تهذيب اقتضاء الصراط المستقيم

شحاتة صقر

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة الناشر: مكتبة دار العلوم البحيرة ـ أبو حمص ـ حي الزهور ت 0452569826ـ 0129732131

مقدمة التهذيب

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التهذيب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، ودعا إلى دينه إلى يوم الدين. وبعد فهذا تهذيب لكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -؛ تيسيراً للاستفادة من هذا الكتاب القيّم الذي قال عنه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - إنه «أفْيَد ما يكون ولا سيما في الوقت الحاضر» (¬1) الموضوع الرئيس للكتاب: التنبيه على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وأصوله، وهي: النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمجانبة هدْيهم على ¬

_ (¬1) (*) الشرح الممتع (2/ 297).

العموم، وأعيادهم على الخصوص، وبيان حكمة ذلك، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والمشركين والأعاجم غير المسلمين ونحوهم، وأصل هذه المسألة في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهدي السلف الصالح، واستقراء الآثار في ذلك. (¬1) منهج تهذيب الكتاب: 1 - اختصاره وعرضه بطريقة منظمة. 2 - حذف ما جاء في الكتاب من الاستطرادات الفقهية التي ليس لها علاقة بموضوع الكتاب، وكذلك الاستطرادات اللغوية. 3 - تخريج الآيات القرآنية، وكتابة هذا التخريج بخط صغير ووضعه بعد الآيات مباشرةً، وليس في الهامش، تسهيلاً على القارىء. 4 - عمل تخريج مختصر للأحاديث والآثار الواردة في هذا التهذيب وذلك بالاستفادة من كتب الشيخ الألباني، وتعليقات الشيخ أحمد شاكر على (المسند) و (تفسير ابن كثير)، وكذلك ¬

_ (¬1) (**) من مقدمة الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل (بتصرف).

الاستفادة من تعليقات الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل الذي حقق كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) من خمس نسخ خطية ونسخة مطبوعة أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي، وكذلك الاستفادة من الطبعة التي أشرف على تحقيقها الشيخ مصطفى العدوي. 5 - كتابة هذا التخريج المختصر بخط أصغر من خط الكتاب، ووضعه بعد الأحاديث أو الآثار مباشرةً، وليس في الهامش، تسهيلاً على القارىء. 6 - وضع بعض العناوين الجانبية من نسخة الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل. 7 - تفسير بعض الكلمات بذكر معناها في الهامش. وأسأل الله العظيم ـ ربَّ العرش العظيم ـ أن ينفع به المسلمين، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل. شحاتة محمد صقر [email protected]

تهذيب كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم: اليهود، ولا الضالين: النصارى. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم، والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها، وأمره بأن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً. - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اليهودَ مغضوبٌ عليهم، وإن النصارى ضُلَّال» [رواه الترمذي3141وحسنه الألباني] وقد دل كتاب الله

على معنى هذا الحديث، قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] والضمير عائد إلى اليهود، والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ ولاَ مِنْهُمْ} [المجادلة:14] وهم المنافقون الذين تولوا اليهود، باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه. * وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ} [آل عمران:112] وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم. * وقال في النصارى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ

كفر اليهود أصله عدم العمل بالعلم، وكفر النصارى أصله عملهم بلا علم

ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة:73 - 77] وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحد. واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالُون فيه. كفر اليهود أصله عدم العمل بالعلم، وكفر النصارى أصله عملهم بلا علم وجماع ذلك: أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً، أو لا قولاًً ولا عملاً. وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون. إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستتبع سنن الأمم قبلها * ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم، فقضاؤُه نافذٌ بما أخبر به رسوله، مما سبق في علمه، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سننَ من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَب

لَدَخَلْتُموه»، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟» [البخاري7320، مسلم2669،المسند17070] * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقومُ الساعةُ حتى تأخذَ أمّتي مأخذ القرون، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع»، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: «ومن الناس إلا أولئك؟» [البخاري7319] فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم. * وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه: «لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة». [البخاري3640، مسلم1920] وأخبر - صلى الله عليه وسلم -: «أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة» [الترمذي 2269وصححه الألباني]، و «أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته». [ابن ماجه 8 وحسنه الألباني]. - فعُلِم بخبره الصِّدق أنه في أمته قومٌ مستمسكون بهَدْيه، الذي هو دين الإسلام محضاً، وقوم منحرفون إلى شُعبة من شُعَب

اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضاً، بل قد يكون الانحراف كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ. وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً. بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم، التي ابتُلِيَتْ بها هذه الأمة؛ ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم، إلى صراط المغضوب عليهم، أو الضالين: 1 - قال الله سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فذمَّ اليهودَ على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم. * وقد يُبْتَلَى بعضُ المنتسبين إلى العلم وغيرُهم بنوعٍ من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خُلُق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.

2 - وقال الله سبحانه: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِه ِ} [النساء36، 37] فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر، فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم: تارةً بُخْلاً به، وتارة اعتياضاً عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفاً أن يُحْتَجَّ عليهم بما أظهروه منه. * وهذا قد يُبتَلَى به طوائف من المنتسبين للعلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بُخْلاً به، وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضاً عنه برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى إلى طائفة قد خُولِفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مُبطِل. ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: «أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم». 3 - قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا

أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91] بعد أن قال: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] فوصف اليهود أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به، والداعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم. * وهذا يُبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم، أو الدين، من المتفقهة، أو المتصوفة، أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين ـ غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فإنهم لا يقبلون من الدين رأياً ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم، ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجب إتباع الحق مطلقاً ـ روايةً ورأياً ـ من غير تعيين شخص أو طائفة، غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - قال تعالى في صفة المغضوب عليهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء:46] والتحريف قد فُسِّر بتحريف التنزيل، وبتحريف التأويل.

* فأما تحريف التأويل فكثير جداً، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة. * وأما تحريف التنزيل فقد وقع في كثير من الناس، يحرفون ألفاظ الرسول، ويروون الحديث بروايات منكرة. وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك. 5 - وقال سبحانه عن النصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17،72] إلى غير ذلك من المواضع. * ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبِّدة والمتصوفة، حتى خالط كثيراً منهم من مذهب الحلول والإتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه. 6 - قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم - رضي الله عنه - بأنهم: أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال

فأتبعوهم.» [الترمذي3306وحسنه الألباني] * وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظَّمين عنده في كل ما يأمر به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال. 7 - وقال سبحانه عن الضالين: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ} [الحديد:27] * وقد ابتُلى طوائف من المسلمين، من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم. 8 - قال سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} [الكهف:21] فكان الضالون ـ بل والمغضوب عليهم ـ يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته عن ذلك في غير موطن حتى في وقت مفارقته الدنيا ـ بأبي هو وأمي. * ثم إن هذا قد ابتُلِي به كثير من هذه الأمة. 9 - إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات.

* ثم تجد قد ابتليت هذه الأمة من اتخاذ السماع المطرب، بسماع القصائد، وإصلاح القلوب والأحوال به، ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين. 10 - وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه. * وأنت تجد كثيراً من المتفقهة، إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئاً ولا يعدهم إلا جُهَّالاً ضُلَّالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، وترى كثيراً من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئاً، بل يرى المتمسك بها منقطعاً عن الله وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً. وإنما الصواب: أن ما جاء به الكتاب والسنة، من هذا وهذا: حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا: باطل. 11 - أما مشابهة فارس والروم، فقد دخل في هذه الأمة من الآثار الرومية، قولاً وعملاً، والآثار الفارسية، قولاً وعملاً، ما لا خفاء به على مؤمن عليم بدين الإسلام، وبما حدث فيه.

الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب، وأمور ظاهرة

وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة، مما تضارع (¬1) طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفوراً لصاحبه: إما لاجتهاد أخطأ فيه، أو لحسنات محت السيئات، أو غير ذلك. وإنما الغرض أن نبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح باب إلى معرفة الانحراف. الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب، وأمور ظاهرة إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة، والركوب وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً. ¬

_ (¬1) (*) تضارع: تشابه.

لماذا الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في الهدي الظاهر؟

لماذا الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في الهدي الظاهر؟ قد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم، والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها: 1 - أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة ـ مثلاً ـ يجد من نفسه نوع تخلُّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك، إلا أن يمنعه مانع. 2 - أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى، والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. * وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام كان إحساسه

أولا: الاستدلال بالقرآن على النهي عن التشبه بالكافرين:

بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين، أشد. 3 - أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهراً، بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين. * هذا، إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شُعبة من شُعَب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له. ذِكْر بعض ما دل، من الكتاب، والسنة، والإجماع، على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة أولاً: الاستدلال بالقرآن على النهي عن التشبه بالكافرين: 1 - قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ

رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16 - 19] * أخبر سبحانه، أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض. ثم جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - على شريعة شرعها له، وأمره بإتباعها، ونهاه عن إتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. * وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالاً عظيماً ليحصل ذلك. 2 - قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا

أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الجاثية:36، 37] فالضمير في أهوائهم، يعود ـ والله أعلم ـ إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن: من يهودي، ونصراني، وغيرهما. وقد قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم، اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك. 3 - قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120] فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ} وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم}؛ لأن القوم لا يرضون إلا بإتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن إتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه.

4 - قوله سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:145 - 150] * قال غير واحد من السلف: «معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ

مِنْهُمْ} وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا». * فبًيَّن سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذ اتُّبِعَ في شيء من أمره، كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة. 5 - قال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وهم: اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر «أن أمته: ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة». [أبو داود 4596وقال الألباني: حسن صحيح] 6 - قال سبحانه لموسى وهارون: {فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس:89] وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ

الْمُفْسِدِينَ} [الاعراف:142] وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:115] إلى غير ذلك من الآيات. * وما هم عليه من الهدي والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون. 7 - قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49، 48] ومتابعتهم في هديهم، هي من إتباع ما يهوونه، أو مظنة لإتباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه. 8 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] قال قتادة

وغيره: «كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم» وقال أيضاً: «كانت اليهود تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: راعنا سمعك يستهزؤن بذلك، وكانت في اليهود قبيحة». وروى أحمد عن عطية قال: «كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود». وقال عطاء: «كانت لغة في الأنصار في الجاهلية». * فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهى المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها ـ وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة ـ لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم. (¬1) 9 - قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن ¬

_ (¬1) (*) تطريقهم: إفساح الطريق لهم ليبلغوا مرادهم من هذه الكلمة القبيحة.

بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] وقال عن اليهود: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:64] وقد قال تعالى لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء. * ومن تابع غيره في بعض أموره، فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني، أي أنا من نوعه وهو من نوعي؛ لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع، كما في قوله تعالى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران:159]، فقول القائل: لستُ من هذا في شيء، أي لستُ مشاركاً له في شيء، بل أنا متبرئٌ من جميع أموره. * وإذا كان الله قد برأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع أمورهم، فمن كان متبعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - حقيقة كان متبرئاً كتبرئه، ومن كان موافقاً لهم كان مخالفاً للرسول بقدر موافقته لهم، فإن الشخصين المختلفَين من

كل وجه في دينهما، كلما شابهتَ أحدَهما خالفْتَ الآخر. 10 - قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ} [المجادلة:22] وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56،55] ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقاً ـ الذين هم حزبه وجنده ـ ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين، ولا يوادُّونهم. * والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومبايَنَتِهم. * ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً، أو

بعيداً إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة المباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة ـ كما توجبه الطبيعة، وتدل عليه العادة ـ ولهذا كان السلف - رضي الله عنهم - يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات. * فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قلت لعمر - رضي الله عنه -: «إن لي كاتباً نصرانياً»، قال: «مالك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟» قال: قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه»، قال: «لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أقصاهم الله». [رواه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند حسن] 11 - قوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] * فقوله: ولا يكونوا مثلهم، نهي مطلق عن مشابهتهم، هو خاص ـ أيضاً ـ في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة

ثانيا: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين:

القلوب من ثمرات المعاصي. * لما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم، وذكر أيضاً في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية، فما رعوها حق رعايتها، فعقبها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:28 - 29]؛ فإن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - تصديقه وطاعته وإتباع شريعته، وفي ذلك مخالفة للرهبانية؛ لأنه لم يبعث بها، بل نهى عنها، وأخبر أن من اتبعه (¬1) كان له أجران. [البخاري 57، مسلم241] ثانياً: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين: - جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها، بمخالفتهم وترك التشبه بهم: 1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اليهودَ والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» [البخاري3462، مسلم1103] فأمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن ¬

_ (¬1) (*) أي من أهل الكتاب.

يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع. * نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوَّر قلبه، حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون ـ من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان. * نفس ما هم عليه من الهدي، والخُلُق، قد يكون مُضِراً، أو مُنْقِصاً فيُنهى عنه، ويُؤمر بضده، لما فيه من المنفعة والكمال. وليس شيء من أمورهم، إلا وهو: إما مضر، أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة، ونحوها، مضرة، وما بأيديهم ـ مما لم ينسخ أصله ـ فهو يقبل الزيادة والنقص. * الكفر بمنزلة مرض القلب، وأشد، ومتى كان القلب مريضاً لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح: أن لا تُشْبِه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أن فساد الأصل لابد أن يؤثر في الفرع. 2 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالِفوا المشركين: أحْفوا الشوارب

وأوْفُوا اللحَى». [مسلم 259، 260] فأمر بمخالفة المشركين مطلقاً، ثم قال: «أحْفوا الشوارب وأوْفُوا اللحَى.» وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، لكن الأمر بها أولاً بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع. 3 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزّوا الشوارب وأرْخوا اللحى، خالفوا المجوس». [مسلم260] فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع. 4 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» [أبو داود 652وصححه الألباني] 5 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكْلةُ السَّحَر» [مسلم 1096] 6 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزالُ الدينُ ظاهراً ما عجَّل الناسُ الفطرَ؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون» [أبو داود2353وحسنه الألباني] وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى. * وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود

بإرسال الرسل أن يَظهر دينُ الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة. 7 - عن ليلى ـ امرأة بشير بن الخصاصية ـ قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاني عن ذلك، وقال: يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا» [رواه أحمد في المسند 21852وإسناده صحيح] فعلل النهي عن الوصال: بأنه صوم النصارى، ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها. 8 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله - عز وجل -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالَفَنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا

وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ظننا أن قد وجد (¬1) عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجِدْ عليهما. [مسلم302] * فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل: على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. 9 - عن عمرو بن عبسة، قال: كنت ـ وأنا في الجاهلية ـ أظن أن الناس على ضلالة، فإنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مستخفياً، جُرَآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلَني الله، فقلت: بأي شيء أرسلك؟، قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحَّدَ الله لا يُشرَكُ به شيء، فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حُرٌ وعبدٌ ـ قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ـ فقلت: إني متبعُك، قال: إنك لا ¬

_ (¬1) (*) وجد: غضب.

تستطيعُ ذلك يومَك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي قد ظهرت: فأْتِني، قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس، حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب ـ من أهل المدينة ـ فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتْله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمتُ المدينة، فدخلتُ عليه، فقلت: يا رسول الله: أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي لقيتَني بمكة، قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله ـ أخبرني عن الصلاة؟ قال: صلّ صلاة الصبح، ثم أقصِر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع، فإنها تطلع ـ حين تطلع ـ بين قرنَيْ شيطان، وحينئذ يسجدُ لها الكفار، ثم صلّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظلُ بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة، حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ: يسجد لها الكفار» [مسلم 832].

* فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللاً: بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق. 10 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلسْ هكذا فإنَّ هكذا يجلس الذين يُعَذَّبُون» [أبو داود 994 وحسنه الألباني] وفي رواية: «تلك صلاة المغضوب عليهم» [أبو داود993وصححه الألباني] وفي رواية: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يجلسَ الرجلُ في الصلاةِ وهو معتمدٌ على يَدِه» [أبو داود992 وصححه الألباني] ففي هذا الحديث: النَّهْي عن هذه الجلسة معللة بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هدْيِهم. 11 - عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنهما -: أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: «إن اليهود تفعله» [البخاري3458] ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى الرجل مُخْتَصِراً [مسلم545] وعن زياد بن

صبيح قال: «صلَّيْتُ إلى جنب ابن عمر فوضعتُ يدي على خاصرتي، فما صلى قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه. [أبو داود903وصححه الألباني] 12 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً فلما سلم قال: «إن كِدْتُم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم: يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً» [مسلم 413] ففي هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهو قعود. ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد. وفي هذا الحديث ـ أيضاً ـ نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله: «فلا تفعلوا».

ثم هذا الحديث ـ سواء كان محكَماً في قعود الإمام، أو منسوخاً ـ فإن الحجة منه قائمة، لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجع عليها، مثل كون القيام فرضاً في الصلاة، فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، والصحيح أن هذا الحديث محكم، قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع كونهم علموا صلاته في مرضه. وقد استفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخاً له، على ما هو مقرر في غير هذا الموضع: إما بجواز الأمرين، إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعداً، والصلاة التي ابتدأها الإمام قائماً، لعدم دخول هذه الصلاة في قوله: «وإذا صلى قاعداً» ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام، ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع. 13 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا

اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حَبْر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «خالفوهم» [ابن ماجة 1545وحسنه الألباني] قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت، ومعها إذا شيعت. 14 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» [أبو داود1554 وصححه الألباني]، وفي رواية لأحمد: «والشق لأهل الكتاب». [المسند19111وصححه الألباني] وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب، حتى في وضع الميت في أسفل القبر. 15 - عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» متفق عليه. [البخاري1294، مسلم103] ودعوى الجاهلية: ندب الميت، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية. 16 - عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ في

أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونَهُن: الفخرُ بالأحساب، والطعنُ في الأنساب، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحة» [مسلم934] ذم في الحديث، من دعا بدعوى الجاهلية، وأخبر أن بعض أمر الجاهلية، لا يتركه الناس كلهم، ذماً لمن لم يتركه، وهذا كله يقتضي: أن ما كان من أمر الجاهلية وفِعْلهم، فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية، خرج مخرج الذم، وهذا كقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فإن في ذلك ذماً للتبرج، وذماً لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه - لما عَيَّر رجلاً بأمه: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661]، فإنه ذمٌ لذلك الخلُق، ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام. ومنه - قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:26] فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية: اقتضى ذمها،

فما كان من أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك. فقد دلت هذه الأحاديث: على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه، والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمور الجاهلية مطلقاً وهو المطلوب في هذا الكتاب. والسنة الجاهلية: كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس، مما يعدونه عبادة، أو لا يعدونه عبادة، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتَتَّبِعُنَّ سننَ مَنْ كان قبلَكم» [البخاري7320، مسلم2669]- والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم، فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية: في أعيادهم وغير أعيادهم. ولفظ: (الجاهلية) قد يكون: أ- اسماً للحال ـ وهو الغالب في الكتاب والسنة ـ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661]، وقول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة [البخاري2042،

مسلم1656] وقول عائشة: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء، [البخاري5127] وقولهم: يا رسول الله كنا في جاهلية وشر [البخاري7084، مسلم1847] أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية، أو عادة جاهلية ونحو ذلك. ب- قد يكون اسماً لذي الحال، فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم إتباع العلم، فإن من لم يعلم الحق، فهو جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه: فهو جاهل جهلاً مركباً، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق، أو غير عالم: فهو جاهل أيضاً، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان:63] فالناس قبل مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل. وكذلك كل ما يخالف ما جاءت به المرسلون: من يهودية، ونصرانية، فهي جاهلية، وتلك الجاهلية العامة، فأما بعد مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تكون في مَصْر دون مَصر، كما هي في دار الكفار،

وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يُسْلِم، فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام. فأما في زمان مطلق: فلا جاهلية بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة. [البخاري 3641، 3640، مسلم1920، 1921] والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية» [مسلم934] وقال لأبي ذر - رضي الله عنه -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661] ونحو ذلك. 17 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحِجْر - أرض ثمود - فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تَرِدُها الناقة». [مسلم2981] وفي حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - لما مر بالحِجْر -: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكِين، فإن لم تكونوا باكِين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبَكم ما أصابهم»،

[البخاري3380،مسلم2980] فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء، خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم، ونهى عن الانتفاع بمياههم، حتى أمرهم ... ـ مع حاجتهم في تلك الغزوة، وهي أشد غزوة كانت على المسلمين ـ أن يعلفوا النواضح، بعجين مائهم. فإذا كانت الشريعة، قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار، في المكان الذي حلَّ بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها؟ فإنه إذا قيل: هذا العمل الذي يعملونه، لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرماً، ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه، فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية، لو تجرد عن كونه أثرهم، ونحن لا نقصد التشبه بهم، بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار، فإن جميع ما يعملونه، مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر، وإما معصية، وإما شعار كفر، أو معصية، وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجر إلى معصية، وما أحسب أحداً ينازع في جميع هذا، ولئن نازع فيه، فلا

يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية، وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان. ألا ترى: أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، في أعمالهم، أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم؟ 18 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقومٍ فهو منهم». [أبو داود4031وقال الألباني: حسن صحيح] وهذا الحديث أقل أحواله: أن يقتضى تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فقد يُحمَل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية، أو شعاراً لها كان حكمه كذلك. وبكل حال: يقتضي تحريم التشبه، بعلة كونه تشبهاً، والتشبه: يعم مَنْ فَعَل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك

الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «غيِّروا الشَّيْب ولا تشَبَّهوا باليهود» [الترمذي1821، وصححه الألباني] دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل، بل بمجرد ترْك تغيير ما خُلِق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية، الاتفاقية. وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زيّ غير المسلمين. 19 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس مِنَّا مَنْ تشبَّه بغيرِنا، لا تَشَبَّهوا باليهودِ ولا بالنصارَى، فإنَّ تسليمَ اليهود: الإشارةُ بالأصابعِ، وتسليمَ النصارى: الإشارةُ بالأكفِّ» [الترمذي2848، وحسنه الألباني] 20 - عن أبي غطفان المري قال: «سمعت عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - يقول: حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع»،

قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». [مسلم1133] وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا يوم عاشوراء، خالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً» [المسند2154، وحسنه أحمد شاكر، وضعفه الألباني] فتدبر: هذا يوم عاشوراء، يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك. 21 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنا أمَّة أمِّية: لا نَكتب ولا نحسب، الشهر: هكذا هكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين». [البخاري1913، مسلم1080] فوصف هذه الأمة، بترك الكتاب والحساب، الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عباداتهم وأعيادهم، وأحالها على الرؤية، حيث قال ـ في غير حديث ـ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [البخاري1909، مسلم1080] وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون ـ إلا من شذ من بعض

المتأخرين المخالفين، المسبوقين بالإجماع ـ من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك: إنما تقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب، الذي تسلكه الأعاجم: من الروم، والفرس، والقبط والهند، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقد يستدل بهذا الحديث، على خصوص النهي عن أعيادهم، فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب، والحديث فيه عموم. أو يقال: إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله، ففي غيرها من الأعياد والمواسم أولى وأحرى، ولما في ذلك من مضارعة (¬1) الأمة الأمية، سائر الأمم. وبالجملة ـ فالحديث يقتضي: اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها، وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص. 22 - عن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أنه سمع معاوية - رضي الله عنه -، عام حج، على المنبر، وتناول قُصَّة من شعر، كانت في يد حَرَسٍيّ (¬2)، ¬

_ (¬1) (*) مضارعة: مشابهة. (¬2) (**) الحَرَسِيّ: الذي يتولى الحراسة ونحوها.

فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذه ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم» [البخاري5932، مسلم2127] وفي رواية سعيد بن المسيب أن معاوية قال ذات يوم: إنكم أحدثتم زِيَّ سوء، وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزور، قال: وجاء رجل بعصى على رأسها خرقة قال معاوية: ألا وهذا الزور. قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن، من الخِرَق. [مسلم2127] وفي رواية عن ابن المسيب، قال: قدم معاوية المدينة فخطبنا، وأخرج كبة من شعر، فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعله، إلا اليهود، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه، فسماه الزور. [مسلم2127] فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وصل الشعر: أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم، يحذر أمته مثل ذلك، ولهذا: قال معاوية: ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود. فما كان من زي اليهود، أي لم يكن عليه المسلمون: إما أن يكون مما يعذبون عليه، أو مظنة لذلك، أو يكون تركه حسماً لمادة ما عذبوا عليه، لاسيما إذا لم يتميز

ما هو الذي عذبوا عليه من غيره، فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره، فيترك الجميع، كما أن ما يُخْبِرونا به لمَّا اشتبه صدقه بكذبه: تُرك الجميع. 23 - روى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ أو قال: قال عمر: إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب فليتَّزِر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود» [أبو داود635وصححه الألباني] فإن إضافة المنهي عنه إلى اليهود، دليل على أن لهذه الإضافة تأثيراً في النهي. 24 - ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ غداة العقبة وهو على ناقته: «القُطْ لي حصى»، فلقطتُ له سبع حصَيات، من حصى الخَذْف، فجعل ينفضهن في كفِّه ويقول: «أمثال هؤلاء فارْمُوا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». [ابن ماجه3029 وصححه الألباني] وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يُزادَ الشيءُ، في حمده، أو ذمِّه ما

يستحق، ونحو ذلك. والنصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال، من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك، بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين، كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم، يخاف أن يكون هالكاً. 25 - أنه - صلى الله عليه وسلم - حذرنا من مشابهة مَن قَبلَنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوي بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة. ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنهما - ـ في شأن المحزومية التي سرقت، لما كلم أسامة فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: «يا أسامة أتشْفَعُ

في حد من حدود الله؟! إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريفُ تركُوه، وإذا سرقَ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفْسي بيدِه لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمد سرقَتْ لقطعتُ يدها». [البخاري3475، مسلم1688] وكان بنو مخزوم من أشرف بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر: أن فاطمة ابنته ـ التي هي أشرف النساء ـ لو سرقت ـ وقد أعاذها الله من ذلك ـ لَقَطَع يدها؛ لِيُبَيِّن: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنتُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن بنت غيره. 26 - عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأُ إلى الله أنْ يكونَ لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك». [مسلم532]

وصف - صلى الله عليه وسلم - أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وعقب هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء، أن لا يتخذوا القبور مساجد، وقال إنه - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن ذلك. ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا، إما مظهر للنهي، وإما موجب للنهي، وذلك يقتضي: أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي. وعلى التقديرَيْن: يُعلَم أنَّ مخالفتَهم أمر مطلوب للشارع في الجملة، والنهي عن هذا العمل ـ بلعنة اليهود والنصارى ـ مستفيض عنه - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين، عن عائشة الله وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ: «لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى: اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا. [البخاري435،436،مسلم 531] وفي الصحيحين ـ أيضاً ـ عن عائشة - رضي الله عنهما -: أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة، رأَيْنَها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «

أولئك قومٌ إذا مات فيهم العبدُ الصالح، أو الرجل الصالح، بنَوْا على قبرِه مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ الخلقِ عند الله - عز وجل -.» [البخاري 426،مسلم528] فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد، على قبر الرجل الصالح ـ صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر من جنس أعمالهم، حيث لا يُؤْمَن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس. ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرمٌ ملعون ٌفاعله بالمستفيض من السنة، وتحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. 27 - عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب (¬1)؟ فقال: «ما أنْهَرَ الدمَ، وذُكِر اسمُ الله عليه، فكُلْ، ليس السن والظفر، ¬

_ (¬1) (*) القَصَب: كل نبات ساقه أنابيب وكعوب ومنه قصب السكر، والكعب: العقدة بين الأنبوبتين.

وسأحدثكم عن ذلك، أما السِّنّ: فعظم، وأما الظفر: فمُدَى (¬1) الحبشة». [البخاري2488، مسلم1968] نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح بالظفر، معللاً بأنها مُدَى الحبشة، كما علل السِّن: بأنه عظم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأما الظفر فمدى الحبشة»، بعد قوله: «وسأحدثكم عن ذلك»، يقتضي أن هذا الوصف ـ وهو كونه مُدَى الحبشة ـ له تأثير في المنع: إما أن يكون علة، أو دليلاً على العلة، أو وصفاً من أوصاف العلة، أو دليلها، والحبشة في أظفارهم طول، فيُذَكّون بها دون سائر الأمم، فيجوز أن يكون نَهى عن ذلك: لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به. 28 - في الصحيحين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: البَحِيرة: التي يمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيِّبُونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء وقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيتُ عمرو بن عامر الخزاعي، يجرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيَّب السوائب» [البخاري3521، مسلم2856] ¬

_ (¬1) (**) المُدَى: جمع مُدْية وهي السكين.

من العلم المشهور: أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت، ويقال: إنه جلبها من البلقاء، من أرض الشام، متشبهاً بأهل البلقاء، وهو أول من سيَّبَ السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه: (يجر قُصْبَه في النار)، وهي الأمعاء؛ لأنها تشبه القصب، ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد، والحنيفية السمحة، دين أبيهم إبراهيم، فتشبه عمرو بن لحي، وكان عظيم أهل مكة يومئذ، لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش، وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة؛ لأن فيها بيت الله، وإليها الحج، ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام، فتشبه عمرو بمن رآه في الشام، واستحسن بعقله ما كانوا عليه، ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، تعظيماً لله وديناً، فكان ما فعله أصل الشرك في العرب، أهل دين إبراهيم، وأصل تحريم الحلال، وإنما فعله متشبهاً فيه بغيره من أهل الأرض، فلم يزَل الأمر يتزايد، ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله - عز وجل -، وتغيير دينه إلى أن بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - الله فأحيا ملة

إبراهيم - عليه السلام - وأقام التوحيد، وحلل ما كانوا يحرمونه. 29 - عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصُب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكروا له القنع، شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال فذكروا له الناقوس، قال: هو من فعل النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، وهو مهتم لِهَمّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأُرِيَ الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فقال: يا رسول الله: إني لَبَيْنَ نائمٍ ويقظان، إذا أتاني آتٍ، فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: «ما منعك أن تخبرنا»؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بلال قُمْ فانظر ما يأمُرُك به عبد الله بن زيد فافْعَلْهُ»، فأذن بلال. [أبو داود498وصححه الألباني] * لما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد، علل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا

بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم، يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عن ما هو من أمر اليهود والنصارى. هذا ـ مع أن قرن اليهود يقال: أن أصله مأخوذ عن موسى - عليه السلام -، وأنه كان يضرب بالبوق في عهده، وأما ناقوس النصارى فمبتدَع، إذ عامة شرائع النصارى، أحدثها أحبارهم ورهبانهم. وهذا يقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقاً في غير الصلاة أيضاً، لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة، غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة. 30 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» [البخاري5632، مسلم2067] وعن عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفَريْن فقال: «إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها» [مسلم 2077] علل النهي عن لبسها بأنها: من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار، بأنهم يستمتعون

ثالثا: ذكر إجماع الصحابة والسلف على شرعية المخالفة للكفار

بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك. كما أنه في الحديث قال: يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا، وهي للمؤمنين في الآخرة، ولهذا كان العلماء، يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة، تشبهاً بالكفار. ثالثاً: ذكر إجماع الصحابة والسلف على شرعية المخالفة للكفار والإجماع من وجوه: الوجه الأول: أن أمير المؤمنين، عمر في الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء ـ جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوَقِّر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء، من لباسهم: قلنسوة، أو عمامة أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنانير (¬1)، وأن ¬

_ (¬1) (*) الزنار: حزام يشده النصارى على أوساطهم.

لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليباً، ولا كتباً (¬1)، في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين. رواه حرب (¬2) بإسناد جيد. وفي رواية أخرى رواها الخلال: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً، في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في كنائسنا، فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليباً، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثاً ـ والباعوث: يخرجون يجتمعون كما يخرج يوم الأضحى والفطر ـ ولا شعانينا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور ـ إلى أن قال: وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فَرْق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز ¬

_ (¬1) (**) أي: من كتب دينهم. (¬2) ( ... ) هو حرب بن إسماعيل الكرماني، رجل جليل من أتباع الإمام أحمد بن حنبل.

مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا. وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمَع عليها ـ في الجملة ـ بين العلماء من الأئمة المتبوعين، وأصحابهم، وسائر الأئمة، ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها، وهي أصناف: 1 - ما مقصوده التمييز عن المسلمين، في الشعور واللباس والأسماء والمراكب والكلام، ونحوها، ليتميز المسلم عن الكافر، ولا يتشبه أحدهما بالآخر في الظاهر، ولم يرض عمر - رضي الله عنه - والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتمييز في عامة الهدي، على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع. وذلك يقتضي: إجماع المسلمين على التمييز عن الكفار ظاهراً، وترك التشبه بهم. كذلك الشروط التي شرطها عمر بن عبد العزيز تقتضي منعهم من التشبه بالمسلمين. وكذلك فعل جعفر بن محمد بن هارون المتوكل بأهل الذمة في خلافته، واستشار في ذلك الإمام أحمد بن حنبل، وغيره، وعهوده في ذلك، وجوابات أحمد بن حنبل له معروفة.

2 - ما يعود بإخفاء منكرات دينهم، وترك إظهارها، كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس، والنيران والأعياد، ونحو ذلك. 3 - ما يعود بإخفاء شعار دينهم، كأصواتهم بكتابهم. فاتفق عمر - رضي الله عنه - ـ والمسلمون معه، وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور ـ على منعهم من أن يُظهِروا في دار الإسلام شيئاً مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها؟. 4 - ما يعود بترك إكرامهم، وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى. ومن المعلوم: أن تعظيم أعيادهم، ونحوها ـ بالموافقة فيها ـ نوعٌ من إكرامهم، فإنهم يفرحون بذلك، ويُسَرّون به، كما يغتمّون بإهمال أمر دينهم الباطل. الوجه الثاني من دلائل الإجماع: أن هذه القاعدة، قد أمر بها غير واحد، من الصحابة والتابعين، في أوقات متفرقة، وقضايا متعددة، وانتشرت ولم ينكرها منكر: 1 - عن قيس بن أبي حازم قال: «دخل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -،

على امرأة من أحمس، يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها تكلمي، فإن هذا لا يحِلّ، هذا عمل الجاهلية، فتكلمت» [البخاري3834] فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقَّب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصداً بذلك عيب هذا العمل، وذمه. وتعقيب الحكم بالوصف: دليل على أن الوصف علة، ولم يشرع في الإسلام؛ فيدخل في هذا: كل ما اتخذ من عبادة، مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام، وإن لم ينوِّهْ عنه بعينه، كالمكاء والتصدية، فإن الله تعالى قال عن الكافرين: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] والمكاء: الصفير ونحوه. والتصدية: التصفيق. فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية، الذي لم يشرع في الإسلام. وكذلك: بروز المُحرِم وغيرُه للشمس، حتى لا يستظل بظل، أو ترك الطواف بالثياب المتقدمة، أو ترك كل ما عمل في غير الحرم، ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات، وإن كان قد جاء نهي خاص في عامة هذه الأمور، بخلاف السعي

بين الصفا والمروة، وغيره من شعائر الحج، فإن ذلك من شعائر الله، وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة. 2 - روى مسلم في صحيحه، عن عمر بن الخطاب: أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: إياكم وزيّ أهل الشرك. [مسلم2069] 3 - روى ابن أبي عاصم أن معاوية قال: إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم. [قال الألباني: إسناده صحيح] يشير معاوية إلى ما رواه مسلم في صحيحه، عن فضالة بن عبيد: أنه أمر بقبر فسُوّي، ثم قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها» [مسلم 968] 4 - روى البخاري عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنهما -:أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: «إن اليهود تفعله». [البخاري3458] وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة. وهذه القضايا التي ذكرناه: بعضها في مظنة الاشتهار، وما علمنا أحداً خالف ما ذكرناه عن الصحابة - رضي الله عنهم - من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة.

الأمر بمخالفة الشياطين:

الوجه الثالث في تقرير الإجماع: ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين، والأئمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار، أو مخالفة النصارى، أو مخالفة الأعاجم، وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه، وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة، وهذا بعد التأمل والنظر، يورث علماً ضرورياً، باتفاق الأئمة، على النهي عن موافقة الكفار والأعاجم، والأمر بمخالفتهم. الأمر بمخالفة الشياطين: ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار: الأمر بمخالفة الشياطين كما روى مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يأكُلَنَّ أحدُكم بشمالِه، ولا يشربَنَّ بها، فإن الشيطان يأكلُ بشماله ويشربُ بها». [مسلم2019] فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال: بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة. أعمال الكفار والأعاجم ونحوهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار:

ما دل على أن التشبه بهم في الجملة مَنهيٌّ عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع: إما إيجاباً وإما استحباباً، بحسب المواضع، وقد تقدم بيان أن ما أُمر به من مخالفتهم مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصد، وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد، فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك. ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام: 1 - قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعاً لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعاً لهم لكنهم يفعلونه الآن. 2 - قسم كان مشروعاً ثم نسخه شرع القرآن. 3 - قسم لم يكن مشروعاً بحال، وإنما هم أحدثوه. وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما أن تكون في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام. فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعاً في الشريعتين، أو ما

كان مشروعاً لنا وهم يفعلونه، فهذا كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل، كما سُنَّ لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء، وكما أُمِرنا بتعجيل الفطور والمغرب، مخالفة لأهل الكتاب، وبتأخير السحور، مخالفة لأهل الكتاب، وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود، وهذا كثير في العبادات، وكذلك العادات، قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللحد لنا والشق لغيرنا». [أبو داود3208،وصححه الألباني] وسُنَّ توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة، تمييزاً لها عن مقابر الكافرين، فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة، في الأمور العادية، ثم قد اختلفت الشرائع في صفته، وهو أيضاً فيه عبادات، ولباس النعل في الصلاة فيه عبادة وعادة، ونزع النعل في الصلاة شريعة كانت لموسى - عليه السلام -، وكذلك اعتزال الحُيَّض، ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها، وخالفناهم في وصفها. القسم الثاني: ما كان مشروعاً ثم نسخ بالكلية: كالسبت، أو إيجاب صلاة أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا، سواء كان واجباً عليهم، فيكون عبادة، أو محرماً عليهم، فيتعلق

بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك، وكذلك ما كان مركباً منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد المشروع يجمع عبادة: وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك، ويجمع عادة: وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواظبة (¬1)، واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - ـ لما زجر أبو بكر - رضي الله عنه - الجويريتين عن الغناء في بيته ـ: «دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا» [البخاري949، 952، مسلم892] وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليهم. [البخاري950] فالأعياد المشروعة، يشرع فيها وجوباً أو استحباباً: من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها أو يستحب أو يجب: من العادات التي للنفوس فيها حظ ما لا يكون في غيرها كذلك، ولهذا وجب فطر العيدين وقُرِن بالصلاة في أحدهما: الصدقة، وقُرِن بها ¬

_ (¬1) (*) الواظبة: الراتبة التي يداوم عليها الإنسان.

في الآخر الذبح، وكلاهما من أسباب الطعام، فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات، أو العادات، أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل؛ ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة، كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة. القسم الثالث: ما أحدثوه من العبادات أو العادات، أو كليهما: فهو أقبح وأقبح، فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحاً، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون، فالموافقة فيه ظاهرة القبح، فهذا أصل. وأصل آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه ـ من عبادة، أو عادة، أو كليهما ـ هو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع، إذ الكلام في ما كان من خصائصهم، وأما ما كان مشروعاً لنا، وقد فعله سلفنا السابقون: فلا كلام فيه. فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع، وكراهتها، تحريماً أو تنزيها، تندرج هذه المشابهات فيها، فيجتمع فيها: أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي، إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف!

موافقتهم في أعيادهم لا تجوز

والبدع منهي عنها في الجملة، ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي. الأعياد إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً، ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم، لما في مخالفتهم من المصلحة، فمن وافقهم فوّت على نفسه هذه المصلحة، وإن لم يكن قد أتى بمفسده، فكيف إذا جمعهما؟ ومن جهة أنه من البدع المحدثة، وهذه الطريق لا ريب أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبه بهم: أن يكون مكروهاً، وكذلك أقل أحوال البدع: أن تكون مكروهة (¬1)، ¬

_ (¬1) قال الإمام الشاطبى /: «وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهة في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهة التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح المتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبيلين، فيطلقون لفظ الكراهة على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك. وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحاً أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ويتحامون العبارة خوفاً مما في الآية من قوله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} (النحل: 116) وحكى مالك عمن تقدم هذا المعنى، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزية؟» [الاعتصام (2//397،398)]

ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» [أبو داود 4031،وقال الألباني: حسن صحيح] فإن موجب هذا: تحريم التشبه بهم مطلقاً. وكذلك قوله: «خالفوا المشركين» [البخاري5893، مسلم259] ونحو ذلك، ومثل ما ذكرنا من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم، إلى غير ذلك من الدلائل. فمن انعطف (¬1) على ما تقدم من الدلائل العامة: نصاً وإجماعاً وقياساً، تبين له دخول هذه المسألة، في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم، التي هي دينهم، أو شعار دينهم الباطل، وأن هذا محرم كله بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، ولا شعاراً له، مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز، كما أن لبسهما ¬

_ (¬1) (*) انعطف: رجع ومال.

الطريق الثاني ـ الخاص ـ في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.

جائز، وتبين له أيضاً: الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا، لم نُحدِث شيئاً نكون به موافقين لهم فيه، وبين أن نحدث أعمالاً أصلها مأخوذ عنهم، قصدنا موافقتهم، أو لم نقصد. وأما الطريق الثاني ـ الخاص ـ في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار. أولاً: الكتاب: ما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: هو الشعانين. عن مجاهد قال: هو أعياد المشركين وعن الربيع بن أنس قال: أعياد المشركين. وعن عطاء بن يسار قال: قال عمر: إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم. وقول هؤلاء التابعين: إنه أعياد الكفار ليس مخالفاً لقول بعضهم: إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية، ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا (¬1)، وقول بعضهم: إنه الغناء؛ لأن عادة السلف في ¬

_ (¬1) (**) الخنا: الفحش في الكلام.

ثانيا: السنة

تفسيرها هكذا، يذكر الرجل نوعاً من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبِّه به على الجنس، كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفاً ويقال له: هذا، بالإشارة إلى الجنس، لا إلى عين الرغيف. ولكن قد قال قوم: إن المراد: شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه تعالى قال: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: لا يشهدون بالزور. والعرب تقول: شهدت كذا: إذا حضرته، كقول ابن عباس: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم [البخاري962] وأما (شهدت بكذا) فمعناه: أخبرت به. وأعياد المشركين إذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور، برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك، من العمل الذي هو عمل الزور، لا مجرد شهوده؟ ثانيًا: السنة الوجه الأول: روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان

اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر» [أبو داود1134، وصححه الألباني] فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرُّهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين»، والإبدال من الشيء، يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما، كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] وقوله: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16] فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أبدلَكم بهما خيراً منهما» يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما وقوله: «خيراً منهما» يقتضي الاعتياض بما شرع لنا، عما كان في الجاهلية. وأيضاً ـ فقوله لهم: «إن الله قد أبدلكم»، لما سألهم عن اليومين فأجابوه: بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية، دليل

على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام، إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً، إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه، ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية. وفي قول أنس: ولهم يومان يلعبون فيهما وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيراً منهما» دليل على أن أنساً - رضي الله عنه - فهم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أبدلكم بهما» تعويضاً باليومين المبدلين. وأيضاً ـ فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما، ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة، إذ العادات لا تغيَّر إلا بمغيِّر يزيلها، ولاسيما وطباع النساء والصبيان، وكثير من الناس متشوفة إلى اليوم الذي يتخذونه عيداً للبطالة واللعب، ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم، لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، فلولا قوة المانع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان

ثابتاً، وكل ما منع النبي منعاً قوياً كان محرماً إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا. وهذا أمر بيِّن لا شبهة فيه؛ فإن مثل ذينك العيدين، لو عاد الناس إليهما بنوع مما كان يفعل فيهما ـ إن رخص فيه ـ كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه، فهو المطلوب. والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشد منه، فإنه مثله على ما لا يخفى، إذ الشر الذي له فاعل موجود، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي. الوجه الثاني: عن ثابت بن الضحاك قال: «نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قالوا: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ

بنَذْرك، فإنه لا وفاءَ لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملكُ ابنُ آدم» [أبو داود3313 وصححه الألباني] فوجه الدلالة: أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما: إما إبلا، وإما غنما، وإما كانت قضيتين، بمكان سماه، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: فهل كان بها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، فقال: أوف بنذرك، ثم قال: لا وفاء لنذر في معصية الله».وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم ـ معصية لله، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهياً عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟ يوضح ذلك: أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد: إما بعود السنة، أما بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك. فالعيد: يجمع أموراً: * منها: يوم عائد، كيوم الفطر، ويوم الجمعة. * ومنها: اجتماع فيه. * ومنها: أعمال تتبع ذلك: من العبادات والعادات، وقد

يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً. فالزمان كقوله - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة: «إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين». [ابن ماجه1097، وحسنه الألباني] والاجتماع والأعمال: كقول ابن عباس: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [البخاري962، مسلم884] والمكان: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا قبري عيداً». [أبو داود2042، وصححه الألبانى] وقد يكون لفظ: العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعْهُما يا أبا بكر فإن لكل قومٍ عيداً وإن هذا عيدُنا» [البخاري952، مسلم892] فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل بها عيد من أعيادهم؟»، يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي كانت عيداً، فلما قال: لا، قال له: «أَوْفِ بنذرك»، وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها ـ وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظَم الكلام، ولا حَسُنَ الاستفصال. فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يُذبح في مكان كان الكفار يعملون فيه عيداً وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد،

والسائل لا يتخذ المكان عيداً، بل يذبح فيه فقط: فقد ظهر أن ذلك سَدٌّ للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم، خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة، وذريعة إلى اتخاذها عيداً، مع أن ذلك العيد إنما كان يكون ـ والله أعلم ـ سوقاً يتبايعون فيها، ويلعبون، كما قالت له الأنصار: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ولهذا فرق - صلى الله عليه وسلم - بين كونها مكان وثن، وكونها مكان عيد. وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان. وأعياد الكفار: من الكتابِيِّين والأميين، في دين الإسلام، من جنس واحد، كما أن كفر الطائفتين سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريماً من بعض، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتابين أُقِرُّوا على دينهم، مع ما فيه من أعيادهم، بشرط: أن لا يظهروها، ولا شيئاً من دينهم، وأولئك لم ُيقَرُّوا، بل أعياد الكتابيين ـ التي تتخذ دينا وعبادة ـ أعظم تحريماً من عيد يتخذ لهواً ولعباً، لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه، ولهذا كان الشرك أعظم إثماً من الزنا.

وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنَّس المسلم بشيء من أمر الكفار ـ الذين قد يئس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب ـ فالخشية من تدنسه بأوضار (¬1) الكتابيين الباقين أشد، والنهي عنه أوْكد، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم؟. الوجه الثالث من السنة: أن هذا الحديث وغيره، قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محى الله ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك. ومعلوم أنه لولا نَهْيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد، لأن المقتضي لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد، خصوصاً أعياد الباطل، من اللعب واللذات، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد، فإن العادة طبيعة ثانية، وإذا كان المقتضي قائماً قوياً، فلولا المانع القوي، لما درست تلك الأعياد. وهذا يوجب العلم اليقيني، بأن إمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أمته منعاً قوياً عن أعياد الكفار، ويسعى في دروسها، وطمسها بكل ¬

_ (¬1) (*) أوضار: أوساخ.

سبيل، وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم، إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته، كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته، لما هم عليه في سائر أعمالهم، من سائر كفرهم ومعاصيهم، بل قد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات، وصفات الطاعات، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً عن سائر أمورهم، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم، كان أبعد عن أعمال أهل الجحيم. فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم غاية ـ بأبي هو وأمي ـ وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الوجه الرابع من السنة: في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: دخل عليّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاوَلَتْ به الأنصار، يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -:أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك يوم عيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا»

وفي رواية: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وإن عيدنا هذا اليوم». وفي الصحيحين أيضاً - أنه قال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد»، وتلك الأيام أيام منى. [البخاري987، 3931، 952، مسلم892] فالدلالة من وجوه: 1 - قوله: «إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا»، فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما أن الله سبحانه لما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة48] أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، وذلك أن اللام تورث الاختصاص، فإذا كان لليهود عيد، وللنصارى عيد، كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه، كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم. وكذلك ـ أيضاً ـ على هذا: لا ندعهم يشركوننا في عيدنا. 2 - قوله: «وهذا عيدنا» فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: «وإن عيدنا هذا اليوم»، فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق، فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصراً في جنس ذلك اليوم. وكذا قوله: «وإن هذا اليوم». أي: جنس هذا اليوم، كما يقول

القائل لما يعاينه من الصلاة: هذه صلاة المسلمين، ويقول لمخرج الناس إلى الصحراء وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك: هذا عيد المسلمين ونحو ذلك. ومن هذا الباب: حديث عقبة عامر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» [أبوداود2419وصححه الألباني] فإنه دليل مفارقتنا لغيرنا في العيد، والتخصيص بهذه الأيام الخمسة؛ لأنه يجتمع فيها العيداًن: المكاني والزماني، ويطول زمنه، وبهذا يسمى العيد الكبير. 3 - أنه رخص في لعب الجواري بالدف، وتغنيهن، معللاً بأن لكل قوم عيداً، وأن هذا عيدنا، وذلك يقتضي: أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين، وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار، وأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار، كما يرخص فيه في أعياد المسلمين. فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين، وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه.

الوجه الخامس من السنة: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى، حتى أجلاهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته، وكان اليهود بالمدينة كثيراً في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد هادَنهم حتى نقضوا العهد، طائفة بعد طائفة، وما زال بالمدينة يهود، وإن لم يكونوا كثيراً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عد يهودي، وكان في اليمن يهود كثير، والنصارى بنجران وغيرها، والفرس بالبحرين، ومن المعلوم: أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها، ومن المعلوم ـ أيضاً ـ أن المقتضي لما يفعل في العيد ـ من الأكل والشرب، واللباس والزينة، واللعب والراحة، ونحو ذلك ـ قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع، خصوصاً في نفوس الصبيان والنساء، وأكثر الفارغين من الناس. ثم من كانت له خبرة بالسيرة، علم يقيناً أن المسلمين على عهده - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين، بل ذلك اليوم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يخصونه بشيء أصلاً إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه، كصومه.

فلولا أن المسلمين كان دينهم الذي تلقوه عن نبيهم منع من ذلك وكف عنه، لوجب أن يوجد من بعضهم فِعْلُ بعضِ ذلك، لأن المقتضي إلى ذلك قائم، كما تدل عليه الطبيعة والعادة، فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه، ثم على هذا جرى عمل المسلمين، على عهد الخلفاء الراشدين. الوجه السادس من السنة: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد». [البخاري 238، مسلم855] وفي لفظ صحيح: «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له». [مسلم 855] وعن أبي هريرة، وحذيفة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن

الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم ـ وفي رواية ـ بينهم قبل الخلائق». [مسلم856] وقد سمّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة: عيداً في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد. ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود، والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت، أو عيد يوم الأحد، خالفنا هذا الحديث، وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي، فكذلك في العيد الحَوْلي، إذ لا فرق، بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي، فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي، أو الفارسي أو العبري، ونحو ذلك. والمعنى والله أعلم: أي نحن الآخرون في الخلق، السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة، كما قد جاء في الصحيح أن هذه الأمة أول من يدخل الجنة من الأمم، [مسلم855] وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أول من يفتح له باب الجنة، [مسلم197] وذلك لأنا أوتينا الكتاب من بعدهم، فهُدِينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين،

وصار عملنا الصالح قبل عملهم، فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح، جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح. الوجه السابع من السنة: ما روى كريب مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أم سلمة - رضي الله عنهما -، أسألها: أي الأيام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرها صياماً؟ قالت: كان يصوم يوم السبت، ويوم الأحد، أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين؛ فأنا أحبُّ أن أخالفَهم».رواه أحمد. [المسند26629، وقال محققه: إسناده صحيح] وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم، وإن كان على طريق الاستحباب. وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت، وتعليل ذلك أيضاً بمخالفتهم، ونذكر حكم صومه مفرداً عند العلماء، وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم، وإنما اختلفوا: هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم لمخالفة فعلهم فيه، أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر، أو يفرق بين العيد العربي، والعيد العجمي؟ على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ثالثا: تقرير الإجماع على النهي عن مشابهة الكافرين في أعيادهم وما وراء ذلك من آثار: وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:

ثالثًا: تقرير الإجماع على النهي عن مشابهة الكافرين في أعيادهم وما وراء ذلك من آثار: وأما الإجماع والآثار فمن وجوه: أحدها: أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية، يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السابقين من المسلمين، من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة، كراهة ونهياً عن ذلك، وإلا لوقع ذلك كثيراً، إذ الفعل مع وجود مقتضيه، وعدم منافيه، واقع لا محالة، والمقتضي واقع، فعلم وجود المانع، والمانع هنا هو: الدين، فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة، وهو المطلوب. الثاني: في شروط عمر - رضي الله عنه - ـ التي اتفقت عليها الصحابة، وسائر الفقهاء بعدهم ـ أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا الشعانين والباعوث، فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها، مظهراً لها؟

وذلك: أنا إنما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد: إما لأنها معصية أو شعار المعصية، وعلى التقديرين: فالمسلم ممنوع من المعصية، ومن شعار المعصية، ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجْرِئَة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم إذا فعلها. الثالث: روى البيهقي بإسناد صحيح، في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم، والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: عن عطاء بن دينار، قال: قال عمر: «لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم». وروى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: «من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة». هذا عمر - رضي الله عنه - نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم؟ أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد

كراهة السلف للرطانة وهي التشبه بالأعاجم في كلامهم:

الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه، أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟ وأما عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: فصرح أنه: من بنَى ببلادهم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم، وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهراً لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية؛ لأنه لو لم يكن مؤثراً في استحقاق العقوبة لم يَجُز جَعْلُه جزءاً من المقتضي، إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطاً ببعض، لأن أبعاض ما ذكره يقتضي الذم منفرداً، وإنما ذكر ـ والله أعلم ـ من بنى ببلادهم؛ لأنهم على عهد عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار أعيادهم بدار الإسلام، وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم، وإنما يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم. كراهة السلف للرطانة وهي التشبه بالأعاجم في كلامهم: وأما الرطانة، وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال أبو

محمد الكرماني ـ المسمى بحرب ـ: باب تسمية الشهور بالفارسية، «قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً، يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة». فما قاله أحمد من كراهة هذه الأسماء له وجهان: أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم، جاز أن يكون معنى محرماً، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه، ولهذا كرهت الرقى العجمية، كالعبرانية، أو السريانية، أو غيرها، خوفاً أن يكون فيها معان لا تجوز. الوجه الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية، التي في الصلاة والذكر، أن يدعى الله، أو يذكر بغير العربية. ونُقِل عن طائفة منهم، أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية، قال منذر الثوري: سأل رجل محمد بن الحنفية عن الجبن، فقال: «يا جارية اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به نبيزاً،

فاشترت به نبيزاً ثم جاءت به» يعني الجبن. وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية، أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك، إما لكون المخاطب أعجمياً، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ـ وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها ـ فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - خميصة وقال: يا أم خالد، هذا سنا»، والسنا بلغة الحبشة: الحسن. [البخاري5845] وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمَصْر وأهله، أو لأهل الدار، للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، وأهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب ـ ولغة أهلها بربرية ـ عودوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديماً.

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب. واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيراً قوياً بَيِّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضاً ـ فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر بن زيد: كتب عمر إلى أبي موسى - رضي الله عنه -: «أما بعد. فتفقهوا في السنة، وتفقهوا

رابعا: وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:

في اللغة وأعربوا القرآن، فإنه عربي»، وفي حديث آخر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم» وهذا الذي أمر به عمر - رضي الله عنه - من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله. رابعًا: وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه: أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤُها فأقل أحواله: أن تكون معصية وإلى هذا

الاختصاص أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن لكل قومٍ عيداً وإن هذا عيدُنا» [البخاري952، 949، مسلم892] وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم، لأن تلك علامة وضعية ليست من الدين، وإنما الغرض بها مجرد التمييز بين المسلم والكافر، وأما العيد وتوابعه، فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه. ثم كل ما يختص به ذلك ـ من عبادة وعادة ـ فإنما سببه هو كونه يوماً مخصوصاً، وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء، وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء بل كفر به. الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله؛ لأنه إما محدث مبتدع، وإما منسوخ، وأحسن أحواله ـ ولا حسن فيه ـ أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس. هذا إذا كان المفعول مما يُتَدَيَّنُ به، وأما ما يتبع ذلك ـ من التوسع في العادات من الطعام واللباس، واللعب والراحة ـ فهو تابع لذلك العيد الديني، كما أن ذلك تابع له في دين الله: الإسلام، فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيداً مبتدعاً يخرج فيه إلى

الصحراء، ويفعل فيه من العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر، أو مثل أن ينصب بِنْيَة يُطاف بها وتُحج ويُصنع لمن يفعل ذلك طعاماً، ونحو ذلك، فلو كره المسلم ذلك، لكن غير عادته ذلك اليوم، كما يغير أهل البدعة عادتهم في الأمور العادية أو في بعضها، بصنعة طعام وزينة لباس، وتوسيع في نفقة، ونحو ذلك، من غير أن يتعبد بتلك العادة المحدثة ـ ألم يكن هذا من أقبح المنكرات؟ فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد. نعم: هؤلاء يُقَرّون على دينهم المبتدع، والمنسوخ، مُسْتَسِرِّين به، والمسلم لا يُقَرُّ على مبتدع ولا منسوخ، لا سراً ولا علانية، وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشد. الوجه الثالث: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيداً، حتى يُضَاهَى بعيد الله، بل قد يُزاد عليه، حتى يكاد أن يُفْضِي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوَّله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام، فيما يفعلونه في أواخر

صوم النصارى، من الهدايا والأفراح، والنفقات وكسوة الأولاد، وغير ذلك، مما يصير به مثل عيد المسلمين، بل البلاد المصاقبة (¬1) للنصارى، التي قل علم أهلها وإيمانهم، قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله، على ما حدثني به الثقات. (¬2) الوجه الرابع: أن الأعياد والمواسم في الجملة، لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والحج، ولهذا جاءت بها كل شريعة، كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34]. وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه، وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية، فإنه لا عيد في النوع أعظم ¬

_ (¬1) (*) المصاقبة: القريبة (¬2) (**) والناظر إلى حال المسلمين اليوم يجد كثيرًا منهم ـ للأسف ـ يتشبه بالكفار في أعيادهم كعيد رأس السنة الميلادية (الكريسماس) وعيد الغطاس وشم النسيم وعيد الأم وعيد الحب وعيد ميلاد الشخص وغيرها.

من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر، ولا عين من أعيان هذا النوع، أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعامة المسلمين، وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله. والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها، ومن شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعامٍ حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة، وتجشم، وربما ضرَّه أكلُه، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قَلَّتْ رغبتُه في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف مَن صرف نهمته وهِمَّته إلى المشروع، فإنه تعظيم محبته له ومنفعته به ويتم دينه، ويكمل إسلامه. ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى

لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير. ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» رواه الإمام أحمد [المسند16907 وضعفه الألباني] وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء، والعباد، والأمراء والعامة وغيرهم، ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع، وكرهَتْها؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفاً، بل لابد أن يوجب له فساداً، منه نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض منه. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في العيدين الجاهليين: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيراً منهما» [أبو داود1134وصححه الألباني] فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعاً من الاغتذاء، أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال الصالحة النافعة الشرعية، فيفسد عليه حاله من حيث لا يشعر، كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا

يشعر، وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع. إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره، اتفاقاً واجتماعات وراحة، ولذة وسروراً، وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به، فلهذا جاءت الشريعة في العيد، بإعلان ذكر الله تعالى فيه، حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته، وغير ذلك ما ليس في سائر الصلوات، وأقامت فيه من تعظيم وتنزيل الرحمة فيه خصوصاً العيد الأكبر، ما فيه صلاح الخلق، كما دل عليه قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27] فصار ما وُسِّع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عوناً على انتفاعها بما خُصَّ به من العبادات الشرعية، فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها، أو بعضه الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد الله، وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم، فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه، فخسرت النفوس خسراناً مبيناً، وأقل الدرجات: أنك لو فرضت رجلين: أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر

العيد على المشروع، والآخر مهتم بهذا وبهذا، فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع، أعظم اهتماماً به من المشرك بينه وبين غيره ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه، وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع. وأما الإحساس بفتور الرغبة، فيجده كل أحد، فإنا نجد الرجل إذا كسا أولاده، أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة، فلابد أن تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم. الوجه الخامس: أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، خصوصاً إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار، فرأوا المسلمين قد صاروا فرعاً لهم في خصائص دينهم، فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص، واستذلال الضعفاء، وهذا أيضاً، أمر محسوس، لا يستريب فيه عاقل فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم؟ الوجه السادس: أن مما يفعلونه في عيدهم: ما هو كفر، وما هو حرام، وما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين

هذا وهذا يظهر غالباً، وقد يخفى على كثير من العامة، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم، يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام، وهذا هو الواقع. الوجه السابع: أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتَمَّ، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي. وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بَعُد المكان والزمان فهذا أيضاً أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم ـ ولو بالقليل ـ هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، وأدير

التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله، لو تفطن له، وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة. الوجه الثامن: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة، كان بينهما من المودة، والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مَصْرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذاك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر، أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب ونحو ذلك ـ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً، ما لا يألفون

غيرهم. فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة:51 - 53] وقال تعالى فيما يذم بها أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا

مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81] فبيّن سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أُنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة:22] فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة. مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان: أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم، فهذا العمل الذي هو من خصائص دينهم: إما أن يفعل لمجرد موافقتهم ـ وهو قليل ـ وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل، وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا أو الآخرة ـ وكل هذا لا شك في تحريمه،

لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفراً بحسب الأدلة الشرعية. الثاني: عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم وهو نوعان: أ- ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم، إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهذا غالب ما يُبتَلَى به العامة، في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير، والميلاد ونحوهما، فإنهم قد نُشِّئوا على اعتياد ذلك، وتلقاه الأبناء عن الآباء، وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يعرف صاحبه حكمه، فإنْ لم يَنْتَه وإلا صار من القسم الأول. ب- ما ليس في الأصل مأخوذاً عنهم، لكنهم يفعلونه أيضاً، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد يفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم، إذ ليس كوننا تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا، فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر، فظاهر لما تقدم من المخالفة، وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم

حريم العيد

فيه، وقد توجب عليهم مخالفتنا: كما في الزي ونحوه، وقد يقتصر على الاستحباب، كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين، وقد تبلغ الكراهة، كما في تأخير المغرب والفطور، بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذاً عنهم، فإن الأصل فيه التحريم كما قدمناه. حريم العيد العيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك. وكذلك حريم العيد: وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، كيوم الخميس والميلاد ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع، أو الشهر الآخر، وإنما المحرك على

هل يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار؟

إحداث ذلك وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك. فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة. لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أغضب أهله لله، أرضاه الله وأرضاهم. وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركتُ بعدي فتنةً أضَرّ على الرجال من النساء». [البخاري5096، مسلم2740] وأكثر ما يفسد الملك والدول، طاعة النساء، وفي صحيح البخاري، عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» [البخاري7099] هل يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار؟ أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم، أو مكان، أو سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان أو الزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم، فيكفيه أن يعلم أنه لا

أصل له في دين الإسلام، فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه، أو يكون مأخوذاً عنهم، فأقل أحواله: أن يكون من البدع. ونحن ننبه على ما رأينا كثيراً من الناس قد وقعوا فيه، فمن ذلك: الخميس الحقير، الذي في آخر صومهم، فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون، ويسمونه عيد العشاء. وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد ـ هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات. فمنه: خروج النساء: وتبخير القبور. ووضع الثياب على السطح. وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسماً لبيع البخور وشرائه وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت، إذ اتخذ وقتاً للبيع، ورقى البخور مطلقاً في ذلك الوقت، أو في غيره أو قصد شراء البخور المرقي، فإن رقى البخور واتخاذه قرباناً هو دين النصارى والصابئين، وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب سائر الطيب من المسك وغيره، مما له أجزاء بخارية، وإن لطفت، أو له رائحة محضة، ويستحب التبخر حيث يستحب التطيب.

وكذلك اختصاصه بطبخ رُزّ بلبن، أو بسيسة، أو عدس، أو صبغ، أو بيض، ونحو ذلك. فأما القمار بالبيض، أو بيع البيض لمن يقامر به، أو شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر. ومن ذلك ما يفعله الأَكَّارُون (¬1)، من نكت البقر بالنقط الحمر، أو نكت الشجر أيضاً، أو جمع أنواع من النبات والتبرك بها، والاغتسال بمائها، ومن ذلك ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون، والاغتسال بمائه، أو قصد الاغتسال في شيء من ذلك، فإن أصل ذلك ماء المعمودية. ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة: من الصنائع، والتجارات، أو حلق العلم، أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحة وفرح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها، على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. والضابط: أنه لا يحدث فيه أمر أصلا، بل يجعل يوماً كسائر الأيام، فإنا قد قدمنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية. وأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيّدون فيه. ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس، في أثناء الشتاء، في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه، ويزعمون أنه ميلاد عيسى - عليه السلام -، فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل إيقاد النيران، وإحداث طعام، واصطناع شمع وغير ذلك. فإن اتخاذ هذا الميلاد عيداً هو دين النصارى، ليس لذلك أصل في دين الإسلام، ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلاً، على عهد السلف الماضين، بل أصله مأخوذ عن النصارى، وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران، وأنواع مخصوصة من الأطعمة. ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام ـ أظنها أحد عشر يوماً ـ عمد يحيى لعيسى سدد خطاكمفي ماء المعمودية، فهم يتعمدون في هذا الوقت ويسمونه: عيد الغطاس. وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت، ويزعمن أن هذا ينفع الولد وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة. وكذلك أعياد الفرس مثل: النيروز والمهرجان. وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار، أو الأعاجم أو الأعراب، حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل. ¬

_ (¬1) (*) الأكَّار: الحراث.

حكم إعانة المسلمين المتشبهين بالكفار في أعيادهم:

حكم إعانة المسلمين المتشبهين بالكفار في أعيادهم: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يُعَان المسلم المتشبه بهم في ذلك. بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَبْ دعوتُه، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد، لم تُقْبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم. مثل إهداء الشمع ونحوه، في الميلاد. أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير، الذي في آخر صومهم. وكذلك أيضاً لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان به على التشبه بهم كما ذكرناه. ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك، لأن في ذلك إعانة على المنكر فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم، أو شهود أعيادهم للشراء فيها، فقد قيل للإمام أحمد: هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يانور، ودير أيوب، وأشباهه، يشهده المسلمون، يشهدون الأسواق، ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر، وغير

ذلك، إلا أنه إنما يكون في الأسواق يشترون، ولا يدخلون عليهم بيعهم، وإنما يشهدون الأسواق، قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق فلا بأس. فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها، من غير دخول الكنيسة ليس فيه شهود منكر، ولا إعانة على معصية، لأن نفس الابتياع منهم جائز، ولا إعانة فيه على المعصية، بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم، فيكون فيه تقليل الشر، وقد كانت أسواق في الجاهلية، كان المسلمون يشهدونها، وشهد بعضها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج، ومنها ما كان يكون لأعياد باطلة. وأيضاً، فإن أكثر ما في السوق، أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية، فهو كما لو حضر الرجل سوقاً يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوماً أو العصير لمن يخمره، فحضرها الرجل ليشتري منها، بل هذا أجود، لأن البائع في هذه السوق ذمي، وقد أقروا على هذه المبايعة. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها، جاز

بيع المسلمين للكفار في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم:

عندنا، كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه -، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الشام، وهي دار حرب، مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية. بيع المسلمين للكفار في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم: فأما بيع المسلمين لهم في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم، من الطعام واللباس، والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل. وهو: أن بيع الكفار عنباً أو عصيراً يتخذونه خمراً لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلماً. وقد دل حديث عمر - رضي الله عنه -، في إهداء الحلة السيراء إلى أخ له بمكة مشرك. [المسند5797وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح]، على جواز بيعهم الحرير، لكن الحرير مباح في الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين، ولهذا جاز التداوي به في أصح الروايتين ولم يجز بالخمر بحال. وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه.

مسألة: سُئل ابن القاسم (¬1) عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز لمسلم شراؤه؟ فقال: لا يحل ذلك له، لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم ومشتريه مسلم سوء. وقال ابن القاسم في أرض الكنيسة يبيع الأسقف منها شيئاً في مرمتها، وربما حبست تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها: إنه لا يجوز للمسلمين أن يشتروها من وجهين: الواحد: من العون على تعظيم الكنيسة. والآخر: من جهة بيع الحبس، ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين. ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض فيها بمنع ولا تنفيذ ولا بشيء. مسألة: سُئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم. فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه. مسألة: قال عبد الملك بن حبيب: كره ابن القاسم للمسلم يهدي للنصارى شيئاً في عيدهم مكافأة لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم، ألا ترى أنه لا يحِلُّ للمسلمين أن ¬

_ (¬1) (*) من كبار علماء المالكية.

يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم؟ لا لحماً، ولا إداماً، ولا ثوباً، ولا يعارون دابة، ولا يُعَاوَنون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم، ومن عونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختُلِف فيه. وقد ذكر ابن حبيب أنه قد اجتمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون به على أعيادهم، وقد صرح بأن مذهب مالك: أنه لا يحل ذلك. قال إسحاق بن إبراهيم: سئل أبو عبد الله (¬1) عن نصارى، وقفوا ضيعة للبيعة: أيستأجرها الرجل المسلم منهم؟ قال: لا يأخذها بشيء، لا يعينهم على ما هم فيه. وقال أيضاً: سمعت أبا عبد الله ـ وسأله رجل بنَّاء: أبْني للمجوس ناووساً (¬2)؟ قال: «لا تَبْنِ لهم، ولا تُعِنْهم على ما هم فيه». ¬

_ (¬1) الإمام أحمد بن حنبل (¬2) (*) الناووس: صندوق من خشب ونحوه يضعون فيه جثة الميت.

وقد نقل عنه محمد بن الحكم، وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبراً بِكِراء (¬1) ـ قال: «لا بأس فيه». والفرق بينهما: أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة. بخلاف القبر المطلق فإنه ليس في نفسه معصية، ولا من خصائص دينهم. وقال أيضاً في نصارى أوقفوا ضيعة لهم للبيعة: «لا يستأجرها الرجل المسلم منهم، يعينهم على ما هم فيه». ومثل هذا ما اشترى من المال الموقوف للكنيسة أو الموصى لها به، أو باع آلات يبنون بها كنيسة ونحو ذلك. والمنع هنا أشد؛ لأن نفس هذا المال الذي يبذله يصرف في المعصية، فهو كبيع العصير لمن يتخذه خمراً. وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه، فقال الآمدي: لا يجوز، رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة، أو صومعة، كالإجارة لكتبهم المحرفة. فإذا عرف أصل أحمد في هذه المسائل، فمعلوم أن ما يبتاعونه ¬

_ (¬1) (**) كراء: أجر.

حكم قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم، وما ورد عن السلف في ذلك:

من الطعام واللباس، ونحو ذلك، يستعينون به على العيد. إذ العيد اسم لما يفعل من العبادات والعادات، وهذا إعانة على ما يقام من العادات، لكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس، ليس محرما في نفسه، بخلاف شرب الخمر، فإنه محرم في نفسه. فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم: مثل صليب، أو شعانين، أو معمودية، أو تبخير، أو ذبح لغير الله، أو صورة ونحو ذلك، فهذا لا ريب في تحريمه، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا، وبناء الكنيسة لهم، وأما ما ينتفعون فيه في أعيادهم للأكل والشرب واللباس، فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته. لكن: كراهة تحريم كمذهب مالك، أو كراهة تنزيه؟ والأشبه: أنه كراهة تحريم، كسائر النظائر عنده، فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر، ولأن هذه الإعانة تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره. وهذا أعظم من إعانة شخص معين. حكم قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم، وما ورد عن السلف في ذلك: وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم: فعن علي - رضي الله عنه -: أنه أتي بهدية

النيروز فقبلها. [إسناده ضعيف] وروى ابن أبي شيبة عن قابوس عن أبيهأن امرأة سألت عائشة، قالت: إن لنا أظآرا (¬1) من المجوس، وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا، قالت: «أما ما ذُبِح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم». [إسناده ضعيف] وقال: حدثنا وكيع، عن الحسن بن حكيم عن أمه، عن أبي برزة: أنه كان له سكان مجوس، فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه. [إسناده ضعيف] فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء، لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم. وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم، بابتياع أو هدية، أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد. فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم، فإنها حرام عند العامة. ¬

_ (¬1) (*) الأظآر جمع ظئر، وهي المرضعة لغير ولدها، ويطلق على زوجها أيضاً، ولعل المقصود بالأظآر هنا: الأقارب من الرضاعة.

حكم ذبيحتهم يوم عيدهم:

حكم ذبيحتهم يوم عيدهم: ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم، وما يتقربون بذبحه إلى غير الله ـ نظير ما يذبح المسلمون هداياهم، وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى. وذلك مثل: ما يذبحون للمسيح والزهرة ـ عن أحمد روايتان: أشهرهما في نصوصه: أنه لا يباح أكله، وإن لم يسم عليه غير الله تعالى. ونقل النهي عن ذلك، عن عائشة وعبد الله بن عمر. صوم أعياد الكفار صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم، كصوم يوم النيروز والمهرجان- وهما يومان يعظمهما الفرس- قد اختلف فيهما؛ لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم، أو بترك تخصيصه بعمل أصلاً. صوم يوم السبت: عن عبد الله بن بسر السلمي، عن أخته الصماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب، أو عود شجرة ـ وفي لفظ: إلا عود عنب أو لحاء شجرة ـ فليمضغه» [أبوداود2421 وصححه الألباني] وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه. قال أبو بكر الأثرم:

وسمعت أبا عبد الله يُسْأل عن صيام يوم السبت يفترد به. فقال: أما صيام يوم السبت يفترد به فقد جاء في ذلك الحديث حديث الصماء، يعني حديث ثور عن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم»، قال أبو عبد الله: «وكان يحيى بن سعيد يتَّقيه، وأبَى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور. قال: فسمعتُه من أبي عاصم. قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر. منها حديث أم سلمة حين سئلت: أي الأيام كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر صياماً لها. فقالت: السبت والأحد». [ابن خزيمة 2167وقال الألباني: إسناده حسن] ومنها حديث جويريةأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها يوم الجمعة: «أصُمْتِ أمس؟» قالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غداً؟» [البخاري1986] فالغد هو يوم السبت. وحديث نَهْى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة، إلا بيوم قبله أو يوم بعده. [البخاري1985،مسلم1144] فاليوم الذي بعده هو يوم السبت. ومنها أنه أمر بصوم المحرم، [مسلم1163] وفيه يوم السبت،

وقال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال». [مسلم1164] وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام البيض، [البخاري1981] وقد يكون فيها السبت. ومثل هذا كثير. فهذا الأثرم، فهم من كلام أبي عبد الله، أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة، وذكر أن الإمام في علل الحديث، يحيى بن سعيد، كان يتقيه، وأبَى أن يحَدِّث به، فهذا تضعيف للحديث. واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة، على صوم يوم السبت ولا يقال: يحمل النهي على إفراده، لأن لفظه: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي أن الحديث عمَّ صومه على كل وجه، وإلا لو أُريدَ إفرادُه لمَا دخل الصوم المفروض ليُستَثْنَي فإنه لا إفراد فيه؛ فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده. وعلى هذا، فيكون الحديث: إما شاذاً غير محفوظ، وإما منسوخاً. وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود.

وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الإفراد، فإنه سئل عن عين الحكم. فأجاب بالحديث، وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه. وما ذكره عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة، وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم، عملاً بهذا الحديث، لجودة إسناده، وذلك موجب للعمل به، وحملوه على الإفراد كيوم الجمعة، وشهر رجب. وعلى هذا، فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا يوم السبت» أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده. وأيضاً فقَصْدُه بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضَمّ غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض، مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك. وقد يقال: الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة، وأخرج الباقي بالدليل.

صوم النيروز والمهرجان ونحوها من أعياد المشركين وأما النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين، فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم، قد لا يكره صوم ذلك اليوم، بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم وكرههما أكثر الأصحاب. وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكره، كيوم السبت. قال الإمام أبو محمد المقدسي: وعلى قياس هذا، كل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم. وقد يقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان، ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب. بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية، أو الجاهلية، كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين. فليس في صومهما مفسدة، فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي، مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي، توفيقاً بين الآثار. والله أعلم.

الأعياد والمواسم المبتدعة ومن المنكرات في هذا الباب: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات المكروهات، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه. وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين: أحدهما: أن فيها مشابهة الكفار. والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش .. يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ـ ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى ـ ويقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». [مسلم867] وفيما رواه أيضاً في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ» [مسلم1718] وفي

لفظ في الصحيحين: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». [البخاري2697،مسلم1718] وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة». [أبو داود4607، ابن ماجه42وصححه الألباني] وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً. قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى:22] فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أن يشرعه الله؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله. نعم، قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيُغفَر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ويثاب أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل، قولاً أو عملاً، قد علم الصواب في خلافه، وإن

كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً. وقد قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] قال عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ما عبدوهم. قال: «ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»، [الترمذي 3306، البيهقي 10/ 116وحسنه الألباني] فمن أطاع أحداً في دين لم يأذن به الله في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي أيضاً نصيب. ثم قد يكون كل منهما معفواً عنه لاجتهاده، ومثاباً أيضاً على الاجتهاد، فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه، أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائماً. ويلحق الذم مَنْ تَبَيَّنَ له الحق فتركه، أو من قصّر في طلبه حتى لم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل، أو نحو ذلك. وأيضاً: فإن الله تعالى عاب على المشركين شيئين: أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً، والثاني: تحريمهم

ما لم يحرمه عليهم. وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فيما رواه مسلم عن عياض بن حمار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالَتْهم الشياطين، وحرمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً». [مسلم2865] قال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام:148] فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم: إما واجبة، وإما مستحبة، وأن فعلها خير من تركها. ثم مِنهم مَن عبد غير الله، ليتقرب بعبادته إلى الله. ومنهم من ابتدع ديناً عبدوا به الله، في زعمهم، كما أحدثته النصارى من أنواع العبادات المحدثة. وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين: 1 - إما اتخاذ دين لم يشرعه الله. 2 - أو تحريم ما لم يحرمه الله. ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه

هل في الإسلام بدعة حسنة؟

مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى: 1 - عبادات يتخذونها ديناً، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة. 2 - وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم. * فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. * والأصل في العادات: أن لا يُحْظر منها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة: إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به المتقربون. هل في الإسلام بدعة حسنة؟ اعلم أن هذه القاعدة وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك أن من الناس من يقول البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة، وقبيحة. بدليل قول عمر - رضي الله عنه - في صلاة التراويح: «نعمت البدعة هذه» [البخاري2010] وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست بمكروهة، أو هي حسنة، للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس. وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضاً من الدلائل

على حُسن بعض البدع: إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعاً، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104]، وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها. الرد على الشبهات: 1 - عادة بعض البلاد، أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء، أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك، ليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يعارَضَ به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمَعٌ عليها، بناء على أن الأمة أقَرَّتْها، ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل، ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد، أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟ وإذا كان أكثر أهل

العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة، وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم، كما هي حجة على غيرهم، مع ما أُوتُوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله ورسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، عن غير رويّة، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين. 2 - لا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» [مسلم768] على البدعة التي نهى عنه بخصوصها؛ لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم، سواء كان بدعة، أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يكن، وما نهى عنه، فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم

التأثير، لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: «كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب أو العجم فهو ضلالة. ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ. 3 - هَبْ أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح، فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع، لكن أكثر ما يقال: أنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم، وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة، فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن، وهو بدعة: إما أنه ليس ببدعة، وإما أنه مخصوص، فقد سلمت دلالة الحديث. وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حُسنه. فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة، أو أمور يجوز أن تكون حسنة، ويجوز أن لا تكون حسنة، فلا تصلح المعارضة بها. بل يجاب عنها بالجواب المركب، وهو: إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة، أو يكون مخصوصاً، وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم.

4 - لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية، وهي قوله: «كل بدعة ضلالة» بسَلْب عمومها وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرب منه إلى التأويل. بل الذي يقال فيما ثبت أنه حسن من الأعمال التي قد يقال هي بدعة: إن هذا العمل المعين ـ مثلا ـ ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود. وهذا الجواب فيه نظر: فإنَّ قَصْدَ التعميم المحيط ظاهرٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصده ـ بأبي هو وأمي ـ عليه الصلاة والسلام. 5 - الرد على من يستدل بصلاة التراويح على تحسين بعض البدع: فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل سنة، قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان، ليلتين، بل ثلاثا، [البخاري2012] وصلاها أيضاً في العشرالأواخر في جماعة مرات. [أبو داود1375وصححه الألباني] وقال: «إن الرجل إذا صلى مع

الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة».كما قام بهم حتى خشَوا أن يفوتهم الفلاح. [ابن ماجه1327وصححه الألباني] وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد. وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعات في المسجد، على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقرهم، وإقراره سنة منه - صلى الله عليه وسلم -. * وأما قول عمر - رضي الله عنه -: «نعمت البدعة هذه» فأكثر ما فيه تسمية عمر تلك بدعة، مع حسنها، وهذه تسمية لُغوية، لا تسمية شرعية. وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية: فما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل على استحباب فعل، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقا، ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة، الذي أخرجه أبو بكر - رضي الله عنه -، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمي بدعة في اللغة، لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمى بدعة، ويسمى محدثا في اللغة. ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة: ليس بدعة في

الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة. فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة. وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» لم يُرَدْ به كل عمل مُبتَدَأ، فإن دين الإسلام ـ بل كل دين جاءت به الرسل ـ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدِئ من الأعمال التي لم يشرعها هو - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كان كذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة، أو الرابعة، لما اجتمعوا: «إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» [البخاري2012، 7290] فعلل - صلى الله عليه وسلم - عدم الخروج بخشية الافتراض، فعُلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم، فلما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد. فصارت هذه الهيئة، وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعة، لأنه في اللغة يسمى بذلك. ولم يكن بدعة شرعية، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح، لولا خوف

الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته - صلى الله عليه وسلم - فانتفى المعارض. * وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد. فلو جمع في مصحف واحد، لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته، واستقرت الشريعة بموته - صلى الله عليه وسلم - أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة. وهذا باب واسع. والضابط في هذا ـ والله أعلم ـ أن يقال: إن الناس لا يُحْدِثون شيئا إلا لأنهم يرَوْنه مصلحة، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه، فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين. فما رآه الناس مصلحة نُظِر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعارض زال بموته.

* وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجوداً ـ لو كان مصلحة ولم يفعل ـ يعلم أنه ليس بمصلحة. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة. ثم هنا للفقهاء طريقان: أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة. والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لم يؤمر به: وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضَربان: 1 - منهم من لا يثبت الحكم، إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع، أو فعله، أو إقراره، وهم نفاة القياس. 2 - ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون. * فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضْعُه تغيير لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زلَّ منهم باجتهاد. فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض

الأمراء، أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ} [فصلت:33] أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حُسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: تَرْك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ مع وجود ما يُعتقَد مقتضِياً وزوال المانع ـ سنة، كما أن فِعْلَه سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترْك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة. ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها، أو

نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيراً. فإن كل ما يبديه المُحْدِث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس. * ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة، واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضّون قبل سماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينفضّون حتى يسمعوا، أو أكثرهم. فيقال له: سبب هذا تفريطك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم، وأنت قصدُك إقامة رياستك، وإن قصدت صلاح دينهم، فلا تعلمهم ما ينفعهم، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى، بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله، وتتبع سنة نبيه، وقد استقام الأمر، وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عمن عملك، لا عن عملهم.

* وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ الأموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله ـ لما احتاجوا إلى المكوس (¬1) الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم. * وكذلك العلماء: إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله، وما فيه من الهدى ـ الذي هو العلم النافع والعمل الصالح ـ وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ـ وهي سنته ـ لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس، ولَمَيّزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق، ¬

_ (¬1) (*) المَكْس: ضريبة يأخذها المُكّاس ممن يدخلون البلد من التجار.

بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة، حيث يقول - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ولاستغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون، من الحجج الفاسدة، التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين، ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يُتِمّون به فروع الدين، وما كان من الحجج صحيحاً ومن الرأي سديداً، فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله، فهمه من فهمه، وحُرِمه من حُرِمه. * وكذلك العُبَّاد: إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهرًا وباطنًا، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية، والنتائج العظيمة، ما يُغْنيهم عما قد يحدث في نوعه: كالتغبير ونحوه، من السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد، لفَّقَها بعضُ الناس. أو في قَدْره: كزيادات من التعبدات، أحدثها من أحدثها لِنَقْص تمسكه بالمشروع منها، وإن كان كثير من العلماء والعُبَّاد ـ بل والأمراء ـ معذوراً فيما أحدثه لنوع اجتهاد.

الوجه الثاني: في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين.

فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح، وإن كان التارك له قد يكون معذوراً لاجتهاده، بل قد يكون صِدِّيقاً عظيماً، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحاً، وعمله كله سنة، إذ كان يكون بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين. اعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد. والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فننبه على بعض مفاسدها. فمن ذلك: 1 - أن من أحدث عملاً في يوم، كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك الجمعة، التي يسميها الجاهلون صلاة الغائب مثلا. وما يتبع ذلك، من إحداث أطعمة وزينة، وتوسيع في النفقة، ونحو ذلك. فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب. وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله،

وأن الصوم فيه مستحب استحباباً زائداً على الخميس الذي قبله وبعده مثلاً، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجُمَع، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجُمَع خصوصاً، وسائر الليالي عموماً، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع. ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها، فلا بد أن يكون باعثه: إما موافقة غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب. فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك الاعتقاد الفاسد، أو باعثاً آخر غير ديني، وذلك الاعتقاد ضلال. فإنا قد علمنا يقيناً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر الأئمة، لم يذكروا في فضل هذا اليوم والليلة ولا في فضل صومه بخصوصه، وفضل قيامها بخصوصها حرفاً واحداً. وأن الحديث المأثور فيها موضوع، وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة، ولا يجوز ـ والحال هذه ـ أن يكون لها فضل؛ لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -،

ولا أصحابه ولا التابعون، ولا سائر الأئمة، امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله ما لم يعلَمْه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة، والتابعون وسائر الأئمة. وإن علموه امتنع ـ مع توفر دواعيهم على العمل الصالح، وتعليم الخلق، والنصيحة لهم ـ أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم. فإذا كان هذا الفضل المدَّعَى، مستلزماً لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله، أو لكتمانهم وتَرْكهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه، وكل واحد من اللازمين مُنْتَفٍ: إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع ـ عُلِمَ انتفاء الملزوم، وهو الفضل المدَّعَى. 2 - هذا العمل المبتدع مستلزم: إما لاعتقادٍٍ هو ضلالٌ في الدين، أو عملِ دين لغير الله سبحانه، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، أو التدين لغير الله لا يجوز. فهذه البدع ـ وأمثالها ـ مستلزمة قطعاً، أو ظاهراً لفعل ما لا يجوز. فأقل أحوال المستلزم ـ إن لم يكن محرماً ـ أن يكون مكروهاً، وهذا المعنى سارٍٍ في سائر البدع المحدثة. ثم هذا الاعتقاد يتبعه

أحوال في القلب: من التعظيم، والإجلال، وتلك الأحوال أيضاً باطلة، ليست من دين الله. ولو فُرِض أن الرجل قد يقول: أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال، والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد، ولو أنه توَهَّمَ أو ظَنَّ أن هذا أمر ضروري، فإن النفس لو خلَتْ عن الشعور بفضل الشيء امتنع مع ذلك أن تعظمه، ولكن قد تقوم بها خواطر متقابلة: فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة، يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه. ومن حيث شعوره بما رُوِى فيه ـ أو بفعل الناس له، أو بأن فلاناً وفلاناً فعلوه، أو بما يظهر له فيه من المنفعة ـ يقوم بقلبه عظمته. فعلمتَ أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله. وأنها تورث القلب نفاقاً، ولو كان نفاقاً خفيفاً. ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل، أو عبد الله بن أبي، لرياسته وماله ونسبه، وإحسانه إليهم، وسلطانه عليهم، فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه، أو أمر بإهانته أو قتله، فمن لم يخلص إيمانه،

وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول، التابعة لاعتقاده الصحيح، واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة. فمن تدبر هذا، علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المُضْعِفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر. * وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع، من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع ـ إذا جاز أن يتوهم لها مزية ـ كالصلاة عند القبور، أو الذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقداً للمزية، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية، فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضاً. شبهة: إن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم ـ مثلاً ـ فعلها قوم من أولي العلم والفضل، الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه: من طهارة قلبه ورقته، وزوال آصار الذنوب عنه، وإجابة دعائه، ونحو ذلك، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام. كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:10، 9] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «

الصلاة نور» [مسلم223] ونحو ذلك. الرد: 1 - لا ريب أن من فعلها متأولاً مجتهداً أو مقلداً كان له أجرٌ على حسن قصده، وعلى عمله، من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدَع مغفوراً له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين، وكذلك ما ذُكِر فيها من الفوائد كلها، إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه: كالصوم والذكر، والقراءة، والركوع، والسجود، وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه. وما اشتملت عليه من المكروه، انتفى موجبه بعفو الله عنه، لاجتهاد صاحبها أو تقليده، وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة. لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها، والاعتياض عنها بالمشروع، الذي لا بدعة فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضاً فوائد، وذلك لأنه لابد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما، مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لابد أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء. ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم، أو نروي

كلماتهم؛ لأن جميع المبتدعات لابد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير؛ إذ لو كان خيرها راجحاً لما أهملتها الشريعة. فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي. وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض، لاجتهاد أو غيره، كما يزول إثم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يقتدي بمن استحلها، وأن لا يقصر في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها. وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية، أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة. 2 - إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقداً لكراهتها، وأنكرها قومٌ ـ إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها ـ فليسوا دونهم. ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول. وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها. ثم عامة المتقدمين، الذين هم

أفضل من المتأخرين، مع هؤلاء. 3 - ما فيها من المنفعة، يعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة. منها: مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية: أ- أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها، ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس. ب- أن الخاصة والعامة، تنقص ـ بسببها ـ عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها، ويُخْلِص ويُنيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يَفُتْه هذا كلُّه، فلابد أن يفوته كماله. جـ- ما في ذلك من مصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار زرع الجاهلية. د - اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل: تأخير الفطور، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة، والمبادرة إلى تعجيلها، والسجود بعد السلام لغير سهو، وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته. هـ- مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: «ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه»، ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين، النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه.

الأعياد الزمانية المبتدعة

الأعياد الزمانية المبتدعة قد تقدم أن العيد يكون اسماً لنفس المكان، ولنفس الزمان، ولنفس الاجتماع. وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء. أما الزمان فثلاثة أنواع: ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال. النوع الأول من الأعياد الزمانية: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكر في السلف، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه: مثل أول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة، المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب. والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم، النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة، وإظهار الزينة، ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصلاً. وكذلك يوم آخر في وسط رجب، يصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود، فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلاً.

النوع الثاني من الأعياد الزمانية: ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره، من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظمونه، كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - خطب فيه خطبة وصَّى فيها باتباع كتاب الله، ووصى فيها بأهل بيته كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. [مسلم2408] فزاد بعض أهل الأهواء (¬1) في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي - رضي الله عنه - بالخلافة بالنص الجَلِيّ، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش عالية، وذكروا كلاماً وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة - رضي الله عنهم - تمالؤوا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسقوا وكفروا، إلا نفراً قليلاً. والعادة التي جبل الله عليها بني آدم، ثم ما كان القوم عليه من الأمانة والديانة، وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا ممتنع كتمانه. وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة، وإنما الغرض أن اتخاذَ ¬

_ (¬1) (*) الشيعة

اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد عيسى - عليه السلام -:

هذا اليوم عيداً محدثٌ لا أصل له، فلم يكن في السلف ـ لا من أهل البيت ولا من غيرهم ـ مَن اتخذ ذلك اليوم عيداً، حتى يحدث فيه أعمالاً. إذ الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع. وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين. ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً. وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى - عليه السلام - أعياداً، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتُّبِع. وإلا لم يُحْدَث في الدين ما ليس منه. اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد عيسى - عليه السلام -: ما يحدثه بعض الناس ـ إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام -، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيماً. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع ـ من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً. مع اختلاف الناس في مولده. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي

له وعدم المانع منه لو كان خيراً. ولو كان هذا خيراً محضًا، أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بُعِث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصاً على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد، والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلّي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد، ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة. وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير، لاشتماله على أنواع من

المشروع، وفيه أيضاً شر، من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل خيراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين. وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة. فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً، في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأعرف المعروف وأَنْكِر المنكر. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير، فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه. النوع الثالث من الأعياد الزمانية: ما هو معظَّم في الشريعة، كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، ويومَي العيدين، والعشر الأواخر من شهر رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، وليلة الجمعة

ويومها، والعشر الأول من المحرم، ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة. فهذا الضَّرب قد يحدث فيه ما يُعتقَد أن له فضيلة، وتوابع ذلك ما يصير منكراً يُنهى عنه: مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء (¬1)، في يوم عاشوراء، من التعطش، والتحَزّن والتجمع، وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من السلف، لا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من غيرهم، لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه، أحد سيدي شباب أهل الجنة، وطائفة من أهل بيته، بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله، وكانت هذه مصيبة عند المسلمين، يجب أن تُتَلقَّى بما يُتَلقَّى به المصائب، من الاسترجاع المشروع، فأحدث بعض أهل البدع، في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب، وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة، البُرَآء من فتنة الحسين - رضي الله عنه -، وغيرها، أموراً أخرى، مما يكرهها الله ورسوله. وأما اتخاذ أمثال أيام المصائب مآتم فهذا ليس في دين المسلمين، بل هو إلى دين الجاهلية أقرب. ثم فَوّتُوا بذلك ما في صوم هذا اليوم من الفضل، وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة، لا أصل لها، مثل: ¬

_ (¬1) (*) الشيعة.

فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة وهذه الأشياء ونحوها، من الأمور المبتدعة، كلها مكروهة. وإنما المستحب صومه. وقد رُوي في التوسيع على العيال في آثار معروفة، أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: «بلَغَنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنَتِه» رواه عنه ابن عيينة. وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله. والأشبه أن هذا وُضِعَ لما ظهرت العصبية بين الناصبة، والرافضة، فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك فيه آثاراً تقتضي التوسع فيه، واتخاذه عيداً، وكلاهما باطل. وهؤلاء فيهم بدع وضلال، وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذباً وأسوأ حالاً. لكن لا يجوز لأحد أن يغير شيئاً من الشريعة لأجل أحد، وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه، هو من البدع المحدثة المقابلة للرافضة. وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه من الاغتسال، والاكتحال وغير ذلك. وليس فيها ما يصح. وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة لمقابلة الروافض، فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق

ما أحدثه بعض الناس من البدع في شهر شعبان، خاصة ليلة النصف منه:

عن الصراط المستقيم، ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا. فينبغي أن يجتنب جميع هذه المحدثات. ما أحدثه بعض الناس من البدع في شهر رجب: ومن هذا الباب: شهر رجب ـ فإنه أحد الأشهر الحرم ـ واتخاذه موسماً بحيث يفرد بالصوم، مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم -. وروى ابن ماجةأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن صوم رجب». وليس بالقوي. [ابن ماجه1743وقال الألباني: ضعيف جداً] وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله؟ أو أن لا يقرن به شهراً آخر؟ فيه للأصحاب وجهان. ما أحدثه بعض الناس من البدع في شهر شعبان، خاصة ليلة النصف منه: ومن هذا الباب: ليلة النصف من شعبان، فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة (¬1) وأن من ¬

_ (¬1) (*) قال ث: «إن الله لَيَطَّلِع في ليلة النصف من شعبان، شعبان، لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن» (رواه ابن ماجه1390وحسنه الألباني).وقال ث: «إن الله يطَّلِع على عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه» (رواه الطبراني وحسنه الألباني) وليس في الأحاديث ما يشير إلى إحيائها بالصلاة والعبادة ولا الاحتفال بها كما يفعله البعض.

السلف من كان يخصها بالصلاة فيها. وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة. ومن العلماء: من السلف، من أهل المدينة، وغيرهم من الخلف، من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها، كحديث: «إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب». [ابن ماجه1389وضعفه الألباني] وقال: لا فرق بينها وبين غيرها. لكن الذي عليه كثير من أهل العلم، أو أكثرهم ـ من أصحابنا وغيرهم ـ على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد، لتعدد الأحاديث الواردة فيها، وما يصدق ذلك من الآثار السلفية، وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن. وإن كان قد وُضع فيها أشياء أخر. فأما صوم يوم النصف مفرداً فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسماً تصنع فيه الأطعمة، وتظهر فيه الزينة، هو من المواسم المحدثة المبتدعة، التي لا أصل لها. وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف، من الاجتماع العام للصلاة الألفية، في المساجد الجامعة، ومساجد الأحياء والدروب والأسواق. فإن هذا الاجتماع ـ لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد،

وقدر من القراءة لم يشرع ـ مكروه. فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناءً عليه، وإذا لم يُستحب فالعمل المقتضي لاستحبابها مكروه، ولو سوغ أن كل ليلة لها نوع فضل، تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها، لكان يفعل مثل هذه الصلاة، أو أزيد أو أنقص، ليلتي العيدين، وليلة عرفة، كما أن بعض أهل البلاد يقيمون مثلها أول ليلة من رجب. وكما بلغني أنه كان في بعض القرى يصلون بعد المغرب صلاة مثل المغرب في جماعة، يسمونها صلاة بر الوالدين. وكما كان بعض الناس يصلي كل ليلة في جماعة صلاة الجنازة على من مات من المسلمين في جميع الأرض، ونحو ذلك من الصلوات الجماعية التي لم تشرع. وعليك أن تعلم: أنه إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين، وجوز التطوع في جماعة، لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة، ففرق بين البابَيْن، وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله، ونحو ذلك، إذا كان يفعل أحياناً، فهذا حسن. فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه صلى التطوع في جماعة

أحياناً». [البخاري727، مسلم33، 658 - 660] وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمع.» (¬1) وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً يقرأ وهم يستمعون. وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ويتلونه، وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» [مسلم2699] وورد أيضاً «في الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم». [البخاري6408] فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام، غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس، وللجمعة، وللعيدين وللحج. وذلك هو ¬

_ (¬1) روى ابن أبي حاتم عن يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري، عن أبيه قال: « ... وكان أبي ممن صحب النبي ث أن النبيثأتاهم في بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي ثقارئاً فقرأ ..... » وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

المبتدع المحدَث. ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع. وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة فروى أبو بكر الخلال، في كتاب الأدب، عن إسحاق بن منصور الكوسج، أنه قال لأبي عبد الله: تكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم؟ قال: ما أكرهه للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد، إلا أن يكثروا. قال إسحاق بن راهويه كما قال. وإنما معنى أن لا يكثروا: أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا. هذا كلام إسحاق. وقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون، فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال أبو أمية الطرسوسي: سألت أحمد بن حنبل عن القوم يجتمعون ويقرأ لهم القارئ قراءة حزينة فيبكون، وربما أطفئوا السراج. فقال لي أحمد: إن كان يقرأ قراءة أبي موسى فلا بأس. وروى الخلال عن الأوزاعي: أنه سئل عن القوم يجتمعون فيأمرون رجلا فيقص عليهم. قال: إذا كان ذلك يوما بعد الأيام

فليس به بأس. فقيد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يتخذ عادة. وأصل هذا: أن العبادات المشروعة، التي تتكرر بتكرر الأوقات، حتى تصير سننا ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية العباد، فإذا أُحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد، كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه. وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه، بخلاف ما يفعله الرجل وحده، أو الجماعة المخصوصة أحياناً، ولهذا كره الصحابة إفراد صوم رجب، لما شُبِّه برمضان. فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع، من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة، تشبه المشروع من الجمعة، والعيدين والصلوات الخمس، فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء، جماعة (¬1) وفرادى، يفرق بين الكثير الظاهر منه، والقليل الخفي، والمعتاد وغير المعتاد، وكذلك كل ما كان مشروع الجنس، لكن البدعة اتخاذه عادة لازمة، حتى يصير كأنه واجب. ¬

_ (¬1) (*) ليس فيما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ما نقله عن الإمام أحمد ولا في أحاديث النبي ث أن الذين يجتمعون على الذكر يرددون بصوت واحد أو يرددون بصوت جماعي وراء شخص معين، وهو ما يسمى بالذكر الجماعي، فإنه بدعة كما قال العلماء. [انظر كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 44)]

ما جاء في الصلاة الألفية المزعومة:

وأما ما يُفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع، فهذا لا يُحتاج إلى ذكره. لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب مثل: رفع الأصوات في المساجد، واختلاط الرجال والنساء، أو كثرة إيقاد المصابيح زيادة على الحاجة، أو إيذاء المصلين أو غيرهم بقول أو فعل، فإن قبح هذا ظاهر لكل مسلم. وإنما هذا من جنس سائر الأقوال المحرمة في المساجد، سواء حرمت في المسجد وغيره، كالفواحش والفحش، أو صِينَ عنها المسجد: كالبيع وإنشاد الضالة، وإقامة الحدود ونحو ذلك. ما جاء في الصلاة الألفية المزعومة: وقد ذكر بعض المتأخرين ـ من أصحابنا وغيرهم ـ أنه يستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية؛ لأن فيها قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ألف مرة. وربما استحبوا الصوم أيضاً، وعمدتهم في خصوص ذلك: الحديث الذي يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة، وعلى ما جاء في فضل هذه الليلة. بخصوصها، وما جاء من الأثر بإحيائها، وعلى الاعتياد، حيث فيها من المنافع والفوائد ما يقتضي

الاستحباب كجنسها من العبادات. فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية: فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وأما العمومات الدالة على استحباب الصلاة فحق، لكن العمل المعين إما أن يستحب بخصوصه، أو يستحب لما فيه من المعنى العام. فأما المعنى العام فلا يوجب جعل خصوصها مستحبا ومن استحبَّها ذكَرها في النفل المقيد، كصلاة الضحى والتراويح. وهذا خطأ، ولهذا لم يذكر هذا أحد من الأئمة المعدودين، لا الأولين ولا الآخرين. وإنما كره التخصيص لما صار يخص ما لا خصوص له بالاعتقاد والاقتصاد، كما كره النبي - صلى الله عليه وسلم -: إفراد يوم الجمعة بالصيام، وإفراد ليلة الجمعة بالقيام، وصار نظير هذا لو أحدثت صلاة مقيدة ليالي العشر، أو بين العشائين، ونحو ذلك. فالعبادات ثلاثة:1 - ما هو مستحب بخصوصه، كالنفل المقيد، من ركعتي الفجر، وقيام رمضان، ونحو ذلك. وهذا منه: أ- المؤقَّت كقيام الليل. ب - ومنه المقَيَّد بسبب، كصلاة

الأعياد المكانية المبتدعة

الاستسقاء. جـ - ثم قد يكون مقدَّراً في الشريعة بعدد، كالوتر. د- وقد يكون مطلَقاً مع فضل الوقت: كالصلاة يوم الجمعة قبل الصلاة، فصارت أقسام المقيد أربعة. 2 - ومن العبادات ما هو مستحب بعموم معناه، كالنفل المطلق. 3 - ومنها ما هو مكروه تخصيصه لا مع غيره كقيام ليلة الجمعة. وقد يكره مطلقا، إلا في أحوال مخصوصة، كالصلاة في أوقات النهي. الأعياد المكانية المبتدعة بدعة الاجتماع عند القبور يوم عرفة: وقد يحدث في اليوم الفاضل، مع العيد العملي المُحْدَث، العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا، ويصير خروجاً عن الشريعة. فمن ذلك: ما يفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافاً في النهي عنه، وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع

الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعياداً. بدعة السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه: وكذلك السفر إلى بيت المقدس، للتعريف فيه، فإن هذا أيضاً ضلال بين، فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره. ثم فيه أيضاً مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيه له بالكعبة، ولهذا قد أفضى إلى ما لا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى، غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضُلّال من الطواف بالصخرة، أو من حلق الرأس هناك، أو من قصد النسك هناك. بدعة الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة: وكذلك ما يفعله بعض الضلال، من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة كما يُطاف بالكعبة. فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو الضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه، فمن أقبح المنكرات من

جهات أخرى، منها: فعل ذلك في المسجد، فإن ذلك فيه ما نهى عنه خارج المساجد، فكيف بالمسجد الأقصى. ومنها: اتخاذ الباطل دينا. ومنها فعله في الموسم. حكم التعريف بالأمصار: فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عباس [مصنف عبد الرزاق8122، -8124 وإسناده ضعيف]، وعمرو بن حريث من الصحابة [ابن أبي شيبة (4/ 372) وإسناده صحيح] وطائفة من البصريين والمدنيين. ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه. هذا هو المشهور عنه، وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين، كإبراهيم النخعي [ابن أبي شيبة (4/ 373) وإسناده صحيح] وأبي حنيفة ومالك، وغيرهم. ومن كرهه قال: هو من البدع، فيندرج في العموم لفظا ومعنى. ومن رخص فيه قال: فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة.

لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في المساجد بالدعاء، وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة مكروه في هذا اليوم وغيره. قال المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول ينبغي أن يسر دعاءه، لقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] قال: هذا في الدعاء. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء. وروى الخلال بإسناد صحيح، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: «أحدث الناس الصوت عند الدعاء». وعن سعيد بن أبي عروبة: أن مجالد بن سعيد سمع قوما يعجون في دعائهم، فمشى إليهم فقال: أيها القوم، إن كنتم أصبتم فضلاً على من كان قبلكم لقد ضللتم» قال: فجعلوا يتسللون رجلا رجلا، حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها. والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه، وتلك التعريفات التي لم يختلف فيها: أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها، كقبر الصالح، أو كالمسجد الأقصى، وهذا تشبيه بعرفات، بخلاف مسجد المصر، فإنه قصد له بنوعه لا بعينه، ونوع المساجد مما شرع قصدها، فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل

اسمه وحكمه، وإنما الغرض بيت من بيوت الله، بحيث لو حُوّل ذلك المسجد لتحول حكمه، ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه. شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه بدعة: وأيضاً، فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه، مثل الحج، بخلاف المصر، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». [البخاري1189، مسلم1397] هذا مما لا أعلم فيه خلافاً. فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره إما واجب كالجمعة وإما مستحب كالاعتكاف فيه. وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيداً، وهذا بنفسه محرم، سواء كان فيه شد للرحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره، وهو من الأعياد المكانية مع الزمانية. وأما ما أحدث في الأعياد، من ضرب البوقات والطبول فإن هذا مكروه في العيد وغيره، لا اختصاص للعيد به، وكذلك لبس

أقسام الأعياد المكانية

الحرير، أو غير ذلك من المنهي عنه في الشرع وترك السنن من جنس فعل البدع، فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها، من الصلاة والخطبة المشروعة، والتكبير والصدقة في الفطر، والذبح في الأضحى. فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع. ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال والنساء. كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الرجال ثم النساء. ومنهم من لا يذكر في خطبته ما ينبغي ذكره، بل يعدل إلى ما تقل فائدته، ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة، إلى أمور أخرى من السنة، فإن الدين هو فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه. أقسام الأعياد المكانية وأما الأعياد المكانية فتنقسم أيضاً كالزمانية - ثلاثة أقسام: أحدهما: ما لا خصوص له في الشريعة. والثاني: ما له خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه. والثالث: ما يشرع العبادة فيه، لكن لا يتخذ عيداً. والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها. مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي نذر أن

ينحر ببوانة: «أَبِهَا وثنٌ من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم؟» قال: لا. قال: «فأوف بنذرك». [أبو داود3313, وصححه الألباني] ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا قبري عيداً». [أبو داود2042وصححه الألباني] ومثل نهي عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعياداً. فهذه الأقسام الثلاثة: أحدها: مكان لا فضل له في الشريعة أصلاً، ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة، أو دونها، فقَصْد ذلك المكان، أو قصد الاجتماع فيه ـ لصلاة أو دعاء، أو ذكر، أو غير ذلك ـ ضلال بيِّن. ثم إن كان به بعض آثار الكفار، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، صار أقبح وأقبح، ودخل في هذا الباب وفي الباب قبله، في مشابهة الكفار، وهذه أنواع لا يمكن ضبطها، بخلاف الزمان، فإنه محصور. وهذا الضَّرب (¬1) أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عباده الأوثان أو هو ذريعة إليها، أو نوع من عبادة الأوثان، إذ عُبَّاد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال، يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) (*) الضَّرب: النوع والصنف.

ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: «الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم». [الترمذي2285، المسند21794وصححه الألباني] فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم. فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تَستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية، أو جبلاً، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عيناً ولا نوعا. وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهناً لِتُنَوَّرَ به، ويقال: إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين. فإن هذا النذر نذر

معصية باتفاق العلماء، ولا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: أنه يستغفر الله من هذا النذر، ولا شيء عليه. وكذلك إذا نذر طعاماً من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين، أو البئر. وكذلك إذا نذر مالاً من النقد أو غيره للسدنة، أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت لللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، - صلى الله عليه وسلم -: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [سورة الأنبياء:52] وقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77] والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه، كما قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف:138] فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل

في الشريعة للمجاور بها، نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها. ثم هذا المال المنذور، إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل أن يصرفه في عمارة المساجد، أو للصالحين من فقراء المسلمين، الذين يستعينون بالمال على عبادة الله وحده ـ لا شريك له ـ كان حسناً. فمن هذه الأمكنة ما يظن أنه قبر نبي، أو رجل صالح، وليس كذلك، أو يظن أنه مقام له، وليس كذلك. وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه. فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل مشهد لأُبَيّ بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم، أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة، لم يمت بدمشق. والله أعلم قبر من هو، لكنه ليس بقبر أُبَيّ بن كعب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شك. وكذلك مكان بالحائط القبلي، بجامع دمشق، يقال إن فيه قبر هود - عليه السلام -، وما علمت أحداً من أهل العلم ذكر أن هوداً النبي مات بدمشق، بل قد قيل إنه مات باليمن، وقيل بمكة، فإن مبعثه كان

باليمن، ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة، فأما الشام فلا داره ولا مهاجره، فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه، بل ذكروا خلافه، في غاية البعد. وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق، يقال إنه قبر أويس القرني، وما علمت أن أحدا ذكر أن أويساً مات بدمشق، ولا هو متوجه أيضاً، فإن أويساً قدم من اليمن إلى أرض العراق. وقد قيل إنه قتل بصفين، وقيل إنه مات بنواحي أرض فارس، وقيل غير ذلك. فأما الشام فما ذكر أنه قدم إليها فضلا عن الممات بها. ومن ذلك أيضاً، قبر يقال له: قبر أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام، ولم تقدم الشام أيضا. فإن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم تكن تسافر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك: مشهد بقاهرة مصر يقال إن فيه رأس الحسين - رضي الله عنه -، وأصله أنه كان بعسقلان مشهد يقال إن فيه رأس الحسين، فحمل ـ فيما قيل ـ الرأس من هناك إلى مصر، وهو باطل باتفاق أهل العلم، لم يقل أحد من أهل العلم إن رأس الحسين كان بعسقلان، بل فيه أقوال ليس هذا منها، فإنه حُمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد

بالكوفة، حتى روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغيظه. وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام، ولا يثبت ذلك، فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق. وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين، قد علم أنها ليست مقابرهم. فهذه المواضع ليست فيها فضيلة أصلاً، وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة، اللهم إلا أن يكون قبراً لرجل مسلم فيكون كسائر قبور المسلمين، ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجُهّال، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعياداً، ولا أن يفعل ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة، أو تكون قبرا لرجل صالح غير المسمى، فيكون من القسم الثاني. ومن هذا الباب أيضاً مواضع يقال إن فيها أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة، كما يقول الجُهّال في الصخرة التي ببيت المقدس، من أن فيها أثراً من وطء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغني أن بعض الجُهّال يزعم أنها من وطء الرب - سبحانه وتعالى -! فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم. وفي مسجد قبلي دمشق ـ

يسمى مسجد القَدَم ـ أثر أيضاً يقال إن ذلك أثر قدم موسى - عليه السلام -، وهذا باطل لا أصل له. ولم يقْدُم موسى دمشق ولا ما حولها. وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رُؤِى في المنام هناك، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تُقْصد البقعة لأجلها، وُتتَّخذ مُصَلَّى، بإجماع المسلمين. وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب، وربما صُوِّر فيها صورة النبي أو الرجل الصالح أو بعض أعضائه، مضاهاة لأهل الكتاب، كما كان في بعض مساجد دمشق، مسجد يسمى مسجد الكف، فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى هدم الله ذلك الوثن. وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد. وفي الحجاز مواضع، كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وإنه الغار الذي ذكره الله في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار} [سورة التوبة:40] ولا خلاف بين أهل العلم أن الغار المذكور في القرآن إنما هو غار بجبل ثور، قريب من مكة، معروف عند أهل مكة إلى

اليوم. فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة ـ كائنة ما كانت ـ فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى أنه ينبغي تجنب الصلاة فيها، وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها. وكما ينهى عن إفراد الجمعة بالصوم، وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم، فإن ما كان مقصودا بالتخصيص، مع النهي عن ذلك، ينهى عن تخصيصه أيضاً بالفعل. وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي أسس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم. فإن ذلك المسجد لما بُنِي ضراراً وكفراً، وتفريقا بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه، وأمر بهدْمه. وهذه المشاهد الباطلة، إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله،

وتعظيماً لما لم يعظمه الله، وعكوفاً على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصداً للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتخاذها عيداً هو الاجتماع عندها واعتياد قصدها، فإن العيد من المعاودة. ويلتحق بهذا الضَّرب ـ لكنه ليس منه ـ مواضع يدعى لها خصائص لا تثبت، مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي، أو قبر صالح، أو مقام نبي، أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقاً، وقد يكون كذباً. وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضَّرب. فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جداً. وكان غير واحد من أهل العلم يقول: لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وغيره قد يثبت غير هذا أيضاً مثل: قبر إبراهيم الخليل - عليه السلام -، وقد يكون عُلم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه، ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق، فإن الأرض غُيِّرت مرات، فتعيين قبر أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت، إلا من طريق خاصة، وإن كان لو ثبت ذلك لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أُحدِث عندها. ولكن الغرض أن نبين هذا

القسم الأول، وهو تعظيم الأمكنة، التي لا خصيصة لها: إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها، أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة، إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه، كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهيٌّ عنه، ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أُهمل، ولما ضاع عن الأمة المحفوظِ دينُها، المعصومةِ عن الخطأ. وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. وقد يحكي من الحكايات التي فيها تأثير، مثل أن رجلاً دعا عندها فاستُجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته، ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تُعبد الأصنام فإن القوم كانوا أحياناً يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل الأبداد (¬1) من أهل الهند وغيرهم. وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج، والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته. وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ¬

_ (¬1) (*) الأبداد: بيوت الأصنام.

أسباب إجابة الدعاء عند القبور وغيرها:

النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يُسْتَخرج به من البخيل» [البخاري6693، 6694، مسلم2639] فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه، ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع؟. أسباب إجابة الدعاء عند القبور وغيرها: وأما إجابة الدعاء، فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى، وإن كانت فتنة في حق الداعي. فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيُسْقَوْن، ويُنصرون ويُعانون، ويُرزقون، مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها. وقد قال الله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، ليس هذا موضع تفصيلها. وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة.

النوع الثاني من الأمكنة: ما له خصيصة لكن لا يقتضي اتخاذه عيداً، ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده: فمن هذه الأمكنة: قبور الأنبياء والصالحين، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسلف، النهي عن اتخاذها عيداً، عموما وخصوصاً. وبينوا معنى العيد. فأما العموم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». [أبو داود2042وصححه الألباني] ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً. فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قَرَن ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً» أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أعقب النهي عن اتخاذه عيداً بقوله: «صَلُّوا علي فإن صلاتَكم تبلغُني حيثما كنتم» يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة

بكم إلى اتخاذه عيداً. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة. مثل ما روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث على شرط مسلم. [أبو داود2041وحسنه الألباني] ومثل ما روى أبو داود أيضاً عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي»، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء». [أبو داود1047وصححه الألباني] [أرم أي صار رميماً، أي عظماً بالياً] وفي النسائي وغيرِه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يُبَلَّغوني عن أمتي السلام» [النسائي1281وصححه الألباني] إلى أحاديث أُخَر في هذا الباب متعددة. والعيد إذا جعل اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وانتيابه (¬1) للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ¬

_ (¬1) (*) انتيابه: إتيانه مرة بعد مرة.

ومنى ومزدلفة وعرفة، جعلها الله عيداً، مثابة للناس، يجتمعون فيها، وينتابونها، للدعاء والذكر والنسك، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها. فلما جاء الإسلام محى الله ذلك كله. وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبوراً لهم، بتقدير كونها قبوراً لهم. بل وسائر القبور أيضاً داخلة في هذا. فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة، إذ هو بيت المسلم الميت، فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يُوطُأ ولا يُداس، ولا يُتَّكَأ عليه عندنا، وعند جمهور العلماء، ولا يجاور بما يؤذي الأموات، من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه، والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل، كان حقه أوكد. قال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقول قائلهم: السلام على أهل الديار وفي لفظ: السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية» [مسلم975] وروى أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم

لاحقون». [مسلم249] وروى أيضاً عن عائشة - رضي الله عنهما - في حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». [مسلم974] وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأل» [أبو داود3221وصححه الألباني] وقد روي حديث صححه ابن عبد البر أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر رجل، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام». [ضعفه الألباني] فهذا ونحوه مما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ويأمر به أمته عند قبور المسلمين، عقب الدفن، وعند زيارتهم، والمرور بهم، إنما هو تحية للميت، كما يُحَيَّى الحيُّ، ودعاء له كما يُدعَى له، إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده، وفي ضمن الدعاء للميت، دعاء الحي لنفسه،

ولسائر المسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي، ولسائر المسلمين، وتخصيص الميت بالدعاء له، فهذا كله، وما كان مثله، من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون، هو المشروع للمسلمين في ذلك. وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيره. وروى ابن بطة في الإبانة، بإسناد صحيح، عن معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون، قال: سأل رجل نافعاً فقال: هل كان ابن عمر يسلم على القبر، فقال: نعم، لقد رأيتُه مائة أو أكثر من مائة مرة، كان يأتي القبر، فيقوم عنده فيقول: «السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبِي» وفي رواية أخرى، ذكرها الإمام أحمد محتجاً بها: «ثم ينصرف». وزيارة القبور جائزة في الجملة، حتى قبور الكفار، فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت». [مسلم976] وفي صحيح مسلم عن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نهيتكم

حكم السفر لزيارة القبور

عن زيارة القبور فزوروها». [مسلم977] فقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارتها بعد النهي، وعلل ذلك بأنها تذكر الموت، وأذن إذناً عاماً، في زيارة قبر المسلم والكافر. والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر، والعلة ـ وهي تذكر الموت والآخرة ـ موجودة في ذلك كله. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي قبور أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار، فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين. فهذه الزيارة ـ وهي زيارة القبور، لتذكر الآخرة، أو لتحيتهم والدعاء لهم ـ هو الذي جاءت به السنة، كما تقدم. حكم السفر لزيارة القبور وقد اختلف أصحابنا (¬1) وغيرهم، هل يجوز السفر لزيارتها؟ على قولين، أحدهما: لا يجوز، والمسافرة لزيارتها معصية، ولا يجوز قصر الصلاة فيها؛ لأن هذا السفر بدعة، لم يكن في عصر السلف، وهو مشتمل على ما سيأتي من معاني النهي، ولأن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». ¬

_ (¬1) (*) الحنابلة.

من المحدثات الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد والبناء عليها:

[البخاري1189،مسلم1397] وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب، بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري، لما رأى أبا هريرة - رضي الله عنه - راجعاً من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال: لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» [رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح] فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث، أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء، مندرجة في العموم، وأنه لا يجوز السفر إليها، كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة. وأيضاً فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله ـ غير الثلاثة ـ لا يجوز، مع أن قصده لأهل مَصره يجب تارة، ويستحب أخرى، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يُحْصى ـ فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أولى أن لا يجوز. من المحدثات الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد والبناء عليها: من المحدثات الصلاة عند القبور مطلقاً، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي

عن ذلك، والتغليظ فيه. فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث، وصرح أصحابنا وغيرهم، من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما، بتحريمه، ولا ريب في القطع بتحريمه، لما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك». [مسلم532] وعن عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس قالا: «لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتنم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما صنعوا» [البخاري436، 435، مسلم531] وأخرجا جميعاً عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «

قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». [البخاري437، مسلم530] وفي رواية لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [مسلم530] فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ مَن فعَل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. [البخاري1330، مسلم529] وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مِن شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» [المسند4143وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج». رواه أحمد. [المسند2030وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] وفي الباب أحاديث وآثار كثيرة ليس هذا موضع استقصائها.

الأبنية المقامة على القبور تتعين إزالتها، لاشتمالها على أنواع من المحرمات:

الأبنية المقامة على القبور تتعين إزالتها، لاشتمالها على أنواع من المحرمات: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوك وغيرهم، يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه، ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب، لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك، ولأحاديث أُخَر، وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحداً، وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد، هل حدها ثلاثة أقبر، أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ (¬1) وإن لم يكن عنده قبر آخر؟ على وجهين. ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة، مثل ما بني على بعض العلماء، أو الصالحين، أو غيرهم ممن كان مدفوناً في مقبرة مسبَّلة، فبني على قبره مسجد، أو مدرسة، أو رباط، أو مشهد، وجعل فيه مطهرة، أو لم يجعل فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات: أحدها: أن المقبرة المُسَبَّلة لا يجوز الانتفاع بها في غير الدفن من غير تعويض بالاتفاق، فبناء المسجد أو المدرسة أو الرباط فيها كدفن الميت في المسجد، أو كبناء الخانات ونحوها في المقبرة، أو كبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه. الثاني: اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين، وإخراج عظام موتاهم، كما قد علم ذلك في كثير من هذه المواضيع. الثالث: أنه قد روى مسلم في صحيحه عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى أن يُبْنَى على القبور». [مسلم970] الرابع: أن بناء المطاهر التي هي محل النجاسات، بين مقابر المسلمين، من أقبح ما تُجَاوَرُ به القبور، لا سيما إن كان محل المطهرة قبر رجل مسلم. الخامس: اتخاذ القبور مساجد، وقد تقدم بعض النصوص المحرمة لذلك. السادس: الإسراج على القبور وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يفعل ذلك. [المسند2030وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] السابع: مشابهة أهل الكتاب في كثير من الأقوال والأفعال ¬

_ (¬1) (*) القبر الواحد.

والسنن بهذا السبب كما هو الواقع، إلى غير ذلك من الوجوه. بدعة البناية التي على قبر إبراهيم - عليه السلام -: وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة، فقيل: إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأتْ في ذلك مناماً فنقبت لذلك. وقيل: إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك. ثم ترك ذلك مسجداً بعد الفتوح المتأخرة. وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية، وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها، اتباعاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتقاء لمعصيته، كما تقدم. بدعة البناية على المشاهد والصلاة عندها: وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقاً، لا يجوز بلا خلاف أعلمه، للنهي الوارد، ولا يجوز الوفاء بما يُنذر لها من دهن وغيره، بل موجبه موجب نذر المعصية. ومن ذلك الصلاة عندها، وإن لم يبن هناك مسجد، فإن ذلك أيضاً اتخاذها مسجداً، كما قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجداً» ولم تقصد عائشة - رضي الله عنهما - مجرد بناء

سبب كراهية الصلاة في المقبرة:

مسجد، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وإنما قَصَدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره، وكل موضع قُصِدَت الصلاة فيه فقد اتُّخِذ مسجداً، بل كل موضع يصلَّى فيه فإنه يسمى مسجداً وإن لم يكن هناك بناء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». [البخاري335، مسلم523] وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» [أبو داود492وصححه الألباني]. سبب كراهية الصلاة في المقبرة: اعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا كونها مظنة النجاسة، لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، وبنى على هذا الاعتقاد، الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا يكون. ونجاسة الأرض مانع من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرة أو لم تكن، لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا. فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم

مساجد» يحذر ما فعلوا. وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [المسند7352وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً» [البخاري1330، مسلم529]. وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهى عن ذلك». [مسلم532] فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا. وقد نَبَّه هو - صلى الله عليه وسلم - على العلة بقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وبقوله: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد» وأولئك إنما كانوا يتخذون قبوراً لا نجاسة عندها. ولأنه قد روى مسلم في صحيحه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها». [مسلم972، 528] وعن عائشة - رضي الله عنهما - أن أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما - ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كنيسة، رأَيْنَها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك قوم إذا مات

فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله - عز وجل -». [البخاري426، مسلم528]. فجمع بين التماثيل والقبور. وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك، وقد ذكروا أن وداً، وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح سدد خطاكم. فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى بن محمد بن قيس: {وَيَعُوقَ وَنَسْراً}؟ [نوح: 23] قال: «كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح سدد خطاكم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطر، فعبدوهم»، قال قتادة وغيره: «كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك». [ابن جرير الطبري في التفسير (29/ 99) وإسناده صحيح] وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس

قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فإن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يُعتقد نبوَّته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله. ولهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها، ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال. فهذه المفسدة ـ التي هي مفسدة الشرك، كبيره وصغيره ـ هي التي حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فينهى المسلم عن الصلاة حينئذ ـ وإن لم يقصد ذلك ـ سدًا للذريعة. فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين، متبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادّة لله

ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أن الصلاة عند القبر ـ أي قبر كان ـ لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً، بل مزية شر. واعلم أن تلك البقعة، وإن كانت قد تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل، لكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه. فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم، وعبدوا تماثيلهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم. والأمة الوسط، عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى، ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: «لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله». [البخاري3445] فإذا قُدِّر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير تلك البقعة، كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربي (¬1) على هذه المصلحة، حتى تغمرها أو تزيد عليها. بحيث تصير الصلاة هناك مُذهِبة لتلك الرحمة، ومُثْبِتة لما يوجب العذاب، ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشئ من الصلاة عندها، فيكفيه ¬

_ (¬1) (*) تربي: تزيد.

أن يقلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، وعن صوم يومي العيدين. بل كما حرم الخمر، فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها، وكذلك تحريم القطرة منها. ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها. وليس على المؤمن، ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المصالح والمفاسد، وإنما عليه طاعتهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء:64] وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80] وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم، وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعة سنتهم، ونحو ذلك من الحقوق التي مَن قام بها لم يَقُم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شركاً أكبر أو أصغر، يترك ما يجب عليه من طاعتهم، بقدر ما ابتدعه من الإشراك بهم. وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال، ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة، وكان عليها سلف الأمة.

حكم الصلاة في المقبرة:

حكم الصلاة في المقبرة: قد اختلف الفقهاء في الصلاة في المقبرة: هل هي محرمة أم مكروهة؟ وإذا قيل هي محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا؟ والمشهور عندنا أنها محرمة لا تصح. ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك، وأن صلاته لا تصح. قصد القبور للدعاء عندها أو بها: الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين: أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو كمن يزورها، فيسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به. الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجْوَب منه في غيره، فهذا النوع مَنْهِيٌّ عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب، والفرق بين البابين ظاهر. فإن الرجل لو كان يدعو الله، واجتاز في ممره بصنم، أو صليب، أو كنيسة، أو كان يدعو في بقعة، وهناك صليب هو عنه ذاهل، أو دخل كنيسة ليبيت فيها مبيتاً جائزاً، ودعا الله في الليل، أو بات في

حديث الاستعانة بأهل القبور كذب

بيت بعض أصدقائه ودعا الله، لم يكن بهذا بأس. ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب، أو كنيسة، يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة، لكان هذا من العظائم، بل لو قصد بيتاً، أو حانوتاً في السوق، أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها، يرجو الإجابة بالدعاء عندها، لكان هذا من المنكرات المحرمة. إذ ليس للدعاء عندها فضل. فقصد القبور للدعاء عندها، من هذا الباب، بل هو أشد من بعضه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذها مساجد، واتخاذها عيداً، وعن الصلاة عندها، بخلاف كثير من هذه المواضع. حديث الاستعانة بأهل القبور كذب ما يرويه بعض الناس من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» أو نحو هذا، فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء والذي يبين ذلك أمور: أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تُتَّخَذ ذريعة إلى نوع من الشرك بالعكوف عليها، وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة.

ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة، فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء، أو لرفع شر ـ كالاستنصار ـ حاله في افتتانه بالقبور ـ إذا رجا الإجابة عندها ـ أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية، فإن أكثر المصلين في حال العافية، لا تكاد قلوبهم تُفتَن بذلك إلا قليلاً، أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جداً. فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهي عن الصلاة متحققة في حال هؤلاء، كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد. وهذا واضح لمن فقه في دين الله، وتبين له ما جاءت به الحنيفية من الدين الخالص لله، وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد، ونفي الشك بكل طريق. الثاني: أن قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هنالك رجاءً أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن ـ أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، ولا الصالحين المتقدمين، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات، ودهمتهم

نوائب غير ذلك، فهلا جاؤوا فاستسقوا واستغاثوا، عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به (¬1)، ولم يستسق عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جهالهم. فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون. فإن كان أفضل لم يَجُز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، ويعلمه من بعدهم. ولم يَجُز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه نوع كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً. ¬

_ (¬1) (*) أي استسقى بدعاء العباس كما سيُبَيّن شيخ الإسلام.

وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل، كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية، كما لو تحرى الدعاء وقصَدَه عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها، من شطوط الأنهار، ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق، وجوانب الطرقات، وما لا يحصي عدده إلا الله. وهذا الدليل قد دل عليه كتاب الله في غير موضع، مثل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى:21] فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرَك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره. ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم. وما أحسن قوله تعالى: {مَا لَم يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لئلا يحتج

بالمقاييس والحكايات. ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:80 - 83] فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يُخَوّفُون المخلصين بشفعائهم فيقال لهم: نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم، فإنهم خلق من خلق الله، لا يضرون إلا بعد مشيئة الله، فمن مسه بضر فلا كاشف له إلا هو، ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله، وقد أحدثتم في دينه من الشرك ما لم ينزل به وحيا من السماء، فأي الفريقين أحق بالأمن: من كان لا يخاف إلا الله، ولم يبتدع في دينه شركاء، أو من ابتدع في دينه شركاّ بغير إذنه؟ بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك

فهؤلاء من المهتدين. وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم. اعتقاد المبطلين استجابة الدعاء عند القبور جعَلها تُقصَد وهذا هو ما نهي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -:اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله، قد أوجب أن تُنْتَاب (¬1) لذلك وتقصد، وربما اجتمع عندها اجتماعات كثيرة، في مواسم معينة، وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا تجعلوا قبري عيداً». [أبو داود2042، وصححه الألبانى] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [مسلم530] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا القبور مساجد؛ فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» [مسلم532] حتى إن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة ويسافر إليها: إما في المحرم، أو رجب، أو شعبان، أو ذي الحجة، أو غيرها. وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان، وبعضها في وقت آخر، بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه، ويجتمع ¬

_ (¬1) (**) انتابهم: أتاهم مرة بعد أخرى.

عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى، في أيام معلومة من السنة، أو كما يُقصَد مُصَلَّى المَصْر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد. ومنها ما يسافر إليه من الأمصار، في وقت معين أو في وقت غير معين، لقصد الدعاء عنده، والعبادة هناك، كما يقصد بيت الله لذلك، حتى أن بعضهم يسميه الحج ويقول: نريد الحج إلى قبر فلان وفلان. وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، إلا أن يكون خلافا حادثا. ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع. وفي الجملة: هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا تجعلوا قبري عيداً» فإن اعتياد قصد المكان المعين، وفي وقت معين، عائد بعود السنة أو الشهر، أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد. ثم ينهى عن دِقّ ذلك وجُلِّه. ويكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة. فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟.

ويدخل في هذا: ما يفعل بمصر، عند قبر نفيسة وغيرها. وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي - رضي الله عنه -، وقبر الحسين، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي. وقبر موسى بن جعفر، ومحمد بن علي الجواد ببغداد. وعند قبر أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي. وغيرهما وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي. وكان يفعل نحو ذلك بِحرّان، عند قبر يسمى قبر الأنصاري، إلى قبور كثيرة، في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها. كما أنهم بنوا على كثير منها مساجد وبعضها مغصوب، كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وهؤلاء الفضلاء من الأئمة، إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك. فأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، هو اتخاذها عيداً، كما تقدم. ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا. ولا يُغْتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من

سائر العبادات لا تجوز عند القبور:

التشبه بأهل الكتابَيْن، الذي أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كائن في هذه الأمة. وأصل ذلك: إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب انمحى ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراما، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقا لباب الإيمان. سائر العبادات لا تجوز عند القبور: قد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذها مساجد وعن الصلاة عندها، وعن اتخاذها عيداً، وأنه دعى الله أن لا يتخذ قبره وثناً يُعبد. وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيداً هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك، وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها أو إليها، والأمر بالسلام عليها والدعاء لها. وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها، من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء، أو الدعاء ضمنا وتبعا. وتمام الكلام في ذلك، بذكر سائر العبادات، فالقول فيها جميعا كالقول في الدعاء، فليس في ذكر الله هناك، أو القراءة عند القبر، أو الصيام عنده، أو الذبح عنده، فضل على غيره من البقاع، ولا قصد ذلك عند القبور مستحباً. وما علمت أحداً من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك، أو الصيام أو

حكم الذبح عند القبور:

القراءة، أفضل منه في غير تلك البقعة. حكم الذبح عند القبور: وأما الذبح هناك فمنهي عنه مطلقا، ذكره أصحابنا وغيرهم. لما روى أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عقر في الإسلام» قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. [أبوداود3222وصححه الألباني] قال أصحابنا: وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه. العكوف عند القبور، والمجاورة عندها، وسدانتها، من المحرمات ومن المحرمات: العكوف عند القبر والمجاورة عنده، وسدانته، وتعليق الستور عليه، كأنه بيت الله الكعبة. فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه مَنْهيٌّ عنه باتفاق الأمة، محرم بدلالة السنة، فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد، والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام؟ بل عند بعضهم أن العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام، إذ {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِله} [البقرة: 165]. بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله،

أعظم عند المقابريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وقد أسست على تقوى من الله ورضوان. وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس، حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور ـ إما قبر لنبي، أو شيخ، أو بعض أهل البيت ـ أفضل من حج البيت الحرام، ويسمى زيارتها: الحج الأكبر، ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من حج البيت. وبعضهم إذا وصل المدينة رجع وظن أنه حصل له المقصود. وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور لأجل الدعاء عندها والتوسل بها، وسؤال الميت ودعائه. ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الكعبة، ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه، والمقصود بزيارة القبور الدعاء لها، كما يقصد بالصلاة على الميت ـ لَزَال هذا عن قلوبهم. ولهذا، كثير من هؤلاء يسأل الميت والغائب، كما يسأل ربه، فيقول: اغفر لي وارحمني، وتُب علي، ونحو ذلك. وكثير من الناس تمثل له صورة الشيخ المستغاث به، ويكون ذلك شيطاناً قد خاطبه، كما تفعل الشياطين بِعَبَدَة الأصنام. وأعظم من ذلك: قصد الدعاء عنده والنذر له، أو للسدنة العاكفين عليه، أو المجاورين عنده، من أقاربه أو غيرهم، واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة، أو كشف البلاء. فإنا قد بَيَّنَّا بقول الصادق المصدوق: أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير، وأن الله لم يجعله سبباً لدرك الحاجة، كما جعل الدعاء سبباً لذلك، فكيف نذر المعصية، الذي لا يجوز الوفاء به؟ واعلم أن أهل القبور من الأنبياء والصالحين، المدفونين، يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة، كما أن المسيح علي - عليه السلام - يكره ما يفعل النصارى به، وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعياداً وأوثاناً فيه غَضٌّ من أصحابها، بل هو من باب إكرامهم، وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه. ومن كرامة الأنبياء والصالحين، أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح، ليكثر أجرهم بكثرة أجور من اتبعهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء». [مسلم2674] وإنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس، بأنواع من العبادات المبتدَعة: إما من الأدعية، وإما من الأشعار وإما من السماعات، ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع، أو بعضه ـ أعني لإعراض قلوبهم ـ وإن قاموا بصورة المشروع، وإلا فمَن أقبَلَ على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه ـ عاقلاً لما اشتملت عليه من الكلم الطيب، والعمل الصالح مهتماً بها كل الاهتمام ـ أغْنَتْه عن كل ما يتوهم فيه خير من جنسها. ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره. ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته، كالأسحار، وأدبار الصلوات والسجود، ونحو ذلك، أغناه عن كل دعاء مبتدع، في ذاته أو بعض صفاته. فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك، ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوع من السنن، فإنه من يتحَرَّ الخير يُعْطَه، ومن يتوَقّ الشر يُوقَه.

أقوال العلماء في مقامات الأنبياء وحكم قصدها. وبيان القول الصحيح وأدلته:

أقوال العلماء في مقامات الأنبياء وحكم قصدها. وبيان القول الصحيح وأدلته: أما مقامات الأنبياء والصالحين ـ وهي الأمكنة التي قاموا فيها، أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد ـ فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين: أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصْد بقعة للعبادة، إلا أن يكون قصْدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة (¬1)، [البخاري502] وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول ونحو ذلك. والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نُقل عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي - صلى الله عليه وسلم -، [البخاري483] وإن كان النبي قد سلكها اتفاقاً لا قصداً. قال سندي الخواتيمي: سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث ابن أم ¬

_ (¬1) (*) الاسطوانة: السارية، والغالب أنها تكون من بناء بخلاف العمود فإنه من حجر واحد، ويقال: إنها السارية المتوسطة من الروضة الشريفة.

مكتوم: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى (¬1). وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثره ـ فليس بذلك بأس، أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جداً، وأكثروا فيه وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم: أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة، وغيرها، يذهب إليها؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً وعلى ما كان يفعل ابن عمر - رضي الله عنه -: كان يتبع مواضع سير النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى رؤي أنه يصب في موضع ماء، فيسئل عن ذلك. فقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصب ههنا ماء» [رواه ابن بطة الحنبلي في (الإبانة) (73) بإسناد صحيح]، قال: أما على هذا فلا بأس. قال: ورخص فيه، ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جداً، وأكثروا في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواهما الخلال في كتاب الأدب. فقد فصل أبو عبد الله رحمه الله في المشاهد ـ وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين، من غير أن تكون مساجد لهم، ¬

_ (¬1) (*) في البخاري (425) أن عتبان بن مالك (وكان قد عمي أو ساء بصره) سأل النبي ث أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مصلى.

كمواضع بالمدينة ـ بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً، والكثير الذي يتخذونه عيداً، كما تقدم. وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة، فإنه قد روى البخاري في صحيحه، عن موسى بن عقبة قال: «رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في تلك الأمكنة» قال موسى: «وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة» [البخاري483] فهذا كما رخص فيه أحمد - رضي الله عنه -. وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه عن معرور بن سويد، عن عمر - رضي الله عنه - قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ قالوا مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعَاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فلْيُصَلِّ، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض» [أشار ابن حجر في (فتح الباري) أن ذلك ثابت عن عمر] فقد كره عمر - رضي الله عنه - اتخاذ مصلى النبي

- صلى الله عليه وسلم - عيداً، وبيَّن أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا. وفي رواية عنه: أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم يصلون فيه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها. [صحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في (التوسل والوسيلة)] وروى محمد بن وضاح وغيره: أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الناس كانوا يذهبون تحتها. فخاف عمر الفتنة عليهم. [صحح إسناده الحافظ ابن حجر] وقد اختلف العلماء - رضي الله عنهم - في إتيان المشاهد: فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة، ما عدا قباء وأُحُداً. ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها. فهؤلاء كرهوها مطلقاً، لحديث عمر - رضي الله عنه - هذا، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل

الكتاب، ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. والصواب مع جمهور الصحابة، لأن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصَدَ العبادة في مكان كان قصْد العبادة فيه متابعةً له، كقصد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات. فأما الأمكنة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد الصلاة أو الدعاء عندها، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعًا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب ومثل هذا: ما خرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال: «كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف. فقلت له: يا أبا

مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة: قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها» [البخاري502، مسلم509] وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يتحرى الصلاة موضع المصحف، يسبح فيه، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة. [مسلم509] وأما قصْد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقا، فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حُجَّاجًا وعُمارًا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} [أبو داود 4607، ابن ماجه42، المسند17076وصححه الألباني، ولفظة {(كل بدعة ضلالة) رواها مسلم867].وتحري هذا ليس من

سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره، ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ أيضاً: فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما (¬1) نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان، سداً للذريعة. فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه، من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ ولو ساغ هذا لاستُحِبّ قَصْدُ جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي، أو وَلي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً، فيصير وثناً يُعبد من دون الله تعالى. شركٌ مبنيٌّ على إفك! والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب، كما يقرن بين الصدق والإخلاص. قال ¬

_ (¬1) (**) هكذا بالأصل، ولعلها: فيما.

تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:74 - 75] وقال تعالى عن الخليل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:85 - 86] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:1 - 3] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152] قال أبو قلابة: «هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة». وهو كما قال؛ فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به.

والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا: كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب: كالرافضة (¬1) الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركاً، فلا يوجد في أهل الأهواء أَكْذَب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجُمُعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور، التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] ولم يقل مشاهد الله وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف29] ولم يقل عند كل مشهد. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] ولم يقل مشاهد الله. بل المشاهِد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله لا يعمرها إلا من فيه نوع من ¬

_ (¬1) (*) الرافضة: الشيعة.

الشرك. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} [الجن:18] ولم يقل: وأن المشاهد لله. وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد، لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي، ولا على مقام نبي، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا. ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصاً عنه، وقال أبو حنيفة: بل

يستقبل القبلة ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك (فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، والقاضي عياض وغيرهما): «لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو، ولكن يسلم ويمضي». وقال أيضاً في المبسوط: «لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج، أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه، ويدعو لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -». فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدُمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: «لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، ولا يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلحَ أولَها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده». وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة، ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية: كالصلاة والسلام. ويكرهون قصده للدعاء، والوقوف عنده للدعاء. وليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو عنده.

وقد علم أن مالكاً من أعلم الناس بمثل هذه الأمور، فإنه مقيم بالمدينة، يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم، ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء، ويذكر أنه لم يفعله السلف. وقد أجدب الناس على عهد عمر - رضي الله عنه - فاستسقى بالعباس - رضي الله عنه -. ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر استسقى بالعباس، وقال: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»، فيُسْقَوْن. [البخاري1010] فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات - صلى الله عليه وسلم - توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به. ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره يستسقى عنده ولا به. والعلماء استحبوا السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أحد

يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» [أبو داود2041وحسنه الألباني] هذا مع ما في النسائي وغيره، عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يُبَلَّغوني عن أمتي السلام» [النسائي1281وصححه الألباني] وفي سنن أبي داود وغيره عنه، أنه قال: «أكثروا علي الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي»، فقالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ـ أي بليت ـ فقال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء». [أبو داود1047وصححه الألباني] فالصلاة عليه ـ بأبي هو وأمي ـ والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله. وقد ثبت في الصحيح أنه قال: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً». [مسلم408] والمشروع لنا عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين، هو من جنس المشروع عند جنائزهم، فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له، فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم

لاحقون. ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» [مسلم947، 975] فهذا دعاء خاص للميت. فأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت، أو الإقسام به على الله أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك بعد ذلك. ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً، لا أهل الصحيح ولا السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. كقوله: «من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» و «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» و «من حج ولم يزرني فقد جفاني» ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور مطلقاً، بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». [مسلم977] وفي

الصحيح عنه أنه قال: «استأذنتُ ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت». [مسلم976] فهذه زيارة لأجل تذكرة الآخرة. ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك. وقد استفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».يحذر ما فعلوا. [البخاري436، 435، مسلم531] قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً. [البخاري1330، مسلم529] وفي الصحيح أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» [البخاري426،مسلم528] وعن جندب بن عبد الله قال: «سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم

مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» [مسلم532] وعنه أنه قال: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [أبو داود2042وصححه الألباني] وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [المسند7352وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] وفي المسند عن ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن مِن شرار الناس مَنْ تدركهم الساعة وهم أحياء، ومَنْ يتخذ القبور مساجد» [المسند4143وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - ـ بأبي هو وأمي ـ وكذلك عن أصحابه. فهذا الذي ينهى عنه: من اتخاذ القبور مساجد، مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى، والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني. والزيارة المبتدعة من جنس الأول، فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه، باتفاق العلماء. فإنهم قد

نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دل عليه النص. واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عنده والدعاء عنده أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور. بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تُبْنَ على القبور، أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بُنِيَت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم. وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك، بل وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع. وقد قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. [البخاري4920] فإذا كان - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده

خالصاً عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم، سواء طلب منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله تعالى؟ بل لو أقسم على الله ببعض خلقه، من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهى عن ذلك ولو لم يكن عند قبره، كما لا يقسم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة. وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين، أصحهما: أنه نهي تحريم. والقول الذي عليه جمهور الأئمة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم: أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة. وهذا هو الصواب. بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك، واتفقوا على أن الله يسأل، ويقسم عليه بأسمائه وصفاته، كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام». [ابن ماجه3858وقال الألباني: حسن صحيح] وفي الحديث الآخر «اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن

شبهات والرد عليها:

له كفوا أحد» [ابن ماجه3857وصححه الألباني] وفي الحديث الآخر: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» [المسند3712وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء. قالوا جميعاً: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقاً. شبهات والرد عليها: 1 - حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك. وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي» [ابن ماجه778وضعفه الألباني] 2 - قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء:1] على قراءة حمزة وغيره ممن خفض الأرحام. 3 - قد ثبت في الصحيح أن عمر قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا

نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. [البخاري1010] 4 - حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي فتقضى لي، اللهم فشفعه في، وشفعني فيه، فدعا الله، فرد الله عليه بصره.» [المسند17175، 17174، ابن ماجه1385، الترمذي3831وصححه الألباني] والجواب عن هذا أن يقال: أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام:54] وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا

يعذبهم» [البخاري67، مسلم30] فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق. وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً» [مسلم2577] وأما الإيجاب عليه - سبحانه وتعالى -، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مُبتدَع مخالفٌ لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعِم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المُرْسِل إليهم الرسل، وهو المُيَسِّر لهم الإيمان، والعمل الصالح ومن توهم من القدرية،

والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره فهو جاهل في ذلك. وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما مَنَّ به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك. وإذا سُئِل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعَد أصحابها بكرامته، وأنه يجعل لهم مخرجا، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهة عنده فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا. وأما إذا سئل بشيء ليس سبباً للمطلوب: فإما أن يكون إقساما عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة، ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم، ما

لا يقبله من دعاء غيرهم. فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان، وفلان لم يَدْعُ له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب. وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين (¬1) وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هذا من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] فإن ابتغاء الوسيلة إليه، هو طلب من يتوسل به، أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له، والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. ¬

_ (¬1) (*) أي أن يدعون الله ـ وهم أحياء ـ لمن طلب منهم الدعاء.

فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته. ومن هذا الباب: استشفاع الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، [البخاري3340، مسلم193] كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم، في الاستسقاء وغيره. وقول عمر - رضي الله عنه -: إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. [البخاري1010] معناه: نتوسل إليك بدعائه وشفاعته، وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به: إنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله بعد موته وفي مغيبه. كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض»، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر - رضي الله عنه - لَفَعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه

إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به، والإقسام به أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء، دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. - وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول الشفاعة وأن قوله: «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: «كنا نتوسل إليك بنبينا» فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: «يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفّعه فيّ» فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيه، وقوله: «يا محمد يا نبي الله» هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب الشهود بالقلب: كما يقول المصلي: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصور في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع

الخطاب. ثانيًا: قوله في حديث أبي سعيد: «أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا» هذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قُدِّر َأنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». [مسلم468] والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» [مسلم2708] قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، واستعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعفوه ومعافاته من عقوبته، مع أنه

لا يُستَعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لايُسْأَل بمخلوق، ومن قال من العلماء: «لا يُسأل إلا به»، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» [البخاري6646، مسلم1646] وفي لفظ للترمذي: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [الترمذي1590وصححه الألباني] ومع هذا، فالحلف بعزة الله، ولعمر الله ونحو ذلك ـ مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلف به ـ لم يدخل في الحلف بغير الله. ثالثًا: قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء:1] هو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته: من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم، والصلاة عليهم. ومن هذا الباب: ما يُرْوَى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «

كنت إذا سألت عليا - رضي الله عنه - شيئاً فلم يعطنيه قلت له: «بحق جعفر إلا ما أعطيتَنيه فيعطينيه» أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يُوَلِّي» [مسلم2552] ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعليّ بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان عليٌّ - رضي الله عنه - إلى تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق. فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان مما يُقسَم به، لكان باطلاً. وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المُقسِم للمُقسَم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» [البخاري2703،مسلم1675] وقد يكون من باب تعظيم

المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع. والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه. فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حَسُنَ السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم. وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم. وأما بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين، ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم، ورعايته لحقوقهم التي أنعم الله بها، فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا بسبب بين الناس وبينهم، إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه. فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم. فمجرد دعائه بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له، فلا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى. والمقصود هنا: أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله

بالمخلوق ما قد ذكر فكيف بسؤال المخلوق الميت؟ سواء سُئِل أن يسأل الله أو سُئِل قضاء الحاجة ونحو ذلك، مما يفعله بعض الناس، إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته، وصاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - حسَم المادة وسدَّ الذريعة، بلعْنِه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلَّى عندها لله، ولا يُسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك. فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك، وأسباب الشرك. وقد تبين أن أحداً من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة. ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحرٍّ لمثل فعله. فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها. والكلام هنا في ثلاث مسائل: إحداها: أن التأسي به في صورة الفعل الذي فعله، من غير أن يعلم قصده فيه، أو مع عدم السبب الذي فعله، فهذا فيه نزاع

مشهور، وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين، وغيرهم يخالفهم في ذلك، والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر - رضي الله عنهم - وليس هذا مما نحن فيه الآن. ومن هذا الباب أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى فيه، إذا جاء وقت الصلاة، فهذا من هذا القبيل. المسألة الثانية: أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتاً للصلاة، بل أراد أن ينشئ الصلاة والدعاء لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره، وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله، فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك، وتواتر عن المهاجرين والأنصار: أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، فيمتنع أن يكون فعل ابن عمرـ لو فعل ذلك ـ حجة على أبيه، وعلى المهاجرين والأنصار. المسألة الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يَعْدِل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفراً قصيراً أو طويلاً مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم

الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مَبْني على أثر نبي من الأنبياء فهذا مما يعلم كل من كان عالماً بحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئاً من هذه الأمكنة. فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنهما - أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجَأَه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه المَلَك، فقال له: اقرأ. فقال: «لست بقارئ» قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني»، ثم قال: اقرأ. فقال: «لست بقارئ» قال: مرتين أو ثلاثا ـ ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] فرجع بها

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره» [البخاري 3] الحديث بطوله. فتحنُّثُه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث. ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عُمَر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثاً. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئاً من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن

عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنَمِرَة، المجاورة لعرفة. ثم بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم، من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء. وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] وهو غار بجبل ثور، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة مسجداً، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف مِنَى، وقد بني هناك له مسجد. ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بذلك، ولكان يُعَلِّم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك عُلِم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. وإذا كان حكم مقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مثل غار حراء الذي ابتُدي فيه

بالإنباء والإرسال، وأُنزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه، فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يُشرع قصدها، والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها. وهذا كما أنه قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل فلم يُقَبّل إلا الحجر الأسود. وقد اختلف في الركن اليماني: فقيل يُقَبِّله. وقيل: يستلمه ويقبل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره. والصواب: أنه لا يقبله ولا يقبل يده، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل لا هذا ولا هذا، كما تنطق به الأحاديث الصحيحة، ثم هذه مسألة نزاع، وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم، أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئاً من جوانب

البيت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين. وعلى هذا عامة السلف، وقد رُوى أن ابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهما - طافا بالبيت، فاستلم معاوية الأركان الأربعة. فقال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. [البخاري1608] فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. فرجع إليه معاوية». [المسند1877وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة، من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فإذا كان هذا بالسنة المتواترة، وباتفاق الأئمة، لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحها باليد. وأيضا ـ فإن المكان الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه بالمدينة النبوية دائماً، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه

الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟ وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل صحيحاً، فكيف بما لا يُعلم صحته، أو بما يُعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجُهّال أن هذا الموضع قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمَي إبراهيم الخليل، الذي لا شك فيه، ونحن مع هذا قد أُمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدميه، كذباً وافتراءً عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات. شبهة والرد عليها: إن قيل: قد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فيقاس عليه غيره. قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أُريد به المقام الذي عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لا يشركها فيه سائر

البقاع، كما خص البيت بالطواف. فما خصت به تلك البقاع لا يقاس به غيرها. وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها ونحن استدلَلْنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل، والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها. ومن ذلك القبة التي عند باب عرفات، التي يقال: إنها قبة آدم، فإن هذا لا يُشرع قصدها للصلاة والدعاء، باتفاق العلماء، بل نفس رُقِيّ الجبل الذي بعرفات الذي يقال له: جبل الرحمة، ليس مشروعا باتفاقهم، وإنما السنة الوقوف بعرفات. إما عند الصخرات حيث وقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما بسائر عرفات. وكذلك سائر المساجد المبنية هناك. كالمساجد المبنية عند الجمرات، وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له: غار المرسلات فيه نزلت سورة المرسلات، وفوق الجبل مسجد يقال له مسجد الكبش، ونحو ذلك. لم يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك. وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر، إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين

خطأ أصحاب المناسك في ذكرهم للمزارات المبتدعة

الإسلام، أن هذا ليس من شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خطأ أصحاب المناسك في ذكرهم للمزارات المبتدعة وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج، في أول عمري لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام، هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعاء وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيراً له. بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد غيره هناك تحرياً لفضله، فبدعة غير مشروعة.

المساجد التي تشد إليها الرحال هي المساجد الثلاثة فقط

المساجد التي تشد إليها الرحال هي المساجد الثلاثة فقط المساجد التي تشد إليها الرحال، هي المساجد الثلاثة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» [البخاري1189، مسلم1397] فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء، والذكر والقراءة والاعتكاف، من الأعمال الصالحة. وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه فإن في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً»، وفي لفظ لمسلم: «فيصلي فيه ركعتين» وكان ابن عمر يفعله. [البخاري1193، مسلم1399] المشاهد وغيرها هي في معنى مسجد الضرار: وذلك أن الله تعالى نهاه عن القيام في مسجد الضرار فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ

أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة107 - 110] وكان مسجد الضرار قد بُني لأبي عامر الفاسق، الذي كان يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان المشركون يعظمونه فلما جاء الإسلام حصل له من الحسد ما أوجب مخالفته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقام طائفة من المنافقين يبنون هذا المسجد، وقصدوا أن يبنوه لأبي عامر هذا، والقصة مشهورة في ذلك، فلم يبنوه لأجل فِعل ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل لغير ذلك. فدخل في معنى ذلك: من بَني أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة، من المشاهد وغيرها. ـ لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله ـ ما يقوى بها شبهها كمسجد الضرار، فلما قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} وكان مسجد قباء أسس على

التقوى، ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء، كما ثبت في الصحيح عنه: أنه سئل عن المسجد أسس عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «مسجدي هذا» [مسلم1398] فكلا المسجدين أُسس على التقوى ولكن اختُص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي مسجد قباء يوم السبت. وفي السنن عن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [ابن ماجه1411وصححه الألباني] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة» [ابن ماجه1412وصححه الألباني] قال بعض العلماء: قوله: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء» تنبيه على أنه لا يشرع قصْده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها. وأما المساجد الثلاثة: فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها، ولكن لو نذر ذلك هل يجب النذر؟ فيه قولان

للعلماء: أحدهما: أنه لا يجب بالنذر إلا إتيان المسجد الحرام خاصة، وهذا أحد قولي الشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة، وبناه على أصله في أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع. والقول الثاني: وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما: أنه يجب إتيان المساجد الثلاثة بالنذر. لكن إن أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول فإذا نذر إتيان مسجد المدينة، ومسجد إيلياء (¬1)، أغناه إتيان المسجد الحرام. وإن نذر إتيان مسجد إيلياء أغناه إتيان أحد مسجدي الحرمين. وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» [البخاري6700] وهذا يعم كل طاعة، سواء كان جنسها واجبا، أو لم يكن. وإتيان الأفضل إجْراءً للحديث الوارد في ذلك. (¬2) والمقصود أنه لا يشرع السفر إلى مسجد غير الثلاثة، ولو نذر ذلك لم يجب عليه فعله بالنذر ¬

_ (¬1) (*) المسجد الأقصى. (¬2) (**) عن جابر بن عبد الله ط أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: «يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس ركعتين»،قال: «صلّ هاهنا» ثم أعاد عليه فقال: «صلّ هاهنا»،ثم أعاد عليه، فقال: «شأنك إذن». [رواه أبو داود (3305) وصححه الألباني]

باتفاق الأئمة. وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين مشهورين. وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد، ولم يخصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بإتيان، ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن، إلا قباء خاصة. فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وُبنيت بإذنه، ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصه من غير سفر إليه، إلا مسجد قباء، فكيف بما سواها. وأما المسجد الأقصى: فهو أحد المساجد الثلاثة، التي تشد إليها الرحال، وكان المسلمون لما فتحوا بيت المقدس على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ـ حين جاء عمر إليهم، فسلم النصارى إليه البلد ـ دخل إليه فوجد على الصخرة زبالة عظيمة جداً، كانت النصارى قد ألقتها عليها، معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة، ويصلون إليها، فأخذ عمر في ثوبه منها، واتبعه المسلمون في ذلك. وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم: الأقصى. والأقصى اسم للمسجد كله،

ولا يسمى هو ولا غيره حرماً، وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة. فبنى عمر المصلَّى الذي في القبلة. ويقال: إن تحته درجاً كان يصعد منها إلى ما أمام الأقصى، فبناه على الدرج، حيث لم يُصَلّ أهل الكتاب، ولم يُصَلّ عمر ولا المسلمون عند الصخرة، ولا تمسحوا بها، ولا قبّلوها. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: كان إذا أتى بيت المقدس دخل إليه، وصلى فيه، ولا يقرب الصخرة ولا يأتيها، ولا يقرب شيئا من تلك البقاع، وكذلك نقل عن غير واحد من السلف المعتبرين: كعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وغيرهم. وذلك أن سائر بقاع المسجد لا مزية لبعضها على بعض، إلا ما بناه عمر - رضي الله عنه - لمصلَّى المسلمين. وإذا كان المسجد الحرام، ومسجد المدينة، اللذان هما أفضل من المسجد الأقصى بالإجماع، فأحدهما قد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام» [البخاري1190] والآخر هو المسجد الذي أوجب الله حجه والطواف فيه، وجعله قبلة لعباده المؤمنين، ومع هذا، فليس

بناء القبة عند الصخرة حدث في عهد عبد الملك بن مروان

فيهما ما يقبل بالفم ولا يستلم باليد، إلا ما جعله الله في الأرض بمنزلة اليمين (¬1)، وهو الحجر الأسود، فكيف يكون في المسجد الأقصى ما يستلم أو يقبل؟ بناء القبة عند الصخرة حدث في عهد عبد الملك بن مروان وكانت الصخرة مكشوفة، ولم يكن أحد من الصحابة، لا ولاتهم ولا علماؤهم يخصها بعبادة، وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان - رضي الله عنهما -، مع حكمهما على الشام. وكذلك في خلافة علي - رضي الله عنه -، وإن كان لم يحكم عليها، ثم كذلك في إمارة معاوية، وابنه، وابن ابنه. فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبة على الصخرة. الصلاة عند الصخرة بدعة: ولا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ويتحرون الصلاة عندها، حتى ابن عمر - رضي الله عنهما - مع كونه كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى، كان لا يأتي الصخرة. وذلك أنها كانت قبلة، ثم ¬

_ (¬1) (*) سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» فقال: رُوي عن النبي ث بإسناد لا يثبت. [مجموع الفتاوى6/ 397] وضعفه الإمام السيوطي والشيخ الألباني [ضعيف الجامع الصغير2772]

نسخت. وهي قبلة اليهود. فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم، كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت. وفي تخصيصها بالتعظيم مشابهة لليهود. اليمن لا تغلظ بالحلف عند المشاهد وقد ذكر طائفة من متأخري الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم: أن اليمين تُغَلَّظ ببيت المقدس، بالتحليف عند الصخرة، كما تغلظ في المسجد الحرام، بالتحليف بين الركن والمقام، وكما تغلظ في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بالتحليف عند قبره ولكن ليس لهذا أصل في كلام أحمد ونحوه من الأئمة، بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر، ولا تغلظ اليمين بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه، كما لا تغلظ بالتحليف عند المشاهد ومقامات الأنبياء، ونحو ذلك. ومن فعل ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للشريعة. الآثار المنقولة عن بني إسرائيل في فضائل بيت المقدس وقد صنف طائفة من الناس، مصنفات في فضائل بيت المقدس، وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار

المنقولة عن أهل الكتاب ـ وعمن أخذ عنهم ـ ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» [البخاري4485]، ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة: إذا حدَّث بعض أعيان التابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث ـ كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وأبي العالية ونحوهم، وهم من خيار علماء المسلمين وأكابر أئمة الدين ـ توقف أهل العلم في مراسيلهم، فمنهم من يرد المراسيل مطلقا، ومنهم من يقبلها بشروط، ومنهم من يميز بين مَن عادته لا يرسل إلا عن ثقة، كسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، وبين من عُرف عنه أنه قد يرسل عن غير ثقة: كأبي العالية والحسن وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رجل أو رجلان، أو ثلاثة مثلاً، وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة، فلا يجوز الحكم بصحتها، باتفاق أهل العلم، إلا أن يعرف أن ذلك من نقل أهل

العلم بالحديث، الذين لا يحدثون إلا بما صح، كالبخاري في المعلقات التي يجزم فيها بأنها صحيحة عنده، وما وقفه كقوله: وقد ذكر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ونحو ذلك، فإنه حسن عنده. هذا وليس تحت أديم السماء بعد القرآن كتاب أصح من البخاري، فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء؟ وبين كعب، وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة، وأكثر وأقل، وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة، بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود، وقد أخبر الله بتبديلهم وتحريفهم فكيف يحل للمسلم أن يصدق شيئاً من ذلك، بمجرد هذا النقل؟ بل الواجب أن لا يصدق ذلك ولا يكذبه أيضاً إلا بدليل يدل على كذبه، وهكذا أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم -.وفي هذه الإسرائيليات، مما هو كذب على الأنبياء، أو ما هو منسوخ في شريعتنا، ما لا يعلمه إلا الله. ومعلوم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، قد فتحوا البلاد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسكنوا بالشام والعراق ومصر، وغير هذه الأمصار وهم كانوا أعلم بالدين، وأتبع له ممن بعدهم فليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا

عليه. فما كان من هذه البقاع لم يعظموه، أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء، أو نحو ذلك ـ لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيلهم أولَى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم، وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره، ممن هو أعلم وأفضل منه، أنه خالف سبيل هذا المخالف وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلى فيه ركعتين [مسلم162] ولم يُصَلّ بمكان غيره ولا زاره. وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح، وفيه ما هو في السنن والمسانيد، وفيه ما هو ضعيف، وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات، مثل ما يرويه بعضهم فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له جبريل: هذا قبر أبيك إبراهيم، انزل فصَلّ فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه. وأعجب من ذلك، أنه روي فيه: قيل له في المدينة: انزل فصَلّ

هنا قبل أن يبني مسجده، وإنما كان المكان مقبرة للمشركين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إنما نزل هناك لما بركت ناقته هناك ـ فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة. وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين، سواء كان مولد عيسى أو لم يكن، بل قبر إبراهيم الخليل لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده، ولا الدعاء، ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلاً. وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، واستوطن الشام خلائق من الصحابة، وليس فيهم من فعل شيئاً من هذا، ولم يبن المسلمون عليه مسجداً أصلاً، لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة، لما أخذوا البيت المقدس، بسبب استيلاء الرافضة (¬1) على الشام، لما كانوا ملوك مصرـ والرافضة أمة مخذولة، ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة ـ قويت النصارى، وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة، وحينئذ نقبت النصارى ¬

_ (¬1) (*) الشيعة. (والمقصود هنا العُبَيديون الفاطميون الذين ادعوا الانتساب إلى فاطمة م خداعاً للمسلمين).

أصل دين المسلم: أنه لا تخص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد

حجرة الخليل صلوات الله عليه، وجعلت لها بابا، وأثر النقب ظاهر في الباب. فكان اتخاذ ذلك معبدا، مما أحدثته النصارى، ليس من عمل سلف الأمة وخيارها. أصل دين المسلم: أنه لا تخص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد وأصل دين المسلمين، أنه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة، وما عليه المشركون وأهل الكتاب، من تعظيم للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء، ونحوه من البقاع ـ فهو مما جاء الإسلام بمَحوه وإزالته ونسخه. ثم المساجد جميعها تشترك في العبادات، فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد، إلا ما خص به المسجد الحرام، من الطواف ونحوه، فإن خصائص المسجد الحرام لا يشاركه فيها شيء من المساجد. كما أنه لا يُصلى إلى غيره. وأما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسجد الأقصى، فكل ما يشرع فيهما من العبادات، يشرع في سائر المساجد: كالصلاة والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف، ولا يشرع فيهما جنس لا يشرع في غيرهما لا تقبيل شيء ولا استلامه، ولا الطواف به، ونحو ذلك. لكنهما

أفضل من غيرهما، فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما. ولهذا جاءت الشريعة بالاعتكاف الشرعي في المساجد، بدل ما كان يفعل قبل الإسلام من المجاورة بغار حراء، ونحوه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى قبضه الله. والاعتكاف من العبادات المشروعة بالمساجد باتفاق الأئمة، كما قال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي: في حال عكوفكم في المساجد لا تباشروهن، وإن كانت المباشرة خارج المسجد. ولهذا قال الفقهاء: إن ركن الاعتكاف، لزوم المسجد لعبادة الله. ومحظوره الذي يبطله، مباشرة النساء. فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي، أو غير نبي، أو مقام نبي أو غير نبي، فليس هذا من دين المسلمين. بل هو من جنس دين المشركين، الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه، حيث قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} [البقرة:51 - 54]

وقال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف138 - 140] فهذا عكوف المشركين، وذاك عكوف المسلمين فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه، ويخافونه من دون الله، وما يتخذونهم شركاء وشفعاء، فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول: إن العالم له خالقان ولا أن الله له شريك يساويه في صفاته. هذا لم يقله أحد من المشركين، بل كانوا يُقِرُّون بأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان:25] وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ* قُل لِلهِ الشَّفَاعَةُ

أقوال الناس في الشفاعة:

جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:43 - 44] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [يونس:18] وقال تعالى عن صاحب يس: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22 - 25] أقوال الناس في الشفاعة: وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان، ووسط. فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب، كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة: أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن. والخوارج والمعتزلة: أنكروا شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر من أمته. بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه. وأنكروه الشفاعة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا

رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ونحو ذلك. وأما سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين والملائكة. وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته، والصدقة عنه، بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء. كما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة، وما كان في معنى الصوم. وقالوا: إن الشفيع يطلب من الله ويسأل، ولا تنفع الشفاعة إلا بإذنه، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] وقد ثبت في الصحيح، أن سيد الشفعاء - صلى الله عليه وسلم - إذا طلبت الشفاعة

منه بعد أن تطلب من آدم وأولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فيردونها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قال: «فأذهبُ إلى ربي، فإذا رأيتُه خررتُ له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ، لا أُحسنُها الآن فيقول لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمَع وسَلْ تعطَهْ، واشفع تُشفع، قال: فأقول: رب أمتي أمتي، فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة» [البخاري7410، مسلم193] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:56 - 57] قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية، وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤلين يتقربون إلى الله ويردون رحمته، ويخافون عذابه. وقد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال: «يا أبا هريرة، لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أَوْلى منك،

لما رأيتُه من حرصِك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة. من قال لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله» [البخاري99] فكلما كان الرجل أتم إخلاصا لله، كان أحق بالشفاعة، وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين، يرجوه ويخافه، فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة. فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له، بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج إلى أن يقبل شفاعته. والله تعالى غنِيّ عن العالمين وهو وحده سبحانه يدير العالمين كلهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة. وهو يقبل شفاعته، كما يلهم الداعي الدعاء، ثم يجيب دعاءه فالأمر كله له. فإذا كان العبد يرجو شفيعاً من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة، ولا يقبل شفاعته. وأفضل الخلق: محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إبراهيم صلى الله عليهما وسلم. وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يستغفر لعمه أبي طالب، بعد أن قال: «

لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك» [البخاري3883، مسلم24] وقد صلى على المنافقين ودعا لهم فقيل له: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} [التوبة:84] وقيل له أولاً: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} فقال: «لو أعلم أني لو زدتُ على السبعين يغفر لهم لزدت» فأنزل الله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} (المنافقون:6) [البخاري1366] ولما استغفر إبراهيم - عليه السلام - لأبيه، بعد وعده بقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة] وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114] والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق

لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق مشتركة. ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده»؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم: أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا، يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم» [البخاري2856، مسلم30] فالله تعالى مستحق أن نعبده ولا نشرك به شيئا. وهذا أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب. قال الله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ويدخل في ذلك: أن لا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، كما

قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59] فجعل الإيتاء لله وللرسول، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7] فالحلال ما حلله الرسول، والحرام ما حرمه الرسول، والدين ما شرعه الرسول. وجعل التحسب بالله وحده، فقال تعالى: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ} ولم يقل ورسوله. كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي حسبك وحسب من اتبعك: الله، فهو وحده كافيكم ومن ظن أن معناها: حسبك الله والمؤمنون، فقد غلط غلطاً عظيماً من وجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع.

ثم قال: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59] فجعل الفضل لله، وذكر الرسول في الإيتاء، لأنه لا يباح إلا ما أباحه الرسول، فليس لأحد أن يأخذ ما تيسر له إن لم يكن مباحا في الشريعة. ثم قال: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59] فجعل الرغبة إلى الله وحده، دون ما سواه. كما قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح:7، 8] فأمر بالرغبة إليه. ولم يأمر الله قط مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً، وإن كان قد أباح في موضع من المواضع ذلك، لكنه لم يأمر به، بل الأفضل للعبد أن لا يسأل قط إلا الله. كما ثبت في الصحيح في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» [البخاري5705، مسلم218] فجعل من صفاتهم أنهم لا يسترقون: أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنه -: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله» [الترمذي2648وصححه الألباني] فهو الذي يُتَوكل عليه، ويُستعان به، ويُستغاث به، ويُخاف ويُرجى،

ويُعبد، وتنيب القلوب إليه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ منه إلا إليه، والقرآن كله يحقق هذا الأصل. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يُطاع ويُحَب ويُرضى، ويُسلَّم إليه حكمه ويُعزَّر (¬1) ويُوَقَّر ويُتَّبَع، ويُؤمَن به وبما جاء به، قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء:64] وقال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة:62] وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله. ومن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» [البخاري16، مسلم43] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ¬

_ (¬1) (*) التعزير: التعظيم والتوقير، وقيل: النصرة، وقيل: القتال معه بالسيف. والتوقير: الاحترام والإجلال والإعظام.

ووالده والناس أجمعين». [البخاري14، مسلم69] وقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: «لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال: فلَأَنت أحب إلي من نفسي. قال: «الآن يا عمر». [البخاري6632] وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي الرسول خاصة {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8، 9] أي تسبحوا الله تعالى. فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح لله وحده. وقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد وتجريده ونفْي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ. كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان» [أبو داود4980وصححه الألباني] وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: «أجعَلْتَني لله عَدْلاً؟ بل ما شاء الله وحده» [المسند2561وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح]

تحقيق الشهادتين وما يتضمنه

والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله، تحقيقاً لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده، وإلى بيت الله وحده. وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا عليّ، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة. تحقيق الشهادتين وما يتضمنه وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس

الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله. فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو، تتضمن إخلاص الإلهية له، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره، لا بحب ولا خوف ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام ولا رغبة، ولا رهبة، بل لا بد أن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال:39] فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله: كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك. وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: «من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» [أبو داود4681وصححه الألباني] فالمؤمنون يحبون لله، والمشركون يحبون مع الله. كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ} [البقرة:165] والشهادة بأن محمداً رسول الله، تتضمن تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر. فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته من الأسماء

والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات، فيخلصوا من التعطيل والتمثيل، ويكونوا في إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل. وعليهم أن يفعلوا ما أمر به وأن ينتهوا عما نهى عنه، ويحللوا ما حلله، ويحرموا ما حرمه، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. ولفظ الإسلام: يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فلابد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: لا إله إلا الله؛ فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستزّلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة الرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال: إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح. أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو

صالح، داعين له راغبين إليه. ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور. ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت. ومن شيوخهم من يحج فإذا دخل المدينة رجع وظن أن هذا أبلغ. ومن جُهّالهم من يتوهم أن زيارة القبر واجبة. ومنهم من يسأل المقبور الميت، كما يسأل الحي الذي لا يموت! يقول: يا سيدي فلان، اغفر لي وارحمني وتب علي، أو يقول: اقض عني الدين، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك أو جوارك. وقد ينذرون أولادهم للمقبور، ويسيبون له السوائب، من البقر وغيرها، كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم. ومن السدنة من يضل الجهال، فيقول: أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح وهو يذكرها للنبي، والنبي يذكرها لله. ومنهم من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب، من الستور والثياب، ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة، ما قد أجمع المسلمون على أنه ليس من دين الإسلام، هذا والمسجد الجامع

معطل خراب صورة ومعنى! وما أكثر من يرى من هؤلاء، أن صلاته عند هذا القبر المضاف إلى بعض المعظمين ـ مع أنه كذب في نفس الأمر ـ أعظم من صلاته في المساجد، بيوت الله، فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المبتدعة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذها مساجد، وإن كانت على قبور الأنبياء، ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] ومن أكابرهم من يقول: الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان ـ مع استدبار الكعبة ـ قبلة الخاصة!. وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين. والمؤمن يؤمن بالله، وما له من الأسماء الحسنى، ويدعوه بها، ويجتنب الإلحاد في أسمائه وآياته، وهو يدعو الله وحده، ويعبده وحده، لا يشرك بعبادة ربه أحداً. ويجتنب طريق المشركين الذين قال الله تعالى فيهم: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ

كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57، 56] فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والإيمان وليتخذ الله هادياً ونصيراً، وحاكماً وولياً، فإنه نعم المولى ونعم النصير وكفى بربك هادياً ونصيراً. وإن أحب دعا بالدعاء الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عائشة - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي من الليل يقول: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» [مسلم770] وذلك أن الله تعالى يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

[البقرة:213] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}:أي فاختلفوا، كما في سورة يونس [19]: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ}. تم بحمد الله

§1/1