البذور للضوابط والمقاييس التي توثقت السنة بها، وتخلصت من الدخيل الذي علق بها عن قصد أو عن غير قصد. كما أنها تدل على أن السنة لم تؤخذ، حتى في عصر الصحابة قضية مسلمة، وإنما محصت، ونظر إليها وإلى رواتها بعين النقد. ولكن، هل هذا هو كل ما قام به الصحابة، رضوان الله عليهم، لتوثيق السنة. أم كان لبعضهم جهد آخر يسهم في توثيق السنة وتحريرها؟ 63- الحق أنه كان هناك جهد لا يقل عن تلك الجهود السابقة ونعني به تدوين السنة في صحائف حفظتها وأعانت الذاكرة على ضبطها وصيانتها.

_ 1 الإجابة: ص78.

الموثقون في القرن الثاني الهجري

الموثقون في القرن الثاني الهجري: تدوين السنة: 64- مما لا شك فيه أن الكتابة من أهم عوامل التوثيق إن لم تكن أهمها جميعها. وإذا كان واضحًا جليًّا أن السنة النبوية قد حفظها الله عز وجل بالكتابة ابتداء من القرن الثاني الهجري فما تلاه من القرون، فإنه قد أثيرت شبه واعتراضات حول كتابة الحديث في عهد الصحابة والتابعين، أي في القرن الأول1. 65- وزعم من آثار هذه الشبه والاعتراضات أن الحديث لم ينقل إلا بالرواية الشفهية في هذا العهد، عندما حفظه الصحابة رضوان الله عليهم ونقلوه إلى التابعين ونقله هؤلاء بهذه الطريقة إلى من بعدهم، حتى دونت السنة ابتداء من القرن الثاني الهجري، فأسهم الحفظ في الذاكرة والكتاب معًا في توثيق السنة وصونها. 66- وأساس هذا الزعم ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعن بعض صحابته من نهي عن كتابة الحديث. ومن ذلك ما رواه زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وفي -رواية: "من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وكذلك ما رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "استأذنت النبي، صلى الله عليه وسلم أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي "وفي رواية: "استأذنا النبي، صلى الله عليه وسلم في الكتاب فأبى أن يأذن لنا". كما روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء عن أبي هريرة قال: "خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونحن نكتبالأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبون؟.. قلنا: أحاديث سمعناها منك. قال: أكتابًا

_ 1 أضواء على السنة المحمدية: محمود أبو رية - الطبعة الثانية 1383هـ - 1964م - لبنان ص 209 - 220- الأضواء القرآنية: السيد صالح أبو بكر - 1974م، مطابع محرم الصناعية، ص15، 16.

غير كتاب الله تريدون؟. ما أضل الأمم من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله". قال أبو هريرة انتحدث عنك يا رسول الله؟. قال: "نعم، تحدثوا عني ولا حرج، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وفي رواية: "فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار"، وفي رواية أخرى: "أكتابًا مع كتاب الله؟. أمحضوا كتاب الله وأخلصوه". وهناك روايات أخرى عن أبي هريرة تفيد كلها هذا المعنى. 67- ومع الروايات عن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، روي عن زيد بن ثابت أنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا ألا نكتب شيئًا من حديثه فمحاه"، وفي رواية عنه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب حديثه1". هذه هي كل الروايات المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذها الزاعمون دليلًا على أن الحديث لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 68- وزعموا أيضًا أنه لم يكتب في عهد الصحابة وبعد وفاة الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه؛ مستدلين بروايات موقوفة على بعض الصحابة تفيد رفضهم لكتابة الأحاديث، وهذه الروايات عن أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وابن عمر2. 69- ويدعمون زعمهم بعدم كتابة الحديث حتى أواخر القرن الأول بأن تيار كراهة الكتابة قد امتد إلى بعض التابعين أمثال محمد بن سيرين والقاسم بن محمد، وإبراهيم النخعي وأبي العالية والضحاك3.

_ 1 المحدث الفاصل ص379 - تقييد العلم: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "463هـ" تتحقيق د. يوسف العش، دمشق 1949هـ، الطبعة الأولى. ص29 - 35 وقد أتى في هذه الصفحات بطرق كثيرة لتلك الروايات، ولا غرو، فالكتاب مخصص لهذا الموضوع. 2، 3 تقييد العلم ص36 - 46.

وهذا كل ما قيل تقريبًا من أحاديث مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوفة على الصحابة، ومنسوبة إلى بعض التابعين، ويتخذها الزاعمون دليلًا على عدم كتابة السنة في القرن الأول الهجري. 70- ولا يتسع المجال هنا لمناقشة هذا الزعم بإفاضة، ونكتفي بإبداء ملاحظتين جديرتين بالنظر، حتى لا نذهب إلى ما ذهب إليه هؤلاء فنجانب الصواب: الملاحظة الأولى: أن هذه الأدلة -على الرغم من أنها قليلة جدًّا- تتعارض مع ما صح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته والتابعين من إباحة الكتابة، بل وكتابتهم، الأحاديث فعلًا- كما سيتضح لنا بعد قليل. الملاحظة الثانية: والأحاديث المرفوعة منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -على قلتها- لا تسلم من الطعن، والشك في صدورها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فالحديث الأول منها، حديث زيد بن أسلم قال عنه الخطيب البغدادي: "تفرد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعًا ... ويقال: إن المحفوظ رواية هذا الحديث عن أبي سعيد من قوله: غير مرفوع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم"1. ولا نريد أن نسلم بهذا القول، فنقلول: إنه موقوف؛ لأن الإمام مسلمًا قد روى هذا الحديث مرفوعًا، ولكننا نقول: إن تفرد همام بن يحيى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مما يجعل أحاديث إباحة الكتابة الصحيحة أرجح منه لما ليس فيها من التفرد الذي في حديثنا هذا، كما سنرى.

_ 1 المصدر السابق، ص 31 - 32.

والحديث الثاني رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، وعبد الرحمن هذا ضعيف عند أهل العلم، قال يحيى بن معين: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء، وقال أحمد: ضعيف، وقال الشافعي: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن أبيه: "أن سفينة نوح طافت بالبيت، وصلت خلف المقام ركعتين"؟ قال: نعم، وضعفه آخرون، أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وعلي بن المديني والنسائي1. فالحديث إذن ضعيف، لا يعتمد عليه. ومثل هذا يقال فيما روي عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن راويه هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا. يبقى من الأحاديث المرفوعة الحديث الذي نسب إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث فيه مقال أيضًا، ينزله عن درجة الصحيح إلى درجة الضعيف، ففي سنده كثير بن زيد، وروى ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل أن يحيى بن معين سئل عنه، فقال: "ليس بالقوي"، وقال النسائي فيه: "ضعيف"، وقال أبو زرعة: "صدوق فيه لين" كما روى له الذهبي في الميزان حديثًا فيه نكارة، وفيه علة فوق نكارته2، فلا يحتج به إذن، بالإضافة إلى أن المطلب الذي روى عنه كثير هذا الحديث لم يدرك زيد بن ثابت، فهو منقطع3. وعلى هذا فلم يسلم من الضعف في هذه الأحاديث جميعها إلا حديث واحد تفرد به رواته، وقيل فيه: إنه موقوف على الصحابي -كما رأينا- وكما يقول صاحب الأنوار الكاشفة: "أما الأحاديث، فإنما هي حديث مختلف في صحته وآخر متفق على ضعفه"4.

_ 1 الجرح والتعديل: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند جـ2 ق2 ص233. - ميزان الاعتدال، في نقد الرجال: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "874هـ" تحقيق علي محمد البجاوي - دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1382هـ - 1963م. جـ2 ص564. 2 المصدرين السابقين: الأول جـ3 ق2 ص150 - 151 - الثاني جـ3 ص404. 3 الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحن بن يحيى المعلمي اليماني -المكتبة السافية- القاهرة 1378هـ - ص35. 4 المصدر السابق، ص34 - 35.

71- أما الروايات أو الأحاديث الموقوفة على بعض الصحابة، فإننا إذا سلمنا بصحتها، فإنها: أولًا: عن عدد قليل، على حين نرى أن كثيرًا من الصحابة قد كتبوا. وثانيًا: أنه قد وردت روايات تفيد أن هذا البعص نفسه قد كتب أو أباح الكتابة. 72- وإذا انتقلنا إلى الكتابة نجد أننا أمام نصوص وأحاديث كثيرة، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفة على الصحابة والتابعين -تفيد أنهم أجازوا الكتابة أو كتبوا، وأن بعض الصحابة قد وثق الأحاديث بالتدوين والكتابة مما يدحض الزعم الذي يقول: إن الأحاديث لم تكتب في القرن الأول الهجري. 73- وسنترك الأحاديث الضعيفة التي رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي اتخذها المنكرون للكتابة من أداتهم، ونقتصر على ما صح. 1- وروى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطب ... فجاء رجل من أهل اليمن فقال: أكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي فلان". قال ابن حجر هو أبو شاه، وقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- وروي البخاري بسنده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد وجعه قال: "ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده ... ". ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبيح الكتابة ما دعا إلى كتابة هذا الكتاب، ولهذا يقول ابن حجر: "وفي هذا الحديث دليل على جواز كتابة العلم،

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري لابن حجر "852هـ" طبعة دار الكتابة الجديد جـ1 ص184 - 185.

لأنه "هَمّ أن يكتب لأمته كتابًا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق"1. 3- وروي البخاري أيضًا بسنده عن وهب بن منبه، عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". ويقول البخاري: "تابعه -يعني وهب بن منبه- معمر عن همام عن أبي هريرة2". وإذا كان حديث أبي شاه يحتمل أن يكون إذن الكتابة له خاصًّا لأنه كان أميًّا، وكان أعمى؛ فإن هذا الحديث بطرقه التي ذكرها البخاري وغيره أقوى في الاستدلال للجواز، لأن ابن عمرو لم يكن أميًّا، ولم يكن أعمى. 4- وروي البخاري بسنده "عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، وفهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ ... قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر"3. هذه الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وغيرها- إن لم تدل على أن حديث أبي سعيد غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تقضي بتأويله، والجمع بينه وبينها4. 74- ولا نقول -كما يقول بعضهم- إن حديث أبي سعيد هو المتأخر، فيكون ناسخًا لها؛ لأن الكتاب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يكتبه إنما كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، ولا يعقل أن حديث أبي سعيد كان بعد ذلك.

_ 1 المصدر السابق جـ1 ص186، 187. 2 المصدر السابق جـ1 ص184، 185. 3 صحيح البخاري على فتح الباري جـ1 ص182 - 183. 4 الأنوار الكاشفة ص36.

75- والذي يحتمل هو أن يكون حديث أبي سعيد هو المنسوخ، وقد نسخته هذه الأحاديث التي تبين إباحة الكتابة ... أو أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، أما في غيره فيكون الإذن بالكتابة ... أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في كتابة الأحاديث بعيدة عما يكتب فيه القرآن ... أوالنهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك1. 76- وعلى أية حال فقد فهم الصحابة -باستثناء أبي سعدي الخدري وأبي موسى الأشعري- أانه لا مانع من كتابة الأحاديث، وتوثيقها بها، وقاموا بتنفيذ ذلك، ومما روي لنا في هذا الصدد: 1- أن عبد الله بن عمرو بن العاص كتب صحيفة سماها الصادقة2. 2- وكتب أبو بكر لأنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توارث هذا الكتاب ثمامة بن عبد الله بن أنس بعد أن حدثه به جده3. 3- وروي الرامهرمزي والخطيب البغدادي وابن عبد البر كل بإسناده أن عمر بن الخطاب قال: "قيدوا العلم بالكتاب4"، وصح مثله عن أنس رضي الله عنه5. 4- وقد تقدم أن عند علي صحيفة فيها العقل، وفكاك الأسير، والنهي عن قتل المسلم بالكافر6.

_ 1 فتح الباري جـ1 ص185. وانظر تاريخ الفقه الإسلامي: محمد علي السايس - مطبعة محمد علي صبيح - ص88. 2 تقييد العلم ص84 - 85 وفيه نصوص من هذا الكتاب. 3 صحيح البخاري: جـ2 ص146، 147 - تقييد العلم ص87 وفيهما نصوص من هذا الكتاب. 4 جامع بيان العلم وفضله: أبو عمر يوسف بن عبد البر "463هـ" المكتبة السلفية بالمدينة الطبعة الثانية 1388هـ - 1968م. جـ1 ص86 - المحدث الفاصل: ص377. تقييد العلم ص88. 5 سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ص54. 6 ص48 من هذا البحث.

وروى أبو خيثمة بسنده الصحيح عن علي كرم الله وجهه أنه قال: "من يشتري مني علمًا بدرهم". قال أبو خيثمة: "يقول: يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم1. وزاد ابن سعد في روايته: "فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم، ثم جاء بها عليًّا، فكتب له علمًا كثيرًا2. ومما يدل على أن حديث علي كان مكتوبًا أن أبي مليكة كتب إلى ابن عباس وسأله أن يكتب له كتابًا، ويخفى عنه، فقال: ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيار وأخفي عنه، فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء3. وكما يقول شيخنا الحافظ التجاني: "هذا يدل على أن قضاء علي كان مكتوبًا، والقضاء يستند إلى السنة4". 5- ويبدو أن الحسن قد أخذ عن أبيه رضي الله عنهما هذا، فعن شرحبيل بن سعد، قال: جمع الحسن بن علي بنيه وبني أخيه، فقال: "يا بني إنكم اليوم صغار قوم، أوشك أن تكونوا كبار قوم، فعليكم بالعلم، فمن لم يحفظ منكم فيلكتبه. وفي رواية زادت: "وليضعه في بيته"5. 6- وكتب ابن عباس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتي أبا رافع الصحابي، ويقول: "ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا"؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها6. وقد شهدت بهذا الصحابية الجليلة سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: رأيت عبد الله ابن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئًا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم7.

_ 1 كتاب العلم: أبو خيثمة زهير بن حرب النسائي "160 - 234هـ" تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. المطبعة العمومية بدمشق. ص144. 2 الطبقات الكبرى: محمد بن سعد، دار التحرير بالقاهرة 1388هـ - 1968م مصورة عن الطبعة الألمانية المحققة. جـ6 ص116. 3 صحيح مسلم بشرح النووي جـ1 ص68، 69. 4 سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ص54. 5 تقييد العلم ص91. 6 المصدر السابق ص91، 92. 7 الطبقات الكبرى جـ2 ص123.

وحدث أبو خيثمة أن ابن عباس كان يحض على قيد العلم1، ويروي ابن سعد أنه كانت له كتب حمل بعير2. 7- وكتب أنس بن مالك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر أنه نقل كتاب أبي بكر في الصدقة3، وقد روي مسلم بسنده أنه كتب حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كتاب أبي بكر4 ... وقد مر أيضًا أنه صح عنه قوله: "قيدوا العلم بالكتاب ... ويروي الخطيب بسنده عن عبد الله بن المثنى قال: حدثني عماي: النضر وموسى ابنا أنس عن أبيهما أنس بن مالك أنه أمرهما بكتابة الحديث والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمها5. 8- وإذا كان أبو هريرة لا يكتب، ويحفظ الحديث حفظًا جيدًا ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ6 - فإن تلاميذه قد كتبوا له حديثه7، وأخذ هذه الكتب، فحفظها عنده، حتى لا يغير في حديثه أو يبدل فيه، وحتى تكون مقياسًا عنده لما ينسب إليه من الأحاديث الكثيرة التي بثها في التابعين الذين بلغوا -كما روى البخاري- ثمانمائة نفس8. 9- وكتب سمرة بن جندب رضي الله عنه ما رواه من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحيفته مشهورة عند المحدثين، وقد تكون هذه الصحيفة هي رسالته إلى أبنائه، تلك الرسالة التي تضم - كما يرى

_ 1 كتاب العلم ص144. 2 الطبقات الكبرى جـ5، ص216. 3 انظر هذا البحث ص49. 4 مسلم بشرح النووي جـ1 ص205 - 207، وفيه نص ما كتبه. 5 تقييد العلم ص96. والمحدث الفاصل ص367 ويروى أنه كانت عنده مجال من الكتب "مجلة". 6 صحيح البخاري "ط الشعب" 9/ 133. 7 العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن محمد بن حنبل "164 - 241هـ "تحقيق د. طلعت فوج بيكيت ود. إسماعيل جراح أوغلي. أنقرة 1963. جـ1 ص43 - كتاب العلم: ص142- جامع بيان العلم جـ1 ص89. 8 فتح الباري جـ1 ص184.

ابن سيرين -علمًا كثيرًا، وقد نقل البخاري بعضًا منها، وقد تكون غيرها كما ذكر بعض الباحثين1. 10- وكتب جابر بن عدب الله، رضي الله عنه صحيفة اشتهرت فيما بعد بصحيفة جابر بن عبد الله، وقيل: إن مجاهد بن جبر كان يحدث2 منها، وإذا علمنا أن هذا الصحابي الجليل قد حمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا نافعًا -كما يقول الذهبي3- أدركنا أنه قد دون الكثير من هذا العلم في هذه الصحيفة، وقد أخرج مسلم في جامعه الصحيح من هذه الصحيفة في مناسك الحج ما يقرب من الثلاثين حديثًا، وكان أطولها ذلك الحديث الذي رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر في حجة الوداع، فقد استغرق هذا الحديث أكثر من أربع صحائف كاملة من كتاب مسلم، ويصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم وصفًا كاملًا4. 11- وروى الدرامي بسند حسن أن أبا أمامة الباهلي أجاز كتابة العلم، فقد سأله أحد تاميذه، وهو الحسن بن جابر عن كتابته، فقال: لا بأس بذلك5. 12- وكتب عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله إلى بعض أصحابه6.

_ 1 تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، ترجمة د. فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر - القاهرة 1971م، ص254. 2 الطبقات الكبرى: جـ5 ص344. 3 تذكرة الحفاظ جـ1 ص43. 4 صحيح مسلم بشرح النووي جـ3 ص313 - 356. 5 سنن الدارمي جـ1 ص127 - تقييد العلم ص98- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ص62. 6 صحيح البخاري جـ4 ص62 طبعة دار الشعب بالقاهرة، انظر ص30، 77 أيضًا ففي هذه المواضع أجزاء من الحديث الذي كتبه.

13- وجمعت أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم1. 14- وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم بعض الحديث2. ويروي أبو خيثمة بسنده الصحجيح عن وراد كاتب المغيرة، قال: أملى علي المغيرة، وكتبته بيدي3. 15- ويروى أن عبد الله بن عمر كان إذا خرج إلى السوق نظر إلى كتبه4، وقد أكد الراوي أن كتبه كانت في الحديث. هذا ما ستطعنا أن نجمعه ونشير إليه في هذه العجالة عن كتابة الصحابة رضوان الله عليهم للحديث. ولا نبالغ إذا قلنا: إن هذا كان اتجاهًا عامًّا ... كيف ذلك وقد روي أن بعضهم نهى عن الكتابة؟ 76- نقول: لعلنا قد لمسنا أن بعض من قيل: إنهم كرهوا الكتابة قد ثبت عنهم أنهم أجازوها أو كتبوا، مما يجعلنا نرى أن الكراهة كانت في بعض الحالات، وليست في جميعها ... وهذه الأخبار نفسها تحمل في طياتها ذلك الاتجاه العام إلى كتابة الأحاديث، والإلحاح من أجل كتابتها والإحساس بتلك الحاجة: فهذا عمر رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن، "فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتبها5" ... هكذا تقول الرواية!! ... وهذا أبو بكر رضي الله عنه هم بجمع السنن، فكتب ما يقرب من خمسمائة حديث، ثم رأى

_ 1 السنة قبل التدوين ص446. 2 صحيح البخاري جـ2 ص153. 3 كتابة العلم ص117. 4 الجامع لأخلاق الراوي: الخطيب البغدادي ورقة 100أمخطوط بدار الكتب المصرية - والسنة قبل التدوين ص352. 5 تقييد العلم ص49، 50.

أن يحرقها؛ لا لأن الرسول نهى عنها، ولكن خاف أن تُؤْثَر عنه وتنقل، وقد يكون فيها حديث غير صحيح1. 77- وهذا هو أبو سعيد الذي روى الحديث المرفوع في كراهة الكتابة وروى عنه غيره من الموقوفات يلح دائمًا عليه تلاميذه: "إنا نخاف أن نزيد أن ننقص، فلو أنا كتبنا؟ " ... ويذهب الأمر بابنه إلى أن يخالف أباه ويكتب حديثه2.... والعجب في الأمر أنه مع هذا الإلحاح لا نجد أبا سعيد يرى علة لهذا المنع إلا أنه لا يريد أن يجعل الحديث كالقرآن في مصاحف، ويريد لهم أن يحفظوا كما حفظ هو وغيره منالصحابة، ولكنه لا يذكر أن العلة هي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك3، وهذا يضاف إلى ما قيل من أن المرفوع عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو موقوف عليه. 78- وابن مسعود وأبو موسى اللذان قيل: إنهما كرها الكتابة جهد بعض تلاميذهما أن يكتبا حديثهما مثل ابن أبي سعيد ... حقيقة تقول الروايات إنهما اكتشفا ذلك فمحواه ... ولكن هل اكتشفا كل الحديث الذي كتب دون أن يشعرا؟. إن الروايات تقول: إنهما محوا ما اكتشفاه بمحض الصدفة4 ... والكلام في هذا طويل ... لكن هذا ليس مجاله ... 7- ومع هذا فليس عجبًا أن تبرز بعض الضوابط لكتابة الأحاديث عند الصحابة، والتي تمت وظهرت واضحة بعد ذلك، أي بعد أن كثرت الكتابة في القرن الثاني الهجري الذي نتكلم عنه.. ومن هذه الضوابط حفظ الكتاب حتى لا تمتد إليه يد آثمة بالتغيير، وقد سبق أن روي هذا

_ 1 تذكرة الحفاظ جـ1 ص5. 2 تقييد العلم ص36 - 38. 3 تقييد العلم ص36 - 37. 4 المصدر السابق ص39 - 41.

عن الحسن بن علي رضي الله عنه1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه2. وكان علي رضي الله عنه يحفظ الصحيفة التي كتبها في "الديات" في قراب سيفه3. 80- ونشأت طريقة القراءة على الشيخ مع طريقة السماع في تلقي الأحاديث. وروي عن علي كرم الله وجهه قوله: القراءة على العالم بمنزلة السماع4. وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في العلم بحرًا ينشق له عن الأمر الأمور، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل، فلما عمي أتاه ناس من أهل الطائف، ومعهم علم من علمه أو كتب من كتبه، فجعلوا يستقرئونه، وجعل يقدم ويؤخر، فلما رأى ذلك قال: إني قد تلهت5 من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، أو كتب من كتبي فليقرأ علي، فإن إقراري له به كقراءتي عليه"6. ومن تلاميذه الصحابة من كان يجمع بين القراءة والسماع كما كان يفعل بشير بن نهيك مع أبي هريرة7. 81- كما روي عن بعضهم أنه كره تلقي الحديث من الكتب دون سماع أو قراءة، روى عن عمر رضي الله عنه قوله: "إذا وجد أحدكم كتابًا فيه علم لم يسمعه من عالم فليدع بإناء وماء فلينقعه فيه، حتى يختلط سواده مع بياضه8. 88- ونجمل هذا التطواف مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 ص50 من هذا البحث. 2 ص51 من هذا البحث. 3 فتح الباري جـ1 ص182 - 183. 4 المحدث الفاصل ص428 - 429. 5 تله الرجل إذا تحير، والأصل وله إلا أن العرب قد تقلب الواو تاء "الكفاية 263". 6 الكفاية في علم الرواية: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "463هـ". دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد بالهند 1357هـ - ص263 وقد اعتمدت على طبعة أخرى ولذلك سأشير إلى هذه بالحرف "هـ". والأخرى "م". 7 المصدر السابق ص: 375. 8 المصدر السابق ص: 353.

في عنياتهم بحديث رسولهم صلى الله عليه وسلم وتوثيقهم له، أو بعبارة أخرى: وضع البذور لأسس هذا التوثيق فنقول: إنهم وضعوا الأسس التالية: 1- الحرص على سماع الحديث. 2- حفظ الأحاديث والتثبت في روايتها. 3- التنقيب عن الرواة. 4- حرص بعضهم على الإسناد. 5- عرض بعضهم الحديث على النصوص الثابتة والمبادئ الإسلامية. 6- تدوين بعضهم للسنة، ووضع ضوابط للرواية من هذا التدوين. التابعون وتوثيقهم للسنة: 89- وتسلم راية حمل السنة وروايتها وحفظها وتوثيقها بعد الصحابة رضوان الله عليهم التابعون ... وكانت هناك الدوافع نفسها التي دفعت الصحابة إلى العناية بالسنة وتوثيقها. 90- وجدت أمور دفعتهم إلى أن يزيدوا من هذه العناية وهذا التوثيق، فعندما وقعت الفتنة قبلي استشهاد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، واستمرت بعد ذلك كان بعض من أهلها لم ينالوا شرف الصحبة، ولم يكن عندهم من الإيمان ما يعصمهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادوا في الأحاديث مما يصور بدعهم وأهواءهم. ولهذا فقد كان واجبًا على التابعين أن يزيدوا في توثيقهم للسنة، حتى يميزوا بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها مما وضعه الوضاعون الذين يريدون نصرة ما يروجون له بالباطل1.

_ 1 حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفعت قفوزي عبد المطلب - مجمع البحوث الإسلامية "ملحق بمجلة الأزهر عدد ربيع الثاني 1395هـ" ص 35، 36.

ومن وسائل توثيق التابعين للسنة: 1- نقد الرجال: 91- كانت الوسيلة لنقل السنة هي الرواية، وكان معيار صدق الحديث أو كذبه هو صدق ناقليه أو كذبهم -بالدرجة الأولى- ولهذا فقد اهتم التابعون بدراسة الرجال، والبحث عما إذا كانوا عدولًا، فيقبل حديثهم، أو مجرحين فلا يقبل منهم ما يروون. ومن أجل هذا تكلموا في رواة الأحاديث بما يبين تعديلهم أوتجريحهم، وممن تكلم في ذلك مما يذكره ابن عدي -ونقله عنه السخاوي- الأئمة: الشعبي، وابن سيرين، وابن جبير، وإن كان كلامهم قليلًا؛ لأن التابعين أكثرهم عدول، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض بوفاة الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد1، ولك لقرب العهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولشيوع الورع والتقوى تأسيًا بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان إيمانهم قويًّا رائعًا ... ظاهرًا في حركاتهم وسكناتهم. 92- وعلى هذا لم يقبلوا الحديث إلا عن ثقة عرف بالعدالة والضبط يقول الإمام الشافعي، رضي الله عنه: "كان ابن سيرين، وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة، يعرف ما يروي ويحفظ، وما رأيت أحدًا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب2. 93- بالإضافة إلى ذلك فقد أحصوا أخطاء الرواة ليعرفوا حقيقة ما يروون، يقول الإمام الشعبي: "والله لو أصبت تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة لعدوا على تلك الواحدة3". 2- الاهتمام بالإسناد: 94- ونمت بذور الإسناد التي عرفناها عند الصحابة رضوان الله عليهم، والتزم بعضهم به؛ كي يتبين لهم رجال الحديث، فيلتقوا بهم،

_ 1 الإعلان بالتوبيخ ص163. 2 السنة قبل التدوين: ص237 وما رجع إليه - المحدث الفاصل ص405. 3 تذكرة الحفاظ جـ1 ص82.

أو يسألوا غيرهم عنهم، فيقفوا على حالهم، ومن هذا ما يرويه الإمام مسلم بسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعدي من أمتي -أو- سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لايجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ... "، قال عبد الله بن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم الغفاري، قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر، كذا وكذا ... فذكرت له هذا الحديث، قال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. 95- ويبين الإمام ابن سيرين السر وراء الاهتمام بالإسناد، فيقول: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم2. 3- الحفظ والسماع والتثبت في الآداء: 96- واقتدى التابعون بالصحابة، رضوان الله عليهم في وجوب الاحتياط في حمل الحديث وفي أدائه، فوجدناهم يحرصون على سماع الأحاديث، حتى ولو كانت في بلد آخر غير الذي يعيشون فيه، يقول أحدهم: "إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه3"، ويقول أبو العالية: كنا نسمع الرواية بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم4. 97- ولم يجز كل واحد منهم أن يلقي الحديث قبل أن يتثبت فيه وقبل أن يتأكد من أنه لن يحرفه عن وجهه الصحيح، يقول الإمام الشعبي،

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي جـ3، ص120. 2 المصدر السابق جـ1، ص71 وانظر الجرح والتعديل جـ1 ق1، ص28. 3، 4 سنن الدرامي جـ1، ص140.

مصورًا عبء الرواية: "يا ليتني انفلت من علمي كفافًا؛ لا عليّ ولالي1"، ويقول أيضًا ما يدل على محاسبته لنفسه في رواية الحديث: "كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث2"، ومن أجل هذا حفظوه في صدورهم، فكان قتادة، مثلًا -كما يروي الرامهرمزي- إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل، حتى يحفظه3، وكانوا يستعينون على الحفظ والتثبت فيه بالمذاكرة ونبه أكثر من واحد منهم عليها4. وقد تركت رواية الكثيرين لأنهم غير متثبتين في روايتهم، وإن كانوا عدولًا، فعن أبي الزناد قال: أدركت بالمدينة مائة أو قريبًا من المائة ما يؤخذ عن أحد منهم، وهم ثقات، يقال: ليس من أهله5. 4- نقد متن الحديث: 98- وكانت لهم نظرات في متن الحديث وتوثيقه بعيدًا عن السند، فكان إبراهيم النخعي -مثلًا- يترك بعض أحاديث أبي هريرة، ويبرر ذلك بفعل بعض الصحابة، وموقفهم من هذه الأحاديث، وكان يقول: "كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة، ويدعون ... ولو كان ولد الزنا شر الثلاثة لما انتظر بأمه أن تضع6، وهو بهذا ينكر حديث أبي هريرة: "ولد الزنا شر الثلاثة7". وقد رده هنا، كما نرى، بالقياس، وروي هذا عن الشعبي أيضًا. 99- وقد رد إبراهيم النخعي أيضًا حديث فاطمة بنت قيس، وحديث

_ 1 تذكرة الحفاظ، جـ1، ص88. 2 المصدر السابق جـ1 ص83. 3 المحدث الفاصل: ص402، عال يعود ويعيل أمرهم اشتد وتفاقم ... والاسم العويل القاموس "ع ول". وزاوله زوالًا ومزاولة عالجه وحاول طلبه. القاموس مادة "زول" والمعنى هنا نشط، ولم يهدأ حتى يحفظ. 4 المحدث الفاصل: ص546. 5 المحدث الفاصل، ص407. 6 أصول السرخسي 1- 340 - كشف الأسرار 2 - 698. 7 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: ص118.

التغريب للعانس وحديث الشاهد واليمين؛ لمعارضتها -في رأيه- للقرآن. كما رد أحاديث القنوت في الفجر، لأنه لو صح لاشتهر عن جمع من الصحابة، أي أنه فيما تعم به البلوى1. تدوين السنة في عهد التابعين: 100- وكان للتابعين دور في تدوين السنة لا يقل أهمية في توثيق الحديث عن دور الصحابة إن لم يزد عليهم. 101- وممن كتب الحديث منهم أو أجاز كتابته لحفظه سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، وبشير بن نهيك، وهمام بن منبه، وكثير بن أفلح، وسعيد بن جبير، وعبيدة بن عمرو السلماني، وابن عقيل، ومحمد بن علي أبو جعفر، ومحمد بن الحنفية، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن يزيد الجرمي، وأبو المليح عامر بن أسامة بن عمير، وقتادة بن دعامة السدوسي وغير هؤلاء كثيرون2. 102- ويطول بنا الأمر إن استقرأنا صحف هؤلاء وكتبهم وما فيها من علم ومن سنة. إلا أننا ننبه إلى أن هؤلاء كانوا همزة الوصل بين الصحابة في القرن الأول والمصنفين الأوائل في بداية القرن الثاني. 103- وقد حفظ لنا التاريخ مثلًا "صحيفة همام بن منبه" التي كتبها عن أبي هريرة، ونقلها المصنفون بعد ذلك في القرن الثاني وما بعده3.

_ 1 انظر مناقشة كل هذا ورأي إبراهيم مفصلًا في رسالة "إبراهيم النخعي، وفقهه بين معاصريه من الفقهاء- رسالة ماجستير نال بها الزميل محمد عبد الهادي سراج درجة الماجستير من كلية دار العلوم -جامعة القاهرة عام 1971. ص306- 312. 2 انظر عن كتب هؤلاء وغيرهم: تقييد العلم: 99 108 المراسيل: عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي "327هـ" - مكتبة المثنى ببغداد 1386 - 1967. ص109 - 41 - 66. وكتاب العلل ومعرفة الرجال: 1/ 104 - 360/ 247. 3 نشر هذه الصحيفة الدكتور محمد حميد الله مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق المجلد 28 سنة 1953ص 96 - 116، 270 - 281، 443 - 467.

وقد نقلها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في موضع واحد، ويسند واحد في أول الأحاديث1. 104- وكتب أبي قلابة عبد الله بن يزيد الجرمي انتقلت إلى أيوب السختياني2. وأبو قلابة "104هـ" قد لقي من الصحابة سمرة بن جندب وأنس بن مالك، وثابت بن الضحاك، وعمرو بن سلمة وغيرهم، وأرسل عن حذيفة وعائشة3. وأيوب "231هـ" الذي أخذ كتبه ورواها قد تتلمذ عليه من أهل القرن الثاني ومن المصنفين الأوائل في الحديث شعبة ومعمر والحمدان والسفيانان وغيرهم4. وهكذا هيأ هؤلاء التابعون بتدوينهم علم الصحابة المادة المدونة لمن تصدوا لتصنيف المؤلفات الجامعة في الحديث، في النصف الأول من القرن الثاني الهجري. 105- وقد وضع التابعون مع هذا التدوين ضوابطه وأسسه التي تجعل الأحاديث تنتقل به انتقالًا صحيحًا؛ فلا يعتريها تحريف أو تبديل: ومن هذه الضوابط المعارة والقابلة حتى يتلافى ما فيها من أخطاء أثناء النقل، يقول هشام بن عروة، قال لي أبي: أكتبت؟ قلت: نعم. قال: عارضت، قلت: لا. قال: لم تكتب. ويقول يحيى بن أبي كثير "129هـ" من كتب ولم يعارض كان كمن خرج من المخرج ولم يستنج5. وكذلك عرضها على الشيخ حتى يقيمها، قيل لنافع، مولى ابن عمر: إنهم قد كتبوا حديثك، قال: فليأتوني، حتى أقيمه لهم6.

_ 1 المسند 2/ 312- 319. 2 المحدث الفاصل ص459، 460. 3 تذكرة الحفاظ 1/ 94. 4 تذكرة الحفاظ 1/ 94. 5 المحدث الفاصل، ص44. 6 أدب الإملاء والاستملاء: أبو سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني "562هـ - 1166م" طبعة ليدن 1952. ص78.

106- وكذلك حفظ هذه الكتب، بعضهم بحفظها في ذاكرته، وبعضهم يحفظها في مكان أمين، وكان قتادة يحفظ صحيفة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله حفظًا جيدًا1، وكان الحسن بن علي يحفظ قول أبيه المكتوب في ربعة لا يخرجه منها إلا عند الحاجة إليها2. وهذا الحفظ هو ما عبر عنه الحسن البصري منهم بقوله: "إن لنا كتبًا نتعاهدها"3، وكان خالد بن معدان الذي لقي سبعين صحابيًّا يتخذ لكتابه عرى وأزرارًا حفظًا له4. 107- وكانت هذه الكتب تراجع بالسماع أو بالقراءة على الشيخ حتى لا تقرأ محرفة، قيل لابن سيرين: ما تقول في رجل يجد الكتاب يقرؤه أو ينظر فيه؟ قال: لا، حتى يسمعه من ثقة5، واستفتي أيوب الناس فيما آل إليه من كتب أبي قلابة وصيه هل يحدث بما فيه مع أن بعضه انتقل إليه وجادة، ولهذا توقف ابن سيرين وقال له: لا آمرك ولا أنهاك6. واعتنى الأئمة في القرن الهجري بهذه الناحية عناية شديدة فتناولوا هذه الكتب، ونبهوا على ما انتقل منها سماعًا أو عرضًا، وما لم ينقل كذلك فلا يعتمد عليه كثيرًا وخاصة إذا كان بطريق الوجادة، كما سنرى إن شاء الله تعالى. 108- هكذا رأينا أن التابعين، مثل الصحابة رضوان الله عليهم في الحفاظ على السنة صحيحة نقية، وأبعدوا عنها ما ليس منها بما وضعوا من أسس وطرائق لتوثيقها، والتي تمثلت في:

_ 1 الطبقات الكبرى جـ7 قسم 2 ص2. 2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 104. 3 كتاب العلم، ص135 - تقييد العلم ص100. 4 تذكرة الحفاظ 1/ 93. 5 الكفاية "هـ" ص53. 6 المحدث الفاصل، ص459.

1- نقد الرجال. 2- والاهتمام بالإسناد. 3- والحفظ والسماع والتثبت في الأداء. 4- ونقد بعضهم لمتن الحديث وعرضه على النصوص أو القياس. 5- وتدوين السنة، ووضع ضوابط لهذا التدوين. السنة في القرن الثاني: 109- وبانتهاء عصر التابعين يبدأ عصر تابعي التابعين، أو ندخل في القرن الثاني الهجري الذي هو مناط بحثنا، من حيث بيان أسس التوثيق فيه للسنة واتجاهات هذا التوثيق. وقبل أن ندخل في غمار هذا نطل إطلالة عابرة على ما جد في هذا القرن عن سابقه، بما يحمل من عوامل ودوافع أخرى للتوثيق والعناية بالسنة، والموثقين في هذا القرن الذين سنتعامل معهم من خلال دراستنا. دوافع التوثيق في القرن الثاني: 110- ببداية هذا القرن بَعُد العهد عن العصر الأول للإسلام، عصر النبوة، وجدت أمور لم تكن موجودة في القرن الأول الهجري، أو كانت موجودة في بدايتها، ولكنها تطورت في القرن الثاني، واحتاج الأمر معها إلى عناية أكبر بالسنة. 111- ويمكن إجمال ما جد في القرن الثاني الهجري، والذي يعتبر من الدوافع القوية إلى مواصلة السير في طريق التوثيق، وإنما أسسه واتجاهاته في النقاط التالية: 1- توفي الصحابة الذين كانوا يحفظون السنة، ويوشك أن يتوفى التابعون الذين تلقوها منهم.

2- كثر الوضع في الحديث، ويرجع ذلك إلى وجود قوم من أتباع التابعين ليس عندهم من التورع عن الكذب، والحيطة ما عند الصحابة وجل التابعين. 112- والحقيقة أنه قد نشأت في القرن الثاني كل اتجاهات وضع الحديث ودوافعه تقريبًا: فالخلافات السياسية كانت على أشدها في هذا القرن، وكان الرافضة أكثر الفرق كذبًا فيه، وقد سئل الإمام مالك عن الرافضة، فقال: "لا تكلمهم ولا ترو عنهم، فإنهم يكذبون". وقال شريك بن عبد الله القاضي، وكان معروفًا بالتشيع مع الاعتدال فيه: "أحمل من كل من لقيت إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا". وقال حماد بن سلمة: "حدثني شيخ لهم -يعني الرافضة- قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئًا جعلناه حديثًا، وقال الشافعي: "ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة1. وقد قابلهم الجهلة من أهل السنة بوضع الأحاديث التي ترفع من شأن الصحابة الذين وضع فيهم الرافضة ما ينقصهم ويذمون به2". ووضع المتعصبون الجهلاء لمعاوية والأمويين بعض الأحاديث؛ دعوة لهم بين الناس وتثبيتًا لأقدام خلافتهم، وكذلك الحال بالنسبة للعباسيين3.

_ 1 آداب الشافعي ومناقبه، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي "240 - 327هـ" تحقيق عبد النبي عبد الخالق مكتبة الخانجي 1372هـ - 1953م ص187، 189 - الكفاية "هـ" ص126. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص79 - 80. 2 الحديث والمحدثون: محمد محمد أبو زهر - الطبعة الأولى: 1378هـ - 1958م ص97 - 98. والرافضة هم فرقة من الشيعة كفرت بعض الصحابة، وعندهم الإمام هو المصدر الأول والأخير للإسلام "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: أبو الحسين الملطي "377هـ" تحقيق محمد زاهد الكوثري، المثنى ببغداد 1388هـ - 1968م ص25، 26. 3 السنة ومكانتها في التشريع ص81.

ووضع بعض المتعصبين من الخوارج الأحاديث، إفسادًا لما عليه خصومهم1. وكثرت حركات الزندقة في هذا العصر، ودس هؤلاء الزنادقة الكثير من الأحاديث في العقائد والأخلاق، والحلال والحرام، وقد أقر زنديق أمام المهدي العباسي بأنه وضع مائة حديث تجول بين الناس وفي أيديهم2. وكانت هناك العصبية للجنس وللقبيلة وللغة وللبلد ولأئمة الفقه، وكل هذا كان دافعًا إلى وضع الأحاديث، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وهناك القصاص الذين يتاجرون بالقصص ويستغلون سذاجة بعض الناس وجهلهم، فيروجون بضاعتهم بوضع الأحاديث التي تستميل إليهم هؤلاء، وتستثير فيهم العاطفة، فيدفعون إليهم الكثير من الأموال4. وكانت الخلافات المذهبية فقهية وكلامية ... والجهل بالدين مع الرغبة في الخير، وترغيب الناس في التدين وترك الفسوق، والتقرب إلى الحكام بما يوافق أهواءهم -كل هذا كان موجودًا في القرن الثاني الهجري5 ودفع بعض أهله إلى الكذب في الأحاديث والزيادة فيها ما ليس منها. 113- 3- ومما جد في القرن الثاني، وكان من دوافع التوثيق استطالة السند وتعذر مقابلة جميع الرواة الذين يوصلون الأحاديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدت الأحاديث المنقطعة، أو ما في إسنادها مجاهيل من الرواة. 114- 4- كما نشأت المذاهب الفقهية والاختلاف بينها، مما أدى

_ 1 الحديث والمحدثون: ص86 - 87. 2 المدخل في أصول الحديث: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري "405هـ" المطبعة العلمية بحلب: 1351هـ - 1932م. ص18. 3 السنة ومكانتها في التشريع: ص85. 4 المدخل في أصول الحديث ص22 - 24. 5 المدخل في أصول الحديث: ص19 - 22 والسنة ومكانتها في التشريع ص86 - 87.

إلى أن يبذل أئمة كل مذهب توثيق ما عندهم من الأحاديث ومناقشة مخالفيهم، وكل هذا تمخضت عنه حركة هائلة في توثيق الحديث، وخاض غمارها الأحناف والشافعي وأصحاب مالك رضوان الله عليهم أجمعين. وقام الإمام الشافعي في وجه من ينكرون حجية السنة؛ لأنها غير موثقة، حتى يتاح للفقهاء أن يعملوا بها دون منازع. 115- وسنرى من خلال بحثنا ملامح هذا التوثيق، وسماته، ونتائجه المباركة في إرساء الأسس التي حررت السنة، وأبعدت عنها الدخيل والموضوع والمحرف، وأبقت بعضها بعد أن رفضه بعضهم، وهذا أيضًا من أوجه التوثيق. 115- 5- لم تدون السنة في القرن الأول تدوينًا شاملًا وفي مصنفات وإنما كانت في صحائف، أما الآن، وفي القرن الثاني، فقد بدئ في هذا التصنيف، فقد أمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بجمعها، وكتب إلى الآفاق أن: "انظروا إلى حديث رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فاجموه". وفي كتابه إلى أهل المدينة ما بيّن سبب إقدامه على هذه الخطوة، وهو خوفه من دروس العلم وذهاب العلماء. 116- وامتثل العلماء لهذا الأمر، وجدوا في جمع السنن، ومن أوائل من قاموا بذلك الإمام ابن شهاب الزهري "124هـ" الذي أمره الخليفة عمر بذلك. ووجد في كل مدينة من يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السنة. وكانت معظم مصنفات هؤلاء ومجاميعهم تضم الحديث الشريف، وفتاوى الصحابة والتابعين وأظهر مثل لذلك موطأ الإمام مالك الذي نرى فيه الحديث وفتاوى الصحابة والتابعين. وعمل أهل المدينة ورأي مالك نفسه4.

_ 1 السنة قبل التدوين، ص329 ومصادره. 2 صحيح البخاري 1- 36. 3 العلل: علي بن عبد الله بن جعفر السعدي المديني "161 - 234هـ" تحقيق محمد مصطفى الأعظمي -المكتب الإسلامي 1392هـ- 1972م. ص 40 - 43. 3 الموطأ: مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي -طبعة دار الشعب بالقاهرة- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص103.

117- ثم خطا التأليف خطوة أخرى على أيدي أئمة عاشوا في القرن الثاني، وقليل من القرن الثالث، فقد رأى بعض هؤلاء الأئمة جمع الأحاديث التي رواها كل صحابي في موضع واحد، فألفت المسانيد ومنها مسند أبي داود الطيالسي "204هـ"، ومسند أحمد بن حنبل "164 - 241هـ" ... وهؤلاء لم يميزوا الحديث الصحيح من الضعيف، وإنما جمعوا هذا وذاك في مسانيدهم1. 118- وتبع التصنيف في السنة أو تعاصر معه التألأيف في الرواة ناقلي الأحاديث من حيث بيان من روى عنهم، ومن رووا عنه، وتاريخ وفاة كل منهم وولادته، وبيان موطن كل منهم، ومعرفة أسمائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وبيان العدول منهم والمجرمين2. 119- ومع التصنيف في السنة والتأليف في الرواة ألف أهل هذا القرن في علل الحديث، أي في كشف الصحيح منها من غيره ببيان ما في بعضها من خلل خفي في المتن أو في الإسناد3. 120- وإزاء كل هذا كان لا بد من وضع الضوابط والأسس التي تصون مسار السنة وتجعل انتقالها صحيحًا في أيدي الرواة، وكان هذا على أيدي أئمة عاشوا في هذا القرن. من هم هؤلاء الأئمة ... وهل كانوا قادرين على القيام بهذا العمل؟ الواقع أن هذا هو ما يهمنا معرفته؛ كي ندرك مدى توفيقهم في هذا المهمة، وكي نطمئن إلى ما يصدرونه من أحكام، وما يضعونه من أسس تجيز بعض الأحاديث ولا تجيز بعضها الآخر. الموثقون في القرن الثاني: 120- والحق أن هذا القرن كان غنيًّا بالموثقين للحديث، وأشهرهم من الفقاء والمحدثين الأئمة الأربعة، مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع ص339. 2 السنة قبل التدوين ص261 - 276. 3 نشأة علوم الحديث ومصطلحه ص223 - 224.

ابن حنبل ومعهم سفيان الثوري، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وشعبة بن الحجاج وصاحبا أبي حنيفة: محمد وأبو يوسف ... وغير هؤلاء. 121- ويضيق بنا المقام إن استعرضنا حياة كل واحد من هؤلاء؛ ففي كل منهم ألفت المجلدات، وما وفت بحقوقهم ... وما يمكننا هنا ويفيدنا أن نسلك ما سلكه ابن أبي حاتم الرازي، فنقدمهم بصفاتهم التي أهلتهم لهذه المهمة، مهمة الحديث ونقده، وهو سيساعدنا بجزء كبير في هذا المجال1. 122- ومن هذه الصفات التي أهلتهم للتوثيق وجعلتهم جديرين به ويطمأن إلى أحكامهم فيه: 1- معرفتهم بمادة التوثيق، وهي الأحاديث، فحفظوا الكثير منها، وربما حفظ بعضهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة كي يبينها للناس ليتجنبوها. وقد قدم لنا ابن أبي حاتم، وجود هذه الصفة في الكثيرين منهم، وأثبت المعرفة الواسعة بالأحاديث لمالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ووكيع ابن الجراح، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي ابن المديني2. 123- وللخلاف بين المحدثين ومدرسة أبي حنيفة لم يذكر أحدًا منهم، وقد اتهم أبو حنيفة من جانب بعض المحدثين بقلة بضاعته للحديث، لكن الحقيقة أنه كان من العارفين بالحديث3، ولكن مقاييسه المتشددة، وتركه

_ 1 في كتابه "تقدمة المعرفة" فقد ألفه من أجل هذا: ص219. 2 عبد الرحمن ابن أبي حاتم وأثره في علوم الحديث ص188، وفيها الإشارة إلى صفحات تقدمة المعرفة التي يوجد فيها ما يدل على هذه الصفة عند هؤلاء الأئمة. 3 الطبقات السنية في تراجم الحنفية: تقي الدين عبد القادر التميمي الداري الغزي المصري "1005هـ" تحقيق. د. عبد الفتاح محمد الحلو -القاهرة 1390- 1970، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. ص109 - 113.

بعض الأحاديث تبعًا لها هو ما أثار هؤلاء الخصوم عليه، وسنعرف الكثير من هذه المقاييس أثناء بحثنا هذا إن شاء الله تعالى، يقول ابن خلدون: "وقد يقول بعض المتعصبين المتعسفين: إن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، ولهذا قلت روايته، ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة ... والإمام أبوحنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل ... ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه واعتباره ردًّا وقبولًا1". 124- ولا تقل معرفة أبي يوسف ومحمد عن معرفة غيرهم من الفقهاء أو المحدثين، نلمس ذلك عند أبي يوسف في كتابه الخراج، فليس فيه صحيفة إلا فيها حديث، هذا مع ملاحظة كبر حجم الكتاب، وكونه في موضوع واحد2. كما نلمس معرفة محمد الواسعة بالحديث في مؤلفاته: الآثار، والموطأ، والأصل، والحجة، والسير الصغير والكبير، والاكتساب ولا غرو فقد طلب الحديث منذ صغره، و"أخذ عن أعلام المحدثين في عصره، ورحل من العراق في سبيله أكثر من مرة3". 125- 2- ويتحلى موثقو الحديث هؤلاء بأنهم من الفقهاء بالسنن والآثار، ولسنا في حاجة إلى إثبات ذلك عند الأئمة الأربعة، وقد أثبت ذلك لغيرهم ابن أبي حاتم فذكر علم الأوزاعي وفقهه، وكذلك وكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بنمهدي، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل4. 126- 3- معرفة هؤلاء الأئمة الواسعة برواة الآثار. معرفة تمكنهم من الحكم عليهم ومعرفة العدول منهم والمجرحين.

_ 1 مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون - دار الشعب بالقاهرة، ص409 - 410. 2 كتاب الخراج: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم "113 - 183هـ" المكتبة السلفية بالقاهرة. 3 الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي د. محمد السيد على الدسوقي "رسالة دكتواره في دار العلوم - جامعة القاهرة 1391هـ - 1971م. انظر الفصل الثاني: الإمام محمد محدثًا من ص 336 وما بعدها والنص من ص334. 1 رسالة عبد الرحمن بن أبي حاتم، ص187 - 188.

وقد كان للأئمة الأربعة وغيرهم هذه الصفة التي أهلتهم لأن يأخذوا بأحاديث ويحكموا بصحتها، ويتركوا أحاديث أخرى، لأن رواتها ليسوا على درجة من العدالة، أو الضبط1. 127- 4- وجود الصلاح والتقوى والورع والزهد فيهم وطهارة الخلق وسخاء النفس. وهذا يجعلنا نطمئن إلى أحكامهم في توثيق الأحاديث، وأنهم لا يبتغون بهاعرضًا من أعراض الدنيا وقد زهدوا فيها، ولا تصدر عن إحن شخصية وقد برأهم الله منها2. 128- 5- كانوا أصحاب عقل سديد، ومنطق حسن وبراعة في الفهم3، وهذا أعانهم على اكتشاف العلل الموغلة في الخفاء من الأحاديث. 129- 6- وكانت فيهم جرأة في الحق لا يخافون في الله لومة لائم ولا يبتغون جاهًا عند سلطان أو يرهبونه، فلا تصدر عنهم الأحكام رغبة في هواه أو يخفونها خوفًا من بطشه. وقد ذكر ابن أبي حاتم مواقف مشهورة لكثير منهم، وقفوا فيها مع الحق، حتى ولو أغضب ذلك حاكمًا أو خالف ما يدعو إليه4. وقد بلغ الأمر بأبي حنيفة أنه عد من يغشى السلطان طائعًا غير جدير بقبول روايته والسبب في ذلك كما يقول: "أما إني لا أقول إنهم يكذبون، أو يأمرونهم بما لا ينبغي، ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة

_ 1 عبد الرحمن بن أبي حاتم ص188 - الطبقات السنية جـ1، ص111 - الإمام محمد بن الحسن، ص351 - آداب الشافعي ص185، 195 - 196، 201، 203، 204، 205، 223 - 224، 305، 307. 2 عبد الرحمن بن أبي حاتم 189 - آداب الشافعي: ص91، 101 - 106 حياة الإمام أبي حنيفة: السيد عفيفي -القاهرة 1350- المكتبة السلفية ص70 - 90 - مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "748هـ" تحقيق محمد زاهد الكوثري، وأبي الوفا الأفغاني -لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر أباد بالهند ص9 - 10، 12 - 17، 25 - 27، 42 - 48، 55. 3 عبد الرحمن بن أبي حاتم 189 - حياة الإمام أبي حنيفة، ص91 - 107 - آداب الشافعي، ص: 129 - 130. 4 عبد الرحمن بن أبي حاتم ص189 - حياة الإمام أبي حنيفة، ص70 - 71 آداب الشافعي: ص78، 189 - 191.

بهم، فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين1"، "من يغشون السلطان والشيعة". 130- هذه هي أهم الصفات التي تحلى بها موثقو الأحاديث، وهي صفات كما نرى تؤهل هؤلاء حقًّا إلى أن يوفقوا إلى الصواب فيما تصدوا إليه من تصحيح الأحاديث، أو تضعيف ما لم يصح منها. وهذا يجعلنا نطمئن إلى ما يصدرونه من أحكام، وما يضعونه من أسس تميز الصحيح من غيره. والآن ... وبعون من الله وتوفيقه وهدايته - مع أسس توثيقهم للسنة واتجاهاتهم في هذا التوثيق ...

_ 1 الكفاية هـ ص: 126.

القسم الأول: توثيق سند الحديث

القسم الأول: توثيق سند الحديث الفصل الأول: نقل السنة بالتواتر والآحاد مدخل ... القسم الأول: توثيق سند الحديث الفصل الأول: نقل السنة بالتواتر والآحاد 131- في القرن الثاني الهجري سار توثيق السنة في طريقين يكمل أحدهما الآخر حفاظًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحدهما: وضع المقاييس والأسس التي تكفل للسنة أن تنقل نقلًا صحيحًا دون تبديل أو تغيير، والتي تصونها من وضع الوضاعين، وتحريف بعض الرواة، وقد بدأ السير في هذا الطريق في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، كما سبق أن رأينا، واستكملت أسسه في القرن الثاني، كما سنرى إن شاء الله تعالى. ثانيهما: إثبات حجية السنة، كمصدر أساسي من مصادر التشريع الإسلامي، وإزالة العوائق التي وضعها الحاقدون على السنة دون تنفيذ ذلك؛ وقد بدأ هذا عندما ادعت طوائف أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تنقل نقلًا صحيحًا، ولا يمكن لها ذلك، على الرغم من الجهود التي يبذلها القائمون في هذا المجال، وهي بالتالي غير موثقة، وغير صحيحة، وغير جديرة بالقبول، ولا تكون حجة. 132- وقد بدأ السير في هذا الطريق في القرن الثاني الهجري، وحمل لواءه الإمام الشافعي، رضي الله عنه. 133- وسنبدأ بالطريق الثاني؛ لأنه كالأساس للطريق الأول، فالذين وضعوا أسس توثيق السنة كان يدفعهم إلى ذلك أن العمل بها ضروري، وأن حجيتها ثابتة، وأن نقل معظمها عن طريق الآحاد من الرواة لا يجعلنا نشك فيها، أو لا نطمئن على ثبوتها، كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي موثوق به، كما فعل بعض الناس فهذا هو الأساس الذي تتلوه عملية التوثيق الأخرى، التي بدأت منذ عصر الصحابة، كما رأينا. وبدأت أولًا لأن القائلين برفض السنة واستحالة نقلها نقلًا صحيحًا عن طريق الرواة لم يظهر أثرهم وخطرهم على السنة إلا في القرن الثاني الهجري، ولهذا انتضى لهم الإمام الشافعي.

134- والسنة من حيث السند تنقسم إلى قسمين عند الجمهور: 1- قسم نقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب؛ لكثرة عددهم، وتباين أمكنتهم ابتداء من أول القرن الثاني، عن قوم مثلهم. إلى أن يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أوله كآخره، وأوسطه كطرفيه، وذلك نحو نقل أعداد الركعات، وأعداد الصلوات، ومقادير الزكاة، ومنه حديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 1، فقد نقله من الصحابة رضي الله عنهم العدد الجم، وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم2. ويسمى هذا القسم بالمتواتر، ويطلق عليه الإمام الشافعي علم العامة أو علم الإحاطة3. وهذا القسم لا يذكره المحدثون ولا يكاد يوجد في رواياتهم؛ لكونه لا تشمله صناعتهم، كما يعبر ابن الصلاح4. 2- وقسم ليس كذلك، وإنما نقله الآحاد من الرواة في أي طبقة من الطبقات الأولى الثلاث، الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، وبعبارة أخرى قسم ليس بمتواتر، ويسمى هذا القسم "الآحاد"، ويسميه الإمام الشافعي "علم الخاصة"5.

_ 1 انظر طرق هذا الحديث ومن رواه من الصحابة في كتاب تحذير الخواص من أكاذيب القصاص: جلال الدين السيوطي تحقيق محمد الصباغ -المكتب الإسلامي 1392هـ-1972م ص8-65 الفصل الأول بأجمعه. 2 مقدمة ابن الصلاح: تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزودي المعروف بابن الصلاح مطبوعة مع شرح التقييد والإيضاح للحافظ زين الدين عبد الرحمن بن الحسين العراقي "725-806هـ" نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. الطبعة الأولى 1389هـ-1969م ص266. 3 الرسالة: محمد بن إدريس الشافعي "150-204م" تحقيق أحمد محمد شاكر - الطبعة الأولى 1385-1940، مكتبة مصطفى الحلبي، ص478. 4 مقدمة ابن الصلاح: ص265. 5 الرسالة: ص478، 479.

3- وهناك قسم آخر عند الأحناف خاصة ويسمونه "المشهور"، وهو ما نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآحاد من الصحابة، ثم تواتر في طبقتي التابعين وتابعيهم. فباعتبار الأصل هو من الآحاد، وباعتبار الفرع هو متواتر، ومثاله ما روى المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، في سفر، فأهويت لأنزع خفيه. فقال: "دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين". فمسح عليهما. وكقوله عليه السلام: "لا يرث القاتل"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" 1.

_ 1 أصول السرخسي جـ1، ص292- البداية في أصول الفقه: شرف الدين محمود خطاب الطبعة الثالثة 1352هـ-1933م مطبعة الاستقامة -القاهرة جـ2 ص8.

حجية المتواتر والدفاع عن هذه الحجية

حجية المتواتر والدفاع عن هذه الحجية: 135- والمتواتر موثوق به، لبعد تهمة التواطؤ على الكذب من ناقليه؛ لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم، فهو يضاهي السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، و"لهذا كان موجبًا علم اليقين عند جمهور الفقهاء". ويقول شمس الأئمة السرخسي -مبينًا مقدار الثقة بالمتواتر عند الأحناف والشافعية: "ثم المذهب عند علمائنا أن الثابت بالمتواتر من الأخبار علم ضروري كالثابت بالمعاينة، وأصحاب الشافعي يقولون: الثابت به علم يقين ولكنه مكتسب لا ضروري" ثم حكى قولًا ثالثًا لطائفة قالت: إن المتواتر يفيد علم طمأنينة القلب لا علم اليقين، ومعنى هذا أنه يثبت العلم به مع توهم الغلط أو الكذب، ولكن لرجحان جانب الصدق في نقله تطمئن القلوب إليه1، وكلهم مجمعون -تبعًا لهذا- على حجيته ووجوب العمل به. منكرو حجية المتواتر: 136- وإذا ان هذا هو رأي عامة المسلمين، فقد خالفهم من يقول: إن الخبر -والمتواتر منه- لا يكون حجة أصلًا، ولا يقع العلم به بوجه من الوجوه، لأن الذي تولى نقله المخبرون، ويمكن أن يجتمعوا على اختراعه،

_ 1 المصدر السابق جـ1 ص283، 291، 284.

قلوا أو كثروا، ولا يسلم كل واحد منهم من الخطأ والوهم، فكذلك جميعهم1. 137- وقد حكى الإمام الشافعي، رضي الله عنه قول هذه الطائفة التي ردت الأخبار كلها، ولم تثق فيها، فقد جاء له بعض منها، فقال: إن الله تعالى قد حكى أن في القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء2، فلا يجوز أن يخصص عامه، أو يقيد مطلقه أو يفسر الأمر فيه؛ مرة بالفرض، ومرة بالإباحة بالأحاديث التي ينقلها الرواة، ولا يبرأ كل واحد منهم من الغلط والنسيان والخطأ في الرواية "أفيجوز أن يفرق بين شيء من أحكام القرآن وظاهره واحد عند من سمعه بخبر من هو كما وصفتم فيه، وتقيمون أخبارهم مقام كتاب الله، وأنتم تعملون بها، وتمنعون بها3"، كما يحكي الإمام الشافعي قول بعضهم: "ولا أقبل منها شيئًا إذا كان يمكن فيهم الوهم، ولا أقبل إلا ما أشهد به على الله، كما أشهد بكتابه الذي لا يسع أحدًا الشك في حرف منه، أيجوز أن يقوم شيء مقام الإحاطة، وليس بها4؟! ". وخلاصة هذه الدعوة -كما نرى من هذه النصوص- هو رفض السنن وعدم قبولها، والاكتفاء بكتاب الله عز وجل. 137- وقد وجدت بذور هذه الدعوى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحذر منها حين قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: ما أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". وحين قال: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه" 5.

_ 1 أصول السرخسي ص283. 2 الآية الكريمة تقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} [النحل: 89] . 3 الأم جـ7 ص250. 4 المصدر السابق جـ7 ص250. 5 المستدرك جـ1 صـ108 - 109 وانظر صـ24 من هذا الكتاب.

138- كما وجدت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة، فقال له رجل من القوم: يا أبا نجيد، إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلًا في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: قرأت القرآن؟. قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعًا قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه؟، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: أوجدتم في القرآن {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} 1، أوجدتم فيه: فطوفوا سبعًا، واركعوا ركعتين خلف المقام، أوجدتم في القرآن: "لا جلب، ولا جنب ولا شغار في الإسلام"2؟. أما سمعتم الله تعالى في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3؟!. قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم4". 139- وفي عصر التابعيين وجدنا رجلًا يجابه التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخير، ويقول له: "لا تحدثونا إلا بالقرآن5".

_ 1 سورة الحج: آية 29. 2 الجلب: يكون في شيئين: أحدهما في الزكاة، وهو أن يقدم المصدق على أهل الزكاة فينزل موضعًا، ثم يرسل من يجلب إليه الأمور من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهى عن ذلك، وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. الثاني: أن يكون في السباق، وهو أن يتبع الرجل ويصيح فرسه، فيزجره، ويجلبعليه، ويصيح حثًّا له على الجري فنهى عن ذلك والجنب: هو في السباق أن يجنب فرسًا إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب وهو في الزكاة أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم أمر بالأموال أن تجنب إليه أي تحضر فنهوا عن ذلك، وقيل: هو أن يجنب رب المال بماله، أي يبعده عن موضعه، حتى يحتاج العامل إلى الإبعاد في اتباعه وطلبه. الشغار: نكاح معروف في الجاهلية كأن يقول الرجل للرجل شاغرني: أي زوجني أختك أو بنتك أو من تلي أمرها حتى أزوجك أختي أو بنتي، أو من إلي أمرها، ولا يكون بينهما مهر فهذه في مقابل تلك. 3 سورة الحشر: آية 7 4 مفتاح الجنة، في الاحتجاج بالسنة: جلال الدين السيوطي "911هـ" نشر المكتبة السلفية ص6، وقد رواه الحاكم مختصرًا: المستدرك جـ1 ص109-110- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ص20. 5 سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ص20.

140- ولكن الجديد في هذه الدعوى -في القرن الثاني- أن أصحابها، وقد وجدوا الأسس التي وضعها المحدثون، والجهود المضنية التي بذلوها في خدمة السنة وصيانتها من الخطأ والنسيان والوضع، يريدون أن يشككوا في هذه الجهود، حتى لا تقف حجر عثرة أمام أهدافهم، وكأنهم يقولون: مهما فعلتم، فالشك قائم في الأخبار، وهي غير موثقة؛ لأن ناقليها، قلوا أو كثروا - لا يوثق بنقلهم. يقول شمس الأئمة السرخسي مبينًا حجة هؤلاء: "ومن الناس من يقول الخبر لا يكون حجة أصلًا، ولا يقع العلم به بوجه، وكيف يقع العلم به، والمخبرون هم الذين تولوا نقله؟ وإنما وقوع العلم بما ليس من صنع البشر، ويتحقق منهم الاجتماع على اختراعه -قلوا أو كثروا- فذلك لا يكون موجبًا للعلم أصلًا1". ومن هنا ضاعفوا من جهودهم في التشكيك في السنة وفي حجيتها. ولكن من هؤلاء؟: 141- لم يفصح الإمام الشافعي عمن يرى هذا الرأي، وإن كان قد أشار إلى أن الذين تفرقوا في تثبيت الخبر من أهل الكلام وممن نسبتهم العامة إلى الفقه2. ورجح الدكتور مصطفى السباعي، مستنيرًا برأي للشيخ الخضري في كتابه "تاريخ التشريع الإسلامي" -أن هؤلاء من المعتزلة، واستند في ذلك إلى ما يقوله ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث من أن شيوخ المعتزلة تطاولوا على السنة وعلى الصحابة، وأن الإمام الشافعي ذكر أن موطن هؤلاء المنكرين كان بالبصرة، وأكثر المتكلمين بما فيهم المعتزلة كان بالبصرة3، كما أن أبا منصور البغدادي ذكر في كتابه "الفرق بين الفرق" أن النظام من المعتزلة

_ 1 أصول السرخسي جـ1 ص283. 2 الأم جـ7 ص250 أول كتاب جماع العلم. 3 تاريخ التشريع الإسلامي: الشيخ محمد الخضري، الطبعة الثامنة 1387هـ-1967م المكتبة التجارية الكبرى -القاهرة ص155-156- السنة ومكانتها في التشريع ص133. - مختلف الحديث: ابن قتيبة الدينوري "276هـ" الطبعة الأولى - مطبعة كردستان العلمية 1326هـ ص28، 29.

"230هـ"، كان يقول بأن الخبر المتواتر، مع خروج ناقليه عند سامع الخبر عن الحصر، ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيها -يجوز أن يقع كذبًا1. 142- ويرى الأستاذ أبو زهرة أن هؤلاء هم "الذين ارتكبوا ذلك الشذوذ العلمي ونابذوا بذلك الجماعة الإسلامية من الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا سواه؛ ليفسدوا أمر المسلمين، وينالوا من الشرع الإسلامي بمثل هذا الكيد الخفي، بعد أن عجزوا عن مغالبته بالحجة الظاهرة؛ إذ قضى عليهم بالأدلة الباهرة وبعض هؤلاء كانوا من الخوارج، ولذلك كان من الخوارج من أنكر حكم الرجم؛ لأنه لم يرد في القرآن الكريم" كما يرى أن هؤلاء قد اتخذوا نحلة الاعتزال سترًا لأهوائهم و"لنزعة العقل واعتماد المعتزلة عليه، ولقد وجدوا في مذهب الاعتزال ستارًا لإخفاء أهوائهم وطي مفاسدهم بالكتمان، حتى تفرخ، وتصل إلى غايتها2". 143- ونحن مع الشيخ أبي زهرة في أن هؤلاء كانوا من الزنادقة، وإن لبسوا أثواب الخوارج حينًا وأثواب المعتزلة حينًا آخر ونجل المعتزلة والخوارج الحقيقيين من الوقوع في مثل هذا. ونرى أن هؤلاء من رواسب المذاهب القديمة التي قالت لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها كالسمنية والبراهمة، وهذه كانت موجود قبل الإسلام3. مناقشة الإمام الشافعي: 144- وقد انبرى ناصر السنة الإمام الشافعي للدفاع عن السنة وحجيتها ضد هؤلاء، وجادلهم بالعقل والمنطق فقال لهم -على صورة حوار بينه وبين أحدهم:

_ 1 السنة ومكانتا في التشريع ص171. 2 الشافعي: محمد أبو زهرة -الطبعة الثانية 1367هـ-1948م، دار الفكر العربي ص214-215. 3 الإحكام في أصول الأحكام: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي "551-631هـ" 1387هـ-1967م - مؤسسة الحلبي وشركاه 2/ 15.

أولًا: ما دمتم تريدون اتباع القرآن الكريم والاكتفاء به، فإن اتباع السنة وقبولها إنما هو اتباع للقرآن الكريم واكتفاء به، قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 1، وقد علمنا أن الكتاب هو كتاب الله، فما الحكمة؟ إنها ليست سوى سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال المنكر: إنه من المحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب جملة والحكمة خاصة، وهي أحكام الكتاب، فهو لم يخرج عن تعليم الكتاب فردّ عليه الإمام الشافعي: بأنه إذا كان يعني بالحكمة أنها أحكام كتاب الله تعالى وأنها لا تخرج عما بينه رسول الله، صلى الله عليه وسلم من جملة الفرائض من الصلاة والزكاة والحج وغيرها، فيكون الله قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه الكريم، وبين كيف هي على لسان نبيه -إذا كان يعني ذلك، وليس غيره كما أقر، فهذه هي السنة التي لا نصل إليها إلا بخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وإذا لم نقبل هذه الأخبار فإننا نكون قد فرطنا في أمور ديننا. 145- ويضيف الإمام الشافعي بأنه إذا كان من المحتمل أن تكون الحكمة في الآية الكريمة هي كتاب الله، ويحتمل أن تكون شيئًا غيره زائدًا عليه، فإن أظهر الاحتمالين هو الاحتمال الثاني، كما يدل عليه استعمال القرآن الكريم للفظ الحكمة، حيث يراد بها معنى آخر غير كتاب الله عز وجل، قال تعالى، في آية أخرى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 2، فأخبر تعالى أنه يتلى في بيوتهن شيئان: القرآن والحكمة، أي ينطق بكل منهما "فهذه أبين في أن الحكمة غير القرآن من الأولى"3. ثانيًا: لقد افترض الله علينا اتباع نبيه، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي

_ 1 سورة الجمعة: 2. 2 الأحزاب: 34. 3 الأم: 7/ 251.

أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2، وقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. 146- وقد فرض الله علينا اتباع أمره، صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4، فقد بين في التنزيل أن علينا فرضًا أن نأخذ الذي أمرنا به، وننتهي عما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وإذا كان ذلك علينا فرضًا فإنه لا سبيل إلى ذلك بالنسبة لنا -نحن الذين لم نشاهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم- إلا بالخبر عنه5. ثالثًا: وفي معرفة ناسخ القرآن الكريم ومنسوخه نحتاج إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصل إلى ذلك إلا بنقل الرواة، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 6، وقال عز وجل في الفرائض: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} 7، "فزعمنا -بالخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن آية الفرائض نسخت الوصية للوالدين والأقربين8،

_ 1 سورة النساء: 65. 2 سورة النساء: 80. 3 سورة النور: 63. 4 سورة الحشر: 7. 5 الأم: 1/ 251. 6 سورة البقرة: 180. 7 سورة النساء: 11. 8 هكذا عبّر الإمام الشافعي رضي الله عنه، لكن الآية الثانية خصصت عموم الأولى، "ذلك أن مقتضى العموم الذي في الآية الأولى إيجاب الوصية لكل قريب، ومقتضى آيات المواريث منح بعض الأقربين حق خلافة الميت في ماله دون بعضهم الآخر، فليس بين الآيتين إذن ذلك التعارض الذي يسوغ النسخ، إذ ما زال هناك بعض الأقربين ممن وجبت لهم الوصية بمقتضى الآية الأولى ولم تورثهم الآية الثانية"، فيمكن إعمال الآيتين معًا، وهذا ما يتعارض مع مفهوم الناسخ والمنسوخ" النسخ في القرآن الكريم، دراسة تشريعية تاريخية نقدية: أستاذنا الدكتور مصطفى زيد. الطبعة الأولى 1383هـ-1963م -دار افكر العربي بالقاهرة- المجلد الثاني ص592-595.

فلو كنا ممن لا يقبل الخبر، فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض، فهل تجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم1؟. رابعًا: إن في القرآن عامًّا يراد به الخاص، وبعض ذلك لا يبينه إلا السنة، وعلى هذا فنحن محتاجون إلى إخبار الرواة الذين ينقلونها، وإلا ما فهمنا كتاب الله عز وجل، فقد فرض الله تعالى الصلاة، ولكن ذلك ليس على الناس عامة، وإنما الحيض مخرجات بالسنة منه، وفرض الزكاة على الأموال عامة، ونجد بعض الأموال مخرجًا منه بالسنة، وفرض المواريث للآباء والأمهات والولد عامًّا، ولم يورث المسلمون كافرًا من مسلم، ولا عبدًا من حر، ولا قاتلًا ممن قتل، وكل ذلك بالسنة2. خامسًا: وإذا كان الخبر متواترًا كان أو غير متواتر ليست له صفة الإحاطة التي في القرآن الكريم؛ لأنه أقل درجة منه فإن بعض هؤلاء المنكرين تساءل: هل من حجة في أن نبيح المحرم بإحاطة، وهو نص من القرآن الكريم بغير إحاطة، وهو الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟. أجاب الشافعي بنعم، والحجة فيه واضحة، فالقاتل يباح دمه بشهادة شاهدين على أنه قتل، فقد أبيح الدم المحرم بإحاطة، وهو شهادة الشهود الذين يمكن فيهم الكذب أو الخطأ. 147- ثم يضيف أنه إذا كان قد قبلت شهادة الشاهدين بناء على صدقها في الظاهر -ولا يعلم الغيب إلا الله- فإنه -من باب أولى- يقبل الحديث من الوراة الناقلين له؛ لأن المحدثين يطلبون في الراوي أكثر مما يطلب في الشاهد ويقيمون الدلائل على صدق الرواة وكذبهم وغلطهم بمقارنة

_ 1 الأم 7/ 252. 2 المصدر السابق 7/ 252.

رواياتهم بروايات الحفاظ، وبالكتاب والسنة مما لا يمكن في الشهادات، ولهذا وجدنا من تجوز شهادته ولا تجوز روايته1. هذا مجمل ما رد به الإمام الشافعي على منكري السنة عامة والأخبار المتواترة خاصة. 148- وهناك نوع آخر من الرد عليهم يعتمد على ما هو مقرر عند عامة العقلاء بحيث لا يستطيع إنسان ما -حتى ولو كان لا يؤمن بالقرآن- أن يشكك أو يجادل فيه. وقد ذكر هذا الرد شمس الأئمة السرخسي الحنفي. ولسنا ندري هل هو منقول عن أئمة المذهب في القرن الثاني الهجري أو لا، ولكننا نذكره هنا استكمالًا لما ذكره الإمام الشافعي، واحتمالًا أن يكون هو ما ردت به مدرسة أبي حنيفة في العصر الذي كانت فيه هذه الفئة المنكرة موجودة تعلن رأيها، حتى انتضى لها الإمام الشافعي، كما ذكرنا. 149- يقول شمس الأئمة: إن القائل برد الأخبار كلها سفيه، يزعم أنه لا يعرف نفسه، ولا دينه، ولا دنياه، ولا أمه ولا أباه، وهو بمنزلة من ينكر العيان من السوفسطائية، فلا يكون الكلام معه على سبيل الاحتجاج والاستدلال، لأن هذا أقل مما يثبته ويوجبه المتواتر؛ فإن هذا يوجب علمًا ضروريًّا والاستدلال لا يوجب ذلك، وإنما الكلام معه من حيث التقرير عند العقلاء بما لا يشك هو ولا أحد من الناس أنه مكابرة وجحد لما يعلم اضطرارًا، بمنزلة الكلام مع من يزعم أنه لا حقيقة للأشياء المحسوسة، "فنقول: إذا رجع الإنسان إلى نفسه علم أنه مولود اضطرارًا بالخبر، كما علم أن ولده مولود بالمعاينة، وعلم أن أبويه كانا من جنسه بالخبر، كما علم ذلك من ولده بالعيان، وعلم أن السماء والأرض كانتا قبله على هذه الصفة بالخبر، كما يعلم أنهما على هذه الصفة للحال بالعيان، وعلم أن آدم أبو البشر على وجه لا يتمكن فيه شبهة، فمن أنكر شيئًا من هذه الأشياء فهو مكابر جاحد لما هو معلوم ضرورة بمنزلة من أنكر العيان".

_ 1 الأم 7/ 252-253.

150- وهذا العلم في الحقيقة لا يحصل بفعل المخبرين، وإنما هو من صنع الله عز وجل حيث خلق الله الناس على طباع مختلفة تبعثهم على الاختلاف والتباين، واتفاقهم بعد ذلك لا بد أن يكون بشيء خارج عن طباعهم، مثل ما ركب الله في عقولهم من الاتفاق على المتواتر من الأخبار، وفي هذا حكمة بالغة، وهي بقاء الأحكام بعد وفاة المرسلين، تنقل إليهم بالتواتر فيعملون بها، ويكونون بمنزلة من سمعوا هذه الأحكام في حياتهم. وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان مبعوثًا إلى الناس كافة، وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن بما يخبر به، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1، وهذا الخطاب لكل الناس في عصره، وفي غير عصره، والطريق في الرجوع إليه للأخيرين هو الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، وهو كالمسموع في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه، صلى الله عليه وسلم، كان لا يتكلم إلا بالحق خصوصًا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت منه بالسماع وبالأخبار علم اليقين2.

_ 1 النساء: 59. 2 أصول السرخسي 1/ 283، 284.

حجية خبر الآحاد

حجية خبر الآحاد: 151- وإذا كان الذين ينكرون المتواتر والأخبار عامة قلة قليلة خالفت عامة المسلمين وجماهيرهم، وأنكرت ما هو معلوم ضرورة -فإن خطورتهم من أجل هذا لم تكن كبيرة، ولم تكن مثل خطورة من أنكروا أخبار الآحاد، فهم أكثر منهم عددًا، ولهم حجتهم التي من الممكن أن تنطلي على كثير من الناس لو تركت وشأنها ومن هنا كان جهد الشافعي أكبر من جهده السابق، وناقشهم بشيء من التفصيل وبكثير من الأدلة. وقبل أن نعرض مناقشة الإمام الشافعي هذه فإنه يجدر بنا أن نذكر منزلة خبر الواحد عند عامة المسلمين، وإلى أي مدى هو موثق عندهم حتى يقبلوه ويبنوا عليه أحكام دينهم، كما نذكر حجة من يرفضونه ولا يثقون فيه.

152- قال الفقهاء وكثير من المحدثين: إن خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين ولا يثبت به علم اليقين، يقول ابن حزم: وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين: إن خبر الواحد لا يوجب العلم. ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبًا أو موهومًا فيه وقال سائر من ذكرنا أنه يوجب العمل1. 153- وقال بعض أهل الحديث يثبت بخبر الواحد علم اليقين، وهو مذهب أحمد بن حنبل2، وروي هذا عن مالك، رضي الله عنه3. وقال بعض الناس لا بد فيه من عدد الشهادة ليكون حجة ومنهم من اعتبر أقصى عدد للشهادة وهو أربعة4. وخبر الواحد عند هؤلاء جميعًا موضع ثقة، فأخذوا به في الحلال والحرام وجعلوه مصدرًا من مصادر التشريع. منكرو خبر الواحد وحجتهم: وقال بعض الناس: إن خبر الواحد لا يكون حجة أصلًا في الدين، فلا يوجب العلم ولا العمل، وينسب هذا الرأي إلى المعتزلة، ابتداء من القرن الثاني الهجري، كما ذكر ابن حزم في "الإحكام"، قال: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، يجري على ذلك كل فرقة فيعلمها؛ كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية، حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد "144هـ"، يتدين بما يروى عن الحسن ويفتي به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم"5.

_ 1 الإحكام في أصول الأحكام: أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهر "456هـ". نشر زكريا علي يوسف، مطبعة العاصمة بالقاهرة 1/ 107. 2 كشف الأسرار 2/ 691، الأحكام للآمدي 2/ 32. 3 الإحكام لابن حزم 1/ 107. 4 أصول السرخسي 1/ 321. 5 الإحكام لابن حزم 1/ 102.

154- وينسب هذا الرأي إلى الشريف المرتضى أيضًا من الشيعة "436هـ"، فهو يقول: "لا بد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد؛ لأنها لا توجب علمًا ولا عملًا وأوجبنا أن يكون العمل تابعًا للعلم؛ لأن راوي خبر الواحد إذا كان عدلًا فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبًا"1. 155- وحجة هذا الفريق أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب العلم لم يجز اتباعه، والعمل به بهذا الظاهر. 156- وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَق} 3، وخبر الواحد إذا لم يكن راويه معصومًا عن الكذب والغلط لا يكون حقًّا على الإطلاق، ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين. وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} 4، وقال عز من قائل: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 5، ومعنى الصدق في خبر الواحد غير موجود إلا بطريق الظن. وخبر الواحد محتمل للصدق والكذب، وإذا كان النص الذي هو محتمل للتأويل لا يكون موجبًا للعمل بنفسه، مع أن كل واحد من الاحتمالين فيه يجوز أن يعمل به، فلأن لا يجوز العمل بما هو محتمل للكذب -مثل خبر الواحد- أولى؛ لأن الكذب باطل أصلًا6. وإن الله سبحانه وتعالى هو صاحب الشرع، وهو موصوف بكمال القدرة، فكان قادرًا على إثبات ما شرعه بأوضح دليل، ولا ضرورة له في التجاوز عن الدليل القطعي إلى ما لا يفيد إلا الظن7.

_ 1 أصول الفقه للمظفر 1/ 70. 2 سورة الإسراء: 36. 3 سورة النساء: 171. 4 سورة الزخرف: 86. 5 سورة النجم: 28. 6 أصول السرخسي 1/ 321. 7 كشف الأسرار 2/ 690.

مناقشة الإمام الشافعي: والآن نعرض لما قاله الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في توثيق خبر الواحد من حيث حجيته، ووجوب العمل به. 157- لقد بدأ بإيراد الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تدل على أن خبر الواحد أقام به الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة، وعمل المسلمون به في عهده صلى الله عليه وسلم. 1- روى بسنده عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضّر اللهُ عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم1". ثم قال: "فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها، والامرؤ واحد -دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب، وحد يقام ومال يؤخذ، ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا2". 2- وروى بسنده عن أبي رافع أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 3.

_ 1 روى هذا الحديث أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا: ثلاث لا يغل عليهن إلى آخره. نضر -نعم من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، إنما أراد حسن خلقه وقدره يغل من الغل وهو الحقد يغل من الإغلال وهو الخيانة، والمراد أن المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حين يفعل شيئًا من ذلك والمعنى: "أن هذه الخلال يستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والفساد". تحيط بهم من ورائهم: أي تحدق بهم من جميع جوانبهم. "تحقيق الأستاذ أحمد شاكر للرسالة ص401-402". 2 الرسالة ص401-402. 3 سبق تخريج هذا الحديث ص24 من هذا البحث، وانظر تحقيق أحمد شاكر للرسالة ص89-91.

ويقول الشافعي: إن في هذا تثبيت الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه لازم للمسلمين أن يعملوا به، حتى وإن كان ما جاء به من الحكم ليس منصوصًا عليه في كتاب الله عز وجل1. 3- روى بسنده عن عطاء بن يسار "أن رجلًا قبّل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة، أم المؤمنين فأخبرتها؟ فقالت أم سلمة: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يُقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله عندها. فقال رسول الله: ما بال هذه المرأة؟. فأخبرته أم سلمة. فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء. فغضب رسول الله، ثم قال: والله إني لأتقاكم ولأعلمكم بحدوده"2. ويبين الشافعي وجه استدلاله بهذا الحديث فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأل أم سلمة بإخبارها عن فعله، صلى الله عليه وسلم، كان في ذلك دليل على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يسألها ذلك إلا وفي خبرها الحجة على من أخبرته. وهكذا خبر المرأة إن كانت من أهل الصدق عنده3. 4- إن أهل قباء حولوا قبلتهم من الشام إلى الكعبة بخبر واحد؛ روى الشافعي بسنده عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة4".

_ 1 الرسالة ص403-404. 2 المصدر السابق ص404-405، والحديث في المرطأ ص195، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 166-167 "ورجاله رجال الصحيح". 3 الرسالة ص404-406. 4 هذا الحديث في الموطأ رواية يحيى ص138.

ويبين وجه الاستدلال بهذا الخبر، فيقول: إن أهل قباء من سابقي الأنصار، وأهل فقه، وقد كانوا يستقبلون قبلة فرضها الله عليهم، ولم يكونوا بتاركي هذا الفرض إلا بما تقوم به الحجة ... وكان ذلك بخبر الواحد -كما رأينا في هذا الحديث- ولم ينتظروا أن يسمعوا ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو ينقل إليهم هذا الخبر عامة الناس، فيكون متواترًا. كما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ينكر عليهم ما فعلوا، ولو كان يرى أن خبر الواحد لا تقوم به الحجة"، لقال لهم: إن شاء الله-: "قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم به عليكم حجة، من سماعكم مني، أو خبر عامة، أو أكثر من خبر واحد عني"1. 5- وامتنع بعض الصحابة من شرب الخمر بعدما أتاهم آت وأخبرهم بتحريمها، فروى الشافعي بسنده عن أنس بن مالك قال: "كنت أسقي أبا طلحة، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب شرابًا، من فضيخ وتمر، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله، حتى تكسرت2". ولم يقل أحد من الموجودين نحن على تحليلها؛ حتى نلقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وإنما قبلوا خبر الواحد هذا3. 6- وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنيسًا أن يغدو على امرأة رجل، ذكر أنها زنت، "فإن اعترفت فارجمها"، فاعترفت فرجمها4. ولو لم تقم الحجة بخبر الواحد ما اكتفى بأن يكلف واحدًا بالقيام بهذا الذي كلف به أنيسًا5.

_ 1 الرسالة ص408. 2 الحديث في الموطأ ص528 مع خلاف قليل في بعض الحروف. الفضيخ هو شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشذوخ. والمهراس: حجر مستطيل منقور يتوضأ منه ويدق فيه. 3 الرسالة ص409، 410. 4 مسند أحمد 4/ 115. 5 الرسالة ص410، 411.

7- وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أيام الحج، فجاء الناس بمنى، فبلغهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "إن هذه أيام طعام وشراب، فلا يصومن أحد" 1. ووجه الاستدلال أن رسول الله لا يبعث بنهيه واحدًا صادقًا إلا لزم خبره عن النبي، خاصة، وقد كان قادرًا على أن يذهب إلى هؤلاء الناس، فيشافههم، وقد كان قادرًا أيضًا على أن يبعث إليهم عددًا، "فبعث واحدًا يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم2". وكان هذا أولى بالأجيال التي تأتي بعده، صلى اللهعليه وسلم، ممن لا يمكنهم ما أمكن أصحابه3. 8- وفي الحج أيضًا بعث، صلى الله عليه وسلم، رسوله إلى الناس ليقول لهم: إنه يأمرهم أن يقفوا على مشاعرهم؛ لأنهم على إرث من إرث أبيهم إبراهيم عليه السلام4. 9- وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أميرًا على الحج في سنة تسع، وحضر الحجاج من أهل البلدان المختلفة، فأقام لهم مناسكهم، "وأخبرهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما لهم وما عليهم5".

_ 1 يقول أحمد شاكر: إسناد هذا الحديث صحيح جدًّا، ولم أجده في غير كتاب الرسالة إلا أن الشوكاني أشار إليه في نيل الأوطار: 4/ 352 ونسبه لابن يونس في تاريخ مصر، ولم يشر الترمذي إليه فيما يقول فيه: "وفي الباب". "تحقيق الرسالة ص412". 2 الرسالة ص411، 412. 3 المصدر السابق ص413. 4 هذا الحديث رواه أبو داود 2-133-134 والترمذي 2-99-100 من تحفة الأحوذي، والنسائي 2-45، وابن ماجه 2-123، والحاكم 1-462 والبيهقي في السنن الكبرى 5-115 "تحقيق الرسالة ص114". 5 البخاري طبعة الشعب 6-81.

كما بعث علي بن أبي طالب في تلك السنة إليهم، فقرأ عليهم يوم النحر آيات من سورة "براءة"، ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لهم مددًا، ونهاهم عن أمور1. فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جهلهما أو أحدهما من الحاج وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما، ولم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ليبعث واحدًا إلا والحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه - إن شاء الله تعالى2. 10- وقد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم عماله إلى النواحي يعلمون الناس أمور دينهم، ويأخذون منهم حقوق الله في الأموال3. ولم يقل من بعثوا إليهم ليس لكم أن تأخذوا منا ما لم نسمع رسلول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه علينا. وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن الحجة تقوم بمثلهم على من بعثهم إليهم، وعلم هؤلاء ذلك فأطاعوهم4. 11- ومثل هذا أمراء السرايا الذين أمّرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على الجيوش، وكلهم حاكم فيما بعثه فيه، "لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حل قتاله5". وقد كان يمكنه، صلى الله عليه وسلم، أن يبعث بدل الواحد اثنين وثلاثة وأربعة وأكثر. وقد بعث، صلى الله عليه وسلم اثني عشر رسولًا في وقت واحد إلى اثني عشر ملكًا، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها.

_ 1 البخاري طبعة الشعب 6/ 81. 2 الرسالة ص 414، 415. 3 انظر التراتيب الإدارية: عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني. نشر حسن جعنا. بيروت 1 - 240 - 247. 4 الرسالة ص415 - 417. 5 الرسالة ص417 وانظر التراتيب الإدارية 1 - 314.

ولم تزل كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي على يد رسول صادق، ولم يترك أحد من ولاته أمره، صلى الله عليه وسلم، أو نهيه عندئذ1. 12- وقد كانت كتب خلفائه، صلى الله عليه وسلم، مثل كتبه، وعمالها مثل عماله وأجمع المسلمون على ذلك2. ثم أعقب الإمام الشافعي ذلك بقوله: "ففيما وصفت من سنة رسول الله ثم ما أجمع المسلمون عليه منه - دلالة على فرق بين الشهادة والخبر والحكم3". وكأنه يرد بذلك على من يقولون: إن خبر الواحد لا يكون حجة إلا إذا اعتبر فيه عدد الشهادة4. 158- وبعد أن ساق هذه الأخبار لتثبيت خبر الواحد، وإثبات كونه حجة انتقل إلى لون آخر من الاستدلال، فقال: إن خبر الواحد نعمل به في حياتنا فيما لا يقل عن الأحاديث التي يرويها الآحاد من الرواة، وذلك أننا نرى القاضي يقضي على الرجل للرجل بحكم من الأحكام ... هذا الحكم في حقيقته إنما هو خبر يخبر به القاضي عن بينه تثبت عنده، أو إقرار من الخصم، ثم ينفذ هذا الحكم ... إن هذا في معنى المخبر بحلال وحرام وبعبارة أخرى في معنى راوي السنة أو الأحاديث5. 159- ثم يرد الإمام الشافعي على من يقولون: إن من علامة الضعف في خبر الواحد ترك البعض الأئمة له، فيقول:

_ 1 الرسالة ص418 -420 - وانظر عن العمال والكتب التي حملوها كتابًا هامًّا في هذا الموضوع وهو: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة جمع د. محمد حميد الله، دار الإرشاد - بيروت، الطبعة الثالثة 1389هـ - 1969م. القسم الثاني: العهد النبوي عبد الهجرة من ص 37 - 309. 2 مجموعة الوثائق السياسية: القسم الثالث: الخلافة الراشدة 311 - 404 والرسالة ص419 - 420. 3 الرسالة ص 420. 4 انظر ص: 83 من هذا البحث. 5 الرسالة ص 420، 421.

إن خبر الواحد ثابت على كل حال، حتى لو عمل بغيره أحد الأئمة، أو لم يمض عمل من الأئمة بمثله؛ لأن كل هذا يحدث، حين يجهلون بعض الأخبار، وعندما يصلهم علم بهذه الأخبار؛ فإنهم يتمسكون بها ولا يحيدون عنها. 160- فعمر رضي الله عنه قاس على خبر من الأخبار حين قضى في دية الأصابع، في الإبهام بخمس عشرة، وفي كل من السبابة والوسطى بعشر وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست، لقد رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى في اليد بخمسين، ففرقها على الأصابع بأقدار مختلفة لأنها مختلفة1. 161- ولكن وجد كتاب عمرو بن حزم، وثبت أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" - فصاروا إليه، وترك قول عمر، رضي الله عنه2. 162- ويوضح الإمام الشافعي رضي الله عنه أن هنا أكثر من دلالة: 1- قبول خبر الواحد في الوقت الذي ثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا. 2- أنه لو مضى عمل من أحد الأئمة، ثم وجد خبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم يخالفه ترك هذا العمل إلى خبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

_ 1 القياس هنا، كما يقول الأستاذ أحمد شاكر: المراد به الاستنباط المبني على التعليل، ولا يريد به القياس الاصطلاحي "تحقيق الرسالة ص422". 2 الرسالة ص422، 423 - ويقول الأستاذ أحمد شاكر: "وأما كتاب آل عمرو ابن حزم، فإنه كتاب جليل، كتبه النبي، صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وأرسله مع عمرو بن حزم، ثم وجد عند بعض آله، رووه عنه، وأخذه الناس عنهم، وقد تكلم العلماء طويلًا في اتصال إسناده وانقطاعه، والراجح عندنا أنه متصل صحيح.. وساقه الحاكم مطولًا في المستدرك 1/ 153، 158" "تحقيق الرسالة ص423". وانظر النصوص الكاملة لهذا الكتاب والاختلاف بين الروايات فيه في "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص173 - 178.

3- أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده1. 162- وإذا كان عمر، رضي الله عنه، لم يبلغه هذا الخبر، فلم يصر إليه -فإنه في بعض الحالات وصله الخبر بخلاف ما أفتى، فرجع عن فتياه إلى خبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعن سعيد بن المسيب: "أن عمر ابن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا". حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر2. 164- وفي بعض الأوقات يجمع الصحابة ليبحث عندهم عن حديث يقضي به فيما عنده من مشكلات، ولا يبيح لنفسه أن يقضي فيها برأيه عندما يجد حديثًا في موضوعها عن الصحابة، رضوان الله عليه وعليهم ... عن طاوس: "أن عمر قال: أذكِّر الله امرأ سمع من النبي في الجنين شيئًا، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره3. 165- وأيضًا لم يكن عمر، رضي الله عنه، يأخذ الجزية من المجوس، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أخذها من مجوس هجر، وقال: أشهد لسمعت رسول الله يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 4.

_ 1 الرسالة ص423، 424. 2 الرسالة ص425، 426. وهذا الحديث رواه أحمد في المسند 3/ 452، وأبو داود 3/ 90 والترمذي 3/ 184 من تحفه الأحوذي، وابن ماجه 2/ 74 وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". "تحقيق الرسالة ص 426". 3 المصدر السابق ص426 - 427. وإسناد هذا الحديث هنا مرسل ولكن رواه أحمد 4 - 79 - 80 بإسناد متصل صحيح. المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط. والغرة: كما يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية مقابل الدية للكبيرة وتكون في الجنين إذا سقط ميتًا. 4 الحديث رواه مالك في الموطأ 1/ 264. وقال ابن عبد البر: هذا منقطع ... إلا أن معناه متصل من وجوه حسان، وقد روى الشافعي حديثًا بعده متصلًا في معناه "تحقيق الرسالة ص 430".

قَبِل عمر رضي الله عنه هذا في الوقت الذي يعرف فيه أن القرآن الكريم يقول: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1 ويأمر بقتال الكافرين حتى يسلموا، فهم عنده من الكافرين، لأنه لا يعرف فيهم شيئًا عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لكنه أتاه خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فاتبعه، وترك عمله وفهمه، وذهب إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم2. 166- ثم ثنّى الإمام الشافعي بالرد على من يقولون بالعدد في قبول خبر الواحد، وقد يستدلون بطلب عمر راويًا آخر مع رجل أخبره خبرًا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقول: إن عمر، رضي الله عنه لا يفعل هذا إلا لأحد أسباب ثلاثة: 1- إما للحيطة فقط، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد عنده، فخبر الاثنين يزيدها ثبوتًا، وهذا مثل ما نراه عند القاضي، فقد يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة، فيقول للمشهود له: زدني شهودًا، وإنما يريد بذلك الحيطة والتأكد والاطمئنان النفسي.. لكنه -لو لم يزده المشهود له لحكم له بالشاهدين؛ لأن الحجة تقوم بهما. 2- وربما طلب مخبرًا آخر؛ لأنه لا يعرف الأول، فيقف في خبره حتى يأتي مخبر آخر يعرفه: وهذا هو الواجب، فلا يقبل الخبر إلا عن معروف، حتى يمكن الوقوف على الصفات التي يقبل بها خبر الراوي. 3- ويحتمل أن الذي أخبره ليس بمقبول القول عنده، فيرده، حتى يجد غيره ممن يقبل قوله3. 167- وكل الأخبار التي رويت عن عمر ترجع إلى أحد هذه الأسباب:

_ 1 سورة التوبة: 29. 2 الرسالة ص428 - 432. 3 الرسالة ص432 - 434.

فعندما أخبره أبو موسى الأشعري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاث مرات، ثم يرجع الزائر إذا لم يؤذن له -طلب آخر يخبره بذلك، وقد صرح في بعض الروايات بأن هذا للحيطة، حيث قال: "أما إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم". 168- وإذا كانت الرواية التي يصرح فيها عمر بأنه لم يتهم أبا موسى الأشعري، كما روى الشافعي، منقطعة1، فإن المعقول يقويها، لأن عمر في غير هذا الخبر قبل خبر الواحد، ولا يجوز على إمام عاقل أن يقبل خبر الواحد مرة، وهو يعلم أنه تقوم به الحجة، ثم يرد مثله مرة أخرى إلا لسبب آخر مثل زيادة الاحتياط وتعليم الناس ذلك، كما هنا2. 169- وفي القرآن الكريم دليل على أن الحجة على الخلق تقوم بالواحد من الرسل، ومع هذا، وزيادة في تأكيد الحجة على القوم الذين أرسل إليهم الرسل -قد يرسل الله عز وجل أكثر من رسول، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} 3. عقب الإمام فكذبوهما، فعززنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون3". عقب الإمام الشافعي على هذا بقوله: "فظاهر الحجج عليهم باثنين، ثم ثالث وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد، وليس الزيادة في التأكيد مانعة أن تقوم الحجة بالواحد4".

_ 1 الحديث هكذا رواه منقطعًا: الموطأ طبعة الشعب ص597. رواه البخاري 3/ 72 ومسلم 4/ 859 - 862 بشرح النووي وكلاهما رواه متصلًا دون قول عمر: "أما إني لم أتهمك ... إلخ" وقد جاءت رواية عند مسلم تتضمن هذا المعنى، إذ تقول: إن أبي بن كعب قال لعمر: "يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت ص862. يقول النووي في شرح هذا الحديث: "ومما يدل على أن عمر لم يرد خبر أبي موسى لكونه خبر واحد أنه طلب منه إخبار رجل آخر، حتى يعمل بالحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد، وكذا ما زاد حتى يبلغ التواتر فلما لم يبلغ التواتر فهو خبر واحد" "شرح مسلم جـ4 ص860". 2 الرسالة ص 435. 3 سورة يس: 13، 14. 4 الرسالة: 432 - 438.

170- وإذا ثبت أن الواحد يقبل خبره، وليس ذلك في الشهادة، مما يرد على الذين يشترطون العدد في الأخبار كالشهادة -فإنما يرد عليهم أيضًا أن المسلمين قبلوا خبر المرأة فيما لا يكتفى فيه بالمرأة في الشهادات، فقد روت الفريعة بنت مالك بن سنان: "أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تسأله أن ترجع إلى أهلها، في بني خدرة1، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له، حتى إذا كان بطرف القدوم2 لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم، فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي، فدعيت له، فقال: كيف قلت؟. فرددت عليه القصة، التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان أرسل إلي، فسألني عن ذلك؟. فأخبرته فاتبعه، وقضى به3. 171- فعثمان رضي الله عنه في إمامته وعلمه، قضى بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار4. وفعل زيد بن ثابت، رضي الله عنه، مثل ما فعل عثمان، رضي الله عنه، فقد كان يرى أن النهي عن صدور الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت -عام، حتى سمع ابن عباس، رضي الله عنهما، يفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فأنكر عليه ذلك، فأحاله ابن عباس إلى صحابية من الأنصار، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يستند إليه ابن عباس في فتواه، فسألها زيد، فأخبرته، فرجع يقول بما يقول به ابن عباس. وأساس هذا كما نرى رواية امرأة5.

_ 1 قبيلة من الأنصار. 2 مكان على بعد ستة أميال من المدينة. 3 رواه مالك في الموطأ ص365، وأحمد في المسند 6/ 370، 420 - 421. 4 الرسالة ص 438 - 439. 5 الرسالة ص 438 - 442. وهذا الخبر في المسند 1/ 226، 348.

172- وفي موقف الصحابة الآخرين ما يبين لنا بجلاء -أنهم قبلوا خبر الواحد، ورجعوا إليه، وعارضوا ما يخالفه، فابن عباس، رضي الله عنه خطأ رجلًا قال: إن موسى، صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. ورد عليه بخبر أبي بن كعب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: إن موسى صاحب الخضر عليه السلام هو موسى بني إسرائيل1. وسأل طاوس ابن عباس عن الركعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما. قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما!. وهنا بدا لابن عباس أنه يخالف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتلا له قوله عز ذكره: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} 2. "فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي، صلى الله عليه وسلم3" ... وكان ابن عمر يرى المخابرة جائزة، وينتفع بها، حتى أخبره واحد لا يتهمه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عنها فتركها، ولم يستعمل رأيه مع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم4. 173- ويلفت الشافعي النظر هنا إلى أن عمل بعض الصحابة بخلاف الخبر لا يضعفه، وبهذا يرد على من اتخذوا هذا مقياسًا لعدم صحة الخبر، ولا يثبتونه عندئذ، فيقول: "وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن بخبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يوهن الخبر عن النبي عليه السلام5".

_ 1 الرسالة ص 442، 443 البخاري 1/ 35، 36، 1/ 194 - 197 من فتح الباري، ومسلم 2/ 227. 2 سورة الأحزاب: 36. 3 الرسالة 443 - 444، وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 5/ 201 ونسبة لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي. 4 المخابرة: هي مزارعة الأرض بجزء مما يخرج منها. وقد روى أحمد أحاديث فيها. المسند 3/ 304، 313. 5 الرسالة ص 445، 446.

174- ورأى أبو الدرداء معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، وقال معاوية: ما أرى بهذه بأسًا ... فلم يعجب أبا الدرداء أن يرد معاوية خبر رسول الله، وقال: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض، "فرأى أبو الدرداء أن الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم ير ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض الذي هو بها، إعظامًا لأن ترك خبر ثقة عن النبي"1. وفعل مثل هذا أبو سعيد الخدري حين لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله شيئًا، فذكر الرجل ما يخالفه، فقال أبو سعيد: "والله لا أواني وإياك سقف بيت أبدًا". 175- وإذا تركنا الصحابة إلى التابعين وجدنا الأمر كذلك، يتمسكون بخبر الواحد ويرجعون إليه، وإن خالف رأيًا رأوه أو فتيًا أفتوا بها. فعمر بن عبد العزيز قضى برد عبد ظهر فيه عيب وغلته، فأخبره عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله قضى في مثل هذا أن "الخراج بالضمان3"، أي لا يرد غلة العبد، لأنها مستحقة بسبب ضمان المشتري له، فرجع عن قضائه الأول إلى خبر الواحد هذا، وقال: "فما أيسر علي من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله4". 176- وقضى سعد بن إبراهيم على رجل في قضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبره ابن أبي ذئب بخلاف، ما قضى به، فقال سعد

_ 1 الرسالة ص446، 44. 2 المصدر السابق ص447. 3 قال الأستاذ أحمد شاكر بعد دراسة طرق هذا الحديث المختلفة: الحديث صححه الحاكم 2/ 15 ووافقه الذهبي والترمذي ... فظهرت صحة الحديث بينة، تحقيق الرسالة ص449، 450". 4 الرسالة ص448، 449.

لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به؟ ... فرأى ربيعة أنه قد مضى حكمه باجتهاد، وأنه لا داعي لأن يرجع فيه، فرد عليه سعد: واعجبًا! !. أنفذ قضاء سعد بن أم سعد، وأراد قضاء رسول الله؟!. بل أرد قضاء سعد بن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية، فمزقه، وقضى بالخبر الذي رواه له ابن أبي ذئب1. 177- وعلى الرغم من أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قد أفاض في تثبيت خبر الواحد، وتوثيقه -كما رأينا- فإنه يقول: إن هناك أحاديث أخرى كثيرة تثبت أن خبر الواحد حجة إلا أنه اكتفى بذلك منها2. وأجمل بعد هذا قبول علماء الأمصار لخبر الواحد، ثم قال: إنه لو جاز لأحد من الناس أن يقول في خبر "الخاصة": أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بسبب أنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحدًا إلا وقد ثبته -لو جاز لأحد ذلك لجاز له ... ولكنه يصوغ القضية صياغة واقعية يقول: "ولكني أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد، بما وصفت من أن ذلك موجودًا3 على كلهم4". 178- وفي نهاية المطاف فرق الإمام الشافعي بين حجية المتواتر، أو خبر العامة وبين حجية خبر الواحد، فقال: إن العذر مقطوع في الواقع فلا يسع أحدًا من المسلمين الشك فيه، كما لا يسعه الشك في القرآن؛ لأن كلاهما نقل على درجة واحدة وهي التواتر، وعلى هذا فالذي يمتنع عن قبوله يستتاب.

_ 1 الرسالة ص 450، 453. 2 المصدر السابق والصفحة. 3 قال الأستاذ أحمد شاكر في التحقيق: هكذا هو بالنصب في الأصل بإثبات الألف ومعها فتحتان، وهو جائز على قلة على لغة من ينصب معمولي أن، وفي سائر النسخ بالرفع كالمعتاد "تحقيق الرسالة ص 458". 4 الرسالة ص 453 - 458.

179- أما خبر الآحاد أو خبر الخاصة -كما يعبر الشافعي- فالحجة فيه قائمة، ولازم للمسلمين أن يعملوا به، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول ... ولكنه دون نص كتاب الله وخبر العامة، بحيث لو شك فيه شاك لمنقل له: تب، "وقلنا ليس لك -إن كنت عالمًا- أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم1". 180- وعلى الرغم من هذه الإفاضة فإننا نلاحظ أن أكثر من أورده -إن لم يكن كله- يعتمد على خبر الواحد الذي ينكره الخصم، ومع هذا فيبدو أن الذين كان يجادلهم الشافعي يعرفون تلك الأخبار، ويسلمون بها، أو كما يقول السرخسي معتذرًا عن إيراد عيسى بن أبان "220هـ". لها أيضًا: إنما استدل بها؛ لكونها مشهورة في حيز التواتر2، ويقول البخاري صاحب كشف الأسرار: إن هذه الأخبار، وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة من جهة المعنى، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم، وشجاعة علي فلا يكون لقائل أن يقول: ما ذكرتموه في إثبات كون خبر الواحد حجة هي أخبار آحاد3. جهود أخرى: ومن الإنصاف أن نقول: إنه لم يكن الشافعي وحده في ميدان المدافعين عن خبر الواحد، وإنما كان معه في عصره أئمة دافعوا عن السنة ضد هؤلاء المهاجمين لها أو التاركين، ويهمنا أن نشير في هذا الصدد إلى جهود مدرسة الأحناف، فقد ذكر السرخسي أن الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر دفاعه في كتاب "الاستحسان"، كما ذكر عيسى بن أبان كثيرًا من الأدلة التي تثبت حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به4.

_ 1 الرسالة: 460، 461. 2 أصول السرخسي جـ1 ص328. 3 كشف الأسرار جـ2 ص695. 4 أصول السرخسي جـ1 ص328 - أصول البزدوي "في الإشارة إلى أدلة محمد" جـ2 ص694.

181- ويكفينا عن إيراد هذه الأدلة ما ذكره الإمام الشافعي، ولكننا نذكر هنا ما أورده السرخسي من مناقشة عقلية بعيدة عن تلك الآثار -استكمالا لصورة الدفاع، وعرضًا لجانب هام من جوانبه الذي قدمه الأحناف ولا يبعد أن يكون أصوليوهم قد نقلوه عنهم. 182- لم يهتم السرخسي إذن بإيراد الآثار التي أوردها الشافعي وعيسى ابن أبان؛ أولًا لشهرتها ... وثانيًا لأن الخصوم -كما قلنا- سيقولون: كيف يحتجون على وجوب العمل بخبر الواحد من الأخبار، وهو نفس الخلاف1؟ ولهذا فقد اتجه اتجاهًا آخر هو ما نبينه هنا: 1-قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 2 الآية الكريمة. وقال جل شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه} 3، ففي هاتين الآيتين نهى كل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان والتبيلغ؛ لأن الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم؛ ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة فيما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، وهذا يقتضي من المبلغ القبول والعمل بما جاء به المبلغ أو المخبر. "فكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجة لما أمر ببيان العلم4". وإذا كان الفاسق يدخل في هذين النصين، فإنه مخصوص منهما بنص آخر، وهو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 6 ففيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق5. وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

_ 1 أصول السرخسي جـ1 ص138. 2 البقرة: 159. 3 آل عمران: 187. 4 أصول البزدوي جـ2 ص691. 5 الحجرات: 6. 6 أصول السرخسي 1/ 322.

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ، والفرقة اسم للثلاثة فصاعدًا، والطائفة من الفرقة بعضهما، وهو الواحد أو الاثنان، فيثقفه الواحد، ويحذر قومه بالإنذار، ويلزمهم ذلك وهذا لا يكون إلا لأن خبر الواحد حجة. وإذا كان المتقدمون قد اختلفوا في تفسير الطائفة، فقال بعضهم: تطلق على الواحد، وقال بعضهم: تطلق على الاثنين، وقال آخرون: تطلق على العشرة -فإن أحدًا لم يقل إنها تطلق على ما يزيد على العشرة، ومعلوم أن خبر العشرة وإنذارهم يحتمل الكذب، "فعرفنا أنه لا يشترط لوجوب العمل كون المخبر بحيث لا يبقى في خبره تهمة الكذب"، وهو ما يحتج به منكرو خبر الآحاد. ولا يقال: هذا خطاب لجميع الطوائف بالإنذار، وهم يبلغون حد التواتر، فيكون خبرهم مستفيضًا مشتهرًا -لا يقال هذا؛ لأن الجمع المضاف إلى جماعة- كما قلنا: يتناول كل واحد منهم. وفي قوله تعالى: {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم} ؛ ما يدل على أن ذلك يتحقق بالواحد؛ لأن الرجوع إنما يتحقق لمن كان خارجًا عن القوم، ثم صار قادمًا عليهم وإتيان جميع الطوائف إلى قوم لا يكون رجوعًا إليهم. على أن هذا لو كان شرطًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وكلفهم أن يفعلوه ولو فعلوه لاشتهر، ولكن لم ينقل من الآثار ما يدل على ذلك. وأيضًا فلو سلمنا بما تقولون فالذين يتحقق بهم الإنذار على الطوائف كلها لا ينقطع توهم الكذب على خبرهم؛ لاحتمال التواطؤ فيما بينهم، فكان الاستدلال قائمًا. وقد يقال: إن إنذار الطائفة ليس معناه إلزام المبلغين بالقبول؛ بل المقصود أن يشتهر ذلك، وعند الاشتهار تنتفي تهمة الكذب، فتصير حجة عندئذ، وذلك بمنزلة الشاهد الواحد، فإنه مأمور بالشهادة وإن

كان العمل بشهادته لا يجب ما لم ينضم إليه شاهد آخر، وتظهر عدالته بالتزكية. ويرد السرخسي على هذا الاعتراض بأن الشاهد الواحد ليس عليه أداء الشهادة إذا كان وحده -كما يدعي هؤلاء- لأن شهادته لا تنفع المدعي فلو لم يكن خبر الواحد حجة وواجب العمل به هنا لما وجب الإنذار بما سمع، وهذا بخلاف الشاهد إذا كان وحده. وإذا ثبت بالنص أنه مأمور بالإنذار، فإنه يجب القبول منه؛ لأنه في هذا بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مأمورًا بالإنذار، وكان قوله ملزمًا للسامعين، وقد بين الله عز وجل في النص حكم القبول والعمل به في قوله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي: لكي يحذروا عن الرد والامتناع عن العمل بعد لزوم الحجة إياهم بخبر الواحد1. 2- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسالة بلا خلاف، وهو صلى الله عليه وسلم، لم يأت كل واحد بنفسه فشافهه، ولكنه بلغ قومًا بنفسه وآخرين برسول من رسله وآخرين بكتاب من كتبه ... فلو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان مبلغًا رسالة ربه بهذا الطريق إلى الناس كافة، وعندما فتحت بلدان نائية في عهده صلى الله عليه وسلم، أرسل إلى كل بلد عاملًا عن عماله، ولو لم يكن خبر الواحد حجة في أمور الدين لما اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العامل أو ذاك. وكذلك النساء في البيوت على عهده، صلى الله عليه وسلم، إنما كانت تبلغهن أمور الدعوة، وهن مخدرات في بيوتهن بإخبار أزواجهن الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبلغونهن ويعلمونهن ولو لم يكن خبر الواحد حجة لأمرهن الرسول، صلوات الله وسلامه عليه

_ 1 أصول السرخسي: 1/ 322 - 324. 2 سبأ: 28.

بالذهاب دائمًا إليه والسماع منه، ولكن ذلك لم يحدث؛ لأنه لو حدث لاشتهر1. 3- ونحن نعلم أنه عليه السلام كان مأمورًا بأكل الطيب من الطعام قال عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} 2. وربما كان يُهدى إليه، فقد روي أن سلمان، رضي الله عنه أهدى إليه طبقًا من رطب كما وأن بربرة رضي الله عنها كانت تهدي إليه عليه الصلاة والسلام ... كما كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى طعام ... وفي هذا دليل على حجية خبر الواحد؛ لأنه لو لم يكن خبر الواحد حجة للعمل به في حق الله تعالى ما اعتمد عليه فيما يأكله صلى الله عليه وسلم. 4- وقد أمر الله القاضي أن يقضي بالشهادة، ومعلوم أن احتمال الكذب يبقى بعد شهادة شاهدين.. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادات والأيمان مع احتمال هذا الكذب، وأعلن عنه حين قال، صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أقضي بما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فكأنما أقطع له قطعة من النار" 3 ... هذا مع أنه كان ممكنًا له أن ينتظر الوحي، فيقضي باليقين ويزيل هذا الاحتمال. ولو ان شرط وجوب العمل باللخبر انتفاء تهمة الكذب عن كل وجه ما وجب على القاضي الحكم بالشهادة مع بقاء هذا الاحتمال؛ إذ النتيجة تكاد تكون واحدة4. 5- وقد سمى الله عز وجل خبر الواحد علمًا، قال تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} 5، وإنما قالوا ذلك سماعًا من مخبر أخبرهم به، وقال جل

_ 1 أصول السرخسي 1/ 324، 325. 2 المؤمنون: 51. 3 رواه الشيخان. انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: محمد فؤاد عبد الباقي - عيسى البابي الحلبي 2/ 192 - 193. 4 أصول السرخسي 1/ 326. 5 يوسف: 81.

ذكره: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 1، وإنما قال ذلك باعتبار غالب الرأي، واعتماد نوع من الظاهر، ففي هاتين الآيتين الكريمتين دليل على أن خبر الواحد علم لا ظن، والظن إنما هو خبر الفاسق، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالتوقف في خبره، حتى لا يصاب قوم بجهالة ... ومن اعتمد خبر العدل في العمل بهذا العلم الذي ليس ظنًّا يكون مصيبًا؛ لأنه عمل بعلم لا بجهالة2. 6- إن الذين لا يجوزون العمل بخبر الواحد يفزعون إلى القياس، مع أن الاحتمال من حيث الخطأ أقوى منه في خبر الواحد؛ لأن الأخير لا شبهة فيه، والشبهة إنما تكون في طريق الاتصال به، وفي القياس الشبهة والاحتمال في المعنى المعمول به، والطريق فيهما غالب الرأي، فكان العمل بالقياس دليلًا على جواز العمل بخبر الواحد بالطريق الأولى، ولا يستقيم عقلًا ترك العمل بما هو أقوى، والعمل بما هو دونه. 7- إن حاجتنا إلى معرفة أحكام الدين وحقوق الله علينا لنعمل بها مثل حاجة من كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين كانوا يسمعون منه، ومعلوم أنه بعد طول الزمن بيننا وبين رسولنا الكريم لا يوجد خبر تواتر في كل حكم من أحكام الشرع، فوجب أن يجعل خبر الواحد حجة للعمل به؛ لتحقق الحاجة إليه على هذا النحو. 8- وإذا كان من حجة الدين لا يجوزون العمل بخبر الواحد أننا لو قبلنا خبره وهو غير معصوم عن الكذب لازدادت درجته على الرسول المعصوم الذي يتنزل عليه الوحي؛ لأن خبر الرسول يكون واجب القبول لاقتران المعجزات به، أما خبر الواحد فيقبل على النحو الذي تقولون به من غير دليل ... - فيرد السرخسي بأن هذا غلط بيّن؛ لأن الرسول في حاجة إلى

_ 1 الممتحنة: 10. 2 أصول السرخسي 1/ 326، 327.

المعجزات لثبوت علم اليقين بنبوته، ولم نقل: إن علم اليقين يثبت بخبر الواحد. كما يفيد خبر الرسول بالمعجزات في بادئ أمره1. 9- إن2 الإجماع قد انعقد من الأمة على قبول خبر الواحد في المعاملات؛ فإن العقود كلها بنيت على أخبار الآحاد، مع أنه قد يترتب على قبول خبر الواحد في المعاملات ما هو حق الله تعالى، كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته، والإخبار بأن هذا الشيء أهدى إليك فلان، وأن فلانًا وكلني ببيع هذه الجارية أو بيع هذا الشيء، كما أجمعت على قبول من لا يقع العلم بقوله مع أنها قد تكون في إباحة دم، وإقامة حد واستباحة فرج، وأجمعت على قبول قول المفتي للمستفتي مع أن فتواه هذه مبنية على ما بلغه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بطريق الآحاد، فإذا جاز القبول فيما ذكرنا من أمور الدين والدنيا جاز في سائر المواضع، ومنها أخبار الآحاد عن الرسول صلى الله عليه وسلم3. 183- ثم انتقل السرخسي إلى الرد على من يقول بأن خبر الواحد يوجب العلم، كالخبر المتواتر، وقد حكاه ابن الصباغ عن قوم من أهل الحديث، وعزاه أبو الوليد الباجي "245 هـ"، إلى الإمام أحمد، وابن خويز منداد إلى مالك، وإن نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه4. 184- وحجة القائلين بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: "ثم أعلمهم أن الله تعالتى فرض عليهم صدقة في أموالهم"، ومراده الإعلام بالإخبار. وإذا لم يكن خبر الواحد موجبًا للعلم عند السامع ما عبر عنه صلى الله عليه وسلم بالإعلام.

_ 1 أصول السرخسي 1/ 327، 328. 2 هذا الدليل من أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار. 3 أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار 2/ 695، 696. 4 تدريب الراوي 2/ 75.

185- وأيضًا فإن العمل بخبر الواحد واجب، ولا يجب العمل إلا بالعلم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1 ... ولأن الله عز وجل قال في نبأ الفاسق: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} 2، وضد الجهالة العلم، وضد الفسق العدالة، ففي هذا دلالة على أن العلم لا يقع بخبر الفاسق، وأنه يثبت بخبر العدل. 186- وقد يثبت بالآحاد من الأخبار العلم فقط مثل عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة -مما يبين أن خبر الواحد يوجب العلم3. 187- رد على هؤلاء فقال: إن القائلين بهذا خلطوا بين أمرين: بين سكون النفس وطمأنينة القلب وبين علم اليقين، والذي يحدث في خبر الواحد إنما هو طمأنينة القلب لا علم اليقين؛ لأنه ما دامت هناك شبهة الكذب واحتماله؛ فلا يوجد اليقين، وطمأنينة القلب هذه نوع من العلم من حيث الظاهر، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ: "فأعلمهم"، ويجوز العمل بهذا، كما يجوز العمل بمثله في تحري القبلة عند الاشتباه ... وينتفي هذا العلم بالجهالة؛ لأنه في خبر العدل يترجح جانب الصدق بظهور عدالته، أما في خبر الفاسق فلا يترجح فيه جانب الصدق، والجهالة مثله. 188- وأما الآثار المروية في عذاب القبر فهي توجب عقد القلب عليها؛ أي: طمأنينتة وسكينته، والابتلاء بعقد القلب على الشيء بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم وسمى بعضهم هذا نوعًا من العمل، وعقد القلب هذا غير العلم قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} 4، وقال جل شأنه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} 5 "فهم تركوا عقد القلب على ثبوته بعد العلم به"، فهذا غير ذاك6.

_ 1 الإسراء: 36. 2 الحجرات: 6. 3 أصول السرخسي: 329. 4 البقرة: 146. 5 أصول السرخسي 1/ 329.

189- ويشير صاحب "كشف الأسرار" إلى أن معرفتنا عذاب القبر ومثله مما أثاروه بدلالات النصوص من كتاب الله عز وجل وإشاراتها لا بأخبار الآحاد1. 190- وهناك رأي قريب من هذا الرأي الذي سبقت مناقشته، وهو أن خبر الواحد موجب للعلم ضرورة عند اقترانه ببعض الأسباب، وهذا الرأي يحكى عن النظام من المعتزلة2، وهو يقول: إنه علم يحدثه الله تعالى في قلب السامع بمنزلة العلم للسامع بخبر التواتر؛ لأن التواتر ليس إلا مجموع الآحاد، ويجوز القول بأن الله سبحانه وتعالى يحدثه في قلب بعض السامعين دون بعض. وحجة هذا الرأي أن الواقع يشهد بذلك، ألا ترى أنه لو مر إنسان بباب، فرأى آثار غسل الميت، وسمع عجوزًا تخرج من الدار، وتقول: مات فلان، فإنه يعلم موته ضرورة بهذا الخبر. وهذا قول باطل -كما يقول السرخسي- لأن الثابت بالبضرورة لا يختلف الناس فيه، بمنزلة العلم الذي يحدث بالمعاينة والمشاهدة، وبمنزلة العلم الواقع بخبر التواتر، ولكننا نشاهد أن خبر الواحد يختلف فيه. 191- وعلى هذا الرأي يبطل كثير من أحكام الشرع، ولا يرجع إلى كثير من البينات، والأيمان عند تعارض الدعوى والإنكار، ولا المصير إلى اللعان وعند قذف الزوج زوجته، فإن القرائن من أبين الأسباب، وينبغي أن يكون خبر الزوج موجبًا للعلم ضرورة، فلا يجوز للقاضي أن يصير عند ذلك إلى اللعان، وفي سائر الخصومات ينبغي للقاضي أن ينتظر حتى يحصل له هذا العلم الضروري وبخبر الواحد فيعمل به3. 192- وأخيرًا ... هل يشترط للعمل بخبر الواحد عدد الشهادة ولا يكتفي براو واحد، كما لا يكتفي بشاهد واحد؟

_ 1 كشف الأسرار 2/ 697. 2 الإحكام للآمدي 2/ 22. 3 أصول السرخسي 1/ 230.

رأى ذلك بعض الناس، وحجتهم في ذلك أن الشرع قد اعتبر عددًا في الشهادة لثبوت العلم على وجه يجب العمل به، فعرفنا أن الأقل من هذا العدد لا يثبت علمًا على هذه الحال، ولهذا وجدنا أبا بكر رضي الله عنه حين شهد عنده المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، ورث الجدة السدس -قال: ائت بشاهد آخر، فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه.. وطلب عمر رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه أن يأتي بشاهد آخر عندما روى له خبر الاستئذان، فشهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ... ورفض عمر حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قائلًا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ... وروى أبو سنان الأشجعي رضي الله عنه خبرًا في مهر المثل، فقال علي كرم الله وجهه: ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبه. فاعتبر عدد الشهادة في كل هذا شرطًا في قبول خبر الواحد كما كانوا يعتبرون العدالة في كل. 193- ويرد على هؤلاء بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وهذا النعت لكل مؤمن، ولا يكون كذلك إلا إذا كان يجب العمل بما يأمر به من المعروف، فاشتراط العدد في الأمر والنهي يكون زيادة على ما في كتاب الله عز وجل ... ويقول السرخسي: إن كل ما رددنا به على المنكرين لحجية خبر الواحد هو رد أيضًا على هؤلاء، وهذا حق؛ لأننا أثبتنا أن خبر الواحد حجة بنقل راو واحد له. 194- أما الآثار التي ذكروها أدلة على ما يقولون فلا حجة لهم فيها، لأنهم لا يستطيعون أن يثبتوا أنها نقلت إليهم على شرطهم، وهو نقل الاثنين عن الاثنين إلى أن وصلت إليهم. ولا حجة لهم فيها أيضًا إذا سلمنا أنها كذلك، فقد طلب أبو بكر رضي الله عنه شاهدًا آخر من المغيرة، لا لأن ذلك مذهبه، بل لأنه شك في خبره لداع رآه، أو لأنه أخبر أن هذا القضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بمحضر من الجماعة، فأحب أن يتثبت لذلك ... وكذلك عمر طلب من أبي موسى الأشعري أن يأتي بشاهد آخر، لأنه أخبر بما تعم به البلوى، فكان بنبغي أن يعرفه العام

والخاص، فأحب أن يستوثق من ذلك، ولو لم يأت بشاهد آخر لقبل حديثه؛ لأنه قبل حديث راو واحد، في غير ذلك من الأخبار، قبل حديث الضحاك ابن سفيان رضي الله عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وقبل حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين رجع من الشام. وقبل حديثه أيضًا في أخذ الجزية من المجوس، ولم يطلب منه شاهدًا آخر. وإنما لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس، لأنه يخالف كتاب الله، في رأيه، فقد نص القرآن الكريم على سكنى المطلقة، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} على حين أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى. 195- ولم يقبل علي رضي الله عنه حديث أبي سنان لمذهب خاص اتخذه لنفسه من أجل توثيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان لا يقبل رواية الأعراب، وكان يحلف الراوي إذا روى له حديثًا إلا أبا بكر رضي الله عنه، فإنه كان لا يستحلفه، لثقته فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عمل علي بخبر الواحد، ومن هذا قبوله رواية المقداد في حكم المذي. وقد قبل ابن مسعود حديث أبي سنان، هذا الذي رفضه علي، وسر به؛ لأنه لم يكن له مذهب على الذي ذكرناه. 196- على أن باب الشهادات غير باب الأخبار، ولا يلتقان دائمًا، ففي الشهادات تقوم المرأتان مقام رجل واحد، وفي الأخبار الرجال والنساء سواء. واشتراط العدد في الشهادات توقيفي لمعنى يعلمه الله تعالى، واستأثر عز وجل بعلمه، والواجب علينا اتباع النص، وإلا فإن تهمة الكذب لا ترتفع بعدد الشهادة1. 197- وإذا كان المحدثون لا يرون بأسًا برواية الواحد، ولا يشترطون عدد الشهادة فإنهم قد يلتقون على نحو ما مع هؤلاء؛ لأنهم يكرهون الحديث

_ 1 أصول السرخسي 1/ 331ـ 332- كشف الأسرار 2/ 694.

الذي يرويه واحد عن إمام مشهور من أئمة الحديث، ويسمون هذا الحديث غريبًا، ويسمون راويه منكر الحديث1، يقول ابن حجر: إن ابن حنبل يطلق على من يغرب على أقرانه في الحديث، أي يأتي بالغرائب: إنه منكر الحديث ... وقال الإمام مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس ... وقال ابن المبارك: العلم الذي يجيئك من ههنا وههنا -يعني المشهور ... وروي عن الزهري قال: حدثت علي بن الحسين بحديث، فلما فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك، هكذا حدثنا، قلت: ما أراني إلا حدثتك بحديث أنت أعلم به مني!. قال: لا تقل ذلك، فليس من العلم ما لا يعرف، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن2 ... وحذر الإمام أبو يوسف من رواية هذا النوع من الحديث؛ لأنه منزلق للخطأ، فيقول: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس3. 198- وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يرى أن حديث اثنين أرجح من حديث واحد، وحديث خمسة أولى من حديث واحد4" ... كما تكون المتابعة من أسباب ترجيح حديث على حديث5 عنده. ومن أعجب الأمور عند الشافعي -إن صحت نسبة هذا إليه- أنه لا يعترف برواية الواحد من أهل العراق إلا إذا كان هناك لروايته أصل في مكة أو المدينة، يقول فيما يرويه ابن أبي حاتم بسنده: "والله لو صح الإسناد من حديث العراق، غاية ما يكون الصحة، ثم لم أجد له أصلًا عندنا "يعني بالمدينة ومكة" على أي وجه كان: لم أكن أعني بذلك الحديث على أي صحة كان"6.

_ 1 تدريب الراوي 1/ 347. 2 المصدر السابق 2/ 182. 3 الكفاية الطبعة المصرية: ص225. 4 الرسالة ص180، 281 - اختلاف الحديث 212، 230، 234. 5 العلل لابن المديني: ص89، 90، 97. 6 آداب الشافعي: ص200.

199- ويبدو أنه رجع عن هذا القول -إن صح عنه- لأن ابن أبي حاتم يروي بسنده عنه أيضًا قوله للإمام أحمد بن حنبل: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحًا، فأعلموني، كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا1.

_ 1 المصدر السابق: ص94 - 95.

حجية المشهور عند الحنفية

حجية المشهور عند الحنفية: بقي أن نبين مدى حجية جزء من أجزاء أخبار الآحاد عند غير الحنفية، وقسم مستقل عندهم، والذي يسمونه "المشهور". وقد سبق أن قدمنا مفهومه عندهم. 200- ويهمنا هنا أن نعرض لرأي عيسى بن أبان الحنفي، والذي عاش جزءًا من القرن الثاني الهجري "220هـ" ... يقول: "إن حجية الخبر المشهور لا تصل إلى ما وصلت إليه حجية المتواتر، لأن العلم الثابت بالتواتر ضروري ويوجب علم اليقين، وبالتالي يكفر جاحده، وليس كذلك المشهور فإن جاحده لا يكفر بالاتفاق، والثابت به إنما هو علم طمأنينة القلب لا علم اليقين؛ لأنه وإن تواتر نقله من الجيل الثاني والثالث؛ التابعين وتابعيهم، فقد بقيت فيه شبهة توهم الكذب عادة باعتبار الأصل الآحادي. 201- ومع أنه يفيد طمأنينة القلب فقط ولا يفيد علم اليقين فإنه تجوز به الزيادة على النص؛ لأن العلماء عند ما تلقوه بالقبول والعمل به كان ذلك دليلًا موجبًا؛ لأن الإجماع من القرن الثاني والثالث دليل موجب شرعًا، فلهذا جازت الزيادة به على النص. ولهذا قيد إطلاق الكتاب الكريم غسل الرجلين في الوضوء بعدم لبس الخفين لحديث المغيرة المشهور الذي سبق أن ذكرناه ... وخصص حديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} 1. وخصص عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 2، الآية الكريمة، بحكم الرجم للمحصن في قوله

_ 1 النساء: 24. 2 النور: 2.

صلى الله عليه وسلم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" وبرجم ماعز وغيره ... وقيد الإطلاق في قوله تعالى في كفارة اليمين: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} 1، بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه المشهورة: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". هذا وإن كان الأحناف يطلقون على هذه الزيادات النسخ؛ لأن شرط التخصيص والتقييد عندهم "أن لا يكون المخصص مثل المخصوص منه في القوة، وأن يكون متصلًا لا متراخيًا، ولم يوجد الشرطان جميعًا"2. 202- وذكر عيسى بن أبان أن المشهور ينقسم إلى ثلاثة أقسم: 1- قسم يضلل جاحده ولا يكفر، وذلك نحو خبر الرجم الذي اتفق عليه العلماء في الصدر الأول والثاني، وإنما خالف فيه الخوارج، وخلافهم لا يكون قادحًا في الإجماع. 2- وقسم لا يضلل جاحده، ولكن يخطأ، ويخشى عليه من المأثم، وذلك نحو خبر المسح على الخفين، وذلك لأن العلماء اختلفوا فيه في الصدر الأول؛ فإن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقولان: سلوا هؤلاء الذين يرون المسح هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة المائدة؟ والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة المائدة، وإن كان قد نقل عنهما رجوعهما عن ذلك، وكذلك خبر الصرف، فقد روي عن ابن عباس أنه كان يجوز التفاضل، مستدلًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة". وقد نقل رجوعه عن ذلك، فلشبهة الاختلاف هذه اختلف عن القسم الأول في أنه لا يضلل جاحده ... ولكن باعتبار رجوعهم يثبت الإجماع، وقد ثبت الإجماع على قبوله في الصدر الأول والثاني ولهذا يخشى على جاحده المأثم. 3- وقسم لا يخشى على جاحده المأثم، ولكن يخطأ في ذلك، وهو الأخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الأحكام؛ لأنه عندما يعمل به إنما يعمل به عن اجتهاد، والمجتهد لا يأثم حتى ولو أخطأ، وكذلك لو جحده3.

_ 1 المائدة: 89. 2 كشف الأسرار 2/ 689. 3 كشف الأسرار 2/ 689 - 690 - أصول السرخسي 1/ 292 - 294.

203- وبعد أن تعرفنا على حجية السنة ووجوب العمل بها على النحو الذي رأيناه -فإن هناك شروطًا لهذا الوجوب وتلك الحجية ... ولعلنا قد لمسنا إشارة عابرة لبعضها من الإمام الشافعي عندما كان ينبه إلى صدق ناقلها وعدالته، والحقيقة أن توثيق الراوي من أهم الشروط في توثيق السنة وقبولها حيث إننا بهذا نطمئن إلى أن ما يرويه لنا قد صدر فعلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما سنفصله فيما يلي.

الفصل الثاني: توثيق الراوي

الفصل الثاني: توثيق الراوي مدخل ... الفصل الثاني: توثيق الراوي 204- يرى علماء الحديث والفقه أنه يجب أن تتوافر في راوي الحديث شروط من شأنها أن تصون حديثه من أن يغير فيه أو يبدل أو يدعى ما ليس منه. 205- وهناك نوعان من هذه الشروط: نوع يلازم الراوي، ويتصف به، ويقوم به أساسًا قبل الرواية، وبصرف النظر عنها، ولكنه ينعكس عليها ويؤثر فيها ... ونوع آخر ليس صفة أساسية في الراوي وقد يصاحب الرواية وقد لا يصاحبها ونعنى الآن بالنوع الأول، لأن أئمة الحديث تكلموا فيه كنوع قائم بذاته، وكشروط أساسية لقبول الرواية أو رفضها، وأما النوع الآخر فلا يبحثون عنه كثيرًا وإنما يجيء بحثهم له عرضًا، ومن خلال بحثهم لبعض أحاديث الراوي ومن هذا مثلًا فقه الراوي، فهذا الشرط لا يبحثون عنه إلا عندما يجدون أنهم أمام روايتين متعارضتين، وراوي إحداهما فقيه وراوي الأخرى غير فقيه، فقد يأخذون في الاعتبار هذه الصفة، ويرجحون بها إحدى الروايتين على الأخرى ... ولكنه بغض النظر عن هذا يكون راوي الحديث غير الفقيه مقبول الرواية؛ لأنه تتوافر فيه الشروط الأساسية التي هي من النوع الأول، ولهذا نؤثر أن نؤجل مثل هذا الشرط ونبحثه من خلال بحث علماء الحديث أو الفقه له. 206- وينحصر النوع الأول في أربعة شروط: الإسلام والعقل والعدالة والضبط ... 207- وقد يرى البعض أنه من الواجب أن يتوافر في الراوي شرطان فقط، وهما: العدالة والضبط ويدخل تحتهما الشرطان الآخران، وهما: الإسلام والعقل، الأول يدخل تحت العدالة والثاني تحت الضبط؛ لأن الضبط بدون العقل لا يتصور؛ وكذلك العدالة بدون الإسلام؛ لأن تفسيرها الاستقامة في الدين.

208- ولكن هناك، في الحقيقة، مغايرة بين العقل والضبط وبين الإسلام والعدالة من حيث إن العقل لا يستلزم الضبط والعكس، فقد يكون للصبي ضبط كامل مع أنه لا يكلف بأعمال الشرع؛ لأن عقله لما يكتمل بعد، فاشترط الضبط وحده لا يحصل الاحتراز به عن رواية الصبي، وهي غير صحيحة ... والإسلام لا يستلزم العدالة والعكس، فالكافر قد يوصف بالعدالة لاستقامته على معتقده، ويسمى معتقده دينًا، وإن كان باطلًا، ولهذا يسأل القاضي عن عدالة الكافر إذا شهد على كافر آخر عند طعن الخصم، فيكون الاقتصار على اشتراط العدالة لا يحصل به الاحتراز عن رواية الكافر، وهير غير صحيحة أيضًا ... إذن فلا بد من ذكر هذه الشروط الأربعة، وعدم الاكتفاء باثنين منها وإن كانا لا يتصوران حقيقة بدون الآخرين1.

_ 1 كشف الأسرار 2/ 713.

الإسلام

1- الإسلام: 209- يشترط لقبول حديث الراوي أن يكون مسلماً، لأنه ينقل أخبارًا تثبت أحكام الشرع، والكفار يعادون المسلمين في الدين، وقد تحملهم المعاداة هذه على السعي في هدم أركانه بإدخال ما ليس منه فيه ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله عز وجل: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} 1، أي لا يقصرون في الإفساد عليكم، وقد ظهر منهم هذا بطريق الكتمان، فإنهم كتموا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ذكر في كتبهم، فهذا بمنزلة شهادة الأب لوالده، فنها لا تقبل لمعنى زائد يمكن تهمة الكذب في شهادته، وهو الشفقة والميل إلى الولد. 210- وإذا كانت الرواية فيها نوع من الولاية كالشهادة، فإن الله عز ذكره قد نفى أن تكون هناك ولاية للكافرين على المؤمنين، قال تعالى:

_ 1 آل عمران: 118.

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 1. 211- وعند محمد بن الحسن رحمه الله يجوز أن يعمل بخبر الكافر إذا كان الاحتياط في العمل به، ورواية الكافر الحديث في هذا مثل إخباره بنجاسة الماء، فإنه لا يعمل المخبر عنه بخبره، وإن وقع في قبله صقده، بل يتوضأ بذلك الماء، ولكنه إن أراق الماء احتياطًا، إذا وقع في قلبه صدقة، ثم تيمم جازت صلاته، وإن تيمم من غير إراقة وصلى لا تجوز صلاته؛ لأن الماء أمامه، وهو طاهر ... وينبغي أن يكون شأن الكافر في رواية الحديث كشأنه في الإخبار عن نجاسة الماء -في رأي محمد- فلا يقبل خبره في الدين ولا يكون حجة كما لم يقبل في نجاسة الماء إلا أن الاحتياط لو كان في العمل يستحب الأخذ به كما استحبت الإراقة، ثم التيمم هناك2. 212- ويدخل في الرواة الكفار من كفر ببدعته من المجسمة ومنكري علم الجزئيات وغلاة الروافض الذين ادعى بعضهم حلول الإلهية في علي أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة ... وقيل: إن الشافعي نص على كفر القائل بخلق القرآن، وقد أول البيهقي هذا على أنه كفران نعمة، فيدخل خبره عندئذ في خبر الفاسق، ولكن البلقيني رد هذا التأويل بدليل أن الشافعي أفتى بضرب عنق حفص3 الفرد مما يدل على أن بدعته هذه كفرته. وقال النووي: إن رد رواية هؤلاء متفق عليها، ولكن تعقبه السيوطي بأن هناك من تقبل روايتهم4. وهذا هو الحق؛ لأنهم تأولوا فلا ينبغي أن نعتبرهم من الكفار، وربما حكمنا بفسقهم بسبب شططهم في تأويلهم، ومن هنا يكون السؤال: هل هم عدول أو لا؟ وعلى هذا فمحل بحثهم العدالة. إن شاء الله تعالى.

_ 1 النساء: 141. 2 كشف الأسرار 3/ 743، 744. 3 هو أبو عمرو المصري البصري من أكابر المجبرة "له ترجمة في لسان الميزان 2/ 230". وذكر الخطيب البغدادي أن هناك طائفة من أهل النقل والمتكلمين ذهبوا إلى قبول أخبار أهل الأهواء كلها وإن كانوا كفارًا وفساقًا بالتأويل "الكفاية ص195 الطبعة المصرية". 4 تدريب الراوي 1/ 324 - 325.

العقل

2- العقل: 213- ومعناه أن يكون الراوي وقت الأداء بالغًا مكلفًا بالتكاليف الشرعية، وقد رأى العلماء هذا الشرط؛ لأن الصغير لا يدرك مغبة الكذب وعقوبته، فيخشى أن يكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان بالغًا مكلفًا، فإنه ينزجر عن الكذب الذي ينهاه الشرع عن الوقوع فيه، فلا يكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 214- وإذا كان الشرع لم يجعل الصبي وليًّا في أمر دنياه، ففي أمر الدين أولى، كالتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ينتج عنه أن يسمعه بعض المسلمين، فيحلون به الحلال، ويحرمون به الحرام1. 215- وممن نص على أنه لا تقوم الحجة إلا بخبر العاقل -في القرن الثاني الهجري- الإمام الشافعي رضي الله عنه2. 216- وقال محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الاستحسان بعد ذكر العدل والفاسق والكافر: "وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان" وكانت هذه العبارة محتملة لتفسيرات ثلاثة: التفسير الأول: أن الصبي والمعتوه مثل العدل المسلم البالغ في قبول الرواية ما دام عندهما العقل، وأصحاب هذا التفسير يؤسسونه على أن العطف هنا على العدل لا على الكافر، بدليل أنه قيده بقوله: "إذا عقلا ما يقولان" ولو كان عطفًا على الكافر لم يكن لهذا القيد فائدة، لأنهما إذا لم يعقلا ما يقولان لم يقبل خبرهما أيضًا، وقد سقط اعتبار البلوغ هنا، في الأخبار كما سقط اعتبار الحرية والذكورة فيها بخلاف الشهادة في جميعها.

_ 1 نشأة علوم الحديث ومصطلحه ص67. 2 الرسالة ص370.

التفسير الثاني: أنهما مثل الفاسق في وجوب التوقف والتحري في خبره، فالعطف هنا على الفاسق. التفسير الثالث: وهو المختار عند مؤلفي الحنفية -أن خبرهما مثل خبر الكافر؛ لأن العطف على أقرب المذكور، والكافر هو الأقرب، فلا يجعل عطفًا على الأبعد من غير ضرورة، وكان هذا التفسير هو المختار؛ لأن خبرهما لو كان حجة لأثبتنا لهما ولاية متعدية، والولاية المتعدية فرع عن الولاية القائمة ... ؛ أي: ثبوت الولاية على الغير فرع لثبوتها على النفس، إذ الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه، ثم تتعدى إلى غيره عند وجود شرط التعدي؛ لأن الولاية قدرة، ومن لا يقدر في نفسه لا يقدر على غيره وليس للصبي والمعتوه ولاية ملزمة على أنفسهما بالإجماع، وإنما هي مجوزة، يعني تصرفهما جائز الثبوت، فلو انضم إليه رأي الولي يصير ملزمًا، ولوكان ملزمًا ابتداء لم يحتج إلى انضمام رأيه إليه، فلو قبلنا خبرهما ملزمًا، ولو كان ملزمًا ابتداء لم يحتج إلى انضمام رأيه إليه، فلو قبلنا خبرهما صارت ولايتهما متعدية إلى الغير ملزمة عليه؛ لأنه إذا وضع خبرهما موضع الحجة وجب على المروي له العمل به، وهو في هذا مثل الكافر، فإنه لما لم يلزمه موبج ما أخبر به لكونه غير مخاطب بالشرائع كان خبره ليس ملزمًا على الغير ابتداء، فالكافر ليس من أهل الإلزام، فكذا الصبي. 217- حقيقة إن الصحابة رضوان الله عليهم تحملوا الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغرهم، ولكنهم نقلوها بعدما كبروا، ولو كانت ولاية الصغير حجة لنقلوها في صغرهم أيضًا. وقد يقال: إن أهل قباء تحولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة بخبر صغير مما يدل على أن رواية الصغير جائزة وملزمة. والجواب عن ذلك أن الذي أتاهم هو أنس رضي الله عنه، وإذا كان عبد الله بن عمر قد أتاهم وأخبرهم، وهو صغير فإنهم اعتمدوا على رواية

البالغ وهو أنس، على أنه يحتمل أن يكون ابن عمر بالغًا في ذلك الحين، فقد كانت سنه أربع عشرة سنة، وابن هذه السن يجوز أن يكون بالغًا وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رده في هذا الوقت عن القتال لضعف بنيته يومئذ لا لأنه كان صغيرًا1. 218- وإذا كان من الجائز العمل بخبر الكافر إذا كان الاحتياط في العمل به -عند محمد بن الحسن- مع كفره واتهامه بعداوة المسلمين، فإنه -من باب أولى- يجوز العمل في الاحتياط بخبر الصبي المسلم2. 219- وذا كانت رواية الصغير لا تصح ولا تقوم بها الحجة، فرواية المجنون كذلك من باب أولى؛ لأن الصغير عنده قدر من التمييز لا يوجد عند المجنون.

_ 1 كشف الأسرار 3/ 742، 744. 2 المصدر السابق.

العدالة

3- العدالة: 220- وهي صفة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة، من فسق وبدعة، والمراد بالمروءة احتراز الإنسان عما يذم به عرفًا1، والعدل هو الذي يطيع الله سبحانه وتعالى فيتبع أوامره، ويجتنب نواهيه، وهو الذي لا يعصي الله سبحانه وتعالى ولا يرتكب الكبائر وبعض الصغائر. وقد سئل ابن المبارك عن العدل فقال: "من كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب "يعني المسكر"، ولا تكون في دينه خزية، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء"2 ... وقد عبر الإمام الشافعي عن الراوي العدل بقوله، في بيان ما تقوم الحجة بخبره: أن يكون "ثقة في دينه معروفًا

_ 1 توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني "ت 1182" تحقيق محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الأولى 1366هـ - مكتبة الخانجي 2/ 118 - شرح نخبة الفكر ص8. 2 الكفاية: ص137 الطبعة المصرية.

بالصدق في حديثه ... بريئًا من أن يكون مدلسًا، يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه1". 221- وليس المقصود من العدل أن يكون بريئًا من كل ذنب، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين, والتحري في فعل الطاعات يقول سعيد بن المسيب: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه؛ من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ... ". ويقول الإمام الشافعي في هذا المعنى أيضًا: "لا أعلم أحدًا أعطي طاعة الله، حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام ... ولا عصى الله، فلم يخلط بطاعة، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية، فهو المجرح"2 ... ويعبر أبو يوسف عن هذا الاتجاه حين يقول: "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل"3. 222- هذا هو مذهب أكثر العلماء، ولكن يروى عن أبي حنيفة وأهل العراق أن العدالة هي إظهار الإسلام، والسلامة من فسق ظاهر فمتى كانت هذه حال المرء وجب أن يكون عدلًا4 ... وهذه حالة مجهول الحال عند الإمام الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، فلا بد من معرفة سيرته، وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته له، وتعديله له5. 223- ومعرفة العدالة في الراوي تكون على مستويين: 1- مستوى يتساوى في معرفته الخاصة والعامة، وهو الصحة في البيع والشراء والأمانة ورد الودائع وإقامة الفرائض وتجنب المآثم، لهذا ونحوه

_ 1 الرسالة: ص370، 371. 2 الكفاية الطبعة المصرية ص138. 3 نشأة علوم الحديث ص158 نقلًا عن اختلاف الفقهاء لأبي جعفر الطحاوي 2/ 36ب. 4 الكفاية هـ، ص87 وانظر مناقشة الخطيب لهذا الرأي من ص81 - 84. 5 نشأة علوم الحديث ومراجعه ص158.

يشترك الناس في علمه ... وربما تشدد بعض الأئمة في توافر هذا الجانب من العدالة في الراوي، فاعتبروا الركض على البرذون، وسماع القراء بالتطريب1، مما يذهب العدالة، ويوجب ترك حديث الراوي، يقول أبو العالية: "كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه2"، ويقول الحسن بن صالح: كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه، حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوه3؟! واشتهر شعبة بن الحجاج "160هـ" بهذا المذهب، قيل له: لم تركت حديث فلان؟. قال: رأيته يكرض على برذون، فتركت حديثه، وقال: أتيت منزل المنهال بن عمرو، فسمعت صوت الطنبور، فرجعت. فقيل له: إنكارًا لهذا التشدد: فهلا سألت عنه إذ لا يعلم هو؟!. وممن غالى في هذا الحكم ابن عتيبة، قال له شعبة: لِمَ ترو عن زاذان؟. قال: كان كثير الكلام4. وربما تساهل بعضهم، مثل الإمام عبد الله بن المبارك الذي كان لا يترك حديث الرجل حتى يبلغه الشيء الذي لا يستطيع أن يدفعه5، وفي رواية عنه تبين لنا ما هو هذا الشيء الذي لا يستطيع أن يدفعه، وهو أن يتهم الرجل بالكذب أو يكثر منه الغلط، ويغلب عليه6. 2- ومتسوى آخر، وهو الأهم؛ لأنه يتصل برواية السنة مباشرة ولهذا لا يعرفه إلاعلماء الحديث والفقه وأئمتهم، وهو ملاحظة روايته، وهل هو يكذب فيها أو يصدق، وهل يوافق العدول الآخرين أو يخالفهم أو يتحرز في روايته أو لا، وغير ذلك مما لا يجوز الرجوع فيه إلى قول العامة، "بل التعويل فيه على مذاهب نقاد الحديث وملاحظاتهم ومعرفتهم،

_ 1 الجرح والتعديل جـ4 قسم1 رقم 3062. 2 المحدث الفاصل: النسخة المخطوطة بكلية دار العلوم "قسم من رسالة" ص236. 3 الكفاية الطبعة المصرية ص155. 4 تدريب الراوي 1/ 306. 5 تقدمه المعرفة ص270، 274. 6 الكفاية: الطبعة المصرية ص227.

فمن عدلوه، وذكروا أنه يعتمد على ما يرويه جاز حديثه، ومن قالوا فيه خلاف ذلك وجب التوقف في روايته1. 224- ومن المعرفات لهذا المستوى حكم الحاكم وعمل المجتهد برواية الراوي، وسكوت السلف عند اشتهار روايته؛ إذ لا يسكتون على منكر، فإن قبله بعض ورده بعض، فالكثير على رد روايته، ويقبلها الحنفية؛ لأن العمل عندهم توثيق، أما الرد فهو ترك، والترك ليس بجرح، ومثلوا لهذا بحديث معقل بن سنان "أنه عليه السلام قضى لبروع الأشجعية حين مات عنها زوجها قبل التسمية بمهر المثل"، فقد قبله ابن مسعود، ورده علي قائلًا: "ما نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه -حسبها الميراث لا مهر لها"2. 225- وقد وجبت العدالة شرطًا لقبول حديث الراوي؛ لأنه غير معصوم عن الكذب، وخبره يحتمل الصدق وغيره، والعدالة هي التي تجعل خبر الراوي يميل إلى جانب الصدق، وإذا كان الراوي عدلًا فإنه يكون منزجرًا عن الكذب في أمور الدنيا، وذلك دليل على انزجاره عن الكذب في أمور الدين بالطريق الأولى. 226- أما إذا لم يكن عدلًا فإن جانب الكذب يرجح في خبره؛ لأنه إذا لم يكن غير مبال بارتكاب سائر المحظورات مع اعتقاده حرمتها، فالظاهر أنه لا يبالي من الكذب مع اعتقاده حرمته، ولا نطمئن إلى أنه صدق فيما يرويه3. 227- وعدالة الراوي هنا تفترق عن عدالته في الشهادة؛ فالعدل يكون جائز الشهادة في أمور مردودها في أمور تجوز فيها روايته، وذلك لأن الدوافع النفسية هنا وهناك قد تكون مختلفة فينشأ عنها الاختلاف في

_ 1 الكفاية. الطبعة المصرية ص156. 2 مسلم الثبوت: محب الله بن عدب الشكور البهاري الهندي المطبعة الحسنية بالقاهرة 2/ 112. 3 أصول السرخسي 1/ 346.

القبول والرد ويتطلب الأمر الاطمئنان إلى رسوخ العدالة في الشهادة ما لا يتطلب في عدالة راوي الحديث، فدواعي الصدق والأمانة أقوى هنا منها في الشهادة، ولهذا اهتم الإمام الشافعي ببيان الفروق بينهما من هذه الناحية: يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: إن أهل العلم قد اتفقوا على أن ترد شهادة العدل، إذا شهد في موضع يجربه إلى نفسه أو إلى ولده أو والده زيادة من أي وجه أو يدفع بها عن نفسه أو عنهما غرمًا، ومثل هذا من المواضع التي لا يطمأن فيها إلى عدالته. والشاهد قد يشهد على واحد، ليلزمه غرمًا أو عقوبة، وللرجل ليؤخذ له غرم أو عقوبة، وهو غير ملزم بما لزم غيره من غرم، غير داخل في غرمه ولا عقوبته، ولعله قد يجر بشهادته ذلك إلى من لعله أن يكون أشد تحاملًا له منه لولده أو والده، ولكن تقبل شهادته؛ لأنه لا ظنة ظاهرة كظنته في نفسه وولده ووالده، وغير ذلك مما يبين فيه من مواضع الظنن. والمحدث خلاف ذلك، فعندما يروي ما يحل أو يحرم "لا يجر إلى نفسه، ولا إلى غيره، ولا يدفع عنها ولا عن غيره، شيئًا مما يتمول الناس، ولا مما فيه عقوبة عليهم ولا لهم" ... وهو ومن حدثه ذلك الحديث من المسلمين سواء، إن كان يروي ما يحل أو يحرم، فهو شريك المسلمين فيه لا تختلف حالاته كما تختلف في الشاهد "فيكون ظنينًا مرة مردود الخبر، وغير ظنين أخرى مقبول الخبر"1. 228- ثم بين الإمام الشافعي كيف أن التقوى تحمل الناس على الصدق في أخبارهم، فيقول: إن هناك للناس حالات تكون أخبارهم فيها أصح وأحرى أن يحضرها التقوى من الحالات الأخرى، وتلك عند خوف الموت بالمرض أو في السفر ... في هذه الحالات تكون النيات فيها سليمة، والفكر

_ 1 الرسالة ص390 - 392.

فيها أدوم، والغفلة فيها أقل، وهذا موجود في العامة، حتى عند أهل الكذب: "فإذا كان موجودًا في العامة وفي أهل الكذب الحالات يصدقون فيها الصدق الذي تطيب به نفس المحدثين -كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولي الأمور بهم أن يتحفظوا عندها"، فهم وضعوا موضع الأمانة، ونصبوا أعلامًا للدين وكانوا عالمين بما ألزمهم الله من الصدق في كل أمر، وهم يعلمون أن الحديث في الحلال والحرام أعلى الأمور، وأبعدها من أن يكون فيه موضع ظنة أو تهمة، لا سيما وقد عرفوا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَفْرَى الْفِرَى مَنْ قَوَّلَنِي مَا لَمْ أَقُلْ، وَمَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ يَرَهُ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ" 1. وقال: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"2. وقال: "إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار"3. وقيل لأبي قتادة: ما لك لا تحدث عن رسول الله كما يحدث الناس عنه؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من كذب علي فليلتمس لجنبه مضجعًا من النار"، فجعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول، "ويمسح الأرض بيده" 4، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي" 5، ويعلق الشافعي على هذا الحديث، فيقول: هذا أشد حديث روي عن رسول الله في هذا، وعليه اعتمدنا مع غيره في ألا نقبل إلا عن ثقة، ونعرف صدق من حمل الحديث من حين ابتدئ إلى أن يبلغ به منتهاه؛ لأنه، صلى الله عليه وسلم إذ أباح الحديث عن بني إسرائيل، فليس معناه إباحة الكذب

_ 1 هذا الحديث رواه البخاري 4/ 180 - 181 طبعة السلطان عبد الحميد، مع اختلاف يسير في اللفظ. والفرى جمع فرية وهي الكذبة، وأفرى أفعل منه للتفصيل، أي أكذب الكذب. 2 رواه أحمد "المسند 2/ 501". 3 رواه أحمد في المسند 2/ 22، 103 دون حرف "إن" في أوله وص 144. 4 ومعناه عن أبي قتادة في المسند 5/ 297 ومسند الدارمي 1/ 77. 5 رواه أحمد 3/ 12، 13 وسنده غير صحيح؛ لأن فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.

عليهم، وإنما معناه قبول ذلك عمن حدث به ممن يجهل صدقه وكذبه، وليس معناه أيضًا إباحة الكذب عليهم، لأنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "من حدث بحديث وهو يراه كذبًا فهو أحد الكاذبين" 1، فالكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي، وذلك الحديث عمن لا يعرف صدقه؛ لأن الكذب إذا كان منهيًّا عنه على كل حال -فلا كذب أعظم من كذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم2. 229- وقد حذر غير واحد من الأئمة في القرن الثاني الهجري من الرواية عن غير العدول؛ من الكذابين، والفاسقين، والسفهاء، وأصحاب الأهواء. ومن هذا ما يقول الإمام مالك بن أنس: "لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه، وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إن كان لا يعرف ما يحدث"3 ... ويقول شعبة بن الحجاج: لم يكن شيء أحب إلي من أن أرى رجلًا يقدم من مكة، فأسأله عن أبي الزبير؛ حتى قدمت مكة فسمعت منه فبينما أنا عنده، إذ جاءه رجل فسأله عن شيء، فافترى عليه، فقلت: تفتري على رجل مسلم؟!. قال: إنه غاظني قلت: يغيظك، فتفتري عليه؟! ... فآليت ألا أحدث عنه، فكان يقول: في صدري منه أربعمائة ... ولا والله لا أحدثكم عنه بشيء

_ 1 رواه مسلم في صحيحه: ولفظه عنده: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 1/ 51 بشرح النووي. 2 الرسالة ص 392 - 400. 3 ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة مذهب مالك: أبو الفضل عياض بن موسى ابن عياض اليحصبي السبتي "554 هـ - 11449م" تحقيق د. أحمد بكير محمود -مكتبة الحياة ببيروت- لبنان 1/ 123 - المحدث الفاصل "المخطوطة بدار العلوم" ص23- الكفاية ط مصر ص189.

أبدًا ... وقال يحيى بن سعيد القطان: سمعت النضر بن مطرف يقول: إن لم أحدثكم فأمي زانية. قال يحيى: تركت حديثه لهذا ... وقيل لزيد بن أسلم: عمن يا أبا أسامة، قال: ما كنا نجالس السفهاء1. 230- وقال محمد بن الحسن: "إن الفاسق إذا أخبر بحل أو حرمة فالسامع عليه أن يحكم رأيه فيه، لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول دائمًا، فوجب التحري في خبره، فأما هنا في رواية الحديث، فلا ضرورة في المصير إلى روايته، وفي العدول كثرة، وبهم غنية، إذ يمكن الوقوف على معرفة الحديث بالسماع منهم فلا حاجة إلى الاعتماد على خبر الفاسق"2. ويرى محمد رحمه الله -مع هذا- أنه في باب الاحتياط يستحب العمل بخبر الفاسق، وإن لم يكن خبره حجة؛ مثله في ذلك مثل خبر الكافر، وإن كان الاستحباب هنا أقوى3. الكذب والكذابون: 231- وإذا كانت العدالة تراعى في الراوي، حتى لا يكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم -فإن الأئمة قد وقفوا طويلًا عند الكذابين يحذرون من رواياتهم ويبينون صور كذبهم وتحريفهم لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام الشافعي، وذكر له حرام بن عثمان، فقال: "الحديث عن حرام بن عثمان حرام"، ويفسر ابن أبي حاتم قول الشافعي هذا -وهو الخبير بعلل الرواة-: "يعني أنه ليس بصدوق، فالتحديث عمن يكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم حرام"4 ... وذكر للشافعي أبو بكر البياضي، فقال: "بيض الله عيني من يروي عنه"، ويقول: ابن أبي حاتم أيضًا: يريد بذلك تغليظًا على من يكذب على رسول الله،

_ 1 الكفاية ط مصر: ص 187، 188. 2 أصول البزدوي 3/ 740 - 741. 3 كشف الأسرار 3/ 744. 4 آداب الشافعي ص217، 218.

صلى الله عليه وسلم1، ويقول الشافعي أيضًا: إذا حدثت بالحديث، فيكون عندنا كذبًا، فأنت أحد الكاذبين في المأثم"2. ويبين أن آفة كذب الحديث، في الأغلب، إنما تأتي من الرواة الكذابين، فيقول: "ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه إلا في الخاص القليل من الحديث"3. 232- صور الكذب: 1- وهناك صور عديدة للكذب أشدها وأشنعها اختراع الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الإمام أحمد وأبو بكر الحميدي والشافعي؛ رضوان الله عليهم: إن التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، ولكن التائب من الكذب متعمدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقبل روايته أبدًا، وإن حسنت توبته. ومما روي عن الشافعي في هذا: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب، وجدناه عليه، لم نعد لقبوله بتوبة تظهر4. 2- وذكر عبد الله بن الزبير الحميدي "219 هـ"، أن من صور الكذب أن يحدث الرجل عن آخر أنه سمعه ولم يدركه؛ لأنه توفي مثلًا قبل أن يولد، أو قبل أن يكبر ويميز سماع الأحاديث، أو عن رجل أدركه، ثم لوحظ عليه أنه لم يسمع منه. يقول: "فإن قال قائل: فما الذي لا يقبل به حديث الرجل أبدًا؟ قلت: هو أن يحدث عن رجل أنه سمعه ولم يدركه، أو عن رجل أدركه، ثم وجد عليه أنه لم يسمع منه، أو بأمر يتبين عليه في ذلك كذب، فلا يجوز حديثه أبدًا، لما أدرك عليه من الكذب فيما حدث به"5.

_ 1 آداب الشافعي ص217، 218. 2 مناقب الشافعي: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي "384 - 458هـ" تحقيق السيد أحمد صقر الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م، دار التراث بالقاهرة 2/ 26. 3 الرسالة ص399. 4 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 150 - 151، تدريب الراوي 1/ 329. 5 الكفاية ط مصر: ص191.

ومما يستدل به على كذب الراوي في هذه الحالة معرفة تاريخ المروي عنه ومولد الراوي والأمكنة التي ارتحل إليها والتي لم يرتحل إليها. وقد قام الأئمة بذلك خير قيام، وتنبهو لذلك غاية التنبه، ومن الأمثلة على ذلك في القرن الثاني الهجري ما قاله عقير بن معدان، يكشف عن أحد الكذابين من هذا النوع: قدم علينا عمر بن موسى حمص، فاجتمعنا إليه في المسجد، فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر قلت: من شيخنا هذا الصالح؟ سمه لنا نعرفه، فقال: خالد بن معدان. قلت له: في أي سنة لقيته؟. قال: لقيته في غزاة أرمينية، وقلت له: اتق الله يا شيخ، لا تكذب، مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين!. وأزيدك أخرى: أنه لم يغز أرمينية قط، كان يغزو الروم ويوضح الإمام سفيان الثوري هذا الاتجاه بقوله: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ"، ويقول حفص بن غياث: "إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين"1. 3- ومن صور الكذب أن يكثر الراوي من الروايات التي تخالف الأئمة المعروفين بالصدق والضبط، قيل لشعبة بن الحجاج: من الذي يترك حديثه؟. قال: إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون، فأكثر ترك حديثه2، ويقول الإمام أحمد عن موسى بن عبيدة الربذي: لا يشتغل به، وذلك أنه يروي عن عبد الله بن دينار شيئًا لا يرويه الناس، لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة3. وقد يكون كل ما خالف فيه الراوي هو شيء من الإسناد، أما المتن فهو واحد من حيث المعنى، وذلك حتى يأخذوا بالحيطة، فالذي يغير في السند ويخالف فيه الثقات يمكنه أن يغير في المتن، ومن هذا ما يقوله يحيى بن سعيد القطان: كلمني السري بن إسماعيل مرة، فسمعته يقول: حدثنا عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 الكفاية ط مصر ص193. 2 المحدث الفاصل "المخطوطة" ص237. معرفة علوم الحديث ص63. 3 الجرح والتعديل مجلد 4 قسم 1 رقم 686.

يقول: "الخمر من خمسة" فتركته، ويفسر ابن أبي حاتم السبب في تركه له، فيقول: "ترك السري؛ لم يحمل عنه لإنكاره ما حدث به عن الشعبي؛ لأن الثقات يروون عن أبي حيان التميمي عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قوله: "إن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي خمسة 1. 4- ومن صور الكذب أن يحدث الراوي عن شيخ، ثم يسأل هذا الشيخ، فيروي خلاف ما روى هذا الراوي عنه، قال شعبة لأبي داود الطيالسي: " إيت جرير بن حازم، فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة، فإنه يكذب فسأل أبو داود: ما علامة كذبه؟. قال: روى عن الحكم أشياء لم نجد لها أصلًا ... قلت للحكم: صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، على قتلى أحد؟. لم يصل عليهم، وقال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى عليهم ودفنهم. وإذا كان الخلاف بين ما قاله الحكم، وما رواه الحسن بن عمارة عنه هو: هل صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، على شهداء أحد أو لا، فإن هناك رواية أخرى تبين أن الاختلاف في شيء آخر، وهو هل غسل النبي، صلى الله عليه وسلم، شهداء أحد أو لا؟. تقول هذه الرواية: "هذا الحسن بن عمارة يحدث عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، وعن الحكم بن يحيى الجزار، عن علي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى على قتلى أحد وغسلهم ... وأنا سألت الحكم عن ذلك، فقال: يصلى عليهم ولا يغسلون. قلت: عمن؟ قال: بلغني عن الحسن البصري. ويقول الرامهرمزي: إن هذه الرواية هي الأصح، لأن راويها أحفظ من راوي الرواية الأولى وأضبط2.

_ 1 الجرح والتعديل مح 2 قسم 2 رقم 1216. 2 المحدث الفاصل: "المخطوطة" ص154 - 155، الجرح والتعديل مجلد 1 قسم 2 رقم 116.

والذي يهمنا هو ما تثبته هذه الرواية أو تلك، وهو أن الأئمة كانوا يستوثقون من صدق الراوي بسؤال من روى عنه، فإذا روى خلاف ما نقل عنه كان هذا علامة من علامات كذب هذا الراوي، وبالتالي ترك حديثه، كما أنهم بهذا يصونون روايات كل راو من أن يغير فيها، أو يزاد عليها. وإذا لم يكن المروي عنه حيًّا فإنهم يلجئون إلى أصحابه القدامى الذين استوعبوا أحاديثه وحفظوها، فيسألونهم عما نسب إلى صاحبهم من أحاديث، يقول عبد الرحمن بن مهدي في أحد الرواة: أتيته أنا وبشر بن السري، فكلمناه في حديث مالك في التسليمة، فحدث عن مالك بإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة وعن فلان وفلان. فكتبت إلى إبراهيم بن حبيب المديني، وكان من أصحاب مالك العتق، فجاءني كتابه: إني سألت مالكًا، فلم يكن عنده فيه حديث إلا عن يحيى بن سعيد بن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة، وأنكر ذا كله1. 5- ومن صور الكذب أن يحدث الراوي بغير المعقول من الروايات فإن ذلك دليل على الوضع والكذب؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، منطقي ومعقول، وله ضوء كضوء النهار -كما يعبر بعض المحدثين- سئل الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فضعفه، وقال: إنه أتاه رجل فقال: أحدثك أبوك أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا، وصلت خلف المقام ركعتين؟. فقال: نعم ... ولا يقال: إن هذا حدث بهذا عن أبيه فتكون العهدة عليه؛ لأن أباه زيد بن أسلم ليس من الوضاعين والكذابين، ولكنه اخترع نسبة الحديث إلى أبيه، كما اخترع الحديث2. 6- ومن صور الكذب نسبة الأحاديث التي غير رواتها، مما يدلنا على مقدار تشدد الأئمة في صدق الراوي وعدالته، ويقدم لنا الإمام أحمد بن حنبل صورة من هذا -فيما يرويه عنه ابنه عبد الله الذي يقول: سمعت أبي وذكر حبيبًا الذي يقرأ لهم على مالك بن أنس، فقال: "ليس بثقة، قدم

_ 1 الجرح والتعديل مج4 قسم 1 رقم 1548. 2 آداب الشافعي ص229.

علينا رجل -أحسبه قال: من خراسان، كتب عن حبيب كتابًا عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن سالم والقاسم، وإذا هي أحاديث ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم وسالم.... فقال أبي: أحالها على ابن أخي ابن شهاب عن عمه، قال أبي: قال أبي: كان حبيب يحيل الحديث ويكذب، وأثنى عليه شرًّا وسوءًا". وكانوا يسمون هذا النوع "قلبًا" يقول الإمام أحمد عن عباد بن جويرية: كذاب، أفاك، أتيته أنا وعلي -يعني ابن المديني وإبراهيم ابن عرعرة، فقلنا له: أخرج إلينا كتاب الأوزاعي، فإذا فيه مسائل أبي إسحاق الفزراي: سألت الأوزاعي، وإذا هو قد جعلها عن الزهري وقلبها، وقال: خصيف -هذا خصيف الكبير، فتركناه وكان كاذبًا2". ومن هذا نستنتج أن الأئمة كانوا يعرفون مرويات كل محدث وأصلها حتى إذا أتى كذاب وزور أحاديث ونسبها إليهم كشفوا أمره، ولا شك أن هذا كان مسلك الوضاعين عندما يريدون أن يروجوا أحاديثهم، فيخترعوا لها الأسانيد الجيدة، حتى يعتقد، تبعًا لهذا، أن المتن جيد أيضًا. 7- ومنها أن يسمع التلميذ من الشيخ بعض الأحاديث، فيغير من ألفاظها عند إملائها، يقول الإمام أحمد عن إبراهيم بن بشار الرمادي: "كان يحضر معنا عند سفيان، ثم يملي على الناس ما سمعوه من سفيان، وربما أملى عليهم ما لم يسمعوا من سفيان؛ كأنه يغير الألفاظ، فتكون زيادة ليست في الحديث، فقلت له: ألا تتقي الله! تملي عليهم ما لم يسمعوا، وذمه في ذلك ذمًّا شديدًا"3.

_ 1 العلل ومعرفة الرجال: 1/ 229، 232. 2 المصدر السابق 1- 224 - الجرح والتعديل مج3 ق1 رقم 400 وانظر مثل هذا في مج3 ق1/ 589، وفي مج1 ق 1/ 891 كلام لابن معين في راو آخر يصنع الشيء نفسه. 3 الجرح والتعديل مج1 ق1/ 225.

ولعل هذا يعطينا مقدار عناية نقاد الحديث وحرصهم على أن ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلا جيدًا لا تحريف فيه ولا تبديل. 8- ومنها أن يأخذ الراوي آراء أحد الأئمة المجتهدين -كأنه يريد أن تروج بين الناس- فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول الإمام أحمد في إسحاق بن نجيح الملطي: "من أكلب الناس، يحدث عن النبي صلى الله علي وسلم، برأي أبي حنيفة1. ومعنى هذا أن الإمام أحمد عندما لا يكتفي بأن يقول عن هذا الراوي إنه كذاب ويبين أصل كذبه يبين الدافع الذي دفعه إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الترويج لمذهب أبي حنيفة. 9- ومنها أن يأخذ الراوي أحاديث الرواة، فينسبها لنفسه، ويسقط الرواة الذين حدثوه بها، يقول يحيى بن معين في مطرف بن مازن الكناني: قال لي هشام بن يوسف: جاءني مطرف بن مازن، فقال لي: أعطني حديث ابن جريج ومعمر حتى أسمعه منك، فأعطيته، فكتبها، ثم جعل يحدث بها عن معمر نفسه وعن ابن جريج، وأراد هشام أن يؤكد قوله ليحيى بن معين، فقال له: انظر في حديثه، فهل مثل حديثي سواء. قال ابن معين: فأمرت رجلًا فجاءني بأحاديث مطرف بن مازن، فعارضت بها، فإذا هي مثلها سواء، فعلمت أنه كذاب2. 10- ومن صور الكذب أن يحدث الراوي عن الكاذبين، فيقع في حبالهم، وسمى هذا الإمام الشافعي "الكذب الخفي" كما سبق أن ذكرنا3. 11- ومن صور الكذب أن يحدث الرجل بالأحاديث المنكرة، التي أنكرها العلماء ووضحت نكارتها، ويحكم على هذا الرجل بأنه غير صدوق،

_ 1 المصدر السابق مج1 ق1/ 832. 2 المصدر السابق مج4 ق1/ 1452. 3 انظر ص134 من هذا البحث.

قيل ليحيى بن معين: "ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث -إن هو رجع عنها، وقال: ظننتها، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها علي فقد رجعت عنها، فقال: لا يكون صدوقًا أبدًا، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء، فيرجع عنه.... فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا"1. التدليس والمدلسون: 233- والتدليس قد يكون نوعًا من أنواع الكذب وتنتفي به عدالة الراوي، وذلك إذا كان متعمدًا، ويخفي به الراوي ضعفًا في أحد الرواة ليروج به الأحاديث الضعيفة، ويتحقق ذلك بإسقاط الراوي الضعيف أو إخفاء اسمه المشهور به بكنية غير معروفة. 234- فهناك نوعان من المدلسين: 1- عدل ربما أرسل حديثه بعبارة تحتمل السماع، وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سندًا، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض، فهذا لايضره، ولا يضر سائر مروياته؛ لأن هذا ليس جرحًا ولا غفلة، ولو طلب منه أن يسند لأسند، ولو كان في مجلس التحديث فإنه يسند أحاديثه، عن عبد الرزاق قال: كان معمر يرسل لنا أحاديث، فلما قدم عليه ابن المبارك أسندها له". 235- وقد فعل هذا النوع كثير من أئمة الحديث: كالحسن البصري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة بن دعامة السدوسي، وعمرو بن دينار، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبي الزبير، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وقد أدخل الدراقطني فيهم مالك. ويقول ابن عبد البر: إنه لم يكن يسلم من

_ 1 الكفاية ط مصر: ص192.

التدليس على هذا النحو أحد من العلماء إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان1. 236- والحق أن هذا نوع من التدليس في بادئ الأمر، ولكن هؤلاء الحفاظ عند ما يسندون ما أرسلوه، خرجوا من دائرة التدليس إلى دائرة الإرسال، ومن دائرة الإبهام إلى دائرة التوضيح. 237- ومثال ذلك ما يرويه علي بن خشرم قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فقال: "قال الزهري كذا"، فقيل له: أسمعت منه هذا!؟ قال: "حدثني عبد الرزاق عن معمر عنه" كما روي بالعنعنة عن عمرو بن دينار، ثم تبين حين سئل: أن بينهما علي بن المديني، عن أبي عاصم عن ابن جريح وكذا قيل في حميد الطويل؛ إنه لم يسمع من أنس، وجل حديثه إنما هو عن ثابت عنه، ولكنه يدلسه ... ومن أمثلته أيضًا ما رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن عبد الله بن الحنفية عن أبيه هو محمد ابن الحنفية عن علي في تحريم لحوم الحمر الأهلية، فقد قالوا: إن يحيى لم يسمعه من الزهري، وإنما سمعه من غيره، إنما أخذه عن مالك عنه، ولكن هشيمًا قد سوى الإسناد، كما جزم به ابن عبد البر وغيره2. 238- وتدليس هؤلاء مقبول إذا صرحوا بالتحديث، وأثبتوا ما أبهموه من الوسائط. وعند الحنفية يقبل ما دلسوه حتى ولو لم يصرحوا أو يثبتوا، وهذا خاص بأهل القرون الثلاثة؛ لأنهم يقبلون مراسيلهم كما سنرى -إن شاء الله تعالى، وذلك لأن أهل هذه القرون، الصحابة والتابعين وتابعيهم لا يفعلون ذلك خداعًا أو تغريرًا، وما كانوا ليجزموا بنسبة قول أو فعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وهم عالمون أو ظانون أن النبي، صلى الله

_ 1 الإحكام لابن حزم 1/ 125، 126- فتح المغيث، شرح ألفية الحديث: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "902هـ" المكتبة السلفية بالمدينة المنورة الطبعة الثالثة 1388هـ - 1968م 10/ 171. 2 فتح المغيث 1/ 173 - 175 و183.

عليه وسلم، قال ذلك أو فعله، وذلك يستلزم تعديل من لم يسموه من الوسائط1. 239- وقد قام الأئمة بجهد محمود في رواية أحاديث هؤلاء موصولة، وبيان أنها مسندة وإن دلسوها وأرسلوها، وممن قام بذلك شعبة بن الحجاج، الذي فعل ذلك في أحاديث أئمة كبار مثل الأعمش والسبيعي وقتادة2. 2- ونوع آخر من المدلسين، وهم الكذابون، غير العدول، هؤلاء الذين يسقطون من لا خير فيهم من أسانيدهم عمدًا حتى لا يكون في السند إلا الأقوياء، وهم يفعلون ذلك تلبيسًا على من يحدثون. وتغريرًا بمن يأخذون عنهم وسترًا لأسانيدهم وأحاديثهم الضعيفة. 240- وقد حدد الإمام الشافعي، رضي الله عنه بدء هذا النوع بالقرن الثاني الهجري، وعلى عهده، حيث لم يعرف قبل ذلك، يقول: "ولم نعرف بالتدليس ببلدنا، فيمن مضى، ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثًا ... فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيرًا له، وكان قول الرجل: "سمعت فلانًا يقول: عن فلان وقوله: "حدثني فلان عن فلان" سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، ممن عناه بهذه الطريق، قبلنا منه "حدثني فلان عن فلان"3. فالعنعنة هنا في نظر الإمام الشافعي تساوي السماع، ولا تدل إلا عليه. 241- وهذا النوع من المدلسين ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ذلك، وحذر منه الأئمة، ورفضوا روايات أصحابه ورفضوهم أيضًا. وكان أشدهم إنكارًا له في القرن الثاني الهجري شعبة بن الحجاج، فقد روي

_ 1 قفو الأثر في صفو علوم الأثر، في المصطلح على مذهب السادة الحنفية: محمد بن إبراهيم الربعي الحلبي الحنفي التاذفي. الطبعة الأولى 1326هـ. مطبعة السعادة بمصر ص16. 2 معرفة السنن والآثار 1/ 65. 3 الرسالة ص: 378، 379.

عنه قوله: "التدليس أخو الكذب"، وقوله: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس ... ولأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس"1 وكان الشافعي يتوقف فيمن عرف بالتدليس على هذا النحو، ولو مرة واحدة، فلا يعتبر صاحبه في دائرة أهل الصدق، يقول: "ومن عرفناه دلس مرة واحدة فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بالكذب، فنرد بها حديثه ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا لا نقبل من مدلس حديثًا حتى يقول فيه "حدثني"2. وذمه أيضًا أبو الوليد الطيالسي، الذي قال عبارة شبيهة بما قال شعبة، قال: "لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: زعم فلان، ولم أسمع ذلك الحديث منه". وابن المبارك الذي قال: إن الله لا يقبل التدليس، وسليمان بن داود المنقري "234هـ" الذي قال: والتدليس والغش والغرور والخداع والكذب تحشر يوم تبلى السرائر في نفار واحد "أي طريق واحد". وحماد بن زيد الذي قال: "هو متشبع بما لم يعط"، ونحوه قول أبي عاصم: "أقل حالاته عندي أنه داخل في حديث المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"، وقال وكيع بن الجراح منكرًا التدليس: "الثوب لا يحل تدليسه فكيف الحديث!. وقال يعقوب بن أبي شيبة: وكرهه جماعة من المحدثين، وممن أطلق على فاعله الكذب أبو أسامة "201هـ"3. 242- وإنما أنكروا هذا الإنكار الشديد على التدليس والمدلسين؛ لأنه باب لو فتح لأدخل منه الكذابون الأحاديث الموضوعة، ونسبوها إلى المحدثين العدول بعبارات توهم سماعهم لها منهم، كما أنه -كما قلنا- يلبس الأحاديث الضعيفة ثوب الأحاديث الصحيحة حينما يسقط المدلس من أسانيده الضعفاء فتبدو صحيحة الإسناد وليست كذلك. وفي هذا من الخطورة ما فيه؛ إذ يختلط الحابل بالنابل، ولا يدري الصحيح من غير الصحيح.. ومن خطوروته أيضًا أنه يظلم الثقات من الرواة ويضعفهم؛ إذ يسند المدلس إليهم أنهم

_ 1 فتح المغيث 1/ 177. 2 الرسالة ص379 - 380. 3 فتح المغيث 1/ 178.

يروون عن الثقات الأحاديث الضعيفة، وممن نبه إلى ذلك صنيع الوليد بن مسلم "194هـ"، فقد كان يحذف شيوخ الأوزاعي الضعفاء، ولا يذكر من إسناده إلا الثقات، فسئل عن ذلك؟ فأجاب بأن الأوزاعي أسمى من أن يروي عن مثل هؤلاء ولذلك أسقط الضعفاء، فقيل له: فإذا روي عن هؤلاء، وهم ضعفاء، أحاديث مناكير، أسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي1. أصحاب الأهواء: 243- وكما وقف النقاد طويلًا أمام الكذابين يكشفون أمرهم ويبينون صورهم وأساليهم، وقفوا طويلًا أيضًا أمام أصحاب المذاهب التي خرجت على السنة والجماعة، من خوارج وشيعة ورافضة وقدرية وجبرية ومرجئة. 244- وقد أطلق أهل السنة والجماعة على هذه الفرق اسم "أهل الأهواء"؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، أو أهل البدع؛ لأنهم أحدثوا في الدين بعض الأمور التي لم تكن في عهده، صلى الله عليه وسلم، أو التي لم تؤثر عنه وعن أصحابه، رضوان الله عليهم أجمعين 2. 245- وقد سبق أن ذكرنا أن فرقًا من هؤلاء اعتبرهم النقاد من الكفار وإن كان كفرهم بالتأويل فعاملوهم معاملة الكفار المعاندين3. 246- أما الفرق الأخرى التي لم تخرج عن المبادئ الإسلامية الأساسية، كالخوارج والشيعة المعتدلين الذين لم يصلوا في تشيعهم إلى درجة تقديس علي كرم الله وجهه، وسب غيره من الصحابة الأبرار كأبي بكر وعمر وعائشة -رضوان الله عليهم- أما هؤلاء فقد اختلف نقاد الحديث في صحة السماع منهم وصحة رواياتهم.

_ 1 علوم الحديث ومصطلحه د. صبحي الصالح. الطبعة الخامسة. دار العلم للملايين بيروت ص173. 2 نشأة علوم الحديث ص42 وانظر تعريفًا لهذه الفرق جميعًا في كتاب التنبيه والرد لأبي الحسين الملطي، وسنرى من خلال كلام أئمة الحديث شيئًا من معتقداتهم وأقوالهم. 3 انظر ص: 125، 126 من هذا البحث.

247- ولا يهمنا هنا أن نقوِّم عقائد هذه الفرق وتطورها، وهل بعضها زاغ فعلًا أو عنده نوع من الفهم المعقول، وإن كان مخالفًا لما عليه الجماعة ... وإنما الذي يهمنا هو نظرة أئمة الحديث والفقه من أهل السنة إلى هؤلاء، وأثر هذه النظرة في قبولهم لرواياتهم أو رفضهم لها. فذهب فريق منهم إلى عدم قبول رواياتهم؛ لأنهم من الفسقة غير العدول فالخارج على الجماعة في العقيدة، مثل هؤلاء؛ كالخارج عليها في ارتكاب ما حرم الله. وهو ينظر إلى أهل السنة نظرة عداء تجعله يبيح الكذب من أجل نصرة ما ذهب إليه، وتسفيه رأي الجماعة. وقد رأى النقاد أن هذا قد حدث فعلًا، فقد سمع ابن لهيعة المحدث المصري رجلًا من أهل البدع رجع عن بدعته، يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه، فإنا كنا إذا رأينا رأيًا جعلناه حديث". وفي رواية: أنه سمع شيخًا من الخوارج وهو يقول: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا1. ورأى شعبة بن الحجاج صحيفة من صحف هؤلاء الذين وضعوها لنصرة مذهبهم فرفضها، يقول مبينًا هذا: "كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي، فقدم، فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت: ما هذا الكتاب؟. قال: هذا كتاب حق2. وفي رواية: أتيت أبا هارون، فقلت له: أخرج إلي ما سمعت من أبي سعيد، فأخرج إلي كتابًا، فإذا فيه: "حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل حفرته، وإنه لكافر بالله" فدفعت الكتاب في يده وقمت، وقال ابن معين: "كانت عند أبي هارون صحيفة، يقول: هذه صحيفة الوصى"3. 248- ويبين زائدة بن قدامة الثقفي "161هـ" السبب في عدم قبول رواية أصحاب المذاهب المخالفة لرأي أهل السنة والجماعة، وعدم تحديثهم بأنه يخاف أن يكون العلم عندهم، فيصيروا أئمة يحتاج إليهم، فيبدلوا كيف

_ 1 الكفاية: الطبعة المصرية: ص198 - المحدث الفاصل "المخطوطة" 242. 2 تقدمة المعرفة: ص 149. 3 ميزان الاعتدال؛ 3/ 174.

شاءوا. وربما كان هذا هو السبب في عدم كتابة سفيان الثوري عن مرجئ مباشرة، وإنما كتب عن رجل عنه، وعلل ذلك بأنه مرجئ1. 249- وجاءت روايات كثيرة في القرن الثاني يرفض فيها بعض الأئمة الذين يقولون بهذا الرأي رواة لأنهم على مذهب من هذه المذاهب، ومن أهل الأهواء والبدع كما يعبرون، فقد قيل لسفيان بن عيينة: لم أقللت الرواية عن سعيد بن أبي عروبة؟. قال: وكيف لا أقل الرواية عنه، وسمعته يقول: هو رأيي ورأي الحسن -يعني ابن دينار2- وكان الحسن ابن دينار يرى رأي القدرية، كما يقول ابن المبارك3. وكان يقول لأصحابه وتلاميذه: "ألا فاحذروا ابن أبي رواد المرجئ لا تجالسوه، واحذروا إبراهيم بن أبي يحيى القدري لا تجالسوه"4. وروى عن مالك بن أنس قوله: "لا يصلى خلف القدرية ولا يحمل عنهم الحديث"، وترك أبو بكر بن عياش "187هـ"، الرواية عن فطر بن خليفة لمذهبه، وكان فطر شيعيًّا، وقال أبو بكر: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه5. وقال الحميدي: كان بشر بن السري جهميًّا. 250- وكان هذا الرأي امتدادًا لما كان موجودًا قبل ذلك ويعبر عنه ابن سيرين حينما تكلم عن السبب في التمسك بالإسناد، يقول: "كان في زمن الأول، الناس لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد، ليحدث حديث أهل السنة ويترك حديث أهل البدعة" وفي رواية: "كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى كان بآخرة، فكانوا يسألون عن الإسناد لينظروا من كان صاحب سنة كتبوا عنه، ومن لم يكن صاحب سنة لم يكتبوا عنه"6.

_ 1 تقدمة المعرفة ص80 - 81 - المحدث الفاصل "المخطوطة" ص386. 2 الكفاية هـ ص123 - 124. 3 ميزان الاعتدال 1/ 489. 4 معرفة علوم الحديث ص136. 5 ميزان الاعتدال 3/ 364. 6 الكفاية "الطبعة المصرية" ص197.

251- وذهب فريق آخر -على رأسه الإمام الشافعي- إلى قبول رواية أصحاب هذه المذاهب إلا الذين يستحلون منهم الكذب، والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة؛ يقول الإمام الشافعي: "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"1. ويقول: "لم أر أحدًا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة"، وهذا هو مذهب أبي يوسف الذي يقول: "أجيز شهادة أهل الأهواء؛ أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون: "إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون". كما يحكى أن ابن أبي ليلى وسفيان الثوري يذهبان إلى هذا الرأي. ويحكي إبراهيم النخعي كيف يستحل هؤلاء الشهادة على ما لا يشهدونه فيقول: إذا كان لك على رجل ألف درهم، ثم جئت إلي، فقلت: إن لي على فلان ألف درهم، وأنا لا أعرف فلانًا، فأقول لك: وحق الإمام: إنه هكذا، فإذا حلفت ذهبت فشهدت لك، هؤلاء الخطابية. 352- وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى هذا الرأي تقريبًا، إذ أنه يجيز رواية أصحاب المذاهب إلا الشيعة الذين غلوا، فحكموا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالضلال؛ فقد سأله سائل: ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟. فقال من كل عدل في هواه إلا الشيعة؛ فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعًا"2. 253- وقد رأى أصحاب هذا الرأي أن أصحاب المذاهب ليسوا كالفاسقين الذين يتوقف في رواياتهم، كما يقول أصحاب الرأي الأول فالفاسق المتعمد أوقع الفسق مجانة، ويعلم أنه بارتكاب المحرمات يخالف

_ 1 الكفاية "الطبعة المصرية" ص194، 195: وقال أبو الحسين الملطي عن الخطابية: هم يزعمون أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الجبت والطاغوت، وكذلك الخمر والميسر عليهم لعنة الله، وقد فسروا في كتاب الله أشياء كثيرة ما يشبه هذا. "التنبيه والرد ص162" وهم أتباع أبي الخطاب الأسدي يقولون: إن الإمامة كانت في أولاد علي، وكانوا يبيحون شهادة الزور لموافقيهم "نشأة علوم الحديث ومصادره ص44". 2 الكفاية ص202- 203. "م".

أمر الله تعالى ويعصيه، وأنه بهذا يذهب عنه خلق التقوى، فلا يستبعد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فقد اعتقدوا ما اعتقدوه ديانة. وأن ما هم عليه هو العقيدة الصحيحة فلم تنتف عنهم الخشية والخوف من الله وتقواه التي تعصم المرء من الوقوع في الكذب1. 254- والحقيقة أن عقيدة بعضهم تحمله على الاحتراز عن الكذب أشد الاحتراز لا على الإقدام عليه، مثل الاعتقاد بكفر من ارتكب الذنب أو الخروج من الإيمان به، "فكان هذا الفسق نظير تناول متروك التسمية عمدًا، أو شرب المثلث على اعتقاد الإباحة، فلا يصير به مردود الشهادة"2 ومن احترز عن الكذب على غير الرسول كان أشد تحرزًا من الكذب عليه؛ لأنه أعظم جناية، فتقبل روايته، كما تقبل شهادته. وهذا ما شوهد على كثير منهم من تحري الصدق في روايتهم، مما جعل كثيرًا من الصحابة والتابعين يأخذون برواياتهم. 255- ويبين الخطيب البغدادي حجة من يجوز الرواية عن أصحاب المذاهب وقبولها بقوله: "والذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم "ما" اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك؛ لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان، وهو من الخوارج وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة إباضيًّا، وابن أبي نجيح كان معتزليًّا، وعبد الوارث بن سعيد، وشبل بن عباد، وسيف بن سليمان، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وسلام بن مسكين، وكانوا قدرية، وعلقمة بن مرثد، وعمرو بن مرة، ومسعر بن كدام، وكانوا مرجئة، وعبيد الله بن موسى، وخالد بن مخلد، وعبد الرزاق بن

_ 1 الكفاية ص200 "م". 2 كشف الأسرار 2/ 746.

همام، وكانوا يذهبون إلى التشيع في خلق يتسع ذكرهم -دون أهل العلم رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم"1. 256- ويبدو أن الأحاديث التي نقلها أصحاب المذاهب هؤلاء كانت كثرة، وبتركهم من أجل مذاهبهم ترك كل هذه الكثرة من الأحاديث وهذا هو ما عبر عنه علي بن المديني بقوله: "لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي -يعني التشيع- خربت الكتب يعني لذهب الحديث". وقيل ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن بن مهدي قال: أنا أترك من أهل الحديث كل من كان رأسًا في البدعة، فضحك يحيى بن سعيد، وقال: كيف يصنع بقتادة "وقد رمي بالقدر"؟. كيف يصنع بعمر بن ذر الهمداني "وكان رأسًا في الإرجاء"؟!. كيف يصنع بابن أبي رواد ... وعد يحيى قومًا ... ثم قال: إن ترك عبد الرحمن هذا الضرب ترك كثيرًا2. 257- وذهب فريق ثالث إلى رأي وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وهو عدم قبول رواية الدعاة منهم إلى مذاهبهم، وقبول رواية غيرهم، وذلك لأن الدعاة هم الذين يخشى منهم الكذب في الرواية لتوافق ما يدعون إليه. ولأن الدعوة إلى المذهب تحمل في حقيقتها تعصبًا له وبغضًا لما يخالفه من المذاهب، وقد تجر هذه العصبية وذلك البغض إلى التحريف في الأحاديث بما يوافق مذاهبهم. أما غير الدعاة فليست عندهم تلك العصبية التي تدفعهم إلى الكذب أو التحريف في الرواية، يقول الخطيب البغدادي: "إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة خوفًا من أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها"3، ويقول صاحب كشف الأسرار فيه: "إن هذا هو مذهب عامة أهل الفقه والحديث4. 258- وممن يذهب إلى هذا الرأي الإمام أحمد بن حنبل، فقد قيل له:

_ 1 الكفاية "الطبعة المصرية" ص201. 2 المصدر السابق ص206. 3 الكفاية ص 205. 4 3/ 246.

"أيكتب عن المرجئ والقدري؟. قال: نعم، يكتب عنه إذا لم يكن داعيًا"، وقيل له مرة أخرى: يكتب عن القدري؟ قال: إذا لم يكن داعيًا: وقيل له: يا أبا عبد الله، سمعت عن أبي قطن القدري؟. قال: لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه. وممن يذهب إلى ذلك أيضًا عبد الله ابن المبارك، فقد قيل له: سمعت من عمرو بن عبيد، فقال بيده هكذا، أي: كثرة، فقيل له: لِمَ لا تسمه، وأنت تسمي غيره من القدرية؟ قال: لأن هذا كان رأسًا. وقيل له مرة أخرى: تركت عمرو بن عبيد، وتحدث عن هشام الدستوائي، وسعيد، وفلان، وهم كانوا في عداده؟ قال: إن عمرًا كان يدعو. ويذهب إلى هذا أيضًا يحيى بن معين الذي قال: "ما كتبت عن عباد بن صهيب، وقد سمع عباد من أبي بكر بن نافع، وأبو بكر بن نافع قديم، يروي عنه مالك بن أنس"، فقيل له: هكذا تقول في كل داعية لا يكتب حديثه؛ إن كان قدريًّا أو رافضيًّا أو كان غير ذلك من أهل الأهواء ممن هو داعية؟ قال: لا نكتب عنهم إلا أن يكونوا ممن يظن بهم ذلك، ولا يدعو إليه، كهشام الدستوائي وغيره ممن يرى القدر ولا يدعو إليه. وقال عبد الرحمن بن مهدي مبينًا هذا الاتجاه: من رأى رأيًّا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيًا ودعا إليه فقد استحق الترك1 وقد سبق قول الإمام مالك في في أن صاحب الهوى الذي يدعو الناس إلى هواه يترك حديثه2، كما أنه يترك الأحاديث التي يحتج بها أهل البدع زيادة في الحيطة والحذر3. 259- هذا وقد عد قوم أهل الحديث مدرسة الرأي بالعراق مبتدعة، فلم يأخذوا برواياتهم، يقول معاذ بن معاذ: كنت عند سوار بن عبد الله، فجاء الغلام، فقال: زفر بالباب، فقال: زفر الرائي؟ ... لا تأذن له، فإنه مبتدع، وقيل ليزيد بن هارون: ما تقول في الحسن بن زياد اللؤلؤي؟. فقال: أو مسلم هو4؟!.

_ 1 الكفاية هـ: ص126، 128. 2 انظر ص134 من هذا البحث. 3 ترتيب المدارك 1/ 150. 4 معرفة علوم الحديث ص 137/ 139

والحق أن مدرسة الرأي -على الرغم من هذا الظلم الذي وقع عليها لم تقابل -فيما أعلم- هذا العدوان بالمثل، وكانت في أصحابها سماحة نأت بهم عن أن يضربوا على الوتر الذي ضرب عليه خصومهم. 260- وأخيرًا فقد رأى أبو حنيفة رحمه الله ألا يؤخذ الحديث ممن يغشى مجلس السلطان مختارًا، ويرى في هذا مثلما لعدالته. وربما كانت ظروف عصر أبي حنيفة هي التي جعلته يتخذ هذا الموقف، فالخلافة وعمالها في هذه الأثناء، لا تتمسك تمسكًا دقيقًا بتكاليف الشرع، وكان اتصال المحدث -مناط القدوة- بهم -في رأيه- دليلًا في نظر العامة على أنه راض بسلوكهم ولا يرجعون عما هم سائرون فيه، يقول الإمام في جوابه لمن سأله: عمن يأخذ الآثار -يقول: من كل عدل في هواه إلا الشيعة ... ومن أتى السلطان طائعًا ... أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم، أو يأمرونهم بما لا ينبغي ولكن وطأوا لهم، حتى انقادت العامة بهم، فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين"1. المجهول وحكم روايته: 261- وإذا كنا قد عرفنا العدول من الرواة وحكم رواياتهم، وحكم روايات غير العدول، من الفاسقين والسفهاء والكذابين وأصحاب المذاهب الخارجة على مذهب أهل السنة والجماعة ... إذا كنا قد عرفنا ذلك فما حكم مجهول العدالة؟. المجهولون على أنواع: 262- 1- فمنهم مجهولو العدالة ظاهرًا وباطنًا. 2- ومنهم مجهولو العدالة باطنًا فقط وهم المستورون ... وهذا النوع في الحقيقة ليس مجهولًا إلا على رأي الجمهور الذي يشترط في العدالة أن

_ 1 الكفاية هـ ص 126.

تتحقق في الظاهر والباطن ... أما على رأي أبي حنيفة وأهل العراق فيعتبرون الراوي -من هذا النوع- من العدول؛ لأن العدالة عندهم هي ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهرًا.1 3- ونوع الثالث: وهو مجهول العين، وهو كل من لا يعرفه العلماء2. 1- مجهول العدالة ظاهرًا وباطنًا: 263- أما هذا النوع فلا تقبل روايته عند الجمهور من العلماء؛ لأنه بجهالته هذه لا يعرف إن كان عدلًا أو غير عدل، فلا يترجح جانب الصدق في خبره، وهو ما اشترطت العدالة من أجله. 264- وعلى رأس من ذهب إلى ذلك في القرن الثاني الهجري الإمام الشافعي رضي الله عنه3، يقول: فإن جهل منهم واحد وقف عن روايته حتى يعرف بما وصفت "من العدالة"، فيقتل خبره أو بخلافه فيرد خبره، كما يقف الحاكم عمن شهد عنده حتى يتبين عدله فيقبل شهادته، أو جرحه فيرد شهادته4. 265- ولهذا قال في حديث عبد العزيز بن عمر، عن ابن موهب، عن تميم الداري أن رجلًا أسلم على يدي رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق الناس بحياته وموته" - قال: إنه لا يثبت، لأن ابن موهب مجهول5. 266- وقد ذهب بعض الناس إلى أن من باع سلعة من السلع إلى أجل

_ 1 الإحكام للآمدي 2/ 70 وفي ص 71 و72 مناقشة لهذا الرأي. 2 قواعد في علوم الحديث ظفر أحمد العثماني التهانوي. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة -مكتب المطبوعات الإسلامية- حلب. بيروت. الطبعة الثالثة 1392هـ - 1972م ص 204. 3 كشف الأسرار 2/ 720. 3 مناقب الشافعي 2/ 27. 4 المصدر السابق 2/ 13.

من الآجال، وقبضها المشتري لا يجوز له أن يشتريها بأقل من الثمن، واحتج بحديث أبي إسحاق عن امرأته عالية بنت أنفع دخلت مع امرأة أبي السفر على عائشة، فذكرت لعائشة أن زيد بن أرقم باع شيئًا إلى العطاء، ثم اشتراه بأقل مما باعه، فقالت عائشة: أخبري زيد بن أرقم أن الله قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب1. 267- ولم يأخذ الشافعي بهذا الحديث؛ لأنه لا يقبل الحديث عن مجهول، ولهذا فقد رد على هؤلاء بأن امرأة أبي إسحاق هذه مجهولة، لا نعرف عنها شيئًا غير أن زوجها روى عنها، ولهذا رأى أن من باع سلعة من السلع إلى أجل من الآجال، وقبضها المشتري، فلا بأس أن يبيعها الذي اشتراه بأقل من الثمن، أو أكثر، أو دين، أو نقد؛ لأنها بيعة غير البيعة الأولى2. 268- وقال بعض الناس: تقبل روايته، وهو يبني رأيه على أساس أنه يكفي في الراوي أن يكون مسلمًا، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض"، فهذا من الشرع تعديل لكل مسلم وتعديل صاحب الشرع أولى من تعديل المزكي"3. 269- ويرى الحنفية أن خبر المجهول في القرون الثلاثة الأولى حجة؛ لأنه عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 4. هذا ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته، وخبر من بعد القرون الثلاثة عندهم غير حجة؛ لغلبة الفسق5. 270- والحق أن هذا يكاد يكون نفس الرأي الذي لا يشترط إلا

_ 1 الإجابة ص137 - 139 وفيه كلام مفيد آخر حول هذا الحديث. 2 مناقب الشافعي 2/ 14، 15. 3 كشف الأسرار 3/ 740. 4 قواعد في علوم الحديث ص208 - 209. وقد روى الحديث الشيخان: البخاري في كتاب الشهادات ومسلم في فضائل الصحابة، وانظر مجمع الزوائد 10/ 18، 21. 5 المصدر السابق نفسه.

الإسلام فقط؛ لأن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان عليها مدار نقل الحديث، وروايتها هي التي كانت لها الآثار في الفقه واستنباط الأحكام، وتدوين المصنفات كان في القرن الثاني الهجري، فلم يكن هناك -في واقع الأمر- حاجة إلى غير أهل هذه القرون، حتى نقول: إنه مجهول فنرفض روايته أو عدل فنقبلها. المستور: 271- أما النوع الثاني، وهو المستور المعروف العدالة ظاهرًا فقط، فمذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أنه غير مقبول الرواية؛ إذ لا بد من خبرة باطنة بحاله، ليترجح جانب الصدق في خبره؛ ولأنه إذا كانت العدالة مشروطة في الراوي فلا يكتفى بوجودها ظاهرًا، بل لا بد أن يكون الراوي معروفًا بها ظاهرًا وباطنًا، وهذا هو رأي محمد بن الحسن أيضًا، فقد ذكر في كتاب الاستحسان أن خبره مثل خبر الفاسق. 272- وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه بمنزلة في رواية الأخبار؛ لثبوت العدالة له ظاهرًا، بل هو على رأي أبي حنيفة هو عدل بظهور الإسلام والسلامة من الفسق1 كما سبق أن عرفنا. 273- وعلى كل حال فالأحناف متفقون على أن رواية أهل القرون الثلاثة الأولى مقبولة إذا كان فيها مجهول الظاهر والباطن، فكذلك تكون من المستور من باب أولى؛ لأنه يزيد بظهور العدالة عليه2. وإذا كنا قد رأينا ذلك الخوف بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فعلى ما بعد هذه القرون3. مجهول العين: 274- أما النوع الثالث فقد اختلف العلماء في تحديده، وفي حكم روايته

_ 1، 2 كشف الأسرار 3/ 740 -مسلم الثبوت 2/ 108- وانظر مناقشة أبي حنيفة في رأيه في حاشية الأزميري على شرح مختصر ملا خسرو المسمى مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول -طبعة بولاق 1262هـ الطبعة الثانية 2/ 210. 3 قفو الأثر ص 15.

فمدار جهالة العين ومعرفتها عند المحدثين على الرواة عنه، فمن روى عنه واحد فقط هو مجهول العين عندهم، ومن روى عنه عدلان صار معروفًا وارتفعت جهالة عينه1. 275- والذي يقرأ في "كتاب العلل"، لعلي بن المديني "187هـ" يجده قد اهتم بإيراد الأمثلة الكثيرة لهذا النوع، وتجتزئ بعض هذه الأمثلة: 1- يقول: حديث عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث"، رواه ابن أبي حبيب عن شيخ لا أعلم روى عنه أحد غيره عن أبي عبيد. 2- وحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تصدقن يا معشر النساء ... " رواه منصور والحكم والأعمش عن ذر بن عبد الله الهمداني، عن وائل بن مهانة، ولا نعلم أحدًا روى عن وائل بن مهانة إلا ذر. 3- وحديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد هوان قريش يهنه الله" ... هذا حديث مدني، في إسناده رجلان، لا أعلم روى عنهما شيء من العلم، حدثناه يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن محمد بن أبي سفيان عن محمد بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يهن قريشًا يهنه الله"، فترك يعقوب بن إبراهيم أحد الرجلين اللذين وصفنا أنه لا يروي عنهما، سمى محمد بن سفيان وترك الآخر. وعن محمد بن سعد، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من يرد هوان قريش يهنه الله" فسمى أبو أيوب الهاشمي "أحد الرواة في هذا الطريق" الرجل الذي لم يسمه يعقوب بن إبراهيم وهو يوسف أبو الحجاج بن يوسف.

_ 1 تدريب الراوي 1/ 316.

4- وإذا كان المثال السابق من حديث المدنيين، فإن المثال التالي من حديث الكوفيين، وهو حديث ابن مسعود "أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خلال". يقول ابن المديني: "هذا حديث كوفي وفي بعض إسناده من لا يعرف في هذا الطريق. ورواه الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود، ولا أعلم روى عن عبد الرحمن بن حرملة هذا شيئًا إلا من هذا الطريق، ولا نعرفه في أصحاب عبد الله"1. 276- ولم يجمعوا على رد رواية مجهول العين بهذا التحديد، قال بعضهم: لا تقبل مطلقًا، وقال بعضهم:تقبل مطلقًا، وهو قول من لا يشترط في الراوي مزيدًا على الإسلام. وقال بعضهم: إن تفرد بالرواية عنه من لا يروي إلا عن عدل؛ كابن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان -قبلت روايته لأن هذا دليل على عدالته ... وقال بعضهم: إن زكاه واحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبلت روايته ... وقال آخرون: إن كان مشهورًا في غير العلم بالزهد أو النجدة قبلت روايته ... 2. 277- وأما مجهول العين عند الحنفية فهو من لم يعرف إلا بحديث أو حديثين، وجهلت عدالته، سواء انفرد بالرواية عنه واحد، أو روى عنه اثنان فصاعدًا، وهذا المجهول إن كان صحابيًّا فلا تضر جهالته عندهم وعند غيرهم؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- كلهم عدول عند الجمهور من العلماء، وإن كان غير صحابي؛ فإما أن يظهر حديثه في القرن الثاني أو لا، فإن لم يظهر جاز العمل به في القرن الثالث لا بعده، وإن ظهر؛ فإن شهد له السلف بصحة الحديث أو سكتوا عن الطعن فيه قبلت روايته، وإن ردوه ردت روايته، وإن قبله البعض ورده البعض الآخر، مع نقل الثقات عنه؛ فإن وافق حديثه قياسًا ما قبل وإلا رد3.

_ 1 العلل، لابن المديني ص104 و105، 106، 107. 2 تدريب الراوي 1/ 316. 3 قفو الأثر ص20.

278- ويبين ظفر أحمد التهانوي: أن الذي ظهر له من كلام فقهاء الحنفية هو أن المراد من قبول رواية المستور ومجهول العين من غير الصحابة هو جواز العمل برواياتهم دون الوجوب، أي: أنهم يعملون بها من باب الاحتياط1. 279- وهو بهذا قد ضيق شقة الخلاف -من وجهة نظره- بين الحنفية ومخالفيهم الذين يتوفون في روايات مجهولي العين والمستورين حتى يتبين أمرهم.

_ 1 قواعد في علوم الحديث ص209.

الضبط

4- الضبط: 280- وهو تيقظ الراوي في أخذ الحديث، وتعاهده بعد ذلك حتى يؤديه أداء سليمًا كما أخذه، ويكون هذا بحفظ الحديث في الذاكرة أو في الكتاب، ولا يتأتى هذا الضبط إلا لمن رزق ملكة واعية وذهنًا صافيًا، وهو ما يعبر عنه أئمة الحديث بالإتقان والحفظ. 281- وكما تجاوز النقاد عن بعض الصغائر في العدالة تجاوزوا هنا عن بعض الأخطاء والأغلاط التي لا بد وأن تصدر عن الرواة، فهم بشر، والبشر معرضون للنسيان، ولا يسلمون من الأخطاء. ولكنهم مع هذا تتبعوا أخطاء الرواة، وعرفوها ونبهوا عليها، حتى إنهم ذكروا أخطاء الأئمة الذين كانت هذه بضاعتهم وصناعتهم1، عن سفيان الثوري. قال: "ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك"2. 282- ولكن هذا التجاوز عن الأخطاء القليلة كان مرهونًا بألا يلح الراوي في الخطأ وأن يرجع عنه إذا كشف له. وممن نص على ذلك شعبة ابن الحجاج وأحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي، يقول الأخير: "فإن قال

_ 1 بل وقد ذكروا أخطاء أنفسهم واعترفوا بها، انظر الكفاية ص230م، 231 والعلل ومعرفة الرجال 1/ 182. 2 الكفاية "م" ص288.

قائل: فما الحجة في الذي يغلط فيكثر غلطه؟ قلت: مثل الحجة على الرجل الذي يشهد على من أدركه، ثم يدرك عليه في شهادته أنه ليس، كما شهد به، ثم يثبت على تلك الشهادة فلا يرجع عنها.... وليس هكذا الرجل الذي يغلط في الشيء، فيقال له فيه فيرجع، ولا يكون معروفًا بكثرة الغلط"1. 283- وقد نبه الأئمة إلى أن ضبط الراوي وإتقانه للحديث شرط أساسي من شروط قبول روايته، يقول الإمام مالك: إنه أدرك سبعين ممن يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم أمناء، حتى لو ائتمن أحدهم على بيت مال لكان أمينًا؛ ولكنه لم يأخذ العلم منهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن، يقول: "وهذا الشأن -يعني الحديث والفتيا- يحتاج إلى رجل معه تقى وورع، وصيانة وإتقان وعلم وفهم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غدًا، فأما رجل بلا إتقان ولا معرفة فلا ينتفع به، ولا هو حجة، ولا يؤخذ عنه"2، ويقول عبد الرحمن بن مهدي: "يحرم على الرجل أن يروي حديثًا في أمر الدين، حتى يتقنه ويحفظه، كالآية من القرآن وكاسم الرجال3. وقال علي بن المديني: لم يرو يحيى بن سعيد عن شريك، ولا عن أبي بكر بن عياش، ولا عن الربيع بن صبيح، ولا عن المبارك ابن فضالة. قال الترمذي: وإن كان يحيى ترك الرواية عن هؤلاء، فلم يترك الرواية عنهم لأنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال حفظهم4. 284- ويستعين الراوي على حفظ مروياته بأمور منها: 1- تلقي الحديث على نحو صحيح، وأخذه أخذًا جيدًا سواء أكان هذا الأخذ سماعًا أو غيره، وقد وضعوا مقاييس من أجل هذا، سنعرض لها في الفصل القادم -إن شاء الله تعالى- عندما نتعرف على مناهج تحمل الحديث، وما ينبغي الأخذ به، ومجمل ذلك أن تكون هناك صلة على نحو معين بين

_ 1 الكفاية ص228، 229ط مصر. 2 ترتيب المدارك 1/ 123. 3 الكفاية "الطبعة المصرية" ص 258. 4 صحيح الترمذي بشرح أبي بكر بن العربي. مطبعة الصاوي بالقاهرة 1353هـ - 1934م 3/ 315.

التلميذ والشيخ ... هذه الصلة تتيح لمتحمل الحديث أن ما يأخذه من شيخه إنما هو حديثه دون تبديل فيه من غيره قبل أن يتحمله، وتتفاوت هذه الصلة بقدر ما تؤدي إلى هذا الهدف؛ يقول يحيى بن سعيد القطان: "ينبغي أن يكون في صاحب الحديث غير خصلة، ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعهد ذلك"1. 285- ومن الأخذ الجيد أن يسمع المتلقي الحديث أكثر من مرة، حتى يثبت في ذاكرته أو يتأكد من أنه كتبه على الوجه الصحيح، قال حماد ابن زيد: "إذا خالفني شعبة في شيء تركته؛ لأنه كان يكرر"، ويقول مرة أخرى: "ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة؛ لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة2، ويبين شعبة منهجه هذا فيقول: "سألت طلحة بن مصرف عن هذا الحديث أكثر من عشرين مرة، ولو كان غيري قال: ثلاثين مرة، قال: سمعت عبد الرحمن بن عوسجة يحدث عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من منح منيحة ورق ... " 3. وقد كان سفيان الثوري يفعل ذلك. وكذلك سفيان بن عيينة4. 286- 2- حفظ ما أخذ، من شيخه، ويكون هذا الحفظ بإحد طريقتين، أو هما معًا، الاستعانة بالذاكرة، إذا كان قد رزق ذاكرة حافظة تعي ما تأخذ وتحفظه، أو الاستعانة بالكتاب الذي يودعه مروياته ويصونه، فيعتمد عليه أو عونًا على حفظه بذاكرته.

_ 1 معرفة علوم الحديث ص15. 2 تقدمه المعرفة ص161. 3 المصدر السابق ص164: ونص الحديث كما رواه الإمام أحمد في المسند 4/ 304: "من منح منيحة ورق أو هدى زقاقًا أو سقى لبنًا كان له عدل رقبة أو نسمه، ومن قال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان له عدل نسمة أو رقبة" ... وكان يأتينا إذا قمنا إلى الصلاة فيمسح صدرونا أو عواتقنا، يقول: لا تختلف صفوفكم، فتختلف قلوبكم، وكان يقول: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأولى، وقال: زينوا القرآن بأصواتكم، نسبتها، فذكرنيها الضحاك ابن مزاحم" والزقاق: الطريق، يريد من دل الضال أو الأعمى على طريقه. "النهاية". وانظر رواية أخرى لهذا الحديث في المسند 4/ 304: "من منح منيحة ورق أو هدى زقاقًا أو سقى لبنًا كان له عدل رقبة أو نسمه، أو رقبة ... وكان يأتينا إذا قمنا إلى الصلاة فيسمح صدورنا أو عواتقنا، يقول: لا تختلف صفوفكم، فتختلف قلوبكم، وكان يقول: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأول، وقال: زينوا القرآن بأصواتكم، نسيتها، فذكرينها الضحاك ابن مزاحم" والزقاق: الطريق، يريد من دل الضال أو الأعمى على طريقه. "النهاية" وانظر رواية أخرى لهذا الحديث في المسند 4/ 285. 4 تقدمة المعرفة: ص54، 163، 164.

287- وقد بين الإمام الشافعي هذا، وهو يبين صفة الراوي الذي يحتج بحديثه، فقال: أن يكون الراوي: "حافظًا إن حدث من حفظه حافظًا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم"1 ... ويقول: "من عرف من أهل العراق ومن أهل بلدنا بالصدق والحفظ قبلنا حديثه، ومن عرف منهم، ومن أهل بلدنا بالغلط رددنا حديثه، وما حابينا أحدًا ولا حملنا عليه"2. ويقول مروان بن محمد الطاطري "210هـ": لا "غنى لصاحب الحديث عن صدق وحفظ وصحة كتب، فإذا أخطأته واحدة، وكانت فيه واحدة لم تضره، إن لم يكن حفظ رجع إلى الصدق، وكتبه صحيحة لم يضره إن لم يحفظ"3. 288- وأعلى درجات الضبط حفظ الذاكرة مع الكتاب، أي اتخاذ الطريقين معًا، يقول الإمام أحمد بن حنبل: إن يحيى بن سعيد القطان أثبت من وكيع وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأبي نعيم -وهؤلاء أئمة- لأنه كان يضم إلى حفظه كتابة ما يسمعه4، مع أنه قد رزق ملكة حافظة تمكنه من حفظ ما يسمعه من الشيخ، ويستطيع أن يدونه بعد أن يذهب إلى البيت ... 289- والذي يدون الأحاديث أروى من غيره، يقول ابن المبارك: "ما رأيت أحدًا أروى عن الزهري من معمر إلا ما كان من يونس، فإن يونس كتب كل شيء"5 ... ويرى علي بن المديني أنه ليس في أصحابه أحفظ من أحمد بن حنبل؛ لأنه لا يحدث إلا من كتاب، وهو في هذا قدوة حسنة ينبغي أن يؤتسى به6. ويرى بعض الأئمة في القرن الثاني أنه يمكن الاعتماد على الكتاب وحده دون حفظ الذاكرة ما دام الكتاب صحيحًا، يقول عبد الله بن الزبير

_ 1 الرسالة ص 371. 2 معرفة السنن والآثار 1/ 64. 3 المحدث الفاصل "المخطوطة" ص233. 4 تقدمة المعرفة ص 246 - 247. 5 العلل ومعرفة الرجال 1/ 19. 6 تقدمة المعرفة ص 295.

الحميدي "219هـ" مبينًا ذلك: "من اقتصر على ما في كتابه فحدث به، ولم يزد فيه، ولا ينقص منه ما يغير معناه، ورجع عما يخالف فيه بوقوف منه عن ذلك الحديث أو عن الاسم الذي خولف فيه من الإسناد ولم يغيره فلا يطرح حديثه، ولا يكون ضارًّا ذلك له في حديثه إذا لم يرزق من الحفظ والمعرفة بالحديث ما رزق غيره -إذا اقتصر على ما في كتابه، ولم يقبل التلقين"1، ولا يجد بعض المحدثين غضاضة أن يعلن أنه لم يرزق الحفظ وأنه يتخذ له كتابًا يحدث منه حتى لا يخطئ، قال أبو الوليد الطيالسي: كنت أجالس جريرًا بالري، وكتب عني حديثين؛ فقلت له: حدثنا، قال: لست أحفظ وكتبي غائبة، وأنا أرجو أن أوتى بها، وقت كتبت في ذاك، فبينما نحن إذ ذكر شيئًا من الحديث، فقلت: أحسب كتبك قد جاءت. قال: أجل، فقلت لأبي داود: إن جليسنا جاءته كتبه من الكوفة، اذهب بنا ننظر فيها، فأتيناه، فنظرت في كتبه أنا وأبو داود2. 290- وعلى العكس من ذلك نرى أن عدم الكتاب عندهم قد يؤدي بالراوي إلى اضطراب روايته، يقول الإمام أحمد في عكرمة بن عمار: "أحاديثه عن يحيى ضعاف، ليست بصحاح، وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان، والسبب كما يقول البخاري: إنه لم يكن له كتاب، فاضطرب حديثه عن يحيى"3. 291- وعلى الرغم من ذلك نرى أن الإمام مالكًا يتشدد في هذه المسألة ويرى أنه لا بد من الحفظ مع الكتاب، ويعلل ذلك بخوفه من أن يزاد في هذه الكتب من وراء ظهره فلا يدرك هذه الزيادة من وضع أو تحريف؛ لأنه لا يحفظ، فقد سئل أيؤخذ ممن لا يحفظ، ويأتي بكتب فيقول: قد سمعتها، وهو ثقة؟ قال: "لا يؤخذ عنه، أخاف أن يزاد في كتبه بالليل"4 وكان أبو حنيفة يذهب إلى هذا أيضًا، فقد سئل يحيى بن معين عن الرجل

_ 1 الجرح والتعديل مج 1/ 27. 2 ميزان الاعتدال 1/ 395. 3 ميزان الاعتدال 3/ 90 - 92 تقدمة المعرفة ص 236. 4 الجرح والتعديل 1/ 27.

يجد الحديث بخطه، لا يحفظه، فقال: "كان أبو حنيفة يقول: لا يحدث إلا بما يعرف ويحفظ، قال يحيى: وأما نحن فنقول: إنه يحدث بكل شيء، يجده في كتابه بخطه، عرفه، أو لم يعرفه" ويفسر الخطيب المعرفة هنا بالحفظ1. الكتاب ودوره في ضبط الأحاديث وحفظها: 292- والحقيقة أن الكتاب لعب دورًا هامًّا في توثيق الأحاديث وإعانة العلماء على حفظ مروياتهم من غفلة ذاكرتهم، وعلى حفظ مروياتهم أيضًا من أن تتهم عند ما يخالفهم فيها غيرهم، ولهذا كان هو المرجع والفيصل في كثير من حالات اختلاف الرواة؛ يقول أحمد بن سنان الواسطي: سألت عبد الرحمن بن مهدي، وهو يحدثنا بأحاديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، فمن حسنها قلت له: من أبو الأسود هذا يا أبا سعيد؟. قال: هذا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ربيب عمرو أخو هشام بن عروة من الرضاعة وهو الذي يقول: وحدثني أخي محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن أبي قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، قالوا فيهم بالرأي، فضلوا، وأضلوا: فقلت: قد كتبته يا أبا سعيد، وليس هو هكذا، فقال: بلى: أخرج إلى أبو أسامة كتابه، وهو هكذا. قال أحمد بن سنان: وكنت كتبته عن أبي أسامة بالكوفة، قبل أن أنحدر إلى البصرة، فلما قدمت واسطًا لم يكن لي همة إلا أن أنظر في كتابي، فنظرت فإذا الحديث قد أملي علينا: "عن هشام عن أبيه" تامًّا، لما أتمه قال هشام: أخبرني من سمع أبي يقول: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا"، حتى ذكر الحديث بتمامه. فمن هذه القصة نرى أن الفيصل عند عبد الرحمن بن مهدي وابن سنان إنما هو الكتاب، كل منهما يحتكم إليه2. 293- والقصة التالية شبيهة بهذه في الاحتكام إلى الكتاب، والاطمئنان إلى ما فيه، والرجوع إليه عند ما تخون الذاكرة، فتحدث بما يخالف ما فيه:

_ 1 الكفاية هـ: ص231. 2 تقدمه المعرفة ص254، 255.

قال نوح بن حبيب: حضرنا عبد الرحمن بن مهدي فحدثنا عن سفيان عن منصور، عن أبي الضحى، في قوله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، فقال له رجل حضر معنا: يا أبا سعيد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، قال: فسكت عبد الرحمن، وقال: حافظان، ثم قال: دعوه، قال نوح: ثم أتوا يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبد الرحمن بن مهدي حدث بهذا الحديث عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، فأخبر أنك تخالفه ويخالفه وكيع، أمسك عنه، وقال: حافظان. قال: فدخل يحيى بن سعيد ففتش كتبه، فخرج، وقال: هو كما قال عبد الرحمن، عن سفيان عن منصور، قال نوح: فأخبر وكيع ... فقال: لا ينبغي أن يقبل الكذب علينا، قال: ثم نظر وكيع، فقال: هو كما قال عبد الرحمن، اجعلوه عن منصور1. 294- ويقول عبد الله بن المبارك مبينًا قيمة الكتاب في الفصل بين اختلاف الرواة: إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر "193هـ" حكم فيما بينهم2. ولجأ ابن جريج إلى كتابه، فأخرجه لهم عند ما أنكروا عليه حديثًا من أحاديثه عن أبي جعفر محمد بن علي قائلًا: ها أخبرني أبو جعفر محمد بن علي3. 395- وحتى يكون الكتاب جديرًا بحفظ الأحاديث وعدم التغيير أو التحريف فيها رأى بعض العلماء في القرن الثاني الهجري أن يكون الراوي على ذكر دائم بالأحاديث التي دونها فيه حتى لا يقع فيه تحريف أو تبديل، فيحدث بما ليس من مسموعاته، فيكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يدري، فإن شك في شيء من هذا أنه سمعه طرحه ولا يحدث به، حتى وإن كان في كتابه الذي عنده؛ لأنه ربما كتب الحديث للسماع، ولكنه

_ 1 تقدمة المعرفة ص 255. 2 المصدر السابق ص271 - طبقات الحفاظ، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي 911هـ تحقيق علي محمد عمر -مكتبة وهبة- الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م. ص125. 3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 113.

لم يمكنه ذلك، وحكى أبو عبد الله المحاملي ذلك عن أبي حنيفة وبعض الشافعية1 قال يحيى بن معين: أتينا حاتم بن إسماعيل بشيء من حديث عبيد الله بن عمر، فلما قرأ حديثًا قال: أستغفر الله، كتبت عن عبيد الله كتابًا، فشككت في حديث منها، فلست أجد عنه قليلًا ولا كثيرًا2، واكتفى بعضهم بأن يتأكد من أن الكتاب هو كتابه، وأن ما فيه من خطه، يقول عبد الرحمن مهدي: إن الرقعة تقع في يدي من حديثي، ولولا أنها بخطي لم أحدث منها بشيء ... قال: ومن شروط صحة الرواية من الكتابة أن يكون سماع الراوي ثابتًا وكتابه متقنًا. وحكى المحاملي هذا عن أكثر الشافعية ومحمد بن الحسن وأبي يوسف، ويبين القاضي عياض أن الخلاف في هذا "مبني على الخلاف في شهادة الإنسان على خطه بالشهادة إذا لم يذكرها"3. 296- ويجب على صاحب الكتاب أيضًا أن يحتفظ بكتابه، ويصونه عنده، كما يصون الحديث في ذاكرته، حتى لا يدخله ريب ولا شك أنه ليس كما سمعه؛ ولهذا منع حماد بن زيد كتابه عن ابن المبارك، ولم يرض إلا بأن ينسخه في حضرته4، وسمع ابن المبارك حديثًا من شعبة هو وغندر، فباتت الصحيفة التي دون فيها هذا الحديث عند غندر، فحدث به عن غندر عن شعبة، ولم يحدث به عن شعبة، لأنه لم يحتفظ بكتابه عنده5. 297- فإن خرج الكتاب من يد المحدث وعاد إليه، فقد توقف بعض العلماء عن جواز الحديث عنه، على حين رأى بعضهم أنه لا مانع من التحديث إذا لم ير فيه أثر تغيير حادث من زيادة أو نقصان أو تبديل، وسكنت نفسه إلى سلامته. وعلى هذا يحمل قول يحيى بن سعيد، وقد سأله أحد الرواة: "ضاع مني كتاب يونس والجريري، فوجدتهما بعد أربعين سنة أحدث بهما؟ أجاب يحيى: وما بأس بذلك؟ 6.

_ 1 الإلماع إلى معرفة أصول الرواية أو تقييد السماع: أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي تحقيق السيد أحمد صقر. مكتبة التراث - الطبعة الأولى 1389هـ - 1970م - ص139. 2 الكفاية "م" ص347. 3 الإلماع ص 139. 4، 5 الكفاية هـ ص 235. 6 الكفاية ص 348 - 349.

298- ولم يعتمد بعضهم كتاب البصير الأمي والضرير اللذين لم يحفظا من المحدث ما سمعاه منه لكنه كتب لهما، وممن رأى ذلك الإمام أحمد وأبو معاوية الضرير، ويحيى بن معين، والعلة في هذا -كما يقول الخطيب البغدادي- أنه لا يسلم من الزيادة لهما في الكتاب أو التحريف فيه1، وأجاز ذلك بعضهم إذا وثق الضرير بالملقن له، وممن أجاز ذلك علي بن المديني2. 299- وإذا وجد الرجل سماعه في كتاب غيره جاز له أن يأخذه عندما يتأكد أنه لم يزد في هذه الأحاديث ولم ينقص، وممن قال بذلك الإمام أحمد بن حنبل3. والمهم في هذا كله أن يكون متحققًا بما يحدث به حتى لا يكون محدثًا بالظن والظن أكذب الحديث. 300- ومن أجل هذا الدور الكبير في حفظ المرويات رأينا أئمة الحديث يهتمون ببحث كتب الرواة وتوثيقها والحكم بصحتها أو عدم صحتها وكانوا يكتفون بذلك عن النص على توثيق الراوي نفسه: ومن أمثلة ذلك ما يقوله علي بن المديني: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن يونس الأيلي، قال: كان ابن المبارك، يقول: كتابه صحيح. قال عبد الرحمن: وأنا أقول: كتابه صحيح4. وقال عبد الله بن المبارك: إبراهيم بن طهمان والسكري يعني أبا حمزة صحيحا الكتب 5، ويقول الأوزاعي: عليكم بكتب الوليد بن مزيد البيروتي، فإنها صحيحة، ما عرض علي كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد6. 301- وهذا ما كان يدفع بعضهم إلى إصلاح كتابه بعد أن يسمع من الشيخ7، وإلى الاستعانة بغيره؛ كي يصلح له كتابه، حتى إذا حدث له

_ 1، 2 المصدر السابق ص 338 - 339 و378. 3 المصدر السابق ص 347. 4، 5 تقدمة المعرفة ص272 و270. 6 تقدمة المعرفة ص205. 7 العلل ومعرفة الرجال 1/ 381.

يتهم؛ لأن كتابه غير صحيح أو فيه أخطاء، ويؤدي هذا الحكم بطيبعة الحال إلى تضعيفه، قال الإمام أحمد: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي في عبد الوهاب الخفاف، سمعته يقول: لما أراد الخفاف أن يحدثهم بحديث هشام الدستوائي أعطاني كتابه، فقال لي: انظر فيه فنظرت فيه، فضربت على أحاديث منها، فحدثهم، فكان صحيح الحديث1. 302- ومن أجل خطورة الكتاب -على النحو الذي رأينا- وجدنا أن بعض الأئمة لا يحب أن تسجل إلا الأحاديث المتقنة؛ لأنها ستنقل إلى الأجيال عبر الكتاب، إذن فلا يسجل فيه إلا الأحاديث التي ضبطها الشيخ، يقول يحيى بن سعيد القطان: كان سفيان الثوري إذا حدثني بالحديث، فلم يتقنه قال: لا تكتبه2. 303- وإذا كان الكتاب هو كل زاد المحدث أو معظمه، فقد زاد حرصهم عليه حتى لا يضيع، أو تمتد إليه أيدي السوء، فيذهب ما يضبط به المحدث روايته؛ خاف سفيان الثوري شيئًا فطرح كتبه، فلما أمن أرسل إلى بعض تلاميذه، فأخرجوا هذه الكتب من بئر عميقة كان قد وضعها فيها3. 304- وحرص بعضهم على توثيق مروياته إلى أن تنقل في حياتهم نقلًا صحيحًا. أما إذا ماتوا فقد نقل هذه الكتب إلى من يحرف فيها أو ينسبها لنفسه أو يأخذها من لم يأذن لهم في حياته، ولهذا فقد رأينا سفيان الثوري وغيره يوصون بحرق كتبهم، ومحوها بعد وفاتهم، يقول ابن مطهر: أوصى سفيان إلى عمار بن سيف في كتبه؛ فما كان بحبر فاغسله، وما كان بأنقاس فامحه، فسخنا الماء واستعان بنا، فأخرج كتبًا كثيرة فجعلنا نمحوها ونغسلها4. 305- وكما أعان الكتاب المحدثين على ضبط مروياتهم -على النحو الذي رأينا- أعان النقاد أيضًا على معرفة صدق الراوي أو كذبه، وهل

_ 1 المصدر السابق 1/ 374 - ميزان الأعتدال 2/ 681 - 862. 2 تقدمة المعرفة ص 67. 3، 4 تقدمة المعرفة ص115 و116.

ما خالف فيه الثقات إنما هو شيء من السهو والغلط الذي يعتري معظم الرواة، أو هو الكذب الذي يخفيه بادعائه الظن الطارئ والخطأ غير المتعمد؟ ... عن حسين بن جبان قال: قلتليحيى بن معين: "ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث إن هو رجع عنها، وقال: طننتها، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها علي فقد رجعت عنها؟ ... فقال: لا يكون صدوقًا أبدًا، إنما ذلك لرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء فيرجع عنه، فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا فقلت ليحيى: ما يبرئه؟. قال: يخرج كتابًا عتيقًا فيه هذه الأحاديث فإذا أخرجها في كتاب عتيق، فهو صدوق، فيكون شبه له فيها، وأخطأ ما يخطئ الناس، فيرجع عنها. قلت: فإن قال: هي في نسخة عتيقة وليس أجدها؟. فقال: هو كذاب أبدًا، حتى يجيء بكتابه العتيق، ثم قال: هذا دين لا يحل فيه غير هذا1: 306- وبعد أن طالت وقفتنا مع الكتاب ومع أهمية ضبط الحديث وتوثيقه في القرن الثاني نعود فنكمل الوسائل التي تمكن الراوي من ضبط الأحاديث. 307- 3- بعد التلقي الصحيح للأحاديث وحفظها في الذاكرة أو في الكتاب أو فيهما معًا على الراوي أن يتعهد هذه المرويات فيما بين أخذها وروايتها، وذلك يكون بأمور ثلاثة: الأمر الأول: عرضها على النقاد الفاهمين علل الحديث، والمميزين صحيحة من سقيمه، حتى يبينوا أمر ما يحمل، فلا يكون كحاطب ليل، قال حسين بن عياش: كنا نأتي سفيان بالعشي، فنعرض عليه ما سمعنا -من محدث سماه- فيقول: هذا من حديثه، وليس هذا من حديثه2. ويقول الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الزيف على الصيارفة، فما عرفوا

_ 1 الكفاية م ص192. 2 تقدمة المعرفة ص 70.

أخذنا، وما تركوا تركنا1. ولم يكتف بعضهم بأن يعرض الحديث على أئمته، وإنما عرضه على أهل البصر باللغة ليضبطوا ألفاظه، يقول عبد الله بن المبارك: إذا سمعتم عني الحديث فاعرضوه على أصحاب العربية، ثم أحكموه وكان الأوزاعي يفعل ذلك ويعطي كتبه إذا كان فيها لحن لمن يصلحها2. الأمر الثاني: مذاكرتها دائمًا حتى تزداد معرفته بها ولا تشرد عنه، قال حماد بن زيد: كنا نخرج من عند أيوب وهشام الدستوائي، فيقول لنا هشام: هاتوها قبل أن تبرد، فنقعد فنتذاكرها بيننا3. ويقول أبو نعيم: لا ينبغي أن يؤخذ الحديث إلا عن ثلاثة: حافظ أمين له، عارف بالرجال، ثم يأخذ نفسه بدرسه وتكريره، حتى يستقر له حفظه4، ويقول جرير بن عبد الحميد: كنا نتذاكر بيننا، ويصحح بعضنا من بعض5، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: إحياء الحديث مذاكراته، وقال مثل ذلك علقمة6. الأمر الثالث: التأمل في هذه المرويات بحيث يصل إلى فهمها وفقهها؛ لأنه إذا حملها دون فهم ربما أدى هذا إلى عدم ضبطها واستقرارها في ذهنه فيؤديها أداء غير صحيح، وهذا هو السر في قول الإمام مالك: "ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء"7. وسأل وكيع بعض أصحابه: أي الإسنادين أحب إليكم: "الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله"، أو "سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله"؟ فقال: "الأعمش، عن أبي وائل" فقال: "يا سبحان الله!، الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه،

_ 1 الجرح والتعديل مج 1/ 20 - 21. 2 الكفاية م ص 374. 3 تقدمة المعرفة ص183. 4 الكفاية م ص 256. 5 الجرح والتعديل مج 2 ق 1/ 2080. 6 المحدث الفاصل "المخطوطة" ص 359. 7 ترتيب المدارك 1/ 125.

ومنصور فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه. وحديث يتداوله الفقهاء خير من أن يتداوله الشيوخ1. 308- إن الراوي إذا اتبع هذه الوسائل من تلق صحيح، وحفظ متقن، وتعاهد لهذا الحفظ، فإنه -مما لا شك فيه- سيثبت فيما يرويه، وعلامة تثبته عدم الشك فيما يحمله ويؤديه، فإن شك في الحديث تركه، قال الشافعي: كان مالك إذا شك في شيء من الحديث تركه كله2. وقد مر موقف حاتم ابن إسماعيل من بعض كتبه التي شك فيها، فتركها كلها3. ويقول يحيى بن معين: من لم يكن سمحًا في الحديث كان كذابًا، قيل له: وكيف يكون سمحًا؟. قال: إذا شك في الحديث تركه، ويقول عبد الرحمن بن مهدي: خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث4. اختبار ضبط الراوي للحديث: 309- كيف تعرف النقاد على ضبط الراوي لحديثه؟ تعرفنا على بعض هذا فيما سبق حينما بينا دور الكتاب في توثيق الأحاديث وغير هذا تعرف النقاد على مقدار ضبط الراوي بوسائل أهمها: 1- مقارنة رواياته بروايات الثقات المشهورين بالضبط والإتقان، فإن كانت رواياته موافقة لرواياتهم تمامًا أو في الأغلب، فهو ضابط ثبت في مروياته وأحاديثه -تبعًا لذلك- صحيحة إذا انضمت إلى ضبطه عدالته، ويحتج بحديثه؛ لأنه بهذه الحالة قد أمن من أن ينسى أو يخطئ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم5. 310- ولقد قام أئمة الحديث بمقارنة مرويات الراوي بمرويات غيره

_ 1 معرفة علوم الحديث ص11. 2 الكفاية م ص 346. 3 الكفاية م ص347. وص 166 من هذا الكتاب. 4 المصدر السابق م ص 245. 5 مقدمة ابن الصلاح على التقييد والإيضاح 138.

للوقوف على مدى ضبطه خير قيام، وقد وصلوا من ذلك إلى من هو أثبت في الرواية عن آخر، أو في شيخ معين، أو في بلد معين، أو دون تحديد حتى يمكنهم من ذلك الأخذ بروايات الأتقن منهم لحديثه وترك ما خالفه ... قال علي بن المديني: إن الأعمش أثبت في أبي صالح من غيره، ومن أجل هذا يرجح حديثه عن أبي صالح إذا خالفه في غيره، ومن هذا حديث يصف ما كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف الصحابين الجليلين. وقد روى هذا الحديث عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد1. وقال علي بن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقن من بن عيينة ويقول يحيى بن سعيد القطان في ابن عيينة شبيهًا بهذا، وإن كان يقارن بينه وبين تلميذ واحد من تلاميذ الزهري، وهو معمر بن راشد الصنعاني يقول: "سفيان بن عيينة أحب إلي في الزهري من معمر2. ويقول يحيى بن معين: "إن سفيان بن عيينة أثبت من محمد بن سلم الطائفي وأوثق منه، وهو أثبت من داود العطار في عمرو بن دينار3 ويقول ابن عيينة كان ابن طاوس أحفظ عندنا من غيره، قيل له: أين كان حفظ إبراهيم بن ميسرة عن طاوس من حفظ ابن طاوس؟ قال: لو شئت قلت لك: أين أقدم إبراهيم عليه في الحفظ فعلنا4، ويحث شعبة بن الحجاج معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد القطان أن يسمعا من عبد الوارث بن سعيد؛ لأنه أحفظ لحديث أبي التياح منه، فذهبا وسألاه عن هذه الأحاديث فجعل يمرها، كأنها مكتوبة في قلبه5 ويرى ابن معين أن الثوري أعلم المحدثين بأحاديث الأعمش وأبي إسحاق ومنصور6 ... وأن يحيى بن سعيد أثبت في شيوخ البصريين7.

_ 1 انظر فتح الباري على صحيح البخاري ففيه كلام طويل على هذا الحديث 7 - 34 - 36 المطبعة السلفية. 2 تقدمة المعرفة ص51، 52. 3 المرجع السابق ص 52. 4 تقدمة المعرفة ص 48. 5 المصدر السابق. 6 المصدر السابق 136. 7 المصدر السابق ص247.

ويرى علي بن المديني أن ليس أحد أثبت في ابن سيرين من أيوب وابن عون إذا اختلفا وأيوب أثبت ... وهشام أثبت من خالد الحذاء في ابن سيرين وكلهم ثبت1 ... ويونس أثبت في الحسن من ابن عون ... ويزيد ابن هارون أثبت في الحسن وابن سيرين2 ... ... وهو يرى أيضًا أن يحيى القطان أوثق أصحاب الثوري3، وكان وهيب يقدم سفيان الثوري في الحفظ على مالك4. 311- والذي نلاحظه أنهم في تفضيلهم هذا على ذلك إنما يبتغون به وجه الله تعالى وتوثيق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مما يزيدنا ثقة في نزاهة أحكامهم، واطمئنانًا إلى صفاء ذلك المنهل العذب الذي نستقي منه أدلة التشريع بعد كتاب الله عز وجل، فهذا شعبة بن الحجاج يفضل سفيان الثوري على نفسه، فيقول: إذا خالفني سفيان في حديث، فالحديث حديثه، ويفضل هشام الدستوائي على نفسه أيضًا في الحفظ عن قتادة5 ... وهذا يحيى بن سعيد القطان لا يحب أحدًا مثل ما يحب شعبة ... لكن هذا الحب الكبير لا يمنعه أن يفضل غيره عليه؛ لأن الأمر أمر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فوق هذا بكثير، يقول: ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان6. 312- وقد غرست هذه المقارنات في القرن الثاني الهجري بذور وضع الرواة على درجات، أهم ما يراعي فيها مقدار ضبط الراوي، وتثبته فيما يرويه، وأهم هذه البذور ما يروى عن عبد الرحمن بن مهدي؛ فقد رتب الرواة الذين يحتج بهم والذين لا يحتج بهم وبأحاديثهم. قال:

_ 1 المصدر السابق ص68، 69. 2 المصدر السابق نفسه. 3 المصدر السابق ص247. 4 المصدر السابق ص63. 5 تقدمة المعرفة ص155. 6 المصدر السابق ص63.

1- احفظ عن الرجل الحافظ المتقن ... فهذا لا يختلف فيه. 2- وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه، لو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس. 3- وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك - يعني لا يحتج بحديثه1. كما نلمح شيئًا من ذلك في كلام علي بن المديني: 1- "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة ... 2- "ثم بعد سليمان بن المغيرة ... 3- "ثم بعده حماد بن زيد، وهي صحاح ... 4- "وروي عنه حميد شيئًا. 5- "فأما جعفر، فأكثر عن ثابت، وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير". إن هذا هو أساس وضع الرواة على مراتب أو في درجات تبين الأثبت فالأثبت، ومن يحتج بأحاديثهم ومن هم غير ذلك ... وقد بني على هذا الأساس من جاء بعد القرن الثاني الهجري ابتداء من ابن أبي حاتم الرازي2. 313- وكما وضعوا أساس ترتيب الرواة وبذوره وضعوا أيضًا بعض المصطلحات والألفاظ التي تضع الراوي في مرتبته اللائقة به من حيث ضبطه وعدالته، ويكتفىبإطلاق مصطلح من المصطلحات هذه لبيان مدى ضبطه ومقدار حفظه وعدالته، وكل الأئمة قد أسهم تقريبًا في هذا المجال. أطلقوا -مثلًا- على أعلى درجات الضبط والعدالة من الألفاظ: "ثقة" أو "ثبت" مكررًا أو لفظ "حجة" أو "إمام"؛ قال سفيان بن عيينة في عمرو بن دينار: "ثقة"وكررها أكثر من مرة ليبين أنه في على درجات

_ 1 الجرح والتعديل مج1 ص38. 2 عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأثره في علوم الحديث ص238- 266.

من يوثق بهم، وقال ابن سعد في شعبة بن الحجاج: "ثقة مأمون ثبت حجة صاحب حديث"1. ويفسر الإمام أحمد معنى كلمة "ثبت" بأن الراوي لا يكاد يخطئ في حديثه؛ أي ضبطه قريب جدًّا من الكمال2. وما كان أقل من ذلك أطلق عليه لفظ "ثقة" أو "ثبت" منفردًا يقول يحيى بن معين في محمد بن إسحاق: "ثقة وليس بحجة"3. وما كان أقل من ذلك درجة أطلقوا عليه لفظ "مأمون" أو "خيار" أو "صدوق" أو "صالح الحديث" أو "لا بأس به"، قال الإمام أحمد بن حنبل في أبي قتادة الحراني: "ما كان به بأس" وفسر هذا بقوله: "رجل صالح يشبه أهل النسك والخير إلا أنه كان ربما أخطأ4. وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: أكان خالد بن دينار ثقة؟. فقال: كان صدوقًا كان مأمونًا، كان خيارًا، الثقة شعبة5 وسفيان ... ويفسر أحمد بن سنان معنى مصطلح "صالح الحديث" عند ابن مهدي، فيقول: ربما جرى ذكر الرجل فيه ضعف -يعني من ناحية ضبطه- وهو صدوق، فيقول: "صالح الحديث"6، ويقول السخاوي: إنه هو والوصف "بصدوق" عند ابن مهدي سواء7. وحكى المروزي قال: قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ قال: تدري من الثقة؟ الثقة يحيى بن سعيد القطان8.

_ 1 فتح المغيث 1/ 336. 2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 122. 3 فتح المغيث 14/ 238. 4 العلل ومعرفة الرجال 1/ 36. 5 الجرح والتعديل مج1 ق 2/ 1471. 6 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص159. 7 فتح المغيث 1/ 239. 8 المصدر السابق 1/ 342.

وهذه المصطلحات كلها للتعديل وإن تفاوتت. 314- أما ألفاظ التجريح فمما أثر منها في القرن الثاني الهجري قولهم: "من أكذب الناس" أطلقها أحمد بن حنبل على أحمد بن أخت عبد الرزاق الصنعاني1 و"كذاب" أطلقه يحيى بن معين في جبارة بن المغلس. و"متروك الحديث" و"ليس بشيء" لمن يترك حديثه عند أحمد بن حنبل2 وكذلك الأمر عند الإمام الشافعي الذي قال لتلميذه المزني: يا إبراهيم، اكس ألفاظك أحسنها، لا تقل فلان "كذاب"، ولكن قل "حديثه ليس بشيء"3. وكان يحيى بن معين يستعمل هذا المصطلح "ليس بشيء" في الراوي الذي هو أقل درجة من الاتهام بالكذب، فقد قال عن راو: إنه "ثقة" وأنه أمي يذكر بخير، ولكنه في حديث الزهري "ليس بشيء"4. ويبدو أنه يطلقها على من يرى حديثًا قليلًا5 وعلى من يروي الأحاديث الضعيفة كالمقلوبة مثلًا، فقد قال في أحد الرواة: كان يقلب حديث ابن المبارك، والحديث الذي يأخذه من مشايخه، وينسب ذلك كله إلى نفسه6. وأخف من هذا قولهم: "ضعيف"، يقول أحمد بن صالح المصري "170- 248هـ": "لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه ... قد يقال فلان ضعيف، أما أن يقال فلان "متروك" فلا، إلا أن يجمع الجمع على ترك حديثه7.

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 96. 2 المصدر السابق 1/ 56، 122، 178، 274. 3 فتح المغيث 1/ 245. 4 الجرح والتعديل مج أق 1/ 1932. 5 فتح المغيث 1/ 345. 6 الجرح والتعديل مج أق 1/ 891. 7 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص160 - فتح المغيث 1/ 244.

وأخف مكن هذه "ليس هو بالقوي"، "وليس هو بذاك"، يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن فرقد السبخي، فقال: "ليس هو بالقوي "قلت: هو ضعيف؟ قال: ليس هو بذلك، وسألته عن هشام ابن حجير. قال: ليس هو بالقوي، قلت هو ضعيف قال: ليس هو بذاك1. ويلاحظ أنه ليس هناك معنى للمصطلحات هذه محدد عند هؤلاء الأئمة، يتفقون عليه، فقد رأينا كيف أن يحيى بن معين يستعمل "ليس بشيء"، في جرح أخف من استعمال الشافعي وأحمد لها، كما يؤثر عنه أنه يستعمل "لا بأس به" بمعنى ثقة على حين يستعملها الآخرون فيمن هو أقل من الثقة كما رأينا2. 315- ولهذا فأكرر ما دعوت إليه في رسالتي للماجستير، وهو دراسة هذه الألفاظ دراسة محيطة مستوعبة لمعانيها عند كل إمام3، حتى يمكن أن ندرك معنى المصطلحات عند كل إمام على حدة؛ لأنني أظن أن هناك قدرًا كبيرًا من اختلافهم إنما هو راجع إلى اختلافهم في استعمال هذه المصطلحات، وإن كانت أسس توثيق الراوي عند هؤلاء الأئمة واحدة في معظمها، كما سبق أن رأينا. 316- وإذا كان الأمر هنا لا يتسع لذلك، فإنه يتبين لنا -مما عرضناه- أن أئمة الجرح والتعديل في القرن الثاني الهجري كانت لهم معرفة واعية بالرواة من حيث ضبطهم وعدالتهم، هذه المعرفة الواعية جعلتهم يضعونهم في درجات ... ووضعوا لها المصطلحات التي تجعل الناقد يقف على مقدار الثقة بالراوي في سهولة ويسر، ودون عناء أو تعب في إحصاء مروياته وفحصها، ثم الحكم على الحديث بعد ذلك بالصحة أو الخطأ.

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 123. 2 تدريب الراوي 1/ 344 وفيه تفسير للعراقي يرى فيه أن "لا بأس به" عند ابن معين ليست كقوله: "ثقة". 3 عبد الرحمن بن أبي حاتم وأثره في علوم الحديث ص265.

317- 2- وكما يعرفون ضبط الراوي بمقارنة روايته برواية غيره من المشهورين بالضبط يعرفونه أيضًا بملاحظة مرات روايته للحديث الواحد: هل يثبت على حالة واحدة أم يضطرب ويغير ويبدل في تلك المرات؟. 318- وكان بعض الأئمة في القرن الثاني يتعمدون ذلك للكشف عن ضبط الراوي وحفظه، يقول الإمام مالك رضي الله عنه: أتيت زيد بن أسلم، فسمعت حديث عمر "أنه حمل على فرس في سبيل الله" فاختلفت إليه أيامًا، أسأله عنه، فيحدثني، لعله يدخله فيه شك أو معنى فأترك؛ لأنه ممن شغله الزهد عن الحديث1. ويقول شعبة بن الحجاج: سمعت من طلحة بن مصرف حديثًا واحدًا، وكنت كلما مررت به سألته عنه، فقيل له: لم يا أبا بسطام؟ قال: أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غير شيئًا تركته2 وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان إذا رأى الرجل يحدث عن حفظه مرة هكذا ومرة هكذا ولا يثبت مع رواية واحدة تركه3. 319- وإذا كانت ذاكرة الإنسان قد تتغير؛ لمرض أو لكبر، فإنهم استمروا في ملاحظة رواية الراوي، وخاصة بعد أن يكبر. وقد وجدوا الكثيرين من الرواة يتغير ضبطهم وحفظهم في الكبر، فغيروا في رواياتهم. ومن هنا تركوهم، وميزوا بين رواياتهم القديمة في حال ضبطهم فأخذوها وبين رواياتهم في حال الاختلاط فتركوها، يقول عبد الله بن أحمد: قال أبي: من سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه جيد، ومن سمع بعد الهزيمة "هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عام 145 هـ" كأن أبي

_ 1 ترتيب المدارك 1/ 124. 2 الكفاية م ص 185. 3 سنن الترمذي بشرح ابن العربي 13/ 315.

ضعفهم، فقلت له: كان سعيد اختلط؟ قال: نعم1. ويقول: من سمع منه بالكوفة مثل محمد بن بشر وعبدة فهو جيد، ثم قال: قدم سعيد الكوفة مرتين قبل الهزيمة، ويرى الإمام أحمد أن سماع وكيع من المسعودي بالكوفة كان قديمًا، وأبي نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة، والكوفة فسماعه جيد2. وقد ترك رواية معاذ بن العنبري "196هـ"؛ لأنه رآه قد تغير حفظه3. 320- وكذلك من يقبل التلقين لأنه كبر، فرواياته قبل الكبر تقبل، وفي أثنائه يرفض ما لقن فيه: قال عبد الله بن الزبير الحميدي: "ومن قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم ذلك التلقين حادثًا في حفظه لا يعرف به قديمًا. أما من عرف به قديمًا في جميع حديثه فلا يقبل حديثه، ولا يؤمن أن يكون ما حفظه مما لقن4. وإذا كان هذا هو ما يتيح للنقاد معرفة ضبط الراوي، فقد اشترطوا أن يكون الراوي مشهورًا بطلب الحديث، أي: عنده من المرويات ما يتيح لهم معرفة ضبطه وحفظه وإتقانه، يقول شعبة بن الحجاج: "خذوا العلم من المشتهرين"، ويقول عبد الله بن عون: "لا نكتب العلم إلا ممن كان معروفًان عندنا بالطلب"، ويقول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: لايؤخذ العلم إلا عمن شهد له بطلب الحديث. ويقول أبو الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم العلم، كان يقال ليس هم من أهله5.

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 19 وكان إبراهيم من العلويين الذين خرجوا على الخلافة العباسية "انظر تاريخ الطبري جـ3 ص622 وما بعدها". طبعة دار المعارف بمصر. 2المصدر السابق 1/ 95. 3 الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة د. عبد الحليم محمود. مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ص196. 4 الكفاية م ص 235. 5 الكفاية م ص 251 - 252.

321- ويبين الإمام ابن حجر: أن المقصود من هذا الشرط أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية لتركن النفس إلى كونه ضبط ما روى1. 322- 3- ومن وسائل معرفة ضبط الراوي وتثبته فيما يرويه تلقينه أحاديث ليست من مروياته، حتى يعرف: هل يرفضها؛ لأنه على دراية تامة بما يرويه أم يقبلها؛ لأن الأمر مختلط عليه؛ فلا يدري هذا من ذاك؟ وعندئذ يكون هناك دليل على عدم ضبطه2، ومثل هذا الذي يقبل التلقين يكون هدفًا للوضاعين يلقنونه أحاديث فيحدث بها على أنها من مروياته التي سمعها من شيوخه وفي هذا من الخطورة على الحديث ما فيه. ويقدم لنا الإمام الشافعي مثلًا من أمثلة قبول الراوي للتلقين، فيؤدي هذا إلى مخالفة حديثه لحديث أحد عشر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: "رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين"3. قال الشافعي: فخالفنا بعض الناس في رفع اليدين في الصلاة، فقال: إذا افتتح الصلاة رفع يديه، حتى يحاذي أذنيه، ثم لا يعود لرفعهما في شيء من الصلاة واحتج بحديث يزيد بن أبي زياد، أخبرنا سفيان عن يزيد ابن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا افتتح الصلاة رفع يديه "قال سفيان: ثم قدمت الكوفة، فلقيت يزيد بها، فسمعته يحدث بهذا وزاد فيه: "ثم لا يعود"

_ 1 تدريب الراوي 2/ 69 - 70. 2 الكفاية م ص 235. 3 انظر في مواطن رفع اليدين الأحاديث والآثار التي وردت فيها في: نصب الراية لأحاديث الهداية: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي "762 هـ"تحقيق المجلس العلمي بدابهيل - سورت "الهند" الطبعة الأولى: 1357هـ - 1938م. نشر المجلس العلمي المذكور 1/ 389 - 418.

وظننت أنهم لقنوه، ثم بين الشافعي بعد ذلك أن في هذه الزيادة مخالفة لما قاله كثير من الصحابة كما قلنا1. 323- ومن صور التلقين ونتائجه الخطيرة ما يحكيه يزيد بن هارون، قال: كان عندنا شيخ بواسط يحدث بحديث واحد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، فخدعه بعض أصحاب الحديث فاشترى له كتابًا من السوق في أوله "حدثنا شريك"، وفي آخره: أصحاب شريك الأعمش، ومنصور، وهؤلاء. فجعل يحدث يقول: "حدثنا منصور وحدثنا الأعمش"فقيل له: أين لقيت هؤلاء؟ فأخذ كتابه، فقيل: لعلك سمعت هذا من شريك، قال الشيخ: حتى أقول لكم الصدق، سمعت هذا "من أنس بن مالك عن شريك"2 فالتلقين كما يكون في الذاكرة يكون في الكتاب. 324- والتلقين يؤدي إلى الكذب الذي قد يحل الحرام، فعن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ، يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس يرد إلى واحدة"، فأتيته فقرعت الباب عليه، فخرج إليّ شيخ، فقلت له: كيف سمعت من علي ابن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد؟ ... قال: سمعت علي بن أبي طالب "فإنه يرد إلى واحدة". فقلت له: إني سمعت هذا من علي، فأخرج إلي كتابه، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم" هذا ما سمعت من علي بن أبي طالب، يقول: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. قلت: ويحك هذا غير الذي تقول؟ ... قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك3. 325- ويبين الإمام ابن حزم السبب في عدم قبول العلماء للذي يلقن، فيقبل التلقين، ودلالته على عدم ضبط الراوي فيقول: "ومن صح أنه قبل

_ 1 اختلاف الحديث ص 211 - 214 على هامش الجزء السابع من كتاب الأم. 2 الكفاية "م" ص 236. 3 المصدر السابق ص 236.

التلقين ولو مرة سقط حديثه كله؛ لأنه لم يتفقه في دين الله عز وجل، ولا حفظ ما سمع، وقد قال عليه السلام: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا حفظه حتى بلغه غيره". فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ، والتلقين هو أن يقول له القائل: حدثك فلان بكذا، ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه، فيقول: نعم فهذا لا يخلو من أحد وجهين، ولا بد من أحدهما ضرورة: إما أن يكون فاسقًا يحدث بما لم يسمع أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل، المدخول الذهن، ومثل هذا لا يلتفت له، لأنه ليس من ذوي الألباب. ومن هذا النوع كان سماك بن حرب، أخبر بأنه شاهد ذلك منه الإمام الرئيس بن الحجاج"1. فالتلقين كما نرى من كلام ابن حزم يكون وسيلة من وسائل اختبار عدالة الراوي كما يكون وسيلة لاختبار ضبطه كما عرفنا. 326- وبعد؛ فلعلنا على ثقة من أن علماء القرن الثاني بما وضعوا من أسس لتوثيق الراوي من حيث دينه، وعقله، وعدالته وضبطه قد وضعوا السياج المحكم الذي لا تنفذ إلى داخله، روايات غير المؤمنين العقلاء الأمناء الضابطين بما فيها من خطأ أو وضع. ومع هذا قد وضعوا أسسًا أخرى منها ما يتعلق بمناهج تلقي الحديث وأدائه، وهو ما نتناوله في الفصل التالي -بعون من الله عز وجل وفضل منه.

_ 1 الإحكام لابن حزم 1/ 127.

الفصل الثالث: مناهج تلقي الحديث وأدائه

الفصل الثالث: مناهج تلقي الحديث وأدائه السماع ومصطلحات الأداء عنه ... الفصل الثالث: مناهج تلقي الحديث وأدائه 327- لتلقي الحديث وأدائه أهمية كبيرة عند نقاد الحديث، وقد وضعوا مقاييس محددة في هذا المجال، يمكن بها الحكم على رواية الحديث بأنها صحيحة أو غير صحيحة. والهدف من تلك الأسس في الدرجة الأولى توجيه الراوي إلى أن يسلك في تلقي الحديث وأدائه مسلكًا يحفظ به حديثه من التبديل والتغيير أو بعبارة أخرى وضع الضمانات التي تجعل الراوي موصلًا جيدًا -إن صح هذا التعبير- بين شيخه الذي أخذ منه الحديث وتلميذه الذي يروي له الحديث. 328- وضروب تلقي الحديث مختلفة، والألفاظ التي يؤدي بها الراوي مختلفة كذلك، فالراوي قد يسمع الأحاديث من شيخه، وقد وقد يقرؤها عليه وقد يكتب الشيخ إليه ما عنده من أحاديث أو يناوله إياها، أو يجيزها له، أو يوصي له بها، أو يعلمه بها، وكل من هذه الضروب له ألفاظ ينبغي أن يلتزم بها عند الأداء، وإلا اعتبر غير صادق في روايته. ويهمنا هنا أن نعرض آراء أئمة أهل القرن الثاني الهجري في دور كل وجه من هذه الأوجه في توثيق الحديث أو عدم توثيقه. 1- السماع ومصطلحات الأداء عنه: 329- وهو أن يقرأ الشيخ ما عنده من الأحاديث على تلاميذه فيسمعوا منه، وله أكثر من صورة، فقد يكون الشيخ محدثًا من حفظه، وقد يكون قارئًا من كتابه، وقد يكون ممليًا على تلاميذه1. 230- والإملاء أعلى هذه الصور منزلة، وتوثيقًا للأحاديث؛ لأن الشيخ والتلميذ يكونان معًا أبعد عن الغفلة، فالشيخ مشتغل بالتحديث والإملاء من الكتاب والطالب مشتغل بالكتابة عنه، فهما بذلك أقرب إلى التحقيق وتبيين ألفاظ الحديث التي يمليها الشيخ، ويكتبها التلميذ. وقد جرت

_ 1 الإلماع ص 69.

العادة في هذه الصورة أن تكون هناك مقابلة بين الأصل والكتاب بعد انتهاء السماع؛ لتصحيح خطأ أو تأكيد للصواب1. 331- وكثير من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نقل بهذا الضرب من ضروب التلقي. وقد أسلفنا أن الصحابة رضوان الله عليهم قد حرصوا على أن يسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أو ممن سمع منه، وكذلك كان التابعون وتابعو التابعين2. 332- وقد كانت لهم القدوة في ذلك من واقع تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد كان يسمعهم ما جاء به من القرآن والسنة، كما حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن تنقل أحاديثه سماعًا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع من يسمع منكم" وروي مثله عن ثابت بن قيس3 ... كما روي زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه كما سمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وروي مثله عن جبير بن مطعم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما4. 333- ولهذا وجدنا معظم المحدثين -في القرن الثاني- يأخذون أحاديثهم بهذا المنهج، يقول أحد تلاميذ يزيد بن هارون: سمعته في المجلس ببغداد، وكان يقال: إن في المجلس سبعين ألفًا5. 334- ويرى شعبة بن الحجاج أن القيمة الحقيقية للأحاديث والتي تستحق أن تؤخذ من شيخه إنما هي تلك التي أخذها الأخير سماعًا، يقول: كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال للحديث "حدثنا" عنيت به فوقفته

_ 1 فتح المغيث 2/ 17 - كشف الأسرار 3/ 760. 2 انظر في تمهيد هذا البحث ص 18 - 19 و52 - 53. 3 شرف أصحاب الحديث ص37 - 38. 4 المصدر السابق ص17 - 19. 5 أدب الإملاء ص16.

عليه، وإذا لم يقل: "حدثنا" لم أعن به1. وكان أحمد بن حنبل يرى ذلك ويفضل أن يأخذ أحاديثه بالسماع دون غيره، يقول: لما خرجت إلى عبد الرزاق أخبروني أن معاذ بن هشام على الطريق، فملت إليه، ومعي ثلاثة ظهور مملوءة من حديثه، فصادفته، فقرأ علي شيئًا، وقال: أنا عليل لا أقدر على أكثر من هذا، ولكن اقرأها علي، فأبيت2. وممن كانوا يؤثرون السماع على غيره كذلك وكيع بن الجراح الذي يفخر ويقول: "ما أخذت حديثًا عرضًا"3 ومحمد بن سلام4 وأبو مسهر الدمشقي وسفيان الثوري5. 335- ويقول القاضي عياض: إنه أرفع درجات أنواع الرواية عند الأكثرين6. وهو كذلك لأنه أبعد عن الخطأ والسهو، فيؤدي إلى المقصود وهو تحمل الحديث بأمانة وبصفة تامة7. 336- ومن أجل ذلك فقد تتبع النقاد الأحاديث التي نقلت سماعًا والتي لم تنقل كذلك حتى تتبين القيمة الحقيقية لها، وقد أورد ابن أبي حاتم في تقدمة المعرفة نقودًا كثيرة تدل على ذلك، سواء أكان هذا النقد متعلقًا بالرواة المعاصرين لهم أو السابقين عليهم: 337- يروى أن شعبة كان يضعف أحاديث أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن حبيب بن سالم، ويقول: "لم يسمع أبو بشر من حبيب بن8 سالم ويقول علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن حديث التيمي عن

_ 1 تقدمة المعرفة ص 169. 2 الكفاية "م" ص 395. 3 تقدمة المعرفة ص 230. 4 الكفاية "م" ص 395. 5 تقدمة المعرفة ص 68 و117. 6 الإلماع ص 69. 7 أصول السرخسي 1/ 375. 8 ص 157.

أنس في القبلة للصائم، فقال: لا شيء، لم يسمعه1. ونفى شعبة بن الحجاج أن يكون بعض التابعين قد سمع من الصحابة2. وكان ابن المبارك يغمز عمر بن هارون في سماعه من جعفر بن محمد، وكان عمر "194 هـ" يروى عنه ستين حديثًا أو نحو ذلك3. 338- ويقول سفيان الثوري عن أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية: إنها كانت من كتاب، ويفسر بن أبي حاتم هذا فيقول: يعني أنها ليست بسماع، وقد وهنها سفيان من أجل ذلك4. ويقول سفيان أيضًا: إن الأعمش لم يسمع حديث إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الضحك في الصلاة5. 339- وكانوا يفتشون في أحاديث كل راو، فيحصون ما سمعه من الشيوخ الذين يروى عنهم وما لم يسمعه منهم، يقول شعبة: لم يسمع الحكم ابن عتيبة من مقسم إلا ستة أحاديث6. ويقول أيضًا: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء، وعدها يحيى بن معين: "قول علي رضي الله عنه: القضاء ثلاثة، وحديث لا صلاة بعد العصر، وحديث يونس بن متى"7. ومثل هذا كثير في كتب نقد الحديث ورواته، ويدلنا على أنهم كانوا يهتمون بأن يكون الحديث مسموعًا، ومنقولًا بالسماع من ناقليه. 340- وحتى يكون السماع جيدًا رأى علماء القرن الثاني أنه لا يجوز إلا لمن يضبط ويعقل ما يسمع، واختلفوا: فبعضهم حدد سنًّا معينة لبدء السماع، وبعضهم رأى من المعتبر من ذلك هو الضبط والعقل، فقد سئل

_ 1 ص 237، ومثل هذا عن يحيى في ص239، 240، 241، 243. 2 ص 129 - 132. 3 ص 273. 4 ص 71، 81، 82. 5 ص 72 وانظر هذا الحديث في نصب الراية 1/ 51، 52. 6 ص 139. 7 ص 127.

أحمد بن حنبل "عن سماع الصغير متى يصح؟ قال: إذا عقل. وسئل عن إسحاق بن إسماعيل، وقيل له: إنهم يذكرون أنه كان صغيرًا، فقال: قد يكون صغيرًا يضبط. قيل له: فالكبير، وهو لا يعرف الحديث. قال: إذا كتب الحديث فلا بأس من يرويه"1، وممن كان يذهب إلى هذا الأوزاعي فهو يقول عن الصغير: "إذا ضبط الإملاء جاز سماعه، وإن كان دون العشر"2. 341- وروى عن يحيى بن معين أنه قال: حد الغلام في كتاب الحديث أربع عشرة سنة أو خمس عشرة3، وحدد يزيد بن هارون بثلاث عشرة سنة. وهما بهذا قد حددوا سن البلوغ أو قريبًا منه. 342- أما الذين أجازوا أن يكون السماع للصغير أقل من ذلك، فقد نظروا إلى الصحابة الذين تحملوا الحديث، وسمعوه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم صغار كالحسن بن علي وعبد الله بن الزبير بن العوام، والنعمان بن بشير وأبو الطفيل الكناني، والسائب بن يزيد، والمسور بن مخرمة ومحمود بن الربيع، فهؤلاء وغيرهم تحملوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قولًا أو فعلًا، وهم صغار جدًّا4. 343- والواقع أن من يجيزون سماع الصبي قبل مرحلة البلوغ أو قريبًا منها قليلون على الرغم من أنهم يحتجون بهؤلاء الصحابة الذين تحملوا الحديث في صغرهم، ويحتجون بفعل بعض الأئمة مثل سفيان بن عيينة الذي سمع من الزهري وهو صغير وفي أذنه قرط، وقال عنه الزهري: ما رأيت طالبًا للعلم أصغر منه5.

_ 1 الكفاية "م:" 114. 2 المصدر السابق "م" 115. 3 المصدر السابق "هـ" ص62. 4 الكفاية "م" ص 105، 107، 111. 5 المحدث الفاصل "المخطوط" ص32.

344- وقد ذهبت الكثرة إلى غير ذلك حتى يكون تحمل الحديث مثل أدائه يشترط فيهما البلوغ - كما رأينا في توثيق الراوي. 345- وأعرضوا عن سماع بعض الصحابة في الصغير؛ لأن سماع بعضهم على هذا النحو إنما هو ضرورة تقدر بقدرها، فهم لا يستطيعون رفض رواية ما عقله الصحابة الصغار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلا فاتهم سماعه من غيرهم. 346- وبعد الصحابة كثر الناقلون للأحاديث. فما عند التابعي من حديث تجده عند غيره. ولهذا يحتج نعيم بن حماد لعدم صحة السماع إلا بعد البلوغ بفعل التابعين، ويقول: "قلما من كان يثبت الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريبًا منه إلا من جاوز حد البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء وسؤالهم ومذاكرتهم"1. وينقد سفيان بن عيينة بعض الروايات والرواة على هذا الأساس فيقول مثلًا: لقد أتى هشام بن حسان عظيمًا بروايته عن الحسن، وقيل لنعيم بن حماد الذي يروي عنه هذا القول: لِمَ؟ قال: لأنه كان صغيرًا2. 347- ولهذا يفسر ذهاب ابن عيينة للزهري وهو صغير على أن ذلك كان للدربة والمران كما يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع سنين مع أنهم غير مكلفين بها إلا بعد البلوغ. وتذكر بعض الروايات، أن سن ابن عيينة يوم أن ذهب إلى الزهري كانت خمس عشرة3، وهي حد البلوغ عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد4. وقد اعتبر في هذه السن صغيرًا بالنسبة إلى غيره من الذين كانوا لا يذهبون إلا المحدثين يسمعون منهم الأحاديث إلا بعد ذلك، ولهذا يقول الرامهرمزي: "وقد دل قول الزهري": ما رأيت طالبًا للعلم أصغر من أبن عيينة" على أن

_ 1، 2 الكفاية م ص 103. 3، 4 المحدث الفاصل "المخطوطة" ص 23، 24.

طلاب الحديث في عصر التابعين كانوا في حدود العشرين، وكذلك يذكر عن أهل الكوفة"1. 348- ومما يدل أيضًا على أنهم كانوا يعتبرون سن الخامسة عشرة سنًّا مبكرة في تلقي الأحاديث قول ابن جريح لوكيع: باكرت العلم، وكان لوكيع ثماني2 عشرة سنة. 349- وكان رأيهم في ذلك أن يتفرغ الصغير أولًا لحفظ القرآن والتعبد حتى يدرك قيمة ما يحمله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سفيان الثوري: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة3. وقال أبو الأحوص "176هـ": كان الشاب يتعبد عشرين سنة، ثم يطلب الشيء من الحديث، وإذا كان أبو الأحوص من أهل الكوفة، فلعله في هذا يعبر عن الكوفيين جميعًا الذين قال عنهم الخطيب: إنه لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد4. 350- وحتى يؤتي سماع الحديث ثمرته من وعي الحديث وضبطه يجب على السماع أن يكون يقظًا وقت سماعه، غير متساهل أو غافل أو نائم، ولهذا رأى كثير من أئمة الحديث ترك رواية من يتساهل في سماعه، يقول أحمد بن حنبل: رأيت ابن وهب وكان يبلغني تسهيله -يعني في السماع فلم أكتب عنه شيئًا، ويقول عثمان بن أبي شيبة إنه رأى ابن وهب في مجلس ابن عيينة، وهو ينام وقت السماع فتركه، وروي مثل ذلك عن ابن المديني حيث يقول: "قال لي ابن وهب: هات كتاب عمرو بن الحارث حتى أقرأه عليك، فتركته على عمد حين كان رديء الأخذ"5.

_ 1 المصدر السابق ص24، 25. 2، 3 الكفاية "هـ" ص 54. 4 الكفاية "هـ" ص 54. 5 المصدر السابق ص 151 - 152.

351- وقد حدثت بعض الحالات التي تحول دون سماع التلميذ من شيخه في المجلس أو عدم رؤيته وهو يحدث، واعتبرها بعض الأئمة من السماع، ولا ضير على التلميذ أن يحدث عنه شيخه إذا تلقى منه في هذه الحالات، وهذا من الضرورات التي تبيح المحظورات -كما يعبر الأصوليون. أولها: عظم مجلس الشيخ، فلا يصل سماعه إلى بعض التلاميذ، وينوب عنه مستمل يبلغ منلم يسمع عبارة الشيخ، شكى أبو مسلم المستملي إلى ابن عيينة أن الناس لا يسمعون، فقال: أسمعهم أنت. وقال الأعمش: كنا نجلس إلى إبراهيم النخعي مع الحلقة، فربما يحدث، فلا يسمعه من تنحى عنه، فيسأل بعضهم بعضًا عما قال، ثم يروونه وما سمعوه منه. وروي عن حماد بن زيد أنه قال لمن استفهمه: كيف قلت؟ قال: استفهم ممن يليك. وقد أجازوا ذلك لأنه قد ثبت أن بعض الصحابة لم يسمع من رسول الله بعض الحديث ونسبه كله إلى سماعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون اثنا عشر أميرًا" فقال كلمة لم أسمعها، فسألت أبي فقال: "كلهم من قريش" وقد أخرجه مسلم عنه كاملًا، من غير أن يفصل جابر الكلمة التي استفهمها من أبيه1. ثانيًا: الكلمة التي يدغمها الشيخ، وهي معروفة، فلا يسمعها التلميذ كاملة، قال الإمام أحمد: أرجو ألا تضيق روايته عنه، ولكن بعض الرواة كان يتحرج فلا يكتب إلا ما سمعه. ومن هؤلا خلف بن سالم المخرمي "231هـ" وخلف بن تميم، قال الأخير: سمعت من الثوري عشرة آلاف حديث، أو نحوها، فكنت أستفهم جليسي، فقلت لزائدة بن قدامة؟ فقال: لا تحدث منها إلا بما حفظ قلبك، وسمع أذنك، فألقيتها2.

_ 1 تدريب الراوي 2/ 25، 26. 2 المصدر السابق 2/ 27.

ثالثها: إذا حدث الشيخ من وراي حجاب، ولم يره التلميذ، فبعضهم شرط أن يرى السامع وجه المحدث، وهو يحدثه، وإلا فلا يجوز له أن يحدث بما سمع، يقول شعبة بن الحجاج: "إذا سمعت من المحدث ولم تر وجهه فلا ترو عنه"1. ولكن جمهور العلماء أباح ذلك؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على صوت ابن أم مكتوم المؤذن، في حديث: "إن بلالًا يؤذن بليل" الحديث، مع غيبة شخصه عمن يسمعه. وكان السلف يسمعون من عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين، وهن يحدثن من وراء الحجاب2. الأداء عن السماع: 352- وإذا أراد الراوي أن يؤدي الحديث الذي سمعه من شيخه فله أن يؤديه بتلك الألفاظ التي تدل على السماع، مثل: "حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، وسمعت، وقال لنا، وذكر لنا". 353- ويقول القاضي عياض: إنه لا خلاف في جواز استعمال مثل هذه الألفاظ3. 354- ولكنها ليست في منزلة واحدة، فأرفع العبارات "سمعت" وكان الزهري يؤثرها عندما يحدث عن أنس رضي الله عنه. ويبين الخطيب البغدادي السبب في كونها أرفع هذه العبارات بأن أحدًا لا يستعملها في وجوه الأداء عن طرق للتحمل ليست لها قيمة كبيرة في توثيق الحديث مثل الإجازة والمكاتبة. كما لا تستعمل في التدليس4. 355- ثم يتلوها لفظ "حدثنا أو حدثني" وكانت أقل من "سمعت"؛ لأن بعض أهل العلم كان يستعملها فيما أجيز له، وروي عن الحسن أنه كان

_ 1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 599. 2 تدريب الراوي 2/ 27 - 28. 3 الإلماع ص 69. 4 الكفاية م ص413.

يقول: حدثنا أبو هريرة، ويتأول أنه حدث أهل البصرة، وهو منهم، وهو لم يسمع منه شيئًا. ولم تستعمل "سمعت" في شيء من ذلك. وممن كان يؤثر "حدثنا" على غيرها من العبارات الإمام أحمد بن حنبل وقد كان يحمل عبد الرزاق الصنعاني على ذلك1. 356- ثم يتلو "حدثنا" "أخبرنا". وهو كثير في الاستعمال، حتى إن جماعة لا يكادون يستعملون فيما سمعوه من لفظ الشيخ غيرها، منهم حماد بن مسلمة، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وعبيد الله بن موسى، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد بن هارون2، وإنما استعمل من استعملها ورعًا ونزاهة لأمانتهم فلم يجعلوها للينها بمنزلة "حدثنا ونبأنا" ولهذا قال أحمد بن حنبل: "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"، حدثنا شديد3. وإذا كان ابن الصلاح يقول: إن هذا كان قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشيخ -فإنه يبدو أنه كان بعد القرن الثاني الهجري. ويبين ابن الصلاح أن هناك وجهًا من وجوه تفضيل "أخبرنا" و"حدثنا" على "سمعت" وهو أنه ليس في "سمعت" دلالة على أن الشيخ رواه الحديث، وخاطبه به. وفي "حدثنا" و"أخبرنا" دلالة على أنه خاطبه به ورواه له"4. 357- وأما نبأنا وأنبأنا فهما قليلتا الاستعمال، "وممن كان يستعملهما في السماع سماك بن حرب وحماد بن زيد5. 358- ويرى ابن الصلاح أن استعمال "قال لي" و"ذكر لي" إنما هو لائق بمن سمع في المذاكرة والمناظرة6، وهو بهذه أشبه من "حدثتا".

_ 1 المصدر السابق ص 414، 415. 2 المصدر السابق م ص 413، 414. 3 تدريب الراوي 2/ 9. 4 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 167. 5 الكفاية م ص 414 - 415. 6 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 167.

وبعض العلماء قال -أداء عن السماع-: "قال" و"ذكر" من غير "لي" وهذا يحمل على السماع إذا عرف اللقاء وسلم هذا الراوي من تهمة التدليس، لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول ذلك إلا فيما سمعه من شيخه كحجاج بن محمد الأعور الذي روى كتب ابن جريج عنه بلفظ: "قال ابن جريح" فحملها الناس عنه على أنها سماع، واحتجوا بها1. وقد نبه همام ابن يحيى بأنه عندما يقول: "قال قتادة" فإنما سمعه من قتادة2. وقد عرف بعض الرواة الذين يستعملونها في غير السماع مثل ابن وهب. يقول الإمام أحمد مبينًا ذلك: "كان بعض حديثه سماعًا، وبعضه عرضًا، وبعضه مناولة، وكان ما لم يسمعه يقول: "قال حيوة، قال فلان"3. 359- وإذا كان في الإمكان أن يختار واحدة من الألفاظ التي ذكرناها -من سمع من الشيخ على الرغم من التفاوت في قيمتها وفي شيوعها، فإنه يجب عليه- عند بعض الأئمة الذين يعتد بآرائهم -أن يلتزم الصدق في عبارة الشيخ ولا يتعداها، فإذا قال: "أخبرني" لا يجوز أن يقول عنه "حدثني" بدلًا منها، قال الإمام أحمد: إذا قال الشيخ: "حدثنا" قلت: "حدثنا"، وإذا قال: "أخبرنا" قلت: "أخبرنا"، تتبع لفظ الشيخ، فإنما هو دين تؤديه عنه، ولا تقل "لأخبرنا" "حدثنا" ولا "لحدثنا" "أخبرنا" إلا على لفظ الشيخ"، وفي كلام له آخر: "اتبع لفظ الشيخ في قوله "حدثنا" و"حدثني" و"سمعت" و"أخبرنا"ولا تعده، فإن كانت قراءة بينت القراءة ... ولا تغير لفظ الشيخ، إنما تريد أن تؤدي لفظه كما تلفظ به"4. وممن ذهب إلى ذلك أيضًا يحيى بن سعيد القطان، ومن كلامه في هذا الشأن: "إذا قال -أي الشيخ- "حدثنا" فلا يعجبني أن أقول"حدثني"، وربما قال: "حدثني" فأشك، فأقول: قال: "حدثنا"، فأما إذا قال "حدثنا" فلا أستجيز أن أقول: قال: "حدثني"، ومراده بذلك التزام الدقة في مراعاة لفظ الشيخ5.

_ 1 تدريب الراوي 2/ 11. 2 الكفاية "م" ص 419. 3 المصدر السابق ص 419. 4 المصدر السابق ص 423. 5 المصدر السابق ص 425 - 427.

360- وليس بواجب عند كافة أهل العلم -كما يقول الخطيب البغدادي- أن يفرق الراوي بين "حدثني" و"حدثنا" فكل منهما تحكيان عن تحديث الواحد والجماعة، وممن نص على ذلك أحمد بن حنبل، وعبد الله ابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان1. 361- وممن خصص لكل لفظ حالة معينة عبد الله بن وهب، روى عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الرحمن بن وهب أنه قال: "إنما هو أربعة: إذا قلت "حدثني" فهو مما سمعت من العالم وحدي، وإذا قلت: "حدثنا" فهو مما سمعته مع الجماعة، وإذا قلت: "أحبرني" هو مما قرأت على المحدث، وإذا قلت: "أخبرنا" فهو مما قرئ على المحدث وأنا أسمع"2. 362- وإذا قال الراوي: "حدثنا فلان عن فلان" فإن "عن" هنا تحمل على السماع بشرطين: الأول: إذا عرف أن هذا الراوي قد لقي الذي حدث عنه بهذه العبارة وسمع منه. الثاني: إذا لم يكن هذا الراوي قد عرف بالتدليس؛ قال الإمام الشافعي، وقد سئل: لم قبلت رواية من يقول: "عن". وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ -قال: "المسلمون عدول أصحاء الأمر في أنفسهم ... وقولهم عنه خبر أنفسهم وتسميتهم على الصحة، حتى نستدل من فعلهم بما يخالف ذلك، فنحترس منهم في الموضع الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم ... وكان قول الرجل: "سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا" وقوله: "حدثني فلان عن فلان": -سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، ممن عناه بهذا الطريق قبلنا منه "حدثني فلان عن فلان"، ومن عرفناه دلس مرة فقد أبأن لنا عورته في روايته"3.

_ 1 الكفاية ص 425 - 27. 2 المصدر السابق ص 425. 3 الرسالة ص 378 - 379.

القراءة على الشيخ أو العرض

2- القراءة على الشيخ أو العرض: 363- وهو أن يقرأ أحد التلاميذ على الشيخ أحاديثه التي له حق روايتها. ولها صور: فقد يكون المتلقي هو الذي يقرأ، وقد يكون غيره وهو يسمع، وقد يقرأ من كتاب أو من حفظ، وقد يمسك الشيخ أصله أثناء القراءة أو يحفظ ما يقرأ عليه1. 364- وقد ذكر الحاكم صورة أخرى، وهي أن يقدم التلميذ إلى شيخه جزءًا من حديثه أو أكثر، ويناوله إياه، فيتأمل الشيخ هذا الحديث، فإذا عرف أنه من حديثه قال للتلميذ: "قد وقفت على ما ناولتنيه وعرفت الأحاديث كلها، وهذه رواياتي عن شيوخي، فحدث بها عني"2. وهذا -في حقيقة الأمر- ضرب آخر من ضروب تلقي الحديث وهو "المناولة" كما سنرى - إن شاء الله تعالى. 365- ويقول القاضي عياض: إن إمساك الأصل أثبت صورها لتنتقي الغفلة بالنظر إلى الكتاب، "ويذهب الوهم، فيذكر الكتاب"3 ومثل هذا أن يمسك الأصل حين القراءة ثقة عارف، وكذلك إذا أمسك القارئ نسخة الشيخ فقرأ فيها، فهي هنا كإمساك الشيخ نسخته؛ "إذ لا فرق بين الاعتاد على بصر الشيخ أو سمعه"4. 366- أما إذا كان الذي يمسك أصل الشيخ غير ثقة ولا مأمون أو غير بصير بما يقرؤه فلا يحل السماع والرواية بهذه القراءة، ولهذا ضعف بعضهم رواية من سمع الموطأ على مالك بقراءة حبيب كاتبه؛ لضعفه عندهم،

_ 1 الإلماع ص: 70. 2 معرفة علوم الحديث ص 256 - 257- والحق أن الحاكم قد اضطرب في مصطلح العرض، فتارة يطلقه على "القراءة على العالم" وتارة يطلقه على "المناولة" كما يدل عليه كلامه هذا "قارن الصفحات السابقة بص 260". 3، 4 الإلماع ص: 75، 76.

"وأنه كان يخطرف الأوراق "يسرع" حين القراءة ليتعجل"1. 367- وإذا كان قد أنكر هذا الخبر على قائله، لحفظ مالك لحديثه، وحفظ كثيرين من أصحابه الحاضرين عنده، وأن مثل هذا مما لا يجوز على مالك، وأن العرض عليه لم يكن من الكثرة بحيث تخطرف عليه الأوراق، ولا يفطن إلى ذلك هو ولا من حضر2 -إذا كان كذلك فإنه يبقى هذا الشرط لازمًا لصحة القراءة، وهو أن يكون ماسك الكتاب ثقة مؤتمنًا على السماع أو القراءة. 368- وقد كان الشيوخ من المحدثين يتخيرون من القراء من يجيدون القراءة، حتى يكون قراءة الأحاديث صحيحة، ليس فيها تحريف، ولهذا عندما ذهب الشافعي إلى مالك؛ ليقرأ عليه الموطأ ولم يكن يعرفه قال له: اطلب من يقرأ لك، فقال له الشافعي: لا عليك أن تسمع قراءتي، فإن خفت عليك قرأت لنفسي، قال الشافعي: فلما سمع قراءتي قرأت لنفسي3، فهذا يدل على أن الإمام مالكًا لم يكن يجيز لكل إنسان أن يقرأ عليه إلا إذا كان مجيدًا للقراءة. 369- وقد اشترط بعض الظاهرية، وجماعة بن مشايخ أهل المشرق وأئمتهم إقرار الشيخ عند تمام الشيخ بأنه كما قرئ عليه بقوله: "نعم"، وأبو أن يكون الحديث صحيحًا إذا لم يكن هذا التقرير، وقد ورد في هذا للإمام علي كرم الله وجهه قوله: قراءتك على العالم وقراءة العالم عليك سواء، إذا أقر لك"4 وقد روي أن مالكًا كان يفعل ذلك. ولكن روى عنه أيضًا أنه أنكر من طلب منه ذلك قائلًا: "ألم أفرغ لكم نفسي، وسمعت عرضكم، وأقمت سقطه وزلله؟ ! ...

_ 1 المصدر السابق ص 76، 77. قال ابن معين: كان حبيب يقرأ على مالك وكان يخطرف بالناس، يصفح ورقتين ثلاثًا ... وكان يحيى بن بكير سمع من مالك بعرض حبيب وهو شر العرض "ميزان الاعتدال" مج 1/ 452. 2 الإلماع: ص 77. 3 آداب الشافعي ص 270. 4 الكفاية م ص 383.

370- ومذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء -كما يقول القاضي عياض أن هذا الشرط غير لازم، لأن العرف دال على أن سكوت الشيخ في هذا المقام تقرير له على الرواية، وإقرار منه بصحة ما قرئ عليه، ولو لم يكن صحيحًا لما جاز تقريره عليها، ولكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقًا؛ لما فيه من إيهام الصحة، إذن فلا معنى للتقرير بعد الفراغ منها1. 371- ولعل ما روي عن مالك خلاف هذا إنما هو من باب التأكيد أو الجواز لا اللزوم2. 372- ويذكر السيوطي أن شرط الإمام أحمد في القارئ أن يكون ممن يعرف الحديث ويفهمه3. 373- ويقول القاضي عياض: إنه "لا خلاف أن العرض على الشيخ رواية صحيحة" ولكن غيره حكى الخلاف في ذلك، يقول: الخطيب البغدادي، ذهب بعض الناس إلى كراهة العرض، وهو القراءة على المحدث، ورأوا أنه لا يعتد إلا بما سمع من لفظ الشيخ4. 374- ويذكر الرامهرمزي رواية عن أبي عاصم النبيل توضح أنه من الكارهين الذين أشار إليهم الخطيب في قوله السابق، يقول أبو عاصم: "سمعت سفيان وأبا حنيفة ومالكًا وابن جريج، كل هؤلاء سمعتهم يقولون: لا بأس بها، يعني القراءة، وأنا لا أراه، وما حدثت بحديث عن أحد من الفقهاء قراءة"5. وممن كرهها أيضًا وكيع بن الجراح الذي يقول: "ما أخذت حديثًا عرضًا، ومحمد بن سلام الذي أدرك مالكًا والناس يقرءون عليه، فلم يسمع منه لذلك، وعبد الرحمن بن سلام الجمحي الذي ضاق به مالك، وكره أن يحضر مجلسه من أجل هذا6.

_ 1 كشف الأسرار 3/ 759. 2 الإلماع ص 78، 79. 3 تدريب الراوي 2/ 12. 4 الإلماع ص 70 - الكفاية م ص 380. 5 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 420. 6 تدريب الراوي 2/ 13.

375- ومهما يكن من أمر فهؤلاء الكارهون لها قليلون إلى جانب الجمهرة الغفيرة من المحدثين والفقهاء الذين يجيزونها، ويعتبرونها طريقًا صحيحًا من طرق التلقي، على أنه يمكن القول بأن هؤلاء لا يمنعونها مطلقًا، وإنما ألزموا أنفسهم بتركها مؤثرين السماع عليها بدليل أن أبا عاصم النبيل رويت عنه رواية أخرى تقول بأنه يسوي بين العرض والسماع1. وعلى هذا يمكن أن نفهم عبارة القاضي عياض: إنه لا خلاف في أنها رواية صحيحة. 376- وحجة جواز هذا الضرب من ضروب التلقي ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتاه ضمام بن ثعلبة، وقد أوفده قومه سنة تسع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الإسلام قائلًا: "الله أمرك بكذا وكذا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "نعم" "فأسلم بعد هذا العرض، وعاد إلى قومه، فأخبرهم بذلك وحده2. وذهب إلى ذلك من السلف عدد من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك.. وعروة بن الزبير والحسن البصري، وغيره من التابعين3. 377- وإذا ذهبنا إلى جمهرة المحدثين والفقهاء الذين أجازوا هذا الضرب، فإننا نجدهم قد اختلفوا في قيمته بالنسبة إلى السماع هل العرض مثل السماع، أو دونه، أو أرجح منه؟ وقد تقدم في الكلام على السماع أن كثيرًا من العلماء يفضل السماع على القراءة؛ لأن هذا هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم صحابته، رضوان الله عليهم؛ ولأن السماع في بعض صوره أدعى إلى عدم الغفلة من الشيخ ومن التلميذ4. 378- ويقول القاضي عياض: إن مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة التسوية بينهما، وإن هذا هو مذهب مالك وأصحابه وأشياخه من أهل المدينة

_ 1 فتح المغيث 2/ 30. 2 الإلماع ص 71 - 72. 3 معرفة السنن والآثار 1/ 85. 4 ص 193 من هذا البحث.

وعلمائها، ويحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة والزهري في جماعة، ويذكر غيره من هؤلاء الليث بن سعد وأبا حنيفة، وعبد الرزاق، وعبد الله ابن المبارك1. 379- ولعل من حجتهم ما روي عن علي وابن عباس والحسن من الصحابة رضوان الله عليهم وعروة بن الزبير من أقوال تدل على أن الاثنين بمنزلة واحدة2. ولعل من حجتهم أيضًا ما أورده القاضي عياض من أن مالكًا احتج على ذلك بالصك "الكتاب" يقرأ على القوم، فيقولون: أشهدنا فلان، ويقرأ على المقرئ فيقول القارئ: أقرأني فلان، وروي مثل هذا عن أبي حنيفة3. 380- وإذا كان هؤلاء الذين يفضلون السماع على القراءة قد احتجوا بأن هذا كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غالب الأوقات، والاقتداء به أولى، فإن أبا حنيفة، رضي الله عنه، قد رد عليهم بأمرين: الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمونًا من السهو والخطأ في تبليغ الوحي وبيان الأحكام، ولهذا كانت قراءته عليه السلام أولى، أما غيره، صلى الله عليه وسلم فيجوز عليه السهو الغلط، فكانت قراءة المحدث وقراءة غيره سواء. الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن كاتبًا، ولا قارئًا من المكتوب شيئًا، وإنما يقرأ ما يقرأ عن حفظ، فكانت قراءته أولى، فأما إذا كانت الرواية عن كتابوالسماع في كتاب -كما هي العادة في عصر أبي حنيفة- فهما سواء في معنى التحديث بما في الكتاب4.

_ 1 الإلماع: ص 71 - المحدث الفاصل ص 420 "المطبوعة" - الكفاية "م" ص 391 - 394 جامع بيان العلم 2/ 217. 2 الإلماع ص 71 - المحدث الفاصل ص 420، 423، 427 - 429- الكفاية هـ ص 270. 3 الإلماع ص 72 - المحدث الفاصل ص 426 الكفاية م 391. 4 كشف الأسرار 2/ 760 -أصول السرخسي 1/ 375 - 376.

ويضيف أبو حنيفة، رحمه الله، أنهما -وإن كانا سواء- فالثاني أحوط وهو القراءة على الشيخ؛ لأن التلميذ يكون أشد عناية في ضبط المتن والسند من الشيخ، لحاجته إلى ذلك، والطالب عامل لنفسه والمحدث عامل لغيره، فيحتمل أن يسهو عن البعض ويشذ منه أكثر ما يشذ عن الطالب، فمن طبيعة الإنسان أن يحتاط في أمر نفسه أكثر مما يحتاط في أمر غيره. وإذا كان الشيخ قد يسهو في حالة القراءة عليه، فإن مثله موجود عند قراءة الشيخ نفسه؛ إذ قد يسهو الطالب عن السماع، فتساويًا في هذا الاحتمال1. 381- وهناك اتجاه الثالث يفضل القراءة على الشيخ على السماع، ويروى عن مالك ما يضمه إلى هذا الاتجاه، يروى عنه قوله: السماع عندنا على ثلاثة أضرب: أولها: قراءتك على العالم. ثانيها: قراءته عليك. ثالثها: أن يدفع إليك كتابًا، فيقول: اروه عني. وهذا الضرب الثالث هو المناولة. 382- ويحتج في هذا بأن الشيخ -في حالة السماع- ربما سها أو غلط فيما يقرؤه بنفسه، فلا يرد عليه الطالب هذا السهو أو الخطأ لأحد أسباب ثلاثة؛ فقد يكون جاهلًا فلا يهتدي إلى الصواب، وقد تمنعه هيبة الشيخ وجلالته عنده، وقد يخطئ الشيخ في موضع فيه مجال اختلاف، فيظن الطالب أن هذا الخطأ إنما هو رأي الشيخ في هذا الموضع فيحمل الخطأ على أنه صواب. أما إذا قرأ الطالب على الشيخ فسها أو أخطأ فإن الشيخ يرده، لعلمه، مع فراغ سره وحضور ذهنه، أو يرد عليه غيره، ممن يحضر

_ 1 كشف الأسرار 3/ 761.

المجلس: لأنه "لا هيبة للطالب، ولا يعد له مذهب في الخلاف، إن صادف لغلطه موضع اختلاف1. وقد ذكر الخطيب البغدادي هذه الحجة دون أن ينسبها إلى مالك رضي الله عنه2. 383- ومما يرجح أن هذا هو اتجاه مالك أن نافعًا القارئ شاوره ليتقدم إمامًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه بألا يفعل، قائلًا: "المحراب موضع محنة، فإن زللت في حرف وأنت إمام حسبت قراءة حملت عنك"3 وقد روي هذا أيضًا عن أبي حنيفة. والليث بن سعد4. وربما كان هذا الموقف قد نشأ كرد فعل لهؤلاء الذين ينكرون القراءة ولا يجيزونها طريقًا من طرق تلقي الحديث، ولكنهم عندما لا يواجهون هذا الأمر يقولون بما يقول به الكثيرون من المساواة بين السماع والقراءة على الشيخ. وهذا قد يفسر السبب في تناقض الروايات عن بعض الأئمة مثل مالك وأبي حنيفة والليث بن سعد. الألفاظ التي يؤدى بها العرض: 384- وكما اختلفوا في تقدير قيمة القراءة على الشيخ ومنزلتها من السماع -اختلفوا كذلك في الألفاظ التي تطلق تعبير عنها: فرأى بعضهم أنه ما دامت القراءة مثل السماع فإنه يطلق عليها من الألفاظ ما يطلق عليه من "حدثنا" و"أخبرنا" و"أنبأنا" إلى آخره. 385- وممن روى عنهم أنه لا بأس أن يقول المحدث أداء عن هذا الضرب: "حدثنا" الإمام مالك، ومنصور بن المعتمر الذي قال لشعبة: إذا قرأت على المحدث فعرفته أليس قد حدثك؟ ... وعطاء بن أبي رباح

_ 1 الإلماع، ص: 74، 75. 2 الكفاية م ص 402. 3 الإلماع ص 75. 4 الكفاية "م" ص 407 - كشف الأسرار م - 761.

وأبو حنيفة والزهري وزفر بن الحارث، والأوزاعي، وإسماعيل بن جعفر وأبو عبيد القاسم بن سلام، وشريك بن عبد الله ومسعر ابن كدام، ومالك بن مغول1. وممن أجاز أن يقول القارئ: "سمعت" سفيان الثوري، وأبو حنيفة رضي الله عنهما2. 386- وإذا كانت "حدثني" و"سمعت" تشعران بالنطق من الشيخ وفي حالة القراءة على الشيخ لم يوجد نطق، فليس معنى هذا أن من أجاز إطلاقهما على العرض قد أخطأ؛ لأنه اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح -كما يقولون- يقول صاحب "كشف الأسرار": لا نزاع أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة، يستعملونها في معاني مخصوصة، إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم في تلك المعاني؛ أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجاوز، ثم صار المجاز شائعًا والحقيقة مغلوبة، ولفظ "أخبرني" و"حدثني" ههنا كذلك، لأن هذا السكوت يشابه الإخبار في إفادة الظن، والمشابهة إحدى أسباب المجاز، وإذا جاز هذا الاستعمال مجازًا، ثم استقر عرف المحدثين عليه صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين، أو كالمجاز الغالب، وإذا ثبت ذاك وجب جواز استعماله قياسًا على سائر الاصطلاحات"3. 387- ورأى آخرون أن يكون العرض مميزًا عن السماع في الأداء، ومن هنا خصصوا للعرض لفظ "أخبرنا". ومن هؤلاء الإمام الشافعي الذي كان يقول: "إذا قرأ عليك العالم فقل: "حدثنا" وإذا قرأت عليه فقل: "أخبرنا"4. وعبد الله بن المبارك الذي يقول: "إذا قرأ العالم على العالم فقال: "حدثني" فهي كذيبة5.

_ 1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 421، 428 - الكفاية ص 390، 407، 408. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 422- الكفاية ص 407. 3 كشف الأسرار 3/ 760. 4 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 425. 5 الكفاية م ص 429.

وممن ذهب مذهب الشافعي في هذا أبو حفص التنيسي، وحماد ابن زيد، وعثمان بن أبي شيبة والأوزاعي، وأبو حنيفة في رواية أخرى عنه1. 388- واختار هؤلاء لفظ "أخبرنا"، لأن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم، والسكوت من الشيخ، وإقراره ما سمع دون نكير منه قد أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "فوجب أن يكون إخبارًا"2. 389- كما اعتمدوا في التفرقة بين "حدثني" و"أخبرني" على الفرق في الاستعمال العادي بين حدثنا وأخبرنا، بين الإمام محمد بن الحسن الشيباني الفرق بين الاستعمالين وآثاره فقال: "إذا حلف الرجل فقال: أي غلام لي أخبرني بكذا وكذا، وأعلمني بكذا وكذا فهو حر، ولا نية له، فأخبره غلام له بذلك، بكتاب، أو كلام أو رسول فقال: إن فلانًا يقول لك كذا وكذا، فإن الغلام يعتق؛ لأن هذا خبر، ... وإذا قال: أي غلام لي "حدثني"، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم"3. 390- ولم يكتف يحيى بن سعيد القطان بالتفريق بالألفاظ، وإنما ينص الراوي على العرض أو الإجازة يريد أن يؤدي عنهما، يقول: ينبغي للرجل أن يحدث كما سمع، فإن سمع يقول: "ثنا"، وإن عرض يقول: "عرضت" وإن كان إجازة يقول "أجاز لي" ويرى الإمام الأوزاعي مثل هذا 4.

_ 1 المصدر السابق ص 429، 430، 434. 2 كشف الأسرار 3/ 760. 3 الكفاية "م" ص 427. 4 الكفاية ص 430 - 431.

المناولة ومصطلحات الأداء عنها

3- المناولة ومصطلحات الأداء عنها: 391- إذا كان الضربان السابقان يشتركان في قراءة ما يتلقاه الطالب من الشيخ، سواء أكان القارئ هو الشيخ أو التلميذ أو غيرهما في المجلس -فإن الوجوه الأخرى للتلقي ليست فيها هذه القراءة وهذه ميزة تشترك فيها جميعًا، ولكنها تختلف من حيث الإذن بالرواية وعدمه. ومن حيث التأكد من صيانة المرويات التي تنقل بها، وعدمه. وهذا يجعلها تتفاوت من حيث القيمة والجدارة بتوثيق المرويات المنقولة عن طريقها. 392- ومن هذه الوجوه "المناولة"، وقد عرف القاضي عياض نوعين1 منها أحدهما لا يفترق عن نوع من أنواع الإجازة في شيء، ولذلك لن نعرض له هنا. 393- أما النوع الآخر فهو صور، منها: أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه، أو نسخة منه وقد صححها، أو أحاديث من أحاديثه، وقد انتخبها وكتبها بخطه، أو كتبت عنه، فعرفها فيقول للطالب: هذه روايتي فاروها عني ويدفعها إليه، ومثال هذه الصورة: ما حدث به المروزي عن الإمام أحمد أنه قال له: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثي، فما تبالي؛ أسمعته أو لم تسمعه، قال المروزي: فأعطانا المسند - أي مناولة2. 394- أو يقول الشيخ للتلميذ: خذ هذه النسخة فاكتبها، وقابل بها، ثم اصرفها إلي، وقد أجزت لك أن تحدث بها عني، أو اروها عني. ومثال هذه الصورة ما رواه عبيد الله بن عمر أن الزهري دفع إليه صحيفة فقال: انسخ ما فيها وحدث بها عني، فقال له عبيد الله: أويجوز ذلك؟ قال: نعم، ألم تر الرجل يشهد على الوصية ولا يفتحها، فيجوز ذلك ويؤخذ به3. وربما لم يطلب الزهري من عبيد الله أن يرد النسخة التي سيكتبها إليه ليصححها؛ لثقته في تلميذه هذا، أو ربما حدث ذلك فعلًا فرد إليه النسختين، نسخته والنسخة التي كتبها فاطمأن إلى ما فيها. 395- أو يأتي الطالب الشيخ بنسخة صحيحة من روايته أو بجزء من حديثه، فيقف عليه الشيخ ويعرفه، ويحققه ويتأكد من صحته ويجيزه له.

_ 1 الإلماع ص: 79. 2 الكفاية "هـ" ص 327. 3 المصدر السابق ص 326.

يقول أحد تلاميذ الأوزاعي: لقيت الأوزاعي ومعي كتاب، كنت كتبته من أحاديثه، فقلت: يا أبا عمرو، هذا كتاب كتبته من أحاديثك قال: هاته، وأخذه، وانصرف إلى منزله وانصرفت أنا، فلما كان بعد أيام لقيني به. فقال: هذا كتابك، قد عرضته وصححته، قلت: يا أبا عمرو، فأورى عنك، قال: نعم، فقلت: اذهب، فأقول: أخبرني الأوزاعي؟ قال: نعم1. وسمى ابن الصلاح هذه الصورة عرض المناولة قياسًا على عرض القراءة2. ونلاحظ أنه مع المناولة تكون إجازة بالرواية، ولهذا فقد كان من الممكن أن تكون نوعًا من أنواعها، ولكننا آثرنا -كما فعل القاضي عياض- أن نجعلها ضربًا مستقلًّا؛ لأنها تتضمن إجازة وزيادة. 396- وفي كل هذه الصور الثلاث روعي ما يضمن للحديث أن ينتقل من الشيخ إلى التلميذ نقلًا صحيحًا لا تغيير فيه ولا تبديل، ففي الصورة الأولى يعطي الشيخ التلميذ نسخة قد وثق منها؛ لأنها كتابه الذي يحفظه عنده أو نسخة منه قد وقف عليها وصحح ما قد يقع فيها من أخطاء أثناء النقل. وفي الصورة الثانية لا يعتمد على نقل التلميذ، وإنما يأمره بالمقابلة ثم يأخذ ما نقله ليستوثق من صحة النقل والمقابلة. وفي الصورة الثالثة يتأكد من صحة ما يقوله التلميذ من أنها من حديثة ومن روايته، فيقف عليها، ويعرفها، ويحققها قبل أن يجيزها له3، ففي جميعها -كما ترى تحقق من الشيخ بما في الكتاب الذي يناوله، وهذا ما شرطه

_ 1 الكفاية هـ ص 322. وقد فعل مالك وأحمد بن حنبل مثل هذا "انظر ص 327 عن الكفاية هـ". 2 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 191. 3 وإذا كان قد روي عن الزهري أنه أتى إليه أحد التلاميذ بكتاب ما قرأه ولا قرئ عليه، فيجيز له أن يرويه عنه، فإن هذا يحمل -كما يقول ابن عبد البر- على أنه كان يعرف الكتاب بعينه، ويعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه "جامع بيان العلم 2/ 218 - الكفاية ص 329".

الإمام أحمد حين سئل عن "المناولة"، فقال: ما أدري ما هذا، حتى يعرف المحدث حديثه وما يدريه ما في الكتاب1؟!. 397- وكما يفهم من هذه الصور، فقد يكون الطالب عالمًا بما في الكتاب الذي تناوله من الشيخ وقد لا يكون عالمًا به. ولكن أبا حنيفة ومحمدًا -رحمها الله تعالى- قد اشترطا أن يكون المناول -في كل الحالات عالمًا بما في الكتاب الذي يناوله إياه الشيخ، ولم يشترط هذا أبو يوسف -رحمه الله تعالى- ويقول السرخسي: إن هذا قياس على اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي وكتاب الشهادة، فإن علم الشاهد بما في الكتاب شرط في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، وليس شرطًا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، لصحة أداء الشهادة، ثم يقول السرخسي: والأصح عندي أن المناولة التي لا يعلم الطالب ما فيها لا تصح في قولهم جميعًا؛ لأن أبا يوسف إنما أجاز عدم علم الشاهد، وعدم علم رسول القاضي إلى القاضي بما في الكتاب للضرورة؛ لأن هذه الكتب قد تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب والمكتوب إليه أن يقف عليها غيرهما، وذلك المعنى لا يوجد في كتاب الأخبار. 398- ثم إن الأخبار لها أهمية كبيرة، فهي تحل وتحرم في أمور الدين فأمرها عظيم، وخطبها جسيم، فلا ينبغي أن نحكم بصحة تحملها قبل أن تصير معلومة للمتحمل. أما إذا كان جاهلًا بها فمثله مثل الذي يقرأ عليه المحدث، فلم يسمع ولم يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يروي، والمناولة والإجازة إذا لم يكن ما في الكتاب معلومًا له دون ذلك2. 399- وإذا كان الحديث ينقل بالمناولة على هذه الصورة من المؤكدات فقد رأى الإمام مالك وجماعة من العلماء أنها بمنزلة السماع من حيث القيمة ... وقد تقدم قوله في عد المناولة من السماع، وروى عنه ابن أبي أويس مثل هذا3.

_ 1 الكفاية هـ 328. 2 أصول السرخسي 1/ 377 - 378. 3 الإلماع ص 80.

ويقول القاضي عياض: إنها رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين. ومن الذين قالوا: إنها بمنزلة السماع غير مالك الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومجاهد المكي، والشعبي، وعلقمة وإبراهيم النخعيان وأبو العالية وأبو الزبير، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وهؤلاء من أمصار مختلفة، فبعضهم مدني، وبعضهم كوفي، وبعضهم مصري، ويقول السيوطي: إن هناك جماعات أخرى من الشاميين، كما يذكر جماعات كثيرة من السلف كانت ترى هذا الرأي1. 400- وحجة القائلين بهذا الرأي أنه -وإن لم يكن السماع موجودًا فالثقة من الشيخ بكتابه الذي يناوله للتلميذ ربما تفوق ثقته بإسماع حديثه له، أو السماع منه؛ لاحتمال الغلة من هذا أو ذاك2. وقد اعتمد عمال النبي، صلى الله عليه وسلم، على كتبه التي وصلت إليهم بطريق المناولة، ومن هذا أنه بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى3. ومن هذا أيضًا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب لعبد الله بن جحش كتابًا، وختم عليه، وناوله إياه، ووجهه في طائفة من أصحابه إلى جهة نخلة، وقال له: "لا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، ثم انظر فيه، وأنفذ لما فيه، ولا تكره أحدًا على النفوذ معك"4. وذكر العيني وجه الاستدلال بهذا الحديث، وهو أنه لما جاز له الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه، وإن كان النبي، صلى الله عليه وسلم لم يقرئه، ولا هو قرأ عليه، فلولا أنه حجة لم يجب قبوله"5.

_ 1 تدريب الراوي 2/ 46، 47. 2 الإلماع ص 81. 3 معرفة علوم الحديث ص 258. 4 الإلماع ص 81 - 82. وقد علقه البخاري في كتاب العلم 1/ 25 ووصله البيهقي والطبراني بسند حسن. قال السهيلي: احتج به البخاري على صحة المناولة، فكذلك العالم إذا ناول التلميذ كتابًا جاز له أن يروي عنه ما فيه. قال: وهو فقه حسن. "تدريب الراوي 2/ 44". 5 عمدة القاري شرح صحيح البخاري: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني "855هـ" جـ2 ص 27.

وقد سبق أن ذكرنا أنه قد استعملها السلف من التابعين وتابعي التابعين وأجازوها. 401- وذهب بعض الأئمة في القرن الثاني إلى غير هذا، فلم يعتبروها مثل السماع والعرض، وإنما هي في درجة أقل منهما، وممن ذهب إلى ذلك سفيان الثوري والأوزاعي وابن المبارك وأبو حنيفة والشافعي والبويطي والمزني وأحمد وإسحاق بن راهوية1. الأداء عن المناولة: 402- وإذا كانت هناك خشية من التحريف الذي لا يخشى مثله فبما سمع من المحدث أو قرئ عليه2 - فإنه ينبغي عند رواية أحاديث أخذت بهذه الطريق أن يعبر الراوي بما يدل عليها، فيقول: أعطاني فلان أو دفع إليّ كتابه أو شبيهًا بهذا، ولا يطلق عليها: "حدثنا" ولا "أخبرنا"؛ لأنه ليس هناك تحديث أو إخبار مطلقًا من غير قيد حتى لا تلتبس بالسماع أو القراءة. 403- وهذا ما كان عليه السلف، رضوان الله عليهم؛ فعن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام قال: دفع إليَّ أبو رافع كتابًا فيه استفتاح الصلاة، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قام في صلاة كبر، فقال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين" 3. وروى إبراهيم بن عرعرة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتابًا فقال: هذا ما سمعت من أبي، وكان فيه "عن قتادة عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أحرم في دبر صلاتي العشاء"4. 404- وممن فعل ذلك في القرن الثاني الهجري حماد بن سلمة الذي

_ 1 تدريب الراوي 2/ 47. 2 معرفة السنن والآثار 1/ 88. 3 هذا جزء من آية كريمة من سورة الأنعام رقم 79. 4 الكفاية هـ ص331.

قال في روايته "أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبيد الله بن أنس، وساق حديث الصدقات بطوله1. 405- ورأى الأوزاعي أيضًا أن كلمة حدثنا وأخبرنا لا يصح أن تطلق على المناولة لما فيهما من التحديث والإخبار، وهو لم يحدث ولم يخبر، يقول عمرو بن أبي سلمة: قلت للأوزاعي، في المناولة أقول فيها: "حدثنا"؟ فقال: إن كنت حدثتك فقل. فقلت: أقول فيها: أخبرنا؟ قال: لا، قلت: فيكف أقول؟ قال: قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو2. وهذا يفسر عبارة للأوزاعي غير واضحة تقول عند كتاب المناولة: "يعمل به ولا يحدث به" وفي رواية البيهقي" يتدين به ولا يحدث به3، مما جعل السيوطي يقول: إنه مما يعترض به على ذكر الأوزاعي فيمن يجيزون المناولة4. والحق أنه يريد -كما يقول بعض الباحثين- ألا يطلق التحديث على المناولة بدليل هذه الرواية وغيرها مما يقول فيها عندما دفع إليه كتاب، فنظر فيه، ثم قال لمن دفع إليه الكتاب: اروه عني5. 406- وفي القرن الثاني أيضًا رأينا غير واحد من الأئمة لا يمانع في أن يطلق عليها الراوي عند الأداء "حدثنا" أو "أخبرنا" ومن هؤلاء مالك ابن أنس وابن وهب وابن القاسم وأشهب بن عبد العزيز، وشعيب بن أبي حمزة وأبو اليمان الحكم بن نافع6. وقدوتهم في ذلك الحسن البصري رحمه الله تعالى، فقد روى عنه أنه

_ 1 المصدر السابق ص 331 - 332 وانظر كثيرًا من هذا الكتاب في صحيح البخاري 2/ 146، 147. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 436. 3 المصدر السابق ص 437. 4 تدريب الراوي 2/ 48. 5 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 437. 6 الكفاية هـ ص 333.

كان لا يرى بأسًا أن يدفع المحدث كتابه، ويقول: ارو عني جميع ما فيه ويمكن للطالب أن يقول: "حدثني فلان"1.

_ 1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 435.

المكاتبة ومصطلحات الأداء عنها

4- المكاتبة ومصطلحات الأداء عنها: 407- وهي منهج آخر من مناهج تلقي الحديث، وخاص بانتقال الكتب كما في المنهج السابق. ولها أكثر من صورة؛ منها، كما يقول القاضي عياض: 1- أن يسأل الطالب الشيخ أن يكتب له شيئًا من حديثه. 2- أو يبدأ الشيخ بكتاب ذلك مقيدًا للطالب بحضرته أو من بلد آخر2. ويذكر ابن الصلاح أنها نوعان: كتابة مقترنة بإجازة، بأن يكتب إليه ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، أو ماكتبت به إليك، أو نحو ذلك من عبارات الإجازة3. 408- والحق أن تعريف القاضي عياض فيه خلط بين المكاتبة والمناولة لأنه إذا كتب الشيخ بحضرة التلميذ شيئًا من أحاديثه وأفاده بهذه الكتابة فهي المناولة بعينها. 409- والحق أيضًا أنه لا داعي لأن نقول -كما قال ابن الصلاح- إنها بإجازة وبغير إجازة، لأن الإجازة متحققة فيها، وإن لم يكن هناك نص على ذلك، وإلا فما معنى أن يكتب الشيخ للتلميذ كتابه ويرسله إليه؟، إلا إذا نص على غرض آخر غير الرواية. ولهذا فالأولى أن نجعلها نوعًا واحدًا ونقول: إنها هي كتابة الشيخ أحاديثه أو بعضها لأحد تلاميذه أو أصحابه وإرسالها إليه بقصد إعطائه حق روايتها. 410- وأمثلة هذا الوجه كثيرة منها ما يقوله الأوزاعي: كتب إلي قتادة قال: حدثني أنس بن مالك أنه "صلى خلف رسول الله، صلى الله

_ 1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 435. 2 الإلماع ص83، 84. 3 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 197.

عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ "الحمد لله رب العالمين" لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها"1. 411- وحتى يكون الكتاب مصونًا عن التغيير في الطريق إلى من كتب إليه -ينبغي أن يشده المرسل، ويختمه بخاتمه، وقد فعل ذلك غير واحد من السلف وخاصة في القرن الثاني الهجري، ومن هؤلاء ابن جريح الذي كتب إلى ابن أبي سمرة بأحاديث من أحاديثه، وختم على الكتاب2. وكتب قتيبة ابن سعيد إلى الإمام أحمد بن حنبل وقال له: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي ونقشه "الله ولي سعيد" وهو خاتم أبي، وفعل ذلك الإمام مالك بن أنس3. 412- ويقول القاضي عياض مبينًا حكم هذا المنهج أو هذا الضرب: "قد أجاز المشايخ الحديث بذلك عنه"4. ولكنهم اشترطوا شرطًا هامًّا يصون الحديث الذي ينقل عبره من التزييف والتحريف والكذب، وهو أن يتيقن الطالب أن هذا الكتاب الذي جاء إليه إنما هو، حقيقة، كتاب الشيخ، والخط الذي كتب به إنما هو خطه، فأما إذا كان شاكًّا في ذلك لم تجز له روايته عنه5. وإنما أجازوها لأنها لا تفترق كثيرًا عن المناولة، فكون الشيخ يستجيب لسؤال الطالب ويكتب له، أو يرسل إليه بكتابه من غير سؤال إلى بلد آخر إنما هو أقوى إذن -كما يعبر القاضي عياض6- وكما يقول ابن الصلاح: إنها وإن لم تقترن بالإجازة لفظًا فهي متضمنة لها معنى7.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 35. وانظر أمثلة أخرى كثيرة لاستعمال هذا الضرب ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم في المحدث الفاصل "المطبوع" ص438 - 449. 2 الكفاية "م" ص 486، 487. 3 المرجع السابق. 4 الإلماع ص: 84. 5 المحدث الفاصل: ص 452 "المطبوع". 6 الإلماع: ص 84. 7 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص197.

413- وممن أجازها من أئمة القرن الثاني الأئمة شعبة بن الحجاج، ومنصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، والليث بن سعد، وقد استمر عمل العلماء بها بعدهم وأجمعوا على ذلك1. وهي موجودة في كثير من أسانيدهم، وكثيرًا ما نجد "كتب إلى فلان" على لسان كثير من الرواة2. ويروي البيهقي في كتابه "المدخل إلى الآثار" عن التابعين فمن بعدهم كثيرة، وكتب النبي، صلى الله عليه وسلم، شاهدة لقولهم. 414- ومع هذا يذكر ابن الصلاح أن من الناس -ولم يذكر من هم- من قال: إنه لا تجوز الرواية بها، لأنه يمكن تزييف الخط ويكون شبيهًا بخط الشيخ. ووصف ابن الصلاح هذا الرأي بأنه غير مرضي، وقال القاضي عياض. إنه غلط؛ لأن تزييف الخط نادر، والظاهر أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه الالتباس، فيمكن التأكد من كونه خط الشيخ أو غيره، والتأكد من ثقة من يوصل هذا الكتاب إليه3. ما قيمة هذا الضرب عند ما يجيزونه بالنسبة إلى الطرق الأخرى التي سبق ذكرها؟ ... 415- ذكر الرامهرمزي أن المكاتبة بمنزلة السماع؛ لأن الغرض من القول باللسان -كما هو الحال في السماع- التعبير عن ضمير القلب، فإذا وقعت العبارة عن الضمير بأية وسيلة كانت -كالمناولة والمكاتبة- كان ذلك كله سواء. 416- وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة مقام القول، وذلك في حديث الرجل الذي أخبره أن عليه عتق رقبة، وأحضر له جارية قال: إنها أعجمية، فأراد الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يختبرها، فقال

_ 1 الإلماع ص 86. 2 مقدمة ابن الصلاح ص 197. 3 الإلماع ص 84 - مقدمة ابن الصلاح ص 197 بشرح التقييد.

لها: "أين ربك"؟.. فأشارت إلى السماء. فقال لها: "من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله. فقال للرجل: "أعتقها فقد عرف الرسول إسلامها بإشارتها، واكتفى بذلك عن القول. وكذلك هنا يكتفي بالكتابة عن القول. 417- ثم أورد مثالًا يدلنا على أن هناك اتجاهين: أحدهما يعتبر المكاتبة مثل السماع، والآخر أقل منه: فقد روي أن إسحاق بن راهوية ناظر الشافعي -وأحمد بن حنبل حاضر- في جلود الميتة إذا دبغت، قال الشافعي: دباغها طهورها، فقال إسحاق: ما الدليل؟.. فقال: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر بشاة ميتة، فقال: "هلا انتفعتم بجلدها" 1؟!. فقال إسحاق: حديث ابن عكيم: كتب إلينا النبي، صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر". فقال الشافعي: هذا كتاب، وذاك سماع؟ فقال إسحاق: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى كسرى وقيصر، وكان حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي2. فمن هذا المثال نرى أن الإمام الشافعي، رضي الله عنه رجح حديث ابن عباس عن ميمونة على حديث ابن عكيم؛ لأن الأول سماع، والثاني كتاب، والكتاب والمناولة والوجادة كلها مرجوحات؛ لما فيها من شبه الانقطاع بعدم المشافهة3. على حين نرى أن إسحاق بن راهوية، رضي الله عنه، جعل الحديثين في درجة واحدة في هذا الموضوع، فالمكاتبة لا تقل حجية عنده عن السماع.

_ 1 انظر الأحاديث في جلود الميتة وهل تحل أو لا في نصب الراية جـ1 ص 115 - 121. 2 المحدث الفاصل ص 452 - 454 من المطبوع، الإلماع ص 86 - 87. 3 نصب الراية 1/ 121 - 122.

الأداء عن المكاتبة: 418- وإذا تحمل الراوي الأحاديث بهذا المنهج، فإنه يقول عند روايتها ما يدل عليه، مثل: "كتب إليّ فلان" أو "أخبرني فلان مكاتبة" أو "فيما كتب إليّ". ويقول الخطيب: وهذا هو مذهب أهل الورع والنزاهة والتحري في الرواية، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك. وممن ذكرهم من أهل القرن الثاني يستعملون هذه العبارات أيوب السختياني ومالك بن أنس وجعفر بن ربيعة1. 419- ولم ير بعض الأئمة بأسًا في أن يقول الراوي هنا: "حدثني" أو "أخبرني" مطلقة من غير قيد، ومن هؤلاء منصور بن المعتمر، والليث ابن سعد الذي حدث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عدة أحاديث، قال في كل واحد منها: "حدثني بكير، وذكر أنه لم يسمع منه شيئًا، وإنما كتب إليه بتلك الأحاديث، ويقول ابن وهب: إن يحيى بن سعيد كان يكتب إلى الليث بن سعد، فيقول: "حدثني يحيى بن سعيد"، وكان هشام ابن عروة يكتب إليه، فيقول: "حدثني هشام بن عروة"2.

_ 1 الكفاية "م" ص 488 - 489. 2 الكفاية "م" ص 489 - 492.

الإجازة ومصطلحات الأداء عنها

5- الإجازة ومصطلحات الأداء عنها: 420- وهي أن يسمح الشيخ للتلميذ أن يروي شيئًا من مسموعاته أو مسموعاته كلها، وهي إما مشافهة أو كتابة مع حضور التلميذ أمام الشيخ أو إذنًا باللفظ أو الكتابة أيضًا لتلميذ غائب عنه. ويقول القاضي عياض: إنه لم يختلف في جواز هذا الضرب من ضروب التلقي، وإنما الخلاف في غيره، وحكي عن بعضهم أنه يحل محل السماع والقراءة عند جماعة من أصحاب الحديث وهو مذهب مالك. كما يروى عن أبي الوليد الباجي أنه لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه الأمة وخلفها وادعى في ذلك الإجماع1.

_ 1 الإلماع ص 88، 89.

421- والحق أنه يقول بإجازة هذا الضرب جماعة من السلف ومن بعدهم؛ منهم الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، وابن جريج، وأبان ابن عياش، وهشام بن عروة، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وشعيب ابن أبي حمزة، وسفيان الثوري1. 422- وجوزها هؤلاء ومن بعدهم؛ لأن الضرورة دعت إلى تجويزها، فإن كل محدث لا يجد من يبلغ إليه ما صح عنده، ولا يرغب كل طالب في سماع جميع ما صح عند شيخه، فلو لم يجز مثل هذا لأدى ذلك إلى تعطيل السنن، واندراسها وانقطاع أسانيدها2. والشيخ عندما يجيز للتلميذ أن يروي أحاديثه، وقد أخبره بها جملة هنا فهو كما لو أخبره تفصيلًا، وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقًا كما في القراءة على الشيخ، وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم، وذلك يحصل بالإجازة المفهمة3. 423- ولكن القاضي عياضًا قد بالغ في حكايته الاتفاق على الإجازة، وقد رد قوله هذا ابن الصلاح ووصفه بالبطلان، ورده العراقي والسخاوي لأنه قد وردت روايات عن بعض الأئمة في القرن الثاني لا تعتبر الإجازة منهجًا سليمًا من مناهج تلقي الحديث. ومن هؤلاء شعبة بن الحجاج وابن المبارك وأسد بن موسى "132 - 212هـ" وغيرهم في عصرهم4. وفي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأبي يوسف كما حكاه الآمدي، ونقله عنه السيوطي5، ومما يروى عن شعبة في ذلك أنه قال: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، ويقول: كل حديث ليس فيه: "سمعت قال: سمعت" فهو خل وبقل، ويروي ابن جريح عن عطاء الخراساني قال: "إن العلم سماع، ويفسر الخطيب مراده بقوله: "أراد عطاء -والله أعلم- أن العلم الذي يجب قبوله ويلزم العمل بحكمة هو المسموع دون غيره،

_ 1 الكفاية "هـ" ص 318، 324. 2 كشف الأسرار 3/ 763. 3 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص181. 4 الإلماع ص 109 - فتح المغيث 2/ 60. 5 تدريب الراوي 2/ 30.

وظاهر هذا القول يدل على أنه كان لا يعتد بالإجازة لخروجها عن حيز السماع1. وهذا أيضًا هو رأي الإمام أحمد بن حنبل: فقد روى أبو حاتم الرازي عنه: أنه سأل بشر بن شعيب: هل سمعت من أبيك شيئًا، أو قرأت عليه، أو قرئ عليه، وأنت حاضر؟ ولما نفى ذلك وبين أخذ الأحاديث منه إجازة كتب عنه على معنى الاعتبار فقط، ولم يحدث عنه2. وروى الربيع بن سليمان عن الشافعي كراهتها3. 424- وحجة هؤلاء في عدم إجازتها أن ظاهرها إباحة التحدث والإخبار عن الشيخ من غير أن يحدثه أو يخبره، وهذا إباحة للكذب، وليس للشيخ ولا لغيره أن يستبيح الكذب إذا أبيح4. 425- وإذا كان القاضي عياض قد حكى الاتفاق على جواز هذا الضرب فغالى -فإن ابن حزم قد غالى من ناحية أخرى فقال -بعد أن حكم ببطلان الإجازة وأنها إباحة للكذب: إنها ما جاءت قط عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، رضي الله عنهم ولا عن أحد من التابعين أو تابعي تابعيهم5. 426- وإذا كنا لا نعاوض بأنها لم ترد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته -على مدى علمنا- فإنا لا نسلم له بأن الإجازة لم ترد عن التابعين وتابعيهم، فقد روي عن الحسن البصري وابن شهاب أنهما من المجيزين لها6، وعن عبيد الله بن عمر قال: أشهد على ابن شهاب لقد كان يؤتى بالكتب من كتبه، فيقال له: يا أبا بكر، هذه كتبك؟ فيقول: نعم، فيجتزي بذلك7، وأتى ابن جريح الزهري بكتب يريد

_ 1 الكفاية "هـ" ص 315 - 316. 2 الجرح والتعديل مج أق 1368. 3 معرفة السنن والآثار ص 87 جـ1. 4 كشف الأسرار 3/ 763. 5 الإحكام 2/ 256، 257. 6 وانظر الكفاية "هـ" ص313 - 314. 7 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 435.

أن يعرضها عليه، فاعتذر له بأنه يريد أن يحدث بعض الناس، فقال له: أفأحدث عنك؟ قال: نعم. وهذه هي الإجازة1. وممن أجاز تلاميذه من تابعي التابعين الأوزاعي وأبان بن أبي عياش وهشام بن عروة والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري2. 427- ولكننا قد نجد العذر لابن حزم، لأننا إذا تأملنا تلك الروايات عن هؤلاء المجيزين وجدناها تحتمل المناولة، وهو قد أقر بأن المناولة طريق صحيح من طرق الرواية. وأين يقف الأئمة: مالك وأبو حنيفة والشافعي؟ أمع المعارضين للإجازة أو مع المجيزين لها؟ وقد وردت عنهم روايات تبين هذا وذاك. 428- أما الإمام مالك فالحق أنه يرى صحة الإجازة في تلقي الحديث، ولكن بشروط خاصة تضيق من دائرة إجازتها، وتجعل البعض يظن أنه لا يجيزها، ومن هذه الشروط: أن يكون المجاز له من أهل العلم؛ حتى لا يأخذ الأحاديث فيحرف فيها، فإذا كان المتلقي غير عالم بهذا الفن فإن الإمام مالكًا لا يبيح له أن يأخذ الأحاديثإجازة، وعلى هذا يحمل كلامه في إنكاره الإجازة، يقول الخطيب البغدادي مبينًا موقف مالك هذا: "قد ثبت عن مالك، رحمه الله، أنه كان يحكم بصحة الرواية لأحاديث الإجازة، فأما الذي حكيناه عنه آنفًا -يعني الروايات التي لا تبيحها- فإنما قاله على وجه الكراهة أن يجيز العلم لمن ليس من أهله ولا خدمه، وعانى التعب فيه، فكان يقول: إذا امتنع عن إعطاء الإجازة لمن هذه صفته: يحب أحدهم أن يدعى قسًّا، ولم يخدم الكنيسة. فضرب ذلك مثلًا، يعني الرجل يحب أن يكون فقيه بلده، ومحدث مصره، من غير أن يقاسي عناء الطلب، ومشقة الرحلة اتكالًا على الإجازة". ويبين ابن عبد البر آثار الإجازة لغير أهل العلم بأنه قد رأى قومًا منهم يحدثون عن الشيخ بما ليس من حديثه وينقصون من إسناد الحديث الرجل والرجلين4.

_ 1 المصدر السابق ص 436. 2 الكفاية "هـ" ص 320، 322 - 324 وص 436 من المحدث الفاصل "المطبوع". 3 الكفاية "هـ" ص 317. 4 جامع بيان العلم وفضله 2/ 219، 220.

429- كما اشترط مالك، رحمه الله شرطين آخرين، وهما أن يكون الفرع المجاز من الكتب معارضًا بأصل الشيخ، حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالمًا بالأحاديث التي يجيزها، وهو ثقة في دينه وروايته ومعروفًا بالعلم أيضًا1 والشرط الأول طبيعي حتى يعوض بالإجازة ما فقد بالسماع أو القراءة على الشيخ ففي كل منهما يصحح الشيخ للتلميذ نسخته، وما قد يقع فيها من أخطاء. ورأى مالك الشرط الثاني حتى لا تروج أحاديث غير العلماء الثقات وحتى لا يجيز للرجال ما ليس من حديثه. وينسب إليه زورًا وبهتانًا. 430- أما أبو حنيفة فهو يجيزها لكنه اشترط لها هو ومحمد أن يكون المجاز له عارفًا بالأحاديث التي يجيزيها له الشيخ، حتى يمكنه أن يكتشف خطأ قد يقع فيها أو تزويرًا يحدث بها2. وربما كان هذا الشرط هو الذي ضيق من إباحة الإجازة عنده حتى ظن البعض أنه لا يجيزها مطلقًا. 431- والإمام الشافعي يرى صحة الإجازة، فقد أجاز كتبه لحسين بن على الكرابيسي، وقال له: خذ كتب الزعفراني، فانسخها، فقد أجزتها لك، فأخذها إجازة3. 432- والرواية التي فهم منها أن الشافعي يقبل الإجازة لا تدل على ذلك، فهي تقول: إن الربيع بن سليمان المرادي قال: اتني من البيوع من كتاب الشافعي ثلاث ورقات، فقلت: أجزها لي، فقال: ما قرئ علي كما قرئ على، ورددها غير مرة، حتى أذن الله في جلوسه، فجلس، فقرئ عليه4. 433- لا تدل هذه الرواية على عدم قبول الإجازة مطلقًا، وإنما تدل على أن الشافعي لا يراها مثل القراءة على الشيخ، وهو قد أحب للربيع

_ 1 الكفاية هـ ص 317. 2 كشف الأسرار 3/ 764. 3 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 448. 4 الكفاية هـ ص 317، ومعنى عبارة الشافعي "ما قرئ على كما قرئ على" أنه لا تعدل الإجازة التي طلبها الربيع القراءة عليه بل هي أقل منها.

الذي يعده لنقل علمه ورواية مذهبه وكتبه1 أن يأخذ علمه بطريق أعلى من الإجازة لا سيما وقد قرأ الكتاب في هذه الرواية إلا ثلاث ورقات، أو كما يقول الخطيب البغدادي -إذا ذهبنا بعيدًا- إن هذه محمول فقط على الكراهة، للاتكال على الإجازة بدلًا من السماع2. 434- فلنكن إذن مع الذين يجيزونها، وفيهم هؤلاء الأئمة الكبار، لنعرج على وجوهها الموجودة في القرن الثاني الهجري. 435- وقد ذكر المصنفون من المتأخرين وجوهًا كثيرة لها، ولكنننا لن نعرض لكل هذه الوجوه التي لم تكن موجودة آنذاك، وإنما نكتفي بما كان موجودًا منها وكان جديرًا بنقل الحديث نقلًا صحيحًا موثقًا. 1- ومن هذه الوجوه: أن تكون الإجازة لكتب معينة وأحاديث مفسرة إما في اللفظ والكتب أو محال على فهرسة حاضرة مشهورة، ولمعين من الطلاب أو الأصحاب3. وقد حدث هذا في القرن الثاني الهجري، ومنه ما يرويه ابن وهب قال: كنت عند مالك بن أنس، فجاءه رجل يحمل "الموطأ" في كسائه، فقال له: يا أبا عبد الله، هذا موطئوك، قد كتبته وقابلته، فأجزه لي. قال: قد فعلت4. ويدخل في هذا الوجه ما عده القاضي عياض نوعًا من المناولة، وهو "أن يعرض الشيخ كتابه ويناوله الطالب، ويأذن له في الحديث عنه، ثم يمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه"5 وواضح أنه يختلف عن المناولة في أن الشيخ يعرف الطالب بأحاديثه عن طريق مناولتها له، ولكنه يفقده أهم

_ 1 الكفاية هـ ص 317. 2 قال الشافعي: الربيع راويتي "طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي" 393 - 476هـ تحقيق إحسان عباس بيروت دار الرائد العربي 1970 ص 98. 3 الإلماع ص 88. 4 المصدر السابق ص 90. 5 المصدر السابق ص 82.

ميزة في المناولة وهي: أنه لا يعطيه الكتاب وتبقى إجازة الأحاديث فقط ولهذا رأيناه يدخل هنا. 2- ومن هذه الوجوه أن تكون الأحاديث المجازة عامة أو مبهمة غير معينة، كأن يقول: قد أجزت لك جميع روايتي أو ما صح عندك من روايتي. ولعل من هذا الوجه قول الشافعي لحسين الكرابيسي، خذ كتب الزعفراني فانسخها فقد أجزتها لك. وقد تقدم ذلك. ويشترط لصحة هذا الوجه أن يقوم المجاز له بتعيين روايات الشيخ وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها1. كما يشترط في الوجهين إذا كانت الإجازة كتابة والمجاز له غائبًا أن يتأكد من خط المجيز وخاتمه2. وبهذا وذاك توثق الأحاديث فلا يروي التلميذ عن شيخه إلا ما تأكد أنه من مروياته مكتسبًا الثقة فيها من الثقة بالشيخ الذي أجازها. 436- ويمكننا القول بأن هذين الوجهين هما اللذان وجدا في القرن الثاني الهجري وتكلم فيهما أئمته.. أما بقية الأوجه التي ذكرها المتأخرون؛ من الإجازة للعموم من غير تعيين المجاز له، أو الإجازة للمجهول أو للمعدوم، أو لما لم يروه المجيز بعد -فلم نعثر على روايات تدل على وجودها آنئذ كما لم يقل فيها أحد من الأئمة شيئًا ونقل عنهم -على ما نعلم- ولم تتحدث عنها الكتب المبكرة في أصول الحديث مثل المحدث الفاصل. وكل من تكلم عنها بالإجازة أو عدمها في الكتب المتأخرة نوعًا ما من الأئمة المتأخرين. الأداء عن الإجازة: 437- والتلقي بالإجازة والرواية عنها أقل قيمة من جميع المناهج السابقة، فالاتصال بين الشيخ والتلميذ ليس قويًّا كما وجدنا في السماع والقراءة.

_ 1 الكفاية "هـ" ص 334 - الإلماع ص 91 - 92. 2 الإلماع ص 88.

على الشيخ مثلًا، ولهذا نرى جمهور الذين قبلوها يخصصها بعبارة مشعرة بها حتى لا تلتبس بالسماع، أو العرض، أو المناولة، أو المكاتبة، كأن يقول الراوي عند الأداء "أجاز لي فلان" أو "حدثني إجازة" أو "أخبرني إجازة"1. 438- ونقل عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله: "خبرني" أو "خبرنا" وهو اصطلاح لا يطلق على غير هذا الضرب من ضروب التلقي. ومما هو جدير بالذكر أن الأوزاعي كان يقول عن الإجازة مثل المناولة يتدين بأحاديثها، ولا يحدث بها2. وتخصيصه مثل هذا اللفظ يجعلنا نفهم أنه لا يريد الأداء عن الإجازة بلفظ "حدثنا" أو "حدثني" -كمنا فهمنا ذلك في المناولة. وعلى هذا فليس هناك تعارض كما يقول السيوطي2. 439- ولم يشذ عن الجمهور إلا سفيان الثوري وابن جريج، والإمام مالك في بعض الروايات عنه.. فقد قالوا بجواز أن يقول الراوي: "حدثني" أو "أخبرني" مطلقًا من غير قيد3.

_ 1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص195. 2 تدريب الراوي 2/ 30 وانظر ص211 من هذا الكتاب. 3 المصدر السابق 2/ 51، 52.

إعلام الشيخ

6- إعلام الشيخ: 440- أن يعلم الشيخ التلميذ أن هذا الحديث من روايته، أو أن هذا الكتاب من سماعه فقط دون إذن له في الرواية عنه، أو يأمره بألا يرويه عنه، أو يقول له الطالب: هو روايتك أحمله عنك، فيقول له: نعم، أو يقره على ذلك ولا يمنعه1. هل وجد هذا المنهج في القرن الثاني الهجري؟: 441- يرى القاضي عياض أنه وجد في القرن الثاني الهجري بدليل أن الزهري فعله مع عبيد الله العمري، وهما إمامان، ويروى أن عبيد الله "147 هـ" قال: "كنا نأتي الزهري بالكتاب من حديثه، فنقول له:

_ 1 الإلماع ص107 - 108.

يا أبا بكر، هذا من حديثك؟ فيأخذه، فينظر فيه، ثم يرده إلينا، ويقول: نعم، هو من حدثني. قال عبيد الله: نأخذه وما قرأه علينا ولا استجزناه أكثر من إقراره بأنه من حديثه". ثم يعقب القاضي عياض على هذه الرواية بقوله: "فهذا مذهب الزهري إمام هذا الشأن، وعبيد الله العمري أحد أئمة وقته بالمدينة، وآخرين من أقرانهم أبهمهم من أصحاب الزهري، ومن هم إلا مالك وابن عمه أبو أويس ومحمد بن إسحاق، وإبراهيم بن سعد ويونس بن يزيد وطبقتهم"1. 442- كما يذكر رواية عن ابن جريح تقول: إنه جاء إلى هشام ابن عروة فقال له: الصحيفة التي أعطيتها فلانًا هي حديثك؟ قال: نعم، ويعقب الواقدي على هذه الرواية، فيقول: سمعت ابن جريح بعد ذلك يقول: "أخبرنا هشام بن عروة"2. 443- ونشك في أن هذا الضرب قد وجد في القرن الثاني الهجري كمنهج صحيح من مناهج الرواية يقره إمام مثل ابن شهاب الزهري. 444- أما هاتان الروايتان اللتان تقولان: إن عبيد الله العمري وابن جريحوآخرين كانوا يجيزونه -فنظن أنهما لم تنقلا على الوجه الصحيح، بدليل أنهما وردتا على غير هذا الوجه عند غير القاضي عياض، وفي بعضها أن ابن شهاب كان يجيز رواية الكتاب ولا يكتفي بالأعلام، ولنعرض لروايات الرامهرمزي، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر. 445- يروي الرامهرمزي: عن عبد الله بن عمر قال: أشهد على ابن شهاب لقد كان يؤتى بالكتب من كتبه، فيقال له: يا أبا بكر، هذه كتبك؟ فيقول: نعم، فيجتزي بذلك ويحمل عنه ما قرئ عليه "..ويلتقي الرامهرمزي مع القاضي في بعض سند هذه الرواية. وليس فيها -كما ترى عند القاضي عياض- أن عبيد الله هو الذي كان يأتي بالكتب -وهذا ما بنى عليه القاضي عياض استدلاله، كما أن الرامهرمزي قد أوردها دليلًا على

_ 1 الإلماع ص114. 2 المصدر السابق ص115.

الإجازة وصحتها، مما جعل بعض الباحثين يعقب عليها بأنه كان ينظر في هذه الكتب ويجيزها1. ومما يبعد أن يكون عبيد الله هو الذي يفعل ذلك مع الزهري ويؤكد أن رواية القاضي عياض على غير وجهها الصحيح، أنه هو الذي كان يرتضيه الزهري قارئًا دون غيره من أقرانه مثل مالك ومحمد بن إسحاق2، فهو كان يأخذ أحاديثه عرضًا، ولم يكن في حاجة إلى غير هذا. 446- ورواية الخطيب البغدادي أوضح من هذه، فهي تقول: إن عبيد الله بن عمر قال: كان الزهري يؤتى بالكتاب، فيقال: نرويه عنك؟ فيقول: نعم،.. وفي رواية أخرى: كان يؤتى بالكتاب من كتبه، فيتصفحه، وينظر فيه، ثم يقول: هذا حديثي أعرفه، خذه عني، وفي رواية ثالثة: كنت أرى الزهري يؤتى بالكتاب، فيقال: نرويه عنك؟ فيقول: نعم3. ففي هذه الروايات نلاحظ ما لاحظناه عن الرامهرمزي من أن الذي يأتي بالكتاب ليس هو عبيد الله، وإنما حكى ما رآه. كما نلاحظ أن هناك إذنًا بالرواية، والإعلام لا يكون فيه هذا، وفي الرواية الوسطى مناولة تزيد على الإجازة كما عرفنا. 447- ويورد ابن عبد البر رواية الخطيب، ويبين أنها من قبيل المناولة فيقول: "هذا معناه أنه كان يعرف الكتاب بعينه، ويعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه، وهذه هي المناولة"4. 448- أما رواية ابن حريج فقد أوردها الخطيب في باب الإجازة، وهي تدل على ذلك، لأنها تقول: "جاء ابن جريح بكتاب، فقال: هذا حديثك، أرويه عنك؟ ... قال: نعم " ... وفي رواية: "جاء ابن جريج

_ 1 المحدث الفاصل وتعليق الدكتور عجاج الخطيب. المطبوع ص435. 2 جامع بيان العلم وفضله 2/ 217. 3 الكفية "هـ" ص 318. 4 جامع بيان العلم وفضله 2/ 218.

بصحيفة مكتوبة، فقال لي: -لهشام- با أبا المنذر، هذه أحاديث أرويها عنك؟ قلت: نعم1. فهذا من باب الإجازة، كما استدل الخطيب. 449- وجدير بالذكر أن الرامهرمزي التقى مع القاضي عياض في هذه الرواية فلم يذكر فيها إجازة بالرواية -وإن كان قد ساقها دليلًا من أدلة الإجازة2. كما التقى القاضي عياض أيضًا ابن سعد في كتابه الطبقات3. إن هذا يدلنا على الاضطراب والشك في هذه الروايات مما لا نستطيع معه أن نصل إلى الوجه الصحيح منها. 450- ومهما يكن من شيء، فعلى افتراض صحة روايتي القاضي عياض؛ لأن المواقف ربما تعددت، فإن العمل "بإعلام الشيخ" قد أجيز وتم في أضيق الحدود وفي الحالة التي يتأكد فيها الشيخ أن التلميذ من العلماء المجيدين الذين يأخذون الأحاديث ويؤدونها أداء صحيحًا، وهذا هو الحال بالنسبة لعبيد الله بن عمر وابن جريح. وقد أسلفنا منزلة عبيد الله عند الزهري وثقته فيه. أما ابن جريح فقد كان من أئمة هذا الشأن ومن أوائل المصنفين في الحديث، فهما من الذين يمكنهم تلقي الأحاديث بهذه الطريق وروايتها دون تحريف فيها. 451- وحجة القائلين بصحة "إعلام الشيخ" أن اعترافه للتلميذ بالكتاب، وإقراره بأنه سماعه، كتحديثه له بلفظ، وقراءته عليه وإن لم يجزه له4، ويقول الرامهرمزي: إنه بعد أن يعترف الشيخ بأن الكتاب كتابه أو سماعه فإن التلميذ ليس في حاجة إلى الإذن له بروايته قياسًا على أن التلميذ إذا سمع من الشيخ أحاديث، فإنه تجوز له رواية هذه الأحاديث، أذن له الشيخ أو لم يأذن5.

_ 1 الكفاية "هـ" ص320. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 430. 3 الطبقات الكبرى 5/ 326. 4 الإلماع ص 108. 5 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 451 - 452.

452- وعند الأداء يقول: من تلقي الأحاديث بهذا الضرب: "حدثني فلان أن فلانًا حدثه"، ولا يقول: "حدثني فلان أن فلانًا قال: حدثنا فلان"، لأن هذا التعبير الأخير يوحي بأنه سمع ألفاظ الشيخ، والحقيقة أنه لم يسمعها1. 453- وفي القرن الثاني وجدنا من ينكر هذا المنهج، فقد نعوا على عبد الملك بن حبيب أنه أخذ كتب أسد بن موسى منه "132 - 212هـ" ونسخها، وحدث بها عنه، ولم يجزه إياها2.

_ 1 المصدر السابق ص451. 2 الإلماع ص 109- فتح المغيث 2/ 130.

الوصية بالكتب

7- الوصية بالكتب: 454- وهو أن يوصي الشيخ بأن تدفع كتبه عند موته أو سفره لرجل. 455- ويقول القاضي عياض: "وهذا باب أيضًا قد روي فيه عن السلف المتقدم إجازة الرواية بذلك؛ لأن في دفعها له نوعًا من الإذن وشبهًا من العرض والمناولة"1. 456- ولكننا لا نعلم من فعله من السلف غير أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي "104 هـ" الذي أوصى عند موته بأن تدفع كتبه إلى أيوب السختياني "131 هـ". وقد استفتى أيوب محمد بن سيرين: أيحدث بهذه الكتب أولا؟ وقد أفتاه ابن سيرين أولًا بالإيجاب، ثم توقف، وترك المسألة له ثانية، فقال: لا آمرك ولا أنهاك2. 457- ونظن أن هذه الرواية عن السلف لا تكفي دليلًا على مشروعية هذا الضرب؛ لأن التلميذ في هذه الحالة ربما يخطئ عند رواية هذه الكتب، ولا يجد الشيخ الذي يصلح له هذا الخطأ، وليس في وصية أبي قلابة ما يدل

_ 1 الإلماع ص: 115. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 459.

على أنه يجيز له الرواية. اللهم إلا إذا كان يعتمد على أن أيوب قد سمع منه هذه المرويات وتعرف عليها، ولهذا لا يحق لنا أن ننسب إلى السلف جواز الرواية بها -كما فعل القاضي عياض- ولقد وصف ابن الصلاح قوله بأنه بعيد جدًّا، والقول به زلة من عالم أو متأول. على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة1، ووصفه النووي بأنه غلط2. 458- يقول الخطيب البغدادي تعليقًا على وصية أبي قلابة لأيوب: "يقال: إن أيوب كان قد سمع تلك الكتب، غير أنه لم يحفظها، فلذلك استفتى محمد بن سيرين عن التحديث منها، ولا فرق بين أن يوصي العالم لرجال بكتبه، وبين أن يشتريها ذلك الرجل بعد موته، في أنه لا يجوز له الرواية منها إلا على سبيل الوجادة، وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم، اللهم إلا أن يكون تقدمت من العالم إجازة لهذا الذي صارت الكتب له بأن يروي عنه ما يصح عنده من سماعاته، فيجوز أن يقول فيما يرويه من الكتب "أخبرنا" أو "حدثنا" على مذهب من أجاز أن يقال ذلك في أحاديث الإجازة، مع أنه قد كره الرواية عن الصحف التي ليست مسموعة غير واحد من السلف3". 459- وعلى هذا فالوصية لسيت بتحديث لا إجمالًا ولا تفصيلًا، ولا تتضمن الإعلام لا صريحًا ولا كناية، ولهذا لم يوافق ابن الصلاح القاضي عياضًا في تشبيهها بقسمي الإعلام والمناولة، لأن الحجة التي جوزت كونهما طريقين من طرق التلقي الصحيح ليست موجودة هنا4. 460- والأمر لا يعدو -كما رأى الخطيب- أن يكون إجارة سبقت هذه الوصية. والوصية كأن لم تكن، أو وجادة أي صارت الكتب إليه كما تصير بالشراء والإجازة قد سبق أن تعرفنا عليها وعلى حكمها، ونتعرف على الوجادة الآن.

_ 1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 119. 2 التقريب للنووي، فن أصول الحديث: محي الدين يحيى بن شرف النووي 1388هـ - 1968م -مكتبة محمد علي صبيح ص 27 - تدريب الراوي 2/ 60. 3 الكفاية "هـ" ص 352 - 353. 4 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 199.

الوجادة

8- الوجادة: 461- وهو الوقوف على كتاب بخط محدث مشهور، ويعرف الواقف الخط وتصحيحه ولكنه لم يسمع هذا الكتاب. 462- وهذا الضرب موجود منذ عصر الصحابة وعصر التابعين ومن بعدهم. حيث كثرت الكتب وكثر الرواة الذين لم يكن من السهل عليهم اللقاء بالمحدثين وأخذ الأحاديث عنهم سماعًا أو قراءة أو مناولة أو كتابة أو إجازة. ففي عصر الصحابة وجدنا رواية عن ابن عمر أنه وجدد في قائم سيف أبيه عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، صحيفة فيها: "ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة.." إلى آخره1. وفي عصر التابعين وجدنا أكثر من رواية عن بعض الصحف التي انتقلت من الصحابة إلى التابعين عن طريق الوجادة: فعن ابن عائذ قال: وجدنا في نسخة عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه "أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى أن يدخل على المغيبات2". وقال التميمي: ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن فرواها أو قال: فأخذها وأتوني بها، فلم أروها3. وعن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتابًا: "بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لربكم في بقية دهركم نفحات، فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة يسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدًا"4.

_ 1 الكفاية "هـ" ص 354. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 498. المغيبات: جمع مغيبة، وهي التي غاب عنها زوجها. 3 الكفاية "هـ" ص 354. 4 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 497.

وانتقلت كتب بعض التابعين إلى بعض، وإلى تابعيهم، ومنها ما قاله همام بن يحيى: قدمت أم سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقرئ على ثابت وقتادة وأبي بشر والحسن ومطرف، فردوها كلها، وأما ثابت فروى منها حديثًا وحدًا1. 463- ظلت هذه الظاهرة موجودة في عصر تابعي التابعين ومن بعدهم. وعلى الرغم من ظهورها بكثرة فإن الأحاديث التي كانت تنقل عبرها لم يعتبرها نقاد الحديث صحيحة، وإنما رفضوها، وحكموا عليها بالضعف. اللهم إلا إذا اقترنت الوجادة بسماع أو قراءة على صاحب هذه الأحاديث. 464- ويروي الخطيب البغدادي ما يفهم منه أن كراهة التحدث بما في الكتاب وجادة نشأت منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم؛ يروى بسند عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أنه قال: "إذا وجد أحدكم كتابًا فيه علم لم يسمعه من عالم فليدع بإناء وماء فلينقعه فيه حتى يختلط سواده مع بياضه2. 465- وفي القرن الثاني وجدنا وكيع بن الجراح ينهى أن ينظر المحدث في كتاب لم يسمعه من صاحبه، حتى لا يعلق قلبه منه شيء، فيحدث بما لم يسمعه3. وربما كان هذا السبب نفسه هو ما جعل محمد بن سيرين يرفض أن يمنع أحد الرواة عنده كتابًا ويقول: لا يبيت عندي كتاب4 وجعل عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بجمع السنة مدونة، يأمر بإحراق كتاب لزيد ابن ثابت، رضي الله عنه في الديات5. 466- وقد حكم الإمام أحمد على حفص بن سليمان الأسدي بأنه متروك الحديث بعد ما علم أنه أخذ من شعبة كتابًا، فلم يرده، وأنه كان يأخذ كتب الناس فينسخها ويحدث بها من غير سماع6. ويقول عن عبد العزيز

_ 1 الكفاية "هـ" ص354. 2 فتح المغيث 2/ 137 - الكفاية "هـ" ص 353. 3 المصدرين السابقين 2/ 137 - ص 353. 4 الكفاية "هـ" ص 353. 5 العلل ومعرفة الرجال 1/ 256. 6 الجرح والتعديل مج 1 ق 2/ 744.

ابن محمد الدراوردي، مبينًا آثار التحدث بالوجادة: إذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهم، كان يقرأ من كتبهم فيخطئ1. 467- كما بين الإمام أحمد أن التحدث بالوجادة هو ما جعل بعض الرواة يحدث بزيادات في الأحاديث ليست منها، يقول: عن الحجاج بن أرطاة: "كان الحجاج من الحفاظ" فسأله ابنه عبد الله عندما قال ذلك: "فلم ليس هو عند الناس بذاك"؟ قال: "لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ليس يكاد له حديث إلا فيه زيادة، يقولون: لم يلق الزهري وكان يروي عن رجال لم يلقهم، وكأنه ضعفه"2. 468- وقد أدرك الإمام أحمد بخبرته هذه غب ما وقع فيه هؤلاء الرواة الذين يحدثون عن الوجادة، فحذر منهم، وكان يقول: "إياكم وأصحاب الكتب؛ فإنه لا يزال أحدهم قد جعل عمرًا عمر وأشباهه "أي يحرفون في الأحاديث لعدم سماعها، والاعتماد على الكتب"3. 469- ووهن الأئمة أحاديث عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، لأنه أخذ كتاب محمد بن الحنفية، فروى منه من غير سماع، يقول عبد الرحمن بن مهدي: كل شيء روى عبد الأعلى الثعلبي عن محمد بن الحنفية إنما هو كتاب، أخذه لم يسمعه، ما أدري كيف أحدث عن عبد الأعلى! ... ويقول يحيى ابن سعيد القطان: سألت الثوري عن أحاديث عبد الأعلى عن ابن الحنفية، فوهنا. وقال مرة أخرى مبينًا سبب هذا التوهين: "كنا نرى أنها من كتاب ولم يسمع منه شيئًا"4. 470- كما وهن البعض أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، الصحابي الجليل، لأنها في رأيهم أخذها من

_ 1 المصدر السابق مج 2 ق 2/ 1833. ويتحمل هذا المثال أنه يأخذ هذه الكتب التي سمعها مع أصحابها فيحدث بها. 2 المصدر السابق مج 1 ق 2/ 673. 3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 140. 4 الجرح والتعديل مج 3/ ق 1/ 134.

كتاب وجده شعيب عند جده ولم يسمعه منه. قال علي بن المديني: ما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده؛ فهو ضعيف ... وقال أيوب السختياني لليث بن أبي سليم: "شد يدك بما سمعت من طاوس ومجاهد، وإياك وجواليق وهب بن منبه، وعمرو بن شعيب، فإنهما صاحبا كتاب". ويبين ابن حبان أثر تحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بالوجادة فيقول عنه: "إذا روى عن أبيه عن جده ففيه مناكير كثيرة".. وقال ابن معين: "إذا حدث عن أبيه عن جده فهو كتاب، فمن هنا جاء ضعفه"، وهذا هو السبب في أن بعض الأئمة قلل من قيمة الصحيفة التي يرويها عمرو، فقال: "ما يسرني أن صحيفة عبد الله بن عمرو عندي بتمرتين أو بفلسين"1. 471- ومن هذه الروايات يتبين لنا لم عاب الأئمة الأحاديث التي تروى عن طريق الوجادة وعابوا رواتها، لأنها تكون عرضه للتحريف والزيادة بما ليس منها، وهم يهدفون إلى أن تنقل سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نقلًا موثقًا لا تبديل فيه ولا وهم. 472- ومن هنا كانوا دائمًا يسألون الراوي، عندما يخفي عليهم الأمر، أو يشكون في السماع: هل سمع الأحاديث التي يرويها أم هي وجادة؟.. يقول أبو بكر بن عياش: قلت لجميل بن زيد: هذه الأحاديث أحاديث ابن عمر؟ قال: أنا ما سمعت من ابن عمر شيئًا، إنما قالوا لي: اكتب أحاديث ابن عمر، فقدمت المدينة، فكتبتها..2 ويقول يزيد بن هارون: كان أبو جناب يحدثنا عن عطاء والضحاك وابن بريدة، فإذا وقفناه، نقول: سمعت من فلان هذا الحديث، فيقول: لم أسمعه منه، إنما أخذت من أصحابنا3.

_ 1 المصدر السابق مج3 ق1/ 1323 - ميزان الاعتدال مج 3 ص 265 - 266. وجدير بالذكر أن بعض الأئمة أثبت صحة سماع شعيب من جده عبد الله، وتكون هذه الصحيفة بناء على ذلك قد نقلت سماعًا ولا مطعن فهيا على رأيهم. "ميزان الاعتدال مج3 ص263 - 268". 2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 168. وانظر أيضًا 1/ 237. 3 الجرح والتعديل مج 4 ق 2/ 587.

472- وكانوا يستعملون ذكاءهم وحيلهم، حتى يكشفوا من يروي عن طريق الوجادة ولا يفصح. يقول أبو بكر بن أبي أويس: أتيت ابن سمعان، فأخرج إليّ كتابًا، فجعل يقرؤه، فيقول: "حدثني فلان، فمر على حديث فقال: حدثني شهر بن حوشب، فقلت: من هذا؟ قال: هذا رجل من أهل خراسان مر علينا. فقلت: لعلك تريد شهر بن حوشب. قال: نعم. فقلت: إنه يأخذ كتبًا من غير سماع فيحدث بها، ولم أعد إليه1. الأداء عن الوجادة: 473- أما وقيمة الوجادة هذه فلا تجوز أن يقول الراوي عند الأداء: "حدثني" أو "أخبرني"؛ لأن هذا يعد كذبًا، ولأن الأمر حينئذ يلتبس بالسماع أو القراءة، وهما أعلى درجات التلقي، يقول القاضي عياض: "فهذا لا أعلم من يقتدي به أجاز النقل فيه: "حدثنا" و"أخبرنا" ولا من يعده معد المسند"2. 474- أما إذا بين بالألفاظ ما يدل على الوجادة فإنه يكون قد أخلى عهدته، وأبرأ ذمته. ولا يعد من الضعفاء بروايته أو نقله هذه الأحاديث.. ولهذا لم يعيبوا على عبد الرزاق الصنعاني أن أتوا إليه بصحيفة لا يعرفها، فقرأها عليهم، لكنه لم يقل: "حدثنا".... 3ورأى أحمد بن حنبل أن مخرمة ابن بكير "ثقة" على الرغم من أنه لم يسمع من أبيه كتبه، وإنما يحدث عنها وجادة؛ لأنه يعلن أنه لم يسمع من أبيه وإنما آلت إليه كتبه وجادة، يقول مخرمة: ما سمعت من أبي شيئًا، وإنما هذه كتب وجدناها عندنا عنه، ما أدركت أبي

_ 1 الجرح والتعديل مج 2ق 2/ 279. 2 الإلماع ص 117. 3 الجرح والتعديل مج 3ق 1/ 204.

إلا وأنا غلام1.. ويقول يحيى بن معين عن إبراهيم ابن عقيل: "لم يكن به بأس، ولكن ينبغي أن تكون صحيفة وقعت إليه"2. 475- والأجدر بالراوي أن يقول عند الأداء، وقد وثق بأن الكتاب الذي وجده بخط مؤلفه "وجدت بخط فلان" و"قرأت في كتاب فلان بخطه"3 أو "بلغني عن فلان" و"وجدت في الكتاب الفلاني" إذا لم يثق أنه خط المؤلف أو خط تلاميذه الموثوق بهم. 476- وإذا أطلق عبارة تحتمل السماع وغيره فقد دلس، والتدليس عابه أكثر من إمام، واعتبروه من الكذب، وهذا إذا قال مثلًا: "قال فلان" أو "عن فلان"..

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 282. ميزان الاعتدال 4/ 80 - 81. 2 الجرح والتعديل مج 1 ق 1/ 369.

التوثيق بالكتاب في نقل الحديث

التوثيق بالكتاب في نقل الحديث: 477- وبعد أن استعرضنا مناهج تلقي الحديث وأدائه، وعرفنا ما هو مشروع منها وما هو غير مشروع في توثيق الحديث يجدر بنا أن نقف وقفة مؤكدة عند الكتاب والكتابة ودورهما في صيانة السنة وتوثيقها أثناء نقلها بعد أن وقفنا قبل ذلك عند دوره في ضبط الأحاديث عند الراوي وإعانته على ذلك. 478- والحق أن دور الكتاب هنا أكبر من دوره هناك، ويتضح هذا الدور في كل مناهج التلقي كما سبق أن عرفنا. فقد رأينا من صور السماع إملاء الشيخ على التلاميذ من كتابه وأن هذا أعلى صور السماع. 479- وقد يملي الشيخ من كتابه لا من حافظته، كما هو مصرح به في بعض الروايات، يقول هارون بن معروف "231هـ" قدم علينا بعض

الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه، فسألته أن يملي علي شيئًا، فأخذ الكتاب يملي1 ... وإذا كان الشيخ يملي فالتلميذ يدون ما يميليه من الأحاديث. 480- وقد كانوا ينصون على الإملاء ليتميز الراوي عن أقرانه بالصحة والجودة في سماعه، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه عن شعيب بن أبي حمزة: كيف سماعه من الزهري؟ أليس هو عرض: قال: لا، حديثه يشبه حديث الإملاء. هو أصح حديثًا عن الزهري من يونس ... نظرت في كتب شعيب، أخرجها إلي ابنه، فإذا بها من الحسن والصحة والشكل، ونحو هذا. ويقول يحيى بن معين عنه: "ثقة في الزهري ... كتب عن الزهري إملاء، وكان كاتبًا2". 481- وكان بعض التلاميذ يأبى إلا أن يملي عليه الشيخ ليحوز بهذه الدرجة العليا من الإتقان؛ لما قدم ابن جريج البصرة قام معاذ بن معاذ، فشغب وقال: لا نكتب إلا إملاء، وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل معاذ، فكتب إملاء؟ فقال له أبوه: كتبوا إملاء3 ... ويقول عفان "219هـ": ما رضينا من أحد إلا بالإملاء إلا شريكًا، وكان عفان هذا يحض أصحاب الحديث على الضبط والتقييد إذا أخذوا عنه ... وكان يقول لحماد بن سلمة: لا نكتب إلا الإملاء4. 482- وإذا كانت الكتابة من أهم وسائل التوثيق ... وإذا كان السماع مع الإملاء هما الجديرين بنقل الحديث نقلًا موثقًا عند نقاد الحديث، فإن مما يزيدنا اطمئنانًا أن كثرة من الأحاديث نقلت على هذا الوجه؛ لأنهم كانوا لا يعتبرون المحدث جديرًا بهذا اللقب إلا إذا كانت أحاديثه كثيرة، يقول

_ 1 تهذيب التهذيب، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت 852 هـ) - دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد بالهند 1327 - 11/ 284. 2 الجرح والتعديل مج 2 ق 1/ 1508. 3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 370. 4 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 602، الإلماع ص 150 - أدب الإملاء ص 11.

أبو بكر بن أبي شيبة: "من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث"1. 283- وبالنسبة إلى حالات السماع عمومًا فقد استقرت عادة المحدثين على أن يكتب التلميذ حديث الشيخ من أصول أو من كتب تلاميذه أو أقرانه الذين سمعوا منه أو قرءوا عليه، ثم يأتي فيمسعه منه، يقول قراد أبو نوح: كنت آتي عبد الله بن عثمان -يعني صاحب شعبة- فأكتب حديث شعبة، ثم آتي شعبة، فأسأله فيحدثني2. 484- وقد تلازم السماع والكتابة تلازمًا قويًّا حتى كان يعبر بأحدهما عن الآخر فكثيرًا ما كانوا يطلقون أحدهما على الآخر، سئل الأوزاعي عن الغلام يكتب الحديث قبل أن يبلغ الحد الذي تجري عليه فيه الأحكام؟ ويفهم الأوزاعي أن المقصود بكتابة الحديث هنا السماع، ولهذا يجيب: إذا ضبط الإملاء جاز سماعه وإن كان دون العشر3. 485- وقد فهم ابن خلاد الرامهرمزي مثل هذا عندما قال: إن ابن عيينة أخبر -في رواية الجوهري- أنه كتب عن الزهري وهو ابن خمس عشرة سنة. والحقيقة أن عبارة الجوهري التي أشار إليها تقول: إن سفيان قال: سمعت منه -أي الزهري- وأنا ابن خمس عشرة سنة4. ولم يذكر الكتابة. 486- وقد عبر الإمام أحمد عن الكتابة بالسماع فقال عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري: "ليس بشيء، وقد سمعت أنا منه، ثم مزقته"5. ومعلوم أنه يريد أن يقول كتبت عنه وسمعت، ولكنه اكتفى بأن يقول سمعت منه، لتلازم الاثنين". 487- وقد كان بعض الأئمة يحرص على أن يقرأ الشيخ من كتبه حتى

_ 1 أدب الإملاء ص11. 2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 64. 3 المحدث الفاصل، المطبوع ص185. 4 الجرح والتعديل مج 2 ق 2/ 1202.

تكون أحاديثه موثقة، مر عبد الله بن المبارك سنة ثمان وستين على محمد بن جابر وهو يحدث بمكة، فقال له: حدث يا شيخ من كتبك1. 488- ويحرص بعض الشيوخ على أن يعين بعض تلاميذه على الكتابة عند الإملاء، يقول الحسن بن عرفة: كنت آتي وكيعًا، وكان يملي من حفظه، وكنت بطيء الكتابة، فيأخذ يدي في يده، ويقول: هات، فيكتب لي2. 489- فالسماع في حقيقة الأمر إنما هو وسيلة للحصول على كتاب صحيح يدون فيه الحديث تدوينًا موثقًا ... ويبقى هذا الكتاب يسند الذاكرة في أداء الحديث {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 3، فيتعاونان معًا على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 490- فإذا ما تركنا السماع إلى العرض وجدنا الأمر واضحًا، لأن التلميذ يقرأ من كتاب قد أعده قبل أن يجلس مع الشيخ يقرأ عليه، وما عملية القراءة إلا لتصحيح الأخطاء التي قد تكون واقعة أثناء النقل، وللاطمئنان إلى أن الأحاديث التي نقلت إنما هي أحاديث الشيخ لم يزور فيها بزيادة ولا بنقص. فالعرض أيضًا وسيلة لتصحيح الكتاب ونطقه سليمًا كما هو الحال في معظم السماع. 491- أما المناولة والمكاتبة وغيرها فإنها تعتمد على الكتاب اعتمادًا كبيرًا وكليًّا بعضها كالمناولة والمكاتبة والوصية. وقد وضعت الشروط التي تجعل الكتاب فيها صحيحًا موثقًا، لما سبق أن ذكرنا. 492- وصحة الكتاب كانت تغفر للراوي سوء تلقيه للحديث؛ لأنه كفيل بتوثيقه قال الإمام أحمد: وقد وثق راويًا فقيل له: إنه كان يسيء الأخذ قال: قد كان يسيء الأخذ، ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحًا4.

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 370. 2 أدب الإملاء ص16. 3 سورة البقرة: 282. 4 الجرح والتعديل مج 2 ق 2/ 879.

ولعل هذا يجعلنا نطمئن إلى مقدار العناية بتوثيق الأحاديث في القرن الثاني الهجري. 493- ومع توثيق الرواة وتوثيق الحديث من حيث نقله من راو لآخر كان على النقاد أن ينظروا في الأسانيد وخاصة ما أرسل منها على الرغم من قلة رواتها وصحة أخذهم للحديث، وهذا ما سندرسه في الفصل التالي إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع: المتصل والمنقطع من الأسانيد

الفصل الرابع: المتصل والمنقطع من الأسانيد عناية النقاد بالأسانيد واتصالها: 294- عرفنا في الفصلين السابقين أن جمهور العلماء قد اشترطوا في راوي الحديث، كي يصبح خبره حجة أن يكون مسلمًا عاقلًا عدلًا ضابطًا، وأن يأخذ الحديث بمناهج محددة، من سماع أو عرض أو مناولة أو مكاتبة، وبشروط تجعل الحديث ينتقل انتقالًا موثقًا. وقد وضعوا هذه الشروط وتلك المناهج حتى ينقل الحديث نقلًا صحيحًا فلا تمتد إليه أيد آثمة بالتبديل والتغيير أو الوضع، فتفسد على المسلمين أمر دينهم. 495- وقد كان الكثيرون من الرواة، وخاصة بعد أن وقعت الفتن بين المسلمين، يخفون كيدهم لدين الله عز وجل، ولسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو يخفون ضعفهم، بحذف الرواة الضعاف من السند، الأمر الذي لا يمكن معه أن يعرف نقاد الحديث ما إذا كان رواة الحديث تتوافر فيهم شروط الراوي مقبول الرواية أو لا. كما لا يمكنهم أن يعرفوا ما إذا كان الحديث قد انتقل بطرق صحيحة أو لا. 496- ولذلك اتفقوا على أهمية السند المتصل في الحديث، لأنه يتيح لهم فرصة التفتيش عن رواته، ومعرفة العدول منهم من المجرحين، وكيف انتقل بين الرواة. 497- ويقدم لنا الإمام يحيى بن سعيد القطان ما يبين بداية الاهتمام بالإسناد والبحث عن حلقات سلسلة الرواة، فيروى أن الربيع بن خشيم روى للشعبي حديثًا دون إسناد، فقال له الشعبي: من حدثك؟ قال: عمرو بن ميمون، فذهب إلى عمرو بن ميمون قال له: من حدثك؟ قال: أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يحيى بن سعيد: وهذا أول ما فتش عن الإسناد. 498- وقد سبق أن ذكرنا قول ابن سيرين الذي يبين فيه أنهم سألوا عن الإسناد، ليعرف من كان من أهل السنة فيؤخذ حديثه، ومن كان

_ 1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص208.

من أهل البدعة فيترك، وأن ذلك بعد أن وقعت الفتنة قبيل مقتل عثمان رضي الله عنه وبعده. 499- ويبين الإمام ابن المبارك فائدة أخرى للإسناد حين يقول: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". فالإسناد يجعل كثيرًا من الرواة يدركون أن محاولتهم لتزييف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم ستبوء بالفشل فيمنعهم ذلك من الإقدام عليها، خاصة وأن النقاد كانوا يفضحون أمرهم ويكشفون سترهم بكل ما أمكنهم من الوسائل كالإعلان عنهم على رءوس الأشهاد" أو استعداء السطان عليهم كما كان يفعل الإمام شعبة بن الحجاج ... ويصور هشام بن عروة جبن أحدهم وخوفه من أن يكشف من حدثه، فيقول: "إذا حدثت بحديث أنت منه في ثبت، فخالفك إنسان فقل: من حدثك بذا، فإن حدثت بحديث فخالفني فيه رجل، فقلت: هذا حدثني به أبي، فأنت من حدثك؟ ... فجف"1. 500- ولهذا يصور الإمام ابن شهاب الزهري أهمية الإسناد للحديث، وأن رواية الحديث بلا إسناد ضرب من المحال، فيقول لابن عيينة، قد سأله عن حديث وقال له: هاته بلا إسناد-:"أترقى السطح بلا سلم؟! "2. 501- وقد ذكر الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أن مشروط صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون متصل السند، فقال بعد أن ذكر شروط الراوي: "ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه"3. 502- ولكن هناك مراسيل رأى بعض العلماء العمل بها والأخذ بها حجة؛ لأن رواتها عدول ومن رووا عنهم وأسقطوهم عدول أيضًا، فليس

_ 1 المحدث الفاصل "المخطوط" ص49. وقوله: "فجف" يعني لم يستطع أن يجيب. 2 مناقب الشافعي 2/ 34. 3 الرسالة ص 371، 372.

هناك المعنى الذي يحتاج إليه من ذكر الإسناد متصلًا -على حين رأى البعض الآخر التمسك بالإسناد المتصل شرطًا في الحديث الصحيح، ومن هنا كان اختلافهم في حجية المرسل.

المرسل والاتجاهات في الأخذ به وتوثيقه وعدم الأخذ به

المرسل والاتجاهات في الأخذ به وتوثيقه وعدم الأخذ به: معنى المرسل: 503- وقبل أن نبين اتجاهات العلماء في الأخذ بالمرسل أو عدمه ينبغي أن نعرف المرسل؛ لأن هذ المصطلح قد تغير مفهومه من حين لآخر، واتسعت دائرته في بعض الأوقات وضاقت في أوقات أخرى. 504- والمرسل في عرف المتقدمين -وخاصة في القرنين الثاني والثالث الهجريين- هو ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، ومثله المنقطع. 505- ويبدو هذا واضحًا في كلام الإمام الشافعي ومعاصريه ومن بعدهم من أهل القرن الثالث: يقول الإمام الشافعي: "وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب"1، وهو يريد بهذا المنقطع المرسل؛ لأنه يتكلم عن المراسيل. وفي أثناء كلامه في الرسالة عن المراسيل، ومتى يحتج بها سيتبين لنا بوضوح أنه يستعمل المرسل بالمعنى الواسع الذي يشتمل على كل منقطع.. وفي كلام علي بن المديني ما يبين أنه يطلق المراسيل على المنقطعات، فقد سئل عن حديث فقال: إسناده مرسل، رواه الحسن ومحمد بن سيرين عن ابن عباس2. فالانقطاع هنا قبل الصحابي. 506- وإذا قرأنا كتاب المراسيل لابن أبي حاتم الرازي تبين لنا أنهم يطلقون المرسل بهذا المعنى، وقد بنى عليه كتابه، فقال: "باب شرح المراسيل المروية عن النبي وعن أصحابه والتابعين ومن بعدهم"3 سئل أبو زرعة الرازي عن المغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أصبح مرضيًا لوالدته ... " الحديث،

_ 1 المراسيل: ص 13. 2 العلل لعلي بن المديني ص64. 3 المراسيل: ص 13.

فقال أبو زرعة: المغيرة لم يسمع من عطاء، مرسل1 ... ويقول أبو حاتم الرازي: مجاهد بن جبر عن عائشة مرسل2. ويقول الإمام أحمد: عبد الملك ابن أبي بكر عن عمر "في زكاة الدين" مرسل3. وسئل يحيى بن معين، سليمان بن أبي هند عن خباب مرسل؟ " شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحر4 "قال: نعم مرسل5، وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم نجد أن أبا زرعة أطلق المرسل على ما حذف من سنده أكثر من راو، وهو ما سمي "بالمعضل" أو "البلاغات"، بعد ذلك يقول ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة وحدثنا بهذا الباب في "كتاب النكاح" بطريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: "أسلم غيلان بن سلمة وعنده عشر نسوة. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا". وحدثنا أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي، قال: حدثنا مالك عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن". فسمعت أبا زرعة يقول له: مرسل أصح6". ويقول يحيى بن سعيد القطان: مرسلات ابن عيينة شبه الريح، ثم قال: أي والله، وسفيان ابن سعيد -يعني الثوري- قيل له: مرسلات مالك بن أنس؟ قال: هي أحب إليّ7، ومعلوم أن مالكًا وابن عيينة والثوري جميعًا كانوا يرسلون بحذف جزء من السند أو السند كله، كما نشاهد ذلك واضحًا في الموطأ. وهذا المعنى هو ما استمر عليه عرف الفقهاء والأصوليين بعد ذلك. 507- وقد رأى معظم المتأخرين بعد القرن الثالث أن المرسل هو ما رواه

_ 1 المصدر السابق ص135. 2 المصدر السابق ص 126. 3 المراسيل ص 87. 4 أخرجه مسلم متصلًا من طريق آخر عن خباب بلفظ: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرمضاء، فلم يشكنا". "بشرح النووي 2/ 266". وانظر الترمذي بتحفة الأحوذي 1/ 483. 5 المراسيل: ص 58. 6 علل الحديث: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي - المكتبة السلفية بالقاهرة 1343 1/ 400 - 401/ 1199. 7 المراسيل: ص 12.

التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المنقطع هو ما أسقط من سنده راو واحد من دون التابعي، مثل أن يروي مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين1، وما أشبه ذلك. 508- ويبدو أن هذا المعنى للمرسل لم يستقر عليه من بعد القرن الثالث، وإن ادعى الحاكم أن مشايخ الحديث لم يختلفوا فيه، لأن الخطيب -وهو في القرن الخامس- قدم التعريفين على أنهما مستعملان وإن كان أشار إلى أن أكثر الاستعمال للثاني2. 509- وقد خالف الحاكم ادعاءه بالإجماع هذا حينما قال: إن مشايخ أهل الكوفة يطلقون المرسل على من أرسل الحديث من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من العلماء3 أي بالمعنى الأول. وحينما عرف المرسل مرة أخرى فقال: "هو قول الإمام التابعي أو تابع التابعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين رسول الله قرن أو قرنان" ولا يذكر سماعه من الذي سمعه منه"4. 510- ومنشأ هذا الاضطراب عند الحاكم أن المعنى الأول الذي استقر قبل القرن الرابع ظل سائرًا مع المعنى الثاني - كما نص على ذلك الخطيب. 511- وإذا كنا نبحث عند علماء القرن الثاني فإننا سنأخذ المعنى الذي استقروا عليه وبنوا عليه آراءهم والذي يشمل المرسل والمنقطع والمعضل عند المتأخرين. مراسيل الصحابة: 512- والعلماء جميعًا وعلى الأقل في القرن الأول والثاني الهجريين يذهبون إلى أن الأحاديث المرسلة التي يرويها الصحابة الكبار والصغار

_ 1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص 70، 71. 2 الكفاية "هـ" ص 21. 3 معرفة علوم الحديث ص25، 26. 4 المدخل: ص12.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوها منه إنما هي من قبيل الأحاديث الصحيحة والمحتج بها، فهي والمتصلة سواء، وذلك لأنهم عدول بتعديل الله لهم ومتثبتون في رواياتهم، فلا يخشى أن يحدثوا عن ضعيف أو كذاب. اللهم من أحضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مميز، كعبيد الله بن عدي ابن الخيار، ومحمد بن أبي بكر، فإنه ولد عام حجة الوداع، فإن مرسله يأخذ حكم مراسيل غير الصحابة. 513- وقد رأى العلماء أن مرسل الصحابي حجة؛ لأن رواية الصحابة إما أن تكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي آخر. والكل مقبول، واحتمال الصحابي الذي أدرك وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن التابعين بعيد جدًّا، بحذف مراسيل الصحابة الذين لم يميزوا إذا اعتبرناهم من الصحابة؛ لأنهم أخذوا عن التابعين بكثرة فاحتمال أن الساقط عندهم غير صحابي قوي، ويحتمل أن يكون غير الصحابي هذا غير ثقة1. وهناك أكثر من اتجاه في الاحتجاج بمرسل غير الصحابي وقبوله وعدم الاحتجاج به ورفضه في القرن الثاني الهجري، الذي نعنى بدراسته. الاتجاه الأول: 514- وهو قبول المرسل، وعلى رأس هذا الاتجاه الإمام مالك رضي الله عنه، فقد ساق في "الموطأ" الكثير من المراسيل التي احتج بها وقبلها ومنها: 1- ما رواه "عن زيد بن أسلم: أن رجلًا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: "فوق هذا"، قأتي بسوط قد ركب به "ذهبت عقدة طرفه ولان"، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال: "أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من

_ 1 الموطأ "طبعة الشعب" ص 515 - 516. و"يبدي صفحته" أي يظهر جانبه ووجهه والمراد من يظهر ما ستره أفضل".

هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإن من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله". ومنها: 2- حديث الشاهد واليمين رواه مالك هكذا: "عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"1. 515- يقول الشيخ محمد أبو زهرة -رحمة الله عليه- معقبًا على هذا الحديث: "ونرى السند فيه فقط جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين، والصحابي بيقين ليس فيه، فهو مرسل لم يذكر فيه الصحابي على أقوى الفروض، ومع ذلك أخذ به مالك رضي الله عنه، واعتبره"2. والحديث فعلًا مرسل كما يقول أستاذنا إلا أن في السند غير جعفر أباه كما هو واضح من نص الحديث في "الموطأ" وما ذكره الشيخ وذكرته هنا. 3- ومن هذا الحديث الذي يحكي ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر، يقول مالك: "عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر، يوم افتتح خيبر: "أقركم فيها ما أقركم الله عز وجل، على أن الثمر بيننا وبينكم" 3. 516- وقد أكثر الإمام مالك من المراسيل التي سميت فيما بعد بالبلاغات يقول في متعة الطلاق. "أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأة له، فمتع بوليدة"4. وهو في هذا اعتمد في إخباره عن عبد الرحمن بن عوف الصحابي

_ 1 الموطأ ص 449. 2 مالك، حياته وعصره -آراؤه الفقهية: محمد أبو زهرة. الطبعة الثانية- الأنجلو المصرية ص 295. 3 الموطأ ص 438. 4 المصدر السابق ص 354.

رضي الله عنه بلاغ بلغه "ولم يذكر من الذي بلغ، ولم يذكر السند إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه"1. 517- وليس معنى قبول مالك للمراسيل عدم اهتمامه بالسند وأنه لا قيمة له عنده، أو عدم اهتمامه بتوثيق الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... كلا فهو المتشدد في قبول الأخبار، وقد مضى شيء من تشدده هذا، ولكنه يعتمد علىتوثيق من يأخذ عنه هذا المرسل، وثقته فيه، ومتى حدث ذلك وكان وفق مقاييسه النقدية، فإنه يطمئن إلى حديثه ويثق فيه، "فالتشدد في الاختيار هو سبب الاطمئنان وقبول الإرسال"2. ومن أجل هذا رأى من بعده أن هذه المراسيل التي دونها في "الموطأ" إنما هي في حقيقتها أحاديث مسندة إلا القليل النادر منها، والذي لا يتجاوز أربعة أحاديث3. 518- ويقول القرافي مبينًا حجة من يقبلون المراسيل: إن سكوت المرسل مع عدالته، وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام "ليقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته، فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته وقبلنا روايته، فكذلك سكوته عنه حتى قال بعضهم: إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق؛ لأن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامح ينظر فيه، ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال"4.

_ 1 مالك، حياته وعصره: ص 265. 2 المصدر السابق ص 296. 3 تدريب الراوي 1/ 212 - 213. وقال السيوطي: وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد - وقد وصل ابن الصلاح الأحاديث الأربعة هذه. "مقدمة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي للموطأ "طبعة الشعب ص 4- 5". 4 شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي "684هـ" تحقيق طه عبد الرءوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية - دار الفكر. القاهرة - بيروت. الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م. ص 379 - 380.

519- ونقل السيوطي عن ابن جرير أن التابعين قد أجمعوا بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم على رأس المائتين1 -وإذا كان ابن جرير قد انتقد في هذا، لأن هناك من لم يقبل المرسل في القرنين الأول والثاني، كسعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري2- فإنه يبقى مسلمًا به أن الأكثرية قد قبلت المرسل وعملت به في أواخر القرن الأول والنصف الأول من الثاني، ولم يكن مالك شاذًّا في هذا. 520- ولكن مالكًا قد رفض بعض المراسيل مما جعل البعض يعيد، من الذين يرفضون المرسل، ومن هذا البعض الإمام الحاكم النيسابوري3، ومما جعل البعض -من ناحية أخرى- يهاجمه ويصفه بالتناقض؛ لأنه يأخذ بالمرسل ثم يترك بعض المراسيل، كابن حزم الذي يقول: إن مالكًا ترك حديث الوضوء من الضحك في الصلاة مع أنه يأخذ بالمراسيل4. 521- والحق أن الإمام مالكًا قبل المرسل بشروط خاصة، قد أشرنا إليها وبها يطمئن إلى أن هذا المرسل مثل المسند، ولكن بدون هذه الشروط يرفض المرسل كما يرفض المسند في بعض الأحيان على الرغم من اتصاله، وهو لا يرفضه هذا وذاك لأنه مرسل أو مسند؛ بل لأنه لا تتوافر فيه الثقة في رواية أو مرسله. وابن حزم متجن في هذا الهجوم؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يقول: إنه ما دام العلماء يأخذون بالمسانيد فينبغي أن يأخذوا بها جميعًا، وكذلك الأمر هنا؛ لأن هناك من المقاييس الأخرى التي يجب أن تراعى في الخبر مرسلًا أو غير مرسل.

_ 1 تدريب الراوي 1/ 198. 2 فتح المغيث 1/ 136. 3 المدخل: ص12. 4 الإحكام 2/ 136 - 137. 5 انظر اختلاف الأحاديث والآثار في هذا الموضوع في نصب الراية 1/ 47 - 54.

522- وربما رفض مالك "حديث القهقهة" لأنه كان موضع شك من الفقهاء والمحدثين؛ لأن مداره كان على أبي العالية؛ قام خراساني إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان أعلم الناس بحديث القهقهة- فقال: يا أبا سعيد، حديث رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة". فقال عبد الرحمن: هذا لم يروه إلا حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له: من أين قلت؟ قال: إذا أتيت الصراف بدينار، فقال لك: هو بهرج تقدر أن تقول له: من أين قلت؟.. قلت: نفسره لنا "قال: إن هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسمعه هشام بن حسام من حفصة وكتان في الدرا معها، فحدث به هشام الحسن، فحدث به الحسن، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمن أين سمعها الزهري؟ قال: كان سليمان بن أرقم يختلف إلى الحسن، وإلى الزهري فسمعه من الحسن، فذاكر به الزهري، فقال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله1. 523- أرأيت كيف شاع الاضطراب في رواية هذا الحديث وخفيت ظروف روايته وملابساتها؟!.. هذا بالإضافة إلى أن الزهري كان يقول: "لا وضوء في القهقهة". فقال الدارقطني: فلو كان هذا صحيحًا لما أفتى بخلافه2. وقد تكلم الناس في أبي العالية وفي مراسيله، قال ابن سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن، ولا أبي العالية، وما حدثتموني لا تحدثوني عن رجلين من أهل البصرة: عن أبي العالية والحسن، فإنهما كانا لا يباليان عمن أخذا حديثهما.. وقال مرة أخرى: أربعة يصدقون من حدثهم، فلا يبالون ممن يسمعون: الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال، وأنس بن سيرين3.

_ 1 المحدث الفاصل ص 312 من المطبوع. 2 نصب الراية 1/ 48. 3 المصدر السابق 1/ 51.

فلكل هذا وغيره يرفض الإمام مالك بعض المراسيل، كما يترك بعض المسانيد، شأنه في ذلك شأن المستوثقين مما يحملون، المحتاطين فيما يأخذون. 524- وقد أخذ ابن حزم على مالك أيضًا أنه ترك حديثًا مرسلًا رواه عن عروة بن الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه جالسًا والناس قيام"1. 525- والحديث كما رواه الإمام مالك في "الموطأ": "عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج في مرضه، فأتى، فوجد أبا بكر، وهو قائم يصلي بالناس، فاستأجر أبو بكر، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كما أنت: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر"2. 526- والحديث مرسل -كما يقول ابن حزم-.. وعلى احتمال أن مالكًا لم يأخذ به، فعنده من الأسباب لذلك غير كونه مرسلًا. أولًا: أن عنده من الأحاديث المتصلة ما يتعارض مع هذا الحديث، وقد ذكرها في "الموطأ" قبل رواية هذا الحديث المرسل. الأول: رواه مالك عن ابن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا فصرع، فجحش شقة الأيمن "خدش أو فوق الخدش" فصلى صلاة من الصلوات، وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين" 3.

_ 1 الإحكام 2/ 137. 2 الموطأ ص 104 "طبعة الشعب". 3 الموطأ: ص 103 - 104 "طبعة الشعب".

والثاني: رواه مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: صلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شاك، فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن أجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" 1. وهذا السند هو نفسه سند الحديث المرسل إلا أنه وصل بعائشة وربما كان هذا هو مصدر شك مالك في الحديث المرسل الذي تركه. ثانيًا: أن هناك من الصحابة من أفتى بجلوس المأمومين خلف الإمام الجالس، كجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس ابن فهد، ويقول ابن حبان: إنه "لم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع، فكان إجماعًا، والإجماع عندنا إجماع الصحابة وقد أفتى به من التابعين: جابر بن زيد، ولم يرو عن غيره من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واه، فكان إجماعًا من التابعين أيضًا، وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه2. 527- وإذا كنا -مع الأستاذ أحمد شاكر، عليه رحمة الله -لا نرضى من ابن حبان ادعاءه الإجماع؛ لأنه لا دليل عليه، إذ السكوت عن الشيء ليس معناه الأخذ به، "ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل" -كما قال الإمام الشافعي3- فإننا نرى أنه ليس من شك في أن الإمام مالكًا قد بلغه عمل بعض الصحابة وفتواهم في هذا الأمر، فأيد به الأحاديث المتصلة وترك من أجلها الحديث المرسل. 528- والحق أن قبول مالك للمراسيل على هذا النحو كان استجابة لعصره الذي كانت تكثر فيه المراسيل؛ لأن التابعين قد سمع كل واحد منهم

_ 1 الموطأ: ص 103 - 104 "طبعة الشعب". 2 نصب الراية: 2/ 49. 3 تحقيق الرسالة ص257.

العديد من الصحابة، ويجد مشقة في إحصاء من سمع منهم هذا الحديث أو ذاك، روي عن الحسن البصري أنه كان يقول: "إذا اجتمع أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالًا" وروي عنه أيضًا قوله: متى قلت لكم: حدثني فلان فهو حديثه لا غير، ومتى قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد سمعته من سبعين أو أكثر، كما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا رويت لي حديثًا عن عبد الله فأسنده لي، فقال: إذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي روى لي ذلك، وإذا قلت: قال عبد الله، فقد رواه لي غير واحد. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدثنا فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كنت تسنده لنا إلى من حدثك؟ ... فقال الحسن: أيها الرجل، ما كذبنا، ولا كذبنا، ولقد غزونا غزوة إلى خراسان، ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"1. 529- ومهما يكن من شيء فقد اجتهد الإمام مالك في هذا العصر على أن يحمل الكثير من الأحاديث المسندة على الرغم من هذه الظروف ولم يحمل من المرسل إلا القليل بالنسبة لغيره، يقول أحمد بن صالح: "ثلث حديث مالك مسند، وليست هذه المنزلة لأحد من نظرائه"2. الاتجاه الثاني: 530- وهو قريب من الاتجاه الأول، ويكاد يتطابق معه، مع امتداد له آخر بقدر امتداد مدرسة الأحناف -صاحبة هذا الاتجاه- التي قام رجال فيها غير أبي حنيفة ببنائها بعد زمن مالك وأبي حنيفة، ومن هنا نشأ هذا الامتداد الذي تغيرت صورته عما رآه مالك في حجية المراسيل. 531- يقبل الأحناف مراسيل الصحابة -كغيرهم- والتابعين وتابعيهم، أو مراسيل أهل القرون الثلاثة الأولى -كما يعبر مؤلفوا أصولهم3.

_ 1 كشف الأسرار 3/ 724 -تدريب الراوي 2/ 204- قواعد التحديث ص142 - مالك: ص 296. 2 ترتيب المدارك 1/ 135. 3 أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار 3/ 723.

وهم في هذا يتطابق اتجاههم مع اتجاه مالك وأكثر التابعين وتابعي التابعين، لأنهم كانوا يواجهون هذه المراسيل ويقولون بحجيتها ... وامتدت هذه المدرسة إلى مشارف القرن الثالث فكان لهم رأي فيما بعد أهل القرون الثلاثة هذه، وهذا ما يميز اتجاه هذه المدرسة عن الاتجاه الأول، ومن يدري لو كان الله قد قيض لمدرسة مالك نفس هذه القوة إلى ذلك الحين؟، ربما كانوا قد ذهبوا إلى ما ذهبت إليه هذه المدرسة. 532- ويبدو أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا قد قالوا بما قال به مالك، بدليل أن محمدًا مثلًا يعتمد على ما أرسله، وهو من أهل القرن الرابع1 "189 هـ" وفي "الموطأ" الذي رواه عن مالك يقول: "بلغنا عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه أربع صلوات ثم أفاق فقضى صلاته"2 وأخذ بهذا، ويقول: "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السيرين جميعًا: "عليكم بالسكينة" حين أفاض من عرفه، وحين أفاض من المزدلفة"3. والمراد بالسيرين: سير العنق الذي هو بين الإبطاء، والإسراع، والنص وهو أرفع من العنق. ويقول في هذا الباب: "بلغنا أنه قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل وإيجاف الخيل" فبهذا نأخذ4. 533- ووضع أساس تحديد القرون الثلاثة -على ما أعلم- عيسى بن أبان الذي عاش جزءًا من القرن الثالث الهجري "220 هـ" ورأى أن

_ 1 أصول السرخسي 1/ 363. والقرن هنا معناه الجيل. 2 موطأ الإمام مالك "93 هـ - 179 هـ" رواية محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1387هـ - 1967م الطبعة الثانية ص100. 3 المصدر السابق ص 165. 4 المصد السابق ص 164. ويقال: وضع البعير يضع وضعًا، وأوضعه راكبه إيضاعًا إذا حمله على سرعة السير "النهاية" وإيجاف الخيل أي إسراعها من الوجيف وهو سرعة السير ومنه الآية الكريمة: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} "الحشر 26" أي: فما أجريتم في تحصيله.

المجتمع قد تغير ولم يكن كما كان عليه أهل القرون الثلاثة الأولى، إلا أهل العلم الذين حافظوا على دينهم واهتمامهم بالحديث، ولهذا قال: تقبل مراسيل أهل القرون الثلاثة وأهل العلم من غيرهم. ويقول السرخسي: "وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته، مرسلًا ومسندًا، وإنما يعني به محمد الحسن رحمه الله وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقًا وإنما اشتهر بالرواية عنه، فإن مسنده يكون حجة ومرسله يكون موقوفًا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه"، وضع عيسى ابن أبان بهذا الأساس في أن هناك من المراسيل من لا تقبل. ثم جاء أبو بكر الرازي "370 هـ" فحدد القرون الثلاثة بقبول مرسلها، وما بعدها لا يقبل إلا عمن هو عدل ثقة، يقول السرخسي: وأصح الأقاويل في هذا ما قال أبو بكر الرازي رضي الله عنه أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم تعرف منه الرواية مطلقًا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكون حجة، إلا إذا اشتهر مرسله بأنه لا يروى إلا عمن هو عدل ثقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية، فكانت عدالتهم ثابتة بتلك الشهادة ما لم يتبين خلافها. 534- وهذا لا يمنع أن بعض الأحناف المتقدمين إلى حد ما مثل أبي الحسن الكرخي "340 هـ" يظلون على قبول المرسل مثل المسند دون قيد زمني "فمن تقبل روايته مسندًا تقبل روايته مرسلًا" فهو "لا يفرق بين مراسيل أهل الأعصار"1. 535- وحجة الأحناف: 1- أن الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على قبول المرسل، فقبلوا روايات ابن عباس رضي الله عنهما مع أنه لم يسمع من النبي صلى

_ 1 أصول السرخسي 1/ 263.

الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، ويقال: بضعة عشر حديثًا، فقد أرسل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع منه في كثير من الأحاديث، ومما من ذلك "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر". وإنما سمع ذلك من أخيه الفضل.. والنعمان ابن بشير ما سمع إلا حديثًا واحدًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده، وإذا فسدت فسد سائر جسده ألا وهي القلب". ثم كثرت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وأبو هريرة رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبًا فلا صوم له" ولما أنكرت ذلك عائشة، رضي الله عنها، قال: هي أعلم، حدثني به الفضل بن عباس رضي الله عنهما، فقد أرسل الرواية عن النبي، صلى الله عليه وسلم من غير سماع منه1. وروى ابن عمر رضي الله عنهما: "من صلى على جنازة فله قيراط" الحديث. ثم أسنده إلى أبي هريرة. وقال البراء بن عازب، رضي الله عنه: ما كل ما نحدث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثنا عنه، لكنا لا نكذب. "ولما أرسل هؤلاء، وقبل والصحابة مراسيلهم، ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك، صار ذلك إجماعًا منهم على جواز ذلك ووجوب قبوله"2. 2- وإذا انتقلنا إلى التابعين وجدنا الحسن وسعيد بن المسيب، رضي الله عنهما وغيرهما من أئمة التابعين كانوا كثيرًا ما يروون مرسلًا. وقد كان إعلانهم عن أنهم يرسلون الحديث الواحد عن أكثر من صحابي سببًا في قول عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند، "فإن من اشتهر عنده حديث بأن سمعه بطرق طوى الإسناد لوضوح الطريق عنده، وقطع الشهادة بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.

_ 1 أصول السرخسي 1/ 60 - 61. 2 كشف الأسرار 3/ 724. 3 أصول السرخسي 1/ 361.

وقد يقال: إن قبول مراسيل الصحابة إنما هو لثبوت عدالتهم، وهذا غير موجود في غيرهم: لوجود الكذب في عصر التابعين وتابعيهم. ويجيب الأحناف بأنه لا فرق بين صحابي يرسل وتابعي يرسل؛ لأن عدالتهم ثبتت بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للقرون الثلاثة، وخاصة إذا كان الإرسال من وجوه التابعين، مثل عطاء بن رباح من أهل مكة، وسعيد بن المسيب من أهل المدينة، ومثل الشعبي والنخعي من أهل الكوفة، وأبي العالية والحسن من أهل البصرة، ومكحول من أهل الشام، فإنهم كانوا يرسلون ولا يظن بهم إلا الصدق1. ولا يقال: إن هؤلاء الكبار ربما سمعوا من غير العدول، ولم يبينوا حالهم - لأنه لا يظن بهم فعل هذا، فإن من يستجيز الرواية ممن يعرفه غير عدل من غير بيان لا تقبل روايته مرسلًا ولا مسندًا2. كما لا يقال -أيضًا- إنهم رأوا أن الإسناد لا تقوم به الحجة فحذفوه لأن القول بهذا معناه أنهم كتموا موضع الحجة بترك الإسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه. "فتعيين أنهم اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند، وكفى باتفاقهم حجة"3. 3- أن التابعين أرسلوا وملئوا كتبهم بالمراسيل، ولم يروا أن أحدًا من الأمة أنكر عليهم ذلك، فكان ذلك إجماعًا منهم على قبوله"4. 4- على أننا إذا عدلنا الراوي، ونفينا عنه الكذب في كلام الناس، فمن غير المعقول أن يكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويحدث عنه

_ 1 كشف الأسرار 3/ 724. 2 أصول السرخسي 1/ 361. 3 المصدر السابق 1/ 361 - 362. 4 كشف الأسرار 3/ 723.

بإسناد هو منقطع "والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الإسناد طوى الأمر وعزم عليه، فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتضح له الأمر نسبه إلى من سمعه؛ لتحمله ما تحمل عنه1". 5- أن كثيرًا من السنن روي مرسلًا، فترك هذه المراسيل تعطيل لكثير من السنن التي يحتاج إليها الفقهاء لبيان الأحكام الشرعية بأدلة من السنة2. 536- وكان من الطبيعي أن يذهب الأحناف -كغيرهم- إلى أن المسند أرجح من المرسل؛ لتحقيق المعرفة برواة المسند وعدالتهم، دون رواة المرسل "ولا شك أن رواية من عرفت عدالته أولى ممن لا تعرف عدالته ولا نفسه"3. 537- ولم يشذ منهم إلا عيسى بن أبان ومن تبعه من بعض المتأخرين، قالوا بأن المرسل أقوى من المسند؛ لأن المرسل قد سمعه بطرق كثيرة -كما سبق أن ذكرنا- ولأن المرسل ينطوي على حكم مرسله بصحة الحديث بخلاف ما إذا أسند فإنه لم يعزم الأمر، وإنما تركه لك، وأحالك عليه؛ لتتبين ما إذا كان صحيحًا أو غير صحيح4. 538- لكنه ليس مثل "المشهور" من الأحاديث الذي تجوز به الزيادة على الكتاب -كما سبق أن ذكرنا5- بل هو في مرتبة أدنى منه؛ لأن هذه الميزة التي ثبتت للمراسيل، وهي كونها أعلى من المسند -إنما ثبتت لها اجتهادًا ورأيًا، فتكون مثل قوة ثبتت بالقياس، وقوة المشهور ثبتت بالتنصيص، وما ثبت بالتنصيص فوق ما ثبت بالرأي، فلا يكون المرسل مثل المشهور6.

_ 1 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 724. 2 المصدر السابق 3/ 724. 3 كشف الأسرار 3/ 725. 4 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 724. 5 ص 116 من هذا البحث. 6 البزدوي وكشف الأسرار معًا 3/ 725.

الاتجاه الثالث: 539- هذا الاتجاه وقف موقفًا وسطًا، فلم يقبل كل المراسيل الصحيحة كما رأى الاتجاه الأول والثاني تقريبًا، ولم يرفض كل المراسيل كما رأى الاتجاه الرابع والأخير الذي سنتعرف عليه بعد قليل -إن شاء الله عز وجل. 540- وهو يرى أن هناك مراسيل جديرة بالقبول؛ لأن هناك من الدلائل والشواهد على صحتها، وأن هناك مراسيل ينبغي رفضها أو التوقف في قبولها؛ لعدم وجود هذه الدلائل التي تدعو إلى الاطمئنان إليها، ويكون قبولها نوعًا من المجازفة؛ لأن رواتها تأكد فعلًا أنهم يروون عن الضعاف. وعلى هذا فقد قبل المراسيل، التي تتوافر فيها شروط ميعنة، ورفض غيرها. 541- وعلى رأس هذا الاتجاه، بل وصانعه -الإمام الشافعي، رضي الله عنه. وهو يرى أن المرسل ينقسم إلى قسمين: أحدهما: مرسل كبار التابعين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثرت مشاهدتهم لهم. ثانيهما: مرسل غيرهم أو مرسل من بعد كبار التابعين، كما يعبر الإمام الشافعي. 542- أما القسم الأول "مرسل كبار التابعين" فإنه يقبل في حالات منها: 1- أن يشركه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن يوافقوه في معنى ما روى فقط، فإن وجد ذلك كان دلالة على أن من أخذ عنه المرسل قد حفظه وضبطه وبالتالي فهو صحيح. 543- ويقول ابن الصلاح إن هذا هو سبب احتجاج الشافعي رضي الله عنه، بكثير من مرسلات سعيد بن المسيب، رضي الله عنه، فإنها وجدت

مسانيد من وجو أخر، فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لما بينهما من الصلة والتصاهر. وهذا لا يمنع أن هناك مرسلات لابن المسيب لم يقبلها لعدم انضمام إليها ما يقويها. ولا يختص ذلك بإرسال ابن المسيب، فهناك مراسيل لغيره قبلها1. 544- وإذا كان البعض قد أنكر أن يكون الشافعي قد أخذ بمراسيل ابن المسيب وإنما هو أخذ بالمسانيد التي أتت من طرق أخرى؛ فإن ابن الصلاح قد رد عليه بقوله: إن بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال، حتى يحكم له مع إرساله بأنه صحيح تقوم به الحجة وبالتالي يحكم على المتن بأنه صحيح، وهذا على اعتبار أن الإسنادين إذا اختلفا اختلف الحديثان، ويصير حينئذ المرسل والمسند دليلين لمعنى واحد يرجح على معنى آخر معارض إذا كان له طريق واحد مسند2. على أنه إذا كان المسند حسنًا فإنه يرتقي بالمرسل عنه هذه المرتبة. وهذا كله -بطبيعة الحال- إذا كان المسند بمفرده صحيحًا صالحًا للحجة، أما إذا كان مما يفتقر إلى اعتضاد؛ لأن فيه ضعفًا، فإنه يقوي المرسل والمرسل يقويه، ويصير كل منهما بالآخر حجة3. 544- وإذا لم توجد هذه الحالة وانفرد الراوي بإرسال حديث لم يسنده غيره فإن مما يقوي مرسله هذا ويجعله مقبولًا هو: 2- أن يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه وبرجال غير رجاله. وهذه الحالة -في رأي الإمام الشافعي- أضعف من الحالة الأولى. ويفيد كل المراسلين الآخر، ويقوي الظن بوجود أصل لكل منهما، وينقل كل منهما من مرتبة الضعف إلى مرتبة الحسن لغيره؛ لأن ضعف كل منهما

_ 1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص 73، تدريب الراوي 1/ 200 - 201. 2 المصدر السابق. ص 73. 3 فتح المغيث 1/ 143.

إنما هو من جهة خفة ضبط راويه وحفظه وكثرة غلطه، لا من جهة اتهامهما بالكذب1. 545- وإن لم يوجد ذلك فإنه يقبل إذا: 3- وافقه ما يروى عن بعض صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أقوالهم ومن الموقوفات عليهم، لأنه إذا وجد ذلك كان دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح - إن شاء الله تعالى. 4- أو يوافقه عوام من أهل العلم يفتون بمثل ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم. 546- هذه هي الحالات التي ذكرها الإمام الشافعي في الرسالة1. ولا شك أن هناك حالات أخرى عنده لم يذكرها هنا، يتقوى بها المرسل، وتبعث على درجة الاطمئنان به، ومنها ما ذكره السخاوي في فتح المغيث وهي: 5- أن يكون المرسل قد خبر علم من أرسل عنه وعرفه؛ لأنه في هذه الحالة يمكنه أن يدرك حديثه دون تحريف من غيره، قال الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ: "طاوس لم يلق معاذًا، لكنه عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه، لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ، وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافًا. 547- ومثل هذا تمامًا ما ذهب إليه الطحاوي في الاحتجاج بحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل: "كان عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا". قال الطحاوي: فإن قيل: هذا منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا، يقال: نحن لم نحتج به من هذه الجهة، إنما احتججنا به لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله،

_ 1 الرسالة ص 461 - 463. وانظر حالات أخرى في كتاب الحديث المرسل حجيته وأثره في الفقه الإسلامي: محمد حسن هيتو. دار الفكر بيروت لبنان ص 43، 52.

وخلطته بخاصته من بعده، ولا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله حجة لهذا1. 548- وقد رأى بعضهم أن مما يسند به المرسل فعل صحابي أو انتشار أو عمل أهل العصر أو قياس معتبر، لكننا لم نعثر على نص للشافعي يقول بذلك، وإن كان بعضه يمكن أن يفهم من كلامه، فرأى الصحابي مثل عمله ورأيه مما يعضد به المرسل كما نص على ذلك في الرسالة، وعمل أهل العصر مثل فتوى عوام من أهل العلم إلا أن إرجاع بعضه إلى كلام الشافعي فيه تكلف، كما يقول السخاوي2. 549- وقد انتقد القاضي أبو يعلى في كتابه العدة اتجاه الشافعي هذا في قبول المرسل في هذه الحالات، وقال: إنه بهذا لا يقبل المرسل لذاته، وإنما يقبله لأمور انضمت إليه، فكأنه في رأيه عندما يعمل بالمرسل إنما يعمل بالأمور التي انضمت إليه معه3. ونقول: إنه ليس الأمر كذلك؛ لأن هذه الأمور تزيل الشك في المرسل فيعمل به هو4. 550- وفي الحالات التي يقبل فيها المرسل جميعًا لا بد أن يتوافر في المرسل شرطان، وإلا أضر إرساله بحديثه، ولا يسع أحدًا قبول مرسله: الشرط الأول: أن يكون ممن يعرف من يرسل عنه، فليس مجهولًا عنده ولا عند أهل العلم، وألا يكون ممن يروي عن الضعاف المرغوب عن الرواية عنهم، يقول

_ 1 فتح المغيث 1/ 134. 2 المصدر السابق 1/ 142. 3 العدة في أصول الفقه: للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء "380 - 408هـ" نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية. ص 138 - 139. 4 وانظر في مناقشة أبي يعلى وغيره في اعتراضات أخرى كتاب الحديث المرسل حجيته وأثره ص 43 - 51.

الإمام الشافعي معبرًا عن هذا: "أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولًا، ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. الشرط الثاني: ألا يخالف الحفاظ إذا شاركهم في معنى حديث يرويه وألا يكون ممن يزيد عليهم في ذلك، أما إذا خالفهم بالنقص فإن هذا يكون دلالة على حفظه وضبطه وتحريه؛ يقول الإمام الشافعي، معبرًا عن هذا الشرط: "ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه1. 551- ولم يكن الشافعي يقول في قبوله المرسل على هذا النحو كلامًا نظريًّا فقط وإنما طبق ما قاله وإذا كنا لا نستطيع أن نقرأ فقهه كله فنستخرج منه الأمثلة العديدة فإننا نكتفي بإيراد شيء منها يدل على أن الشافعي استفاد من المراسيل على النحو الذي رسمه. 552- قال الشافعي في مختصر المزني في باب "بيع اللحم بالحيوان: "أخبرنا مالك: عن زيد بن أسلم، عن ابن المسيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان" ... وعن ابن عباس: "أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا" ... وكان القاسم بن محمد، وابن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلًا وآجلًا؛ يعظمون ذلك، ولا يرخصون فيه. قال الشافعي: وبهذا نأخذ، كان اللحم مختلفًا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، خالف في ذلك أبا بكر. وإرسال ابن المسيب عندنا حسن"2.

_ 1 الرسالة ص 463. 2 مختصر المزني: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني "264هـ" مطبوع على هامش كتاب الأم، طبعة دار الشعب بالقاهرة 2/ 157 - 158.

553- وواضح أن الشافعي رضي الله عنه أخذ بهذا المرسل لأنه عضده قول أبي بكر وفتوى بعض التابعين. 554- ويقول السيوطي: إن هذا الحديث الذي أورده الشافعي من مراسيل سعيد بن المسيب يصلح مثالًا لأقسام المرسل المقبول، فإنه عضده قول صحابي، وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وله شاهد مرسل آخر أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسند، فقد روى البيهقي في المدخل من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد، عن ابن جريح عن القاسم ابن أبي بزة قال: "قدمت المدينة، فوجدت جزورًا قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءًا، فقال لي الرجل من أهل المدينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت، فسألت عن ذلك الرجل، فأخبرت عنه خيرًا". قال البيهقي: فهذا حديث أرسله سعيد بن المسيب، ورواه القاسم ابن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلًا. والظاهر أنه غير سعيد؛ فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم ابن أبي بزة المكي حتى يسأل عنه ... قال: وقد رويناه من حديث الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة1، فمنهم من أثبته، فيكون مثالًا لما له شاهد سند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضًا مرسلًا انضم إلى مرسل2 سعيد. 555- وفي "باب زكاة مال اليتيم" من "الأم" رأى الشافعي أن الزكاة تكون في مال اليتيم كما في مال البالغ، وكان دليله في ذلك حديث مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ابتغوا في مال اليتيم لا تستهلكه الصدقة أو لا تذهبه الصدقة".. وما عضد ذلك المرسل من فعل لعائشة وعلي وقول لعمر رضي الله عنهم3.

_ 1 انظر الاختلاف في هذا السماع في كتاب العلل لعلي بن المديني ص55 - 57. 2 تدريب الراوي 1/ 201. 3 الأم 2/ 25.

556- ثم بين الشافعي أنه إذا كانت توجد بعض الدلائل التي تجعلنا نقبل المرسل فليس معناه أنه مع المتصل المسند في درجة واحدة، ولكن الأخير أقوى منه وذلك لأن احتمال كون المرسل قد أرسل عمن يرغب في الرواية عنه لضعفه قائم، وكذلك إن وافقه مرسل، لاحتمال أن يكون مخرجهما واحد، من حيث لو سمى لم يقبل، وأيضًا إذا كان قول بعض الصحابة يقوي المرسل، فإنه من المحتمل أن يكون المرسل قد غلط بإرساله هذا الحديث حين سمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من الفقهاء1. 557- وعلى هذا فاحتمال الخطأ والغلط قائم في جميع الحالات الأمر الذي لا يجعل المرسل بحال يرقى إلى مستوى الحديث المتصل الصحيح الذي انكشف فيه جميع رواته وقويت صلته برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا لم نجد سنة ثابتة من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم؛ ولكننا وجدنا ذلك في بعض المرسل كما في حديث محمد بن المنكدر الذي سنذكره قريبًا -إن شاء الله، فلم يقل به أحد من أهل الفقه كلهم2. 558- أما القسم الثاني، وهو مرسل "من بعد كبار التابعين"، من صغارهم وتابعيهم، وتابعي التابعين -فيقول الشافعي، رضي الله عنه: إنه لا يعلم واحدًا منهم يقبل مرسله، لعدة أمور: 1- أنهم أشد تجوزًا فيمن يروون عنه، فلا يتحرون أن يروون عن الثقات فقط، وإنما يأخذون منهم ومن غيرهم. 2- وهذا مترتب على الأول، وهو أنه قد وجدت الدلائل فعلًا على ضعف ما أرسلوه. 3- استطالة السند وكثرة الإحالة في الأخبار وإذا كثرت الإحالة فيها كانت أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه، فتتسع دائرة الاحتمال السابق، وهو الأخذ عن الضعفاء.

_ 1 الرسالة ص464، 465. 2 المصدر السابق ص 467، 471.

559- ورأي الشافعي هذا فيمن بعد كبار التابعين إنما هو ناشئ عن الخبرة بهم وبما يرسلونه، فهو قد رأى بعضهم ينزع إلى جهة واحدة ومنبع واحد من منابع العلم ثم يترك منابع أخرى ربما كانت تعطي مثلها أو أثرى منها، وهذا البعض من أهل التقصير في العلم، ومن الواجب علينا أن نبحث عما قصر فيه ونستفيد منه، يقول الإمام الشافعي معبرًا عن هذا: "رأيت الرجل يقنع بيسير العلم، ويريد إلا أن يكون مستفيدًا إلا من جهة1 قد يتركه من مثلها أو أرجح، فيكون من أهل التقصير في العلم". ورأى أن بعضهم كان على العكس من ذلك؛ فقد رغب في أن يتوسع في العلم فيقبل عن كل ضرب، ومنه ما كان بنبغي له أن يربأ بنفسه عنه توثيقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريًا في أخبار دينه، يقول الإمام الشافعي: "ورأيت من عاب هذه السبيل -يعني سبيل المقصرين- ورغب في التوسع في العلم، من دعاه ذلك إلى القبول عمن لو أمسك عن القبول عنه كان خيرًا له". ورأى الشافعي أيضًا منهم أن الغفلة قد تدخل على أكثرهم فلا يتحرون أهل الصدق والضبط فيما يأخذون، وقد تؤديهم غفلتهم إلى أن يحملوا الغث ويتركوا السمين، يقول: "ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبل عمن يرد مثله وخيرًا منه". وهذا الصنف المغفل من أهل العلم قد يقبل الأحاديث من الضعفاء، لأنها توافق رأيًا ارتآه، أو قولًا يقول به. وقد يرد الأحاديث التي يرويها الثقات، لأنها تخالف رأيه وقولًا أخذ به، أي: أنه يحكم رأيه في الأحاديث، فيقبل منها ما يوافقه، ولا شك في أن هذا فيه من الخطورة ما فيه على عملية توثيق الأحاديث وتحريرها؛ لأن أي إنسان قد يخطئ في رأيه وقد يصيب فيخطئ في الحكم على الأحاديث تبعًا لذلك أو يصيب، يقول الشافعي: "ويدخل عليه، فيقبل عمن يعرف

_ 1 كذا في النص المحقق وقد علق الشيخ شاهر على هذه العبارة بقوله: "أو يريد ألا يكون" وهو يخالف للأصل وألف "أو" مزادة في الأصل بخط واضح -والحق أن التعبير يستقيم بهذه العبارة التي في سائر النسخ.

ضعفه، إذا وافق قولًا يقوله: ويرد حديث الثقة إذا خالف قولًا يقوله"1. 560- ثم ضرب لنا الإمام الشافعي مثلًا من المراسيل التي رفضها محاولًا أن يطبق بعض ما قاله في مرسل: "من بعد كبار التابعين": وهو ما أخبر به سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيطعمه عياله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 2. فهذا الحديث لم يقبله الشافعي؛ لأنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أولًا: لأن الله سبحانه وتعالى لما فرض للأب ميراثًا محددًا من الابن، كغيره من الورثة، وهذا الفرض قد يكون أقل فروض كثير من الورثة - دل ذلك على أن ملكية المال إنما هي لابنه دونه. ثانيًا: ولأن محمد بن المنكدر الذي أرسل هذا الحديث، وإن كان في غاية الثقة والفضل في الدين والورع -فإننا لا ندري عمن قبل هذا الحديث. ومثله في هذا مثل الشاهدين العدلين يشهدان على الرجلين فلا تقبل شهادتهما حتى يعدلاهما أو يعدلهما غيرهما. وإذا كان محمد بن المنكدر لم يسم لنا من أرسل عنه، فاحتمل أن يكون أرسل عن غير ثقة -فإن غيره ممن أوثق منه سمى لنا من أرسل عنه، فكان ضعيفًا، وبان عوار حديثه، فهذا ابن شهاب الزهري يقول: "إن

_ 1 الرسالة ص 465، 466. 2 رواه ابن ماجه عن جابر. ورواه عنه الطبراني في الأوسط، والطحاوي ورواه البزار عن هشام بن عروة مرسلًا، وصححه ابن القطان، وله طريق أخرى عند البيهقي في الدلائل وأخرجه ابن حبان عن عائشة، قال في المقاصد الحسنة: "والحديث قوي" "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: إسماعيل بن العجلوني الجراحي "1162هـ" - مكتبة التراث الإسلامي- حلب. 1/ 239 - 241 رقم الحديث 628".

رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة"1. ويقول الإمام الشافعي: أنه لم يقبل هذا؛ لأنه مرسل، حقًّا إن ابن شهاب إمام في الحديث والتخبير وثقه الرجال، وهو كثيرًا ما يسمي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خيار التابعين، "ولا نعلم محدثًا يسمى أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب؛ لكنه هنا قبل عن سليمان بن أرقم، وهو ضعيف؛ لأنه رآه رجلًا من أهل المروءة والغفلة، فقبل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه؛ إما لأنه أصغر منه، أو لغير ذلك، ولم يسمه إلا عندما سأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له2. 561- ومن أجل هذا يقول الإمام الشافعي: "يقولون: نحابي ... ولو حابيننا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم3 ... وإذا احتمل في ابن شهاب أن يروي عن مثل هذا الراوي الضعيف مع مكانته التي رأيناها -فالاحتمال أقوى وأكثر وقوعًا في غيره ممن هو أقل منه في إمامته وفضله. 562- هذا وقد زعم الماوردي أن الإمام الشافعي، في المذهب الجديد، يحتج بالمرسل إذا لم يوجد دليل سواه، وكذا نقله غيره، ولكن ابن السمعاني رد هذا بإجماع النقلة من العراقيين والخراسانيين عنه بأن هذا لا يجعل المرسل حجة عندالشافعي4. 563- وقد نسب التاج السبكي إلى الشافعي أن المرسل إذا دل على محظور ولم يوجد سواه، فالأظهر وجوب الانكفاف عن هذه المحظور - يعني احتياطًا وتورعًا5.

_ 1 سبق الكلام عن هذا الحديث. انظر ص264 - 265 من هذا البحث. 2 الرسالة ص 467 - 470. 3 معرفة السنن والآثار 1/ 81. 4 فتح المغيث 1/ 142. 5 المصدر السابق 1/ 243.

الاتجاه الرابع: 564- ويقف فيه المحدثون الذين لا يقبلون إلا الحديث المتصل ولا يعتبرون الحديث المرسل أو المنقطع حجة بأية حال ومن أي قرن.. 565- ويمثل هذا الاتجاه الأئمة الكبار في القرن الثاني الهجري ومنهم يحيى بن سعيد القطان، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي يقول الإمام مسلم: "المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"، وحكى ذلك ابن عبد البر عن جماعة من المحدثين1,. ويقول النووي: "ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين"2. ويرى يحيى بن سعيد القطان أن مرسلات أئمة الحديث لا فائدة فيها وليست ثابتة وإنما هي شبه الريح، يقول: "سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء لو كان فيه إسناد صاح به"، ويقول: "مرسلات أبي إسحاق الهمداني عندي شبه لا شيء، والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير" -يعني مثله. ويقول: "مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن إبراهيم، وكل ضعيف" ويقول: "مرسلات ابن عيينة شبه الريح.. ثم قال: أي والله سفيان بن سعيد"3، ويقول أحمد بن سنان: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ثم يقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه4. وقال في مراسيل الزهري: شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه5. وإذا كانت مرسلات كبار المحدثين والعلماء هكذا فما بالك بمرسلات من هم دونهم؟!..

_ 1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص75. 2 التقريب ص9. 3 المراسيل ص12. 4 المصدر السابق ص11. 5 تدريب الراوي 1/ 205.

566- وقد عرض العلماء المتأخرون حجة هؤلاء في رفضهم المراسيل وتمسكهم بالأسانيد المتصلة فقط، يقول ابن حزم: إن الذي يرسل إنما هو بمثابة من يحدث عن مجهول، و"من جهلنا حالة فرض علينا التوقف في خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله"، وسواء أقال الراوي العدل: "حدثنا الثقة" أم لم يقل لا يجب أن يلتفت إلى ذلك، إذ قد يكون عنده ثقة؛ لأنه لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره ... والجرح أولى من التعديل، فقد وثق سفيان الثوري جابرًا الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف، ولكنه خفي أمره على سفيان، فقال بما ظهر منه عنده"1. 567- ويقول النووي قريبًا من هذا: "ودليلنا في رد العمل به أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل؛ لجهالة حاله - فرواية المرسل أولى؛ لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال2". ويفصل الإمام ابن حجر في شرح النخبة فيقول: "وإنما ذكر -يعني المرسل- في قسم المردود للجهل بحال المحذوف"، لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا، وإذا كان تابعيًّا فإنه يحتمل أن يكون ضعيفًا، وإذا فرض أنه ثقة فإنه من المحتمل أن يكون قد حمل عن تابعي آخر ضعيف وبالاستقراء وجد أن هناك سبعة من التابعين روى بعضهم عن بعض، فليس كل مرسل روى فيه التابعي عن الصحابي، حتى نقول ونتأكد أنه أرسل عن ثقة ولم يرسل عن ضعيف3. 568- ومن حيث الواقع العملي فهناك في زمن الصحابة والتابعين من يحدث وهو غير ثقة، فربما يروي عنه ولا يسميه، فتكون النتيجة هي روايتنا عن الضعاف دون أن ندري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال أبي: إني لأسمع الحديث استحسنه، فمنا يمنعني من ذكره إلا كراهية أن

_ 1 الإحكام 2/ 135. 2 قواعد التحديث ص 133. 3 شرح نخبة الفكر ص17.

يسمعه سامع فيقتدي به، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث عمن أثق به، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث عمن لا أثق به، فهذا يدل -كما يقول ابن عبد البر- أن ذلك الزمان، أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره. وقال عمران بن حدير: إن رجلًا حدثه عن سليمان التيمي، عن محمد ابن سيرين "أن من زار قبرًا أو صلى عليه فقد برئ الله منه". قال عمران: فقلت لمحمد عند أبي مجلز: إن رجلًا ذكر عنك كذا، فقال أو مجلز: كنت أحسبك يا أبا بكر أشد اتقاء، فإذا لقيت صاحبك فأقرئه السلام، وأخبره أنه كذب. قال: ثم رأيت سليمان عند أبي مجلز، فذكرت ذلك له، فقال: سبحان الله! ... إنما حدثنيه مؤذن لنا، ولم أظنه يكذب. 569- وقد تقدم سما قاله ابن لهيعة أنه سمع شيخًا من الخوارج يقول بعد ما تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا.. قال ابن حجر: إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل؛ إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام، والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرًا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به، ولم يذكر من حدثه به تحسينًا للظن، فيحمله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطع، فيحتج به"1. 570- والأخبار التي تروي أن كثيرًا من المراسيل إنما ظهر ضعفها بعد كشف ما قطع منها- كثيرة، وتحمل في طياتها تحذير الأئمة من الأخذ بالأسانيد غير المتصلة2. الإمام أحمد والمراسيل: 571- والحق أن الإمام أحمد رضي الله عنه ينتظم في سلك هذا الاتجاه، إذ أنه يعد الأحاديث المرسلة من الأحاديث الضعيفة التي لا يحتج بها، فقد

_ 1 فتح المغيث 1/ 137 - 138. 2 المحدث الفاصل ص313 "المطبوع" - معرفة السنن والآثار 1/ 82.

سئل عن حديث ثوبان: "أطيعوا قريشًا ما استقاموا لكم" قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان، فقد حكم ببطلان هذا الحديث لأنه مرسل"1. ويضعف أحاديث راو بأنها تهوى وتنحط لأنها مرسلة، يقول في أبي الحارث بن سليمان الفزاري: "حديثه يهوى، ويفسر عبد الله هذا بقوله: -يعني مراسيل2 ... وقد سئل عن حديث النبي، صلى الله عليه وسلم" مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة أو التابعين -متصل برجال ثبت، فقال: "عن الصحابة أعجب إلي"3، فهذا يدل على أن المرسل ليس بحجة عنده؛ إذ لو كان حجة عنده ما قدم عليه قول الصحابي لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي"4. ويقول أبو زهرة عليه رحمة الله تعالى، مقررًا هذا الاتجاه عند الإمام أحمد: "إن أحمد رضي الله عنه اعتبر المرسل من قبل الأخبار الضعيفة التي يكون الأصل ردها وعدم قبولها، ولذلك قدم عليه فتوى الصحابي، وهو لا يقدم هذه الفتوى على حديث صحيح قط، فتقديمها عليه دليل على أنه يعتبر ضعيفًا لا صحيحًا وهو بذلك ينحو نحو المحدثين الذين يقررون أن الحديث المرسل من قبيل الحديث الضعيف لا من قبيل الحديث الصحيح"5. 572- وعلى الرغم من هذا فقد نقل عنه ما فهمه بعض الباحثين على أنه يقبل المراسيل ويحتج بها، فيكون في هذا شأنه شأن أصحاب الاتجاه الأول الذي على رأسه الإمام مالك -كما قررنا- ومن أقواله التي يستدل بها على ذلك قوله: "ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا من المتصل" وقوله: "ربما

_ 1 أصول مذهب الإمام أحمد: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الطبعة الأولى 1394هـ - 1974م مطبعة جامعة عين شمس بالقاهرة ص294. 2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 378. 3 المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، مجد الدين أبي البركات عبد السلام وشهاب الدين عبد الحليم وتقي الدين أحمد جمعها أبو العباس بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي "ت 745هـ" تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - مطبعة المدني بالقاهرة ص310. 4 أصول المذهب الإمام أحمد: ص 393 - 394. 5 ابن حنبل ص230.

كان المرسل أقوى إسنادًا، وقد يكون الإسناد متصلًا وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسنادًا منه"1. 573- ولكن الذي يدرك عادة أئمة الحديث وعباراتهم عندما يوازنون بين الأحاديث يعرف أن هذه العبارة وأمثالها لا تعني أن الإمام أحمد يحتج بالمراسيل، بل قد تعني العكس تمامًا، إذا فهمناها على وجهها الصحيح، فهو يريد أن يقول: إن الحديث إذا جاء بطريق منقطع وآخر متصل فقد يكون هناك غلط في اتصاله، وأن الصحيح إنما هو انقطاعه أي أنه منقطع في الحقيقة، وواقع الأمر، وهذا بصرف النظر عن كونه يحتج به أو لا يحتج به. وهذا كثير وشائع في استعمالات المحدثين2. ولهذا كان الإمام أحمد يعجب من هؤلاء الذين يولعون بكتابة الأحاديث المتصلة ويأخذونها على أنها صحيحة مع أنها في الحقيقة مرسلة، فوصلها أحد الرواة غلطًا، يقول الميموني تلميذه: "كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه، ممن يكتب الإسناد ويدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا منه وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل".. ويضعف هؤلاء الذين يرفعون المراسيل، ولو رووها على حقيقتها مرسلة ما كان هذا منكرًا منهم، وما كان سببًا في تضعيفهم، يقول عن صدقة السمين: "ما كان من حديثه مرفوع منكرًا، وما كان من حديثه مرسل عن مكحول فهو أسهل، وهو ضعيف جدًّا"3. ويقول في المغيرة بن زياد: "ضعيف الحديث، روي عن عطاء عن ابن عباس في الرجل تحضر الجنازة قال: لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم. قال عبد الله، قال أبي: رواه ابن جريح وعبد الملك عن عطاء مرسل.. وروي عن عطاء عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قصر وأتم". والناس يروونه عن عطاء مرسل4.

_ 1 أصول مذهب الإمام أحمد ص300. 2 انظر علل الحديث لابن أبي حاتم ففيه الأمثلة الكثيرة جدًّا على ذلك. 3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 84. 4 المصدر السابق 1/ 131 - 132.

ومثل هذا ما قاله عبد الله بن الإمام أحمد سألته -يعني أباه- عن حديث رواه محمد بن مصفى الشامي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما استكرهوا عليه وعن الخطأ والنسيان". وعن الوليد عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله، فأنكره جدًّا وقال: ليس يروي فيه إلا عن الحسن1. فقد أنكر الإمام أحمد هنا المسند، وذلك لوجود الخطأ فيه وأثبت المرسل، وذلك حتى لا يؤخذ المرسل ليحتج به على أنه مسند مع أنه في الحقيقة ليس مسندًا والأصح أنه مرسل. وقد كان الإمام أحمد يوثق هؤلاء الرواة المتيقظين الذين يروون المرسل على إرساله والمتصل على اتصاله لا يخلطون بينهما، ويقول: أصح الناس حديثًا عن سعيد المقبري -ليث بن سعد؛ يفصل ما روي عن أبي هريرة -يعني مرسلًا- وما عن أبيه عن أبي هريرة -هو ثبت في حديثه جدًّا2. 574- وقد ثبت عن الإمام أحمد أنه أخذ ببعض المراسيل، الأمر الذي جعل بعض الحنابلة يفهمون منه أنه يأخذ بحجية المرسل مطلقًا ومنهم القاضي أبو يعلى الذي اختار أن يكون الإمام أحمد يحتج بالمرسل. وحجته كما قلنا أن الإمام أحمد أخذ ببعض المراسيل، فقد قال فيما نقله ابنه عبد الله: آخذ بحديث ابن جريح، عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار، عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبد الآبق إذا جيء به دينار. وحكم على بعض المراسيل بالصحة، فقال: مرسلات إبراهيم لا بأس بها، ومرسلات سعيد ابن المسيب أصح المرسلات3. وقال: وربما أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه أثبت منه4. 575- ومن أجل هذا الفهم من أبي يعلى تكلم على وجه أخذ الإمام أحمد بالمرسل، فقال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ

_ 1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 203. 2 المصدر السابق 1/ 107. 3 العدة في أصول الفقه ص239. 4 المسودة ص276 عن أصول مذهب الإمام أحمد ص298.

إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو مسند، ولأن عادة التابعين إرسال الأخبار إلى آخر الحجج التي تعرفنا عليها عند الآخذين بحجية المرسل. كما رد على الاعتراضات التي تثار ضد قبول المرسل. 576- والحق أن القاضي أبا يعلى لم يقل: إن الإمام أحمد قد قال بتلك الاستدلالات الكثيرة التي أوردها، حتى نلزمه بها ونقول: إنه يحتج بالمرسل مطلقًا. 577- والواقع أنه لا تناقض بين ما قلناه من أن الإمام أحمد يعتبر المراسيل من الضعيف وما نقل عنه من أنه قبل بعض المراسيل؛ لأنه يقبل بعض المراسيل بعض المراسيل مع الإقرار بأنها ضعيفة، وهذا في حالة واحدة يمكن أن نسميها حالة الاحتياط، وذلك إذا لم يجد غيرها بعد أن يفتش فلا يجد الأحاديث الصحيحة المسندة ولا الأقوال المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم. والأحاديث المرسلة شأنها -في ذلك عنده- شأن كل الأحاديث الضعيفة الأخرى التي يأخذ بها في هذه الحالة. إنه لا يوثقها، وإنما يقول: إنها -على ضعفها- أقوى من رأي الرجال1. ولو كانت موثقة عنده ما أخرها عن أقوال الصحابة وفتاواهم، وفي أقوال الإمام أحمد ما يدل على مرتبة هذه الأحاديث المرسلة، فهو يقول: "إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعدهم خلافه، وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم تخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم، وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة قول نختار من أقوال التابعين، وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه أثبت منه"2. وإذا كان هذا النص لا يبين بالتحديد مكانة المرسل من أقوال الصحابة والتابعين فإن أدنى ما يقال ويفهم منه أنه يأخذ

_ 1 قواعد التحديث ص 113. 2 المسودة لآل تيمية ص 276.

بالمرسل في بعض الأحيان، وأنه أخره في الذكر عن أقوال الصحابة والتابعين، مما قد يشعر بأنه أقل منزلة منها، كما قربه بالحديث الضعي الذي في إسناده شيء. 578- وقد أدرك ابن القيم أن الإمام أحمد يؤخر المرسل إلى المرتبة الرابعة كما قد يحتمل من هذا النص، فذكر أن الإمام أحمد يأخذ بالنصوص فإذا لم يجد شيئًا منها لجأ إلى فتاوى الصحابة فإذا لم يجدهم أجمعوا، اختار من أقوالهم إذا اختلفوا، فإذا لم يجد عندهم إجماعًا ولا اختلافًا أخذ بالمرسل والحديث الضعيف1. 579- ولكن الذي يستوقفنا عند ابن القيم هو أنه قال -عقب ذلك- مبينًا منزلة الضعيف عامة والمرسل منه: إنه قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن عند الإمام أحمد، وأنه لم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف2. وقد تبع ابن القيم في هذا أستاذه ابن تيمية الذي رأى هذا الرأي: لأن الحديث عند المتقدمين ينقسم إلى صحيح وضعيف فقط، وأن الحسن اصطلاح أحدثه الترمذي. وقد سار على هذا الدرب بعض الباحثين المحدثين، وفسر أقوال الأئمة في الحديث الضعيف والأخذ به في ضوء هذا الرأي. 580- وقد ناقشناه في رسالة الماجستير. وأثبتنا أن الأئمة لا يعنون بالضعيف الحسن، وإنما يعنون به ما هو أقل منه، مما لا يحتج به في الحلال والحرام والحسن يحتج به عندهم فيهما3. كما أشرنا إلى أن أبا حاتم الرازي سبق الترمذي في استعمال الحسن4.

_ 1 أعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن القيم أبو عبد الله محمد بن أبي بكر "751هـ" - إدارة الطباعة المنيرة بالقاهرة 1/ 25. 2 أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 25. 3 عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ص 229 - 230. 4 المصدر السابق ص229 - 300.

581- ولكن الذي نضيفه هنا هو أن إطلاق الحسن على الحديث وعلى الراوي وراد على لسان عدة من العلماء السابقين للترمذي من طبقة شيوخه وشيوخ شيوخه، بل ورد هذا الإطلاق على لسان أحمد نفسه، وأنه كان يستعمله بالمعنى الاصطلاحي الذي هو دون الصحيح وفوق الضعيف. 582- ثم ما الداعي إلى تفسر كلمة ضعيف بالحسن؟ مع أن ظاهخر كلام أحمد يشير إلى أن مراده بالضعيف الضعيف الذي لم تتحقق فيه شروط القبول، فإنه يريد أن الرأي لا يعتد به عنده ما دام قد نقل في المسألة نص ولو ضعيف؛ فإن الضعيف خير من الرأي.."ضعيف الحديث أقوى من الرأي". 583- "وإذا فسرنا" الضعيف "بالحسن" فأي فائدة في هذا التنصيص من الإمام أحمد على أن الحسن مقدم على الرأي؟ إذ أن هذا أمر ثابت مقرر فالحسن حجة في كافة وجوه الاحتجاج، ولم يقل عن أحد من المتقدمين نفي الاحتجاج بالحسن إلا ما نقل عن أبي حاتم"1. 584- وتخلص من هذا إلى أن الإمام أحمد يعتبر المرسل غير صحيح وضعيف وينضم في سلك هذا الاتجاه، الذي يرفض المراسيل كأحاديث صحيحة يحتج بها. أثر هذا الاتجاه في توثيق السنة: 585- وقد أفاد هذا الاتجاه أيما إفادة في توثيق الحديث، إذ قام أصحابه بما يشبه الاستقراء في تمييز الروايات التي جاءت مرسلة، والتي حدث بها مرسلوها عمن لم يسمعوها منهم، وأسقطوا من حدثوهم. وعرفوا من أرسل عن ثقات وسموه ومن كان غير ذلك، وسدوا بذلك النقص الذي أحدثه المتقدمون بإرسالهم الكثير من الأحاديث، ولو ذهبوا إلى ما ذهب إليه

_ 1 قواعد في علوم الحديث: التحقيق في الهامش ص100 - 107 من بحث الشيخ محمد عوامه فينقد كلام ابن تيمية وابن القيم في الضعيف عند الإمام أحمد.

أصحاب الاتجاه الأول مثلًا ما فعلوا ذلك، يقول: "قد تأمل المتقدمون مراسيل سعيد بن المسيب فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره"1 ... وقال ابن المديني: "مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها "وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما قال الحسن في حديثه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدنا له أصلًا إلا حديثًا أو حديثين"2. وقال شعبة بن الحجاج: لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئًا، فقال أحمد بن حنبل: أدخل بينه وبين أبي رافع خلاسًا والحسن، وقد سمع قتادة من خلاس3. 586- وبعد أن انتهينا من الاتجاهات في الأخذ بالمرسل وعدم الأخذ به فإننا نسجل ملاحظتين على هذه الاتجاهات: الأولى: أنه يتمثل في هذه الاتجاهات جميعها الحرص على أخذ السنة صحيحة متصلة الإسناد، ولم يكن في أخذ بعض العلماء بالمراسيل تخل عن هذا المبدأ وإنما لأنهم رأوا أن المراسيل كلها عند البعض أو بعضها عند البعض الآخر إنما هي صحيحة وإن بدت شكليًّا أنها منقطعة.. وكما يقول عبيد الله بن مسعود من الحنفية الذين يأخذون بالمرسل: "والمرسل منقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الظاهر لعدم الإسناد الذي يحصل به الاتصال لا من حيث الباطن للدلائل المذكورة في المتن الدالة على قبول المرسل4. وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن كل العلماء على اختلاف اتجاهاتهم في هذا السبيل كانوا يأخذون بالمسانيد في حقيقة الأمر، والاختلاف هنا شكلي أو راجع إلى أسس أخرى غير كون الحديث مرسلًا أو غير مرسل. وقد يقال: لم إذن هذه الدراسة وهذا العناء؟ نقول: إنها أفادتنا في أمور منها: أننا أصبحنا على يقين من أن الذين رأوا الأخذ بالمراسيل لم يكونوا مفرطين، كما يبدو

_ 1 معرفة علوم الحديث ص26. 2 تدريب الراوي 1/ 204. 3 العلل ومعرفة الرجال 1- 88. 4 شرح التوضيح على التنقيح: عبيد الله بن مسعود. الطبعة الأولى بالمطبة الخيرة بمصر 2/ 257.

من أول وهلة -ومنها تصحيح بعض الأخطاء- من وجهة نظرنا التي وقع فيها بعض الباحثين كاتهام مالك مثلًا بأنه تناقض مع نفسه حين أخذ بالمراسيل وترك بعضها ... الثانية: أن هناك تدرجًا زمنيًّا في قبول المراسيل -كما يقول الأستاذ أبو زهرة1- فكلما كان الإمام أسبق أو العلماء أسبق كانوا أكثر قبولًا للمراسيل وكلما بعد الزمن وجدنا التشدد في قبولها، والسبب في ذلك أن الناس كلما اقتربوا من عهد الصحابة كانوا أكثر تورعًا وتقوى، فلا يروون إلا ما صح عندهم والقليل من كان غير ذلك ... أيضًا فالسند يكون غير طويل، فإذا أرسل تابعي فإنه من العادة أنه سمعه من صحابي أو من زميل له تابعي يثق فيه والمرسلون عن بعضهم أحياء، ويستطيع المتحمل للحديث أن يتصل ببعضهم ويعرف حقيقة ما يحدثون، وليس الأمر كذلك في زمن الشافعي مثلًا، وفي زمن أحمد بن حنبل وأئمة الحديث في عصره، فالتدين قل ... واستفحلت المذاهب، ودعاتها كثروا ... واستطال السند ومن أرسل عنهم ماتوا ويحتمل أن يكونوا من الضعاف. 587- وبعد؛ فقد تعرفنا على جهود العلماء، من فقهاء ومحدثين في وضع أسس توثيق سند الحديث ورجاله الذين نقلوه، وكانت لهم جهود أخرى في وضع أسس تعنى بمتن الحديث بعيدًا عن نقلته وهو ما سنتعرف عليه -إن شاء الله عز وجل- في القسم الثاني الذي أصبحنا على مشارفه واقتربنا من عتباته بعون من الله الكريم وفضله.

_ 1 ابن حنبل ص231.

القسم الثاني: توثيق متون السنة

القسم الثاني: توثيق متون السنة مدخل ... تقدمة: 588- في القسم الأول تعرفنا على جهود علماء القرن الثاني الهجري من محدثين وفقهاء في توثيق السنة من خلال توثيقهم لراوي الحديث وسنده، وهي طريقة استولت على معظم جهودهم وجهود من بعدهم؛ لأنه -حقًّا- إذا نقل السنة رواة ثقات، وأسلمها بعضهم إلى بعض بطريقة سليمة، فإنه -مما لا شك فيه- ستنتقل كما صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تبديل أو تغيير أو دخيل. 589- وعلى الرغم من أن هذه الجهود كانت كافية في توثيق السنة، مما جعل كثيرًا من المحدثين يكتفون بها -فقد كانت هناك كثير من المشكلات والصعوبات التي رأى بعض الفقهاء أمامها البحث في متن الحديث وتوثيقه بعيدًا عن الرواة والأسانيد، أو بعبارة أخرى أدق: دون الاهتمام الكثير بنقلة الحديث، على حين يركزون الضوء، ويعملون الذهن والفكر فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه: هل يتلاءم مع اعتبارات معينة -من وجهة نظرهم- فيكون وثيق الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يتناقض مع هذه الاعتبارات، فيكون دخيلًا ومزورًا. 590- ومما أباح لهم تلك النظرة أن الحكم بصحة الأسانيد وتوثيق الرواة إنما هو حكم من حيث الظاهر، والله سبحانه وتعالى هو -وحده- العليم ببواطن الأمور وحقائقها، ومن ثم فقد يأتي الحديث بإسناد يبدو صحيحًا، ولكنه في واقع الأمر وحقيقته على خلاف ذلك وتدل على هذا اعتبارات أخرى كما أشرنا، فقد يبدو خبر الواحد متناقضًا مع النصوص الثابتة، وقد يكون متناقضًا مع عمل أهل بلد معين، وخاصة إذا كان هذا العمل هو عمل أهل المدينة، وهم أبناء المهاجرين والأنصار الذين توارثوا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل ... وغير ذلك من الاعتبارات التي سنبحثها، ونسير مع من وضعوها مقاييس العمل بخبر الآحاد أو تركه، وبعبارة أخرى توثيقه أو عدم توثيقه.

591- وجدير بالذكر -كما أشرت- أن معظم المحدثين اكتفوا بتوثيق الأسانيد وسيلة إلى توثق المتن، وهم في هذه الحالة لا يرون تعاوضًا بسبب هذه الاعتبارات يشكل خطرًا على الحديث، ويهدم ما بنوه من توثيق بعض الأسانيد وتوثيق متونها، تبعًا لذلك.. ووجهة نظرهم أننا ما دمنا قد وثقنا من الحديث عن طريق الثقة بنقلته -فإن أية محاولة أخرى إنما هي هروب من العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحكيم الآراء التي قد تخطئ وقد تصيب، وأن أي تعارض إنما هو من وجهة نظرنا، ولا يزيله إلا أن نؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالإسلام ومبادئه منا، وقد عبر الإمام الشافعي عن هذا الاتجاه وأكده في أكثر من موضع، وفي كل مناسبة أوضح تعبير، يقول: "فلم يكن له -يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه- ولا لأحد إدخال "لم"؟ و"كيف" ولا شيئًا من الرأي على الخبر عن روسل الله صلى الله عليه وسلم، ولا رده على من يعرفه بالصدق في نفسه، وإن كان واحدًا1 ".. فلا اعتبار فوق اعتبار أن الحديث قد نقل نقلًا صحيحًا، برواة عدول ضابطين، وقد ضرب المثل على أن الحديث قد يبدو معارضًا لكتاب الله عز وجل، ومع هذا نقبله، وليس لنا حجة في ذلك إلا أن الذي نقله ممن يثبت أهل الحديث حديثه، يقول: "قد روينا ورويت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أن تحج عن أبيها، ورجلًا أن يحج عن أبيه، فقلنا نحن وأنت به، وقلنا نحن وأنت معًا لا يصوم أحد عن أحد، أفرأيت إن احتج له أحد ممن خالفنا فيه، فقال: الحج عمل على البدن كالصلاة والصوم، فلا يجوز أن يعمله المرء عن نفسه، وتأول قول الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 2 وتأول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 3 وقال: السعي العمل، والمحجوج عنه غير عامل، فهل الحجة عليه إلا أن الذي روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممن يثبت أهل الحديث حديثه، وأن الله فرض طاعة رسوله، وأن ليس لأحد خلافه،

_ 1 اختلاف الحديث ص21 وانظر شبيهًا بهذا في ص 339 منه. 2 سورة النجم: 39. 3 سورة الزلزلة: 7، 8.

ولا التأول معه؛ لأنه المنزل عليه الكتاب المبين عن الله معناه1؟ ... 592- فالإمام الشافعي هنا يقول: إنه قد يبدو لنا تعارض بين الحديث وبعض الآيات القرآنية، مما يجعل البعض يترك حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم ويستعمل القياس فيما يثبت خلاف السنة، ولكن لا تعارض في الحقيقة؛ لأنه ما دام الحديث قد نقله الصادقون فإننا نتأكد أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحكمة يعلمها الله ورسوله إن خفيت علينا وعلينا العمل به، تنفيذًا لأمر الله عز وجل بطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، ويكون الحديث حينئذ مخصصًا لهذه الآيات، حتى لو فهمناها كما فهمها من قال بالتعارض بينهما وبين الحديث. ويوضح الإمام الشافعي هذا مرة أخرى، فيقول: "فوجب على كل عالم ألا يشك أن سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا قامت هذا المقام مع كتاب الله عز وجل في أن الله أحكم فرضه بكتابه، وبين كيفما فرض على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأبان على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم ما أراد به العام والخاص -كانت كذلك سنته في كل موضع لا تختلف. وأن قول من قال: تعرض السنة على القرآن، فإن وافقت ظاهره، وإلا استعلمنا ظاهر القرآن، وتركنا الحديث- جهل، لما وصفت.. فأبان الله لنا أن سنن رسوله فرض علينا بأن ننتهي إليها، لا أن لنا معها من الأمر شيئًا إلا التسليم لها واتباعها، ولا أنها تعرض على قياس ولا على شيء غيرها وأن كل ما سواها من قول الآدميين تبع لها"2. 593- فهو هنا يؤكد أنه من الجهل عرض السنة على القرآن لتثبيتها أو ردها، وأنه يجب ألا نأخذ بهذا المقياس من أجل ذلك، كما ينبغي ألا تعرض على القياس أو شيء آخر. 594- وفي الفصول التالية سنمضي -إن شاء الله عز وجل- مع الفقهاء الذين أخذوا بهذه المقاييس والذين ردوها مقارنين بين هؤلاء

_ 1 اختلاف الحديث ص31، 32. 2 اختلاف الحديث ص44، 45.

وأولئك ... إنه -بصرف النظر عن اختلافهم- سيتضح لنا بيقين افتراء الحاقدين على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى علمائنا حينما قالوا: إنهم لم يقدموا الأحاديث موثقة، وإنهم انشغلوا بأسانيدها، ولم يعتنوا بمتونها وأنه إذا كان هذا ينطبق على فئة من العلماء -فإنه لا ينطبق عليهم جميعًا. الأمر الذي أدى إلى وضع المقاييس التي لا تقل أهمية في توثيق السنة عن المقاييس التي وضعت لتوثيقها من حيث السند. 595- وهذا وذاك أدى -بفضل من الله عز وجل- إلى تثبيت سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحفظها نقية خالصة للمسلمين؛ كي ينهلوا من معينها، تبين لهم كتاب ربهم وتهديهم -مع كتاب الله الكريم- إلى التي هي أقوم ...

الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله وعز وجل

الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله وعز وجل ... الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله عز وجل 596- يقول أبو حنيفة، رضي الله عنه، مبينًا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعارض مع كتاب الله عز وجل: "إذا قال الرجل أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم، غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بالجور، ولم يخالف القرآن، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن. ولو خالف النبي القرآن. وتقول على الله غير الحق لم يدعه الله حتى يأخذه باليمين، ويقطع منه الوتين، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1، ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله ... فرد كل رجل يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف القرآن ليس ردًّا على النبي عليه السلام ولا تكذيبًا له ولكن رد على من يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله عليه السلام. وكذلك كل شيء تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم سمعنا به أو لم نسمعه فعلى الرأس والعين قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله عليه السلام، ونشهد أيضًا على النبي عليه السلام أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه ولم يقطع شيئًا وصله الله ولا وصف أمرًا وصف الله ذلك الأمر الذي بغير ما وصف به النبي، ونشهد أنه كان موافقًا لله في جميع الأمور، لم يبتدع، ولم يتقول على الله غير ما قال الله عز وجل ولا كان من المتكلفين، ولذلك قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 2. كان هذا هو أساس مقياس عرض الأخبار على القرآن الكريم وعدم الثقة فيما يخالفه. 597- ويرى الأحناف أن خبر الواحد لا يكون صحيحًا إذا خالف ظاهر كتاب الله عز وجل، فإذا ورد مخالفًا له كان هذا دليلًا على عدم

_ 1 الحاقة: 44 - 47. 2 العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة تحقيق محمد رواس قلعه جي، وعبد الوهاب الهندي الندوي، مكتبة الهدى، حلب - الطبعة الأولى 392هـ - 1972ص 100 - 102.

صحته وعلى الزيافة فيه -كما يعبر السرخسي1- ويمضي ما جاء في الكتاب على ظاهره، ولا يجوز تخصيص عامه أو صرفه عن الظاهر إلى المجاز بهذا الخبر المخالف ولا نسخه. 598- وعد الأحناف هذه المخالفة من الانقطاع الباطن، أي أن هذا الحديث المخالف ليس وثيق الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان كذلك ما خالف كتاب الله عز وجل؛ لأن كتاب الله تعالى نقل نقلًا متواترًا وورد ورودًا قطعيًّا، وخبر الآحاد ظني، ولا تعارض بين القطعي والظني بوجه؛ بل الظني بمقابلة القطعي. 599- ويبين فخر الإسلام البزدوي وجهة نظر الأحناف في حكم الحديث المخالف للكتاب، فيقول بعد أن ذكر أنه منقطع انقطاعات باطنية: "إن الكتاب ثابت بيقين، فلا يترك بما فيه شبهة -يعني بخبر الآحاد- ويستوي في ذلك الخاص والعام، والنص والظاهر، حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافًا للشافعي، رحمه الله، ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا، ولا يترك الظاهر له من الكتاب، ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصًّا؛ لأن المتن أصل والمعنى فرع له، والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة، لثبوته ثبوتًا بلا شبهة فيه، فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى"3. 600- وقد رد الأحناف كثيرًا من الأخبار تطبيقًا لهذا المقياس، ومنها: حديث: "الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم" لا يخصص العام في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 4.. وحديث: "الطواف بالبيت صلاة وشرطه شرط الصلاة" لا يترك به ظاهر قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 5..

_ 1 أصول السرخسي 1/ 365. 2 كشف الأسرار 3/ 729. 3 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 728. 4 سورة آل عمران: 97. 5 سورة الحج: 29.

وحديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" لا يترك به ظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 الآية الكريمة.. 601- وقال الأحناف: إذا ترك التسمية على الذبيحة عامدًا لا تحل، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 الآية الكريمة.. فمطلق النهي يقتضي التحريم، وأكد ذلك بحرف "من"، لأنه في موضع النفي للمبالغة، فيقتضي حرمة كل جزء منه، والهاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْق} إن كانت كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام، وإن كانت كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمى فسقًا في الشرع يكون حرامًا، كما قال تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 3. 602- وتركوا من أجل هذا -حديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم"، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قالوا: يا رسول الله، إن هنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا يدرى، يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال: "اذكروا أنتم اسم الله، وكلوا" 4. 603- ومن الأحاديث التي ردوها هنا خبر "الوضوء من مس الذكر" لأنه من وجهة نظرهم -مخالف للكتاب؛ فإن الله عز وجل يقول: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 5 -يعني الاستنجاء بالماء، فقد مدحهم بذلك وسمى فعليهم تطهرًا، ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر، فالحديث الذي يجعل مسه حدثًا بمنزلة البول يكون مخالفًا لما في الكتاب6.

_ 1 سوء المائدة: 6. 2 سورة الأنعام: 121. 3 سورة الأنعام: 145. 4 كشف الأسرار 1/ 294 - 295. 5 سورة التوبة: 108. 6 أصول السرخسي 1/ 365 - كشف الأسرار 3/ 730 - 731.

604- وكذلك لم يقبلوا حديث الشاهد واليمين الذي يقول: "إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"؛ لأنه مخالف لكتاب الله عز وجل من وجوه وسنفيض في شرح هذه الوجوه؛ لأننا سنتخذ هذا الحديث كمثال لرد الشافعي هذا المقياس: أحدهما: 605- أنه سبحانه وتعالى قال: {اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1 ... أمر سبحانه وتعالى بالاستشهاد لإحياء الحق، وهو مجمل في حق كل ما هو شهادة. ثم فسر ذلك بنوعين: برجلين، بقوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُم} ، وبرجل وامرأتين لقوله عز وجل: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، إما على المساواة أو الترتيب.. ومثل هذا إنما يذكر لقصر الحكم عليه، وعلى هذا فالشاهد واليمين زائد على النص، والزيادة على النص كالنسخ عند الحنفية، ولا ينسخ الكتاب بخبر الآحاد2. 606- ويقتضي ذلك اقتصار الاستشهاد المطلوب بالأمر على النوعين؛ لأن المجمل إذا كان ذلك بيانًا لجمع ما يتناوله اللفظ، كقول الرجل: كل طعام كذا أو طعام كذا. أو أذنت لك أن تعامل فلانًا، فإن لم يكن ففلانًا، يكون ذلك بيانًا لجميع ما هو المراد بالإذن والأمر، وكذا لو قال: "تفقه من فلان أو فلان" كان التفسر الملحق به قصرًا بالتفقه عليهما، حتى لا يكون التفقه على غيرهما من موجبات الأمر، وكذا لو قال: استشهد زيدًا على صفقتك أو خالدًا لم يكن استشهاد غيرهما من المأمور، بل يكون زيادة عليه، فكذلك ههنا يصير المذكور في الآية الكريمة بيانًا للكل3. 607- وقد أثار صاحب كشف الأسرار، وهو من الحنيفة، اعتراضًا على هذا الوجه ولم يجب عليه فقال: إن للخصم أن يقول: إنكم ادعيتم القصر

_ 1 سورة البقرة: 283. 2 أصول السرخسي 1/ 366. 3 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 731، 732.

في الآية الكريمة، مع أن القصر له طرق أربعة معروفة ولم يوجد شيء منها في الآية الكريمة، فكيف تستقيم دعوى القصر من غير دليله؟ ولئن سلمنا القصر كما زعمتم، فهو ثابت بطريق المفهوم، وهو ليس بحجة عندكم عندي. على أن من يعتبره حجة يقيده بعدم وجود دليل آخر يعارضه، فإذا عارضه سقط الاحتجاج به. وهنا دليل معارض، هو هذا الحديث، فلا يكون العمل به مخالفًا للكتاب1. ثانيهما: 608- نص الله تعالى على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين، قال تعالى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} ، وليس دون الأدنى شيء آخر نتنفي به الريبة، فلو كان الشاهد مع اليمين حجة للزم منه انتفاء كون المذكور في الكتاب أدنى في انتقاء الريبة وذلك لا يجوز، فكان في جعله حجة إبطال موجب الكتاب2. 609- وقد أثار البخاري هنا اعتراضًا كما فعل في الوجه السابق، فقال: إن الآية التي ذكرتموها لا دلالة فيها من هذا الوجه على ما ذكرتم، فهي تقول: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} واسم الإشارة راجع إلى {أَنْ تَكْتُبُوه} في قوله عز اسمه: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} والأدنى بمعنى الأقرب لا بمعنى الأقل، أي ذلكم الكتب أقسط عند الله وأقوم للشهادة، أي أعدل على أدائها. وأدنى ألا ترتابوا، أي: أقرب من انتفاء الريب. كذا في الكشاف وغيره ولا يجوز أن تصرف الإشارة إلى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وأن يجعل الأدنى بمعنى الأقل؛ لأن قوله تعالى: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لا تنقاد له، وإذا كان الأمر كذلك لا يكون الحديث مخالفًا للكتاب من هذا الوجه أيضًا.

_ 1 كشف الأسرار 3/ 732. 2 أصول السرخسي 1/ 366. 3 كشف الأسرار 3/ 732.

ثالثها: 610- أنه سبحانه وتعالى نقل الحكم في استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الرجل الواحد إلى استشهاد امرأتين مبالغة في البيان، مع أن حضور النساء مجالس القضاء لأداء الشهادة خلاف العادة، بقوله عز ذكره: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُن} 1، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة، وأمكن للمدعي الوصول إلى حقه بها لما استقام السكوت عنها في الحكمة، ولما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين، مع كل هذا الاستقصاء في البيان، بل كان الابتداء باليمين والشاهد أولى؛ لأنه أعم وأيسر وجودًا من الشهيدين، وبعبارة أخرى كان ذكر الشاهد واليمين بعد ذكر الرجلين أولى، ولم تتحقق الضرورة المبيحة لحضور النساء في محفل الرجال، كما لو وجد الرجلان "فكان النص دليلًا من هذا الوجه بطريق الإشارة على أن الشاهد واليمين ليس بحجة"2. رابعها: 611- أنه تعالى نقل الحكم من استشهاد مسلمين على وصية المسلم إلى استشهاد كافرين حين كانت شهادة الكفار جائزة وحجة لقلة المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} 3 أي: عدد الشهود فيها بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية اثنان عدلان من أهل دينكم أو آخران من غير أهل دينكم إن لم يجدوا مسلمين "أو" للترتيب كما فسرها ابن عباس وابن جبير وغيرهما، فلو كان اليمين مع الشاهد حجة لنقل الحكم إليه، لا إلى شهادة الكفار؛ لأن تجويز شهادتهم على المسلمين كان باعتبار الضرورة، وقد كان يمكن دفعها بالشاهد واليمين الذي هو أقرب إلى الحق

_ 1 سورة الأحزاب: 34. 2 أصول السرخسي 1/ 366 - كشف الأسرار 3/ 732. 3 سورة المائدة: 106.

من شهادة الكفار وأيسر وجودًا منها ... فلهذا علم أن خبر الشاهد مع اليمين ليس بحجة1. خامسها: 612- أن الله سبحانه وتعالى نقل الحكم عند وقوع الارتياب والشك في صدق الشاهد إلى تحليفه بقوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 2 الآية الكريمة، وتحليف الشاهد حينئذ كان مشروعًا ثم نسخ، فلو كان المتنازع فيه وهو الشاهد مع اليمين حجة لكان النقل إليه أولى؛ لأنه أقرب إلى اليمين المشروعة إذا اليمين المشروعة على المدعى عليه وأنه أحد الخصمين، والمدعي يشبهه من حيث أنه خصم، وتحليفه في الجملة مشروع أيضًا، كما في القسامة3 على مذهب البعض، أما يمين الشاهد فلا أصل له في الشرع؛ لأنه أمين، ولا يمين على الأمين في موضع، فكان النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان أن يمين المدعي ليست بمشروعة، وبالتالي فحديث اليمين مع الشاهد غير صحيح4. 613- وقد أيد الأحناف وجهة نظرهم في اتخاذ هذا المقياس بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وكتاب الله أحق"5. ويقول السرخسي "المراد كل

_ 1 أصول السرخسي 1/ 366. 2 المائدة: 106. 3 القسامة بفتح القاف مأخوذ من القسم وهو اليمين، وقال الأزهري: القسامة اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول. وقيل مأخوذ من القسمة لقسمة الأيمان على الورثة، واليمين فيها من جانب المدعي. وكانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت عليه. 4 كشف الأسرار 3/ 723. 5 قال البخاري "3/ 198 طبعة بولاق 1311هـ" وقال ابن عمر -أو عمر-: كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مائة شرط. ثم أورد هذا الحديث بمناسبته التي قيل فيها وهو: "عن عاشة رضي الله عنها قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها، فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، فليس له، وإن اشترط مائة شرط"، وزاد في رواية "في ص192": قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن اعتق.

شرط هو مخالف لكتاب الله تعالى لا أن يكون المراد ما لا يوجدد عينه في كتاب الله تعالى؛ فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى ... فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفًا لكتاب الله تعالى، وذلك تنصيص على أن كل حديث مخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود"1. 614- واستدلوا أيضًا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه فاقبلوه، واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه، واعلموا أني منه بريء"2. 615- وقد استدل أبو يوسف بهذا الحديث أو قريبًا منه في معرض رده على سير الأوزاعي ومما قاله: "فعليك من الحديث بما تعرف العامة وإياك والشاذ منه؛ فإنه حدثنا ابن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه الصلاة والسلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فخطب الناس، فقال: "إن الحديث سيفشو عني فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن، فليس مني" 3. 616- ويؤيد الأحناف وجهة نظرهم بما روي عن أبي بكر وعمر وعائشة وأسامة رضوان الله عليهم أنهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس في ألا نفقة للمبتوتة ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ولا خلاف في أن المراد: وأنفقوا عليهن من وجدكم، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت". وجمع أبو بكر الصحابة وأمرهم أن يردوا كل حديث مخالف للكتاب:

_ 1 أصول السرخسي 1/ 364 - 365. 2 الأم 7/ 307 - 308. 3 الأم 7/ 307 - 308.

وردت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وتلت قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. الإمام مالك وعرض الحديث على الكتاب: 617- وإذا تركنا الأحناف إلى الإمام مالك رحمة الله عليهم جميعًا -فإننا نجده يلتقي في كثير من الأحيان معهم في هذا المقياس، فيرد بعض الأحاديث؛ لأنها تتعارض مع ظاهر القرآن الكريم أو كما يقول أستاذنا الدكتور عبد المجيد محمود: ذهب مذهبهم مع اختلاف يسير، وقاربهم في عرض أخبار الآحاد على الكتاب2. فقد رد حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي مخلب من الطير" إذ مشهور مذهبه إباحة أكل الطيور ولو كانت ذات مخلب، وأخذ في ذلك بظاهر القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِير} 3، وترك الحديث لأنه يتعارض مع هذه الآية الكريمة4. وترك بعض الأحاديث التي تحلل أكل لحوم الخيل؛ لأنها تتعارض مع قوله عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 5 ولم يذكر طعامها، فكان ظاهر القرآن تحريمها. 618- وذكر بعض العلماء أن مالكًا رد حديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب"؛ لأنه يتعارض مع ظاهر القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فإباحة ما يصطاده يدل على طهارته، فيرد ما يدل على نجاسته6. 619- ونرجح أن مالكًا لم يرد هذا الحديث، كما سنبين -إن شاء الله تعالى- عندما نتكلم على عرض خبر الواحد على القياس.

_ 1 سبق أن تعرضنا لهذا في التمهيد لهذا البحث ص24، 32. 2 الاتجاهات الفقهية ص156. 3 الأنعام: 145. 4 مالك: حياته وعصره: ص288. 5 النحل: ص8. 6 مالك: حياته وعصره: ص289.

والإمام مالك لا يفعل ذلك في جميع الحالات -كما نجد هذا عند الأحناف، ففي بعضها يبقي على السنة بجانب القرآن الكريم؛ تخصص عمومه أو تقيد إطلاقه، وذلك عندما يكون هناك عاضد آخر كعمل أهل المدينة أو الإجماع، فقد أخذ بحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، واعتبره مخصصًا لظاهر القرآن؛ لأنه -مع ثبوته- من عمل أهل المدينة، ولهذا قال بعد روايته في الموطأ من طريقين، عن أبي ثعلبة الخشني، وعن أبي هريرة قال: "وهو الأمر عندنا"1. 620- وأخذ بحديث حرمة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، واعتبره مخصصًا لعموم الآية الكريمة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لأنه مع ثبوته يؤيده الإجماع2. وبعد أن تعرفنا على اتجاه من اتجاهات نقد متن الحديث من أجل توثيقه أو عدمه بعيدًا عن الإسناد -وضح لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن علماءنا لم يغفلوا هذه الناحية، وأن هذه الأحاديث القليلة التي ردوها لدليل على الكثرة الأخرى التي وثقوها وأخذوا بها، ولم يتكلموا عن مخالفتها لكتاب الله عز وجل؛ لأنها لم تكن كذلك بعد أن عرضوها بمقياسهم هذا، وهو عرض الآحاد على كتاب الله عز وجل. 621- ويحسن بنا أن نتعرف على وجهة النظر المقابلة، تلك التي لا ترضى أن تترك حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا صحت نسبته إليه عليه السلام عن طريق اتصاله والثقة برواته من حيث عدالتهم وضبطهم وتوافر الشروط التيينبغي أن تتوافر في الراوي الذي يقبل خبره ويوثق به. الإمام الشافعي وهذا المقياس: 622- وقد رفض الإمام الشافعي هذا المقياس كعامل أساسي في توثيق السنة، وفي رفض بعض الأحاديث بناء عليه، ووصف العمل به بالجهل؛

_ 1 الموطأ ص 306 - 307 "طبعة الشعب". 2 مالك: حياته وعصره ص 288 - 289.

لأن الله تعالى قد أحكم فرضه بكتابه، وبين كيفما فرض على لسان نبيه من تخصيص العام وغير ذلك؛ يقول: "إن قول من قال تعرض السنة على القرآن؛ فإن وافقت ظاهره، وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث جهل"1. 623- وكان رد الإمام الشافعي على الأحناف ومن نهج نهجهم ذا شقين: الشق الأول: تضعيف ما استدلوا به من أحاديث عرض السنة على القرآن. والشق الثاني: إثبات توثيق ما ردوه من أحاديث تطبيقًا لمقياسهم. 624- أما بالنسبة للشق الأول فقد ضعف أحاديث عرض السنة على القرآن من وجهين: أحدهما: أن إسناد هذه الأحاديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحديث: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله" ما رواه أحد يثبت حديثه في شيء: صغير ولا كبير، فيقال لنا قد ثبتم من روى هذا في شيء"2. وإسناده منقطع؛ لأنه عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. ويبين البيهقي سند هذا الحديث، فيقول: كأنه أراد -يعني الشافعي- ما حدث به أبو يوسف عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه دعا اليهود فسألهم ... إلى آخر ما ذكرناه عن أبي يوسف3.. ثم يقول: كأنه أراد بالمجهول خالد بن

_ 1 اختلاف الحديث ص 44 - 45. وقد مر هذا النص في مطلع هذا القسم. 2 الرسالة ص224، 225. 3 ص 314 من هذا البحث.

أبي كريمة، ولم يعرف من حاله ما يثبت به خبره1، ويشير البيهقي إلى أن هذا الحديث قد روي من أوجه أخر كلها ضعيفة وأنه قد بين ضعف كل واحد منها في كتابه المدخل2. 615- وعرض الشافعي لحديث آخر من هذه الحاديث بالنقد وهو حديث طاوس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمسكن الناس علي بشيء؛ فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله لهم، ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله". فقال: هذا منقطع، مخالف لما أمر النبي، صلى الله عليه وسلم3. 626- وقد ذكر صاحب كشف الأسرار من الحنيفة نقدًا آخر لسند الحديث الأول ويبدو أنه على طريق آخر من طرقه غير الطريق الذي نقده منه الشافعي، فقال: أهل الحديث طعنوا فيه، وقالوا: روى هذا الحديث يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان.. ويزيد بن ربيعة مجهول، ولا يعرف له سماع عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان، فكان منقطعًا أيضًا فلا يصح الاحتجاج به، وحكى عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة، ثم عقب بقوله في ابن معين: وهو علم هذه الأمة في علم الحديث وتزكية الرواة4. 627- ولم يجب على طعن المحدثين هذا بإجابة ذت بال، وإنما نقل عبارتهم محرفة؛ لأن إسناد الحديث كما ذكروه، وكما ذكره الخطابي: يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان5.. ويبدو أن الإسناد الصحيح هو هذا، لأنني جهدت أن أعثر عما يسمى بأبي أسماء الرحبي، فلم أجده،

_ 1 خالد بن أبي كريمة الأصبهاني: روى عن معاوية بن قرة وأبي جعفر وعكرمة وهو الذي يقال له: خالد بن ميسرة، وثقه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن عدي، وقال عنه: هو عندي صدوق فإني لم أر له حديثًا منكرًا. وقال النسائي والعجلي: لا بأس به، وضعفه ابن معين وأبو حاتم. 2 معرفة السنن والآثار 1/ 24 - 25. 3 المصدر السابق 1/ 25. 4 كشف الأسرار 3/ 730. 5 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي "911هـ" المكتبة التجارية بالقاهرة 1/ 213.

والرحبي هو يزيد بن ربيعة، وهو الذي يروي عن أبي الأشعث عن ثوبان كما ذكره الذهبي في ميزان الإعتدال1. وقال الخطابي مبينًا العلة في هذا الإسناد: إن يزيد مجهول، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان2. 628- ولو عرف صاحب كشف الأسرار هذا لأمكنه أن يدافع عن أئمة مذهبه في استدلالهم بهذا الحديث، فيزيد بن ربيعة ليس مجهولًا كما يقول الخطابي، فقد قال فيه ابن عدي: لا بأس به، وقال أبو مسهر الغساني: كان يزيد بن ربيعة فقيهًا غير متهم، ما ينكر عليه أنه أدرك أبا الأشعث. وأبو الأشعث روى عن ثوبان وقال: سمعت ثوبان3. 629- ولكنه أتى بالعجيب من الجواب ردًّا على طعن المحدثين كما ذكره، فقال: "إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن، وإمام أهل الصنعة، فكفى بإيراده دليلًا على صحته، ولم يلتفت إلى طعن غيره بعد4".. ولكن أين ذكر البخاري هذا الحديث؟.. ليس في الجامع الصحيح قطعًا.. وقد يكون ذكره في التاريخ الكبير؛ ولكنه -إن ذكره هناك- فإنما ليبين ضعفه، فقد قال السيوطي: إن البخاري ذكر الحديث في تاريخه ونقده بقوله: "ذكر أبي هريرة فيه وهم"5. 630- ثم أيد صاحب كشف الأسرار هذا الحديث أيضًا بقوله: إنه قد روي له متابع يتأيد به عن محمد بن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه

_ 1 ميزان الاعتدال 4/ 422. 2 اللآلئ المصنوعة 1/ 213. 3 ميزان الاعتدال 4/ 422. 4 كشف الأسرار 3/ 730. 5 مفتاح الجنة ص14، وقد ذكر الإمام سعد الدين التفتازالني في التلويح أن مراد صاحب كشف الٍأسرار من ذكر البخاري له في كتابه أي في صحيحه ورد عليه الغري بأن أحاديث الصحيح قسمان: قسم تصدى لإثباته وهو الصحيح. وقسم أورده البخاري للاستشهاد والتأييد. وقد يكون غير صحيح أي أن إيراد البخاري لهذا الحديث إنما هو في القسم الثاني هذا. فلا يلزم من إيراده له أنه صحيح "حاشية الغري على التلويح 2/ 261".

وسلم قال: "ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا به، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر وإنما يعرف ذلك بالعرض على الكتاب"1. ولكن هذا الحديث للمحدثين فيه مقال أيضًا، فقد قال البيهقي فيه: "هذا منقطع"2. الوجه الثاني في نقد هذه الأحاديث: 631- وهو أن هذا الحديث يخالف النصوص الثابتة من الكتاب والسنة عندما يعرض عليها، أي: أن الشافعي نقد متن هذه الأحاديث بمقاييسهم هم وهو عرض الآحاد على القرآن والسنة المشهورة. 632- قال الشافعي: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معنى ما أراد خاصًّا وعامًّا وناسخًا ومنسوخًا، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الله قبل؛ لأن الله تعالى أمر المؤمنين باتباع الرسول وفرض عليهم ذلك، قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فإذا جاءت أحاديث تجعل الناس يعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه فإنها تكون مخالفة للكتاب فترفض. 633- وهذه الأحاديث تخالف ما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة الصحيحة مثل حديث: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، ما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول ما ندري: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 4.

_ 1 كشف الأسرار 3/ 730. 2 مفتاح الجنة ص15 - كشف الخفاء 1/ 89. 3 الحشر: 7. 4 انظر ص 15 من هذا البحث.

634- وعلى فرض صحة هذه الأحاديث فليس معناها الاكتفاء بكتاب الله وعرض السنة عليه، وإنما معناها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس، وحرم عليه ما لم يحرم على الناس، فقال: "لا يمسكن الناس علي بشيء من الذي لي أو علي دونهم". أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله"؛ فمعناه أنه لا يخرج عن حدود الله تعالى فيما يحرم أو يحلل، سواء أكان هذا التحليل أو التحريم تبليغًا عن الله بالقرآن أم بالسنة"1. 635- ولم يسلم صاحب كشف الأسرار أن هذه الأحاديث فيها مخالفة للآية الكريمة: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول} الآية: وإذا قال: إن وجوب القبول بالكتاب إنما يثبت فيما تحقق أنه من عند الرسول عليه السلام بالسماع منه أو بالتواتر، ووجوب العرض إنما يثبت فيما تردد ثبوته عن الرسول عليه السلام، إذ هو المراد من قوله: "إذا روي لكم عني حديث" فلا يكون فيه مخالفة للكتاب بوجه.. على أن المراد من الآية الكريمة -والله أعلم- ما أعطاكم الرسول من الغنيمة فاقبلوه، وما نهاكم عنه، أي عن أخذه، فانتهوا، وعن ابن عباس والحسن: وما نهاكم عنه من الغلول2. 636- والحق أن الأحناف قد شقوا على أنفسهم حينما استدلوا على ما يذهبون إليه من عرض السنة الآحادية على الكتاب الكريم بمثل هذه الأحاديث، مما جعل خصومهم يضمونهم إلى منكري السنة ويردون عليهم بمثل ما ردوا به على هؤلاء، وكان يكفيهم القول بأن أخبار الآحاد ظنية وكتاب الله قطعي فلا يخصص القطعي بالظني ولا ينسخ به. 637- ويلاحظ أن الإمام الشافعي لم يناقشهم في الحديث الآخر الذي ذكره السرخسي: "كل شرط ليس في كتاب الله"3 الحديث، ويبدو أن متأخريهم هم الذين استدلوا به.. على أنه يمكن أن يقال: إن الحديث

_ 1 معرفة السنن والآثار 1/ 25 - 26. 2 كشف الأسرار 3/ 730. 3 ص 313 من هذا البحث.

يعني تلك الشروط التي ليس فيها نص من الكتاب ومن السنة أيضًا، لأن السنة من الكتاب، باعتبارها مبينة له، ومفروضة على المسلمين به، فهذا هو ما يفهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قوله: "الولاء لمن اعتق". ليس في القرآن الكريم، وهو ما كانت ستخالفه عائشة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عنه وعن مثله، مما جاءت به السنة أيضًا. توثيق ما رده الأحناف تطبيقًا لمقياسهم: 638- وهذا هو الشق الثاني من رد الإمام الشافعي على القائلين بعرض الآحاد على كتاب الله عز وجل، ونكتفي هنا بحديث: "يمين المدعي مع شاهد واحد، فقد أفاض الإمام الشافعي في توثيقه، ودفع جهة النظر التي ترده، وإزالة ما يظهر فيه من تعارض لكتاب الله عز وجل؛ لأنه -كما عرفنا من رأيه- إذا صح الحديث سندًا فإنه لا يتعارض مع الكتاب حتمًا. 639- ومن هنا بدأ برواية الحديث -كما صح عنده- بطرقه المختلفة وبالآثار التي ورد فيها تطبيق له من علماء المسلمين وقضاتهم، ويحسن بنا أن نسجل هذا كله، كما أورده الشافعي في كتاب الأم "ج6 ص 273 - 275" قال: 1- أخبرنا عبد الله بن الحارث المخزومي، عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد"، قال عمر: وفي الأموال1. 2- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ربيعة عن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس، ورجل آخر سماه، ولا يحضرني ذكر اسمه،

_ 1 قال الجصاص من الحنيفة: حديث سيف بن سيلمان غير ثابت لضعف هذا؛ ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به. "أحكام القرآن 1/ 614" ولكن هذا الحديث أخرجه مسلم في باب الأقضية وأبو داود في باب القضاء باليمين، والشاهد، وابن ماجه في الشهادات - باب القضاء بالشاهد واليمين =

من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى باليمين مع الشاهد". 3- أخبرناعبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، قال: وجدنا في كتب سعد بن عبادة يشهد سعد بن عبادة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" ... 4- وذكر عبد العزيز بن المطلب عن سعيد بن عمرو، عن أبيه، قال: وجدنا في كتب سعد بن عبادة يشهد سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن حزم أن يقضي باليمين مع الشاهد1. 5- أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "قضى باليمين مع الشاهد" قال عبد العزيز:

_ = والدارقطني في الأقضية، والبيهقي في السنن الكبرى. وقال النسائي: وقيس بن سعد ثقة، وسيف بن سليمان ثقة "ووثق البيهقي سيف بن سليمان نقلًا عن يحيى القطان، وأسند عن الشافعي أنه قال: حديث ابن عباس ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد أحد من أحد العلم مثله، لو لم يكن فيها غيره، مع أن غيره يشهد له. وقد قال ابن المديني أن قيسًا سمع من عمرو بن دينار "نصب الراية 4/ 98" وقال أبو حاتم الرازي: إن عمرو بن دينار سمع من ابن عباس "الجرح والتعديل مج 3 ق1/ 1280". 1 قال الأحناف: سئل ربيعة عن شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق فقال: وجدت في كتاب سعد، فلو كان حديث سهيل صحيحًا عند ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد، ومن ناحية أخرى فكون سهيل ينسى حديثه ولا يعرفه يجعل مثل هذا الحديث "لا تثبت به شريعة مع إنكار من روى عنه إياه وفقد معرفته به" "أحكام القرآن للجصاص 1/ 614 - 615" ولابن أبي حاتم كلام طيب مع أبيه عن هذا الحديث، يقول ابن أبي حاتم: "قيل لأبي يصح حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد؟ فوقف وقفة، فقال: ترى الدراوردي ما يقول؟ -يعني قوله: قلت لسهيل، فلم يعرفه. قلت: ليس نسيان سهيل دافعًا لما حكى عنه ربيعة، وربيعة ثقة والرجل يحدث بالحديث وينسى. قال: أجل، هكذا هو، ولكن لم نر أن يتبعه متابع على روايته، وقد روى عن سهيل جماعة كثيرة، ليس عند أحد منهم هذا الحديث. قلت: إنه يقول بخبر الواحد. قال: أجل، غير أني لا أدري لهذا الحديث أصلًا عن أبي هريرة، اعتبر به وهذا أصل من الأصول لم يتابع عليه ربيعة "علل الحديث 1/ رقم 1392 ص 463 - 464".

فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة عني، وهو ثقة: أني حدثته إياه، ولا أحفظه. قال عبد العزيز، وكان أصاب سهيلًا علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، وكان سهيل يحدثه عن ربيعة عن أبيه. 6- أخبرنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمر مولى المطلب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد". 7- أخبرنا مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد"1. 8- أخبرنا مسلم بن خالد قال: حدثني جعفر بن محمد قال: سمعت الحكم بن عتيبة يسأل أبي، وقد وضع يده على جدار القبر ليقوم: "أقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد؟ ... قال: نعم، وقضى بها بين أظهركم". قال مسلم، قال جعفر: في الدين. 9- أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريح، عن عمرو بن شعيب "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في الشهادة: $"فإن جاء بشاهد أحلف مع شاهده". 638- وعلى الرغم من أن الأحاديث من 6- 9 مراسيل إلا أنها من المراسيل المقبولة المحتج بها عند الشافعي؛ لوجود أحاديث مسندة في معناها، وهذه من الحالات التي يقبل فيها الشافعي المرسل، كما سبق أن عرفنا. 639- ثم روى الشافعي بعد هذا أخبارًا عن التابعين وتابعيهم الذين قضوا أو أفتوا بجواز القضاء بشاهد ويمين صاحب الحق، وهم عمر بن

_ 1 قال صاحب نصب الراية "4/ 100": أخرجه الدارقطني في سننه "ص 515" عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحق، وقضى به علي رضى الله عنه بالعراق، انتهى.. وهذا إسناد منقطع، فإن محمد بن علي بن الحسين لم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب، وقد أطال الدارقطني الكلام على هذا الحديث في "كتاب العلل" قال: وكان جعفر بن محمد ربما أرسل هذا الحديث، وربما وصله عن جابر، لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه عن جابر، والقول قولهم؛ لأنهم زادوا، وهم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة، انتهى..

عبد العزيز، وشريح وأهل المدينة، والشعبي، وسليمان بن يسار وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وزريق بن حكيم، وزرارة ابن أوفى1. 640- وعلى الرغم من هذا فقد روى الأحناف عن بعض التابعين وتابعيهم خلاف ذلك، فعن الزهري قال في "اليمين مع الشاهد"، وقد سئل عن جوازه: "هذا شيء أحدثه الناس، لا إلا شاهدين" وفي رواية عنه كان يقول: إنه بدعة، وأول من أجازه معاوية، ويقول الجصاص معقبًا على كلام الزهري: "والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته، فلو كان هذا الخبر ثابتًا كيف كان يخفى مثله عليه؟ وهو أصل كبير من أصول الأحكام، وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به، وأنه بدعة" ثم استطرد الجصاص في نقد الروايات التي تجوز ذلك2. 641- وعلى الرغم من أن الإمام الشافعي حجة في الحديث وخبير بصحيحه وسقيمه، ورأيه في هذا الموضوع وفي أحاديثه حجة. إلا أنه إنصافًا للأحناف. 642- نقول: إن هذه الأحاديث وغيرها التي رفضها الأحناف لم تسلم من الطعن، من حيث سندها ونقلتها3، الأمر الذي يجعلنا نرجح أن مقياس عرض الآحاد على القرآن وغيره مما قال به الأحناف أو غيرهم كان يعمل به فيما فيه شك من حيث نقله، وإن قال بصحته بعض العلماء، فهو عامل حاسم فيما تأرجح بين ثبوته وعدم ثبوته من الأحاديث، مما يمكن أن يرفضه المجتهد حينما يرى اختلاف الآراء حال صحته ولا يطمئن قلبه إليه. وسنرى أن الإمام الشافعي نفسه يستخدم هذا المقياس وغيره أيضًا مما قال به

_ 1 انظر الأحاديث المسندة وغيرها في الأم 7/ 273 - 275. 2 أحكام القرآن للجصاص جـ1 ص 612 - 618. 3 انظر ما يقال في هذه الأحاديث في "نصب الراية" 4/ 96 - 101، والجدير بالذكر أن الأحناف لم يكونوا وحدهم في عدم الأخذ بحديث الشاهد واليمين، بل كان الكوفيون جميعًا كذلك، ومعهم الثوري والأوزاعي، ويبدو أن مقياسهم كان عدم ثبوته من حيث نقله.

مخالفوه عندما يريد أن يثبت الأحاديث التي نقلها الصادقون في تقديره وعلمه، فهو موقف شبيه بهذا الموقف وإن اختلفت النتائج في الموقفين. 643- وبعد أن أثبت الشافعي أحاديث "الشاهد واليمين" بروايتها متصلة ومرسلة اتجه إلى توثيقها من حيث متنها نفسه؛ ليرد على من يقولون بردها؛ لأنها تخالف كتاب الله عز وجل. قال الإمام الشافعي: إنه ليس هناك تعارض بين الآية الكريمة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والحديث، وليس يعلم أن في هذه الآية تحريم القضاء بأقل من شاهدين؛ لأن الشاهدين اللذين أمر الله جل ثناؤه بهما يجب أن يكونا عدلين حرين مسلمين، ومع ذلك نجيز شهادة أهل الذمة، ولم نعتبر هذه مخالفة لكتاب الله، وأجزنا شهادة القابلة وحدها ولم نعتبرها مخالفة لكتاب الله. 644- ويقول لمخالفيه: وهناك نظائر لهذا حكمتم فيها بما ليس في القرآن، ولم تعتبره مخالفًا، فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 1، وقال عز ذكره: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2 ومع هذا قلتم: إن الرجل إذا خلا بالمرأة، وأغلق بابًا أو أرخى سترًا، أو خلا بها في صحراء وهما يتصادقان ولم يمسها كان لها المهر وعليها العدة والقضاء باليمين مع الشاهد أبعد ما يكون خلافًا لظاهر القرآن من هذا مع هاتين الآيتين. 645- وإن الله عز وجل قال: "شهيدين" و"رجل وامرأتان" ففيه دليل على ما تتم به الشهادة، حتى لا يكون على من أقام الشاهدين يمين، لا أنه حرم أن يحكم بأقل منهما.. ومن جاء بشاهد لم يحكم له بشيء، حتى يحلف معه، فهوحكم غير الحكم بالشاهدين -ومثله أن يدعي الرجل على الرجل حق فينكل المدعي عليه عن اليمين، فيلزمه عندك ما نكل عنه،

_ 1 البقرة: 237. 2 الأحزاب: 49.

وعندنا إذا حلف المدعي مع شاهد فهو حكم بغير شهادة شاهد وامرأتين وشهادة شاهدين1. 646- وقد حكم الله عز وجل في الزنا بأربعة، وجاءت بذلك السنة وقال الله عز وجل: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وقد صار أهل العلم إلى ذلك؛ أي إلى إجازة أربعة في الزنا بالسنة واثنين في غير الزنا بالآية الكريمة، ولم يقولوا: إن واحدًا منهما نسخ الآخر ولا خالفه، وأمضوا كل واحد منهما على ما جاء فيه. وقد أجاز أهل العلم شهادة النساء وحدهن في عيوب النساء وغيرها من أمور النساء2، بلا كتاب مضى ولا سنة، ولم يقل أحد إن الله تعالى أحد الشهادات، فجعل أقلها شاهدًا وامرأتين، ولا تجوز بناء عليه شهادة النساء لا رجل معهن. ولم يقل أحد كذلك: إن هذا مخالف للقرآن والسنة، لا يجوز -إذن- أن نرد السنة في اليمين مع الشاهد، ونتأول القرآن، مع أننا لم نرد أثرًا بأقل من شاهد ويمين ولم نتأول القرآن، وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه أجاز شهادة القابلة3. 647- ثم قال لمخالفيه: إنكم تقضون: أنه من وجد مقتولًا في محلة، ولم تقم بينه على أحد منهم بعينه أنه قتله -يحلف من أهلها خمسون رجلًا خمسين يمينًا ويدفعون الدية هم وعواقلهم، في ثلاث سنين4. فكيف تقضون بهذا مع أنكم تزعمون أن كتاب الله عز وجل يحرم أن يعطي مدع بأقل من شاهدين أو شاهد وامرأتين ... وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرم أن يعطي مدع إلا بالبينة، وهي شاهدان أو شاهد وامرأتان، وتدل على أن اليمين براءة لمن حلف؟! ... وكيف تعطون بلا شاهد هنا -في القسامة- وأحلفتم ولم تبرءوا، فخالفتم الكتاب والسنة؟!.

_ 1 اختلاف الحديث ص 353 - 354. 2 ومنها إذا جاءت امرأة بولد، فأنكر الزوج، وقال: استعرته، ولم تلديه، فشهادة القابلة بأن المرأة ولدته تكفي "آداب الشافعي ص166". 3 الأم 7/ 10 وانظر ص14. 4 مسألة القسامة. وقد مر تعريفها.

648- فإن قلتم: لم نخالفهما، وقد روي هذا عن عمر الخطاب -وهو أعلم بالكتاب والسنة- قلنا: إن هذا دليل على أن دعواكم أن الكتاب يحرم أن يعطى فيه أحد بأقل من شاهدين، و"أن السنة تحرم أن يحول حكم عن أن يعطي فيه بأقل من شاهدين -"كما في الشاهد واليمين" - أو يحلف فيه أحد، ثم لا يبرأ" - "كما في القسامة" -ليس بعام- كما زعمتم - وإذا كنتم قد خرجتم عن هذا العموم بالخبر عن عمر - فإننا لم نقل بالشاهد واليمين إلا بالخبر الثابت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وليس برأي رأيناه، والخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أولى من الخبر عن غير رسول الله1. 649- ثم انتقل الإمام الشافعي إلى ضرب أمثلة أخرى من غير الشهادة والدعوى قال فيها الخالفون بالسنة، ولو طبقوا هذا المقياس لتركوها ومنها "المسح على الخفين" مع أن بعض الصحابة تركه وعنف من يمسح على الخفين. أخذ به الأحناف، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يزد على أن قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2 فما هو بين في كتاب الله إنما هو غسل القدمين أو مسحهما فقط، وليس في مسح الخفين، وإنما ورد ذلك في السنة الثابتة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 650- ومن ذلك قول المخالفين: إنه لا يقطع إلا من سرق من حرز، ومن بلغت قيمته شيئًا مؤقتًا، دون غيره. هذا مع أن ظاهر كتاب الله عز وجل أن يقطع كل من لزمه اسم السرقة، قلّت سرقته أو كثرت، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا.....} 3 الآية الكريمة، وما قالوا بذلك إلا لما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم،

_ 1 الأم 7/ 11. 2 سورة المائدة: 6. 3 سورة المائدة: 38.

مما يدل على ألا يقطع إلا من سرق من حرز، ومن بلغت سرقته شيئًا مؤقتًا دون غيره1. 651- ومن ذلك قولهم برجم المحصن فقط إذا زنى، مع أن المذكور في القرآن الكريم هو الجلد لكل من لزمه اسم الزنا؛ مملوكًا كان أو حرًّا"، محصنًا أو غير محصن، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2 وما قالوا بذلك إلا بالسنة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا، ولم يجلده، ولم يعرضوا ذلك على القرآن، ويقولوا فيه ما قالوا في حديث الشاهد واليمين3. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي ساقها الإمام الشافعي، رضي الله عنه ليبرهن على أن الذين قالوا بهذا المقياس، كانوا يستعملونه في بعض الأوقات دون بعضها الآخر. 652- لكن قد يقال: إن السنة في هذه المواضع ليست من الآحاد، التي يعرضها الأحناف مثلًا على كتاب الله عز وجل، وإنما هي سنة مشهورة، وهذه يزاد بها على الكتاب -كما قلنا-4؛ لأن ثبوتها أقوى من ثبوت أخبار الآحاد وتفيد طمأنينة القلب، وليس ذلك موجودًا في أخبار الآحاد، فهناك فرق بينها وبين الأخبار التي ردوها، ومنها خبر الشاهد واليمين. 653- وقد نبه على ذلك صاحب كتاب كشف الأسرار عندما قال: "فإن قيل: إن الصحابة خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} 5

_ 1 أخرج البخاري ومسلم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "لم تقطع يد سارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن، حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن". وأخرجا عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم. كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع". "نصب الراية 3/ 355؛ 364". 2 سورة النور: 2. 3 الأم 7/ 15. 4 ص 116 من هذا البحث. 5 سورة النساء: 11، 12.

بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ميراث لقاتل" وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 2 و {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} 1 بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها" في شواهد لها كثيرة فثبت أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز. "قلنا: هذه أحاديث مشهورة تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب، ولا كلام فيها، إنما الكلام في خبر شاذ خالف عموم الكتاب، هل يجوز التخصيص به؟ وليس فيما ذكرتم دليل على جوازه، والدليل على عدم جوازه أن عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس، ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 3 حتى قال عمر، رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت"4. 654- والجدير بالذكر أن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، لم يكن وحده في الميدان يدفع هذا المقياس، وإنما انتضى لذلك غيره، فقد حكى حوارًا شاهده بين صاحب لمحمد بن الحسن وبين صاحب له يسمى يحيى ابن البناء، وفي هذا الحوار الاتجاه الذي سار فيه الإمام الشافعي في رده ابن البناء. وفي هذا الحوار الاتجاه الذي سار فيه الإمام الشافعي في رده على من يقولون بعرض الآحاد على الكتاب الكريم، يقول: "حضرت مجلسًا فيه جماعة، فيهم رجل يقال له سفيان بن سخيان، فقلت ليحيى بن البناء -وكان حاضرًا-: كيف فقه هذا؟ فقال لي: هو حسن الإشارة بالأصابع، ثم قال لي: تحب أن تسمعه؟ قلت: نعم. فقال: يا أبا فلان: رأيت شيئًا أعجب من إخواننا من أهل المدينة، في قضاياهم باليمين مع الشاهد؟.. إن الله عز وجل أمر بشاهدين، فنص على

_ 1 سورة النساء: 12. 2 سورة النساء: 24. 3 سورة الطلاق: 6. 4 كشف الأسرار 3/ 729 - 730. وانظر في "نفقة المبتوتة" وما قيل في هذا الحديث كتاب "مقارنة المذاهب في الفقه" للأستاذين محمود شلتوت ومحمد علي السايس - مكتبة محمد علي صبيح 1373م، ص 112 - 117.

القضية، ثم قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، ثم أكد ذلك، فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، فبين عز وجل أنه لا تتم الشهادة إلا برجلين أو رجل وامرأتين، فقالوا: يقضي برجل واحد، ويمين صاحب الحق". "فقال: نعم؛ إنهم يقولون من هذا ما هو خلاف القرآن، فقال له يحيى: احتجوا، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى كتاب الله، وقد رووا عنه أنه قضى باليمين مع الشاهد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب -عليه السلام- "كذا". "فقال ابن سخيان: لا يقبل هذا من الرواة، وهو خلاف القرآن فقال له يحيى: فما تقول فيمن تزوج امرأة ودخل بها، وأغلق عليها بابًا وأرخى سترًا، ثم فارقها، وأقرا جميعًا أنهما لم يتماسا؟ فقال: عليه الصداق. "فقال يحيى: فإنهم يقولون: إن الله تعالى قد قال في كتابه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وأنت تجعل عليه الكل. "فقال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ذلك، وهو أعلم بمعنى الكتاب. "فقال له يحيى: فلم تر للقوم حجة، وقد رووا ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت لنفسك حجة بما رويت عن عمر رضي الله عنه، فلم يكن عنده في ذلك شيء"1. 655- ومهما يكن من شيء فقد أفاض الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في رد هذا المقياس أكثر من غيره -على ما نعلم- لأنه يرى أنه باب يمكن أن ينفذ منه الحاقدون على السنة، فيعصفوا بها، ويحاولوا أن يبعدوها المسلمين عنها بحجة أن ما فيها ليس موجودًا في القرآن الكريم، وهذا هو

_ 1 آداب الشافعي ص 169.

ما حدث فعلًا الآن، في عصرنا الحديث، فقد نبتت نابتة تقول: إن السنة لم تنقل نقلًا صحيحًا، فينبغي تركها، ويرون مخالفتها لكتاب الله عز وجل1. 656- والحق أنه لا ضير على المسلمين في ألا يستعملوا هذا المقياس عندما يتأكدون من صحة نقل الحديث بمنهاج المحدثين ومصفاتهم التي صفت الأحاديث الصحيحة، وأبعدت عنها كل موضوع أو ضعيف، لأنه قد تخفى على عقولنا الحكمة في بعض الأحاديث فنتوهم أنها تعارض مع بعض الأحاديث التي رواها الثقات، كما فعل الأحناف في حديث اليمين مع الشاهد، فقد قالوا: إن في الآية قصرًا، وأن هناك حدًّا أدنى للشهادة، مع أن تأويلًا آخر للآية -كما فعل الإمام الشافعي- أدى إلى وجهة نظر أخرى ترى أن الآية لا تتعارض مع الحديث، وتثبت ما هو أدنى إلى العقل، وهو: أن الحديث إذا صدق نقلته كان وثيق الصلة برسول الله، صلى الله عليه وسلم. 657- على اننا يمكننا أن نستفيد من هذا المقياس في بعض الحالات وذلك عندما يكون الحديث ضعيفًا، فإنه مما يؤكد لنا ضعفه، ويطمئننا على ذلك أن يكون متعارضًا بوضوح مع كتاب الله.. وعند ترجيح بعض الأحاديث بعضها الآخر، ويكون في هذه الحالة عاملاً أيضًا من عوامل الاطمئنان والتأكيد فقط. الإمام الشافعي واستخدام هذا المقياس: 658- وهذا هو ما فعله الإمام الشافعي كما نرى ذلك في كتابيه اختلاف الحديث والرسالة. ومن الأمثلة على ذلك اختياره لحديث من أحاديث صلاة الخوف دون آخر؛ "لأن فيه من الشبه بمعنى كتاب الله عز وجل"، فقد روى مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله،

_ 1 انظر مثلًا هذه المحاولة في كتاب "الأضواء القرآنية" وقد أشرنا إليه قبل ذلك.

صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع1: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم". 659- وروى عبد الله بن عمر بن حفص، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يزيد بن رومان2. 660- قال الشافعي: وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف خلاف هذه الصلاة في بعض أمرها، فقال: صلى ركعة بطائفة، وطائفة وبين العدو، وجاءت الطائفة التي لم تصل معه، فصلى بهم الركعة التي بقيت عليه من صلاته، وسلم، ثم انصرفوا فقضوا معًا. وروى أبو عياش الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم عسفان وخالد بن الوليد بينه وبين القبلة، فصف بالناس معه معًا، ثم ركع وركعوا معًا، ثم سجد، فسجدت معه طائفة، وحرسته طائفة، فلما قام من السجود، سجد الذين حرسوه، ثم قاموا في صلاته. قال جابر قريبًا من هذا. 661- وهذه الأحاديث كلها صحيحة الإسناد، لكنها تحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض ليعمل بالراجع منها. 662- وقد اختار الإمام الشافعي، رضي الله عنه، الأخذ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع دون غيرها، وهي ما عبر عنها الحديث الأول، حديث خوات بين جبير لما "فيه من الشبه بمعنى كتاب الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ

_ 1 الرقاع جمع رقعة، وسميت بذلك؛ لأن بعض الصحابة الذين غزوا فيها نقبت أقدامهم، أي رقت، وسقطت أظفارهم، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق. 2 الرسالة ص182 - 183.

طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} 1.. وقال عز من قائل: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 2. 663- فقد فرق الله عز وجل بين الصلاة في الخوف وفي الأمن، حذرًا للمؤمنين أن ينال منهم عدوهم غرة أو يفتح فيهم ثغرة، وحديث خوات ابن جبير هو الذي يدل على هذا الحذر أكثر من غيره، وذلك أن الطائفة التي تصلي مع الإمام تحرسها الطائفة الأخرى التي هي خارج الصلاة "والحارس إذا كان في غير صلاة كان متفرغًا من فرض الصلاة، قائمًا وقاعدًا، ومنحرفًا يمينًا وشمالاً، وحاملاً إن حمل عليه، ومتكلمًا إن خاف عجلة من عدوه، ومقاتلًا إن أمكنته فرصة، غير محول بينه وبين هذا في الصلاة، ويخفف الإمام بمن معه الصلاة إذا خاف حمله العدو بكلام الحارس"3. 664- أما الأحاديث التي تخالف حديث خوات بين جبيرة، فهي على خلاف الحذر الذي تدل عليه الآية، ووافقها فيه حديث خوات، فالطائفة التي تبدأ الصلاة مع الإمام تنصرف دون أن تكمل الصلاة؛ فتحرس الطائفة الأخرى، وهي لا تزال في صلاة، ويعد أن يسلم الإمام يقضيان جميعًا، ولا حارس لهما؛ لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو وحده لا يغني شيئًا أمام العدو، "فكان هذا خلاف الحذر والقوة في المكيدة"4.

_ 1 سورة النساء: 102. 2 سورة النساء: 103. 3 الرسالة: ص 265. 4 المصدر السابق ص 265 - 266.

665- وهناك وجه شبه آخر بين معنى الآيات وحديث خوات، مما جعل الشافعي يرجحه على غيره من تلك الأحاديث، وهو أن الله عز وجل ذكر صلاة الإمام والطائفتين معًا، ولم يذكر قضاء على الإمام، ولا على الطائفتين، مما يدل على أن الإمام والمأمومين يخرجون من الصلاة ولا قضاء عليهم، وهذا ما يدل عليه حديث خوات ويخالفه غيره. 666- ومع هذا فالإمام الشافعي رضي الله عنه لا ينسى أن الأحاديث الأخرى صحيحة؛ لأن من نقلها رواة ثقات عنده، وهذا هو الأساس، فأثبتها وبين وجه صحتها من خلال متنها أيضًا وهو هنا يقدم عناية بمتونها لا تقل عن عناية الآخرين، فهو يرى أن حديث أبي عياش وجابر في صلاة الخوف يمكن الأخذ به إذا وجد السبب الذي من أجله صليت تلك الصلاة على النحو الذي صلوها عليه، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة، وكان خالد في مائتين، وكان منه بعيدًا في صحراء واسعة، لا يطمع فيه؛ لقلة من معه، وكثرة من مع رسول الله، صلى الله عليه سلم، وكان الغالب ألا يحمل عليه العدو، ولو حمل عليه من بين يديه رآه، لأنه قد احتاط منه في السجود، فكانوا يرونه دائمًا، في السجود وفي غير السجود بطبيعة الحال. فإذا كان الأمر كذلك؛ أي: العدو قليل وبعيد، وليس هناك من حائل يستر العدو عن الجيش، أمكن أن تصلى صلاة الخوف على النحو الذي وصفها به حديث أبي عياش وجابر1، ويكون الاختلاف بينه وبين حديث خوات ابن جبير إنما هو اختلاف الحالين. 667- وكذلك الحديث الآخر، حديث ابن عمر؛ إذ "يحتمل أن يكون لما جاز أن تصلى صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف، جاز لهم أن يصلوها كيفما تيسر لهم، وبقدر حالاتهم وحالات العدو إذا أكملوا العدد، فاختلفت صلاتهم وكلها مجزئة عنهم إن شاء الله تعالى"2. 668- ومن الأحاديث، كذلك، التي رجح فيها الشافعي، رضي الله عنه، بينها ائتناسًا بظاهر القرآن أحاديث غسل القدمين، وأحاديث مسح

_ 1 المصدر السابق ص 262 - 263. 2 الرسالة ص 267. وانظر هذا كله في اختلاف الحديث ص220 - 226.

ظهريهما ورشهما، فقد رجح أحاديث غسل القدمين على الأخرى، لأن مع الأولى ظاهر القرآن الكريم. هذا على الرغم من أن في أحاديث المسح أو الرش من هو حسن الإسناد، ويثبت لو كان منفردًا كما يقول الإمام الشافعي، يقول معقبًا على هذه الأحاديث: "فإن قال قائل: فما جعل هذه الأحاديث -يعني: أحاديث الغسل- أولى من حديثي مسح القدمين ورشهما؟ قيل: أما أحد الحديثين -يعني في المسح أو الرش، فليس مما يثبت أهل العلم بالحديث لو انفرد، وأما الحديث الآخر فحسن الإسناد، ولو كان منفردًا ثبت، والذي يخالفه -يعني حديث الغسل- أكثر وأثبت منه، إذا كان هكذا كان أولى، ومع الذي خالفه ظاهر القرآن كما وصفت، وهو قول الأكثر من العامة"1. وهو يعني بظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2، بنصب أرجلكم على معنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. 669- وقد أيد الإمام الشافعي الأحاديث التي نسخت نكاح المتعة بدلائل القرآن الكريم، فقد روى بسنده أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية". كما روى بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصتى، فنهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء". قال الإمام الشافعي: فإن لم يكن في حديث علي بيان أنه ناسخ لحديث ابن مسعود وغيره مما روي في إحلال المتعة فإنه يسقط تحليلها بدلائل القرآن والسنة والقياس. 670- ثم رد على الذين يقولون بأن نكاح المتعة حلال ولم يحرم مبينًا ما أشار إليه من أن دلائل القرآن تدل على تحريمه، وتؤكد حديث علي رضي الله عنه. قال الله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ

_ 1 اختلاف الحديث جـ7 من الأم ص 203 - 207. 2 المائدة: 6.

ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية الكريمة، فأحلهن بعد التحريم بالنكاح، ولم يحرمهن إلا بالطلاق. وقال عز ذكره في الطلاق: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 1. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} 2 الآية الكريمة. فجعل إلى الأزواج فرقة ما انعقد عليه النكاح، فكان بينا -والله أعلم- أن يكون نكاح متعة المتعة منسوخًا بالقرآن والسنة في النهي عنه لما وصفت؛ لأن نكاح المتعة: أن ينكح امرأة مدة، ثم ينفسخ نكاحها بلا إحداث طلاق منه، وفيه إبطال ما وصفت مما جعل الله إلى الأزواج من الإمساك والطلاق. وإبطال المواريث بين الزوجين، وأحكام النكاح التي حكم الله بها في الظهار والإيلاء واللعان -إذا انقضت المدة قبل إحداث الطلاق3. 671- من كل هذا ندرك -أن الأحناف قد عنوا من خلال عرض السنة على القرآن بمتن الحديث وتوثيقه من حيث التأمل فيما يشتمل عليه من معنى. هذا فوق عنايتهم به عن طريق توثيق الرواة الذين نقلوه -كما عرفت في القسم السابق.. كما أدركنا يقينًا كذلك أن خصومهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي في هذا السبيل، فهم قد دفعوا هذا المقياس من خلال تفحصهم في متون ما رفضه الأحناف؛ ليثبتوا أن هذه المتون -وقد صح سندها في رأيهم جدير معناها بالقبول، وأنها لا تتعارض مع كتاب الله عز وجل.. وكما قلت: فقد قدموا عناية بفحص المتون لا تقل عن عناية خصومهم.. وننتقل -بعون من الله عز وجل وفضل منه- إلى مقياس آخر من مقاييسهم ومناقشة مخالفيهم لهم فيه، لنقدم صورة أخرى من نقد المتون والعناية بتوثيقها من داخلها.

_ 1 البقرة: 229. 2 النساء: 20. 3 اختلاف الحديث ص 2546 - 257 ومن أمثلة هذا أيضًا انظر باب طلاق الحائض ص 316 - 318 وباب المرور بين يدي المصلي ص 162 - 165 وباب التيمم ص 97.

الفصل الثاني: عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة

الفصل الثاني: عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة 672- وكما عرض الأحناف أخبار الآحاد على الكتاب، فقبلوا منها ما وافقه وردوا ما خالفه، عرضوها أيضًا على السنة المشهورة، وعدوا أخبار الآحاد هذه من الأخبار المنقطعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطاعًا باطنيًّا، ذلك لأن الأخبار المشهورة أفادت اليقين القلبي، أما أخبار الآحاد فتفيد العلم الظني، فالأولى أوثق صلة برسول الله صلى الله عليه وسلم من الثانية، فإذا تعارضتا دلت المشهورة على أن غيرها لم يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد. 673- وطبقوا هذا المقياس على بعض الآحاديث منها: 1- حديث الشاهد واليمين الذي وقفنا معه وقفة طويلة آنفًا، ردوه هنا؛ لأنه مخالف للسنة المشهورة، وهي ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". وفي رواية: "على من أنكر" 2. 674- وبيان هذه المخالفة من وجهين: 1- أحدهما: أن الشرع جعل الأيمان كلها في جانب المنكر دون المدعي؛ لأن اللام تقتضي استغراق الجنس، فمن جعل يمين المدعي حجة فقط خالف النص، ولم يعمل بمقتضاه وهو الاستغراق. 2- وثانيهما: أن الشرع جعل الخصوم قسمين: قسمًا مدعيًا.. وقسمًا منكرًا.. كما جعل الحجة قسمين أيضًا: قسمًا بينة وقسمًا يمينًا وحصر جنس اليمين في جانب، والبينة في جانب آخر، والعمل بخبر الشاهد واليمين يوجب ترك العمل بموجب هذا الخبر المشهور، فيكون مردودًا2. 675- ومما يقوي الشك في حديث اليمين مع الشاهد -في نظر الأحناف

_ 1 صحيح البخاري 6/ 43 "طبعة الشعب" بلفظ "اليمين على المدعى عليه" وكذلك مسلم في الأقضية وقد أخرج هذا الحديث البيهقي والدارقطني. 2 كشف الأسرار 3/ 733.

-ويجعله لا يقوى أمام الخبر المشهور- طعن بعض الأئمة فيه: يحيى بن معين وإبراهيم النخعي والزهري، فقد قال الزهري والنخعي "أول من أفراد الإقامة وقضى بشاهد ويمين معاوية.. أضف إلى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي الذي امتنع عن استحلاف الكندي في دعوى أرض: "ليس لك منه إلا ذلك"، فهذا يقتضي الحصر ولو كانت يمين المدعي مشروعة لكان له طريق آخر غير الاستحلاف1 وقال صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" 2. 676- ومن الأحاديث التي ردها أبو حنيفة رضي الله عنه عملًا بهذا المقياس وتطبيقًا له: "حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص إذا جف"؟ قالوا: نعم. قال: "فلا إذن" 3 فالنبي صلى الله عليه وسلم أفسد البيع وأشار بقوله: "أينقص إذا جف" إلى وجوب بناء معرفة المساواة على أعدل الأحوال، أي عندما يجف، ويصير مثل التمر الذي بيع به، وليست هناك مساواة حينئذ، ولهذا أفسد النبي صلى الله عليه وسلم البيع. 677- رد أبو حنيفة هذا الخبر؛ لأنه مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام: "التمر بالتمر مثلًا بمثل" 4 فإنه يستدعي جواز بيع الرطب بالتمر؛ وذلك لأن التمر يطلق على الرطب؛ لأنه اسم جنس للثمرة الخارجة عن النخل من حين ينعقد إلى أن يدرك، ولا يغير من اسم ذاتها تعدد الأحوال وتغير الصفات عليها، كما لا يتبدل اسم الآدمي بتغير صفاته وتبدل أحواله. والدليل على ذلك ما روي أنه عليه السلام "نهى عن بيع التمر حين يزهي، فقيل: وما يزهي؟ قال: أن يحمر أو يصفر"5، فسماه تمرًا وهو بسر. وقال شاعرهم:

_ 1 المصدر السابق 3/ 733 - 734. 2 صحيح البخاري 3/ 332 - 333. 3 سيأتي تخريج هذا الحديث والكلام في توثيقه - إن شاء الله تعالى. 4 أخرج الستة إلا البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم". "نصب الراية 4/ 35". 5 صحيح البخاري 3/ 101.

وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر على رأس النخيل وماء فعبر بالتمر عن الرطب مما يدل على أن اسم التمر لا يختص بالجاف من ثمرة النخيل.. وإذا ثبت أنه تمر، وقد شرط العقد، وهوالمماثلة في المقدار حالة العقد جاز البيع عملًا بالحديث المشهور وتركًا لحديث الآحاد الذي يخالفه، ولا ينظر إلى المماثلة في أعدل الأحوال أي: عندما يصير الرطب جافًّا فينقص مقداره، لسببين: السبب الأول: 678- أن شرط العقد يعتبر عند نفاذه، فيجب أن تعتبر المساواة في البدلين اللذين ورد عليهما العقد، وهما الرطب والتمر، فأما اعتبار حالة مفقودة يتوقع حدوثها فلا، فاعتبار الأعدل هنا كاعتبار الأجود، والأخير أسقطه الشرع، فلا ينظر إلى التفاوت في الجودة لقوله عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" 1. السبب الثاني: 679- أن التفاوت الذي لا يكون حادثًا بصنع العباد مثل هذا التفاوت الذي يحدث بين الرطب والتمر بعد ما يصير الأول جافًّا -لا يكون معتبرًا ولا يفسد العقد؛ أما التفاوت الذي ينبني على صنع العباد كالحنطة والدقيق، والمقلي وغير المقلي، فإنه مفسد للعقد، ولهذا لا يجوز التفاوت بين النقد والنسيئة؛ لأنه حادث بصنع العباد وهو اشتراط الأجل. 680- والحديث المشهور هنا يوجب أحكام ثلاثة: أحدها: وجوب المماثلة شرطًا للجواز، فيجوز البيع حال وجود المماثلة بهذا النص.

_ 1 قال الزيلعي: غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد "الخدري" المتقدم "نصب الراية جـ4 وهو يشير إلى حديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد" وقد أخرجه مسلم في البيوع في باب الربا.

ثانيها: أنه يدل على تحريم فضل قائم فعلًا؛ لأن المراد منه الفضل على الذات. ثالثها: أن الفضل المحرم هو الفضل الذي تنعدم به المماثلة في المقدار. 681- وخبر الواحد يخالفه في هذه الأحكام الثلاثة؛ لأنه أوجب حرمة البيع حال وجود المماثلة في المقدار، وأوجب حرمة فضل ليس قائمًا فعلًا، وإنما يوجد بعد جفاف الرطب، وليس موجودًا حال العقد، بل هو موهوم غير قائم -فإذا خالف خبر الآحاد الخبر المشهور في هذه الأحكام لم يقبل1. 682- وقد حاول أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن يؤيد ما ذهب إليه بتضعيف حديث الآحاد من جهة روايته، فيروى أنه لما دخل بغداد سألوه عن هذه المسألة، وكانوا أشداء عليه؛ لمخالفته خبر سعد المتقدم، فقال: الرطب لا يخلو: إما أن يكون تمرًا أو غير تمر، فإن كان تمرًا جاز العقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "التمر بالتمر مثلًا بمثل"، وإن كان غير تمر جاز أيضًا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم"، فروى له حديث سعد، كدليل عليه، فقال: هذاالحديث دار على زيد أبي عياش، وهو ممن لا يقبل حديثه"2. 683- ويقول صاحب كشف الأسرار: واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن، حتى قال ابن المبارك: "كيف يقال: أبو حنيفة لا يعرف الحديث، وهو يقول: زيد أبو عياش ممن لا يقبل حديثه3؟. لكنه يلزم على قول أبي حنيفة هذا أن الحنطة المقلية التي هي مثل الرطب إن كانت حنطة يجوز بيعها بغير المقلية كيلًا بكيل، لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة

_ 1 كشف الأسرار 3/ 735. 2 الاختيار لتعليل المختار: عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود أبو الفضل مجد الدين الموصلي "683 هـ" تحقيق محيي الدين عبد الحميد -مكتبة الجامعة الأزهرية- القاهرة الطبعة الثانية 1372هـ - 1952/ 735 - 736. 3 كشف الأسرار 3/ 735 - 736.

بالحنطة مثلًا بمثل". وإن لم تكن حنطة ينبغي أن تجوز أيضًا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" ولكن الحكم بخلاف ذلك؛ لتفاوت قائم في الحال عند الاعتبار بأجزاء غير المقلي، وذلك من التفاوت الذي يبتني على صنع العباد، وما كان كذلك يفسد العقد -كما تقدم- ولهذا قال السرخسي: "ما ذكر أبو حنيفة رحمه الله حسن في المناظرات لدفع الخصم، ولكن الحجة لا تتم به لجواز قسم ثالث كما في الحنطة المقلية"1. ومعنى ذلك أنه يجوز أن نعتبر الرطب قسمًا ثالثًا لا يكون تمرًا مطلقًا لفوات وصف اليبوسة عنه، ولا يكون غيره مطلقًا؛ لبقاء أجزائه عند صيرورته تمرًا كالحنطة المقلية؛ فهي ليست عين الحنطة على الإطلاق، لفوات وصف الإنبات عنها بالقلي، وليست غيرها لوجود أجزاء الحنطة فيها، وكذلك الدقيق بالنسبة للحنطة. إذن فالاعتماد على المقياس الذي اعتمدوه أولى2. 684- ومما هو جدير بالذكر أن أبا يوسف ومحمدًا صاحبي أبي حنيفة عملا بحديث سعد رضي الله عنه، وليس معنى ذلك أنهما لا يأخذان بنفس هذ المقياس؛ أي عرض أحاديث الآحاد على الأحاديث المشهورة كلا، وإنما يريان أنه لا تعارض بين هذين الحديثين، فالمشهور تناول التمر، والرطب ليس بتمر عادة؛ أي: عرفًا، بدليل أن من حلف لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا أو حلف لا يأكل الرطب، فأكله بعدما صار تمرًا لم يحنث.. وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون المشهور متناولًا لما تضمنه حديث سعد رضي الله عنه، فلا تتحقق المخالفة، فيجب العمل به على رأيهما. 685- وقد رجح أصوليو الأحناف رأي إمامهم الأعظم مجيبين عنه بأنه قد ثبت استعمالًا أن الرطب من جنس التمر، لكن اليمين قد تختلف باختلاف الداعي مع قيام الجنسية، والرطوبة في الرطب وصف داع إلى المنع مرة، وإلى الإقدام أخرى، فيتقيد اليمين بالوصف من أجل هذا ... 3.

_ 1 المبسوط، شمس الدين السرخسي - مطبعة السعادة. مصر- 12/ 185 - 186. 2 كشف الأسرار 2/ 735 - 736. 3 المصدر السابق 3/ 736.

مناقشة الإمام الشافعي: 686- ونذهب إلى ناصر السنة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، لنرى ماذا يقول فيما ذهب إليه الأحناف من عرض الآحاد على السنة المشهورة، وفي هذا المثال الذي عرضنا فيه رأي أبي حنيفة مطبقًا فيه هذا المقياس. 687- يرى الإمام الشافعي أن عرض الآحاد على السنة المشهورة بهدف تضعيف بعض الأحاديث وردها مع ثبوتها سندًا يتعارض مع طاعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم التي أمر الله عز وجل بها في كتابه، يقول: "وإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرًا يخالف أمره"1. 688- من أجل هذا رأى أنه من الواجب الأخذ بحديث سعد بن أبي وقاص الذي يحرم بيع الرطب بالتمر، وأن هذا الحديث خصص به حديث: "التمر بالتمر مثلًا بمثل"2. 689- وقد ابتدأ الإمام الشافعي الكلام في هذه المسألة بإثبات هذا الحديث وغيره مما يحرم بيع التمر بالتمر لعدم وجود المساواة بينهما: روي عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن المزابنة" والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلًا، وبيع الكرم بالزبيب كيلًا 3. وهذا الحديث صحيح، لاتصاله والثقة في رواته، وقد أخرجه الشيخان في صحيحهما4.

_ 1 الرسالة 330. 2 الموطأ "طبعة الشعب" ص 385. 3 الموطأ "طبعة الشعب" ص 386 - وانظر تعريف المزابنة في اختلاف الحديث ص320، وتعريفات أخرى لها في صحيح البخاري "طبعة الشعب في ص 96 - 99 جـ3". 4 صحيح البخاري 3/ 98 - 99، صحيح بشرح النووي 4/ 35.

وروى عن مالك عبد الله بن يزيد، مولى الأسود بن سفيان أن زيدًا أبا عياش أخبره عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك1. 689- وإذا كان قد سبق القول من أبي حنيفة في زيد أبي عياش الذي مدار هذا الحديث عليه وأنه ممن لا يقبل حديثه مما يلزم منه أن هذا الحديث ضعيف -فقد أثبت آخرون أنه صحيح لسببين: أولهما: أن هذا الحديث رواه الإمام مالك، وهو كما نعرف: لا يروي إلا ما تأكد من صحته، وعن العدول الضابطين، ومن أجل ذلك ترك الكثرة من أهل الصلاح في المدينة؛ لأنهم غير ضابطين. يقول الحاكم بعد رواية هذا الحديث: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم لكل ما يرويه في الحديث إذا لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصًا في حديث أهل المدينة"2. ثانيهما: 690- قال الخطابي: إن بعض الناس تكلم في إسناد هذا الحديث، وقال: زيد أبو عياش مجهول، وليس الأمر على ما توهمه، فإن أبا عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته.. وقال المنذري: كيف يكون مجولًا وقد روى عنه اثنان ثقتان: عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس، وهما ممن احتج به مسلم في صحيحه، وقد عرفه أئمة هذا الشأن ... والترمذي صحيح حديثه ...

_ 1 الموطا ص386، اختلاف الحديث ص319. 2 المستدرك 2/ 38، 39. 3 نصب الراية 4/ 14.

وذكروا أنه سمع من سعد بن أبي وقاص، وما علمت أحدًا ضعفه. وقال ابن الجوزي: قال أبو حنيفة: زيد أبوعياش مجهول، فإن كان هو لم يعرفه، فقد عرفه أئمة النقل. 691- لكنني لا اعتقد أن أبا حنيفة ضعفه لجهالته، فهو يقبل حديث المجهول في الفروق الثلاثة الأولى كما سبق أن ذكرنا. الحديث صحيح إذن، ولا يجوز في نظر الشافعي أن يترك، وتاركه لأي سبب كان -بعد هذا- مخالف لأمر الله تعالى بطاعة رسول الله في كتابه الكريم. 692- وترك الإمام الشافعي السند قليلًا ليبين علة نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الرطب بالتمر، وهي أن الرطب ينقص إذا يبس، فيصير الأمر أن يباع تمر بتمر أقل منه، كما يباع تمر بآخر لا يدرى كم مكيله؛ لأن مقداره الذي علمناه وهو رطب سينقص بعد ما يجف، وهذا لا يجوز لأنه يكون ربًا. يقول الإمام الشافعي مبينًا هذا: "وأصل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر؛ لأن الرطب ينقص إذا يبس في معنى المزابنة إذا كان ينقص إذا يبس، فهو تمر بتمر أقل منه، وهو لا يصلح بأقل منه، وتمر بتمر لا يدرى كم مكيله، أحدهما من الآخر.. الرطب إذا يبس فصار تمرًا لم يعلم كم قدره من قدر التمر ... وهكذا قلنا: لا يصلح كل رطب بيابس في حال من الطعام إذا كا ن من صنف واحد"1. 693- وهكذا وجدنا عناية من الشافعي بتوثيق متن الحديث ببيان أنه يتمشى مع الأصول الشرعية الأخرى. 694- وإذا كان الشافعي لا يجيز بيع الرطب بالتمر عملًا بخبر الواحد، فإنه يجيز ذلك في حالة واحدة وهي حالة "العرية"، وهي كما عرفها الإمام الشافعي أن يشتري الرجل ثمر النخلة وأكثر بخرصة من التمر، يخرص الرطب رطبًا، ثم يقدر كم ينقص إذا يبس، ثم يشتري بخرصه تمرًا، ويقبض التمر قبل أن يتفرق البائع والمشتري2.

_ 1 اختلاف الحديث ص320. 2 المصدر السابق ص321، وانظر تعريفًا آخر لها في الموطأ ص387 "طبعة الشعب". 3 المصدر السابق ص319 وانظر الرسالة ص333.

695- والشافعي رضي الله عنه، يجيز العرايا اتباعًا للسنة أيضًا، فقد روي عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن حثمة: "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بكيلها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا".. وروي حديثًا آخر في ذلك فقال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وعن بيع الثمر بالثمر". قال عبد الله بن عمر: وحدثنا زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا"1. 696- وأحاديث العرايا هذه صحيحة، ومن هنا أخذ الشافعي بها في جواز بيع العرايا، ويكون نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر والمزابنة من الجمل التي مخرجها عام، ويراد بها الخاص؛ أي: النهى عام ما عدا العرايا التي خصصته، فهي لا تدخل في نهيه، صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن أمر يأمر به إلا أن يكون منسوخًا، ولا نعلم في ذلك نسخًا2. 697- وكانت إجازة الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع تلبية لحاجة الناس حينئذ؛ فقد شكى بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر، ويحل موعده، وليس عندهم ذهب ولا ورق يشترون به، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فأرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبًا3. 698- وإذا كان الشافعي في بيان تحريم بيع الرطب بالتمر بالسنة يرد على الأحناف ويتهمهم بأنهم يظهرون القول في بعض الأحاديث من الشبه، وخاصة في المجمل والمفسر منها، ويشبهون على قوم من أهل الحديث ليس لهم بصر بمذاهبه -فإنه في بيان تحليل بيع العرايا يتهم قومًا بعدم جواز

_ 1 اختلاف الحديث ص319- وانظر الرسالة ص 333. 2 المصدر السابق ص 321. 3 المصدر السابق ص327.

بيعها تاركين السنة الصحيحة التي سبق أن ذكرناها -مدعين أن العرايا داخلة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، ونهيه عن الرطب بالتمر، قال الشافعي: "وخالفونا معًا في العرايان فقالوا: لا نجيز بيعها، وقالوا: نرد إجازة بيعها بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، ونهيه عن الرطب بالتمر وهي داخلة في المعنيين"1. 699- وهنا يدخل الشافعي معهم في نقاش شبيه بالذي فعله سابقًا مع الأحناف في ردهم بعض الأحاديث، وعدم جوازهم العمل بها كمخصص لعام الكتاب، أو تقيد لمطلقه، فيقول: إن الحجة على هؤلاء "في أن يطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحل ما أحل، ونحرم ما حرم" وهم يتناقضون في آرائهم؛ لأنهم يقولون: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" كما يقول الحديث؛ لكنهم يخرجون عليه في القسامة، فيغرمون من حلف، ويعطون من لم تقم له البينة، وهم خرجوا عليه؛ لأن عمر رضي الله عنه فعل ذلك، وحجتهم "أن عمر لا يجهل قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخالفه" أما كان الأولى أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أدل على قوله من قول غيره؟ فيأخذون بحديث جواز بيع العرية، ويكون هذا الحديث دالًّا على أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، الآخر في تحريم المزابنة وبيع الرطب بالتمر عام خصص به رخصة؟!.. وقياسًا على قولهم في عمر: إنه صلى الله عليه وسلم لا يجهل قول نفسه ولا يخالفه2. 700- وإذا كان الشافعي رضي الله عنه قد أثبت حديث سعد وحديث العرية، وبين أنهما من الأخبار التي خصصت أخبارًا أخرى عامة فإنه يثبت بعض الأحاديث الأخرى التي رأى الحنفية وغيرهم أنها تتعارض مع أحاديث أخرى، مما لا سبيل لهم أمامها إلا القول بنسخها، وتعطيل العمل بها، ومن هذا حديث المصراة2.

_ 1 اختلاف الحديث ص 324. 2 اختلاف الحديث ص 325 - 326. 3 صر الناقة يصرها صرًّا وصر بها شد ضرعها. والمصراة: هي الناقة أو البقرة أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس، ويقال منه: صريت الماء وصريته ... =

701- وحديث المصراة رواه مالك فقال: عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها، وصاعًا من تمر" 1. 702- وهذا الحديث صحيح، وقد رواه الشيخان وغيرهما2. وروى الشافعي حديثًا آخر بإسناد صحيح فقال: أخبرنا سفيان عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم -مثله، إلا أنه قال: ردها وصاعًا من تمر لا سمراء "الحنطة". 703- ومع صحة هذين الحديثين لم يأخذ بهما أبو حنيفة رضي الله عنه، وقال: إن هذا من المنسوخ. أولًا: لمخالفتهما عموم كتاب الله في ضمان العدوان بالمثل، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 2. وقال جل شأنه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 4. والصاع ليس بمثل ولا قيمة لما أخذه المشتري من اللبن. وقد تقدم القول في عرض الحديث على القرآن الكريم.

_ = وصريت الشاة تصرية إذا لم تحلبها أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها والشاة مصراة.. "اللسان" وقال الشافعي: والتصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ثم تترك من الحلاب اليوم واليومين والثلاثة، حتى يجتمع لها لبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها لذلك، ثم إذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين عرف أن ذلك ليس بلبنها، بنقصانه كل يوم عن أوله. وهذا غرور للمشتري "مختصر المزني على الأم جـ2 ص184 - 185" وانظر "تحقيق الرسالة ص 556 للأستاذ أحمد شاكر عليه رحمة الله تعالى". 1 الموطأ "طبعة الشعب" ص 424. وانظر اختلاف الحديث 332 - 333. 2 صحيح البخاري "طبعة الشعب" 3/ 93 - صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 15 وانظر نيل الأوطار 5/ 327. 3 البقرة: 194. 4 النحل: 126.

ثانيًا: هذا الحديث مخالف لحديث آخر مشهور، وأخذ به جمهور الفقهاء وهو حديث1: "الخراج بالضمان"، وهذا الحديث رواه الشافعي فقال: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة بن

_ 1 يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة؛ عبدًا كان أو أمة أو ملكًا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانًا، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه أو لم يعرفه فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن على البائع شيء، والباء في الضمان متعلقة بمحذوف تقديره، الخراج مستحق بالضمان: أي بسببه. "النهاية لابن الأثير" وقال الأستاذ أحمد شاكر في تحقيقه الرسالة: "رواه البيهقي في السنن 5/ 321 - 322 من طريق الشافعي ورواه الطيالس رقم 1464 عن ابن أبي ذئب بالقصة مختصرة، ورواه كثير من العلماء عن ابن أبي ذئب فبعضهم اختصر القصة وبعضهم اقتصر على الحديث المرفوع "الخراج بالضمان" وأسانيده في أبي داود 3/ 304 - 305 - أحمد 6/ 80 و116 و161 و208 و237، والمستدرك للحاكم 2/ 15 ... وقد رواه أيضًا: "مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن هشام، وفيه قصة أخرى، قال أبو داود: هذا إسناد ليس بناك، وقال الترمذي في حديث ابن أبي ذئب عن مخلد": هذا حديث حسن، وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه، ثم رواه مختصرًا من طريق عمرو بن علي المقدمي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وقال: هذا حديث صحيح غريب من حديث هشام بن عروة، واستغرب محمدج بن إسماعيل البخاري هذا الحديث من حديث عمرو بن علي. وفي عون المعبود في الكلام على حديث مخلد: "قال المنذري: قال البخاري: هذا حديث منكر، ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث. قال الترمذي: فقلت له: فقد روي هذا الحديث عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة؟ فقال: إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، يعني مخلد بن خفاف. فقال: لم يرو عنه غير بن أبي ذئب وليس هذا إسناد تقوم بمثله الحجة" ... والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي.. وقد ذكرنا أن مخلدًا ثقة وقد روى عنه غير ابن أبي ذئب، خلافًا لما زعمه أبو حاتم، فقد نقل الذهبي في الميزان والحافظ في التهذيب أن حديثه هذا رواه أيضًا الهيثم بن جميل عن يزيد ابن عياض عن مخلد. فظهرت صحة الحديث بينة "تحقيق الرسالة ص 449 - 450". والحديث ذكره الإمام الشافعي في الرسالة هكذا: "أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مخلد ابن خفاف قال: "ابتعت غلامًا، فاستغللته، ثم ظهرت منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى في مثل هذا أن "الخراج بالضمان". فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي. فقال عمر: فما أيسر علي من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له". "الرسالة ص448 - 449".

الزبير عن عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان" ويضيف الشافعي إلى هذا قوله مبينًا سبب هذا الحديث: "وأحسب، بل لا أشك -إن شاء الله- أن مسلمًا1 نص الحديث، فذكر أن رجلا ًابتاع عبدًا فاستعمله، ثم ظهر منه على عيب، فقضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". 704- وبمقتضى هذا الحديث لا يكون اللبن مضمونًا حيث كانت المصراة تحت ضمان المشتري مدة بقائها عنده ينفق عليها2. 705- إذن فقد خالف حديث المصراة كتاب الله وهذا الحديث المشهور فيرد، وهذا ما فعله أبو حنيفة رضي الله عنه ومحمد، وفي بعض الروايات أبو يوسف أيضًا، وفي رواية أخرى يقول ما يقول به زفر والشافعي من العمل بالحديثين وعدم ردهما3. 706- إن الشافعي رضي الله عنه يرى هنا أن الحديث ثابت، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب الأخذ به ولا يقال: "لم وكيف" يقول: "وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس منه إلا التسليم فقولك قول غيرك فيه "ولم وكيف" خطأ، لكنه لا يكتفي بإثبات صحة الحديث عن طريق صحة رواته وإسناده، بل يترك هذا -وإن كان هو المقياس الوحيد عنده لإثبات الحديث -ليبين من خلال متن الحديث أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف ولا يتعارض ولا يتناقض، ومن هنا فليزل ما يحاول البعض به أن يزعم أن حديث المصراة يتعارض مع حديث الخراج بالضمان، ليترك الأول بحجة أنه منسوخ بالحديث الثاني. 707- يقول: إن في حديث المصراة شيئًا ليس في حديث "الخراج

_ 1 مسلم بن خالد الزنجي. من رواة هذا الحديث. 2 أبو حنيفة: د. محمد يوسف موسى "دراسات إسلامية" 3 مكتبة نهضة مصر بالفجالة ص82. 3 البيوع والمعاملات المالية المعاصرة: د. محمد يوسف موسى. الطبعة الثانية 1372هـ - 1954م- دار الكتاب العربي بمصر. ص75.

بالضمان"، وموضوع كل منهما مختلف عن الآخر؛ ذلك أن البائع عندما أراد أن يبيع الشاة أو الناقة المصراة كان يبيع شيئين الشاة أو الناقة ومعهما اللبن الذي في الضرع، وهذا كمن يبيع النخلة وعليها ثمرها؛ وقد كان يملك أن يحلبه قبل البيع كما يملك أن يقطع الثمر قبل أن يبيع النخلة. "فاللبن مبيع مع الشاة وهو سواها، وكان في ملك البائع" فإذا حلبه المشتري، ثم أراد أن يردها بعيب التصرية ردها وصاعًا من تمر؛ كثر اللبن أو قل. كان قيمته أو أقل من قيمته؛ لأن ذلك شيء وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن جمع فيه بين الإبل والغنم التي هي مختلفة الأثمان وألبانها كذلك. 708- أما الخراج الذي يستحق بالضمان فشيء آخر مختلف تمامًا، وهو ما لا يكون في ملك البائع وقت البيع، وفي حالة الشاة المصراة لو أمسكها المشتري بعد حلب اللبن المصرى، حتى اكتشف فيها عيبًا آخر فإن ردها ردها ولا يرد اللبن الذي حلبه بعد لبن التصرية؛ لأن هذا حدث في ملك المشتري، ولم يكن في ملك البائع، وفي عدم رد اللبن إنما ينفذ قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" ومثل هذا أن يبتاع عبدًا فإنما اشتراه بعينه، وما حدث له بعد ذلك من خدمة أو خراج أو مال أفاده فهو للمشتري؛ لأنه حادث في ملكه لم تقع عليه صفقة البيع، فهو كلبن الشاة الحادث بعد لبن التصرية في ملك مشتريها. وكذلك نتاج الماشية يشتريها فتنتج ثم يظهر منها على عيب، فيردها دون النتاج، وكذلك لو أخذ لها أصوافًا أو شعورًا أو ألبانًا وكذلك لو أخذ للحائط ثمرًا إذا كان يوم يردها بحالها كيوم أخذها أو أفضل1. 709- ليس هناك -إذن- من تناقض ولا مجال لأن تقول كيف نرد المصراة مع صاع من تمر؛ لأن الله تعبد خلقه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بما شاء، لا معقب لحكمه، فعلى الناس اتباع ما أمروا به، وليس لهم فيه إلا التسليم و"كيف" إنما تكون في قول الآدميين الذين يكون قولهم تبعًا لا متبوعًا2.

_ 1 اختلاف الحديث ص333 - 334. 2 اختلاف الحديث ص339.

710- والحق أننا مع الإمام الشافعي في أن الحديث متى صح من حيث الثقة في رواته لا ينبغي أن نرفضه أو نرده ونتركه وخاصة إذا لم تكن هناك من الأدلة على نسخه، ولا نعرضه على حديث آخر حتى ولو كان مشهورًا؛ لأن الشهرة وإن كانت تبعث على الاطمئنان القلبي إلا أنها لا تصح مقياسًا لرفض أحاديث أخرى لم تشتهر؛ إذ قد يكون مبعث شهرتها الحاجة إليها في كثير من المسائل والمشاكل الفقهية؛ لا لأن الذين رووها أوثق من الذين رووا الأحاديث التي لم تشتهر، وهذا ما ينطبق تمام الانطباق على حديث "المصراة" وعلى حديث "الخراج بالضمان" فالثاني لأنه يطبق في حالات كثيرة؛ في الحيوان وغير الحيوان اشتهر على الرغم مما قيل في إسناده، وحديث "المصراة" لم يبلغ من الشهرة مثل ما بلغ لأنه لا يطبق إلا في حالات قليلة، في الشياه أو الإبل المصراة ومع هذا فلم يتكلم في إسناده مثل ما تكلم في إسناد "الخراج بالضمان". 711- وكما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟!! هذا من أبطل الباطل"1. 712- وإذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه قد رفض عرض السنة على السنة من أجل رد بعضها والعمل ببعضها الآخر -فإنه استخدم ذلك لترجيح بعض الأحاديث الصحيحة على بعضها الآخر وعونًا على الفهم الصحيح لها والمعنى الذي أراده صلى الله عليه وسلم منها: 713- فقد رويت أحاديث في الإسفار والتغليس بالفجر، ولا شك أن وقت التغليس أسبق من وقت الإسفار، فالوقت إذن مختلف والأحاديث تبعًا لذلك مختلفة أيضًا. 714- روى الشافعي عن سفيان عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أسفروا بالصبح، فإن ذلك أعظم لأجوركم أو قال: للأجر.

_ 1 إعلام الموقعين 2/ 251.

وهذا كما نراه في الإسفار. 715- وروي في التغليس عن سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كن نساء من المؤمنات يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهن متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفهن أحد من الغلس. قال: وروي زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق هذا، وروي مثله عن أنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي عن النبي عليه الصلاة والسلام. 716- واختار الشافعي التغليس فقال: إذا انقطع الشك في الفجر الآخر وبان معترضًا، فالتغليس بالصبح أحب إلينا، ورأى بعض الناس الإسفار بالفجر أحب إليهم. وبين سبب اختياره للتغليس فقال: إنه أولى الحديثين بمعنى كتاب الله وأثبتهما عند أهل الحديث1 وأشبههما بجمل سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأعرفهما عند أهل العلم. فالسنة هنا أو جمل السنن -كما عبر- إنما هي عامل فقط من عوامل الترجيح مع معنى كتاب الله تعالى، وكون الحديثين أثبت من الآخر. 717- ثم بين السنة الأخرى التي رجحت حديث التغليس فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أول الوقت رضوان الله"، وسئل رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة في أول وقتها". 718- وعقب الشافعي على هذا بقوله: "ورسول الله لا يؤثر على رضوان الله ولا على أفضل الأعمال شيئًا"2. 719- ويحرص الشافيع جهده ألا يترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت إسنادًا؛ فيزيل ما بين الحديثين من اختلاف، فيقول الله تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك أفضل الأعمال، وإنه رضوان الله، فلعل من الناس من سمعه فقدم

_ 1 اختلاف الحديث ص209 - فقد بين الإمام الشافعي ذلك. 2 اختلاف الحديث ص209 وانظر الرسالة ص282 وما بعدها.

الصلاة قبل أن يتبين الفجر، فأمرهم أن يسفروا حتى يتبين الفجر الآخر. فلا يكون معنى حديث رافع أن يؤخر الفجر عن وقته الأول، ولا يكون مخالفًا للحديث الأول، ويكون كلاهما على هذا النحو -ثابتًا"1. 720- ومما يدل على ذلك ويؤكده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئًا ولا يحرمه، فأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام". يعني من أراد الصيام2. 721- وقد أيدت السنة سنة أخرى عند الشافعي حتى لا يقال: إنه ذهب إلى رأي مخالف للسنة، فقد ذهب الشافعي إلى أنه لا يجب الغسل إلا من الجنابة، وأخذ هذا الحكم من قول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} 3 وقال: إن الوجوب لا يتعدى الغسل من الجنابة إلى شيء آخر إلا أن تدل السنة على غسل واجب، فنوجبه بالسنة بطاعة الله في الأخذ بها. 722- والشافعي لم يعلم دليلًا من السنة على وجوب الغسل من غير الجنابة. 723- ولكن ماذا يفعل فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ظاهره الوجوب كغسل يوم الجمعة، وفيه الأحاديث الصحيحة؟ ومنها ما رواه عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل" وهذا أمر ظاهره الوجوب، وما رواه أيضًا عن مالك عن صفوان بن مسلم عن عطاء بن يسار عن ابي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" وهذا أكثر صراحة من الأول في الوجوب. 724- هل ترك الشافعي هذه السنة الصحيحة حينما قال: إن غسل يوم الجمعة غير واجب؟! وكيف يتركها وهو المدافع عن كل ما ثبت عن

_ 1 اختلاف الحديث ص210. 2 الرسالة ص291. 3 سورة النساء: 43.

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن السنة الأخرى الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي تعينه على الفهم الصحيح لهذه الأحاديث. 725- وبعرض هذه على تلك يتبين أنه يأخذ بها جميعها ولا يترك منها شيئًا -فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث أخرى في غسل يوم الجمعة يؤكد أن الوجوب هنا وجوب في الاختيار وفي النظافة ونفي الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل وجب حقك عليّ، إذا رأيتني موضعًا لحاجتك، ولسان العرب واسع يحتمل هذا ويحتمل أن الغسل واجب لا يجزى غيره فكان الاحتمال الأول أولى معنييه لموافقة ظاهر القرآن في عموم الوضوء من الأحداث، وخصوص الغسل من الجنابة، والدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل يوم الجمعة أيضًا. 726- ما هي هذه الدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الأحاديث التي تؤكد أن الوجوب في غسل يوم الجمعة وجوب في الاختيار وفي النظافة؟ يروي الشافعي عن مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، قال: دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أية ساعة هذه؟! فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق، فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. وكان الرجل الداخل هو عثمان بن عفان رضي الله عنه1. ولم يزد الأمر على ذلك مما يدل على أنهما فهما الأمر على الاستحباب لا على الوجوب بدليل أن عثمان لم يخرج فيغتسل، ولم يأمره عمر بذلك ولم ينكر عليهما من حضر الخطبة من الصحابة التي حدث في أثنائها الحوار بين عمر وعثمان رضي الله عنهما. 727- وذكر الشافعي بعد هذا حديثًا آخر ليؤكد المعنى الذي أراده النبي أن الوجوب ليس معناه الفرض فتترك الأحاديث التي لا تدل على

_ 1 مسلم 2/ 496.

الوجوب فقال: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان الناس عمال أنفسهم، فكانوا يروحون بهيئاتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم1؟ " كما روي من حديث البصريين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" 2. 728- وهكذا خرج الشافعي بعرض السنة على السنة بذلك الفهم الصحيح لبعض الأحاديث ولم يفعل كالذين أخذوا بظاهر الأحاديث الأولى من وجوب الغسل يوم الجمعة للصلاة3. وهم بهذا خالفوا السنة الصحيحة وتركوا ما تدل عليه، وهو بهذا وثقها جميعها، وأخذ بها كلها ولم يترك منها شيئًا، لأنها ثابتة، ولا يجوز أن يترك الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 729- وندرك من كل هذا أن الأحناف استعملوا مقياس عرض السنة على السنة المشهورة من أجل توثيقها أو عدم توثيقها، وهم في هذا يقدمون عناية أخرى في نقد متن الحديث غير عنايتهم هم وغيرهم في نقد إسناده ورواته، وأن الإمام الشافعي وإن كان قد عارض في هذا المقياس لأنهم تركوا به بعض الأحاديث التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛

_ 1 مسلم 2/ 497. 2 قال النووي: حديث حسن في السنن مشهور "مسلم بشرح النووي 2/ 498" - اختلاف الحديث ص 177 - 181. وانظر شبيهًا بهذا في باب من أصبح جنبًا في شهر رمضان ص 232 وما بعدها. 3 قال النووي: اختلف العلماء في غسل يوم الجمعة، فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة، وبه قال أهل الظاهر، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه سنة مستحبة ليس بواجب. قال القاضي: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه، واحتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث -يعني الأحاديث التي رواها مسلم- واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة منها: حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم، وهذا الرجل هو عثمان بن عفان مبينًا في الرواية الأخرى، ووجه الدلالة أن عثمان فعله وأقره عمر وحاضرو الجمعة، وهم أهل الحل والعقد، ولو كان واجبًا لما تركه ولا لزموه". صحيح مسلم 2/ 498.

إلا أنه استخدمه لتاكيد ثبوته وتوثيق بعض السنن، وهي عناية تدل على أن الذين التزموا بأن صحة السند دليل على صحة المتن لم يغفلوا العناية بالمتن ولم يغلقوا أنفسهم على الاهتمام فقط بالسند دون النظر في معاني الحديث وملاءمتها للأصول الإسلامية. والذي فعله الشافعي هنا هو ما فعله في عرض السنة على القرآن؛ لتأكيد ثبوتها وما سيفعله في عرضها على القياس والمعقول وغير ذلك كما سنرى - إن شاء الله. وننتقل إلى مقاييس أخرى من مقاييس الحنفية في توثيق متون الأحاديث.

الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم

الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم 730- هناك مقياسان غير ما تقدم لتوثيق الحديث أخذ بهما الحنيفة وهما: 1- الحديث الذي تعم به البلوى، والذي إليه تكون الحاجة ماسة في عموم الأحوال -لا بد أن يأتي بروايات مشهورة ليكون مقبولًا وموثقًا، فإذا لم يكن كذلك يرفض؛ لأنه لو صح لانتشر وشاع بين الصحابة ومن بعدهم. فالعادة تقتضي استفاضة نقل ما تعم به البلوى. 2- الحديث الصحيح يأخذ به الأئمة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم -فإذا أعرضوا عن حديث- وهم الأصول في نقل الشريعة -دل ذلك على انقطاعه أو نسخه، "وذلك بأن يختلفوا في حادثه بآرائهم، ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث كان ذلك زيافة؛ لأن استعمال الرأي والإعراض عن النص غير سائغ"1. 731- وهذان المقياسان -كما يبدو واضحًا- يرجعان إلى أصل واحد وهو الرجوع بالحديث وعرضه على عمل الصحابة وفتاواهم ومدى نقلهم له، فإذا كانت العادة تقتضي أن يعلمه أكثرهم ويعملوا به، وحدث ذلك فعلًا ونقلوه قبل وكان صحيحًا. أما إذا أعرضوا عنه، وواجب عليهم ألا يعرضوا عما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كان ذلك دليلًا على أنه لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 732- وطبق الأحناف المقياس الأول، وشاركتهم فيه المالكية -كما يقول ابن حزم2- فقالوا: إن حديث مس الذكر مثلًا ليس صحيحًا لأنه مما تعم به البلوى. وهذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة: رواه أبو داود والنسائي من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان، فذكر

_ 1 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 738. 2 الإحكام في أصول الأحكام 2/ 145.

ما يكون منه الوضوء. فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فليتوضأ" ورواه ابن ماجه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة. ورواه الترمذي عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة"1. 733- قال الأحناف: إن هذا الحديث شاذ لانفرادها بروايته مع عموم الحاجة إلى معرفته، فدل ذلك على زيافته؛ إذ القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بسرة بالتعليم في هذا الحكم، مع أنها لا تحتاج إليه، ولم يعلم سائر الصحابة مع شدة الحاجة إليه شبه المحال2. 734- وفي الحق أنه قد روي هذا الحديث عن صحابة آخرين غير بسرة كأبي هريرة وجابر وسالم وزيد بن خالد، وعائشة وأم حبيبة وغيرهم، إلا أن الروايات عنهم مضطربة الأسانيد، غير صحيحة لضعف رجالها، ولمعارضتها أيضًا بروايات أخرى صحيحة تخالفها، فلا ينتفي الشذوذ منها3.. ولو كان مما ينتقض بمس الذكر الوضوء لأشاعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتصر على مخاطبة الآحاد، بل يلقيه إلى عدد يحصل به التواتر أو الشهرة مبالغة في إشاعته لئلا يفضي إلى بطلان صلاة كثيرة من الأمة من غير شعور به، ولهذا تواتر نقل القرآن، واشتهرت أخبار البيع والنكاح والطلاق وغيرها، فلما لم يشتهر هذا الحديث "علمنا أنه سهو أو منسوخ"4. 735- لقد اشتهر هذا الحديث بين المتأخرين عندما قبلوه وفي هذا دليل أيضًا على عدم ثبوته؛ إذ لو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا ولما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته.

_ 1 سنن أبي داود حـ1 ص125 - 126، سنن النسائي حـ1 ص 100 - 101، جامع الترمذي حـ1 ص270 بشرح تحفة الأحوذي، سنن ابن ماجه حـ1 ص161. 2 أصول السرخسي حـ1 ص368. 3 كشف الأسرار حـ3 ص738. 4 المصدر السابق حـ3 ص 737.

ومن أجل هذا السبب لم تقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية الهلال إذا لم تكن بالسماء علة، ولم يقبل قول الوصي فيما يدعي من إنفاق مال عظيم على اليتيم في مدة يسيرة، وإن كان ذلك محتملًا؛ لأن الظاهر يكذبه في ذلك، ولم يقبل قول الرافضة وادعاؤهم النص على إمامة علي رضي الله عنه؛ لأن أمر الإمامة مما تعم به البلوى؛ لحاجة الجميع إليه، فلو كان النص ثابتًا، لنقل نقلًا مستفيضًا، وحيث لم يكن كذلك دل على أنه غير ثابت. 736- وإن الأخبار التي ينقلها الواحد مع أن العادة والمعقول اشتهارها بين الناس لا تقبل كمثل انفراد واحد بنقل قتل ملك في السوق، إن مثل هذا الخبر لا يقبل بطبيعة الحال، لأنه يبعد عادة ألا يستفيض مثله. 737- ومن الأحاديث التي شذت كذلك مع اشتهار الحادثة "حديث الجهر بالتسمية، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم كان يجهر بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" وروى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يجهرون بـ"بسم الله الرحمن الرحيم". ولما شذ مع اشتهار الحادثة ومع أنه معارض بأحاديث أقوى منه في الصحة دالة على خلافه لم يعمل به1. 738- وردوا أيضًا -تطبيقًا لهذا القياس- خبر الوضوء مما مسته النار. وخبر الوضوء من حمل الجنازة، وخبر رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه؛ لأنه لم يشتهر النقل فيها مع حاجة الخاص والعام إلى معرفتها2. 739- ويقول الأحناف: إنه قد يعترض بعض الناس على قبولنا وجوب الوتر، ووجوب المضممة والاستنشاق في الجنابة، مع أن هذا وذاك من خبر الواحد مما تعم به البلوى ... ويردون على ذلك بأن فعل

_ 1 كشف الأسرار حـ3 ص737. 2 أصول السرخسي حـ1 ص 369.

الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور ليس من الآحاد، وإنما هو من الأخبار المشهورة، أما الوجوب فقد قبلناه، وإن كان من أخبار الآحاد، لأنه مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قبلنا خبر الواحد في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما أثبتناه بالنقل المستفيض1. 740- وأسس الأحناف المقياس الثاني وهو أن أخذ الصحابة بالحديث دليل على صحته، وإعراضهم عنه مع الاختلاف بينهم في الحكم، دليل على انقطاعه وعدم صحته -على أن الصحابة وهم الأصول في نقل الدين، لم يتهموا بترك الاحتجاج بما هو حجة ولم يتهموا بالكتمان والاشتغال بما ليس بحجة، وعنايتهم بالحجج كانت أقوى من عناية غيرهم بها -فترك المحاجة بخبر الواحد وعدم العمل به عند ظهور الاختلاف فيهم، وجريان المحاجة بينهم بالرأي والرأي ليس بحجة مع ثبوت الخبر دليل ظاهر -كما قلنا- على أنه سهو ممن رواه بعدهم أو منسوخ2 وكلاهما لا يعمل به وليس بحجة. 741- وطبق الأحناف هذا المقياس، فردوا حديث: "الطلاق بالرجال" الذي تمسك به الإمام الشافعي، رحمه الله، في اعتبار عدد الطلاق بحال الرجل، وهو ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء".. والمراد به أن إيقاع الطلاق إلى الرجال. فالكبار من الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في هذا وأعرضوا عن الاحتجاج بالحديث أصلًا، فذهب عمر وعثمان وزيد وعائشة رضي الله عنهم، إلى أن الطلاق معتبر بحال الرجل في الرق والحرية، وذهب علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى أنه معتبر بحال المرأة، وهذا خلاف الحديث، ولم تحاج الطائفة الأولى الثانية بالحديث الذي سند رأيها ويقف بجانبه. وهناك قول ثالث أثر عنهم أيضًا، وهو ما روي عن ابن عمر أنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك الزوج عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين3.

_ 1 المصدر السابق حـ1 ص369. 2 كشف الأسرار حـ3 ص738. 3 المصدر السابق حـ3 ص738 - 739.

742- وتركوا أيضًا ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صدقة الصبي: "ابتغوا في أموال اليتامى خيرًا؛ كي لا تأكلها الصدقة". ويقولون: لقد اختلف الصحابة، رضوان الله عليهم في وجوب الزكاة على الصبي اختلافًا ظاهرًا، ومع هذا لم يحاج بعضهم بعضًا بهذا الحديث، فذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم إلى أنه لا زكاة في ماله، وذهب عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم إلى الوجوب بما يدل عليه هذا الحديث. وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن الوصي يعد السنن عليه، ثم يخبره بعد البلوغ؛ إن شاء أدى، وإن شاء لم يؤد1. 743- ولو كان هذا الحديث ثابتًا لاشتهر فيهم، وجرت المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف؛ لأنهم كانوا أولع بالنص ولو احتجوا به لاشتهر أكثر من شهرة فتوى كل منهم في هذه المسألة، ولرجع المخالف إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخالفه، لأنهم كانوا أشد انقيادًا للحق من غيرهم "ولما لم يثبت شيء من ذلك علم أنه مزيف"2. 744- ويتصل بهذين المقياسين أو شبيه بهما عرض الحديث على عمل الراوي وفتواه وخاصة عمل الصحابي من حيث موافقته لما رواه أو مخالفته له، فإن بعض الرواة قد رويت عنه أحاديث وقال أو عمل بخلافها. 745- ويقول الأحناف: إذا كان العمل أو القول المخالف للرواية قبلها فإن ذلك لا يقدح في الخبر، ويحمل على أن ذلك كان مذهبه قبل أن يسمع الحديث فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يعلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون منه قبل أن يبلغه الحديث، ثم رجع إليه. 746- والاحتمالات الكثيرة التي تجعل الحديث غير موثوق به إنما

_ 1 المصدر السابق حـ3 ص379. 2 المصدر السابق حـ3 ص739.

تكون عند ما يعلم أنه خالف الحديث قولًا أو فعلًا بعد تاريخ روايته، ومن هنا يكون هذا الحديث غير حجة؛ لأن فتواه بخلافه أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه الأصل للحديث"1 ... إن الحال عندئذ لا تخلو من أن تكون الرواية تقولًا منه لا عن سماع، فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث من باب قلة المبالاة والتهاون بالحديث، فيصير بذلك الراوي فاسقًا لا تقبل روايته أصلًا؛ لاستهانته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون منه عن غفلة ونسيان، ورواية المغفل لا تكون حجة. 747- وهذا إن صح بالسنة لغير الصحابة وكبار الأئمة من التابعين فحاشا أن يكون هؤلاء كذلك، وهم العدول البررة الأطهار، الذين ضربوا السهم الوافر والقدح المعلى في توثيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريرها والالتزام بها قولًا وعملًا. ومن أجل هذا فإن عمل أحدهم أو قوله بخلاف الحديث، يحمل على غير ما تقدم، وهو أنه علم نسخ حكم الحديث. 748- ولكن ... لم يروه عندئذ؟ وقد علم أنه منسوخ الحكم؟ إنه يروي -كما يقول السرخسي-: إبقاء للإسناد، وإبقاء لما صدر فعلًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولا ضير حينئذ من هذه الرواية؛ لأن قوله أو عمله بخلافها يكون دليلًا على النسخ وعدم العمل به ... ولكن هذا لا يزيل توهم النسيان أو الغلط، فهذا يمكن أن يقع لكل إنسان ... وباعتبار هذا التعارض بين الرواية وبين القول أو العمل ينقطع اتصال الحديث ولا يكون حجة تبعًا لهذا2. 749- ومثال ذلك ما روى سليمان بن موسى لعبد الله بن جريح عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي

_ 1 أصول السرخسي حـ2 ص6. 2 المصدر 7 السابق حـ2 ص605.

صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1. 750- إن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمن المنذر ابن الزبير، وكان عبد الرحمن أبو حفصة بالشام، ولم يعلم بهذا إلا بعد مجيئه، بدليل أنه غضب، وقال: أمثلي يصنع به هذا ويفتات عليه؟ ولما علمت عائشة رضي الله عنها غضبه قالت للمنذر: لتملكن عبد الرحمن أمرها، فقال المنذر: إن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرًا قضيته، فقرت حفصة عنده. 751- وهكذا رأت عائشة رضي الله عنها أن تزويجها بنت أخيها بغير أمره جائز، وأن العقد صحيح، بدليل أنها أجازت التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح، وهذا يثبت استحالة أن ترى ذلك "مع صحة ما روت، فثبت فساد ما روي عن الزهري" وأيضًا فإنها لما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة؛ لأن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجين من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى، فيكون فيه عمر بخلاف ما روت2. 752- ومثل هذا ما روي عن ابن عمر ري الله عنهما في رفع اليدين قبل الركوع وبعد القيام منه، فقد روي جابر عن سالم بن عبد الله أنه رفع يديه حذاء منكبيه في الصلاة حين افتتحها، وحين ركع، وحين رفع رأسه، فسأله جابر عن ذلك فقال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. هذا وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يفعل ذلك، قال مجاهد: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى. فعمله هذا بخلاف ما روي يدل على نسخ رفع اليدين قبل الركوع وبعده، فلا تقوم به الحجة3.

_ 1 كشف الأسرار حـ3 ص782. 2 المصدر السابق حـ3 ص874. 3 أصول السرخسي حـ2 ص16.

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا" ثم صح من فتواه أنه يطهر بالغسل ثلاثًا1. 754- وشبيه بهذا أن يعمل بعض الأئمة من الصحابة بخلاف الحديث وهو ممن يعلم أنه لا يخفى عليه مثل ذلك الحديث، فيخرج الحديث به من أن يكون حجة، لأنه لما انطقع توهم أنه لم يبلغه، كما لا يظن به مخافة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء رواه هو أو غيره، فأحسن الوجوه فيه أنه علم نسخه. 755- ومثال هذا ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". 756- وقد صح عن بعض الخلفاء أنهم أبوا الجمع بين الجلد والرجم مع أنه كان لا يخفى عليهم الحديث؛ لشهرته لو صح، وصح عن عمر رضي الله عنه قوله:"والله لا أنفي أحدًا أبدًا". وقول علي رضي الله عنه: "كفى بالنفي فتنة"..!.. فدل هذا على أن هذا الحكم الذي يتضمنه الحديث وهو الجمع بين الجلد والتغريب منسوخ2. 757- ومما هو جدير بالذكر أن النسخ -وإن كان لا يؤثر في صحة ثبوت الحديث ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه في مثل هذا الموقف وهو عرض الحديث على عمل الصحابي والقول به -من وجهة نظر المعارضين- انتقاص لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترك له دون حجة وعدم الثقة به. وهذا يجعل القائلين به -من وجهة نظر المعارضين أيضًا- مثل الذين يتركون سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم بلا دليل، بل هم يفتحون الباب لأعداء السنة الذيينفذون منه لردها؛ يقول الإمام الشافعي: "أفيجوز في كل خبر رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 المصدر السابق حـ2 ص6. 2 المصدر السابق حـ2 ص7 وانظر رأي الإمام الشافعي في هذه المسألة في الأم حـ2 ص120.

أن يقال: قد كان هذا، ولعله منسوخ، فيرد علينا أهل الجهالة بالسنن بـ"لَعَلَّهُ"؟! 1 ونتعرف على وجهة النظر المقابلة، وإن كان بعضها بعد القرن الثاني الهجري لندرك ما قيمة هذه المقاييس عند الآخرين، وماذا فعلوا بالأحاديث التي ردها الأحناف؟ مناقشة الإمام الشافعي: 758- لقد رد الإمام الشافعي هذه المقاييس بما رد به المقياسين الأولين: عرض الآحاد على الكتاب وعلى السنة المشهورة. يقول: إنه لا يهمنا في قليل ولا كثير أن يوافق عمل بعض الصحابة أو رأيهم الحديث أو يخالفه؛ لأن الحديث يثبت نفسه، بأن يرويه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فذلك ثبوته، وألا نقول على حديث ليثبت أن وافقه بعض أصحاب رسول الله، ولا يرد؛ لأن عمل بعض أصحاب رسول الله عملًا يخالفه؛ لأن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين كلهم حاجة إلى أمر رسول الله، وعليهم اتباعه، لا أن شيئًا من أقاويلهم تبع ما روي عنه ووافقه يزيد قوله شدة، ولا شيء خالفه من أقاويلهم يوهن ما روى عنه الثقة"2. 759- وإذا كان بعض الصحابة قد خالف الحديث فليس ذلك لأنه لم يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لأن كثيرًا منهم كان لا يبلغه الحديث فيفتي برأيه، أو يختلفون لأنهم لم يبلغهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوع اختلافهم، فالخبر حجة على كافة الأمة والصحابي محجوج به كغيره فإن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3 وقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُم

_ 1 اختلاف الحديث حـ7 من الأم ص218. 2 اختلاف الحديث 138. 3 الأحزاب: 36.

الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وردا عامَّينِ من غير تخصيص لبعض الأمة دون بعض. يقول الشافعي بعد ما بين أن بعض الصحابة عمل بما يخالف الحديث: "وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم خلافه عن رسول الله، يقول بما علم، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجة على أحد علم أن رسول الله قال قولًا أو عمل عملًا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعمله"2. 760- ويذكر الشافعي أن غياب هذه الحقيقة عن بعض العلماء جعلهم يغلطون ويتخذونه مقياسًا لرد الحديث وتضعيفه. يقول بعد أن بين أن كبار الصحابة اختلفوا حيث لم تبلغهم الأحاديث: "وإنما وضعت هذه الجملة لتدل على أمور غلط فيها بعض من نظر في العلم ليعلم من علمه أن من متقدمي الصحبة وأهل الفضل والدين والأمانة من يعزب عنه من سنن رسول الله الشيء يعلمه غيره، ممن لعله لا يقاربه في تقدم صحبته وعلمه، ويعلم أن علم خاص السنن إنما هو علم خاص بمن فتح الله له علمه، لا أنه عام مشهور كشهرة الصلاة وجمل الفرائض التي كلفتها العامة"3. 761- إذن ثبوت الحديث أو رده ليس بمقياس عرضه على موقف الصحابة في موضوعه ليعلم هل اشتهر بينهم أو لا وهل الذين اختلفوا في موضوعه تحاجوا به أو لا؛ وإنما ثبوته بأن يرويه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يقول بعض متأخري الحنفية الذين رفضوا هذه المقاييس: إن بعض مما تعم به البلوى صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه كثير من الصحابة، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نخابر4 أربعين سنة

_ 1 الحشر: 7. 2 اختلاف الحديث ص101. وانظر باب صلاة الإمام جالسًا ومن خلفه قيامًا ص98 وما بعدها. 3 اختلاف الحديث ص137 - 138 وانظر ص19، ص32. 4 المخابرة: هي مزارعة الأرض بجزء مما يخرج منها كالثلث أو الربع وهو جزء معين من الخراج.

حتى روي لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك" فانتهينا، فلا يلزم من عموم البلوى اشتهار حكمها؛ فإن حكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة، وإفراد الإقامة وتثنيتها، وقراءة الفاتحة خلف الإمام وتركها، والجهر بالتسمية وإخفائها وعامة تفاصيل الصلاة لم تشتهر مع أن هذه الحوادث عامة. 762- والله سبحانه وتعالى لم يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام؛ بل كلفه بإشاعة البعض، وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، مع أنه يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطموع أو المكيل بالمكيل حتى يستغني بالاستنباط عن ذكر الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما يعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، وعندئذ يكون صدق الراوي ممكنًا فيجب تصديقه. 763- وإذا كان من المسلم به أن الأصل فيما تعم به البلوى الاشتهار -فإنه في بعض الأحيان يحدث عكس ذلك فقد يترك كل واحد من النقلة الرواية اعتمادًا على غيره، أو لعارض آخر من موت عامتهم في حرب أو وباء أو نحو ذلك وعلى سبيل المثال فقد نقل أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله لما جمع الصحيح سمعه منه قريب من مائة ألف ولم تتصل الرواية إلا عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري1. 764- وكما رفض الإمام الشافعي هذه المقاييس لتوثيق السنة أثبت مارده الأحناف تطبيقًا لها؛ إذ كان ما رووه يثبت عنده من حيث الثقة في رواته عدالة وضبطًا، ومن هذا أحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند القيام منه. وقد تقدم أن الأحناف لم يأخذوا بها، لأنها لم تشتهر مع أنها مما تعم به البلوى. 765- وابتدأ الإمام الشافعي في إثبات هذه الأحاديث بروايتها وبيان ثبوتها من حيث السند، فذكر أن سفيان بن عيينة أخبره عن الزهري

_ 1 كشف الأسرار حـ3 ص737.

عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين". وروي عن سفيان أيضًا، عن عاصم بن كليب، قال: سمعت أبي يقول: حدثني وائل بن حجر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع وبعد ما يرفع رأسه". قال وائل: ثم أتيتهم في الشتاء، فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس. ثم قال الشافعي: وبهذا نقول ... فنقول إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع رفعهما، وكذلك أيضًا إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة غير هذه المواضع ثم بين سبب اختياره لهذه الأحاديث وترك غيرها مما يخالفها قال: "لأنها أثبت إسناده منه، وأنها عدد والعدد أولى بالحفظ من الواحدة"1. 766- ثم قال: إن بعض الناس يخالفه في هذا فيقول: إن الرفع لا يكون إلا في ابتداء الصلاة، ويحتج بحديث يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه ثم لا يعود، ولكن هل هذا الحديث صحيح؟ -إن سفيان الثوري يبين علة هذا الحديث فيقول: إنه سمعه من يزيد دون عبارة "ثم لا يعود" ثم قدم الكوفة فسأل يزيد عن هذا الحديث فزاد هذه العبارة فقال: "فظننت أنهم لقنوه.. فهذا هو سفيان يبين أنه يغلط في هذا الحديث وكان يرى أنه ليس بالحافظ. فهو -إذن- حديث ضعيف. 767- وإذا كان حديث الزهري عن سالم عن أبيه أثبت عند أهل العلم بالحديث من حديث يزيد؛ فإن معه أيضًا أحد عشر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حميد الساعدي، وكذلك حديث وائل بن حجر؛ "وثلاثة عشر حديثًا أولى أن تثبت من حديث واحد". أضف إلى ذلك أن حديث الزهري أولى لأن فيه زيادة حفظ ليست في الحديث الآخر.

_ 1 اختلاف الحديث ص 211 - 212.

768- ويقول الشافعي: إن من يروون حديث رفع اليدين قبل الركوع وبعده يقولون: إن إبراهيم النخعي أنكر حديث وائل بن حجر وقال: إن عليًّا وابن مسعود أعلم منه وهما لم يروياه ولم يفعلاه. ويرد عليهم بأنهما ربما روياه ولم يسمعه أو فعلاه وخفي عنه، وإذا أخذنا بهذا المبدأ -مبدأ نفي الحديث لأن فلانًا أو فلانًا لم يروه فمعناه أننا نترك فعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل غيره وترك غيره1. 769- وقال بعض من يردون هذا الحديث: إن وائل بن حجر أعرابي ومعنى هذا أنه روى حديثًا كان غيره من غير الأعراب أولى بروايته، فرد الشافعي بأنكم قبلتم من هو دونه وتروون عنه مثل قرثع الضبي وقزعة وسهم ابن منجاب. وقد روى إبراهيم النخعي عنهم، فكيف تردون حديث رجل من الصحابة وتروون عمن دونه2؟. 770- وهكذا نرى أن أساس رفض هذا الحديث هو عدم روايته عن علي وابن مسعود، وكان الأولى أن يروياه لأنه من الأمور المشهورة التي تعم بها البلوى وكان تثبيت الشافعي للحديث يقوم على أساس أن غيرهما رواه وكفى بهم أخذًا للحديث واطمئنانًا إليه3. وحديث مس الذكر أوضح من هذا في توضيح موقف من يأخذ بمقياس صحة ما تعم به البلوى إذا كان مشهورًا وعدم صحة الآحاد منه. 771- لقد روت هذا الحديث الصحابية الجليلة بسرة بنت صفوان، وهو كما رواه الإمام الشافعي قال: أخبرنا مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء، فقال عروة: وما علمت ذلك؟ فقال مروان: أخبرتني

_ 1 اختلاف الحديث ص216 - 217. 2 اختلاف الحديث ص217- 218. 3 انظر طرق هذا الحديث في نصب الراية حـ1 ص392.

بسرة ابنة صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ"1. وهذا الحديث من حيث سنده صحيح، فقد قال الترمذي فيه -بعد أن رواه عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة- "حديث حسن صحيح". 772- ويشير إلى أن بسرة لم تنفرد به فقد روي عن أم حبيبة وأبي أيوب وأبي، وأبي هريرة وأروى ابنة أويس وعائشة وجابر وزيد بن خالد، وعبد الله بن عمرو. 773- وفي بعض هذه الأحاديث ما نص بعض الأئمة على صحته، قد قال ابن السكن في حديث أبي هريرة: هو أجود ما روي في هذا الباب وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم وابن عبد البر2. وقد رواه الإمام الشافعي مستدلًا به على الوضوء من مس الذكر3. وحديث أم حبيبة أخرجه ابن ماجه والأثرم وصححه أحمد وأبو زرعة وقال ابن السكن: لا أعلم به علة. وحديث جابر أخرجه ابن ماجه والأثرم، وقال ابن عبد البر: إسناده صالح وقال الضياء المقدسي: ما أعلم بإسناده بأسًا. وإذا كان الشافعي قد ذكر أنه سمع غير واحد من الحفاظ يرويه ولا يذكر فيه جابرًا4 فإن المرسل هنا حجة عنده وعند مالك وأبي حنيفة. وحديث عبد الله بن عمر أخرجه أحمد والبيهقي. وقال الترمذي في العلل عن البخاري: هو عندي صحيح. وإذا تركنا الترمذي إلى غيره من الأئمة وجدنا أبا داود يسأل الإمام أحمد بن حنبل: حديث بسرة ليس بصحيح؟

_ 1 الأم حـ1 ص15. 2 تحفة الأحوذي ص270 جـ1. 3 الأم حـ1 ث ص15. 4 الأم ص16 جـ1.

فيجيبه: بل هو صحيح. ويقول الدارقطني عنه: صحيح ثابت، وصححه أيضًا يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر وأبو حامد ابن الشرفي والبيهقي والحازمي. ويقول المباركفوري: "كل ما طعنوا به في صحة حديث بسرة هذا فهو مدفوع والحق أنه صحيح1. 774- ومع صحته على هذا النحو من حيث السند لم يأخذ به الأحناف لأنه مما تعم به البلوى، ومع هذا ترويه امرأة، ولا يشتهر كما ذكرنا سابقًا. 775- وأخذوا بحديث آخر وهو حديث ملازم بن عمرو عن عبد الله ابن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه؟ ". وقال الترمذي بعد روايته وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويعني التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة وابن المبارك2. 776- وعلى الرغم مما قالوه في حديث طلق هذا أيضًا إلا أن الراجح أنه كحديث بسرة صحيح، وإن كان حديثها أصح وأثبت من حديثه3. 777- وقد كان من الممكن أن يقول الحنفية كما قال غيرهم: إن هذين الحديثين صحيحان وأن المتقدم منهما منسوخ بالآخر المتأخر، لوجود بعض العوامل التي تدعو إلى ذلك، منها أن طلقًا روى حديثًا في المنع فدل ذلك على أنه شاهد الحالتين وروى الناسخ والمنسوخ4. ومنها أن مع حديث بسرة الاحتياط، والاحتياط بالوضوء أبلغ ومنها ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح: أنه نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه وهذا يدل على أن الذكر لا يشبه سائر الجسد.

_ 1 تحفة الأحوذي جـ1 ص270 - 272. 2 صحيح الترمذي جـ1 ص274 - 275 على شرح تحفة الأحوذي. 3 صحيح الترمذي جـ1 ص274 - 275 على شرح تحفة الأحوذي. 4 تحفة الأحوذي حـ2 ص278.

ومنها أن حديث طلق يأتي على الأصل وحديث بسرة يأتي على غير الأصل فكان من المعقول أن الأصل كان أولًا ثم نسخ. ومنها أن طلق بن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنة من سني الهجرة حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا هريرة الذي روى مثل حديث بسرة كان إسلامه سنة سبع من الهجرة أي خبره بعد خبر طلق بهذه المدة، ولم يثبت أن طلقًا له رجوع إلى المدينة بعد ذلك1.ولم يكن عليهم من بأس حينئذ مع وجود القائلين بالرخصة من أجلَّة الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس؛ لأن ما ذهبوا إليه لا يكون فادحًا بعد ثبوت الآثار المرفوعة، والعذر من قِبَلهِم أنهم قد بلغهم حديث طلق وأمثاله ولم يبلغهم ما ينسخه، ولو وصل قالوا به، وليس هذا بمستبعد، فقد ثبت انتساخ التطبيق في الركوع عند جمع، ولم يبلغ ابن مسعود، حتى دام على ذلك مع كونه ملازمًا للرسول عليه الصلاة والسلام2. كان من الممكن أن يقولوا ذلك، ولكن عدم شهرة هذا الحديث وهو مما تعم به البلوى هو الذي جعلهم يتركون حديث بسرة ويذهبون إلى ما هو مرجوح. 778- وإذا كان موضوع مس الذكر مما تعم به البلوى حقًّا كما يقول الأحناف، إلا أنه يعتبر من النماذج التي تكون كذلك ولا تشتهر لاتصاله بالعضو الجنسي الذي يميل الكثير إلى عدم ذكره، ولا يقال، فلم روته بسرة -إذن- وهي امرأة؟ نقول: ربما كانت عندها جرأة ليست عند الرجال فيما يتصل بأمور الدين وخاصة عندما رأت الرجال معرضين عن ذكره، وهو من أمور الدين التي لا ينبغي كتمانها، وربما اضطرت إلى ذلك لتعليم بعض النشء الذي لا يعلم هذا الحكم الشرعي، وتربية النشء تتعرض لها المرأة أكثر مما يتعرض لها الرجل.

_ 1 المصدر السابق حـ1 ص279. 2 تحفة الأحوذي حـ1 ص280.

779- ولنتناول مثالًا آخر من الأمثلة التي رفضها الأحناف تطبيقًا للمقياس الثاني وهو ترك الصحابة العمل بالحديث مما يدل على أنه غير صحيح وهو حديث "وجوب الزكاة في أموال اليتامى". 780- يقول الإمام الشافعي راويًا هذا الحديث: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في مال اليتيم أو في أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة"1 وقال الشافعي: إن هذا إسناد منقطع2. وأخرج الترمذي عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "من ولي يتيمًا له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". وقال الترمذي بعد روايته هذا الحديث: إنما يروي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال: لأن المثنى يضعف في الحديث. 781- وقد ترك الأحناف هذا الحديث لأنه روي أن بعض الصحابة اختلفوا في الموضوع، ولم يحاجوا بالحديث، تركوه مع أن الحديث الذي رواه الشافعي يصلح حجة عندهم، لأنه من مراسيل أهل القرون الثلاثة الذين يحتجون بمراسيلهم. 782- أما الإمام الشافعي فقد أيد هذا الحديث المنقطع بما رواه من الآثار الموقوفة وتدل على أن بعض الصحابة أخذ بذلك ونحن نعلم أن من أسباب كون المرسل حجة عند الشافعي أن يوافقه ما يروي عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوالهم ومن الموقوفات عليهم. روى عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: كانت عائشة تليني وأخالي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.

_ 1 الأم جـ2 ص23 - 24 وفي ص25 يتبين أن الشك من الشافعي. 2 المصدر السابق حـ2 ص25.

وروى عن سفيان عن أيوب بن موسى، ويحيى بن سعيد، وعبد الكريم بن أبي المخارق كلهم بخبر عن القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تزكي أموالنا وإنه ليتجر بها في البحرين. وروى عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عيتبة أن عليًّا رضي الله عنه كانت عنده أموال بني رافع؛ فكان يزكيها كل عام. وروي عن سفيان بن عينيه عن عمرو بن دينار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة1. إذن الحديث المنقطع هنا في حكم المتصل موضوع حجة ولهذا أخذ به الإمام الشافعي. 783- وتأييده لهذا الحديث بالمعقول ويعرضه على الأصول يعطينا نموذجًا على أن الإمام الشافعي لم يكن يغفل توثيق المتن من حيث معناه، وإن كان لا يعتبر أن هذا الفيصل في رد الحديث أو عدم توثيقه فقال: "الناس عبيد الله جل وعز، فملكهم ما شاء أن يمكلهم، وفرض عليهم فيما ملكهم ما شاء، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فكان فيما آتاهم أكثر مما جعل عليهم فيه، وكل أنعم فيه عليهم جل ثناؤه، فكان فيما فرض عليهم فيما ملكهم زكاة، أبان أن في أموالهم حقًّا لغيرهم في وقت على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان حلالًا لهم ملك المال، وحرامًا عليهم حبس الزكاة، لأنه ملكها غيرهم في وقت كما ملكهم أموالهم دون غيرهم فكان بينًا فيما وصفت وفي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2 أن كل مالك تام الملك، من حر له مال فيه زكاة سواء في أن عليه فرض الزكاة بالغًا كان أو صحيحًا أو معتوهًا أو صبيًّا؛ لأن كلا مالك ما يملك صاحبه، وكذلك يجب في ملكه ما يجب في ملك صاحبه، وكان مستغنيًا بما وصفت من أن علي الصبي

_ 1 الأم حـ2 ص24 - 25. 2 التوبة: 103.

والمعتوه الزكاة عن الأحاديث؛ كما يلزم الصبي والمعتوه نفقة من تلزم الصحيح البالغ نفقته، ويكون في أموالهم جنايتهما على أموال الناس كما يكون في مال البالغ العاقل، وكل هذا حق لغيرهم في أموالهم فكذلك الزكاة والله أعلم"1. 784- وهذا يقودنا إلى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه فعل مثل ما يفعل الأحناف من عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم، ولكن بهدف آخر غير ما هدفوا إليه وهو تأييد الأحاديث الثابتة وتقويتها والرد على مخالفيها وتاركيها مع ثبوتها من وجهة نظره ونظر من يسير في اتجاهه. 785- وهو ينص على أن من أسباب الترجيح عنده وتقوية الحديث أن يعمل به عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: "أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أولى بما يعرف أهل العلم أو أصح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله"2. 786- وقد تقدم تطبيقه في تقوية الأحاديث بالعرض على كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبق عرضها هنا على عمل أكثر الصحابة في حديثي الإسفار والتغليس، وقد سبق عرضنا لهذين الحديثين، وترجيح الشافعي لأحدهما بعد عرضهما على كتاب الله وعلى السنة الأخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 787- قال الشافعي مرجحًا حديث التغليس والدخول في الصلاة في أول وقت الصبح: "وإن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس ابن مالك وغيرهم مثبت3.كما فعل ذلك في باب الحجامة للصائم.

_ 1 الأم حـ2 ص23. 2 الرسالة ص285. 3 المصدر السابق ص289.

788- فقد روى حديين مختلفين وهما: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس، قال: كنت مع النبي زمان الفتح، فرأى رجلًا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال وهو آخذ بيدي: "أفطر الحاجم والمحجوم". أخبرنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم محرمًا صائمًا. 789- وهذان الحديثان وإن كانا مشتبهين في الإسناد إلا أن الثاني وهو حديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا ولهذا اختاره ورجحه على حديث شداد ابن أوس، لأنه فوق ذلك يحفظه عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين وعامة المدنيين1. 790- وإذا كان الإمام الشافعي قد رد على الأحناف ردًّا هادئًا متأنيًا -فإننا نجد الإمام ابن حزم الظاهري "384 - 456هـ" يرد عليهم ردًّا عنيفًا في اتخاذهم هذين المقياسين وما يشبههما، ويجدر بنا أن نعرض لهذا الرد تاكيدًا لرأي الإمام الشافعي وزيادة بيان لقيمة هذين المقياسين عند الآخرين. 791- قال ابن حزم: إننا وجدنا الصاحب من الصحابة رضوان الله عليهم يبلغه الحديث ويأتي عمله لنا على خلافه ولا يدل هذا على أنه رده أو على أنه غير صحيح، فقد يكون متأولًا له، كما وجدناهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، فقد قال أبو هريرة: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم". وقال البراء: ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل.

_ 1 اختلاف الحديث ص236 - 238.

792- ثم ذكر ابن حزم الأمثلة التي تدل على أن الأحاديث كانت تخفي على بعضم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة، وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان: أخفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق في الأسواق. وقد جهل أيضًا أمر إملاص المرأة1، وعرفه غيره وغضب على عيينه بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} . وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي هذا أيضًا على أبي بكر طوال مدة خلافته فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم، فلم يترك بها منهم أحدًا. وخفي على عمر أيضًا أمره عليه الصلاة والسلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف. وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوامًا كثيرة. ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظًّا كما أخذ غيره منه. ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبدًا ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار.

_ 1 في الحديث أن عمر سأل عن إملاص المرأة الجنين: فقال المغيرة بن شعبة قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة "أراد بالمرأة الحامل تضرب فتملص جنينها أي تزلقه قبل وقت الولادة "اللسان".

وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك. وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى خبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن. وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينهما فترك قوله وأخذ بالمساواة. وكان يرى أن الدية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية؛ فانصرف عمر إلى ذلك. ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالًا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 1 فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة". فأمر ألا ترجم، وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها. وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر. 793- ويواصل ابن حزم رده على الأحناف ومن ينهج نهجهم فيقول: إنه قد خفي على الأنصار وعليه المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون أنزل، وهذا مما تكثر البلوى، وخفي على عائشة وأم حبيبة أميّ المؤمنين وابن عمر وأبي هريرة وأبي موسى وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسائر الجلة من فقهاء المدينة وأبي موسى وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار، وكل هذا تعظم البلوى به وتعم. 794- "وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين: إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل فيه خبر الواحد".

_ 1 سورة النساء: 20.

795- "والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارًا خالفها غيرهم تعم بها البلوى، كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك وجهله غيرهم، وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد وجهله غيرهم، ومثل هذا كثير جدًّا"1. واستطرد ابن حزم في ذكر الأمثلة التي تدل على أن بعض الصحابة والكبار منهم يتركون الحديث مع شهرته للجهل به ونكتفي بما أوردناه2. 796- على أنه إنصافًا للأحناف نقول: إن هذا الحشد من الأمثلة التي ذكرناها لا ينطبق عليها من وجهة نظرنا ما يهدف إليه وهو كونها مما تعم به البلوى ولا يشتهر، وذلك مثل الاقتراب على الوباء، وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفور النساء قبل ورود البيت، وتوريث المرأة من الدية وغير ذلك. 797- فإذا كان من الممكن التسليم بجهل بعض الصحابة بعض الأخبار التي تعم بها البلوى -فإنه ليس من الكثرة كما ذكر ابن حزم، فبعضها لا يعم به البلوى ولا يحدث كثيرًا ويتجدد بحيث يشتهر ويعلمه جميع الصحابة. 798- على أن الذي يعنينا أننا أصبحنا على يقين من أن علماءنا الأجلاء وعلى رأسهم أبو حنيفة وصاحباه والإمام الشافعي -قد وثقوا متن الحديث أو نقدوه بعرضه على عمل الصحابة وآرائهم ومدى شهرته بينهم، وإن تفاوتوا في درجات الأخذ بذلك، ولم يقفوا جامدين أمام موضوعات الأحاديث وما تحمل من أدلة للاستنباط مكتفين بالثقة في أسانيدها ورجالها كما رماهم بذلك الجاهلون. وننتقل إلى مقياس آخر عمل به بعض العلماء، وهو شبيه بمقاييس هذا الفصل لأنه يتعلق بالعمل أو الفتوى وإن كانا هنا في الفصل المقبل يختصان ببلد معين وهو المدينة.

_ 1 الإحكام 2- 143 - 144. 2 انظر الإحكام 2/ 144 - 148.

الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة

الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة 799- ما لا شك فيه أن للمدينة مكانتها العلمية الكبيرة التي لا يسمو إليها غيرها من بلدان العالم الإسلامي في القرنين الأول والثاني الهجريين؛ لأنها -كما يقول الإمام مالك في رسالته إلى الليث بن سعد "175هـ"- موطن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبها أسس الدولة الإسلامية، "وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر أهلها يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه، وبعد وفاته، صلى الله عليه وسلم قام من بعده الصحابة، رضوان الله عليهم وهم أتبع الناس له من أمته، فما نزل بهم أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك، ثم كان التابعون فيها من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن"1. 800- ومن أجل هذه المكانة كان ينظر إليها كثير من الفقهاء نظرة إكبار، ويعتبرون أن أقوال أهلها وعملهم خير من عمل غيرهم. ولكن، إلى أي مدى كان هذا الإكبار وذلك الاعتبار؟. 801- إن الإمام مالكًا وبعض العلماء يرون أن الأمر إذا كان ظاهرًا معمولًا به فيها فليس لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، فهم الذين على ثقة مما يأخذون وما يعملون "ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا- لم يكونوا من ذلك على ثقة ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم"2 ومن ناحية أخرى فهم كانوا أطلب الناس لما ذهب علمه عنهم، "منها يسألون عنها على المنبر وعلى المواسم وفي المساجد وفي عوام الناس، ويبتدءون فيخبرون بما لم يسألوا عنه، فيقبلون ممن أخبرهم ما أخبرهم إذا ثبت لهم -فإذا حكم أحدهم الحكم فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير مخالف له، فيقدم حديث غيرهم إذا خالفهم"3.

_ 1 ترتيب المدارك 1/ 64. 2 ترتيب المدارك 1/ 65. 3 الأم 7/ 242.

802- وفريق آخر يخفف من هذه القيمة التي أعطاها الفريق الأول لعمل أهل المدينة، فحقيقة كانت المدينة موطن السابقين من المهاجرين والأنصار، ولكنهم خرجوا للجهاد في سبيل الله، وتفرقوا في الأمصار المختلفة يعلمون الناس تعاليم الله، وأصبحت هذه الأمصار بفضل دعوتهم ونشر علمهم، وبفضل المتابعة العلمية من الخلفاء -تحمل علمًا كثيرًا ربما يضارع في القرن الثاني الهجري علم أهل المدينة ... بالإضافة إلى ذلك فقد اختلف التابعون فيما بينهم في المدينة، بل ربما اختلف الواحد منهم في فتواه، عندما يفتي في الموضوع الواحد أكثر من مرة الأمر الذي جعل علماء الأمصار الآخرين يلتمسون الفتوى الصحيحة فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غيرهم؛ لأنها عازبة عنهم ورواها الصحابة في الأمصار التي انتقلوا إليها. 803- وقد بين ذلك الإمام الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك بن أنس، وكان قد أرسل إليه الأخير أنه يفتي بغير ما يفتي به أهل المدينة وقال له: "بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه"1. ثم أفاض الإمام مالك في بيان فضل المدينة وما فيها من علم وعمل كما سبق أن ذكرنا. 804- فرد عليه الإمام الليث برسالة: "وما أجد أحدًا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ بفتياهم فيما اتفقوا عليه -مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له ... وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا

_ 1 كتاب المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب بن سفيان العيسوي "ت 277" - تحقيق د. أكرم ضياء العمري - مطبعة الإرشاد بغداد - 1394هـ - 1974 م مج1 ص 695 - 697 "نص الرسالة كاملًا" - ترتيب المدارك حـ1 ص64.

به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت. وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} 1 -فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون لله كتاب الله وسنة نبيه، ويجهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه ... فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره ... إن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد الفتيا في أشياء كثيرة ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف ثم اختلف الذين كانوا من بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن ... وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا2". 805- وكانت هذه النظرة وتلك هما الأساس في اختلاف بعض الموقف التي اتخذها كل فريق من بعض المسائل، ويهمنا الآن بيان موقف كل منهما من سنة الآحاد إذا تعارضت مع عمل أهل المدينة. 806- ويوضح القاضي عياض موقف الإمام مالك من خبر الآحاد مع عمل أهل المدينة بأنه على ثلاثة وجوه:

_ 1 التوبة: 100. 2 كتاب المعرفة والتاريخ مج1 ص 687 - 695 "نص الرسالة كاملًا" - أعلام الموقعين جـ3 ص72 - 74.

الوجه الأول: وهو ما يكون العمل مطابقًا لأخبار الآحاد، فهذا يؤكد صحتها إن كان العمل من طريق النقل، ويرجحها إن كان من طريق الاجتهاد. الوجه الثاني: يكون عمل أهل المدينة مطابقًا لخبر يعارضه خبر آخر، وفي هذا الوجه يكون عملهم مرجحًا للخبر الذي يوافقه، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت. 807- ويقول ابن تيمية في هذا الوجه مبينًا رأي مالك وغيره: "إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة وفيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجع بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة لا يرجح بعمل أهل المدينة ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجع. والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به. وقيل: هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه: إذا رأى أهل المدينة حديثهما وعملوا به، فهو للغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق، ويقول: إنهم أتبع للآثار"1. الوجه الثالث: أن يكون عمل أهل المدينة مخالفًا للأخبار جملة، فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر، إذ يشبه العمل هنا التواتر ويفيد القطع واليقين، ولا يتركان لغلبات الظنون، وهذا مثل مسألة "الصاع" و"المد" والوقوف،

_ 1 صحة أصول مذهب أهل المدينة: ابن تيمية - مكتبة المتنبي ص27.

وزكاة الخضروات، فقد نقلوا مقدار الصاع والمد ونقلوا صدقة الخضروات والأحباس1. 808- ويقول ابن تيمية: إن هذا الوجه حجة باتفاق العلماء الشافعي وأحمد وأصحابهما، كما هو حجة عند مالك، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وقد اجتمع أبو يوسف بمالك، وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف إلى قوله وقال: "لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت"2. 809- وهذا يدل على أن أبا حنيفة حين خالفهم في مقدار الصاع والمد مثلًا فإنما خالفهم لأنه لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه وغيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه. وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد، وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان سيرجع إليها لو بلغته وصحت عنده. 810- إذن ليس الاختلاف في اعتماد نقل أهل المدينة على هذا النحو، وإنما لعلم بعضهم بأن ما يعلمه أهل المدينة على النقل على حين لا يعلم بعضهم الآخر ذلك. 811- ومثل هذا في كونه حجة عند مالك العمل القديم قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأن أهل المدينة في عهد الخلفاء الثلاثة عملوا بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وما خالفوها ... أما العمل المتأخر فليس بحجة على قول المحققين من أصحاب مالك، وكذلك عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم. 812- والدليل على أن العمل المتأخر لا ينظر إليه مالك على أنه حجة يجب على جميع الأمة اتباعه إن خالف النصوص إنه لم يوافق الرشيد أو غيره

_ 1 ترتيب المدارك حـ1 ص70 - 71. 2 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص23.

أن يحمل الناس على موطئه، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت أهل بلدي1، فهو إذن مع الإمام الليث في أن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وأخذ عنهم أهل البلدان التي ذهبوا إليها. 813- أما إذا كان العمل في هذا الوجه من غير طريق النقل، فإن الإمام مالكًا يأخذ بالخبر إذا صح عنده. 814- ويذكر ابن تيمية أنه إذا كان مالك في الموطأ يذكر الأصل المجمع عليه عند أهل المدينة على كل الوجوه السابقة؛ فإنه يحكي مذهبهم سواء أأخذ به أم لم يأخذ. 815- ويبدو أن بعض أصحاب مالك لم يفهموا منه هذا فأخذوا بما يخاف ما رواه من الأحاديث -من عمل أهل المدينة، وإن كان مالك لا يأخذ به وإنما حكاه عنهم فقط. وسنرى ذلك من خلال مناقشة الإمام الشافعي لهؤلاء. الليث بن سعد وعمل أهل المدينة: 816- وقبل أن نعرض لمناقشة الإمام الشافعي تشير إلى إنكار عالمين كبيرين معاصرين للإمام مالك بعض ما يفتي به أهل المدينة ويعملون به مخالفين السنة. وهما اليث بن سعد، ومحمد بن الحسن الشيباني. 817- وقد ذكر الإمام الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك أنه ينكر ما ذهب إليه بعض العلماء بالمدينة، وربما منهم الإمام مالك من القول يجواز جمع أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، وقال له: إن مطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله، ومع هذا لم يجمع إمام قط في ليلة

_ 1 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص28. وهناك رواية تقول: إن هذا القول كان للمهدي، وأخرى تقول: إنه للرشيد. انظر كلمة عن الموطأ للأستاذ د. محمد كامل حسين في مقدمة الموطأ "طبعة الشعب" ص27.

مطر، وفيهم من الصحابة اللذين ينفذون سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل الذي قال فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل". وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح. وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وكان بحمص سبعون من أهل بدر ... وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط1. 818- إذن كان في المدينة عمل يخالف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أماكن أخرى من أمصار الدولة الإسلامية. وهذا يجعل عمل الناس فيها وفتوى علمائها محل نظر وتمحيص وأخذ ورد. 819- وانتقل الإمام الليث إلى مثال آخر مما ينكره على أهل المدينة؛ لأنهم خالفوا فيه السنة، وما عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الذين التزموا بالسنة خير التزام، قال له: إنه يقضي في المدينة بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، ولم يقض به أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم بالشام وحمص وبمصر والعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم لما ولي عمر بن عبد العزيز -وهو قد أحيا السنن- كتب إليه زريق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أورجل وامرأتين ... وعمر بن عبد العزيز أيضًا لم يجمع بين العرب والعشاء قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان بخناصر ساكنًا2.

_ 1 أعلام الموقعين حـ3 ص74. 2 أعلام الموقعين حـ3 ص74.

820- إلى غير ذلك من الأمثلة التي ساقها الإمام الليث بن سعد ليدل على أن المدينة لا تختص دون غيرها بعمل الصحابة والالتزام بالسنة والنظر إليها على أنها موضع حجة على غيرها من البلدان الإسلامية، وإعطاء علمائها الحق الذي ليس لعلماء الأمصار الأخرى ومحاجتهم بعملها وإجماعها فهي كغيرها قد تأخذ بغير السنة عندما يغيب عن علمائها العلم بها، ومن هنا فلا يصح أن يكون عمل أهلها مقياسًا في أيديهم يأخذون به ويدعون من الروايات. مناقشة محمد بن الحسن: 821- وقد ناقش أهل المدينة في مقياسهم هذا أيضًا الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي كان من مدرسة أخرى لا ترى هذا الحق الذي يرفض به بعض أهل المدينة بعض السنن. 822- وكان الإمام محمد بن الحسن قد تتلمذ على الإمام مالك وأخذ عنه الموطأ، ودرس فقه أهل المدينة وما هم عليه من عمل وما به يحتجون على الآخرين، ولهذا كان أقدر على مناقشتهم، وبيان ما بينهم وبين مدرسة أهل العراق -التي ينتمي إليها- من خلاف، وإظهار ما يراه حقًّا. ويخالفهم فيه. 823- وتجلى هذا في الموطأ الذي رواه عن الإمام مالك شيخه، كما تجلى في كتاب الحجة الذي ألفه للرد عليهم خاصة في مسائل الخللاف التي بينه وبينهم. 824- وهذا الكتاب يعد أكثر كتب الإمام محمد بن الحسن الفهقية التي تشتمل على الأحاديث والأخبار؛ لأنه كان يريد الإكثار من الأحاديث والأخبار محاولًا أن يثبت لأهل المدينة أن أهل العراق لا يقلون عنهم معرفة بالسنن والآثار إن لم يكونوا أكثر منهم "ولذا كان في مناقشته يشير إلى الاحتجاج بالأحاديث، وأنه يعرف الكثير منها وأن أهل المدينة لا يعرفون

الآثار أو يعرفونها ويتركونها، وإن ظنوا غير ذلك"؛ لأن العمل بالمدينة على خلافها1. 825- يقول لهم مثلًا في باب المرور بين يدي المصلي: "ولو أردنا أن نحتج عليهم بأحاديث كثيرة من الأحاديث في هذا ونحوه لاحتججنا عليهم لكن احتجاجنا بأحاديثهم أوجب في الحجة عليهم2. وفي باب المسح على الخفين يقول: "الآثار في المسح للمقيم يومًا وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها كثيرة معروفة، وما كنت أظن أحدًا ممن نظر في الفقه يشكل عليه الآثار في هذا"3.. ويقول: إن هؤلاء يروون عن ابن شهاب الزهري المسح على ظاهر الخفين وباطنهما، ولكن مالك بن أنس يروي خلاف ذلك، فهو يروي عن هشام بن عروة أنه رأى أباه يمسح على الخفين. وكان يمسح على ظاهرهما ويمسح على باطنهما وعقب على ذلك بقوله: فهذا قول عروة، وهو كان أفقه وأعلم بالرواية عن ابن شهاب4. 826- وهو يؤكد في هذا الكتاب أن اتباع الأوثق من السنة هو الواجب دون غيره، فيقول في "باب الوتر": "قد جاءت في الوتر أحاديث مختلفة، فأخذنا بأوثقها، فرأينا أن يوتر بالأرض ولا يوتر على بعيره؛ لأن الفقهاء شددوا في الوتر ما لم يشددوا في غيرها من الصلوات، سوى الصلوات الخمس، فقال بعضهم: سنة لا ينبغي تركها، وقال بعضهم: واجبة، ورووا في ذلك حديثًا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد زادكم صلاة يعني الوتر" وقد اختلف في الوتر بعينها: فروي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينزل بالأرض فيوتر عليها، ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذنا بأوثقها وأشبهها بالحق، وبما جاءت

_ 1 الإمام محمد بن الحسن ص349. 2 الحجة: ص42. 3 المصدر السابق ص24. 4 الحجة: ص39.

به الآثار من التشديد في الوتر"1. وكأنه يريد أن يقول لأهل المدينة: هذا هو الطريق الأمثل لا ترجيح العمل على السنة. مناقشة الإمام الشافعي: 827- وقد ناقشهم الإمام الشافعي لأن القول بعمل أهل المدينة في بعض المسائل مقياس غير قائم على أساس صحيح إذا كان يخالف السنة الصحيحة وخاصة ما يرويه الإمام مالك منها وهو منهم. 828- لقد كانت مناقشة الإمام الشافعي لهؤلاء تقوم أساسًا على دعامتين، كما يفهم ذلك واضحًا وصريحًا في "كتاب اختلاف مالك والشافعي" من كتاب الأم2. الدعامة الأولى: مناقشتهم فيما يرويه الإمام مالك من الأحاديث التي يخالفونه فيها، فأدلته للرد عليهم تعتمد على هذه الأحاديث. وهذا يجعلنا نرى أن هذه الترجمة خاطئة؛ لأن الشافعي لا يختلف مع مالك هنا، وإنما يختلف مع بعض أصحابه الذين جروا وراء عمل بعض الأئمة فيها وتركوا ما يرويه مالك لفهم خاطئ مؤداه: أن مالكًا عندما ينص على العمل في المدينة يعمل به كما أشرنا. الدعامة الثانية: وهي ما يردده الإمام الشافعي مرارًا وتكرارًا من أن حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم يثبت إذا حدث الثقة عن الثقة به حتى ينتهي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأن حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا ثبت على هذا النحو فهو مستغن بنفسه، ولا يلتفت إلى ما يخالفه مما يروى عمن هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديث رسول الله

_ 1 الحجة: ص44. 2 الأم حـ7 ص177 - 249.

صلى الله عليه وسلم أولى أن يؤخذ به، ولو علمه من روى عنه خلاف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خالفه1. مناقشة دعوى الإجماع: 829- وإذا كان هؤلاء يدعون أنهم يثبتون ما اجتمع عليه أهل المدينة، وأن الإجماع في رأيهم أن يحكم أحد الأئمة: أبو بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم -فإن الشافعي رضي الله عنه قد رد عليهم: أولًا: بأنهم لا يعرفون حكم واحد منهم إلا عن طريق الانفراد أو الآحاد الذي ردوا مثله، مما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم فرضًا من الله عز وجل. والحق أن ما روي عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل محل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: وقد كان بعض الأئمة من الصحابة يحكمون في بعض المسائل بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تبلغهم، فإذا بلغتهم ذهبوا إليها ورجعوا عن حكمهم، فعمر مثلًا مع فضل علمه وطول صحبته وكثرة مسألته وتقواه قد حكم أحكامًا بلغه في بعضها حكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرجع عن حكمه إلى ما بلغه عن رسول الله، ورجع الناس عن بعض أحكامه بعده، دلالة على أنه لم يبلغه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى توفي رضي الله عنه، "فإنه قد يعزب عن الكثير الصحبة الشيء من العلم يحفظه الأقل علمًا وصحبة منه، فلا يمنعه ذلك من قبوله". ثالثًا: وأنتم الذين تتركون السنة لعمل أهل المدينة بحجة أن أحد الأئمة قال بهذا الحكم أو ذاك تتركون وتخالفون مثل عمر بن الخطاب لأن ابن عمر يخالفه أو تتركونه لرأي أنفسكم، ولم يخالف عمر فيه أحد غيركم فهل نعتبركم بهذه المخالفة تخرجون عن الصواب؟!. إنكم تخالفون عمر في أكثر من مائة قول، وتخالفون أبا بكر في القراءة في الصلاة وفي نهيه عن عقر الشجر وتخريب العامر، وعقر ذوات الأرواح

_ 1 الأم حـ1 ص177.

إلا لمأكله.. وتركتم على عثمان أنه كان يخمر وجهه وهو محرم وغير ذلك كما تركتم الكثير من رواية الثقات من أهل المدينة غيرهم من الصحابة وكذلك من التابعين وتابعيهم ... فأنتم فارقتم مذهبكم الذي تدعونه1. رابعًا: لقد كان بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين ألف رجل إن لم يزيدوا، ولعلكم لا تروون عنهم قولًا واحدًا عن سنة، وإنما تروون القول عن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة متفرقين أو مجتمعين والأكثر التفرق، فأين الإجماع؟!. 830- وإذا كنتم تقولون: إن المراد بالإجماع أن يكون الأكثر مجتمعين؛ كأن يكون خمسة نقر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قولًا متفقين عليه وقال ثلاثة قولًا مخالفًا لقولهم، فالأكثر أولى بالاتباع -فإننا نقول: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرين، وربما كان مع الثلاثة الكثيرون الذين لم يتكلمون، ومع الخمسة القلة، "والصدق فيه أبدًا ألا يقول أحد شيئًا لم يقله أحد أنه قاله.. ولو قلت: وافقوا بعضهم، قال غيرك: بل خالفوه.. وليس الصدق أن تقول وافقوا ولا خالفوا بالصمت"1. 831- ثم قال الشافعي: إن الإجماع الحقيقي ليس في المدينة وحدها، وإنما في كل بلد، وفي الفرض وخاصة من العلم؛ ذلك الذي لا يسع أحدًا جهله من الصلوات والزكاة، وتحريم الحرام.. وأما علم الخاصة في الأحكام الذي لا يضير جهله على العوام، وعلمه عند الخواص عن مثلهم فنقول فيه واحدًا من قولين: "نقول: لا نعلمهم اختلفوا فيما لا نعلم اختلفوا فيه.. ونقول فيما اختلفوا فيه: اختلفوا واجتهدوا" فنأخذ من هذا ما أشبه أقاويلهم بالكتاب والسنة، يصح أن نحدد أكثر من هذا، فنقول فيما اختلفوا فيه: ذهبنا إلى قول ثلاثة دون اثنين وأربعة دون ثلاثة، ولا نقول هذا إجماع؛ فإن الإجماع قضاء على من لم يقل ممن لا ندري ما يقول3.

_ 1 الأم حـ7 ص242 - 243. 2 المصدر السابق حـ7 ص244. 3 الأم حـ7 ص244.

832- وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، فإنهم قد اختلفوا أيضًا فيما فيه كتاب وسنة، وذلك لأن الآية من كتاب الله تعالى قد تحتمل معنيين، فيقول بعض أهل اللسان بأحدهما، ويقول بعضهم بالمعنى الآخر الذي يخالفه. والآية محتملة لقولهما معًا؛ لاتساع لسان العرب. وأما السنة فتذهب إلى بعضهم وكل من ثبتت عنده السنة قال بها -إن شاء الله. ولم يخالفها؛ لأن كثيرًا منها واضح ليس فيه تأويل، ومثل الشافعي لذلك باختلافهم في مدة القرء واختلافهم في الوضوء من مس الذكر1. مناقشة دعوى العمل وصلته بالخبر: 833- ويترك الشافعي، رضي الله عنه دعوى الإجماع إلى دعوى العمل، فيبين أنه ليس من اللازم أن نقبل الخبر إلا إذا تقدمه العمل كما يقول هؤلاء، فليس من عوامل تثبيت الخبر أن يتقدم به عمل من الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان، وقد حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء لا يحفظ عن أحد من خلفائه فيها شيء. وقد "استغنى فيها بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعده، وذلك أن بالخلق الحاجة إلى الخبر عنه، وأن عليهم اتباعه"2. ومثال هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقه". ويقول الشافعي: "لا أشك أن قد ورد على جميع خلفائه؛ لأنهم كانوا القائمين بأخذ العشر من الناس، ولم يحفظ عن واحد منهم فيها شيء وله أمثال كثيرة3. 834- ثم بين الشافعي رضي الله عنه الطريقة المثلى والصحيحة لأخذ الأحكام، فيقول: وإنما العلم اللازم الكتاب والسنة، وعلى كل مسلم

_ 1 المصدر السابق حـ7 ص245. 2 المصدر السابق حـ7 ص243. 3 الأم حـ7 ص243 - 244.

اتباعها.. فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة: أبي بكر أوعمر أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة ... فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الدين في موضع أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم ... والعلم طبقات شتى" ثم ذكر هذه الطبقات: الكتاب، فالسنة الثابتة، فالإجماع، فقول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما لا يعلم لهم مخالفًا فيه منهم، فاختلافهم، فالقياس على هذه الطبقات، "ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان".. ثم التفت إلى من يقولون بعمل أهل المدينة فقال لهم: "وإنما يؤخذ العلم من أعلى، وبعض ما ذهبتم إليه خلاف هذا ... ذهبت إلى أخذ العلم من أسفل1. 835- وإذا وجد الكتاب أو السنة فلا نعبأ بقول الأكثرية من أهل المدينة أو الأقلية منهم، فمثلًا ذهب بعضهم إلى تحريم لبن الفحل وقلنا بترك التحريم ... و"لا أذهب إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء إلى أن أدعه لأكثر أو أقل مما خالفنا في لبن الفحل"2. 836- وفي النهاية بين الشافعي مكمن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه -في رأيه- وهو ما وجدوه في الموطأ، وذكر قول بعضهم الدال على ذلك: "إن لنا كتابًا قد صرنا إلى اتباعه -يعني الموطأ- وفيه ذكر أن "الناس اجتمعوا" و"الأمر المجتمع عليه عندنا" و"الأمر عندنا". كما بين تناقضهم عندما يقولون ذلك، ثم يخالفون أهل المدينة، فهي كلمات يطلقونها لا معنى لها، "فلم تكلفتموها، فما علمت قبلك أحدًا تكلم بها، وما كلمت منكم أحدًا قط فرأيته يعرف معناها، وما ينبغي لكم أن تجهلوا إذا كان يوجد فيه ما ترون".

_ 1 الأم حـ7 ص246. 2 الأم حـ7 ص247.

837- وكان على الشافعي مع هذه المناقشة التي فند فيها ما يقول به -أصحاب الإمام مالك- الذين قالوا بعمل أهل المدينة وبإجماعهم فتركوا بعض السنن من أجل ذلك ومنها ما يرويه مالك نفسه -كان عليه مع هذا أن يبين المسائل التي خالفوا فيها السنة تطبيقًا لقياسهم، وهذا ما عقد له كتابًا من الأم. 838- وسنجتزئ بذكر بعض الأمثلة التي تدل على تطبيق الإمام الشافعي لما قاله أثناء تفنيد أصلهم هذا. في "باب فوت الحج" روي عن مالك، عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس: "أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاءته امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، ولا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع"1. وروى حديثًا آخر عن مالك، عن أيوب، عن ابن سيرين أن رجلًا جعل على نفسه ألا يبلغ أحد من ولده الحلب، فيحلب ويشرب ويسقيه إلا حج وحج معه، فبلغ رجل من ولده الذي قال الشيخ، وقد كبر الشيخ، فجاء ابنه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال: إن أبي قد كبر، ولا يستطيع أن يحج، أفأحج عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. وروى حديثًا ثالثًا فقال: إن مالكًا ذكر، أو غيره، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عباس أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع أن نركبها على البعير، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ قال: نعم2.

_ 1 الموطأ ص 236 "طبعة الشعب". 2 انظر هذه الأحاديث الثلاثة في الأم حـ7 ص196.

839- فقد ثبت -إذن- بهذه الأحاديث التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز أن يحج إنسان عن آخر برواية مالك نفسه، لكن بعض أصحابه قالوا: ليس على هذا العمل مع أن مالكًا لم ينص على ذلك في الموطأ واكتفى بروايته للحديث الأول فيه. 840- وهنا رد عليهم الشافعي بأنهم خالفوا ما رووا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وما رواه غيرهم. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما رواه غيرهم. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بن أبي طالب وابن المسيب والحسن وابن عباس. وابن شهاب وربيعة وهم بالمدينة يفتنون بأن يحج الرجل عن الرجل، "وهذا أشبه شيء يكون مثله عندكم عملًا، فتخالفونه كله لغير قول أحد من خلق الله علمته من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجميع من عدا أهل المدينة من أهل مكة والمشرق واليمين من أهل الفقه يفتنون بأن يحج الرجل عن الرجل"1. 841- ومن الأمثلة التي ناقشهم فيها أيضًا مسألة "العمرى" وهي أن يقول الرجل لآخر: أعمرتك داري أو أرضي أو إبلي ويقول: هي لك عمري. وتنتقل للموهوب له ولورثته من بعده. ذهب الشافعي فيها إلى أنه لو شرط فيها شرطًا يبطل الشرط وقال مخالفوه من أهل المدينة: لا يبطل الشرط فيها، فلو شرط أن ترد له بعد وفاة الذي يعطاها جاز الشرط ولا يأخذها ورثته. وقد روى الشافعي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه -فإنما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطى"، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. ثم قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الأمصار

_ 1 الأم حـ7 ص196 - 197.

غير المدينة. وقد روي هذا مع جابر بن عبد الله زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. 842- وقد رأى هؤلاء الناس من أهل المدينة أن العمرى ترجع إلى الذي أعمرها إذا لم يقل: هي لك ولعقبك. وتركوا هذا الحديث لأن القاسم بن محمد من فقهاء المدينة قال: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا1. 843- قال لهم الشافعي: أتخالفون الحديث وأنتم تروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن هذه الأحاديث رواها الصادقون وإذا قبلنا خبر الصادقين -فمن روى هذا عن رسول الله أرجح ممن روى عن القاسم قولًا يخالفه ... "لا يشك عالم أنما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال به مما قاله أناس بعده قد يمكن ألا يكونوا سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغهم عن شيء، وإنهم لناس لا نعرفهم"2. 844- وقد ردوا على الشافعي بأن القاسم بن محمد حينما يقول: "قال الناس" هنا فإنما يعني الجماعة من أصحاب رسول الله أو من أهل العلم الذين لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة، ولا يجمعون أبدًا من جهة الرأي، ولا يجمعون إلا من جهة السنة. 845- قال الشافعي يرد عليهم: لقد أفتى القاسم بن محمد فيمن قال لأهل زوجته: "شأنكم بها": إنها -كما قال الناس- تطليقة، وأنتم تزعمون أنها ثلاث تطليقات فإن لم يكن قول القاسم والناس هنا حجة عليكم في رأي أنفسكم لهو عن أن يكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة -في العمرى مثلًا- أبعد. وإن كان حجة فقد أخطأتم بخلافكم إياه برأيكم"3.

_ 1 انظر الموطأ ص471. وقد روى مالك الحديث وقول القاسم وما عليه أهل المدينة من عمل. 2 الأم حـ7 ص201. 3 ص214 - 237 حـ2.

846- ونكتفي بمناقشة هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري موضع بحثنا، ولكننا نشير إلى أن بعض العلماء وخاصة من الظاهرية ومن أصحاب المذاهب الأربعة قد عارضوهم في أصلهم هذا وأفاضوا في مناقشتهم. ومن هؤلاء ابن حزم في كتابه الإحكام1، وابن القيم في كتابه أعلام الموقعين2. 847- والحق أن عمل كل بلد كان له تأثير في رأي أصحابه واجتهادهم ولكنه ينبغي ألا يرجح على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الأولى بمن قالوا بعمل أهل المدينة وإجماعهم ورجعوهما على بعض السنن أن يفعلوا كما فعل الإمام مالك رضي الله عنه، فقد أقر بالسنة وأخذ بها، وقدم عمل أهل المدينة كنوع من الخلاف ربما كان له وجه من الصواب، شأنه في ذلك شأن ما عليه أهل الأمصار الأخرى. وهذا ما جعله لا يرضى أن يحملوا على الموطأ وما فيه من رواية وعمل عندما أشار عليه أحد الخلفاء بذلك. 848- والنتيجة الأهم من ذلك هي أننا أصبحنا على يقين من أن علماءنا -من خلال هذا المقياس أو الأصل- نظروا إلى الحديث من حيث معناه وفنه ليوثقوه بعيدًا عن إسناده، فعل ذلك الآخذون بعمل أهل المدينة إذا تعارض مع الآحاد والمنكرون على السواء، كما رأينا، وكما تجلى عند الأئمة الليث بن سعد ومحمد بن الحسن والشافعي رضوان الله عليهم أجمعين. والآن فإلى مقياس آخر من مقاييس توثيق متن الحديث، وهو عرض أخبار الآحاد على القياس، وحقيقة الأمر في تطبيقه عند بعض العلماء.

_ 1 ص 214 - 237 حـ2. 2 حـ2 ص294 وما بعدها.

الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس

الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس 849- خبر الواحد إذا رواه من عرف بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضوان الله عليهم -كان حجة، سواء أكان موافقًا للقياس أم مخالفًا له، فإن كان القياس مخالفًا له ترك هذا القياس؛ لأن مثل هؤلاء لا يتوهم في روايتهم قصور وقد رووا هذا الحديث عن بصيرة، فلم يغيروا فيه فكأنما سمعناه منه صلى الله عليه وسلم1. 850- أما إذا روى خبر الواحد من عرف بالضبط والعدالة والحفظ دون الفقه كأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما وغيرهما ممن اشتهر بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماع الأحاديث مدة طويلة في السفر والحضر -فما وافق القياس من روايتهم هذه يقبل وما خالفه فإما أن تكون الأئمة قد تلقته بالقبول أو لا، فإن كان الأول قبل، وإلا فالقياس مقدم عليه إذا كان في أمر ينسد فيه باب الرأي. 851- ويشترط أن يكون التعارض بين الخبر والقياس تعارضًا من كل وجه بأن يكون عامين أو خاصين ويبطل كل واحد منهما ما يثبته الآخر بالكلية أما إذا تعارضا من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما أعم والآخر أخص فالجمع بينهما مهما أمكن واجب بأن يخصص الأعم بالأخص2. 852- وليس في رد الخبر على هذا النحو طعن في الصحابي الذي رواه، فالصحابة عدول كلهم، وعلى العين والرأس؛ ولكنهم لما كانوا ينقلون الخبر بالمعنى، ومن الصعوبة التعبير عن كل معنى أراده صلى الله عليه وسلم لما أوتي من جوامع الكلم، ولم يؤت غيره هذا -فإن غير الفقهاء من الصحابة، رضوان الله عليهم ينقلون بقدر فهمهم للعبارة، وربما يقصر

_ 1 أصول السرخسي حـ1 ص342. 2 حاشية الأزميري على شرح مرآة الأصول حـ2 ص211.

تعبيرهم عن المراد، فيؤدي بعضه، ولتوهم هذا القصور قال الأحناف -كما يروي عيسى بن أبان-: إنه إذا انسد باب الرأي فيما روي وكان الخبر مخالفًا للقياس الصحيح وليس موافقًا لقياس آخر فلا بد من تركه؛ لأنه حينئذ كأنه مخالف للكتاب والسنة المشهورة والإجماع؛ إذ كون القياس الصحيح حجة ثابت بالكتاب والسنة المشهورة والإجماع1. 853- ومثال ما رده الأحناف -تبعًا لرواية عيسى بن أبان- تطبيقًا لهذا المقياس حديث المصراة الذي تقدم ذكره كمثال على مخالفته لكتاب الله عز وجل والخبر المشهور -فهو مخالف أيضًا للقياس الصحيح؛ لأنه أوجب رد صاع من تمر مقابل اللبن الذي حلبه، واللبن الذي يحلب بعد الشراء والقبض لا يكون مضمونًا على المشتري؛ لأنه فرع ملكه الصحيح، فلا يضمنه قياسًا على غيره مما يكون في ملكه الصحيح، ولا يضمن بسبب العقد؛ لأن ضمان العقد ينتهي بالقبض، وهذ بعده فلا يرد، قياسًا على اللبن الآخر بعد القبض، وإذا كان اللبن المصرى موجودًا عند العقد فإنه لم يكن مالًا؛ لأنه باطن كالحبل، ولا يصير مالًا إلا بالحلب فلا يدخل تحت العقد، فيكون حينئذ كالكسب. 854- على أننا إذا اعتبرناه مالًا فهو صفة للشاة أو غيرها فيعتبر مالًا تبعًا، ولا يضمن ويرد، وهو عندئذ كالصوف، ولا يكون حصة من الثمن ما لم يزايل الأصل، ولو زال قبل القبض فآفة من الآفات لم يسقط شيء من الثمن وهو هكذا إذا قبض والوصف متصل بالأصل لا يصير حصة من الثمن ولا يصير مضمونًا. 855- ولئن جاز أن يقابله ضمان فهو ضمان العقد، فينبغي أن يسقط من البائع حصته من الثمن قياسًا على أنه لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما فعل ذلك. 856- وإذا اعتبرناه ضمان التعدي فمن الواجب أن يضمن مثل اللبن كيلًا أو دراهم قياسًا على ما يضمن بالتعدي، أما الصاع من التمر بلا تقويم،

_ 1 أصول السرخسي حـ1 ص339 - 341.

قلّ اللبن أو كثر فلا وجه له في الشرع.. أضف إلى ذلك أن ظاهر هذا الحديث يدل على توقيت خيار العيب، وهو غير مؤقت بالإجماع، "فثبت أنه مخالف للقياس من جميع الوجوه فوجب رده بالقياس"1. 857- ومن الأمثلة كذلك ما يرويه سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وطئ جارية امرأته: "فإن طاوعته فهي له، وعليه مثلها، وإن استكرهها فهي حرة، وعليه مثلها" فإن القياس الصحيح يرد هذا الحديث2 "ويتبين أنه كالمخالفات للكتاب والسنة المشهورة والإجماع"3. 858- ويدفع الأحناف ما يعترض عليهم، ويشنع به عليهم من أخذهم بحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، ومع أن رواية هو معبد الجهني وهو لم يعرف بالفقه بين الصحابة، وكان خبر المصراة أولى بالقبول والعمل به لأنه أثبت متنًا وأقوى سندًا وراويه هو أبو هريرة، وهو أعلى رتبة في العلم من معبد -يدفعون هذا بقولهم: إنه قد رواه غير معبد الجهني كثير من الصحابة مثل أبي موسى الأشعري، وجابر وأنس وعمران بن الحصين، وأسامة بن زيد وعمل به كبراء الصحابة والتابعين، مثل علي وابن مسعود وابن عمر والحسن وإبراهيم ومكحول، فلذلك وجب قبوله وتقديمه على القياس. 859- كما يدفعون أيضًا ما رموا به هنا من الطعن في أبي هريرة بهذا المسلك وأمثاله من الصحابة -فيقولون: إنه مما لا شك فيه أنه قد ثبتت عدالته وطول صحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم وحسن حفظه وضبطه، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك4 ... ولكن مع هذا قد اشتهر

_ 1 كشف الأسرار حـ2 ص702. 2 آداب الشافعي ص170 - 171 فقيه محاورة جرت بين الحسن بن زياد اللؤلؤي وأحد أصحاب الشافعي وهو حاضر، وفيها يبين صاحب الشافعي مخالفة هذا الحديث للقياس. 3 أصول السرخسي حـ1 ص342. 4 صحيح البخاري "طبعة الشعب" حـ9 ص133.

عن الصحابة رضوان الله عليهم من بعدهم معارضة بعض رواياته بالقياس، وفيما عدا هذه الضرورة فإنهم يعتمدون على روايته هو وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم، ونحن نفعل كذلك، فقد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بقول أنس بن مالك رضي الله عنه في مقدار مدة الحيض وغيره، وكانت درجة أبي هريرة عند أبي حنيفة فوق درجة أنس1. 860- والحق أن هذا الرد ليس مقنعًا أو هو من حسن الأدب فقط، فإنهم بهذا فعلًا ينتقصون من استقامة رواية هذا الصحابي الجليل وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم، ولو آمنوا حقًّا بحفظهم وضبطهم لما تركوا بعضه رواياتهم، ولما تعللوا بأن روايتهم بالمعنى هي التي أخلت ببعض الروايات، وذلك لأنهم عرب، وخالطوا الرسول صلى الله عليه وسلم مخالطة غير عادية مما جعلهم في مأمن من الخطأ في رواية الحديث. وقد سبق أن ذكرنا في التمهيد مقدار حيطتهم وحذرهم في الرواية ومظاهر هذا، مما يجعلنا نطمئن إلى أدائهم الصحيح لجميع الأحاديث. 861- وإذا كان بعض الصحابة قد رد بعض رواية أبي هريرة فقد ثبت بالدراسة الموضوعية أنه لم يكن يخطئ فيها، وإنما كانت هناك أسباب أخرى وراء معارضته ورد بعض رواياته. كما بين ذلك الإمام الشافعي وابن حزم. كما ثبت أنه كان من الفقهاء، ولم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وكان يفتي في زمن الصحابة ولم يكن يفتي حينئذ إلا المجتهد الفقيه2. 862- وهذا ما يجعلنا نميل إلى الرواية الأخرى عن الأحناف رواية أبي الحسن الكرخي التي تقول: إن الأحناف يقدمون الخبر على القياس مطلقًا سواء أكان راويه مشهورًا بالفقه أم لا؛ لأننا إذا وثقنا في حفظ الراوي وضبطه فالظاهر في هذه الحالة أنه يروي كما سمع، ولو غير

_ 1 أصول السرخسي حـ1 ص342. 2 كشف الأسرار حـ2 ص703.

لأصبحت روايته على وجه لا يتغير به المعنى. والقول بأن الراوي إذا لم يكن فقيهًا قد يغير في المعنى وهم لا أساس له؛ لأن الأخبار وردت بلسانهم، وعلمهم بهذا اللسان يمنع من غفلتهم عن المعنى وعدم وقوفهم عليه وعدالتهم وتقواهم وضبطهم تدفع تهمة التزيد أو النقصان في الخبر الذي يروونه1. 863- واستدل القائلون بهذا -رواية عن الأحناف- بأن الخبر يقين بأصله؛ لأنه من حيث إنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل الخطأ، وإنما الشبهة في عارض النقل، حيث يحتمل الغلط والنسيان والكذب. أما القياس فالاحتمال في أصله؛ أي: في علته التي يبني عليها الحكم، فإنها لا تتحقق يقينًا إلا بنص أو بإجماع وهو أمر عارض. ولا شك أن يتيقن الأصل راجع على محتمله. 864- وعلى تقدير ثبوت العلة فيه قطعًا يحتمل أن تكون خصوصية الأصل شرطًا لثبوت الحكم، أو خصوصية الفرع مانعًا عنه فيكون تطرق الاحتمال إلى القياس أكثر، فيؤخر عن الخبر الذي لا يتطرق الاحتمال إليه إلا في طريق نقله، وهو عارض. 865- وقد رأينا عمر، رضي الله عنه، ترك القياس بالخبر في مسألة الجنين عندما علم أنه عليه السلام أوجب فيه الغرة2 وقال: لولا هذا لقضينا فيه بالقياس لثبوت الخبر، وكذا في دية الأصابع، حيث رأى أنها تتفاوت باعتبار منافعها فتتفاوت في ديتها، ولكنه ترك ذلك بخبر الواحد الذي يقول: "في كل إصبع عشر من الإبل، وكذا في ميراث الزوجة من دية زوجها وكان يرى أن الدية للورثة، ولأنها ليست من ملك الزوج فلا ترث الزوجة منها فأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتوريث الزوجة منها، فرجع إليه وترك القياس بخبر الواحد.

_ 1 كشف الأسرار حـ2 ص703. 2 الغرة: العبد أو الأمة، والغرة عند الفقهاء ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء "النهاية".

866- أضف إلى ذلك أنه لو قدم القياس على خبر الواحد للزم تقديم الأضعف على الأقوى، واللازم باطل إجماعًا، فالملزوم مثله فالخبر يجتهد فيه في أمرين: عدالة الراوي ودلالة الخبر، والقياس يجتهد فيه في ستة أمور: حكم الأصل، وتعليله في الجملة، وتعيين الوصف الذي به التعليل، ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل، ونفيه في الفرع.. هذا إذا لم يكن أصل القياس خبرًا، فإن كان كذلك وجب الاجتهاد في السنة المذكورة، مع الأمرين المذكورين، وهما العدالة والدلالة، وظاهر أن ما يجتهد فيه في مواضع كثيرة احتمال الخطأ فيه أكثر والظن الحاصل به أضعف فيكون أضعف من الخبر1. 867- وإذا كان القياس الصحيح هو الذي يوجب الوهن في رواية غير الفقهية فإن الوقوف عليه متعذر، فيجب قبول الخبر حتى لا نوقف العمل بالأحاديث تبعًا لهذه الحجة المتعذر الوقوف عليها والاتفاق عليها أيضًا، ولهذا وجدنا أن بعض العلماء، ومنهم الإمام الشافعي وابن تيمية، يقولون: إن القياس مع حديث المصراة وليس عليه وبينوا ذلك بحجج يمكن أن تكون مقبولة2 كما يمكن أن تقبل حجج غيرهم وما هذا إلا لتعذر الوصول إلى القياس الصحيح، ونظر كل واحد منهما إلى جانب من المسألة لا ينظر إليه الآخر. 868- والحق أن هذا الرأي وهو أن الخبر مقدم على القياس مطلقًا هو ما يمكن أن ينسب إلى أبي حنيفة وصاحبيه، فقد عملوا جميعًا بخبر أبي هريرة رضي الله عنه في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، وإن كان مخالفًا للقياس، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: لولا الرواية لفلت بالقياس. 869- ويقول صاحب الطبقات السنية: إن مما شنع به الخصوم على

_ 1 حاشية الأزميري حـ2 ص211. 2 القياس في الشرع الإسلامي: تقي الدين أحمد بن تيمية "661 - 728هـ" المكتبة السلفية -الطبعة الثالثة- القاهرة 1385هـ ص 36 - 37.

أبي حنيفة أنه قدم القياس1 الذي اختلف الناس في كونه حجة على الأخبار الصحيحة التي اتفق العلماء على كونها حجة. 870- ثم أجاب عن ذلك بأن هذا زعم منهم؛ لأن أبا حنيفة أخذ بكتاب الله تعالى، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بما اتفقت عليه الصحابة، ثم بما جاء عن واحد من الصحابة، وثبت ذلك واشتهر، ولم يظهر له فيه مخالف، وإن كان أمرًا اختلف فيه الصحابة والعلماء فإنه يقيس الشيء بالشيء حتى يتضح الأمر. ثم بالقياس إن لم يكن في الحادثة شيء مما ذكرناه2. 871- ثم ذكر من قول أبي حنيفة ما يدل على ذلك في كتابه إلى أبي جعفر المنصور. ثم ذكر بعض المسائل الشاهدة على أنه يقدم الخبر الصحيح على القياس ومنها "مسألة الرجل الذي يرد عبدًا آبقًا من مسيرة ثلاثة أيام". فقد قال أبو حنيفة: له الجعل أربعون درهمًا، وكان القياس ألا يجب، فترك القياس، وأخذ في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه في خبر طويل أن رجلًا قدم بآبق من الفيوم. فقال القوم: لقد أصاب أجرًا، فقال ابن مسعود: وأصاب جعلًا. وفي مسألة تزوج الأمة على الحرة: قال أبو حنيفة: لا يجوز، وكان القياس أنه يجوز. إلا أنه ترك القياس وأخذ في ذلك الخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة" 3.

_ 1 وذكر صاحب "جامع مسانيد الإمام الأعظم" أن ممن يتهمون أبا حنيفة بذلك الخطيب البغدادي. جامع مسانيد الإمام الأعظم: محمد بن محمود الخوارزمي "665هـ" طبعة أولى -دائرة المعارف- حيدر أباد الهند "1332هـ". 1/ 43. 2 الطبقات السنية 1/ 143 - 144. 3 قال الزيلعي في نصب الراية: روى الدارقطني في سننه في الطلاق من حديث مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق العبد اثنتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وقرء الأمة حيضتان، ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة". ومظاهر بن أسلم ضعيف. وهناك أحاديث مرسلة وموقوفة على ابن مسعود وجابر بن عبد الله وعلي حـ3 ص175.

وفي مسألة تزوج الرجل امرأة وهو غير كفء لها: قال أبو حنية: للأولياء حق الاعتراض، وكان القياس ألا يكون لهم ذلك، ترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزوج النساء إلا من كفء". وغير ذلك من الأمثلة والمسائل الكثيرة التي أخذ فيها أبو حنيفة بالخبر وترك القياس حتى ولو كان هذا الخبر موقوفًا على الصحابي كما في المسألة الأولى1. 872- أما أبو يوسف رحمه الله فقد نقل عنه في بعض أماليه أنه أخذ بحديث المصراة وأثبت الخيار للمشتري2. ويقول في كتابهخ الخراج في مسألة الرجل الذي يسرق أو يشرب الخمر أو يزني لا ينبغي أن يقيم القاضي عليه الحد برؤيته لذلك حتى تقوم به عنده بينة "وهذا استحسان لما بلغت في ذلك من الأثر فأما القياس فإنه يمضي ذلك عليه، ولكن بلغنا نحو من ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما3". 873- وأما محمد رحمه الله فقد قال في الأصل: أرأيت رجلًا توضأ ونسي المضمضة والاستنشاق، أو جنبًا فنسي المضمضة والاستنشاق ثم صلى، قال: أما ما كان في الوضوء فصلاته تامة، وأما ما كان في غسل الجنابة أو طهر حيض فإنه يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة. قلت: من أين اختلفا. قال: هما في القياس سواء، إلا أنا ندع القياس للأثر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنه4.

_ 1 الطبقات السنية 1/ 146 - 151. 2 كشف الأسرار حـ2 ص703. 3 الخراج ص193. 4 ورقة 10 عن الإمام محمد 266 والمبسوط حـ10 ص77. الطبقات السنية حـ1 ص148. وقال الزيلعي في "نصب الراية" حـ1 ص79 قال البيهقي في المعرفة، قال الشافعي: وقد اعتمد بعض الناس في ذلك على أثر ورد عن ابن عباس، ثم أخرج البيهقي من طريق الدارقطني بسنده عن أبي حنيفة عن عثمان بن راشد، عن عائشة بنت عجرد، عن ابن عباس فيمن نسي المضمضة والاستنشاق قال: لا يعيد إلا أن يكون جنبًا. قال: وزعم أن هذا أثر ثابت يترك به القياس وهو يعيب علينا الأخذ بحديث بسرة في مس الذكر وعثمان بن راشد وعائشة بنت عجرد غير معروفين ببلدهما، فكيف يجوز لأحد أن يثبت ضعيفًا مجهولًا ويوهن قويًّا معروفًا؟!.

وقال في رده على أهل المدينة حين رأوا أن القهقهة في الصلاة تبطل الصلاة ولا تنقض الوضوء: لولا ما جاء من الآثار كان القياس على ما قال أهل المدينة، ولكن لا قياس مع أثر، وليس ينبغي إلا أن ينقاد للآثار1. 874- وكان الإمام محمد يرى أن من سبقه الحديث بغير قصده وهو في الصلاة ينصرف فيتوضأ ويبني على صلاته، وأخذ في ذلك بالأثر الذي روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم". وقد روى عن أبي بكر وعمر وعلي ابن مسعودوابن عباس أنهم بنوا على الصلاة بعد الوضوء دون الاستقبال. 875- وأخذ الإمام محمد على مالك أنه كان يقول بذلك أولًا ثم رجع إلى أن عليه أن يستقبل الصلاة؛ لأن رجوعه هذا رجوع من الآثار إلى القياس2. 876- ووجه القياس هنا أن الطهارة -كما تكون شرطًا لابتداء الصلاة تكون كذلك لبقائها، "فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون هذا الشرط" فكذلك بقاؤها3. 877- وهذا يجعلنا نرى -كما يقول بعض الباحثين: أن "هذا يدل على أن الإمام محمدًا ما كان ينظر إلى القياس إذا صح الأثر لديه مهما يكن الأصل المقيس عليه، والعلة الجامعة بين الأصل والفرع"4. 878- والحق، كذلك، أنه يبدو أن مدرسة الأحناف بأئمتها الثلاثة كانت تستخدم القياس في هذا الباب ولكن -مثل استخدام المقاييس الأخرى

_ 1 الحجة ص 266. 2 المبسوط حـ1 ص 169. 3 الإمام محمد ص 267. 4 المصدر السابق ص 267.

فيما رجحناه، أن في تأكيد ما ثبت ضعفه وانقطاعه أو انضمامًا إلى علامات أخرى توضح ضعف الخبر، فحديث المصراة عندهم ضعيف قبل أن يصلوا إلى النظر إليه من حيث ملاءمته للقياس أولًا، ثم تأتي مخالفته للقياس فتنضم إلى مخالفته للكتاب وللسنة المشهورة في نظرهم.. ولا محل للقياس ابتداء في ثبوت الخبر أو تضعيفه حتى ولو كان راوي الخبر غير فقيه، والقول بغير ذلك "قول مستحدث"1. 879- وهذا ما خرج به الأستاذ أبو زهرة من دراسته لأبي حنيفة، حيث رأى أنه يقدم القياس في أخبار الآحاد التي لم يكن سندها مقبولًا عنده. ولكننا لا نوافقه في قوله: إن أبا حنيفة يقدم القياس على أخبار الآحاد إذا كان القياس قطعيًّا2.. ونقول كما قال أبو الحسن الكرخي، وكما تبين من هذه الدراسة، إنه لا يترك الخبر من أجل القياس قطعيًّا أو غير قطعي3، وكما يقول ابن تيمية: "ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوها"4. الخبر والقياس عند مالك: 880- وإذا تركنا الأحناف وجدنا أنه روي عن مالك تقدم الخبر على القياس عند تعارضهما، ويقول الأستاذ أبو زهرة، إن الكثيرين من المالكية يقررون ذلك، وإنهم بالإجماع يذكرون أنه أحيانًا قد أخذ بالقياس ورد خبر الآحاد في تلك الحالة5.

_ 1 كشف الأسرار حـ2 ص703. 2 مالك: ص299. 3 كشف الأسرار حـ2 ص703. 4 صحة أصول مذهب أهل المدينة ص24. 5 مالك ص298.

881- وقال القرافي: "حكى القاضي عياض في التنبيهات وابن رشد في المقدمات: في مذهب مالك في تقديم القياس أحد قولين1. ثم ذكر الحجة في تقديم القياس على خبر الواحد، فقال: إن القياس موافق للقواعد الفقهية من جهة تضمنه لتحصيل المصالح أو درء المفاسد، أما الخبر المخالف لها فيمنع من تحقيق هذه المصالح أو من درء تلك المفاسد فيقدم الموافق للقواعد على المخالف لها2. وإذا كانت حجة من منع تقديم القياس على خبر الآحاد أن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله، لأنه لو قدم على أصله لأبطل الأصل، ولو أبطل أصله لبطل -فإنه يبدو من كلام القرافي أنه يرى أن مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد بدليل أنه ينقد حجة من يرى تقديم القياس على خبر الآحاد فيقول: ولا يقال: إن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله وإلا لأبطل أصله، لأن النصوص التي هي أصل القياس غير النص الذي قدم عليه القياس لا تناقض، فلم يقدم الفرع على أصله، بل على غير أصله2. 882- وذكر الدبوسي في تأسيس النظر4 والشاطبي في الموافقات5 كثيرًا من المسائل التي يقدم فيها مالك رضي الله عنه القياس على خبر الواحد ومن هذه المسائل: "غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقد جاء الحديث" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فيلغسله سبع مرات" 6.

_ 1 تنقيح الفصول ص387. 2 شرح تنقيح الفصول ص387. 3 المصدر السابق ص387 - 388. 4 تأسيس النظر: عبد الله بن عمر الدبوس الحنفي. نشر زكريا علي يوسف - القاهرة ص65 - 67. 5 الموافقات حـ3 ص 10 - 11. 6 الموطأ: ص 47.

883- قال الشاطبي: إن مالكًا قال في هذا الحديث: لا أدري ما حقيقته، وكان يضعفه ويقول: يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟! فقد اتخذ من أكل صيده الثابت بأصل قطعي، وهو قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين} -دليلًا على طهارة لعابه، والحديث يدل على نجاسته، فتعارض الحديث مع استنباط قطعي من القرآن الكريم. 884- ومن هذه التي تعارضت مع القياس، فردها الإمام مالك رضي الله عنه -كما يذكر الشاطبي- حديث خيار المجلس الذي يوجب أن يكون لكلا العاقدين الحق في فسخ العقد ما دام المجلس متحدًا لم يتفرق. 885- وهذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" وقال بعد روايته: "وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"1. ورده؛ لأن المجلس ليس له نهاية معلومة، بحيث يكون للفسخ مدة معلومة، وإن شرط الخيار يبطل إجماعًا إذا لم تكن له مدة معلومة، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطًا بالشرع؟ ... ولو كان يجوز الخيار لمدة مجهولة لجاز اشتراط الخيار من غير مدة ويضاف إلى ذلك أن الحديث بجهالة مدته يعارض قاعدة نفي الغرر والجهالة في العقود2. 886- ومن الأمثلة التي ردها كذلك لمعارضتها بالقياس حديث صيام الأيام الست من شوال وفضيلتها، فقد نهى عن صيام ست من شوال، وأخذ من ذلك بمبدأ سد الذرائع خشية أن تؤدي المداومة عليها إلى زيادة رمضان واعتقاد وجوبها. 887- وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج فقال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر جميعًا عن إسماعيل قال ابن أيوب

_ 1 الموطأ: ص416. 2 مالك: ص300.

حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني سعد بن سعيد بن قيس، عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر" 1. 888- ونكتفي بذكر هذه الأمثلة ومناقشتها؛ لأن غيرها لا يخرج بعضه عن طبيعتها وبعضها الآخر واضح منه تمامًا أنه يرفضه لا من أجل قياس، وإنما لمعارضته نص آخر أقوى منه، ومن هذا حديث عدد الرضعات الذي رده؛ لأنه يتعارض مع إطلاق الآية الكريمة: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُم} 2 وحديث المصراة الذي يتعارض مع الآية والحديث، كما سبق أن ذكرنا. 889- أما الحديث الأول: وهو حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب فالواقع أن الإمام مالكًا لم يرده؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غاية الأمر أنه لم يجعل الأمر للوجوب، وإنما جعله للندب، ثم استخدم القياس فقط لتأييد فهمه هذا، وكلام ابن القاسم الذي ورد فيه قوله: إنه "لم يدر حقيقة هذا الحديث" يدل على ذلك، وقد أورده ابن عبد البر في كتابه الاستذكار كاملًا وهو: "جملة مذهب مالك عند أصحابه اليوم أن الكلب طاهر، وأن الإناء يغسل منه سبعًا عبادة، ولايهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده ليسار مؤونته، وأن من توضأ به إذا لم يجد غيره أجزأه وأنه لا يجوز التيمم لمن كان معه ما ولغ فيه كلب، وأنه لم يدر ما حقيقة هذا الحديث، واحتج بأنه يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟ وقال مع هذا كله لا خير فيما ولغ فيه كلب: ولا يتوضأ به أحب إلى هذا كله ما روى ابن القاسم عنه"3.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي حـ3 ص230 - 231. 2 النساء: 23. 3 الاستذكار، لمذاهب فقهاء الأمصار: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر "463هـ" تحقيق علي النجدي ناصف. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1391هـ - 14971، حـ1 ص258.

890- وهكذا رأينا أن مالكًا لم يستطع أن يترك الحديث وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله، وكان من نتائج هذا القبول أن قال: إن غسل الإناء سبعًا على وفق ما جاء به الحديث عبادة، وأنه لا خير فيما ولغ فيه كلب، ولم يقل بنجاسته ووجوب غسله لأنه -بهذا الفهم- يتعارض مع ظاهر الآية الكريمة التي تحل أكل ما يصيده الكلب المعلم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين} 1. 891- ومثل هذا تمامًا حديث النهي عن أكل عن كل ذي ناب من السباع، فقد أخذ به، لكنه لم يحمل النهي على التحريم، وإنما على الكراهة؛ لأنه يتعارض -بفهم التحريم- مع كتاب الله تعالى -ولما كان ثابتًا ومعه العمل قال بالكراهة كما قلنا. 892- أما عبارة "أنه لم يدر حقيقة هذا الحديث" فتدل على حيطة مالك وحذره إزاء ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما تدل على الجرأة على تركه، كما فهم بعض الدارسين لفقهه؛ لأنه -على الرغم من أنه يقول: إن الأمر بالغسل للاستحباب- فإنه لا يريد أن يحكم على الحديث بهذا الذي ذهب إليه، فأعلن أنه لا يدري ما حقيقة هذا الحديث من حيث فهمه، لا من حيث ثبوته، فهو ثابت عنده بدليل ما سبق من كراهته للماء الذي يشرب منه الكلب واستحباب غسل الإناء، وبدليل روايته في كتابه الموطأ فهو لا يروي فيه إلا أحاديث الثقات فقد سأله بعضهم عن راو، فقال: "هل رأيته في كتبي ... ؟ أي إنه لا يدون في كتبه إلا الثقات وأحاديثهم"2. 893- إذن لم يترك مالك هذا الحديث بالقياس -كما فهم بعض الباحثين- وإنما قبله لأنه صح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد استخدم القياس هنا حقًّا، ولكنه استخدمه لتأييد فهمه للحديث لا لرده.

_ 1 المائدة: 4. 2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص410.

894- والحديث الثاني شبيه بهذا من حيث إن الإمام مالكًا رواه في موطئه، فهذه دلالة على أنه صحيح، ومن حيث فهمه له فهمًا خاصًّا غير ما يدل عليه ظاهره، وهو تفسير التفرق بالكلام وإتمام الإيجاب والقبول؛ يقول الدكتور محمد يوسف موسى عليه رحمة الله مبينًا وجهة نظر مالك وغيره ممن ذهب مذهبه في خيار المجلس، موضوع هذا الحديث "أما من ناحية الأحاديث التي استدل بها الذين أثبتوا هذا النوع من الخيار، فإن الآخرين يعمدون إلى تأويلها -كما قلنا- وفهمها على نحو آخر لا يجعلها يؤخذ منها وجوب خيار المجلس للمتبايعين متى تم البيع بصدور الإيجاب والقبول من طرفيه عن رضًا منهما ... ومعنى هذا أن تلك الأحاديث -أحاديث خيار المجلس- صحيحة عند الجميع"1. 895- وقد ذهب مالك إلى هذا الفهم حتى لا يتعارض الحديث مع الآية الكريمة التي تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فالله تعالى قد أباح للمشتري أكل ما يشتري، وللبائع أخذ الثمن بعد وقوع التجارة، وهي الإيجاب والقبول في عقد البيع وعن تراض، فالذين يمنعون ذلك بإيجاب الخيار "مدة المجلس" يخرجون عن ظاهر الآية ويخصصونها من غير دلالة وهذا ما توقاه مالك رحمة الله تعالى عليه2. 896- ويقول ابن العربي المالكي عند الكلام على هذه الآية مبينًا أنها هي وغيرها من الآيات التي وردت في ذكر البيع والشراء والمداينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس ولا لافتراق الأبدان فيها: "قوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} هو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم، ... واختار الطبري أن يكون تأويل الآية إلا تجارة تعاقدتموها، وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها، وهذه دعوى.. إنما يدل مطلق الآية على التجارة على الرضا وذلك ينقضي بالعقد، وينقطع بالواجب وبقاء

_ 1 البيوع والمعاملات المالية المعاصرة: د. محمد يوسف موسى -الطبعة الثانية "1373هـ - 1954م" دار الكتاب العربي بمصر 60. 2 أحكام القرآن للجصاص حـ2 ص175.

التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقًا ولا تنبيهًا. ثم بين أن الآيات التي ذكرت في البيع والشراء لا تدل على خيار المجلس1. 897- أرأيت كيف أن مالكًا لم يترك الحديث للقياس، وإنما فهمه فهمًا معينًا يتلاءم مع الآيات القرآنية الكريمة؟! وحتى لو قلنا: إنه ترك هذا الحديث فإنه لم يتركه مؤثرًا القياس عليه، وإنما لمعارضته للآيات القرآنية الكريمة وبعبارة أخرى: تركه لمعارضته لظاهر القرآن الكريم. 898- وعبارته تعقيبًا على هذا الحديث: "ليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه" إنما تشير إلى أن الأمر ليس كما يفهم من ظاهر الحديث، فهو بهذا الظاهر لا يعمل به، وإنما يحتاج إلى فهم يتلاءم به مع النصوص القرآنية. 899- ويقول القاضي عياض في هذه العبارة قولًا آخر يدل كذلك على غير ما ذهب إليه بعض الناس من أنه رد هذا الحديث من أجل القياس، يقول: "وقول مالك في هذا الحديث بعد ذكره له في موطئه: "وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به" وهذه المعارضة أعظم تهاويلهم وأشنع تشانيعهم، قالوا: هذا رد للخبر الصحيح إذ لم يجد عليه عمل أهل المدينة، حتى قد أنكره عليه أهل المدينة، وقال ابن أبي ذئب فيه كلامًا شديدًا معروفًا، فالجواب أنه إنما أتيت بسوء التأويل، فإن قول مالك هذا ليس مراده رد البيعين بالخيار وإنما أراد بقوله ما قال في بقية الحديث، وهو قوله: "إلا بيع الخيار" فأخبر أن بيع الخيار ليس له حد عندهم، لا يتعدى إلا قدر ما تختبر فيه السلعة وذلك يختلف باختلاف المبيعات، فيرجع فيه إلى الاجتهاد والعوائد في البلاد وأحوال البيع2. 900- وننتقل إلى الحديث الثالث، وهو حديث صيام الست من

_ 1 أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي تحقيق على محمد البحاوي - الطبعة الثانية عيسى البابي الحلبي "1387هـ 1967م". 2 ترتيب المدارك حـ1 ص72.

شوال1 وهذا الحديث هو الذي يمكن أن نقول فيه: إن مالكًا رحمه الله تركه، فلم يذكره في الموطأ، وإنما أفتى بخلافه فيه فقد قال يحيى بن يحيى: سمعت مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصه عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك". 901- ومن كلام مالك هذا نفهم أنه لم يرد الحديث للقياس وإنما لأن السلف لا يفعلون ذلك، والسلف لا يتركون هذه السنة لو صحت ولأنه لا يجد أحدًا من أهل العلم يفعل ذلك؛ اقتداء بالسلف، وعدمك بلوغهم هذا الحديث؛ لأن أحدًا منهم لا يستطيع أن يرغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 902- ومما يؤيد ذلك تسميته له بالبدعة، ولم يقل أحد إن أهل العلم يكرهون رخصة من الرخص التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض عليها؛ لأن العامة سيحلقونها بفريضة من الفرائض ويعتقدون وجوبها ويحيطونها بالبدعة. 903- إذن فالأمر لا يعدو أن مالكًا رضي الله عنه عرض هذا الحديث على عمل الصحابة والتابعين فوجدهم لا يفعلونه بل يرغبون عنه فرأى أن الحديث لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومناقشة مالك في هذا

_ 1 قال النووي في شرح هذا الحديث في مسلم "حـ2 ص231" فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها. قالوا: فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم: قد يظن وجوبها، ينتقد بصوم عرفة وعاشوراء وغيرها من الصوم المندوب، قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر".

الحديث لا تكون على أساس: هل أخذ بخبر الواحد أو بالقياس وإنما على أساس آخر، وهو هل نترك خبر الواحد لعمل الصحابة أو بعضهم أو عمل العلماء أولًا؟ وأظننا نصل إلى جواب عندما نقرأ موقف الأحناف من عمل الصحابة أو فتواهم وموقف الشافعي المعارض له وهو ما سبق أن ذكرناه. 904- والذي أرجحه أن مالكًا رحمه الله لم يصله هذا الحديث بطريق صحيحة، فضم إليه قرينة عدم العلم من السلف وغيرهم فتركه. 905- وبعد، فلعلنا نستطيع أن نقول: إن مالكًا رحمه الله لا يترك الحديث الصحيح الثابت من أجل قياس من الأقيسة، وأن نوافق قول أحد العلماء الذي يقول: "وقد حكى عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، ولا يدري ثبوته منه"1.* الإمام الشافعي وعرض الخبر على القياس: 906- وإذا تركنا ما قيل عن الإمام مالك إلى الإمام الشافعي وجدنا أنه يعلن أن لا مكان للقياس مع خبر الواحد، وغير الواحد من باب أولى، فوجود الخبر والقياس بمنزلة وجود الماء والتراب، وكما لا يجوز التيمم مع وجود الماء لا يجوز القياس مع وجود الخبر، يقول مبينًا هذا: "ويحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ويحكم بالسنةقد رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه يمكن الغلط فيمن روي الحديث، ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة

_ 1 كشف الأسرار حـ2 ص697. * ويقول الخطيب البغدادي: إن أصحاب مالك يقدمون القياس على خبر الواحد "الفقيه والمتفقه مج1 حـ4 ص133" فيبدو أن هذا نسب إلى مالك كما نسب إليه تقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، وبعض أصحابه هم الذين فعلوا ذلك.

ضرورة، لأنه لا يحل القياس والخبر موجود كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون من طهارة إذا وجد الماء، إنما يكون طهارة في الإعواز"1. 907- لكنه رحمه الله استخدم القياس على نحو آخر، وهو تعضيد ثبوت الأخبار وترجيحها على غيرها، يقول عن الأحاديث: "ومنها ما يختلف، ومنها ما لا يخلو من أن يكون أحد الحديثين أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بمعنى سنن النبي صلى الله عليه وسلم مما سوى الحديثين المختلفين، أو أشبه بالقياس، فأي الأحاديث المختلفة كان هذا فهو أولاهما أن يصار إليه"2. 908- وبعض الأمثلة التي ذكرها في كتابه اختلاف الحديث توضح ذلك: في باب صلاة المنفرد خلف الصف روي "عن سفيان بن عيينة عن حصين ... عن هلال بن يساف ... قال: أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد فوقف بي على شيخ بالرقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: وابصة بن معبد، فقال: أخبرني هذا الشيخ "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة". وقد سمعت من أهل العلم بالحديث من يذكر أن بعض المحدثين يدخل بين هلال بن يساف ووابصة فيه رجلًا، ومنهم من يرويه عن هلال، عن وابصة، سمعه منه، وسمعت بعض أهل العلم منهم كأنه يوهنه بما وصفت. 909- "وسمعت من يروي بإسناد حسن أن أبا بكر ذكر للنبي، صلى الله عليه وسلم أنه ركع دون الصف، فقال له النبي: "زادك الله حرصًا ولا تعد" فكأنه أحب له الدخول في الصف، ولم ير عليه العجلة

_ 1 الرسالة ص599 - 600. 2 اختلاف الحديث ص57 - 58.

بالركوع حتى يلحق بالصف، ولم يأمره بالإعادة، بل فيه دلالة على أنه رأى ركوعه منفردًا مجزئًا عنه1. 910- وهكذا نحن أمام حديثين مختلفين: أحدهما يحكم على صلاة المنفرد خلف الصف بالبطلان، والثاني يقول: صلاته صحيحة، وإن كانت مكروهة. 911- والحديث الذي رواه الإمام الشافعي ثانيًا حديث ثابت كما يقول، أما الحديث الذي رواه أولًا فهناك شك في ثبوته أو هو متأرجح بين الثبوت وعدمه.. وعلى كل حال سنفترض ثبوته، فأيهما يرجح على الآخر؟ 912- يرى الشافعي أن الحديث الثاني أولى أن يؤخذ به لأن معه القياس وقول العامة "ثم يوضح هذا، فيقول: "فإن قال قائل: وما القياس وقول العامة؟ ... قيل: أرأيت صلاة الرجل منفردًا أتجزئ عنه؟ فإن قال: نعم. قلت: وصلاة الإمام أمام الصف، وهو في صلاة الجماعة؟ فإن قال: نعم. قيل فهل يعدو المنفرد خلف المصلي أن يكون كالإمام المنفرد وأمامه أو يكون كرجل منفرد يصلي لنفسه منفردًا، فالشافعي هنا قاس صلاة المنفرد خلف الصف بصلاة من يصلي وحده أو مع الإمام متقدمًا عليه وهذا جائز، فكذلك الحالة التي معنا، ثم قاس هذا على حكم آخر يدل عليه الحديث، وهو صلاة المرأة منفردة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن مالك أن جدته مليكة دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود ... فنضحته بالماء، فقام عليه رسول الله، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف، وذكر الشافعي طريقًا آخر لهذا الحديث ثم بين ما يهدف إليه وهو أن هذا شبيه بذاك، وبالقياس عليه تتبين صحة صلاة المنفرد خلف الصف فيقول:

_ 1 اختلاف الحديث ص 218 - 219.

"فأنس يحكي أن امرأة صلت منفردة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق في هذا بين امرأة ورجل، فإذا أجزأت المرأة صلاتها مع الإمام منفردة أجزأ الرجل صلاته مع الإمام منفردًا كما تجزئها هي صلاتها"1. 913- وفعل الشافعي مثل ذلك في غير هذا الحديث، فرجح مثلًا حديث ابن الصمة الذي يقول: إن التيمم مسح الوجه واليدين إلى المناكب3 رجح الأول على الثاني؛ لأنه أشبه بالقرآن وأشبه بالقياس بأن البدل من الشيء إنما يكون مثله"4. 914- ورجح حديث أن الحجامة لا تفطر الصائم على حديث آخر يقول: إنها تفطره؛ لأن الأول معه القياس، وهو "أن ليس الفطر من شيء يخرج من جسد إلا أن يخرجه الصائم من جوفه متقيئًا، وأن الرجل قد ينزل غير متلذذ، فلا يبطل صومه. ويعرق ويتوضأ، ويخرج منه الخلاء والريح والبول ويغتسل ... فلا يبطل صومه، وإنما الفطر من إدخال البدن أو التلذذ بالجماع أو التقيؤ، فيكون على هذا إخراج شيء من جوفه كما عمد إدخاله فيه"5. 915- وقد يعبر الشافعي رحمه الله عن القياس بكلمة "المعقول" أي: إذا كان عقلًا هذا الشيء شبيه بذاك فإنه يأخذ حكمه. ويرجح به بعض الأحاديث على بعض، ومثال ذلك مسألة: "من أصبح جنبًا في شهر

_ 1 اختلاف الحديث ص218 - 221. 2 انظر هذا الحديث في سنن أبي داود. طبعة حمص عام "1388هـ - 1969م" بتحقيق عزت عبيد الدعاس حـ1 ص233 - 234. 3 انظر جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي فيما روي عن عمار من أن المسح للوجه والكفين وقال الترمذي فيه: حسن صحيح "حـ1 ص440 - 442"، وما روي عنه أن المسح إلى المناكب والإباط وقال الترمذي: إنه ضعفه أهل العلم، وقال بعضهم: ليس مخالفًا للرواية الأولى؛ لأنه في الثانية لم ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم "ص451". 4 باب التيمم في اختلاف الحديث ص94 - 98 على هامش الأم حـ7. 5 اختلاف الحديث ص238.

رمضان"، فقد روى الشافعي بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا، وأنا أريد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصوم ... ". وروى بسنده ما يخالف هذا، وهو أن أبا هريرة يقول: "من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم". 916- رجح الإمام الشافعي حديث عائشة وحديث أم سلمة الذي هو مثل حديث عائشة: لأنهما زوجتاه وزوجتاه أعلم بهذا من رجل إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا، ولأن عائشة مقدمة في الحفظ وأم سلمة حافظة، ورواية اثنين أكثر من رواية واحد. 917- وبعد أن رجح أحد الحديثين على هذا النحو أيد ذلك بأن الحديث الراجح معه "المعقول" وبين ذلك بقوله: إن الرجل يحتلم في نهار رمضان فيجب عليه الغسل ويتم صومه؛ لأنه لم يجامع في نهار رمضان، فكذلك من يصبح جنبًا؛ لأنه لا يجامع في نهار رمضان ووجوب الغسل لا يفطر1. 918- وماذا قال في الكلب يلغ في الإناء؟. إنه إذا كان بعض الناس قد ادعى أن مالكًا نفى الحديث فيه لأنه يتعارض مع القياس فإن الشافعي، رضي الله عنه قد أكد ثبوته بالقياس حين بين أن ما ذهب إليه مالك من عدم وجوب الغسل يخالف القياس، وكذلك جواز شرب اللبن مما شرب منه الكلب. 919- وحجة مالك أن الكلاب لم تزل في البادية، وهناك من الحرج في منعها عن مثل هذه الأشياء، ورد عليه الشافعي بأن الفأرة مثلًا ألزم لأهل القرية من الكلاب لأهل البادية والكلاب أقل امتناعًا منها وإذا ماتت فأرة

_ 1 اختلاف الحديث ص232 - 235.

أو دابة من دواب البيوت في الماء أو في اللبن في قرية أو بادية تنجسه فكذلك الكلاب، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاسة تكون في الفأرة وهي في البيوت: "وإنما قال في الفأرة قولًا عامًّا وفي الكلب قولًا عامًّا". 920- ونهمس في أذن أستاذنا وأستاذ الجميع الإمام الشافعي: هل الكلام فيما شرب منه كلب حي وفأر حي أو في وقوع كلب ميت أو فأر ميت في شراب أو طعام؟! وهذا يختلف عن ذاك ومن القياس أن يكون هذا له حكم وذاك له حكم آخر. 921- وهكذا استخدام الشافعي، رضي الله عنه القياس بهدف زيادة تثبت الأخبار وزيادة توثيقها، ونعتقد أن هذا هو ما فعله الأحناف والمالكية فظن خصومهم أنهم يستخدمون القياس في نفس السنة، والحق أن الأمر ليس كذلك كما رأينا. 922- ونخلص من هذا بالتعرف على وجه آخر من وجوه العناية بالمتن واستخدام القياس من أجل توثيقه بعيدًا عن السند؛ بل الأمر في وجه من وجوهه توثيق للسند عن طريق المتن حتى يرجح الأمر إلى توثيق المتن نفسه، وترك ما عداه، أو ترك العمل بما عداه في حالة النسخ وهو مربط الفرس كما يقولون. 923- ولعلنا على ذكر من أن بعضهم قال: إن الرواية بالمعنى من غير الفقيه ربما تؤدي إلى تغيير في الحديث وخلل بمعناه الأمر الذي احتاج إلى وضع ضوابط للأداء بالمعنى، فتعميم الراوي من الخطأ في الرواية، وقد وضع هذه الضوابط الذين يجيزون رواية الحديث بالمعنى على حين تشدد الآخرون فلم يجيزوا الرواية بالمعنى ولكل حجته، وهذا ما سنفصله فيما يلي - بإذن الله عز وجل وفضل منه سبحانه وتعالى.

الفصل السادس: الرواية بالمعنى

الفصل السادس: الرواية بالمعنى 924- يقول الخطيب البغدادي: إن كثيرًا من السلف وأهل التحري في الحديث رأوا أنه لا تجوز رواية الحديث بمعناه، بل تجب المحافظة على ألفاظه كما صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تلقاها كل راو من زميله. وممن ذهب إلى ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم عبد الله بن عمر فقد روى عبيد بن عمير أن ابن عمر كان جالسًا مع أبيه وعندهم مغيرة بن حكيم -رجل من أهل صنعاء- إذ قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المنافق مثل الشاة بين الربَّيضين" 1 من الغنم" فقال عبد الله لو علمت علمه، علمت أنه لم يقل إلا حقًّا ولم يتعمد الكذب، فقال: إنه لثقة، ولكني شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال هذا، قال: كيف يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق مثل الشاة بين الغنمين". فقال عبيد بن عمير هي واحدة إذا لم يجعل الحرام حلالًا والحلال حرامًا، فلا يضرك أن قدمت شيئًا أو أخرته، فهو واحد2. 925- وهذه القصة مع دلالتها على تمسك ابن عمير بلفظ الحديث وأدائه دون تغيير في ألفاظه بما لا يغير المعنى، فإنها تشير إلى اتجاه آخر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أنهم يجوزون رواية الحديث بالمعنى ما دام ذلك لا يغير "أو لا يجعل الحرام حلالًا والحلال حرامًا" كما يعبر الصحابي عبيد بن عمير. وسننتقل إلى هذا الاتجاه بعد قليل. 929- وقد روي هذا عن الإمام مالك رضي الله عنه، فقد سأله أحد تلاميذه عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد؟ ... قال: أما ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أكره ذلك وأكره أن يزاد فيه أو ينقص3.

_ 1 الربيض: الغنم نفسها، والربض: موضعها الذي تربض فيه، أراد أنه مذبذب كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مربضيهما. "النهاية". 2 الكفاية ص 268 - 269. 3 جامع بيان العلم وفضله حـ1 ص97.

927- وقد حكى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يحب أن يحدث بالألفاظ "أي يتمسك بألفاظ الحديث ولا يغير فيها"1. 928- وروي هذا أيضًا عن القاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوه"2. 929- وحجة أصحاب هذا الاتجاه أن الحديث بالمعنى وعدم التمسك بألفاظ الرسول، صلى الله عليه وسلم قد يغير مما أراده، خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم والفصاحة في البيان ما هو نهاية لا يدركه فيه غيره، ففي التبديل بعبارة أخرى لا يؤمن التحريف أو الزيادة والنقصان فيما كان مرادًا له3. 930- ومن حجتهم كذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "نَضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" فقد أمر صلى الله عليه وسلم بمراعاة اللفظ في النقل، وبين المعنى فيه وهو تفاوت الناس في الفقه والفهم، واعتبار هذا المعنى يوجب الحجر عامًّا عن تبديل اللفظ بلفظ آخر4. 931- ومن حجتهم أيضًا ما يرويه الإمام أحمد بسنده عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أويت إلى فراشك، فتوضأ ونم على شقك الأيمن وقل: "اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة". قال البراء: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت ... "آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت "وبرسولك" قال: "لا، وبنبيك الذي أرسلت" 5 ... قال أصحاب هذا الاتجاه: أفلا ترى أنه لم

_ 1 الكفاية "م" ص259. 2 معرفة السنن والآثار حـ1 ص44. 3 أصول السرخسي حـ1 ص355. 4 أصول السرخسي حـ1 ص355 والمحدث الفاصل:"المخطوط" ص346. 5 المسند حـ4 ص392 - 393.

يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ؟ ولم يجز تبديل كلمة "بنبيك" بكلمة "برسولك"؟ مع أن المعنى لا يتغير بهما1؟ 932- ولكن الواقع أن من ذهبوا إلى هذا قليلون وليسوا كثيرين كما يقول الخطيب -وربما هذا هو ما جعل السرخسي يصف هذا الاتجاه بأنه "قول مهجور"2. 933- وبعض الروايات التي رويت عمن قيل عنهم ذلك تحتمل أحد أمرين: الأمر الأول: أن إنكارهم كان على الزيادة والنقصان في الحديث وهذا بطبيعة الحال -يستدعي التغيير في المعنى في غالب الأمر، ومن هذا ما رواه الخطيب بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي قال: "لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد ولا ينقص ولا مثل عبد الله بن عمر"3. الأمر الثاني: هو الكراهة فقط أو استحباب الرواية على اللفظ ولا يتعدى ذلك إلى رفض الرواية بالمعنى، ولهذا فسر أئمة المالكية قول مالك السابق بأنه "على الاستحباب" وأن "الأولى والمستحب المجيء بنفس اللفظ ما أستطيع"4 وقد عبر مالك نفسه عن هذا الاستحباب بقوله: "فأحب أن يؤتي به على ألفاظه"5 ومما يؤكد ذلك أنه أجاز زيادة الواو أو الألف إذا كان ذلك لا يغير المعنى6 ومما يؤكد ذلك أيضًا أن القاضي عياضًا قد عده من المجيزين لرواية الحديث بالمعنى أي من أصحاب الاتجاه الثاني.

_ 1 الكفاية "م" ص27. 2 أصول السرخسي حـ1 ص355. 3 الكفاية "م" ص265. 4 الإلماع ص179. 5 المصدر السابق ص180. 6 ترتيب المدارك حـ1 ص148.

934- ويحمل على هذا الأمر كذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من سمع حديثًا فحدث به كما سمع فقد سلم" أي الأحوط أن يحدث به على لفظه وهذا ما لا يختلف فيه1. 935- وأصحاب هذا الاتجاه كما لا يجيزون الرواية بالمعنى لا يجيزون تقديم كلمة على كلمة، فابن عمر رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: على أن تعبد الله، وتكفر بما دونه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصيام رمضان". فقال الرجل: نعبد الله ونكفر بما دونه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، قال: لا: أجعل صيام رمضان آخرهن -كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم2. 936- وابن عمر أيضًا لم يجز زيادة حرف واحد وإن كان لا يغير المعنى فقد روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا على القوم المعذبين -يعني حجر وثمود- إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم - أو قال: يصيبكم مثل ما أصابهم3. 937- وقد عبر الشعبي عن هذا بقوله: "كان هذا العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واوًا أو ألفًا أو دالاً4. 938- وقد غالى بعض أصحاب هذا الاتجاه فرأى ألا يصحح لحنًا وقع في الحديث من أحد الرواة قبل أن يأتي إليه"5. 939- وقال أصحاب هذا الاتجاه: إن رواية الحديث على النقصان والحذف لبعض متنه غير جائزة؛ لأنها تقطع الخبر وتغيره، "فيؤدي ذلك إلى إبطال معناه وإحالته"،وكان بعضهم لا يستجيز أن يحذف منه حرفًا

_ 1 الكفاية "م" ص 267. 2، "3" و"4" و"5" الكفاية "م" على التوالي ص271، 274 و280 - 284.

واحدًا، يقول عبد الملك بن عمير: "110هـ" "والله إني لأحدث بالحديث، فما أدع منه حرفًا"1 وقال الخليل بن أحمد: لا يحل اختصار حديث النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "رحم الله امرأ سمع منا حديثًا فبلغه، كما سمعه" 2. 940- وروى عن مالك أنه كان لا يرى أن يختصر الحديث، وقال أبو عاصم النبيل: يكره ذلك؛ لأنهم يخطئون المعنى3. 941- وإذا كان أصحاب هذا الاتجاه قليلين -كما رأينا- فإن الغالبية العظمى، وجمهور السلف والخلف -قد أجازوا رواية الحديث بمعناه ومن هنا رأينا كثيرًا من الأحاديث الصحيحة أتت بألفاظ وعبارات مختلفة. 942- وممن ذهب إلى ذلك من الصحابة واثلة بن الأسقع وابن مسعود وأنس وغيرهم. ومن التابعين الحسن البصري وابن عون والشعبي. روي عن الحسن أنه كان يحدث اليوم بحديث، ويعيده من الغد فيزيد فيه أو ينقص منه غير أن المعنى واحد "وقيل: لإبراهيم النخعي: إنا نسمع منك الحديث فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه، قال: أرأيتك إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال: نعم، قال: فهكذا كل ما نحدث. وروى ابن عون قال: كان الحسن والشعبي وإبراهيم يحدثون مرة هكذا ومرة هكذا، ويقول ابن عون أيضًا: لقيت منهم من كان يحب أن يحدث الحديث كما سمع، ومنهم من لا يبالي إذا أصاب المعنى4. 943- وممن روي عنه في القرن الثاني ذلك الزهري الذي يقول: إذا أصبت المعنى فلا بأس5 والإمام الشافعي وأبو حنية ومالك6 رضي الله عنهم جميعًا وكذلك جعفر بن محمد وسفيان الثوري وسفيان ابن عيينه، وحماد بن زيد ويحيى بن سعيد القطان7.

_ 1 و2 و3 الكفاية "م" على التوالي: 289، 290، 291. 4 المحدث الفاصل ص348 - 350. 5 كتاب العلم لابن أبي خيثمة ص134. 6 الإلماع "التحقيق" ص187 عن الإكمال لشرح كتاب مسلم بن الحجاج في الصحيح ل3 أ. 7 الكفاية "م" ص314 - 316.

944- وقد ذكر الخطيب البغدادي من حجة هؤلاء أحاديث بطرق ضعيفة مضطربة، قال السخاوي في بعضها: "إنها مضطربة لا تصح" ورواها الجوزجاني في الموضوعات. 945- واستدل الشافعي رضي الله عنه لذلك بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه"، فإذا كان الله تعالى رحمة منه بخلقه -أنزل كتابه على سبعة أحرف لتحل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم منه فغير كتاب الله تعالى أولى لأن تجوز فيه الرواية بالمعنى ما لم يتغير المعنى بتغير اللفظ، يقول مبينًا ذلك: "فإن كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف، معرفة منه بأن الحفظ قد يزل ليحل لهم قراءته، وإن اختلف اللفظ فيه، ما لم يحل معناه. وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه2. 946- وقد روي ما هو شبيه بهذا عن يحيى بن سعيد القطان حيث قال: أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ؛ لأن القرآن أعظم حرمة، ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحدًا3. 947- بالإضافة إلى هذا فنظم الحديث ليس بمعجزة، والمطلوب منه ما يتعلق بمعناه وهو الحكم من غير أن يكون له تعلق بصورة النظم وقد علمنا أن الأمر بالتبليغ لما هو مقصود به، فإذا أكمل بذلك بالنقل بالمعنى كان ممتثلًا لما أمر به عن النقل لا مرتكبًا للحرام، وإنما يعتبر النظم في نقل القرآن، لأنه معجز مع أنه قد ثبت فيه أيضًا نوع رخصة كما رأينا4. 948- ومن حجة أصحاب هذا الاتجاه أيضًا اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم على روايتهم لبعض الأوامر والنواهي بألفاظهم، مثل ما روى

_ 1 تدريب الراوي حـ2 ص99. 2 الرسالة ص174. 3 الكفاية ص316. 4 أصول السرخسي حـ1 ص356.

صفوان بن عسال المرادي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا إذا كنا سفراء ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها.. وما روى أبو محذورة رضي الله عنه أنه عليه السلام أمره بالترجيع.. وما روى عامر بن سعيد بن أبيه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا، وما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا إلى غير ذلك من الأمثلة. 949- وكانوا رضوان الله عليهم ينقلون الحديث الواحد الذي جرى في مجلس واحد في واقعة معينة بألفاظ مختلفة، مثل ما روي في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد ودعا بعد الفراغ، فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم بعدنا أحدًا. لقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعًا" وروي: "لقد ضيقت واسعًا" وروي كذلك: "لقد منعت واسعًا". 950- ومثل الحديث الذي اتخذه أصحاب الاتجاه الأول: "نَضّر الله امرأ" لقد روي: "فرب حامل فقه لا فقه له" مكان "غير فقيه" ولم ينكر عليهم أحد في كل ذلك. "فكان ذلك إجماعًا منهم على الجواز"1. 951- وقد روي عن ابن مسعود وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون عند الرواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوًا منه أو قريبًا منه، ولم ينكر عليهم ذلك أحد "فكان إجماعًا على الجواز أيضًا". 952- وهؤلاء الصحابة كان بعضهم لا يكتب ما يسمعه، وما رواه إلا بعد سنين، وهذا فيه دلالة على أنهم كانوا يعددون رواياتهم؛ لأنهم كانو يروونها2 بالمعنى. 953- وإذا كانت هذه الروايات تدل على ما نحن بصدده، بمفهومها

_ 1 كشف الأسرار حـ3 ص776. 2 كشف الأسرار 3/ 776.

فإن هناك بعض الروايات عن الصحابة تدل نصًّا على جواز الرواية بالمعنى؛ لأنهم كانو يفعلون ذلك، فقد سئل واثلة بن الأسقع أن يحدث بعض أصحابه أو تلاميذه، بحديث ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان؟ فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئًا؟.. قالوا: نعم، وما نحن له بحافظين جدًّا.. إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: "هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظًا، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة؟.. حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى"1. 954- كما روى البيهقي بسنده عن جابر بن عبد الله قوله: "إنا قوم عرب نردد الأحاديث فنقدم ونؤخر"2. وروى الإمام الشافعي أن بعض التابعين قال: "لقيت أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتهدوا في المعنى واختلفوا على ما في اللفظ، فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحيل المعنى"3. 955- ومن حجتهم أيضًا أن الأمة قد اتفقت على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم وللسامع لقوله أن ينقل هذا المعنى بغير اللغة العربية وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه، مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله، لا سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين، فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه إلى ترجمان، وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان، لأنه لا يأمن الغلط وقصد التحريف على الترجمان، فيجب أن يرويه بنفسه، وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه، وامتثال موجبه دون إيراد نفس لفظه وصورته؛ لأنه إذا جاز الإبدال بلغة أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى4.

_ 1 تدريب الراوي 2/ 100. 2 المصدر السابق نفسه. 3 الرسالة ص275. وراجع التحقيق في الهامش في بيان عدم حذف الياء في "يحيل" وأن ذلك لغة. 4 الكفاية "م" 203 - تدريب الراوي 2/ 100.

956- ومن حجتهم كذلك أن الله تعالى قد قص من أنباء ما قد سبق قصصًا كرر ذكر بعضها في مواضع مختلفة بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والزيادة وقد روي هذا عن الحسن البصري1. 957- وكما أقام أصحاب هذا الاتجاه حججهم فقد استداروا إلى مخالفيهم يردون عليهم ما احتجوا به في عدم جواز رواية الحديث بالمعنى. ويروي الرامهرمزي ما رد به هؤلاء على مخالفيهم الذين استدلوا بحديثين صحيحين -كما عرفنا- وفي الحديث الأول استدلوا بعبارة: "فأداها كما سمعها" ويبين المجيزون أن المراد "فأدى حكمها لا لفظها؛ لأن اللفظ غير معتد به، ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: "فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وفي الحديث الثاني استدلوا برد الرسول صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب من "برسولك" إلى "بنبيك" كما علمه أولًا. ويرد المجيزون بأن كلمة "النبي" تحمل معنى زائدًا، ففيها زيادة مدح ولكل نعت من النعتين موضع؛ لأن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام، وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة جميعًا، فلما قال: وبنبيك الذي أرسلت" جاء بالنعت الأكثر مدحًا وقيده بالرسالة، بقوله: "الذي أرسلت" فكأن المعنى يتغير، ولهذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم. 958- أضف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المعلم للصحابي الدعاء، وإنما القول هنا في اتباع اللفظ إذا كان المتكلم هو الذي يحكي كلام غيره. 959- وأيضًا فالأسلوب بقوله: "ورسولك الذي أرسلت" يصير ركيكًا لأنه من المستقبح في الكلام أن تقول: "هذا رسول الله الذي

_ 1 المحدث الفاصل "مخطوط" ص 345 - 346.

أرسله"، "وهذا قتيل زيد الذي قتله"؛ لأنه كان يكفي أن تقول: "رسول فلان" ولا حاجة إلى إعادة اسم المرسل والقاتل1. 960- ولكن: هل المجوزون لرواية الحديث بالمعنى يرسلونها هكذا إرسالًا دون ضوابط أو قيود؟! كيف ذلك وهم كغيرهم يحرصون على أن ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحريف أو تبديل؟ ولهذا فليس عجبًا أن نراهم يضعون من القيود والضوابط ما يحقق ذلك على الرغم من ترخيصهم في الرواية بالمعنى. 961- وقد لاحظنا بعضًا من ذلك في آخر كلام الشافعي السابق الذي يجوز فيه الرواية بالمعنى ويقيم الحجة له إذا قال: "ما لم يحل المعنى". 962- والحق أنه أول من عبر عن هذه القيود والضوابط -على ما نعلم- بصورة مفصلة، حيث رأى أنه لا بد لمن يؤدي الحديث أن يكون عاقلًا يفهم معنى الحديث "فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى كان غير عاقل للحديث فلم نقبل حديثه، إذا كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممن يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى"3. 963- ويحكي الخطيب أن هذا ليس خاصًّا بالشافعي، وإنما هو شرط عند جمهور الفقهاء؛ وأنه "ليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام، وموقع الخطاب والمحتمل منه وغير المحتمل"3. 964- ويضيف الشافعي إلى هذا القيد قيدًا آخر وهو أن يكون الراوي عالمًا بما يغير المعاني من الألفاظ؛ أي يفهم الفروق بين الألفاظ ومعانيها، وكذلك الأساليب؛ لأنه إذا لم يكن كذلك ربما يغير المعنى بتغيير اللفظ أو الأسلوب، فيحل الحرام ويحرم الحلال، يقول الإمام الشافعي مبينًا

_ 1 المحدث الفاصل "المخطوط" ص347 - 348. 2 الرسالة ص381. 3 الكفاية "م" ص300.

الشرطين معًا: "ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا: منها أن يكون من حدث به ... عاقلًا لما يحدث به عالمًا بما يحيل معاني الحديث من اللفظ؛ وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث"1. 965- وليست كل الأحاديث عند الشافعي تجوز فيها الرواية بالمعنى، وإنما ذلك خاص بغير أحاديث الأحكام؛ لأن هذا يؤدي اختلاف اللفظ فيها إلى تغيير المعنى واختلافه في غالب الأمر، وقد سبق قوله" وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه2. 966- ويعتبر هذا شرطًا آخر من شروط الرواية بالمعنى عنده وقد مثل لهذا بأحاديث التشهد التي ورد كل منها بألفاظ مختلفة عما في الأخرى، فقال: "ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعًا وألا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ذكرت، ومثل هذا كما قلت يمكن في صلاة الخوف، فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه"3. 967- ولا يقل هذا الشرط أهمية عن الشروط السابقة؛ لأن أحاديث الأحكام تستنبط منها الأمور الفقهية، وهذا الاستنباط يعتمد في كثير من الأحيان على الألفاظ وما تدل عليه من معان ظاهرة أو خفية4. 968- وقد ضيق الشافعي بهذه الشروط من دائرة الأحاديث التي تجوز فيها الرواية بالمعنى؛ لأن أحاديث الأحكام بلا شك أكثر من الأحاديث الأخرى؛ ولأن الرواة الفاهمين لأسرار اللغة العربية أقل من غيرهم ولهذا

_ 1 الرسالة ص 370 - 371. 2، 3 المصدر السابق ص 174 - 276. 4 انظر نصب الراية حـ4 ص200.

نجده في بعض الأحيان ينهى مطلقًا عن الرواية بالمعنى حتى يتسنى للناس أن ينهلوا من الحديث كما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه. يقول: "لا يجوز لأحد أن يختصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي ببعض الحديث ويترك بعضه، يحدث بالحديث كما روي عنه بألفاظه؛ ليدرك كل مما سمع منا ما فهمه الله تبارك وتعالى"1. 969- وقد قدم أصوليو الأحناف قيودًا فيها بعض الشبه مما قاله الشافعي، قال السرخسي: إن الخبر إذا كان محكمًا له معنى واحد معلوم بظاهر المتن، يجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالمًا بوجوه اللغة؛ لأن المراد به معلوم حقيقة، وإذا عبر الراوي بعبارات أخرى في أدائه لا تتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان. 970- أما إذا كان ظاهرًا يحتمل غير ما ظهر من معناه كالعلم الذي يحتمل الخصوص والحقيقة التي تحتمل المجاز؛ فإنه لا تجوز روايته على المعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة العلم بفقه الشريعة وطريق الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لا يؤمن عليه أن ينقله إلى ما لا يحتمل ما احتمله اللفظ الأصلي له من خصوص أو مجاز، ولعل العبارة التي يروي بها تكون أعم من تلك لجهله الفرق بين العام والخاص "فإذا كان عالمًا بفقه الشريعة يقع الأمن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة، فيجوز له النقل بالمعنى كما كان يفعله الحسن والنخعي والشعبي رحمهم الله"2. 971- ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" فموجبه العموم؛ لأن كلمة من "تتناول الذكر ولأنثى والصغير والكبير، لكن المراد منه محتمله وهو الخصوص إذا الأنثى والصغير والكبير، ليسا بمرادين منه لما عرف، فلو لم يكن للناقل معرفة ربما ينقله بلفظ لم يبق فيه احتمال الخصوص، بأن قال مثلًا: كل من ارتد فاقتلوه ذكرًا كان أو أنثى وحينئذ

_ 1 مناقب الشافعي حـ2 ص30. 2 أصول السرخسي حـ1 ص 356.

يفسد المعنى، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وضوء لمن لم يسم". فإن موجبه وحقيقته نفي الجواز، ومحتمله نفي الفضيلة، والمحتمل هو المراد لدلائل دلت عليه، فلو لم يكن الناقل بالمعنى فقيهًا ربما ينقله بلفظ لا يبقى فيه هذا الاحتمال بأن يقول مثلًا: "لا يجوز وضوء من لم يسم" فيتغير الحكم ويفسد المعنى1. 972- وإذا كان الحديث من باب المشكل أو مشتركًا يعرف المراد منه بالتأويل أو مجملًا لا يعرف المراد منه إلا ببيان أو متشابهًا أو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم -فإنه لا تجوز الرواية عندئذ "حينئذ" بالمعنى. 973- فأما المشكل والمشترك فلا يجوز نقلهما بالمعنى لأن المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس، فلا يكون حجة على غيره. 974- وأما المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى؛ لأنه لا يتوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر والمتشابه كذلك: لأنا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه، فكيف يتصور نقله بالمعنى. 975- وأما ما يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كقوله: "الخراج بالضمان". و "العجماء جبار" وما أشبه ذلك، فقد جوز بعض الحنفية نقله بالمعنى ولم يجوزه بعضهم الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بهذا النظم؛ ولإحاطة الجوامع بمعان قد تقصر عنها عقول ذوي الألباب. ويقول السرخسي: إن هذا كان هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثم أداها كما سمعها" 2. 976- ويعني أصحاب هذا الاتجاه الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى أجازوا النقصان فيه إذا كان الراوي قد رواه مرة أخرى بتمامه، أو علم أن غيره قد رواه على هذا التمام، ولا يجوز له ألا يعلم ذلك ويفعله، وممن فعل ذلك الإمام سفيان الثوري، فقد كان يروي الأحاديث على الاختصار،

_ 1 كشف الأسرار حـ3 ص778. 2 أصول السرخسي حـ1 ص357 - أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار حـ3 ص 777 - 778.

لمن قد رواها له على التمام لأنه كان يعلم منهم الحفظ والمعرفة بها، يقول أحد تلاميذه "علمنا سفيان الثوري اختصار الحديث1". 977- وقال كثير من العلماء يجوز الاختصار على كل حال ولا يقتصر على أنه رواه قبل ذلك تامًّا2. - وهذا بطبيعة الحال مشروط بالشرط الأساسي في الرواية بالمعنى وهو ألا يؤدي ذلك أو غيره إلى إحالة معنى الحديث وتغيره يقول الخطيب البغدادي: "وإن كان النقصان من الحديث شيئًا لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك"3 ويقول القاضي عياض مبينًا ذلك أيضًا: "وكذلك جوزوا رواية بعض الحديث إذا لم يكن مرتبطًا بشيء قبله ولا بعده ارتباطًا يخل بمعناه، وكذلك إن جمع الحديث حكمين أو أمرين كل واحد مستقل بنفسه غير مرتبط بصاحبه فله الحديث بأحدهما. وعلى هذا كافة الناس ومذهب الأئمة"4. 978- ومن باب أولى -في هذا الاتجاه ينبغي أن يصحح كل لحن أو خطأ لغوي يقع في الحديث. وقد نبه على ذلك من أهل القرن الثاني الأوزاعي وحماد بن سلمة وعفان وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وابن معين وأحمد بن حنبل5. 979- وبعد -فلعلنا على ثقة بعد هذا الفصل من أن علماءنا قد عنوا بمتن الحديث في هذا الباب عناية كبيرة، ولاحظوا هل يتغير المعنى أو لا، أما عند المجيزين للرواية بالمعنى فأمرهم ظاهر واضح، وأما الآخرون فقد وضعوا من القيود كما رأينا ما يعصم من تغيير معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نغالي إذا قلنا: إن جوازهم كان في أقصر الحدود.

_ 1 الكفاية "م" ص293. 2، 3 الكفاية "م" ص 289، 293 على التوالي. 4 الإلماع ص 187 "التحقيق" عن الإكمال لشرح مسلم ل3-أ "وهو مخطوط". 5 الكفاية "م" ص 296 - 298.

الخاتمة

الخاتمة: وفي نهاية المطاف نلخص أهم ما وصلت إليه هذه الرسالة من نتائج ومقترحات: في القسم الأول: 1- كانت هناك مزاعم وشبهات أثيرت حول نقل السنة، وشككت في هذ النقل حتى المتواتر منه في القرن الثاني الهجري.. وطالعنا الجهود التي بذلها أئمة هذا القرن، وخاصة ما سمي حقًّا بناصر السنة الإمام الشافعي رضي الله عنه.. فقد رأى في هذه الشبهات أسلحة يشهرها الحاقدون على دين الله عز وجل وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فانتضى للرد عليهم، وإثبات أن السنة نقلت نقلًا صحيحًا، سواء أكان ذلك بالتواتر أم بالآحاد من الرواة.. وعلى هذا فحجيتهما ثابتة، ومن الواجب على المسلمين أن يأخذوا بها مصدرًا من مصادر التشريع، كما فعل الصحابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وكما فعل التابعون من بعدهم، "الفصل الأول". 2- إن علماء القرن الثاني قد اشترطوا في الراوي، حتى يصح حديثه، أن يكون مسلمًا، عاقلًا، عدلًا، ضابطًا، ووقفوا طويلًا عند العدالة والضبط باعتبارهما مؤثرين أساسيين في الرواية ... ورأوا أن أحاديث الكذابين في أحاديث الناس، أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقبولة، وأفاضوا في ذكر صور الكذابين وحيلهم وخدعهم، كما رأى الكثيرون منهم أن أحاديث الدعاة من أهل الأهواء والبدع، والفساق، والسفهاء غير مقبولة كذلك؛ لأن الذي يخالف معتقد الجماعة أو يخرج عن تعاليم دينه أو عن قواعد المروءة لا يستبعد أن يكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأوا أن الذي لا يضبط أحاديثه ليس جديرًا بأن تقبل روايته؛ لأنه سيخطئ ويغير فيها ... ولما كان الضبط يتناول الحفظ في الذاكرة أو في

الكتاب، وكان الأخير يعلب دورًا هامًّا في حفظ الأحاديث وضبطها ابتداء من القرن الثاني الهجري -فإنهم وقفوا طويلًا عند الكتاب -كما رأينا -يبينون الشروط والأسس التي تجعله جديرًا برواية الأحاديث ... ويميزون الكتب التي نقلت الأحاديث الصحيحة الموثقة من غيرها التي حرفت في الأحاديث أو زادت فيها ما هو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يوضح أن الأحاديث لم تنقل بالذاكرة فقط -كما يتبادر إلى أذهان كثير من الدارسين- وإنما سار معها وصاحبها الكتاب، يشد أزرها، ويعينها في ضبطها وحفظها، أو يقوم مقامها إذا لم تحفظ الأحاديث. ولعل هذه الرسالة قد جمعت خطوط صورة واضحة المعالم والسمات عن دور الكتاب في حفظ السنة ... لم يكن دوره كما تصور البعض دور الرسالة "لا غير، لمساعدة الذاكرة"1 وإنما كان أكبر من دور الذاكرة والحافظة في نقل الروايات؛ لأن الكتاب لا ينسى ولا يخطئ بعد ما يقابل ويراجع ويحفظ من أن تمتد إليه يد أثيمة -كما قد تنسى الذاكرة أو تخطئ. "الفصل الثاني". 3- أدركنا مدى عناية أهل القرن الثاني الهجري بمناهج التحمل التي تكفل للحديث أن ينقل نقلًا صحيحًا.. والشروط التي ينبغي أن تتوافر في كل منهج من هذه المناهج.. كما رأينا أهمية الكتاب مرة ثانية في نقل الحديث عند تحمله.. "الفصل الثالث". 4- أكد أئمة القرن الثاني على الأسانيد المتصلة في نقل الحديث إذ بها يعرف الرجال الذين نقوله فيوزنون بموازين توثيق الرواة، فإذا عرف ضبطهم وعدالتهم قبلت أحاديثهم، إلا رفضت أو توقف فيها. أما الأسانيد المنقطعة أو المراسيل -كما عبر أهل القرن الثاني عنها- فقد اختلفت الاتجاهات في قبولها وعدمه -في هذا القرن -فمنها ما يقبلها إذا توافرت شروط الرواة فيمن أرسلوها، وثبت أنهم أخذوها بوجوه

_ 1 دار المعارف الإسلامية 7/ 346.

التحمل القويمة والمعتمدة عند أئمة الحديث والفقه.. وفي هذا الاتجاه نرى الإمام مالكًا، كما نرى المتقدمين من مدرسة الأحناف وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.. ومنها ما يقبلها بشروط خاصة ضيقت من دائرة الأحاديث المرسلة المقبولة، وفي هذا الاتجاه -بل وصانعه- الإمام الشافعي رضي الله عنه.. ومنه ما يرفضها مطلقًا، ولا يرضى إلا بأن تكون الأحاديث متصلة السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ورأينا دوافع هذه الاتجاهات وأسباب اختلافه وحجج كل منها وبعض الأحاديث التي وثقتها تبعًا لمقاييسها. "الفصل الرابع". وفي القسم الثاني: 1- رأينا الأحناف يعرضون أخبار الآحاد على كتاب الله الكريم فما وافقه منها قبلوه، وما خالفه دل على أنه غير صحيح.. ورأينا رأي الشافعي الذي خالف الأحناف فيما ذهبوا إليه؛ لأن الحديث إذا صح نقله فلا يقال فيه: "لم وكيف" وإنما الواجب هو إزالة ما يبدو من تعارض أو خلاف، وأن نطيع الرسول فيما يأتي به من أحكام زائدة على الكتاب أو مخصصة لعامه أو مقيدة لمطلقه. كما رأينا الإمام الشافعي في مناقشة للأحناف قد سلك نفس الطريق الذي ساروا فيه، فتناول معاني الأحاديث التي ردوها ووثقها من خلال متنها وموضوعها.. كما أنه استخدم هذا المقياس في زيادة توثيق الأحاديث وتأكيد صحتها. وفي هذا أيضًا عناية بمتن الحديث ونقد داخلي له. "الفصل الأول". 2- ورأينا عرض الأحناف أحاديث الآحاد على السنة المشهورة وحكمهم بعدم صحة ما يتعارض مع الأخيرة.. ورأينا وجهة النظر المقابلة عند الإمام الشافعي الذي رفض هذا المقياس كأساس في رفض بعض الأحاديث واستخدمه في تأكيد ثبوت بعضها فقط. "الفصل الثاني". 3- وعرض الأحناف أحاديث الآحاد على ما هو مشهور بين الصحابة وعلى عملهم وعلى فتاواهم، وقد رأى الأحناف أن الحديث إذا كان مما

تعم به البلوى، ومع هذا لم يشتهر عند الصحابة ومن بعدهم لا يكون صحيحًا، وكذلك إذا اختلفوا في موضوعه ولم يتحاجوا به.. ولم يوافقهم الإمام الشافعي في هذا لأن الصحابة قد جهل بعضهم السنن فعمل بخلافها، فليس عمل الصحابي بخلاف الحديث دليلًا على عدم صحته، وإنما هو دليل فقط على عدم عمله، وضرب الأمثلة الكثيرة على ذلك.. وهنا رأينا الإمام الشافعي ينهج نهج الأحناف في البحث في متن الحديث وموضوعه.. ويستخدم هذه المقاييس في تأكيد ما ثبت نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "الفصل الثالث". 4- وعرض بعض أصحاب مالك أحاديث الآحاد على عمل أهل المدينة، ورأوا أن المدينة -وقد ورثت عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته جديرة أن يكون عملها -في القرن الثاني- حاكمًا على أحاديث الآحاد صحة وردًّا.. وعرفنا موقف الإمام مالك الصحيح من هذه القضية على غير ما فهمه بعض الدارسين، وهو أنه لا يقدم على الحديث الصحيح عملًا في المدينة أو في غيرها من باب أولى -كما طالعنا مناقشة الأئمة: الليث بن سعد، ومحمد بن الحسن الشافعي -من أخذوا بهذا المقياس.. وفي مناقشتهم هذه تتجلى النظرات الدقيقة في معاني الأحاديث وتوثيقها من خلال متونها ومن داخلها -إن صح هذا التعبير. "الفصل الرابع". 5- ورأى البعض العلماء في القرن الثاني عرض أخبار الآحاد على القياس، ورأينا أن بعض الأئمة الذين نسب إليهم ذلك مثل مالك وأبي حنيفة وصاحبيه لا يفعلون ذلك في الحقيقة، ولا يتركون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقياس؛ قطعي أو غير قطعي، وكذلك فعل الإمام الشافعي. "الفصل الخامس". 6- أجاز كثير من العلماء رواية الأحاديث بالمعنى، ولكنهم ضيقوا من دائرة الأحاديث التي يجوز فيها ذلك، ووضعوا شروطًا من شأنها أن تحفظ للحديث معناه، وما يشير إليه من دلالات قريبة أو بعيدة ونطالع في هذا الصدد العناية الكبيرة من المحدثين والفقهاء بمتن الحديث كما طالعناه في كل فصول هذا القسم الأخرى. "الفصل السادس".

7- إن المحدثين والفقهاء -كما رأينا من فصول هذه الرسالة -لم يألوا جهدًا في سبيل حماية السنة والمحافظة على نقائها وصفائها.. ووضعوا المقاييس الدقيقة التي تصونها من الكذابين والمحرفين والمبدلين، ولسنا مغالين -بعد هذه الدراسة- إذا قلنا: إن العبقرية الإسلامية التي أنتجت هذه المقاييس كانت عبقرية فذة.. ولعل أمة من الأمم لم تبدع ما أبدعته في هذا المجال. 8- إن فرية كاذبة حاقدة أثيمة أطلقت على السنة وعلى رجالها يوم قالوا: إن العناية بالسنة لم تتعد الناحية الشكلية وهي نقد الأسانيد1، فقد رأينا، وعلى امتداد نصف هذه الرسالة، وبدراسة موضوعية -ما أمكن الباحث ذلك- أن علماء المسلمين قد غاصوا في متون السنة، ووقفوا عندها طويلًا، حتى يميزوا بين الصحيح وغيره، ولا تقل جهودهم في هذا المجال عن جهودهم في توثيق السنة من حيث نقلتها وأسانيدها. 9- إنه من الواضح تمام الوضوح -من الأسس التي عرضناها وعرضنا تطبيقاتها- أن الحديث الذي قبله المحدثون والفقهاء هو ما كان وثيق الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبلوا من الحديث غير ذلك، ولم

_ 1 قال بعضهم: "ولا شك أنه شتان ما بين النقد الظاهر للأسانيد وعصمة علم الحديث من الخطأ، بالرغم من الدقة التي أحيط هذا العلم بها، ويزيدنا ثقة بذلك أن علم الحديث لم يجرؤ قط على أن يقرن النقد الباطن للمتن ذاته بالنقد الظاهر للأسانيد" "فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، لويس غرديه - ج قنواتي، تعريب صبحي الصالح -فريد جبر- دار العلم للملايين - بيروت 3/ 196 - 197". وقال بعضهم: "ومن السهل أن يفهم أن وجهات نظرهم في النقد ليست كوجهات النظر عندنا، تلك التي تجد لها مجالًا كبيرًا في النظر في تلك الأحاديث التي اعتبرها النقد الإسلامي صحيحة غير مشكوك فيها، ووقف حيالها لا يحرك ساكنًا" "العقيدة والشريعة في الإسلام، تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي -أجناس جولد تسهير نقله إلى العربية وعلق عليه د. محمد يوسف موسى- د. علي حسن عبد القادر - عبد العزيز عبد الحق. الطبعة الثالثة، دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد".

يكن -كما ادعى بعض المستشرقين- "تتجلى فيه جهود الأمة الإسلامية في عملها الشخصي الخالص"1. 10- إن الفقهاء الأربعة مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رحمة الله عليهم جميعًا لم يقدموا على السنة شيئًا غير كتاب الله الكريم. وليس حقًّا ما يقال من أن بعضهم قدم القياس أو عمل بلد معين مهما ارتفع شأنه أو قول شخصي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما بلغ قدره. 11- إن ما قيل من أن اختلاف ألفاظ الحديث قد أدى إلى اختلاف المعاني فيه2 -كذب وبهتان- فقد رأينا مدى تضييق العلماء من دائرة ما يروى بالمعنى، كما رأينا الأسس الدقيقة التي وضعها العلماء لتراعى عند رواية الحديث بغير ألفاظه، كما رأينا كذلك اشتراطهم ضبط الراوي وحفظه وعدم تغييره أو زيادته في الأحاديث. 12- إن هذه الدراسة قرنت بين جهود المحدثين والفقهاء في توثيق السنة على صعيد واحد -بطريقة منهجية متأنية فاحصة مدققة ما أمكن التأني والفحص والتدقيق.. وهذا أبرز إلى حد كبير الجهود التي بذلها علماؤنا في توثيق السنة، سندًا ومتنًا.. ولعل هذا يقنع الذين حكموا على السنة أحكامًا غير صائبة؛ لأنهم لم يطلعوا على أسس توثيقها إلا من خلال وجه واحد. وتقترح هذه الرسالة: 1- أن تقوم الدراسات التي تكشف عن جهود علمائنا في نقد متن الحديث بعد أن قدمت هذه الرسالة بداية في هذه الطريق.. إن الإمام ابن

_ 1 العقيدة والشريعة في الإسلام ص51 -ومثله ما قاله أصحاب دائرة المعارف الإسلامية 7/ 333 في مادة حديث -قالوا: "وعلى هذا لا يمكن أن تعد الكثرة الغالبة من الأحاديث وصفًا تاريخيًّا صحيحًا لسنة النبي، بل هو على عكس ذلك تمثل آراء اعتنقها بعض أصحاب النفوذ في القرون الأولى بعد وفاة محمد ونسبت إليه". 2 أضواء على السنة المحمدية ص100.

القيم قد نقد متنًا لحديث من عشرة وجوه1 والأمثلة في هذا المجال كثيرة، ومثبوتة في كتب الفقه، ولو أزيح الستار عن هذه الجهود لما تبجح المتبجحون في الهجوم على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. 2- اتضح لنا من خلال هذه الرسالة أن أسس توثيق السنة لا تتفق عند جميع العلماء في القرن الثاني الهجري، فمنها ما يأخذ به بعضهم ولا يأخذ به الآخرون؛ وهذا يفسر لنا سبب اختلافهم في الراوي الواحد واختلافهم في حديثه الذي يرويه، بعضهم يقبله وبعضهم يرفضه.. ولهذا يجدر بالدارسين أن يقوموا بالدراسات المقارنة لأسس التوثيق عند الفقهاء والمحدثين واستخلاص أسس يتفق عليها معظمهم، وتوثق بها الأحاديث فلا نختلف في كثير منها كما اختلفوا.. وبالتالي تكون الأحكام الفقهية المستمدة من أدلة السنة واحدة.. وهذا يضيق إلى حد كبير من شقة الخلاف بين المسلمين في الأحكام الفقهية، إذ كثير من هذا الخلاف يرجع إلى الاختلاف في أسس توثيق الحديث ونقده. وربما تعين هذه الرسالة بجهد في هذا المجال. 3- لم نلاحظ في القرن الثاني الهجري أثناء توثيق السنة فيه تلك الأنواع الكثيرة للحديث وخاصة الضعيف والموضوع، تلك التي اصطلح عليها علماء أصول الحديث فيما بعد، فالحديث إما متصل أو مرسل صحيح أو غير صحيح وليس هناك المنطقع والمعضل والمقطوع والمقلوب والمدرج والعزيز والفرد والغريب والمسلسل، وغير ذلك من الأنواع الكثيرة التي اصطلح عليها المتأخرون من علماء الحديث وأثقلت كاهل الذهن، مع أن الأمر -في الحق- ليس في حاجة إليها، وكل ما يحتاج إليه هو ما كان يهتم به أهل القرن الثاني الهجري، هل الحديث صحيح ويحتج به أو غير صحيح أي ضعيف أو موضوع؟.. وما أجدرنا أن نعود إلى ما كانوا عليه فلا نهتم إلا بما هو مفيد وموصل إلى الهدف الذي ينشده كل محتاج إلى السنة وهو تمييز الحديث الصحيح من غيره من أقرب طريق ... والحمد لله التي تتم بنعمته الصالحات..

_ 1 في كتاب المنار المنيف، في الصحيح والضعيف، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب الطبعة الأولى "1390هـ - 1970م" ص 102 - 105.

ملخص الرسالة

ملخص الرسالة: توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته: موضوع هذه الرسالة "توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته". وهي تتكون من مقدمة وتمهيد وقسمين وخاتمة. في المقدمة نرى دوافع اختيار هذا الموضوع ومنهجه ومصادره. والتمهيد يعالج بعض الموضوعات التي تكون الأساس لبحث هذا الموضوع وهذه الموضوعات: معنى السنة والحديث والعلاقة بينهما، ومعنى التوثيق، والتوثيق في القرن الأول الهجري، ودوافع التوثيق في القرن الثاني الهجري والموثقون في هذا القرن. والقسم الأول يتناول توثيق أسانيد السنة، وهو يتكون من أربعة فصول: في الفصل الأول نرى توثيق السنة بإثبات حجتها ومشروعية نقلها ونرى فيه بالتحديد حجة من أنكروا السنة، وإثبات أئمة القرن الثاني حجيتها: المتواتر منها والآحاد. وفي الفصل الثاني نرى الشروط التي يجب أن تتوافر في الراوي ليكون خبره مقبولًا. وفي الفصل الثالث نرى مناهج تحمل الحديث وما هو الجدير منها بأن ينقل السنة نقلًا صحيحًا لا تحريف فيه ولا تغيير. والفصل الرابع والأخير يتناول الأسانيد من حيث اتصالها وانقطاعها، وفي هذا الفصل نرى التأكيد على الأسانيد المتصلة، والاتجاهات في القرن الثاني الهجري في الأخذ بالمراسيل "الأسانيد المنقطعة" وعدم الأخذ بها.

والقسم الثاني يتناول توثيق متون السنة "النقد الداخلي" وهو يتكون من ستة فصول: في الفصل الأول نرى عرض أحاديث الآحاد على القرآن الكريم لتوثيق ما لا يخالف نصوصه. وفي الفصل الثاني نرى عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة عند الحنيفة لتوثيق ما لا يخالفها. والفصل الثالث يتناول عرض أحاديث الآحاد على عمل الصحابة وما هو مشهور بينهم وفتاواهم. ورفض كل ما يخالف ذلك. والفصل الرابع يتناول عرض أخبار الآحاد على عمل أهل المدينة بين الآخذين به والرافضين له. وفي الفصل الخامس نرى عرض أخبار الآحاد على القياس، وهل هذا المقياس أخذ به الأحناف ومالك أو لا.. واستعمالات الإمام الشافعي له. وفي الفصل الأخير من هذا القسم نرى من يمنعون رواية الأحاديث بمعناها ويتمسكون بألفاظها ومن يجوزون الرواية بالمعنى، والشروط التي وضعها الأخيرون حتى لا تحرف الأحاديث عندها تغير ألفاظها. ثم خاتمة الرسالة التي لخصت أهم النتائج التي وصلت إليها، وبعض المقترحات التي تفيد في دراسة السنة. وفي نهاية الرسالة قوائم بالمراجع والمصادر وفهارس بالأعلام والموضوعات وملخص بالعربية والإنجليزية.

سكنر

سكنر

سكنر

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: الصفحة الموضوع 3-8 المقدمة 9- 71 التمهيد 9-19 معنى السنة والحديث "أ" السنة: السنة في اللغة: 2 - 3 - الاستعمالات الأولى للسنة 3 - 4- تطلق السنة ويراد بها عمل الصحابة 4-5- السلف كانوا يطلقون اسم السنة على طريقة أبي بكر وعمر: 5- اختلف العلماء في قولهم: "من السنة كذا" 5- ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مميز عن غيره 6- مناقشة بعض المستشرقين في معنى السنة 6- تطلق السنة في مقابلة البدعة 7- تطلق السنة على النوافل من العبادات 8- السنة عند الشيعة 9- تحديد معنى السنة بعد استقرار المصطلحات في مؤلفات أصول الحديث والفقه وأصوله 10- معنى السنة الذي سنسير عليه11. "ب" الحديث: الحديث في اللغة: 12- تخصيص الحديث بما قاله الرسول بدأ في حياته 13- اتسع استعمال "الحديث" بعدوفاة الرسول 14- السنة والحديث وهل هناك فروق بينهما؟ 15- ما سنسير عليه في بحثنا 16 - 17. 21- 22 التوثيق معناه اللغوي 18- معنى التوثيق في هذا البحث 19- شاع استعمال لفظ ثقة على لسان النقاد من المحدثين 20- واستعملوها قليلًا وصفًا للحديث 21- ولكنه شاع في العصر الحديث 13- وقد آثرنا هذه الكلمة على كلمة النقد 22. 23- 36 نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول: 1- توثيق الصحابة: العناية بالسنة عند الصحابة: رأوا أنها جزء من الدين 23- 25- في القرآن الحث على الاقتداء بالرسول 26- الرسول حذرهم من ترك سنته 27- السنة تبين لهم القرآن 28- وتأتي بأحكام أخرى غير البيان أحس الصحابة بالحاجة إلى حمل السنة إلى الجيل الذي بعدهم 29- حرصوا على عدم الغلط في الأداء 30. 2- وسائل العناية بالسنة: 1- الحرص على سماع الحديث - 31- وكان لا يمل أحدهم أن يسمع الحديث أكثر من مرة 32- التثبت في السماع 33- 34- حفظ الأحاديث وتنبيه الرسول عليهم بذلك 35- إقلالهم من الرواية 36- تذاكروا الحديث 37. 3- تمحيص الرواة: تشديدهم على من يروي لهم الأحاديث ومظاهر هذا التشدد 38- 39- ليس معنى التشدد أنهم كانوا يكذبون ناقل الحديث 40-

نفي بعضهم الكذب عنه وعن إخوانه من الصحابة 41- مناقشة ادعاء أن الصحابة كانوا يكذبون 42- أسباب اختلاف بعض الصحابة في الأحاديث 43- معنى عبارات بعضهم التي ورد فيها لفظ الكلب أو الزعم 43- 46. 4- إسناد الحديث: نشأة بذور الإسناد في عصر الصحابة 47- 49- وسائل توثيق الحديث من حيث متنه عندهم: عرض الحديث على القرآن الكريم 50- 53- عرض السنة على السنة 54- 56- عرض الحديث على القياس 57- 58- عرض الحديث على ما يقول به الصحابة 59- 61 فائدة هذه المقاييس عند الصحابة 62- 63. تدوين الحديث في عهد الرسول والصحابة: الشبه والاعتراضات التي أثيرت حول كتابة الحديث في عهد الصحابة والتابعين 64- 69 ملاحظتين على الشبه 70- مناقشة هذه الشبه 71 - 74 الكتابة عند الصحابة 75- 78 أخبار كراهية الكتابة تحمل في طياتاها اتجاهًا عامًّا إلى الكتابة 78- 79- بعض ضوابط الكتابة عند الصحابة 79- 78- مجمل عناية الصحابة بالسنة 88. 56 التابعون وتوثيقهم للسنة جددت أمور دفعت التابعين إلى أن يزيدوا من عنايتهم بالسنة 89- وسائل توثيق التابعين للسنة: 1- نقد الرجال 90- 93. 2- الاهتمام بالإسناد 94- 95 الحفظ والسماع والتثبت في الأداء 96- 97- نقد متن الحديث 98- 99 تدوين السنة في عهد التابعين 100- 104- ضوابط الكتابة ضد التابعين 105- 107- مجمل عناية التابعين بالسنة 108. 63 السنة في القرن الثاني: دوافع التوثيق في القرن الثاني 110- 114- التدوين الشامل للسنة ومميزات التدوين في هذا القرن 115- 120. 67- 71 الموثقون في القرن الثاني والصفحات التي أهلتهم للقيام بهذه المهمة 120- 130 73- 279 القسم الأول: توثيق سند الحديث. 75- 119 الفصل الأول: نقل السنة بالتواتر والآحاد. التوثيق في القرن الثاني سار في طريقين يكمل أحدهما الآخر 131- المتواتر والآحاد والمشهور 131- 134 المتواتر وحجتيه 135- منكرو حجية المتواتر 136- 143- مناقشة الإمام الشافعي منكري الأخبار المتواترة 144- 148- نوع آخر من الرد ذكره أصوليو الأحناف 149- 150- حجية خبر الآحاد 151- 153- منكرو خبر الواحد وحجتهم 154- 156- مناقشة الإمام الشافعي 157- 180- تفريق الشافعي بين حجية المتواتر وحجية خبر الواحد 181- مناقشة غير الشافعي 182- 199- حجية الخبر المشهور عند الحنفية 200- 203.

121- 182 الفصل الثاني: توثيق الراوي هناك نوعان من الشروط 204- 205، النوع الأول ينحصر في أربعة شروط 206- 208. 1- الشرط الأول: الإسلام 209- 210- يجوز العمل بخبر الكافر احتياطًا عند محمد بن الحسن 211- هل يدخل في الرواة الكفار من كفر ببدعته؟ 212. 2- الشرط الثاني: العقل 213- لماذا هذا الشرط 214- تفسير عبارة لمحمد بن الحسن 215- 218- يجوز عنده العمل بخبر الصبي احتياطًا 219. 3- الشرط الثالث: العدالة: معنى العدالة 220- 221- معرفة العدالة في الراوي تكون على مستويين 222- 224- لماذا تكون العدالة شرطًا لقبول حديث الراوي 225- عدالة الراوي هنا تفترق عن عدالته في الشهادة 226- بيان الشافعي أن التقوى تحمل الناس على الصدق في أخبارهم 227- 228- حذر غير واحد من الأئمة في القرن الثاني من الرواية عن غير العدول 229- 230- الكذب والكذابون 231- 232- صور الكذب 232- التدليس نوع من الكذب وصوره ومتى بدأ 233 - 242- أصحاب الأهواء واختلاف الاتجاهات في الأخذ عنهم 243- 251- رأي أبي حنيفة في من يغشى مجلس السلطان 252- 260. المجهول وحكم روايته: 261- أنواع المجهولين والاتجاهات في الأخذ بكل نوع من هذه الأنواع 262- 279. 4- الشرط الرابع: الضبط: معنى الضبط 280- 281- نبه الأئمة إلى أن الضبط الراوي واتفاقه للحديث شرط أساسي من شروط قبول روايته 282- 283 الوسائل التي يستعين الراوي بها على حفظ مروياته 283: 1- تلقي الحديث على نحو صحيح 284- 285. 2- حفظ ما أخذه من شيخه 286- أعلى درجات الحفظ حفظ الذاكرة مع الكتاب 287- 288- يرى بعض الأئمة في القرن الثاني أنه يمكن الاعتماد على الكتاب وحده 289- عدم الكتاب يؤدي إلى اضطراب رواية الراوي 290- لا بد من الحفظ والكتاب عند مالك 291. الكتاب ودوره في ضبط الأحادي وحفظها 292- 302- أئمة الحديث يهتمون ببحث كتب الرواة 303- أعان الكتاب النقاد على معرفة صدق الراوي أو كذبه 304. 3- تعهد المرويات فيما بين أخذها وروايتها 305- 306 عرضها على النقاد الفاهمين علل الحديث 307- 308.

1- اختبار ضبط الراوي للحديث 309- مقارنة رواياته بروايات الثقات المشهورين بالضبط والإتقان 310- 314- غرست هذه المقارنات بذور وضع الرواة على درجات 315- وضعوا بعض المصطلحات والألفاظ التي تضع الراوي في مرتبته اللائقة به 316- 319. 2- ملاحظة مرات روايته للحديث 320- 321- حكم من يقبل التلقين 322- لماذا يشترطون شهرة الرواة بطلب الحديث؟ 223- 234. 182- 238 الفصل الثالث: "مناهج تلقي الحديث وأدائه" 1- السماع 329- الإملاء أعلى صوره 330- كثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل بهذا المنهج 331- كانت لهم القدوة من واقع تعليم الرسول، ومن حثه لهم على ذلك 232- معظم المحدثين في القرن الثاني يأخذون أحاديثهم بهذا المنهج 333- 334- السماع أرفع درجات الرواية عند الأكثرين 335- تتبع النقاد الأحاديث التي نقلت سماعًا والتي لم تنقل 336- 337 لا يجوز إلا لمن يضبط ويعقل ما يسمع 338- 340. يجب على السامع أن يكون يقظًا وقت سماعه 341- بعض الحالات التي يتسامح فيها النقاد 342- 351- الأداء عن السماع 352- 362. 2- القراءة على الشيخ أو العرض: 363- صور العرض 364- 365- إمساك الأصل أثبت صور القراءة 366- ممسك الأصل لا بد أن يكون ثقة يعرف ما يقرأ ويجيد القراءة 367- 368- هل يلزم إقرار الشيخ بعد انتهاء القراءة؟ 369- 370- حكم الرواية عن العرض 371- 372- هل العرض مثل السماع أقل منه أو أعلى منه 373- 383- الألفاظ التي يؤدى بها العرض 384- 390. 3- المناولة: تعريفها وصورها 391- 392 في كل الصور روعي أن ينقل الحديث من الشيخ إلى التلميذ نقلًا صحيحًا 393- 394- هل يشترط علم الطالب بما في الكتاب المناولة؟ 395- منزلة المناولة من السماع 396- 401- الأداء عن المناولة 402- 406. 4- المكاتبة: صورها 407- 411- ضمانات صون المكاتبة عن التغيير - حكم هذا المنهج في نقل الأحاديث 412- 417- الأداء عن المكاتبة 418- 419. 5- الإجازة: تعريفها وحكمها 420- حكمها 421- 423- موقف الأئمة: مالك وأبي حنيفة والشافعي من الإجازة 424- 434- وجوهها التي كانت موجودة في القرن الثاني الهجري 435- 436- الأداء عن الإجازة 437- 439. 6- إعلام الشيخ: تعريفه - هل وجد هذا المنهج في القرن الثاني الهجري؟ 440- 450- حكم هذا المنهج وحجة القائلين به 451 - 453.

7- الوصية بالكتب، تعريفها 454- مدى وجودها عند السلف 455- 456- حكم هذا الضرب 457- 460. 8- الوجادة: تعريفها 461- وجود هذا الضرب منذ عصر الصحابة 462- 463- حكم هذا المنهج 464- 472- الأداء عن الوجادة 473 - 476. 9- التوثيق بالكتاب في نقل الحديث 477- 493. 239- 279 الفصل الرابع: المتصل والمنقطع من الأسانيد التمسك بالأسانيد لمعرفة الرواة 494- بداية الاهتمام بالإسناد 495- 496 نص الأئمة على أهمية السند المتصل 497 - 502. معنى المرسل في القرن الثاني، وتطور هذا المعنى 503- 511- مراسيل الصحابة وحكمها 512- 513- هناك أكثر من اتجاه في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به 514- 585. ملاحظتين على الاتجاهات جميعها 586- 587. القسم الثاني 281- 430 توثيق متون السنة. 283- 286 تقدمة: 287- 319 الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله عز وجل. كلام لأبي حنيفة بين فيه أن الأحاديث الصحيحة لا تتعارض مع كتاب الله 289 596- مخالفة خبر الواحد لكتاب الله تدل على عدم صحته عند الأحناف 597- 598- حجتهم 599- بعض الأخبار التي ردوها تطبيقًا لهذا المقياس 600- 601- ردهم لحديث الشاهد واليمين وبيان مخالفته للكتاب 602- 605- استدل الأحناف على مقياسهم هذا بأحاديث 606- 616- الإمام مالك وعرض الحديث على الكتاب وبعض الأحاديث التي ردها 617- 619- الإمام مالك لا يتخذ هذا المقياس في جميع الحالات 620- 621- الإمام الشافعي وهذا المقياس 622- 623- تضعيف الأحاديث التي احتج بها الأحناف 624- 637 توثيق ما رده الأحناف تطبيقًا لمقياسهم وإثبات حديث الشاهد واليمين من حيث سنده ومتنه 638 - 642- لم يكن الشافعي وحده في القرن الثاني يدفع هذا المقياس لكنه أفاض أكثر من غيره 643- 654- رأينا في هذا المقياس 655 - 657 الإمام الشافعي واستخدام هذا المقياس وأمثلة 658 - 668- الآخذون بهذا القياس والرافضون له وثقوا متون الأحاديث يعرضها على كتاب الله 669 - 671. 321 - 342 الفصل الثاني: عرض أحاديث الآحاد على السنة المشهورة بعض الأمثلة التي ردها الأحناف تطبيقًا لهذا القياس وخاصة حديث الشاهد واليمين 672- 677- مناقشة الإمام الشافعي للأحناف وتثبيته الأخبار التي ردوها وردها غيرهم 678 - 685- استخدام الشافعي لهذا المقياس في ترجيح بعض الأحاديث على بعضها الآخر 686 - 728 - نتيجة هذا الفصل 729.

343- 367 الفصل الثالث: عرض الحديث على عمل الصحابة وفتاواهم الحديث الذي تعم به البلوى يرده الأحناف إذا رواه الآحاد 730 - إذا أعرض الصحابة عن حديث رده الأحناف 731 - 740- تطبيق لهذين المقياسين وأمثلة له التطبيق 741 - 746- عمل الراوي وفتواه على خلاف ما روى وحكم ذلك عند الأحناف 747 - 757- مناقشة الإمام الشافعي للآخذين بهذه المقاييس وإثباته ما رده الأحناف 758 - 781- استخدام الشافعي لهذا المقياس في ترجيح بعض الأحاديث 782 - 790- نقد ابن حزم للأحناف وتعليق على هذا النقد 791 - 797- نتيجة هذا الفصل 798. 369- 388 الفصل الرابع: عرض الحديث على عمل أهل المدينة مكانة المدينة العلمية: 799 - 800 الإمام مالك وعمل أهل المدينة 801 - 802- مناقشة الإمام الليث بن سعد الإمام مالك فيما أخذه عليه لأنه خالف عمل المدينة 803 - 804- موقف الإمام مالك من أخبار الآحاد مع عمل أهل المدينة 805 - 815- مناقشة الليث بن سعد للإمام مالك في تركه بعض الأخبار التي يأخذ بها أهل الأمصار الآخرون 816- 820- مناقشة محمد بن الحسن من يردون الأخبار لعمل أهل المدينة 821 - 826. مناقشة الإمام الشافعي أصحاب مالك في تركهم الأخبار لعمل أهل المدينة 827 - 843- بعض الأمثلة التي أوردها الشافعل ليدلل على أن أصحاب مالك تركوا الأحاديث الصحيحة لعمل أهل المدينة 844 - 847- رأينا في هذا المقياس 848. 389- 413 الفصل الخامس: عرض أخبار الآحاد على القياس 849 - 879 الأحناف - الرواية الأخرى عن الأحناف - ونميل إليها - نقول: إنهم لا يردون خبرًا الواحد بالقياس 880 - 892 - عرض الأحناف بعض أخبار الآحاد على القياس 893 - 894. الخبر والقياس عند مالك 895 - مناقشة من زعموا أن مالكًا يرد الخبر بالقياس 896 - 905- الإمام الشافعي وعرض الخبر على القياس 906 - 922- نتيجة هذا الفصل 923. 415- 430 الفصل السادس: الرواية بالمعنى. المتمسكون برواية الحديث بلفظه وحجتهم 924 - 928 - جمهور السلف والخلف على جواز الرواية بالمعنى 929 - 931- حجة أصحاب هذا الاتجاه وردهم على أصحاب الاتجاه الأول 932 - 957- الضوابط والقيود التي وضعها المجوزون حتى لا يتغير الحديث بتغيير ألفاظه 958 - 978 - نتيجة هذا الفصل 979. 431 - 437 الخاتمة 438 - 439 ملخص الرسالة 440 - 442 ملخص الرسالة "بالإنجليزية". 443 - 448 المصادر والمراجع

ملحق بأعلام الرسالة في القرنين الأول والثاني الهجريين وذكر وفياتهم وبعض الكتب التي ترجمت لهم 1- آدم بن أبي أياس * "220هـ". طبقات الحفاظ ص 168، 169. 2- أبان بن يزيد العطار طبقات الحفاظ ص 78. 3- إبراهيم النخعي "96هـ" طبقات الحفاظ ص 29، 30. 4- أبي بكر كعب "19هـ" تذكرة الحفاظ جـ"1" ص16، 17. 5- أحمد بن حنبل "164 - 241هـ". طبقات الحفاظ ص 186، 187. 6- أزهر بن سعد السمان "103هـ". طبقات الحفاظ ص 143. 7- أبو إسحاق السبيعي "126هـ". طبقات الحفاظ ص43، 44. 8- ابن إسحاق: محمد "150 أو 151هـ". طبقات الحفاظ ص75، 76. 9- أسد بن موسى "132 - 211هـ". طبقات الحفاظ ص167. 10- إسماعيل بن إبراهيم بن علية وهي أمه "110 - 193هـ". طبقات الحفاظ ص133، 134. 11- الأعمش: سليمان بن مهران "148هـ". طبقات الحفاظ ص67. 12- أنس بن مالك "92 أو 90هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص44، 45. 13- الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو "153هـ" طبقات الحفاظ ص79. 14- أيوب بن أبي تيمية السختياني "66 أو 68 - 131هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص259. 15- أبو بردة: بردة بن عبد الله "103 أو 104 أو 107هـ". تاريخ التراث جـ "1" ص260، وطبقات الحفاظ ص36. 16- أبو بكر الصديق "13هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص 2- 5. 17- أبو بكر بن عياش "193هـ". طبقات الحفاظ ص 113، 114. 18- ثابت البناني "127هـ". طبقات الحفاظ ص49، 50. 19- جابر بن عبد الله "78هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص43، 44. 20- ابن جريح: عبد الملك بن عبد العزيز "86 - 150هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص162، 163، وطبقات الحفاظ ص74. 21- جرير بن عبد الحميد "110 - 188هـ". طبقات الحفاظ ص116. 22- أبو جعفر: محمد بن علي بن الحسين "114هـ" طبقات الحفاظ ص49. 23- حبيب بن أبي ثابت "119هـ". طبقات الحفاظ ص44.

24- الحسن البصري "110هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص71، 72. 25- الحسن بن صالح "100 - 169هـ". طبقات الحفاظ ص92. 26- حفص بن غياث "194هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص197، 198. 27- الحكم بن عتيبة "50 - 113 أو 114 أو 115هـ". طبقات الحفاظ ص44، 45. 28- حماد بن أسامة بن زيد: أبو أسامة "110هـ". طبقات الحفاظ ص134، 135. 29- حماد بن زيد "98 - 179هـ". طبقات الحفاظ ص96، 97. 30- حماد بن سلمة "167هـ". طبقات الحفاظ ص87، 88. 31- الحميدي: عبد الله بن الزبير "219هـ". طبقات الحفاظ ص178. 32- أبو حنيفة "80 - 150هـ". طبقات الفقهاء "1" أ 86، وطبقات الفقهاء "2" ب 11 - 14، وطبقات الحفاظ ص73، 74. 33- خالد بن معدان "103 أو 104 أو 105 أو 106 أو 108هـ". طبقات الحفاظ ص36، وفي تذكرة الحفاظ ت "103هـ" جـ"1" ص93، 94. 34- أبو خيثمة: زهير بن حرب "160 - 234هـ". طبقات الحفاظ ص191. 35- أبو خيثمة: زهير بن معاوية "172هـ". طبقات الحفاظ ص98، 99. 36- ابن أبي ذئب "159هـ". طبقات الحفاظ ص82، 83. 37- ابن راهوية: إسحاق بن إبراهيم "238هـ". طبقات الحفاظ ص188. 38- الربيع بن خثيم "مات في خلافة يزيد بن معاوية" تذكرة الحفاظ جـ"1" ص57، 58. 39- ربيعة بن أبي عبد الرحمن "136هـ". طبقات الحفاظ ص68، 69. 40- زائدة بن قدامة "161هـ". طبقات الحفاظ ص91، 92. 41- أبو الزبير: محمد بن مسلم "128هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص257، 258، وطبقات الحفاظ ص50، 51. 42- أبو الزناد: عبد الله بن ذكوان "131 أو 132هـ". طبقات الحفاظ ص54 - 56. 43- الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب "124هـ". طبقات الحفاظ ص42، 43. 44- زيد بن ثابت "45 أو 54 وقيل 55هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص30 - 32. 45- سعد بن إبراهيم "183، 184، 185هـ" طبقات الحفاظ 107، 108 46- أبو سعيد الخدري "74 هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص44.

_ 1 للشيرازي. 2 لطاش كبرى زاده.

47- سعيد بن عبد العزيز "167هـ". طبقات الحفاظ ص93. 48- سعيد بن أبي عروبة "156هـ". طبقات الحفاظ ص78. 49- سعيد بن المسيب "94 أو 89 أو 91 أو 92 أو 105هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" 54 - 56. 50- سعيد بن منصور بن شعبة "127هـ". طبقات الحفاظ ص179. 51- سفيان الثوري "97 - 161هـ". طبقات الحفاظ ص88، 89. 52- سفيان بن عيينة "107 - 146 أو 198هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص272، 273، طبقات الحفاظ ص 113. 53- سليمان بن حرب "124هـ". طبقات الحفاظ ص116، 167. 54- سليمان بن المغيرة "165هـ". طبقات الحفاظ ص93. 55- ابن سيرين: محمد "110هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص77، 78. 56- الشاذكوني: سليمان بن داود المنقري "234هـ". تذكرة الحفاظ جـ"2" ص 488، 489 57- الشافعي "150 - 204هـ". طبقات الحفاظ ص153، 154. 58- شريح القاضي "78 وقيل 80هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص59. 59- شريك بن عبد الله القاضي "177 أو 178هـ" طبقات الحفاظ ص98. 60- شعبة بن الحجاج "82 - 160هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص164، 165، وطبقات الحفاظ ص83، 84. 61- الشعبي: عامر بن شراحبل "103 أو 104 أو 107 أو 110هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص79، وطبقات الحفاظ ص32. 62- أبو صالح السمان "101هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص89، 90. 63- طاوس بن كيسان "106هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص90. 64- الطيالسي: أبو داود "133 - 103 أو 204هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص275، 276، وطبقات الحفاظ ص149، 150. 65- الطيالسي: أبو الوليد هشام بن عبد الملك "127هـ". طبقات الحفاظ ص164. 66- عائشة بنت أبي بكر "57هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص17 - 19. 67- أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل "131 - 312هـ". طبقات الحفاظ ص156. 68- أبو العالية: رفيع بن مهران "93هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص61 - 62. 69- أبو عامر العقدي "105هـ". طبقات الحفاظ ص144. 70- عبد الله بن إدريس "192هـ". طبقات الحفاظ ص118. 71- عبد الله بن دينار "127هـ". طبقات الحفاظ ص50. 72- عبد الله بن صالح المصري: كاتب الليث "123هـ". طبقات الحفاظ ص169. 73- عبد الله بن عباس "68هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص40، 41. 74- عبد الله بن عمر بن الخطاب "74هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص37 - 40. 75- عبد الله بن عمرو بن العاص "65هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص41، 42.

76- عبد الله بن عون "151هـ". طبقات الحفاظ ص69. 77- عبد الله بن لهيعة "97 - 174 أو 175هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص168، 169، طبقات الحفاظ ص101. 78- عبد الله بن مسعود "32هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص13 - 16. 79- عبد الله بن نمير "199هـ". وطبقات الحفاظ ص137. 80- عبد الله بن وهب "197هـ". طبقات الحفاظ ص126، 127. 81- عبد الرحمن بن مهدي "198هـ". طبقات الحفاظ ص139. 82- عبد الرزاق بن همام الصنعاني "126- 211هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص277، 278، طبقات الحفاظ ص154، 155. 83- عبد العزيز بن محمد الدراوردي "187هـ". طبقات الحفاظ ص115. 84- عبدة بن سليمان "180هـ". طبقات الحفاظ ص129. 85- أبو عبيد القاسم بن سلام "72هـ". تذكرة الحفاظ ص179، 180. 86- عبيدة بن عمرو السلماني "72 هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص261. 87- عبيد الله بن عمر بن حفص العمري "147هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص261، طبقات الحفاظ ص70. 88- عثمان بن عفان "35هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص8 - 10. 89- عروة بن الزبير "94هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص61، 63. 90- عطاء بن رباح "114 أو 115 أو117 هـ" طبقات الحفاظ ص39 91- عطاء بن السائب "136هـ". طبقات الحفاظ ص60. 92- عطاء بن أبي مسلم الخراساني "135هـ". طبقات الحفاظ ص60، 61. 93- عفان بن مسلم "119هـ". طبقات الحفاظ ص163، 164. 94- عقيل بن خالد الأيلي "141هـ". طبقات الحفاظ ص70. 95- علي بن أبي طالب "40هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص10 - 13. 96- عمر بن الخطاب "23هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص 5- 8. 97- عمر بن عبد العزيز "101هـ". طبقات الحفاظ ص46. 98- عمرو بن دينار "105هـ". طبقات الحفاظ ص46. 99- عيسى بن أبان "120هـ". طبقات الفقهاء أ 137 وطبقات الفقهاء ب 32. 100- القاسم بن محمد بن أبي بكر "101 أو 102 أو 106 أو 107 أو 108 أو 109 أو 112 أو 117هـ". طبقات الحفاظ ص38. 101- قتادة بن دعامة السدوسي "60 - 117هـ". طبقات الحفاظ ص47، 48. 102- القعنبي: عبد الله بن مسلمة "221هـ". طبقات الحفاظ ص165. 103- أبو قلابة: عبد الله بن يزيد الجرمي "104 أو 105 أو 106 أو 107هـ". طبقات الحفاظ ص36. 104- الليث بن سعد "94 - 475هـ". طبقات الحفاظ ص95. 105- ابن أبي ليلى "148هـ". طبقات الحفاظ ص74، 75. 106- الماجشون: عبد العزيز "164هـ". طبقات الحفاظ ص64.

107- مالك بن أنس "179هـ". طبقات الحفاظ ص89، 90. 108- ابن المبارك: عبد الله "128 - 181هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص270، 271، وطبقات الحفاظ ص117، 118. 109- مجاهد بن جبير "103هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص90 - 93. 110- محمد بن الحسن "187هـ". طبقات الفقهاء أ 135. وطبقات الفقهاء ب 16، 17. 111- ابن المديني: علي بن عبد الله بن جعفر السعدي "234هـ". طبقات الحفاظ ص 184. 112- مروان بن محمد الطاهري "210هـ". طبقات الحفاظ ص157. 113- مسعر بن كمام "153هـ". طبقات الحفاظ ص82، 83. 114- مسلم بن إبراهيم "122هـ". طبقات الحفاظ ص167. 115- أبو مسهر عبد الأعلى الدمشقي "218هـ". طبقات الحفاظ ص163. 116- مطرف بن عبد الله "95هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص64، 65. 117- معاذ بن معاذ العنبري "196 هـ" طبقات الحفاظ ص176. 118- أبو معاوية الضرير: محمد بن حازم "195". طبقات الحفاظ ص122، 123. 119- معتمر بن سليمان "187هـ". طبقات الحفاظ ص114. 120- معمر بن راشد "96 - 152 أو 153 أو 154هـ". طبقات الحفاظ ص83. 121- مكحول الدمشقي: أبو عبد الله "112هـ". طبقات الحفاظ ص41. 122- منصور بن زاذان "128هـ". طبقات الحفاظ ص58، 59. 123- منصور بن المعتمر "132هـ". طبقات الحفاظ ص59. 124- ابن المنكدر: محمد "130 أو 131هـ". طبقات الحفاظ ص51. 125- أبو موسى الأشعري: عبد الله بن قيس "44هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص13، 14. 126- أبو نعيم الفضل بن دكين "218هـ". طبقات الحفاظ ص51. 127- أبو هريرة الدوسي: عبد الرحمن بن صخر "58 أو 59 أو 57هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص 31 - 37. 128- هشام الدستوائي "152هـ". طبقات الحفاظ ص84. 129- هشام بن عروة بن الزبير "61 - 145 أو 146هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص160. وطبقات الحفاظ ص61، 62. 130- همام بن منبه بن كامل الصنعاني "40 - 131هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص156، 157 131- همام بن يحيى "163هـ". طبقات الحفاظ ص86، 87. 132- وكيع بن الجراح "129 - 196 أو 197هـ". تاريخ التراث جـ"1" ص173، 174، وطبقات الحفاظ ص117. 133- الوليد بن مسلم الدمشقي "194هـ". طبقات الحفاظ ص116. 134- يحيى بن سعيد القطان "198هـ". تذكرة الحفاظ جـ"1" ص198، 300.

135- يحيى بن سعيد الأنصاري "143 هـ". طبقات الحفاظ ص57. 136- يحيى بن عبد الله بن بكير "231هـ". طبقات الحفاظ ص181. 137- يحيى بن عبد الحميد الحماني "228هـ". طبقات الحفاظ ص182. 138- يحيى بن أبي كثير "119هـ". طبقات الحفاظ ص51. 139- يحيى بن معين "103هـ". طبقات الحفاظ ص185، 186. 140- يزيد بن هارون "106هـ". طبقات الحفاظ ص131. 141- أبو اليمان: الحكم بن نافع "121هـ". طبقات الحفاظ ص168. 142- أبو يوسف: القاضي يعقوب بن إبراهيم "181 أو 183هـ". طبقات الفقهاء أ 134. وطبقات الفقهاء ب 15 - 16، وطبقات الحفاظ ص 121، 122. 143- يونس بن عبيد بن دينار "140هـ". طبقات الحفاظ ص62.

§1/1