تهافت العلمانية في الصحافة العربية

سالم البهنساوي

تهافت العلمانية في الصحافة العربية المستشار سالم البهنساوي دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة. ش. م. م - عدد الأجزاء: 1. - عدد الصفحات: 284. أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -. [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].

تهافت العلمانية في الصحافة العربية المستشار سالم البهنساوي دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة. ش. م. م

الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم تَقْدِيمٌ: العلمانية هى ترجمة لكلمة (SECULARISM) ومعناها القواعد التي لا تربط بالقواعد الكنسية أو الأنظمة الدينية، فلا تبالى بالدين والاعتبارإت الدينية، وقد ظهرت كمذهب أو مصطلح يناهض انحرافات الكنيسة في أوروبا بما كانت تفرضه من صكوك الغفران والحرمان، ومن تحريم البحث في العلوم التجريبية، كالطب أو الهندسة أو الصناعة والمعمار ومن قتل أو سجن من يبحث في هذه العلوم بدعوى أنه يعارض المشيئة الإلهية. وبالتالى كان رد الفعل فى ظل الثورة الفرنسية سنة 1789 م هو إبعاد الدين عن الحياة وعن المجتمع، فهذه الظروف تمخض عنها النظام العلماني الذي يفصل بين الدين والمجتمع، ويعزل الدين عن القوانين والتشريعات كلها فيما عدا قانون الأحوال الشخصية، بل هذا القانون اضطرت أوروبا إلى الخروج فيه على الدين هناك توصلاً إلى الطلاق الذي تحرمه ديانتهم، ولهذا نشأ نظامان للزواج، هما الزواج المدني، والزواج الكنسي. ثم كان رد الفعل الأكثر تطرفًا وهو الشيوعية التي تبناها (كارل ماركس)، وهي تنكر الأديان، وتشترك مع شيوعية «مزدك» الذي ظهر في فارس قبل نزول القرآن الكريم، في الدعوة إلى شيوعية المال والجنس، وبالتالي فالتيار الشيوعي هو فرع من فروع التيار العلماني. إنه على الرغم من أن هذا النوع من الحكم الديني لم تعرفه البلاد العربية والإسلامية، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بُعِثَ ليخرج الشعوب من الظلمات، وَلِيُحِلَّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم. ولهذا فرق بين ما يخضع للتجربة - أي كان للعقل فيه مجال - وبين ما كان مصدره الوحي من الله، وهو ما لا يخضع للتجارب، أي للعقل، فأطلق حرية البحث في النوع الأول وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». وقيده في النوع الثاني وذلك لأن مصدره هو الوحي

من الله وليس تجارب الناس. بالرغم من ذلك كله فإن الاحتلال الغربي للبلاد العربية والإسلامية، قد افترى على الإسلام، فربط بينه وبين الحكم الديني في أوروبا، واستطاع أن يورث هذا الضلال إلى أعراب، ليكونوا أداة للفكر الغربي وللسيادة الغربية، وأخرج من أبناء العرب دعاة للعلمانية لينوبوا عنه في رسالته. ولقد كانت خطة المستعمر ألا يرحل من البلاد التي احتلها إلا بعد أن يعد جيلاً من المثقفين والسياسيين، يخلفه في حراسة هذه العلمانية، ليضمن تبعية البلاد العربية والإسلامية لأوروبا، فكان ما نشاهده من سيادة هذه الطبقة في السياسة والإعلام والمرافق الهامة، ومن إبعاد كل ملتزم بالإسلام والقيم الإسلامية عن هذه المراكز القيادية، أو عن أدوات التأثير في المجتمع، حتى أن الدول المسلمة، لا تستطيع أن تترك للفتاة حرية الظهور على شاشة التلفاز وهي ترتدي الحجاب الإسلامي، فكل مذيعة تحجبت تم إبعادها عن هذا العمل. ولقد كان للصحافة دور رئيسي في حراسة العلمانية رغم ما أصابها من عفن، ولم تخرج أي صحيفة يومية عن هذا التيار العلماني، ولو كان صاحبها ممن يشهدون الصلوات في المساجد. وقد نشطت الأقلام المسخرة لخدمة العلمانية في الدفاع عن هذا الصنم، حفاظًا على مراكزها ومصالحها، بعد شيوع الصحوة الإسلامية، وبعد فرض الهيمنة الإسرائيلية على الأنظمة العربية، وما نتج عن ذلك من رسم خطة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل والمجتمعات العربية. لهذا رأيت جمع أهم مَا نَشَرْتُهُ في الصحف العربية رَدًّا على المفتريات العلمانية وذلك في كتاب باسم " تهافت العلمانية في الصحافة العربية "، وقد تضمن ما يأتي: • الفصل الأول: عن غسيل المخ والتيارات الفكرية، وهو يتعرض للتيارات الأوروبية الوافدة من الشرق أو الغرب، ولبعض المؤتمرات والمقالات والندوات التي تشترك كلها في إبعاد الإسلام عن المجتمع والحياة الاجتماعية والسياسية، وإحلال غيره محله. • الفصل الثاني: عن إشهار إفلاس العلمانية العربية. وهذا الفصل يركز على أن فصل

الدين مع المجتمع - وهو جوهر العلمانية - هو من سمات وخصائص الإنجيل والتوراة، طبقًا للقول المأثور عنهم: «دَعْ مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَمَا للهِ للهِ»، وكل ذلك لا وجود له في القرآن والسنة النبوية. كما يكشف مغالطة العلمانيين، حيث خالفوا العلمانية، التي جعلت مصدر مشروعية القوانين هو قبول أغلبية الناس لها، ولكن العلمانيين العرب وغيرهم من أصحاب الأهواء والمصالح الذاتية رفضوا تطبيق هذا المبدأ في المجتمعات العربية، لأنهم على يقين أن الأغلبية الساحقة لا ترضى إلا بالتشريع الإسلامي. • الفصل الثالث: عن الماركسية والواقع العربي حيث تشترك الماركسية مع العلمانية في إبعاد الدين عن التشريعات والقوانين، وبالتالي فانفراد الماركسية بإبعاد الدين عن الأمور الشخصية - ومنها محاربة العبادات - يجعلها أكثر مناهضة للدين من العلمانية الغربية. • الفصل الرابع: عن القيم الأخلاقية بين الإلحاد والعلمانية. فالفكر الإلحادي يتفق مع الفكر العلماني في إبعاد الدين والقيم الدينية عن الحياة الاجتماعية، ولهذا يسعى هؤلاء جميعًا إلى تطويع القيم الإسلامية، لتساير العلمانية واللادينية. • الفصل الخامس: عن الفكر الإسلامي بين التأويل والتعطيل. ويتناول تأثير العلمانية على بعض العلماء، مما جعلهم يبالغون في الاجتهاد لاستبعاد بعض الأحكام الشرعية، كالحدود والعقوبات، بل في استبعاد السنة النبوية في الأمور التشريعية والاجتماعية، وذلك كرد فعل لهجوم التيار العلماني على الإسلام وتشريعاته. ظَنًّا من بعض العلماء أن تعطيل بعض الأحكام أو تأويلها يقرب بين الإسلام وخصومه. • الفصل السادس: عن الحكومة الدينية بين الإسلام والعلمانية وهي القاعدة الأساسية التي تصوب منها سهام العلمانيين نحو الحكم الإسلامي وتشريعاته. لقد حرصت على بقاء عبارات هذه المقالات كما هي، بالرغم من مرور ربع قرن أو يزيد على بعضها، لأنها تمثل الواقع والفكر السائد في وقتها. إن نشر هذه الفصول يكشف أبعاد الحملة الحالية ضد الصحوة الإسلامية، وهي الحملة التي يقودها المعسكر الغربي والمعسكر الشيوعي، حيث يستخدمون في ذلك القفازات العربية التي بعضها من الحديد والآخر من الحرير.

كما أن بعض الفصول يضع اجتهادات بعض العلماء في معارضة النصوص الشرعية في مكانها الطبيعي، من التبعية لبعض القفازات الحمراء والبيضاء. وبالله تعالى نعتصم ونتأيد سالم البهنساوي 5 شوال 1408 هـ - 20 مايو 1988 م

الفصل الأول: غسيل المخ والتيارات الفكرية

الفَصْلُ الأَوَّلُ: غَسِيلُ المُخِّ وَالتَيَّارَاتُ الفِكْرِيَّةُ: • يوسف إدريس وموقف المثقفين. • دور طه حسين ولويس عوض في اللعبة الدولية. • الإسلام المفترى عليه بين الشرق والغرب. • التخطيط الأمريكي وغسيل مخ العرب. • ماركسية نجيب محفوظ وكاثوليكية أمين عثمان. • لويس عوض بين السلف الصالح وجاهلية القرن العشرين.

غَسِيلُ المُخِّ وَالتَيَّارَاتُ الفِكْرِيَّةُ: بتاريخ 23 رمضان 1396 - الموافق 17 سبتمبر سنة 1976 طلع علينا الدكتور يوسف إدريس بمقال نشرته " القبس " و" الأهرام " في نفس اليوم، والمقال عنوانه «المسلم ماوتسي تونغ!». وقد سرد دور الزعيم الصيني في غرس القانون الأساسي للبشرية بالصين، وهو العدالة واللاكبت واللاإرهاب حسبما يعلم الدكتور! ثم رتب نتيجة هي: أن الزعيم الصيني وقد مات فإن مصيره الجنة، وحيثيات حكمه هذا هو قوله: «أليس لي حق أن أبشر ماوتسي تونغ وأي ماوتسي تونغ آخر بأنه - مهما بلغ تفكيره - مصيره الجنة، فالجنة لم تعد لمن يعبدون الله ويظلمون الخلق، وينافقون الله كي يقتلوا روح الشرف والكرامة والمحبة في البشر». ثم يقول الكاتب موجهًا الخطاب إلى الزعيم الصيني: «أعدك وبشرف خالقي أن أقول: لقد كنت حتى ولو لم تنطق بالشهادة: أنت المسلم». {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. وقبل أن نكشف أوراق هذه اللعبة الجديدة نسائل أصحاب العقول الصحيحة. هل يجوز لنا أن نزعم أن الماركسية تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولو كانت نصوصها الصريحة تنفي هذا الإيمان؟. وهل يقبل أن يقول بمثل هذا القول المخالف لأصول وعقيدة هذا المذهب؟. إن كل العقائد وكل الرسالات سواءً كانت سماوية أو دعوى بشرية، هي وحدها التي تحدد صفات من ينتسبون إليها وتضع قواعد القبول أو الحرمان أو العقاب. وإذا جاز لكل من هب ودب أن يضع لأي رسالة أو أي دين أو نظام أسبابًا ونتائج تخالف أصول هذه الرسالة، لما ظلت أي رسالة أو أي عقيدة على وجه الأرض. فكل من آمن بفكر أوعقيدة إنما يتبع ما أتت به، لهذا لا يكون الإيمان إلا عن

الإسلام والأسرار الكنسية

اقتناع. قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬1). ولكن يوسف إدريس وقرناءه يخرجون على العالم ببدعة جديدة وهي أن الإسلام لا يملك أن يحدد من هم أتباعه ومن هم المبعدون عن عقيدته، وبالتالي من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار، ومن هو المسلم ومن هو الكافر. إنه يفرض على الإسلام شروطًا وصفاتٍ ويرتب النتائج التي أنتجها خياله، وأوحى إليه بها أولئك الذين يملكون النواصي الفكرية لهذه الأقزام البشرية. وإذا كان الكاتب ومن على شاكلته مؤمنًا، فالسؤال هو أأنتم أعلم أم اللهُ؟ فإذا كان حكم اللهِ أن من أنكر وجود الخالق فقد كفر، وكان حكم الله أن من جحد وأنكر معلومًا من الدين بالضرورة فقد كفر، فيجب أن نبحث عن مدى إسلام يوسف إدريس ومن على شاكلته إن لم يعلن التوبة عن هذا الفكر. الإِسْلاَمُ وَالأَسْرَارُ الكَنَسِيَّةٌ: إذا كانت الكنيسة في بعض العصور قد ادعت أنها تملك صكوك الغفران للطغاة والظالمين، فإن الإسلام كما يعلمه الجاهل قبل العالم، ليس فيه رجال دين يملكون التحليل والتحريم والتبديل والتغيير في النصوص والمناهج التي أوحى الله بها إلى نبيه، والممثلة في القرآن الكريم والحديث النبوي فقد اكتمل الدين قبل وفاة رسوله ولا يملك أحد أن يزيد فيه أو ينقص منه. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2). كما لا يحتكر تفسيره فئة من البابوات: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬3). بل إن النبي لا يملك أن يترخص في أمر ما ولو كان ابتغاء كسب الأنصار لدينه، لأن الله غني عن العالمين، ولا يقبل الشرك في العبادة ولا في المعاملات أو الاقتصاد أو السياسة: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ ¬

_ (¬1) [البقرة: 256]. (¬2) [المائدة: 3]. (¬3) [القمر، الآيات: 17 و 22 و 32 و 40].

المقدمات الخاطئة وجنة الطغاة

وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (¬1). وسورة عبس تعاتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتقديم المشركين عن الأعمى لعلهم يسلمون. ولهذا عندما عرض بعض أغنياء قريش أن يسلموا على أن يكون لهم مجلس غير مجلس العبيد والفقراء كان جواب الله لنبيه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ...} (¬2). ولكن يوسف إدريس ابتدع أن الجنة كانت لمن يعبدون الله ولو ظلموا، واليوم يكفي العدل في مفهوم الناس وبه يدخلون جنة الله ولو أنكروا وجوده. المُقَدِّمَاتُ الخَاطِئَةُ وَجَنَّةُ الطُّغَاةِ: إن حيثيات فكر هؤلاء «أن الجنة ليست لمن يعبدون الله ويظلمون الخلق، ويقتلون روح الشرف». وهذه مغالطة على الإسلام فهو لم يجعل الجنة لهؤلاء بل قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ... وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...». والنصوص في هذا من القرآن والسنة لا يحصيها العد. فمن أين كانت هذه المقدمة؟ إنها للوصول إلى نتائج خاطئة وللزعم بأن من أطاع وصلى وصام فقد نافق الله، وهذا تعبير يدل على الجهل بالدين وبمفهوم النفاق مَعًا. الإِسْلاَمُ الرَّأْسْمَالِيُّ وَالمَارْكْسِيُّ: لقد حدد الإسلام أركانه وشروط الانتساب له وأسباب الثواب والعقاب: 1 - من شروط الدخول في الإسلام: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ويوم الحساب. فمن أنكر شيئًا من هذا أو شك في رسالة أحد الأنبياء فليس بمسلم، فإن كان ¬

_ (¬1) [الأنعام: 162، 163]. (¬2) [الكهف: 27 - 29].

له نفع للناس عجل الله له الثواب في الدنيا، وأيضًا وضعه في الطبقة العليا من النار وليس في الدرك الأسفل، كما هو حكم النبي في عمه (أبو طالب). فهل أخطأت الرسالة ونزل وحي جديد على الصحافة ومحترف الصحافة والتصحيف، فنسخ هذه الشروط والقواعد المعلومة للمسلم ولغير المسلم. أم أن هؤلاء أصبحوا شركاء مع الله فلهم حق النسخ والتبديل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). 2 - ومن شروط الإسلام أنه لا تفرقة بين الصلاة والزكاة، فمن ادعى الإسلام وأنكر أداء حق الفقير واكتفى بالعبادة الروحية والشعائر التعبدية حوسب وقوتل حتي يفيء إلى أمر الله، ولهذا قال أبو بكر: «وَاللهِ لأُحَارِبَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالصَّلاَةِ». فهل تبدل هذا حتى نحكم لمن أنكر الصلاة بالإسلام إن زكى؟ 3 - ومن شروط الإسلام أن كُلاًّ من العبادة والمعاملات الاقتصادية والتشريعات القانونية من عند الله ولا يد فيها للبشر، وبالتالي فالمناهج الاقتصادية يجب أن تكون تلك التي وصفها اللهُ في كتابه وسنة نبيه فلا نصلي للهِ ونزكي على مذهب (مَاوْ)، ونقيم الاقتصاد على مذهب (ماركس)، ولهذا عندما جاء عدي بن حاتم ليسلم وكان يحمل صليبًا من ذهب قال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْقِ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ» وَقَرَأَ عَلَيْهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فَقَالَ عَدِيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ». فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرَامَ فَتَتَّبِعُوهُمْ، وَيَحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ الحَلالَ فَتَتَّبِعُوهُمْ؟». قَالَ عَدِّيٌّ: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَتِلْكَ عِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ تَعَالَى» (*). - فليس مسلمًا من قال: «أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجًا سياسيًا على نظام (ميكيافيلي) - الغاية تبرر الوسيلة - أو مذهبًا اقتصاديًا ماركسيًا لعدم صلاحية الإسلام» - وليس مسلمًا من ادعى الإسلام واختار منهجًا اقتصاديًا رأسماليًا فأحل الربا والاحتكار وأحل أكل حقوق العمال والأجراء بالباطل وأنكر حكم الإسلام. - وليس مسلمًا من صلى واختار المادية الجدلية مذهبًا أو فضل النظام الاقتصادي ¬

_ (¬1) [الأحقاف: 4]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) الحديث كما ورد في " سنن الترمذي " كالآتي: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ». الترمذي، " السنن "، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وآخرون (الشيخ إبراهيم عطوة عوض): (48) كتاب تفسير القرآن (10) باب «ومن سورة التوبة»، حديث رقم 3095، الطبعة الثانية: 1395 هـ / 1975 م، 5/ 278، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان. قارن بما في صفحة: 14، 50، 248، 251، 255 من هذا الكتاب.

النكبة العربية الكبرى

الماركسي على نظام الله. ولكن اللعبة الدولية الجديدة تزعم أن كل هذا الخلط من الإسلام رغم أنفه وأهله، فهل جهل الإسلام قواعده وجاء هؤلاء ليصححوها له، أم أن العلمانية التي فشلت في المشرق والمغرب تريد أن تقدم إسلامًا جديدًا هو الإسلام العلماني، والذي يتلون فيصبح ماركسيًا أو رأسماليًا. أم هو أعلم من الله؟. {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (¬1). {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬2). النَّكْبَةُ العَرَبِيَّةُ الكُبْرَى: إن أصبح لنا إسلام ماركسي وإسلام رأسمالي ثم إسلام عربي وآخر أفريقي، فلا كانت الحياة ولا كان المسلمون، فالمسخ الحاصل للإسلام هو مفتاح زوال الدول الإسلامية، ولئن جاز هذا على بعض العرب فما ذلك بغريب، فقد ادعى العميل (لورانس) أنه لورانس العرب وصدقوه هو واليهودي (ماكمهون) الذي أرسل رسائله إلى زعماء من العرب يبشرهم «بِخِلاَفَةٍ عَرَبِيَّةٍ بَدَلاً مِنَ الخِلاَفَةِ التُّرْكِيَّةِ» والسبب كما جاء في الرسالة المؤرخة في 11 شوال سنة 1333 - 30 أغسطس 1915 «إِنَّا نُصَرِّحُ هُنَا مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ جَلاَلَةَ مَلِكَةِ بْرِيطَانْيَا العُظْمَى تَرْغَبُ بِاسْتِرْدَادِ الخِلاَفَةِ عَلَى يَدِ عَرَبِيِّ صَمِيمٍ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الدَّوْحَةِ النَّبَوِيَّةِ المُبَارَكَةِ». وهكذا كفل العرب للجيوش البريطانية الأمن والخدمات وللفرنسيين مثل ذلك بوصفهم حلفاء جاؤوا لاسترداد الخلافة العربية لتصبح في يد سلالة الدوحة النبوية، فكانت ثورة العرب المسماة بالثورة العربية الكبرى، وكانت النتيجة احتلال المنطقة وتقسيمها. وفي هذا قال (لورانس) في كتاب " أعمدة الحكمة السبعة ": «اسْتَطَاعَ الجِنِرَالْ اللَّنْبِي بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُحَقِّقَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يُرَاقَ دَمٌ إِنْجْلِيزِيٌّ». واليوم يحدث مثل هذا في لبنان! إن يوسف إدريس ليس وحده صاحب التيار الموجه بخطة ودقة نحو علمانية الإسلام [بماركسيته] أو تغريبه، فقد جيء للعرب بفئة من ضعاف المثقفين بعد أن تربوا على الفكر اللاديني، وكان هو الفكر الغربي قبل ظهور الفكر الماركسي في المنطقة. ¬

_ (¬1) [الرعد: 16]. (¬2) [الشورى: 21].

العلمانية في ماضيها وحاضرها

وكان التمهيد لهؤلاء وهؤلاء ليتولوا مناصب القيادة الفكرية والاجتماعية وأحيانًا السياسية، وألقى في روع بعض الحكام والمسؤولين أن هؤلاء هم الحلفاء الطبيعيون لهم وللحضارة الحديثة، وبالتالي أبعدوا أهل القيم والدين الصحيح وتحالفت القوى العالمية ضد الاتجاه الديني الصحيح، وانتقلت المعركة إلى الجبهة الداخلية للأمة، فظهرت شعارات القومية والتقدمية والرجعية واليمين واليسار، وليزداد الشقاق وتنشأ الصراعات والحروب التي تمكن إسرائيل المحمية من اليمين واليسار!! وسبق أن كتب الدكتور محمد البهي: «إِنَّ الصِرَاعَ فِي المُجْتَمَعَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ المُعَاصِرَةِ بَيْنَ العِلْمَانِيَّةِ - اللاَّدِينِيَّةِ - وَالإِسْلاَمِ أَصْبَحَ صِرَاعًا دَاخِلِيًّا بَعْدَ أَنْ وَطَّنَهُ الاِسْتِعْمَارُ وَتَخَرَّجَ عَلَيْهِ أَجْيَالاً مُتَتَابِعَةً، أَصْبَحَ صِرَاعًا فِي وَاقِعِ الأَمْرِ بَيْنَ قُوًى وَطَبَقَاتٍ مِنَ الوَطَنِيِّينَ غَيْرَ مُتَكَافِئَةٍ، بَيْنَ طَبَقَةٍ تَحْكُمُ وَأُخْرَى لاَ تَمْلِكُ إِلاَّ الإِذْعَانَ، وَثَالِثَةٌ تُبَارِكُ. أ - أَمَّا الطَبَقَةُ التِي تَحْكُمُ فَهِيَ طَبَقَةُ المُثَقَّفِينَ المُوَجَّهِينَ الذِينَ يَعْرِفُونَ الأُمُورَ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ العِلْمَانِيَّةِ وَاللاَّدِينِيَّةِ. ب - أَمَّا الطَبَقَةُ التِي لاَ تَمْلِكُ إِلاَّ الإِذْعَانَ فَهِيَ طَبَقَةُ المُتَدَيِّنِينَ مِنَ الجَمَاهِيرِ التِي تَعْتَقِدُ الإِسْلاَمَ كَدِينٍ وَلاَ تَمْلِكُ فَهْمَهُ وَعَرْضَهُ. ج - أَمَّا الثَّالِثَةُ التِي تُبَارِكُ وَتُفَتِّشُ بِاسْمِ الإِسْلاَمِ عَنْ مُبَرِّرَاتٍ، فَهِيَ طَبَقَةُ الذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الدَّعْوَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَيَحْتَرِفُونَ العَمَلَ فِي تُرَاثِ الإِسْلاَمِ». (من كتاب " الإسلام ومشكلات الحكم "). العِلْمَانِيَّةُ فِي مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا: لقد كان يوسف إدريس وقرناؤه مسبوقين بحركات أخرى مهدت لهم، بعضها كان يحاول الدفاع عن الدين ولكنه أخطأ السبيل في بعض النواحي، كمدرسة الشيخ محمد عبده التي تنبه صاحبها في أواخر أمره ولذا رفض مسألة الدين الموجه العالمي الذي يجمع بين الإسلام والمسيحية واليهودية بطريقة ما، ثم كان منها خلفاء طبيعيون للمستعمر مثل حركة الكماليين بتركيا وأحمد خان بالهند، وفي هذا قال (كرومر) في كتابه " مصر الحديثة ": «إَنَّ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ كَانَ مُؤَسِّسًا لِمَدْرَسَةٍ فِكْرِيَّةٍ حَدِيثَةٍ فِي مِصْرَ قَرِيبَةَ الشَّبَهِ بِتِلْكَ التِي أَسَّسَهَا السَّيِّدُ أَحْمَدْ خَانْ فِي الهِنْدِ، - مُؤَسِّسُ جَامِعَةَ عَلِيكْرَهْ - إِنَّ مِنْ أَهَمِّيَّتِهِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهُ يَقُولُ بِتَقْرِيبِ الهُوَّةِ التِي تَفْصِلُ بَيْنَ الغَرْبِ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ وَتَلاَمِيذُهُ خَلِيقُونَ بِأَنْ يُقَدَّمَ لَهُمْ كُلَّ

وضع عميد الأدب العربي

عَوْنٍ، فَهُمْ الخُلَفَاءُ الطَّبِيعِيُّونَ لِلْمُصْلِحِ الأُورُبِيِّ». ولقد ساهمت هذه الحركة في ظهور القاديانية بالهند وباكستان، والتي تزعم أن للإسلام نبيًا جديدًا هو غلام أحمد!! الذي نسخ الجهاد وأمر بطاعة الأجانب المستعمرين وحارب المسلمين وحكم بكفرهم. أما تقريب الهوة بين الإسلام والغرب فيحدده المستشرق (جب) الذي كان عضوًا بمجمع اللغة الغربية!؟. فيقول في كتابه " [إلى أين] يتجه الإسلام ": «إِنَّ جَعْلَ العَالَمَ الإِسْلاَمِيَّ غَرْبِيًّا، أَوْ حَمْلِهِ عَلَى حَضَارَةِ الغَرْبِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى المَظَاهِرِ الخَارِجِيَّةِ لِلْتَّقْلِيدِ وَالاِقْتِبَاسِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ الآرَاءِ الجَرِيئَةِ وَالحَرَكَاتِ المُسْتَحْدَثَةِ التِي ابْتُكِرَتْ بِدَافِعٍ مِنَ التَّأْثِيرِ بِالأَسَالِيبِ الغَرْبِيَّةِ - وَيَنْتَهِي إِلَى ضَرُورَةِ خُضُوعِ العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ لِقِيَمِ الغَرْبِ وَعَادَاتِهِ». ويقول: «المَدَارِسُ وَالمَعَاهِدُ لَيْسَتْ إِلاَّ خُطْوَةً فِي الطَّرِيقِ». وَضْعُ عَمِيدِ الأَدَبِ العَرَبِيِّ: ثم جاء طه حسين وأصبح رئيسًا لتحرير مجلة " الكاتب المصري " التي أنشأها جماعة من اليهود. وخرج على الأمة - في محنتها عند إعلان انتهاء الخلافة الإسلامية - وطبع كتابًا " في الشعر الجاهلي " زعم فيه أن الإسلام ليس دينًا سماويًا والقرآن ليس وحيًا من الله. وقد ثارت ضده الأمة، ثم أشيع أنه تاب حيث جاء بكتابه " على هامش السيرة " وهو لم يعدل فيه من هذا الفكر، ومع هذا ما زال الكتاب موضع اقتباس وتدريس في المدارس رغم علمانيته فزعم أن السيرة ليست حقائق بل كالقصة التي ترويها الجدة لحفيدها. وبعد ذلك يصبح عميدًا للأدب العربي، ولذا ما زالت تتكرر مهزلة كتاب " الإسلام وأصول الحكم " للشيخ علي عبد الرازق (العِلْمِانِي). كَاثُولِيكِيَّةُ أَمِينْ عُثْمَانْ: أمام هذا لم يتورع أمين عثمان أن يعلن أن مصر تزوجت بريطانيا زواجًا كاثوليكيًا، أي لا انفصام له وبالتالي يضفي شرعية على الاحتلال البريطاني، ولقد دفع أمين عثمان رأسه ثمنًا لهذه الكلمة بحادث الاغتيال المشهور.

توبة خالد محمد خالد

تَوْبَةُ خَالِدْ مُحَمَّدْ خَالِدْ: ثم جاء خالد محمد خالد وأخرج كتابه " من هنا نبدأ "، زعم فيه أن الغيرة على الفضيلة تدفعنا إلى معارضة التطور، ويجب بالتالي أن نحدد معنى الفضيلة والرذيلة. وعنده أن كل زحف إلى الوراء مهما اتسم بحسن النية، وسلامة القصد ليس سوى رذيلة في ثوب تنكري خداع. ويقول الكاتب الإسلامي!! ما هو خير وما هو شر موضوعات تتغير مع المواسم والأعياد. الحق المطلق والخير المطلق والفضيلة المجردة توجد في عقول المتصوفين والمجاذيب والحالمين. والطريقة العصرية لبلوغ الفضيلة ليست الصلاة، إنما هو الطعام الجيد والمسكن الجيد!!. فهل تاب خالد محمد خالد في كتابه " رجال حول الرسول "؟ أم أن الكتاب به لمسات من الفكر البشري غربيًا أو شرقيًا صيغت به ثورة المحرومين بقيادة أبي ذر الغفاري ضد الرأسماليين، الممثلين في عثمان بن عفان!. ليس هذا موضوع جوابنا، إنما نضع النقاط على الحروف (¬1) (وتفصيله في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة "). التَّفْسِيرُ العَصْرِيُّ بَيْنَ لُبْنَانَ وَمِصْرَ: ثم جاء خالد العظم وادعى بحرية نقد نصوص القرآن في كتاب أصدره في لبنان. وفي فترة من الزمن جاء مصطفى محمود ووضع كتابه " نحو تفسير عصري للقرآن "، زعم فيه أن الذي ينظر إلى الفتاة التي لا يسترها إلا قطعة المايوه يكون مُسَبِّحًا بِحَمْدِ اللهِ وَجَمَالِ خَلْقِ اللهِ، ثم بدأ الدكتور في التوبة. ولقد أصبح من صلاحيات روجيه غارودي سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي سابقًا أن تنشر له " الأهرام " في 19/ 11 / 1969: «أَنَّ الإِسْلاَمَ يَدْعُو إِلَى العَدْلِ وَالمَارْكْسِيَّةِ تُحَقِّقُ العَدْلَ، فَالمُؤْمِنُ عِنْدَمَا يُطَبِّقُ المَارْكْسِيَّةَ إِنَّمَا يُطَبِّقُ الإِسْلاَمَ». (ولقد تاب كلاهما). دَوْرُ لْوِيسْ عَوَضْ: وجاء لويس عوض ونشر في " القبس " بتاريخ أول أبريل سنة 1976 أن العودة إلى ¬

_ (¬1) نشر الأستاذ خالد محمد خالد كتابه " الإسلام والدولة " أعلن فيه أن منهجه في كتابه " من هنا نبدأ " قد تغشاه الخطأ، حيث ربط الوضع في أوروبا بإبان حكم البابوات بالحكم الإسلام ولا مجال لذلك.

غسيل مخ المرأة بين الشيوعية والأمية

مناهج السلف الصالح (وَهُمْ الصَّحَابَةُ) عودة إلى الرجعية ونادى بالأخذ بمدنية الغرب وتقاليده وقيمه، ومعلوم أن الإباحية واللاأخلاقية جزء لا يتجزأ منها. فهل آن الأوان لنميز الخبيث من الطيب ولنحدد مواقع وأغراض وهؤلاء الكُتَّابِ ثم تتحدد أحجامهم تبعًا لذلك؟. هؤلاء الكتاب الذين أريد لهم الشهرة إنما يرددون ما كتبه وأوحى به سدنة الفكر الغربي، أو سدنة الفكر الماركسي، وذلك تحقيقًا لأغراض لا تخدم أمتنا، وإن شاء هؤلاء لتتبعنا أقوال سدنتهم ونشرناها مقرونة بما تولد عنها من المقالات ليعلم القاصي والداني أنهم أبواق لجهات معلومة. فَهَلْ يُسِّرَ لنا النشر كما هو ميسر لهم. نريد جوابًا من الصحافة العربية! التي حال بعض المحترفين فيها دون نشر هذا المقال حتى سمحت به " الوطن " (¬1). غَسِيلُ مُخِّ المَرْأَةِ بَيْنَ الشُّيُوعِيَّةِ وَالأُمِّيَّةِ: عقدت ندوة «وضع المرأة في المجتمع العربي» وجاءت ضمن أسبوع المرأة الذي نظمته جمعية الهندسة والبترول، وقد أورد الدكتور باسم سرحان أن كثيرًا من طالبات الجامعة لديهم قناعة أن العمل للمحتاجات ماديًا فقط، وأنه لا ضرورة لعملهن إذا لم توجد حاجة مادية للعمل. وهذا إحباط أصاب المرأة العربية في الدول التي لم تنعم بمثل هذه البحبوحة النفطية، فإن دخل المرأة من العمل يشكل إسهامًا أساسيًا في تحقيق مستوى معيشي لائق للأسرة. وقد نتج هذا الفكر عن النظرة الماركسية التي تنكر الملكية، وبالتالي لم يصدر مثل هذا الرأي دفاعًا عن المرأة. ويفسر هذه الخلفية الفكرية قول الدكتور علي القراح في هذه الندوة: «إِنَّ الرَّجُلَ تَمَكَّنَ تَارِيخِيًّا بِحُكْمِ سَيْطَرَتِهِ عَلَى الإِنْتَاجِ، وَعَلَى المِلْكِيَّةِ الخَاصَّةِ مِنْ إِخْضَاعِ المَرْأَةِ إِخْضَاعًا تَامًّا وَمِنَ السَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا وَتَحْوِيلِهَا إِلَى أَسِيرَةٍ أَوْ سَجِينَةٍ عَلَى الصَّعِيدِ الاجْتِمَاعِيِّ». ¬

_ (¬1) نشر في " الوطن " يومي 22، 29/ 10 / 1976 مع الإشارة إلى أن الدكتور يوسف إدريس قد صحح مفاهيمه بمقال نشر في " الأهرام " يوم 8/ 2 / 1988.

وتظهر هنا عدة مغالطات منها: 1 - ادعاء أن الرجل هو المسيطر على الملكية الخاصة وعلى الإنتاج وهذا أمر لا وجود له في المجتمع العربي الذي يناقش المحاضر قضاياه. فالمرأة تملك كالرجل. 2 - المرأة التي لا تعمل لدى الغير ليست محرومة من المشاركة في العمل والإنتاج كما يقول الفكر الشيوعي؛ لأن هذه المرأة قد تعمل في منشأتها أو تعمل في بيتها وفي تربية أولادها بدلاً من تركهم لغير الأمهات، وقد ثبت أن ترك الأطفال لدى غير الأمهات يسبب لهم أضرارًا لا ينكرها إلا من ينكر طلوع الشمس من المشرق. 3 - أن هذا الفكر يعتبر المرأة التي تعمل لدى الغير في تربية وحضانة أولاد آخرين غير أولادها، سواء في دور الحضانة العامة أو في البيوت الخاصة، يعتبر هذه المرأة منتجة، بينما لو قامت بهذا العمل في بيتها وجعلت جهدها وثقافتها وخبرتها لتربية أولادها، أصبحت غير منتجة ومصابة بإحباط اجتماعي، كذلك لو عملت في منشأة لها. 4 - أن هذا الفكر يعتبر المرأة التي تحصل على دراهم قليلة من عملها لدى الغير منتجة، وتحقق المستوى المعيشي اللائق للأسرة، بينما لو كان لها دخل أكبر من ميراثها عن أبويها أو من ملكيتها الخاصة أو ملكية زوجها، تصبح مصابة بإحباط ولا تحقق المستوى المعيشي اللائق للأسرة. وهذه مغالطة لا تخفى إلا على الأميين، أو من أثر غسيل المخ الشيوعي في عقولهم والذي نسب ضمان حقوق المرأة إلى (ماركس) دون سواه. 5 - أن هذا الفكر يعتبر المرأة التي لا تعمل لدى الغير قد تحولت إلى سجينة على الصعيد الاجتماعي؛ لأنها لا تتحرر من الرق الاجتماعي إلا إذا اشتغلت لدى الغير، أما إذا كانت تملك عقارات تديرها بنفسها، أو بأجير لديها، فهي أسيرة اجتماعيًا؛ لأن هذا الفكر يحرم الملكية الخاصة، وحاصل القول في هذه الندوة حسبما نشرته عنه الصحف اليومية، أنها لا تدافع عن المرأة فيما هضمت من حقوق في أي مكان أو زمان، بل تدافع عن الفكر الشيوعي دون سواه (¬1). ¬

_ (¬1) نشرت في " السياسة " يوم 29/ 5 / 1986.

الإسلام المفترى عليه بين الشرق والغرب

الإِسْلاَمُ المُفْتَرَى عَلَيْهِ بَيْنَ الشَّرْقِ وَالغَرْبِ: (*). لقد ذهبت إلى الكويت خلال شهر سبتمبر 1972 وأثناء اطلاعي على [الأعداد] السابقة للصحف والمجلات، لفت نظري كلمتان بجريدة " السياسة " بتاريخ 19/ 8 / 1972 بتوقيع العامل العربي «خليل أبو عطايا» يدافع عن روسيا والشيوعية، ويطلب العامل أن نطرح الدين جانبًا، ولا نستخدمه للإحراج، وفي الوقت نفسه يؤكد أن الإسلام كفل الحرية الحقيقية والعدل والمساواة، وينعى على المسلمين الانحراف عن الإسلام، ولكنه لا يطلب العودة إلى الإسلام إنما جعل تصحيح الأوضاع بالالتجاء للاشتراكية، لأنها هي جوهر الدين كما يفهم. أما المقالة الثانية فمنشورة في 27/ 8 / 1972 بتوقيع «تيسير عودة الله» وهي تتحمس للشيوعية أكثر من الشيوعيين. فعنوانها ومضمونها أن الشيوعية هي النظام الوحيد الذي يكفل حياة حرة للجميع، وتقول: «وهذا ما لا نجده في أي مجتمع آخر». ولقد اندهشت لمثل هذه الكتابات، لأن قادة الشيوعية لا يكتبون مثل ذلك. فالخبير السوفياتي (زولين) يطالب بعودة روسيا إلى نوع من الملكية الفردية، و (روجيه غارودي) عندما كان سكرتيرًا عامًا للحزب الشيوعي الفرنسي كشف عن بعض أخطاء الماركسية حتى أبعد عن الحزب، كما أن الأحزاب الشيوعية في العالم انقسمت على نفسها، بسبب جمود الفكر الماركسي، وخرجت على شعوبها ببرامج لا تتقيد بالخط الماركسي أو اللينيني. وإذا كانت الشيوعية قد لجأت في السنوات الأخيرة إلى شراء بعض الأقلام لنشر مبادئها، وأصبحت نشرات السفارات الشيوعية تصدر بأقلام عربية، فإن هذه الأقلام لم تبلغ بها الجرأة بعد لكتابة هذه الأحلام وللتبشير بهذه الأوهام. لَمْحَةٌ خَاطِفَةٌ عَنْ إِلَهِ الشُّيُوعِيِّينَ: لقد ابتدع الألماني (فيورباخ) دينًا جديدًا في القرن التاسع عشر (1804 - 1872). فقدس علم الإنسان، حتى أصبح هذا العلم هو معبود الإنسانية في مفهومه، وورث (كارل ماركس) (1818 - 1883) هذه البدعة، ولكنه جعل المادة ¬

_ (*) نشر بمجلة " البلاغ " الصادرة في الكويت بتاريخ 1/ 10 / 1972 م وأكثر المقال عن الشيوعية لأنها أصل العلمانية فهي أشد إنكارًا للدين.

المادية الجدلية جهل وجاهلية

والحزب الشيوعي هما المعبود الجديد، فقد جعل العقل تابعًا للمادة وأنكر ما وراء المادة، فلا وجود لله في النظام الشيوعي لذا أوجز انحراف عقيدتهم في: 1 - إلغاء الدين وابتداع دين آخر هو الدولة، برغم أنها شخصية معنوية غير محسوسة وهم ينكرون غير المحسوس. 2 - بإلغاء الدين لا وجود للوحي أوالرسل، ولكن الشيوعية ابتدعت مصدرًا جديدًا للمعرفة حل محل الوحي والرسول، ألا هو العلم المادي الذي حل محل العقل. 3 - حاربت الماركسية كل مظاهر الإيمان بالله والرسل، واعتبرت الدين أفيون الشعوب، بينما حملت الشعوب السوفيتية بالعنف على مظاهر أخرى لدين آخر، فالإيمان بالزعامة والاعتقاد بالحزب والرهبة منه من أخص خصائص العقيدة الماركسية، فما ينطق به الحزب لا يرد ولا يناقش، وتهمة الخيانة العظمى تلحق كل من خرج عن الحزب أو ناقش تصرفات الزعامة. 4 - النتيجة لكل هذا أن فقد الإنسان في النظام الشيوعي إنسانيته، وأصبح مجبرًا كالحيوان على سلوك ونظام لا اختيار له فيه، وعليه أن يبصر بعين واحدة هي عين الحزب حتى لو عمى قائده. ولقد ظلت الرهبة من (ستالين) تملأ النفوس، حتى بعد موته بسنوات بعد أن تمكن (خروتشوف) من السيطرة التامة على الحزب ثم بدأ بنبش قبره ونشر خطئه. المَادِّيَّةُ الجَدَلِيَّةُ جَهْلٌ وَجَاهِلِيَّةٌ: المادية الجدلية هي المعبود الجديد عند الماركسيين، فكاهنهم (كارل ماركس) جعل المادية الجدلية هي المفسر الوحيد للوجود، فالإنسان يخضع للمادة، وهي التي تفسر الوجود الإنساني، والطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، وبالتالي يخضع لها كالأشياء المادية الأخرى، فالطبيعة والمادة هي الأزلية أي الخالقة فلا يتوقف وجودها على شيء آخر. وهذا ما كان يقول به بعض السفهاء العرب، ولقد روى لنا القرآن نظريتهم الفاسدة {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (¬1). فهل هذا صحيح؟ ¬

_ (¬1) [الجاثية: 24].

المادية الجدلية تهدم المجتمع الشيوعي

وهل كان كل ما وراء المادة خرافة وخيالاً؟ وهل ما لا نحسه - أي غير المادي - لا وجود له؟ نجيب على ذلك بإيجاز شديد، ليعلم ذلك كل ذي حس وبصيرة. ولقد ثبت علميًا جهل (كارل ماركس) وخطؤه الفاحش، فقد اكتشفت الطاقات الضوئية والإشعاعية والرادار والأصوات في الأثير، كما تمكن العلماء من معرفة عنصر الهليون عن طريق الأشعة التي صدرت عنه في الشموس، وحددوا حجم ومدار كوكب النبتون قبل أن تراه الأجهزة العلمية، وذلك بنفس الوسيلة العلمية، وهي معرفة الجانب غير المحسوس من الحقائق عن طريق شواهده، وآثاره في العالم المحسوس. وهكذا اكتشف الإنسان ما وراء المادة بل قد أحاط بالمادة، فيستحيل أن تكون هي الخالقة له وهي المفسرة لحياته. وأصبح مِنَ المُسَلَّمِ بِهِ عِلْمِيًّا أن تعرف الجانب الغير المرئي من الحقائق عن طريق الآثار التي تدل عليه في العالم المحسوس. هذه الحقيقة أدركها العرب بالنظرة وبغير أجهزة علمية أو اكتشافات أثيرية فقالوا: «البَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى البَعِيرِ، وَالأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى المَسِيرِ، أَلاَ تَدُلُّ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ عَلَى اللَّطِيفِ الخَبِيرِ». أمام هذا الاكتشاف العلمي، وأمام الفشل التي منيت به الماركسية، دعا (روجيه غارودي) سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي إلى تطوير الماركسية في عدة أمور، منها: ضرورة الاعتراف بالإيمان والمؤمنين في الحزب الشيوعي. المَادِّيَّةُ الجَدَلِيَّةُ تَهْدِمُ المُجْتَمَعَ الشُّيُوعِيَّ: فمن الناحية الفلسفية: تقوم المادية الجدلية على عدة قوانين للنمو، هي: قانون تحول التغيرات الكمية إلى كيفية، وقانون تداخل الأضداد، أي وجود التناقضات، وقانون نفي النفي، فالإقطاع تنفيه وتهدمه الرأسمالية، وهذه تهدمها الاشتراكية، في كل مجتمع يتضمن عُنْصُرَا الضِّدِّ وَالنَّقِيضِ فيهدم نفسه ويحل محله غيره. وإذا سلمنا جدلاً بحقيقة هذه القوانين وحتميتها كما يدعي (ماركس) فإنها تتضمن بهذا التحليل، أن يهدم المجتمع الشيوعي نفسه، وينشأ عنه مجتمع آخر تنفيذًا لقانون النقيض، والشيوعية لا بد أن تنفي نفسها. ونذكر أن مبدأ

النقيض أخذه (ماركس) عن الألمانيين (نيتشه) و (هيجل) وَلَكِنَّهُ قَلَبَهُ، فلا يسير على رجليه بل على رأسه، فاستخدمه في مجال آخر غير مجال التصور الذهني عند (نيتشه) وغير مجال الفكر عند (هيجل)، بل جعل ميدانه هو الاقتصاد، وسخر له تاريخ الإنسانية وانتهى إلى أنه باستقراء التاريخ وجد أن كل شيء يتضمن نقيضه، ولكنه وقف عند المجتمع الشيوعي، وكان لزامًا عليه إعمالاً لنظريته أن يجري على هذا المجتمع مبدأ النقيض. ومن الناحية الاجتماعية: يقتضي مبدأ النقيض حتمية التغيير، فالقيم والأخلاق عند الماركسيين ليست قابلة للتغيير فحسب بل واجبة التغيير، وهو تغيير إلى الحيوانية، لأنه لا توجد حياة أخرى عندهم، فعلى كل فرد أن يسارع إلى إشباع شهواته وغرائزه بشتى الوسائل. وبهذا انعدمت رابطة الأبوة، وتلاشت أواصر العائلات، وأصبح الزواج معاشرة جنسية مؤقتة، للرجل أو المرأة العدول عنها والاقتران بشخص آخر في أي وقت، وقد أوجب القانون كتابة ذلك فقط. هكذا يصبح البطن والفرج هما غاية الإنسان في الحياة، ولذا فالحرمان من الطعام وسيلة الحزب لإخضاع المواطن واسترقاقه تحت ستار العمل والإنتاج .. والشعوب السوفياتية تشقى لتنال لقمة العيش لا لتبني مستقبلاً سعيدًا، وحدث أن طالب رئيس جمهورية تركستان بعدم نقل القمح إلى روسيا إلا بعد سد حاجة أهله منه، فما كان إلا أن اختفى من الوجود كغيره من الجنرالات الذين يخطفون، ولا يعلم أحد أَبَيْنَ الأحياء هم أم بين الأموات .. والحرية لقادة الحزب وحدهم وهؤلاء تتفاوت درجاتها بينهم، فلا عجب أن يصبح الرئيس سجينًا في بيته، أو منفيًا في مكان مجهول، أو عاملاً بأحد المحلات دون أي ضمانات. وسترًا لهذه العبودية ابتدعوا النقد الذاتي، وهذا يستخدم عندما يسيطر أحد الزعماء على السلطة ويريد تنحية سلفه، فيكرهه على نقد نفسه والاستقالة المُقَنَّعَةَ، كما يحدث النقد الذاتي لامتصاص الشعور عندما يصبح الخطأ همس الجماهير الشاغل .. وإننا لنسائل المتغنين بالحرية الشيوعية من العرب، أين هذه الحرية إذا كان ملايين

فشل الماركسية اقتصاديا

المسلمين بشبه جزيرة القرم قد طردوا من ديارهم سنة 1944 على يد (ستالين)، ووضعوا في مجاهل سيبيريا للهلاك البطيء، وما زالوا ينتهزون المناسبات لعفو السلطات عنهم وإعادتهم إلى أوطانهم، وكان آخر هذه الالتماسات ما نقلته " الهيرالد تربيون إنترناشيونال " 15/ 8 / 1972 إن ثمانية عشر ألفًا من المسلمين المنفيين في سيبيريا أرسلوا التماسًا إلى (بريجنيف) يمتدحون الشيوعية ويلتمسون السماح بالعودة إلى وطنهم .. فَشَلُ المَارْكْسِيَّةِ اقْتِصَادِيًّا: إذا كانت الرأسمالية لا ترتكز على أصول علمية، ولا تستمد وجودها من القوانين الاقتصادية، بل من سيطرة رأسم المال على النظم والحكومات التي تقوم بدورها بخلق نظريات كاذبة متحصنة بالمفهوم المضلل للحرية. إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للرأسمالية، فإن الماركسية أكثر فشلاً، فهي لا تقوم على أسس علمية ثابتة، إنما تستغل أخطاء الرأسمالية في علاج المشاكل الناجمة عن الحرب العالمية، كمشكلة البطالة، وتزايد السكان واحتلال البلدان ومنع شعوبها من تقرير مصيرها، وغير ذلك من المخازي والأخطاء .. ولا ينكر أحد أن شيوعية (ماركس) وصديقه (إنجلز) إنما ولدت كرد فعل للمظالم الأوروبية، فعهد ما يسمى بعصر الإيمان، المنسوب إلى الكنيسة، كانت تحرق فيه جثث الملايين من الرجال والنساء باسم الدين. إِنْكَارُ الدِّينِ: وكان رد الفعل أيضًا، الدعوة إلى الملكية الجماعية، باسم الاشتراكية أو الشيوعية، لأن المظالم هذه ارتكبت بقوة الإقطاعيين وجبروتهم. والتجربة العملية تثبت أن المذهبين قد فشلا عمليًا، ولهذا اتجهت الدول الرأسمالية إلى تطعيم نظمها الفردية بأنواع معينة من النظام الجماعي، والأخذ بنظام الاقتصاد الموجه فظهرت فيها الاشتراكية الديمقراطية. كما أن لدول الشيوعية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي عاد إلى الأخذ بأنواع محددة من الملكية الفردية عملاً ببقاء الخبراء. من ذلك ما نقلته جريدة " الأهرام " القاهرية في عددها الصادر في 18/ 8 / 1965 أن الخبير السوفيتي (رولين) - نقلاً عن صحيفة

اعتراف القادة السوفييت

" برافدا " السوفيتية - قدم تقريرًا قال فيه: «بِيَقِينِ عَلَى رُوسْيَا أَنْ تَعُودَ إِلَى نظامٍ يَسْمَحُ بِالمِلْكِيَّةِ الفَرَدِيَّةِ لِلأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِحَلِّ مُشْكِلاَتِ الزِّرَاعَةِ التِي تَتَجَدَّدُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُ الأَرْضِ لِمَنْ يَفْلَحُهَا». وهذا الذي لجأت إليه الماركسية، وهو تملك الأرض لمن يفلحها نجده في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي غفل عنها المسلمون قرونًا طويلة من الزمان - ففي الحديث الشريف: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» (¬1). ولكن الإسلام ليس رأسماليًا ولا شيوعيًا فهو إسلام، أي خضوع الإنسان للهِ، والتزامه بمنهج الله في الشعائر والشرائع، أي فيما سُمِّيَ بالعبادات وما سمي بالمعاملات، فمن جعل للهِ الشعائر من صلاة وصيام وحج، وأعلن أنه ماركسي في غير ذلك، من السياسة والاقتصاد؛ فقد أشرك مع الله، الذِي أَمَرَ أَلاَّ نُشْرِكَ بِهِ فِي أَيٍّ مِنَ الشَّعَائِرِ أَوْ الشَّرَائِعِ: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (¬2). اعْتِرَافُ القَادَةِ السُّوفْيِيتْ: لقد ظل الروس يصبون نيران الغضب ضد الصحافة، لأن رجالها يزعمون أن المواطنين في روسيا عبيد للدولة، وكانوا يعتبرون ما نشر عن ذلك من قبيل الدعاية الأمريكية المضادة، ولكن الواقع كشف عن الحقيقة. فاليوم اعترف الروس بما كانوا يصفونه بالدعاية المضادة، فقد أذاعت موسكو أنه ما سمحت بهجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، إلا بعد دفعهم ثمن التعليم في كل المراحل، وذلك تطبيقًا للمبدأ الذي أعلنه مجلس السوفييت الأعلى والجامعات من اليهود المهجرين إلى إسرائيل. ومن هنا نسأل الماركسيين العرب والمخدوعين هل قيام روسيا بتزويد إسرائيل بالرجال، يختلف عن تزويد أمريكا لهم بالسلاح والمال؟ وإذا كان الولاء لغير الوطن خيانة، فإن إعطاء ¬

_ (¬1) " البخاري ": ج 5 ص 18 ط. دار الفكر. (¬2) [الأنعام: 162، 163].

الخيانة الوطنية

الولاء لدولة ونظام هذا منهاجه وسلوكه يعد خيانة للوطن وللأمة العربية. وإذا كان اليهود الروس يباعون للمنظمات اليهودية، فإن غيرهم من المواطنين الروس أكثر استرقاقًا وعبودية في هذه الدولة، الأمر الذي جعل الشعب في ألمانيا الشرقية يهرب من جنة الشيوعية إلى نار الرأسمالية بألمانيا الغربية، حتى أقامت الدولة الشيوعية سُورًا بينهما وبين الدولة الرأسمالية. ومع هذا لا نرى ذلك اليوم الذي يسمح فيه للمسلمين بشراء إخوانهم المعذبين في مجاهل سيبيريا، ولكن لم يحدث، بل ولن يحدث لا لشيء لأنهم مسلمون، وليسوا يهودًا. الخِيَانَةُ الوَطَنِيَّةُ: ظلت الخيانة الوطنية في بلادنا تنادي ألا حرية إلا بتقويض دعائم الرأسمالية، والماركسيون هم الطليعة وبالتالي فالماركسية هي القادرة على توفير الحرية بهذا الأسلوب. غير أن الماركسية هي توفير رغيف العيش دون سواه. وتقتضي مبادئ الماركسية أن يكون ولاء الشيوعيين إلى أمهم روسيا، وإلى أبيهم لينين، وإلى دينهم الجديد وهو الشيوعية، ولذلك عندما كان يهتف الشعب في مصر في أعقاب الهزيمة: «هَيَّا إِلَى القِتَالِ»، كان الشيوعيون المصريون يهتفون «هَيَّا إِلَى فْيِتْنَامْ». وقد تجلت ظاهرة الولاء لغير الأوطان العربية في الصراع الأخير في الحزب الشيوعي السوري، وهو أقدم الأحزاب الشيوعية العربية، فقد انقسمت اللجنة المركزية سنة 1969 بسبب برنامج سياسي خاص بتحرير الأرض والوحدة العربية وفلسطين، وعجز المؤتمر الثالث للحزب عن حسم الخلاف، كما عجزت لجنته المركزية، فما كان من الحزب إلا أن لجأ في النهاية إلى الحزب الشيوعي السوفيتي لأنه الأم، فماذا كان الجواب الذي أخذ به الماركسيون العرب؟. كَانَ قَرَارُ الحِزْبِ الشُّيُوعِيِّ السُّوفْيِتِي هُوَ: 1 - لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية، وقد تكون في سبيل التكوين غير أنها اليوم لا توجد وفقًا لتعريف ستالين للأمة. 2 - الوحدة العربية ليست الهدف الرئيسي للشيوعيين، وإنما الهدف الرئيسي هو وحدة الدولة الشيوعية.

ولاء العرب لغيرهم خيانة وطنية

3 - يستبعد الصدام المسلح لتحرير الأرض، ويجب البحث عن حل سياسي يضمن فتح قناة السويس. 4 - ليس للفلسطينيين حق تقرير مصيرهم، لأن هذا يتم على حساب ظرف آخر هو إسرائيل التي أصبحت حقيقة واقعة. وَلاَءُ العَرَبِ لِغَيْرِهِمْ خِيَانَةٌ وَطَنِيَّةٌ: لا توجد أي دولة في المعسكر الغربي أو الشرقي تعمل لصالح العرب على حساب مصلحتها الوطنية، ولا يمكن أن تقرر هذه أو تلك أمرًا إلا إذا كان يخدم مصلحتها الوطنية أولاً، وتلك بديهيات لا ينكرها إلا محترفو العمالات. ورغم هذه البديهيات فالشيوعية تُلْزِمُ أَتْبَاعَهَا في أنحاء العالم بالولاء لروسيا، وباعتبار لينين هو المثل الأعلى «المكافح» وهذا الولاء للشرق عمالة صريحة وخيانة وطنية لا يقل في ذلك عن الولاء لأمريكا. ونسائل الماركسيين العرب: ما هي الخيانة إن لم يكن تنكرهم لأمتهم العربية خيانة؟ وتنكرهم للوحدة العربية خيانة؟ والرضا بالاحتلال الإسرائيلي للبلاد العربية خيانة؟ وإنكار حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم خيانة؟. ولقد أعطى بعض العرب ولاءهم لبريطانيا؛ لتساعدهم على استرداد الخلافة الإسلامية من الأتراك، وصدقوا (مكماهون) من أن بريطانيا تريد خلافة عربية قرشية هاشمية، فقامت الثورة العربية ضد الخلافة التركية في 9 شعبان 1345 هـ - 10 يونيو 1916 م، فنال الإنجليز والفرنسيون من العرب كل مأرب وكفلوا للجيوش (الأنجلو - فرنسية) الأمن في البلاد العربية. واكتشف العرب بعد سنوات أن الأصدقاء والحلفاء كانوا متفقين سِرًّا باتفاق سايكس - بيكو (1904) قبل الثورة العربية باثني عشر عامًا، على تقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا، وجعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود. واليوم تحل الصداقة السوفيتية محل الصداقة البريطانية والفرنسية مع أن الحقيقة أن الروس والأمريكان على اتفاق سري ضد العرب هو أشبه باتفاق سايكس - بيكو، وما أمر الاتفاق السري في «جلاسبور» سنة 1968 ببعيد. كما أن الاتفاق السري في موسكو سنة 1972 بين نيكسون وبريجنيف مازال يزكم أنوف المخلصين من العرب.

تخطيط أمريكي

تَخْطِيطٌ أَمِرِيكِيٌّ: إن موقف قادة أمريكا لا يقل حِقْدًا من موقف زعماء الشيوعية فها هو (يوجين روستو) الذي كان حتى حرب سنة 1967 مستشارًا للرئيس الأمريكي (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط ورئيسًا لقسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية. كتب ما يلي: «يَجِبُ أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ الخِلاَفَاتِ القَائِمَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشُّعُوبِ العَرَبِيَّةِ لَيْسَتْ خِلاَفَاتٌ بَيْنَ دُوَلٍ أَوْ شُعُوبٍ، بَلْ هِيَ خِلاَفَاتٌ بَيْنَ الحَضَارَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَالحَضَارَةِ المَسِيحِيَّةِ، لَقَدْ كَانَ الصِّرَاعُ مُحْتَدِمًا مَا بَيْنَ المَسِيحِيَّةِ وَالإِسْلاَمِ مُنْذُ القُرُونِ الوُسْطَى، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ حَتَّى هَذِهِ اللَّحْظَةَ بِصُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمُنْذُ قَرْنٍ وَنِصْفٍ خَضَعَ الإِسْلاَمُ لِسَيْطَرَةِ الغَرْبِ وَخضعَ التُّرَاثُ الإِسْلاَمِيُّ لِلْتُّرَاثِ المَسِيحِيِّ. إِنَّ الظُّرُوفَ التَّارِيخِيَّةَ تُؤَكِّدُ أَنَّ أَمِرِيكَا إِنَّمَا هِيَ جُزْءٌ مُكَمِّلٌ لِلْعَالَمِ الغَرْبِيِّ، فَلْسَفَتُهُ، وَعَقِيدَتُهُ، وَنِظَامُهُ، وَذَلِكَ يَجْعَلُهَا تَقِفُ مُعَادِيَةً لِلْعَالَمِ الشَّرْقِيِّ الإِسْلاَمِيِّ، بِفَلْسَفَتِهِ وَعَقِيدَتِهِ المُتَمَثِّلَةِ بِالدِّينِ الإِسْلاَمِيِّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ أَمِرِيكَا إِلاَّ أَنْ تَقِفَ هَذَا المَوْقِفَ فِي الصَفِّ المُعَادِي لِلإِسْلاَمِ وَإِلَى جَانِبِ العَالَمِ الغَرْبِيِّ وَالدَّوْلَةِ الصُّهْيُونِيَّةِ، لأَنَّهَا إِنْ فَعَلَتْ عَكْسَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَتَنَكَّرُ لِلُغَتِهَا وَفَلْسَفَتِهَا وَثَقَافَتِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا» (¬1). وقد كشف (مايلز كوبلاند) في كتابه " لعبة الأمم " دور الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط. وهذه إحدى الأدوات التي اقترح (ولتر روستو) استخدامها في عرض الاشتراكية المحلية (¬2). غَسِيلُ مُخِّ العَرَبِ وَالتَّيَّارَاتِ الفِكْرِيَّةِ الحَدِيثَةِ: إن من سنة الله تعالى في خلقه أن ينقسم الناس إلى حزبين، حزب الله وحزب الشيطان، ولهذا كان شياطين الإنس والجن هم أعداء كل رسول، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ¬

_ (¬1) نقلاً عن كتاب " دمروا الإسلام وأبيدوا أهله " للأستاذ جلال العالم: ص 24، 25؛ وكتاب " معركة المصير ": ص 87، 94. (¬2) انظر: " نظرية مراحل النمو الاقتصادي " بآخر الفصل الثالث.

أعداء الدين في الماضي والحاضر

زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬1). والعداء الناشب بين هذين الحزبين سببه الوحيد هو تمسك أتباع الشياطين بمصالحهم وبالمنافع والمكاسب التي يحققونها من استغلالهم لغيرهم من بني الإنسان. فأهل مدين كان اعتراضهم وكان حربهم لنبيهم شعيب ومن آمن معه، منصبًا حول ربط الدين بالأخلاق، حيث أمرهم بهذا في قوله: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬2). فكان جوابهم هو: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬3). كما كان اعتراض أعداء الإسلام في عصر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْصَبًّا حول تسوية الإسلام بين الأغنياء والفقراء في الحقوق العامة والخاصة، ولهذا نزل الوحي بالرد على طلبهم أن يكون للأغنياء مزايا خاصة حتى يؤمنوا بهذا الدين، فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬4). أَعْدَاءُ الدِّينِ فِي المَاضِي وَالحَاضِرِ: لقد استخدم أعداء هذا الدين الحرب الساخنة للقضاء على الإسلام وأتباعه، فلما فشلوا ونصر الله القلة المؤمنة، تحول أتباع حزب الشيطان إلى النفاق فأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر؛ ليهدموا الإسلام من داخله فكان حديث الإفك عن أم المؤمنين عائشة، ثم كان مقتل عثمان ثم مقتل الإمام علي، ثم الحرب التي كان وراءها هؤلاء المنافقون. ثم كانت الحروب الصليبية، وبعد فشلها تحول المعول إلى الداخل، فكانت أعمال اليهود داخل المجتمع عن طريق حزب الاتحاد والترقي. ثم كان ما سمي بالثورة العربية ضد الخلافة العثمانية التي تمخضت عن تقسيم البلاد العربية وتوزيعها بين بريطانيا وفرنسا واليهود. ¬

_ (¬1) [الأنعام: 112]. (¬2) [هود: 85]. (¬3) [هود: 87]. (¬4) [الكهف: 28، 29].

التيارات الحديثة في المجتمع

التَّيَّارَاتُ الحَدِيثَةُ فِي المُجْتَمَعِ: ومن عوامل الهدم داخل مجتمعاتنا ما ظهر في مجتمعنا العربي من تيارات فكرية تعمل على تطوير الإسلام وتطويعه للنظم العالمية شرقًا وغربًا. وهذه التيارات أنواع أهمها: أَوَّلاً: تَيَّارَاتٌ وَافِدَةٌ مِنَ الغَرْبِ: هذه التيارات قد أبرزها بعض المفكرين والمخططين الغربيين، ومن الأمثلة على ذلك: 1 - ما كتبه (جب) في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام " من ضرورة حمل العالم الإسلامي على حضارة الغرب، وفي سبيل ذلك يجب العمل ليكون التعليم على الأسلوب الغربي والمبادئ الغربية والفكر الغربي، مع خلق رأي عام لذلك عن طريق الصحافة. 2 - ما كتبه (مورو برجر) في كتاب " العالم العربي اليوم " حيث قال: «يَجِبُ أَنْ يُوضَعَ فِي الحُسْبَانِ نُقَطَتَانِ رَئِيِسِيَّتَانِ، الأُولَى: أَنْ يُعْمَلَ عَلَى تَقْليلِ سُلَطَةِ الأَبِ عَلَى أَوْلاَدِهِ؛ لِيُمْكِنَ أَنْ تَحْمِلَ الأُسْرَةُ العَرَبِيَّةُ كُلَّ طَبِيعَةَ الحَيَاةِ الغَرْبِيَّةِ. النُّقْطَةَ الثَّانِيَةُ: ضَرُورَةُ تَأْسِيسِ حُكُومَاتٍ عَسْكَرِيَّةٍ فِي البِلادِ العَرَبِيَّةِ لِلْقِيَامِ بِالإِصْلاَحِ الاِقْتِصَادِيِّ وَالاِجْتِمَاعِيِّ، وَتَطْبِيقِ عِلْمِ الاِجْتِمَاعِ بِنَظَرِيَّاتِهِ. لِهَذَا فَلَيْسَ غَرِيبًا مَا نَرَاهُ مِنْ اِتِّجَاهِ الحُكُومَاتِ العَسْكَرِيَّةِ إِلَى تَصْفِيَةِ التَّيَّارِ الإِسْلاَمِيِّ وَدُعَاتِهِ، ثُمَّ اِسْتِجَابَةَ بَعْضُ مَسْؤُولِيِ وِزَارَاتِ التَّعْلِيمِ فِي المُجْتَمَعِ العَرَبِيِّ إِلَى تَدْرِيسِ عِلْمِ الاِجْتِمَاعِ بِمَفَاهِيمِهِ الكَاذِبَةِ الخَاطِئَةِ، وَالتِي تَزْعُمُ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالمَاضِي مَهْمَا كَانَ يَحُولُ دُونَ تَكْوِينِ رَأْيٍ عَامٍّ مُسْتَنِيرِ، وَتَقْلِيدُ المُصْلِحِينَ مَهْمَا كَانَ يَحُولُ دُونَ ذَلِكَ، وَتَدَخُّلُ الأَدْيَانِ فِي المَاضِي كَيْ يَدْخُلَ الأَنْبِيَاءُ فِي جُمَلَةِ المُصْلِحِينَ المَرْفُوضُ تَقْليدُهُمْ». 3 - ما كتبه (كويلرينج) في كتاب " الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته " من ضرورة أن يحدث في البلاد العربية ما حدث في فلسطين حتى لا يبقى للبيت العربي نفس السلطان الذي كان له من قبل على بنيه. 4 - ما تضمنته " بروتوكولات حكماء صهيون " من خطط ومنها قولهم: [1] لقد كان اليهود خلف عالم الطبيعيات (داروين) في زعمه أن الإنسان أصله قرد

ثانيا: تيارات وافدة من الشرق

وليكذبوا القرآن في بيان هذه العلة وهي أن الله مسخ عصاة اليهود في عهد نبيه موسى وجعلهم قردة خاسئين. [2] وكان اليهود وراء عالم النفس (فرويد) ليجعلوا الإنسان عبيد الشهوات والجنس. [3] وكانوا وراء عالم الاجتماع (دوركايم) ليشيعوا أن القيم الأخلاقية نسبية وغير ثابتة لأن الغاية تبرر الوسيلة وبالتالي فالزواج والأسرة أمور غير ثابتة. [4] وكانوا وراء (كارل ماركس) في فلسفته المادية وإنكار الله خالق العالمين وفي الدعوة إلى شيوعية الجنس والمال. [5] وكانوا وراء المنحرف (نيتشه) في فلسفته بسيادة القوة وانعدام الرحمة بين القوي والضعيف. [6] وكانوا وراء (كمال أتاتورك) في دعوته القومية لتحل القوميات وروابطها محل الرابطة الإسلامية. النتيجة: ولقد نتج عن كل ذلك وجود أفراد وجماعات وتيارات فكرية تعمل في المجتمعات العربية الإسلامية بما يخدم أعداء الإسلام سواءً أدرك الداعي لهذه التيارات ذلك أو جهله، ويسخر لهذه بعض القيادات وبعض العلماء وكثير من النساء. وهذه التيارات الوافدة ترتبط بالعلمانية حيث تتنكر للإسلام أو تحاول تطويره وتطويعه للفكر العلماني عن طريق الفصل بين الدين والمجتمع (¬1). ثَانِيًا: تَيَّارَاتٌ وَافِدَةٌ مِنَ الشَّرْقِ: لقد حاولت الماركسية الوافدة من الشرق أن تجعل لها كيانًا في المجتمعات العربية، فلم تستطع لإنكارها الله ورسله فيما زعمته أنه لا إيمان إلا للشيء المادي المحسوس، وفيما ترتب على ذلك من قولهم: «إِنَّ الدِّينَ أَفْيُونُ الشُّعُوبِ». ولكن بعد قيام إسرائيل سنة 1948 وظهور انقلابات عسكرية في المنطقة العربية، تحمل شعار العداء للاستعمار ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " يوم 29 ربيع الأول 1396 هـ (30/ 3 / 1976 م).

وتجنح نحو روسيا، وجدنا أن الغرب كان وراء أكثر هذه الحركات، ليهدم المجتمع المسلم بيد ماركسية ثم بعدها يستسلم هذا المجتمع للغزو الغربي، وعلى هذا وجدنا بريطانيا عند انسحابها من عدن لا تسلم البلد للثوار الذين كانوا يحملون السلاح؛ بل إلى جبهة كان مقرها بيروت وتحمل الطابع الماركسي، وجدنا مثل ذلك في مناطق أخرى لا يجهلها أولو الألباب. والماركسيون المخططون للشيوعية العالمية لم يجهلوا هذه الوسيلة الغربية، ومع هذا نفذوها ولم يكشفوا هذه اللعبة، حيث وجدوا أنها تمكنهم من نشر الشيوعية ولهذا كان النشاط الماركسي بمصر بعد الستينات، ووجدنا مثله في بلاد عربية وأندونيسيا والصومال .. الخ، ثم بدأ بعض فلاسفة الماركسية يخططون لها بما يمكنها من الانتشار في العالم الإسلامي، فقبلوا المؤمنين بالأديان ضمن الأحزاب الشيوعية، بشرط أن يكونوا من الدرجة الثانية فلا يتولون القيادات، ثم تجمعوا على هدم الإسلام بوسائل منها: 1 - الغزو المسلح لبعض بلاده كما هو حاصل في أفغانستان، التي أعلن شعبها الثورة الإسلامية ولكن لم تجرؤ الأنظمة المعادية للشيوعية على مساعدتها؛ لأن الثورة أعلنت الإسلام منهجًا وهذا لا يقبله الأمريكان. 2 - إقامة أنظمة محلية تتبنى الماركسية وتفرضها بالسلاح، كما هو مشاهد في بعض البلاد الإسلامية. 3 - عدم الاصطدام الصريح بالإسلام وتحويله إلى خدمة الماركسية، ومن ذلك ما روجه (روجيه جارودي) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي في تصريحاته، ومنها محاضرته في مبنى " الأهرام " بالقاهرة في 29/ 11 / 1969 بدعوة من محمد حسين هيكل، وفيها قال: «إِنَّ الإِسْلاَمَ يَدْعُو إِلَى العَدْلِ، وَالمَارْكْسِيَّةُ تُحَقِّقُ العَدْلَ، فَالمُسْلِمُ عِنْدَ تَطْبِيقِهِ لِلْمَارْكْسِيَّةِ يَنْطَوِي هَذَا عَلَى تَطْبِيقِ الإِسْلاَمِ» (¬1). 4 - الدعوة إلى تطوير الإسلام لفصل العقائد عن الاقتصاد، وتحول الماركسية كنظام اقتصادي تتبناه البلاد الإسلامية، ومن ذلك ما نشرته جريدة " الأهرام " في 3/ 12 / 1969 للشيوعي اليهودي (ماكسيم رودنسون)، ملخصًا لمحاضرة ألقاها في مبنى " الأهرام "، أيضًا قال فيها: «لَيْسَ هُنَاكَ عَقِيدَةٌ مِنَ القَدِيمِ تَفْرِضُ نَفْسَهَا عَلَى الجَدِيدِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ بَأْسَ مِنْ تَحَوُّلِ المَارْكْسِيَّةِ كَنِظَامٍ اقْتِصَادِيٍّ لِلْمُسْلِمِينَ». ¬

_ (¬1) لقد تاب (جارودي) عن هذا الفكر وأعن إسلامه فلزم التنويه.

ثالثا: تيارات عربية محلية

وتحقيقًا لذلك دعا (هواري بومدين) إلى أن الماركسية كنظام اقتصادي هي الأنسب لبلاده، وزعم مدير المساجد بالقاهرة سنة 1968 م أن الماركسية لا تتعارض مع الإسلام. ثَالِثًا: تَيَّارَاتٌ عَرَبِيَّةٌ مَحَلِّيَّةٌ: لقد كان لغسيل مخ العرب عدة آثار منها بأمور: 1 - الكتاب الذي وضعه الشيخ علي عبد الرازق باسم " الإسلام وأصول الحكم "، الذي زعم فيه أن الإسلام دين رهبنة روحية وليس منهج حياة ولا صلة له بالتشريع والاقتصاد والسياسة. 2 - كتاب " الشعر الجاهلي " لطه حسين الذي زعم فيه أن الإسلام ليس دينًا سماويًا بل دين وضعي، كما زعم أن القآن ليس وحيًا من الله. وأكمل هذه الخطة في كتابه على هامش السيرة "، من أن أخبار السيرة النبوية ليست حقائق بل وضعت لرضوخ السذج وإرضاء شعورهم وعواطفهم. 3 - الاتجاهات القومية التي انتشرت في الوطن العربي، ما بين القومية الطورانية في تركيا، والقومية العربية في مصر وسوريا، والقومية الكردية والبربرية، وهذه القوميات الغرض منها أن تصبح ولاء يحل محل الولاء للإسلام. وفي هذا كتاب (لورنس) في كتابه " أعمدة الحكمة السبعة "، أن الهدف الذي كانت تسعى إليه بريطانيا هو أن تحل القومية والوطنية محل الإسلام، كما كتب الدكتور (محمد محمد حسين) في كتابه " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " أن القومية العربية ولدت في مقر المندوب السامي البريطاني. 4 - كتاب " من هنا نبدأ " للشيخ (خالد محمد خالد) زعم فيه أن الخير والشر أمور تتغير حسب حاجات الناس؛ لأن الحق المطلق والفضيلة المجردة لا توجد إلا في عقول المجاذيب، والطريقة الحديثة لبلوغ الفضيلة ليست أصلاً قبل الطعام والمسكن الجيد. ولقد تاب فيما كتبه في كتابه " رجال حول الرسول "، ولكن في الفصل الخامس عن أبي ذر الغفاري صور أنه كان يقود ثورة الكادحين ضد الأغنياء. وعليه يلزم من الأستاذ خالد محمد خالد أن ينشر كتابًا آخر يصحح فيه بصراحة ما كتبه في كتاب " من هنا نبدأ "، حول القيم ونسبيتها وحول حكم الإسلام وعدم ملاءمته لعصرنا (¬1). ¬

_ (¬1) لقد صدر له كتاب " الإسلام والدولة " سنة 1982 أعلن فيه خطأه في كتابه " من هنا نبدأ " إذ ربط بين الإسلام وحكم البابوات في أوروبا.

رحماء بالأعداء أشداء فيما بينهم

وأن يصحح الفصل الخامس بأبي ذر في كتابه سالف الذكر، لأن عدم قيامه بذلك ليس لصالحه. 5 - وأخيرًا ظهر تيار كالذي همس به الدكتور محمد عمارة عن الإسلام والوحدة الوطنية، زعم فيه أن اليهود والنصارى قد حكم لهم القرآن بالجنة والنعيم الأبدي. وهذه لعبة قديمة لجأت إليها أوروبا خلال فترة حكمها للبلاد الإسلامية، وقدمتها تحت شعار توحيد الأديان، وحاولوا جذب الشيخ محمد عبده إليها فرفض، وأعلن هو وغيره أن الإسلام لا ينكر أحدًا من الرسل ويعتبر ذلك كفرًا، فعيسى ومن قبله موسى - عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - ثم الرسل من عند الله في رسالة الإسلام ولا نفرق بين أحد من الرسل، وعليه فالدين العالمي أو وحدة الأديان تكون بإيمان اليهود والنصارى برسالة خاتم الأنبياء محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا تكون بالزعم أن اليهود والنصارى مع كفرهم بالرسالة الخاتمة يكونون من أهل الجنة. هذه بعض آثار غسيل مخ العرب فهل من علاج من سبيل؟ (¬1). رُحَمَاءُ بِالأَعْدَاءِ أَشِدَّاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: بتاريخ 31/ 1 / 1979 نشرت جريدة " القبس " الكويتية عن صحيفة " واشنطن بوست " الأمريكية، أن الرئيس الأمريكي (كارتر) قد أمر أجهزة الاستخبارات بإعداد دراسة واسعة عن الحركات الدينية الإسلامية في العالم، وأن الإدارة الأمريكية مصممة على عدم السماح لمثل هذه الحركات أن يكون لها دور في مناطق الأزمات في العالم. وبتاريخ 7/ 12 / 1979 كتبت صيحفة " الإيكونومست " أن الجماعة الإسلامية في الباكستان، قد تسنى لها الحصول على أصوات كثير من الناخبين، وأصبحت تمثل واحدة من أعظم التجمعات السياسية نفوذًا، ومازال هدفها دولة إسلامية خالصة تحكمها الشريعة الإسلامية، ثم بدأت الصحيفة أسفها؛ لأن هذه الجماعة يتمتع أعضاؤها بحصانة ضد الاعتقال. وبتاريخ 24/ 12 / 1979 كتبت جريدة " النهار العربي والدولي " عن الدكتور عزيز الحاج، أننا نشاهد اليوم ونسمه جرأة طائشة حاقدة على شتم الإسلام والتحريض السافر ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " يوم 6/ 4 / 1976.

على المسلمين الداعين إلى الإسلام. هذه التصريحات وغيرها تتوالى مع أعمال ظاهرة وخفية، لمنع المسلم المتمسك بدينه من أن يطالب باحترام هذا الدين في جميع أمور الحياة ويقابل هذا تفرق لدى القادة السياسيين بل لدى كثير من الدعاة المسلمين، وهو ما قال عنه الشيخ أبو زهرة: «إِنَّنَا فِي هَذَا العَصْرِ قَدْ تَفَرَّقْنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ. تَفَرَّقْنَا فِي السِّياسَةِ فَتَقَطَّعَتْ الدُّوَلُ الإِسْلاَمِيَّةُ أَقَالِيمَ مُتَنَازِعَةً وَأَصْبَحَ وَلاَؤُهَا لِغَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ، فَصَارَ لَكُلِّ إِقْلِيمٍ وَلِيٌّ مِنْ أَعْدَاءِ المُسْلِمِينَ الذِينَ لاَ يَأْلُونَهُمْ إلاَّ خَبَالاً. وَوَرِثْنَا فِي هَذَا العَصْرِ التَّفَرُّقَ المَذْهَبِيِّ، حَتَّى أَخَذَ بَعْضُنَا يُكَفِّرُ الآخَرَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلاَ بَيِّنَةٍ، وَصَارَتْ الآرَاءُ وَالأَفْكَارُ عَصَبِيَّةً تُشْبِهُ العَصَبِيَّةَ الجَاهِلِيَّةَ، فَابْنُ الشِّيَعِيِّ شِيعِيٌّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ سُنِّيٌّ يَتَوَارَثُ المَذْهَبَ كَمَا يَتَوَارَثُ الجِسْمُ اللَّوْنَ مِنَ الأَبِ إِلَى ابْنِهِ. وَأَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَحْسَبُ أَنَّ مَذْهَبَهُ تُرَاثٌ لَهُمْ فَقَطْ، وَلَيْسَ تُرَاثًا لِلإِسْلاَمِ كُلَّهُ، وَإِنْ اعْتَبَرَهُ تُرَاثًا لِلإِسْلاَمِ فَإِنَّه يَتْبَعُ ذَلِكَ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ هُوَ الإِسْلاَمُ وَأَنَّ مَا عَدَاهُ اِنْحِرَافٌ لاَ يُؤْخَذُ بِهِ وَضَلاَلٌ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. إِنَّ مَحْوَ الطَّائِفِيَّةَ وَالحِقْدَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً مَقْصُودَةً؛ لأَنَّ الخِلاَفَ الطَّائِفِيَّ وَالحِقْدَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ نَزْعَةً عُنْصُرِيَّةً، وَالذِينَ يُرِيدُونَ الكَيْدَ لِلإِسْلاَمِ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا مَنْفَذًا يَنْفِذُونَ مِنْهُ إِلَى الوَحْدَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ. إِنَّ الطَّوَائِفَ الإِسْلاَمِيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَتَلاَقَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْتَ ظَلِّ كِتَابِهِ تَعَالَى وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالمُقَرَّارَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ التِي عُلِمَتْ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاؤُنَا وَلَكِنْ يَكُونُ اخْتِلاَفَ آحَادٍ فِي مُنَازَعَةٍ عِلْمِيَّةٍ، وَلاَ يَكُونُ اخْتِلاَفَ جَمَاعَاتٍ وَطَوَائِفَ تَجْعَلُ الأُمَّةَ الإِسْلاَمِيَّةَ مُتَفَرِّقَةً مُتَنَازِعَةً، يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الخُصُومَةَ فِي الدِّينِ غَيْرَ الاِخْتِلاَفَ الفِقْهِيّ، إِذْ الاِخْتِلاَفُ يَنْبَعِثُ مِنَ الفِكْرِ المُسْتَقِلِّ وَالخُصُومَةُ تَنْبَعِثُ مِنَ التَّعَصُّبِ الطَّائِفِيِّ. لاَ يُعْتَقَدُ أَنَّ الآثارَ الفِقْهِيَّةَ لِمَذْهَبِ الإِمَامِ زَيْدٍ أَوْ مَذْهَبَ ابْنِ أَخِيهِ الإِمَامَ جَعْفَرَ الصَّادِقَ تَفْتَرِقُ فِي جُمَلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ فِقْهٍ اِفْتِرَاقًا كَثِيرًا، تَجْعَلُ المُنَازَعَةَ مُتَبَايِنَةً تَمَامَ التَّبَايُنِ، وَحَسَبَ القَارِئَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الصِّلَةَ العِلْمِيَّةَ كَانَتْ قَائِمَةً بَيْنَ الأَئِمَّةِ أَصْحَابَ المَذَاهِبِ التِي انْتَشَرَتْ فِي الأَمْصَارِ، وَكَانُوا عَلَى اِتِّصَالٍ بِأَئِمَّةِ آلِ البَيْتَ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، فَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ عَلَى اتِّصَالٍ بِالأَئِمَّةِ مُحَمَّدَ البَاقِرَ وَابْنَهُ مُحَمَّدَ الصَّادِقَ، وَعَلَى اتِّصَالٍ بِالإِمَامِ زَيْدٍ. وَكَانَ الإِمَامُ مَالِكٍ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ - عَلَى صِلَةٍ بِالإِمَامِ جَعْفَرَ الصَّادِقَ، وَكَانَ بِهِ مُعْجَبًا يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلاَّ صَائِمًا أَوْ تَالِيًا لِلْقُرْآنِ ".

هَذِهِ الخُصُومَةُ قَدْ أَصْبَحَتْ سِمَةً ظاهِرَةً لِفِئَاتٍ مِمَّنْ يَحْمِلُونَ لِوَاءَ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى أَنْسَتْ هَؤُلاَءِ السِّمَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِلْمُسْلِمِ هِيَ رَبُّنَا {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬1). كَمَا أَنْسَتْ هَذِهِ الفِئَاتِ أَنَّ اخْتِلاَفَ وَسَائِلِهَا لاَ يَسْتَتْبِعُ أبدًا غَايَاتَهَا، وَلاَ يَجْعَلَ كُلَّ فِئَةٍ تَظُنُّ أَنَّهَا وَحْدَهَا الفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ وَأَنَّهَا وَحْدَهَا جَمَاعَةَ الحَقِّ وَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي وَسَائِلِ تَحْقِيقِ الغَايَةِ التِي يَنْشُدُهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَهِيَ مَرْضَاةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ. لَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: " لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ». وَهَكَذَا بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتِهَادَ الطَّائِفَتَيْنِ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا، فَدَلَّ سُكُوتُهُ عَلَى إِقْرَارِ الاِجْتِهَادِ فِي تَنْفِيذِ الأَمْرِ، وَلَكِنَّ الفِئَاتَ المُخْتَلِفَةَ فِي الوَسَائِلِ تَهْدُرُ هَذَا المَنْهَجَ القَوِيمَ بِأُسْلُوبِهَا العَمَلِيِّ وَهُوَ الخِصَامُ. كَمَا تَجَلَّى هَذَا المَنْهَجُ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدُ، وْابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ قَالَ: اِحْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ شَدِيدَةَ البُرُودَةِ فَأَشْفَقْتُ إنْ اغْتَسَلْتُ أنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ذَكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فَتَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. بِهَذَا السُّكُوتِ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّيَمُّمَ عِنْدَ الخَوْفِ مِنْ حُصُولِ ضَرَرٍ مِنَ المَاءِ إِمَّا لِمَرَضٍ بِالجِلْدِ، أَوْ لِبَرْدٍ يَضُرُّ الإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحَمَّ بِهَذَا المَاءِ. كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ فِي فَهْمِ قَوْلِ النَّبِيِّ " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " وَمِنْ اخْتِلاَفِهِمْ فِي فَهْمِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، [المائدة: 6]. أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقَرَّ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى اجْتِهَادِهَا فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ؛ وَبِالتَّالِي فَلاَ تَفْتَرِضُ طَائِفَةٌ أَنَّهَا وَحْدَهَا النَّاجِيَةَ وَأَنَّ غَيْرَهَا خَصْمٌ لَهَا. إِنَّ هَذَا الاِجْتِهَادَ لَيْسَ ¬

_ (¬1) [الحشر: 10].

ماركسية نجيب محفوظ وكاثوليكية أمين عثمان

فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَصَادِرِهِ، وَلَيْسَ جَرْيًا وَرَاءَ الأَهْوَاءِ وَالمَصَالِحِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يَجُوزُ تَأْوِيلَ الفُرُوعِ وَوَصْفِهَا بِالأُصُولِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُبَرِّرًا لِلْخِلاَفِ» (¬1). مَارْكْسِيَّةُ نَجِيبْ مَحْفُوظْ وَكَاثُولِيكِيَّةُ أَمِينْ عُثْمَانْ: بتاريخ 3/ 9 / 1973 بالعدد 1895 نشرت " السياسة " مقابلة صحفية للأستاذ نجيب محفوظ تحت عنوان: " ما لم أقله لأحد ". ومما جاء في هذه المقابلة قول الكاتب -: «لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ الرَّأْسْمَالِيَّةِ وَالمَارْكْسِيَّةِ، لَمَا تَرَدَّدْتُ فِي الاِخْتِيَارِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، أَخْتَارُ المَارْكْسِيَّةَ طَبْعًا. وَلَكِنْ ذَلِكَ لاَ يَعْنِي أَنَّنِي مَارْكْسِيٌّ». ثم أوضح الكاتب السبب بقوله: «بِقَدْرِ شَكِّي فِي النَّظَرِيَّةِ، فَإِنِّي أُؤْمِنُ بِالتَّطْبِيقِ فِي ذَاتِهِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ أَخْطَاءِ التَّجْرِيبِ وَمَآسِيهِ». وأخيرًا بلور الكاتب عقيدته في قوله: «وَلِكَيْ أَكُونَ وَاضِحًا أَكْثَرَ، فَإِنَّنِي أُؤْمِنُ بِـ: 1 - تَحْرِيرِ الإِنْسَانِ مِنَ الطَّبَقِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ اِمْتِيَازَاتٍ كَالمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ. 2 - أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ ...». وأمام هذا التزييف للواقع بشأن الميراث، وللافتراء على الله تعالى، أكتفي بأن أوجه الأنظار إلى أنه قد نشأت بيننا طبقة تتقرب إلى قادة الماركسية المهيمنين على أكثر الأنظمة في المنطقة، مثما تقرب المسلم - أمين عثمان - إلى الكاثوليكية وأعلن في الأربعينات، «أَنَّ مِصْرَ تَزَوَّجَتْ بَرِيطَانْيَا زَوَاجًا كَاثُولِيكِيًّا»، ولقد دفع أمين عثمان رأسه ثمنًا لهذه الزلفى بحادث الاغتيال المشهور. وماركسية نجيب محفوظ من هذا الطراز، وله في الصحفي موسى صبري أسوة واضحة، إذ ارتدى ثياب الماركسية في كتبه ومقالاته، ليصبح نقيبًا للصحفيين بمصر، ولما خذله الماركسيون بتوجيه من محمد حسنين هيكل - الرأسمالي -، كشف النقاب عن هذه الأمور في مقالاته بـ " أخبار اليوم ". وسأكتفي بهذا القدر من الربط بين الماضي والحاضر، وأعود إلى جرأة نجيب محفوظ في تزييف الواقع العملي بشأن الميراث الإسلامي. ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " في 7 ربيع الأول 1401 هـ (13/ 1 / 1981 م).

الميراث ليس امتيازات بل هو أقوى اللبنات

المِيرَاثُ لَيْسَ اِمْتِيَازَاتٍ بَلْ هُوَ أَقْوَى اللَّبِنَاتِ: لقد زعم نجيب محفوظ أن الميراث نوع من الامتيازات الطبقية التي يجب أن يتحرر منها الإنسان. ولكن الذي يدركه الأعمى قبل البصير، والعدو للإسلام قبل بعض من انتسبوا إليه وباعوا أنفسهم لغيره. هو أن نظام الميراث عندنا معاشر المسلمين، يؤدي إلى تفتيت الثروة وتذويب الطبقات، كما يؤدي إلى الترابط بين الآباء والأبناء، فضلاً عن أنه يخلق في الفرد الباعث على الإنتاج، كما يربط الفرد بالمجتمع الذي يعاصره بل وبالمجتمع التالي لعصره. وسأكتفي بشهادة عالم ليس مسلمًا، ألا وهو الأستاذ (ماسينيون). إذ يعلن أن لدى الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكرة المساواة، وذلك بفرض زكاة يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض عملية المبادلات التي لا ضابط لها، وحبس الثروات، كما يناهض الديون الربوية والضرائب، ويقف في نفس الوقت إلى جانب حقوق الوالد والزوج، وشيوع الملكية الفردية ورأس المال التجاري، وبذا يحل الإسلام مرة أخرى، مكانًا وسطًا بين نظريات الرأسمالية البرجوازية ونظريات البلشفية الشيوعية وعلى ذلك، فالإسلام بمثابة خالق السلام بين النظم الاقتصادية المتنازعة. ونكتفي بهذه الشهادة، ونعود إلى تناقضات نجيب محفوظ الذي جهل أن الإسلام أغنى من الرأسمالية ومن الماركسية بالمبادئ الاقتصادية والاجتماعية التي تعالج طبيعة الإنسان. تَنَاقُضٌ يَكْشِفُهُ التَّطْبِيقُ الشُّيُوعِيُّ: لقد قال نجيب: «بِقَدْرِ شَكِّي فِي النَّظَرِيَّةِ الفَلْسَفِيَّةِ، فَإِنِّي أُؤْمِنَ بِالتَّطْبِيقِ فِي ذَاتِهِ»، وأعلن أنه يؤمن بالنظرية الشيوعية «الأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ لاَ العَمَلِ». هذا الذي يؤمن بالتطبيق الماركسي، لا بد أنه على علم بأن التطبيق العملي جعل الماركسية تبعد كثيرًا عن النظرية، بعدًا جعلها تعود إلى نظام الأسرة، وتعود إلى نوع من الملكية الفردية، وإلى حوافز الإنتاج. أي أن التطبيق الماركسي يؤدي إلى بقاء الميراث ولو بغير قانون وفي أضيق الحدود، كما يؤدي إلى هدم نظرية الأجر على قدر الحاجة. لقد نشرت جريدة " الأهرام " - القاهرية -

فاقد الشيء لا يعطيه

في عددها الصادر في 18/ 5 / 1965، تقريرًا للخبير السوفييتي (زولين) نصه - بالحرف -: «يَتَعَيَّنُ عَلَى رُوسْيَا أَنْ تَعُودَ إِلَى نِظَامٍ مَا، يَسْمَحُ بِالمِلْكِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ فِي الأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِحَلِّ مُشْكِلاَتِ الزِّرَاعَةِ التِي تَتَجَدَّدُ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكَ الأَرْضِ لِمَنْ يَفْلِحُهَا». إن نجيب محفوظ لا يجهل هذا، ولا يجهل أن نظام الطبقات الذي وجد في روسيا القيصرية قبل الثورة الشيوعية، وكذلك نظام الإقطاع الذي وجد في فرنسا قبل ثورتها، لا يوجد مثلهما في المنطقة العربية، وذلك لأن الإسلام قد عالج ذلك من البداية. كما أن نجيب محفوظ يدرك الواقع الملموس، والذي يؤكد أن الميراث الإسلامي لا يركز الثروة في يد الابن الأكبر، كما هو الحال في أوروبا، وبالتالي فهو يفتت الثروة ولا يخلق طبقات بل يذيبها وهذا ما شهد به (ماسينيون) وغيره. فَاقِدُ الشَّيْءِ لاَ يُعْطِيهِ: لقد سئل نجيب محفوظ عن رأيه في حل المشكلة الجنسية في مجتمعنا فأجاب: «أَنَا لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَهُ - أَيْ الحَلَّ - وَلاَ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ أَنْ " تَنْشُرَهُ "». وهذا يعني بوضوح أنه لا يؤمن بالزواج ولا يؤمن بقصر العلاقات الجنسية في حدود نظام الزواج، وبالتالي لا مكان للأولاد وللميراث في مجتمع هذه سماته. وعليه فنجيب محفوظ عاجز اجتماعيًا عن أن يشم هواء العواطف الأسرية، ولا يتذوق طعم علاقات البنوة، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يكون مصدر توجيه في مجتمع قوامه الدين والأخلاق، والأسرة لبنة من لبناته، ففاقد الشيء لا يعطيه. ونجيب محفوظ الذي يزعم أنه مؤمن بنظرية الأجر مقابل الحاجة كان أجدر به أن يتنازل عن فائض حاجته إلى البائسين من بني جنسه، ولكننا ابتلينا بمن يعلنون مبادئ تخالف سلوكهم وحياتهم وواقعهم. ونجيب محفوظ الذي لا يجد بديلاً عن الرأسمالية إلا الماركسية، لا يود أن يعرف أن الإسلام هو الذي شرع نظامين للملكية: هما الملكية الفردية، والملكية العامة، وجعل لكل نوع مجاله ووظيفته. وبهذا تميز عن الرأسمالية وعن الشيوعية؛ لأنه منزل من الله الذي خلق الإنسان ووضع له ما يصلح غرائزه على مر العصور والأزمان.

السلف الصالح وجاهلية القرن العشرين

نجيب محفوظ لا يعلم أن الإسلام وضع نظامًا يكفل التوزيع العادل للأموال، وعندما خص الفقراء بنوع من الفيء أوضح السبب وهو قول الله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (¬1). والإسلام لم يقف ضده إلى أصحاب الامتيازات، سواءً امتيازات السلطة السياسية أو الامتيازات الاقتصادية، وذلك حفاظًا على امتيازاتهم. وأخيرًا نجيب محفوظ لم يجرؤ على نقد مظالم الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، والتي جاءت الهزيمة على يديها، ونقد نظام الميراث لا لشيء سوى لأنه جاء من عند الله، والله لا يفتح السجون والمعتقلات، ولا يأمر بإجراء عمليات غسيل المخ كما تفعل الرأسمالية والشيوعية. وأخيرًا سلام على أمة كان الإسلام فيها لا يستطيع الدفاع عن نفسه ولا يجد من رجاله إلا متفرجين (¬2). السَّلَفُ الصَّالِحُ وَجَاهِلِيَّةُ القَرْنِ العِشْرِينْ: لقد اقترن أول أبريل بكلمات نشرت في " القبس " للدكتور لويس عوض في معرض حديثه عن اليسار واليمين، وردت فيها عبارة «الرِّجْعِيُّونَ وَالسَّلَفِيُّونَ». وفي تعريفه لهؤلاء قال: «إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِعَادَةَ عَقَارِبِ السَّاعَةِ إِلَى الوَرَاءِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلاَءِ، لَهُمْ سِمَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ الثَّوْرَةُ عَلَى الحَاضِرِ بِاِعْتِبارِهِ تَجْسِيدًا لاِنْحِلالِ البَشَرِيَّةِ فِي العَصْرِ الحَديثِ، وَبِالتَّالِي هُمْ يَدْعُونَ إِلَى الرِّجْعِيَّةِ إِلَى الوَرَاءِ، وَإِحْيَاءِ نَمَطِ الحَيَاةِ وَالفِكْرِ وَالسُّلُوكِ الشَّائِعِ عِنْدَ السَّلَفِ، أَوْ مَا يُسَمَّى أَحْيَانًا السَّلَفَ الصَّالِحَ». نكتفي بهذه الكلمات ونتساءل هل التمسك بفكر وسلوك السلف الصالح يعد عودة إلى الوراء، إلى حياة الخيام ووسائلهم؟. وهل في الثورة على الانحلال، أضرارٌ على المجتمعات؟ إن السلف الصالح اصطلاح لدى المسلمين، يراد به صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) [الحشر: 7]. (¬2) نشر في جريدة " السياسة " يوم 9 شعبان 1393 هـ (5/ 10/ 1973 م) و" المجتمع " يوم 13 شعبان 1393 هـ (9/ 10 / 1973 م).

الأنبياء بين الرجعية والتقدمية

والتابعون من بعدهم، الذين حافظوا على السنة النبوية وأنماط السلوك التي جاء بها الإسلام. فإذا وصف لويس عوض السلف الصالح بأنهم رجعيون، فهذا يعني أن الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وبلال وسلمان، رجعيون، وأن الإسلام رجعي. وقبل أن نوضح زيف وبطلان هذه السخافات والافتراءات ... نسأل لويس عوض: هل يقبل النصارى في أوروبا أن يذهب إليهم أحد المسلمين ويكتب في صحفهم ويعلن في ديارهم أن المسيح - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - رجعي؟ وأن الحواريين وأنصاره كانوا رجعيين؟ لو قبل ذلك هؤلاء، فإن المسلم محرم عليه مثل هذا الوصف، فالله تعالى يكلفنا بعدم التفرقة بين الأنبياء {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (¬1). ومنزلة السيد المسيح عند المسلمين مرفوعة مكرمة، ومن ذلك قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2). الأَنْبِيَاءُ بَيْنَ الرِّجْعِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِيَّةِ: والرجعية كلمة أصبحت تطلق حديثًا ويراد بها الرجوع إلى الوراء زمانًا أو مكانًا. والتقدمية كلمة تطلق حديثًا ويراد بها التقدم إلى الأمام زمانًا ومكانًا. هذا المفهوم شاع بعد الثورة الفرنسية أي منذ سنة 1789 م، حيث دار التصويت في الجمعية الوطنية الفرنسية، فتجمع النواب الذين يدافعون عن الإقطاع وجلسوا في مقاعد اليمين، وتجمع المتطرفون في الدفاع عن المستضعفين وجلسوا في مقاعد اليسار وظل المعتدلون في مقاعد الوسط. لهذا شاعت كلمة اليمين الرجعي، ويقصد بها أصحاب الدعوة إلى العودة للتمسك بما كان للإقطاع من حقوق كاذبة. شاعت كلمة اليسار التقدمي، ويراد بها أصحاب الاتجاه المنادي بإنهاء الإقطاع وتقرير الحقوق الإنسانية للعمال والمستضعفين. وعلى الرغم من أن الإسلام هو أول من حارب لصالح الكادحين والمستضعفين حيث ¬

_ (¬1) [البقرة: 285]. (¬2) [آل عمران: 55].

جاهلية القرن العشرين ولعبة المضللين

قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬1). إلا أن أعداء الإسلام شرقًا وغربًا من جهلة أبناء المسلمين، مازالوا يصفون الإسلام بالرجعية أو باليمين الرجعي، وهو وغيرهم لا يجهلون أن الله تعالى حذر القاعدين عن الجهاد في سبيل الله ومن استكانوا أمام الكفر والظلم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). إن الدنيا كلها لا تنكر هذا ولا تستطيع أن تتجاهل هذه الآيات البينات، كما أنها لا تنكر أن أول حكومة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاتلت الأغنياء انتصارًا للفقراء. فقال أبو بكر الصديق قولته المشهورة: «وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَقَالاً، كَانُوا يُؤَدُّونَهُ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، مَا اسْتَمْسَكَ السَّيْفُ فِي يَدِي». ومع هذا فما زال يظهر بيننا من يزعم صراحة أو ضمنًا أن العودة إلى الإسلام هي عودة إلى الرجعية وإلى الوراء؛ لأنه عودة إلى تشريعات صدرت منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، وهؤلاء جاهلون أو متجاهلون أو مغرضون. جَاهِلِيَّةُ القَرْنِ العِشْرِينَ وَلُعْبَةُ المُضَلِّلِينَ: إن الذين يزعمون أن العودة إلى الإسلام هي عودة إلى الرجعية؛ لأنها عودة إلى أنماط من السلوك مضت عليها قرون .. طالت أم قصرت ... هؤلاء ضحايا الجاهلية الحديثة، وقد أصبحوا أداة للمضللين ولعبة بأيديهم. فالإسلام ما جاء ليحكم الصناعة والمعمار ووسائل الحياة المادية، إنما أكد أنه يترك هذه الأمور تتغير مع الحياة المتجددة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». إنما ينصب حكم الإسلام وتشريعاته على القيم الأخلاقية وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فالكذب رذيلة منذ خلق اللهُ آدمَ، وسيظل رذيلة إلى أن تقوم الساعة. إنما ينصب حكم الإسلام ¬

_ (¬1) [النساء: 75]. (¬2) [النساء: 97].

والفكر اليهودي والميكيافيلي الذي يزعم أن الغاية تبرر الوسيلة، فكر مضلل؛ لأن الغاية الشريفة لا يمكن أن تخدمها إلا وسيلة شريفة، ولهذا فإن جواب الإسلام عن تلك التي تزني وتتصدق هو: «لَيْتَهَا مَا زَنَتْ وَمَا تَصَدَّقَتْ». إن (دوركايم) وغيره ممن جعلناهم فلاسفة لعلم الاجتماع، قد دفعت بهم اليهودية ليضللوا البشرية، ومن ثم خرجوا على الناس بما يسمى بنظرية «نسبية القيم». وهذه النظرية اليهودية، ترجع إلى مبدأ أساسي في الفكر اليهودي وهي أن اليهود غير ملزمين باتباع الاخلاق مع غيرهم. وفي هذا قال اللهُ عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (¬1). وهذا هو الوارد في مخططهم السري. فالبروتوكول الأول من " بروتوكولات حكماء صهيون " جاء به: «مِنْ خِلاَلِ الفَسَادِ الحَالِيِّ الذِي نَلْجَأُ إِلَيْهِ مُكْرَهِينَ سَتَظْهَرُ فَائِدَةُ حُكْمٍ حَازِمٍ يُعِيدُ إِلَى بِنَاءِ الحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ نِظَامَهُ الذِي حَطَّمَتْهُ التَّحَرُّرِيَّةُ. إِنَّ الغَايَةَ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ، وَعَلَيْنَا ـ وَنَحْنُ نَضَعُ خِطَطَنَا ـ أَلاَّ نَلْتَفِتَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَخْلاَقِيٌّ». وفي البروتوكول الثاني ما نصه: «وَالأُمَمِيُّونَ (غَيْرُ اليَهُودِ) لاَ يَنْتَفِعُونَ بِالمُلاَحَظَاتِ التَّارِيخِيَّةِ [المُسْتَمِرَّةِ بَلْ يَتَّبِعُونَ نَسَقًا نَظَرِيًّا مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَتَائِجُهُ]. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ نُقِيمَ لِلأُمَمِيِّينَ وَزْنًا .... دَعُوهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ القَوَانِينَ النَّظَرِيَّةَ التِي أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ بِهَا إِنَّمَا لَهَا القَدَرَ الأَسْمَى مِنْ أَجْلِهِمْ ... وَبِمُسَاعَدَةِ صَحَافَتِنَا تَزِيدُ ثِقَتُهُمْ العَمْيَاءَ بِهَذِهِ القَوَانِينِ». وعلى ذلك فإن الذين ينادون بالتمسك بنمط السلوك والمناهج الموروثة عن السلف الصالح لا يمكن أن يوصفوا بالرجعية، من ذا الذي يجرؤ أن يصف الأنبياء وأتباعهم بالرجعية، إلا أن يكون جاهلاً. وإذا افترضنا جدلاً أن كل إحياء لفكر سابق هي عودة إلى الماضي، فإن الماضي ليس فيه عيب ولا تتوارى منه طالما أنه من التشريعات والمناهج التي تحكم السلوك والغرائز؛ لأن هذه لا تتغير بتغير الزمان والمكان. وتحديد طبيعة الخير والشر أو الحق والصواب فهذا يخرج عن اختصاص البشر ووظائفهم، لأن الناس إنما يحكمون على الأشياء عن طريق الحواس الخمس، وبالتالي فإن كل ما خرج عن هذه الدائرة لا يستطيع الإنسان أن يضع فيه حكمًا سديدًا، بل يتخبط بالتجارب، تارة يصيب وكثيرًا ما يخطئ. ¬

_ (¬1) [آل عمران: 75].

ولهذا فالتشريعات التي يضعها البشر في نطاق السلوك والأخلاق والمعاملات تقترن بتغيرات مختلفة، وبالتالي فهي تتطلب تفسيرًا ثم تشريعًا آخر، وتظل ناقصة وعاجزة عن حكم حياة البشر، لأنها حكمت في أمر يخرج عن مجال العلوم التجريبية الخاضعة للحس والمشاهدة، وهي العلوم التي جعلها الله من خصائص الناس، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». أما ما غاب عن الحواس الخمس ونعني به المجال التربوي والأخلاقي والتشريعي في غير المعمار والصناعات، فذلك ليس من اختصاص البشر، وقد تكفل الله به عن طريق الرسل والأنبياء. وفي هذا قال اللهُ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬1) صدق الله العظيم. فهل تدرك هذا جاهلية القرن العشرين؟ ¬

_ (¬1) [الحديد: 25].

الفصل الثاني: إشهار إفلاس العلمانية العربية

الفَصْلُ الثَّانِي: إِشْهَارُ إِفْلاَسِ العِلْمَانِيَّةِ العَرَبِيَّةِ: • بين الإسلام والعلمانية العربية. • العلمانية الأوروبية والعلمانية العربية. • الوضع العربي بين الإسلام والعلمانية. • الطعن في الإسلام تحت ستار نقد الدعاة. • مزاعم علمانية في صحف عربية.

إشهار إفلاس العلمانية العربية

إِشْهَارُ إِفْلاَسِ العِلْمَانِيَّةِ العَرَبِيَّةِ: الإِسْلاَمُ وَالعِلْمَانِيَّةُ العَرَبِيَّةُ: تناولت الصحف موضوع التطرف، وكتب فيه العالم وغير العالم، حتى كثر الخلط والغلط واحتكم نفر إلى الفلسفة العقلية الوضعية، ولو ردوا الأمر إلى صاحب الأمر لما تنازعوا؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن التنطع في الدين، ودعا بهلاك المتنطعين. ولما كان المسلم ملتزمًا بالقرآن والسنة، فما جاء فيهما لا يعد تطرفًا حتى لو خالف أهواء الناس. ثم تناولت الصحافة موضوع الإسلام والعلمانية، وكثر فيها أيضًا الخلط والغلط وأصبح من التطرف في نظر بعض الكُتَّابِ أن تؤخذ التشريعات من أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن هذه في فهمهم عودة إلى الحكومة الدينية في النظام الأوروبي. ولما كان من هؤلاء الكُتَّابِ من أكد أنه يحترم الدين الإسلامي، ولكنه يرفض أن تستمد منه وحدة التشريعات المدنية التي تضبط سلوك الأفراد في المجتمع، أو تفصل في منازعتهم وقضايا الخلاف بينهم، وكان منهم من حمل على خطباء المساجد لأنهم أدوا رسالتهم في توضيح حكم الله في أمر الاحتكام إلى شرعه سبحانه. وكان مجلس التعاون الخليجي قد قرر بإجماع وزراء العدل: أن تستمد التشريعات في دول المجلس من أحكام الشريعة الإسلامية، وتبع ذلك هذه المقالات المتكررة. فإنه بعيدًا عن الجدل مع أحد الفرقاء، وبعيدًا عن المنعطفات الجانبية والإقليمية، ودفاعًا عن الشريعة الإسلامية، وحتى لا نهلك ومجتمعاتنا بجحود شرع الله، نُذَكِّرُ الإخوة المختلفين بالآتي: أَوَّلاً: الخَلْطُ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالحُكُومَةِ الدِّينِيَّةِ: يخلط بعض الكُتَّابِ بين حكم الإسلام وبين الحكومة الدينية في أوروبا، وسبق أن

ثانيا: الخلط بين نظام الخلافة وبين التشريع والمذاهب والأديان

فعل ذلك خالد محمد خالد في كتابه " من هنا نبدأ "، وبعد ثلاثين عامًا من صدور الكتاب أعلن صاحبه عن هذه الخطيئة، وذلك في كتابه الجديد باسم " الإسلام والدولة " وأوضح أنه كان يخلط بين الحكومة الدينية في أوروبا وبين الحكم الإسلامي من خلال نظرته لتصرفات بعض الأفراد. ولعل الباحثين الموضوعيين من المسلمين وغيرهم، لا ينكرون أن قواعد الإسلام تعطل خصائص الحكم الديني في جميع العصور؛ لأنه يمنح الحاكم عصمة تجعله مفوضًا عن الله فيما يفعل، فلا يخضع للمحاسبة أو المراجعة، وكل ما يصدر عنه إنما يصدر باسم الحق الإلهي المفوض هو فيه. وفي إعلان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم الله في هذه المسالة عندما أسلم أحد كبار رجال الدين من أهل الكتاب وهو عَدِّيٌّ بْنُ حَاتِمٍ، فقرأ عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1). ولما ظن عَدِّيٌّ أن العبادة من دون الله تعني السجود والصلاة للأحبار والرهبان وهم لا يفعلون ذلك فقال: «مَا عَبَدْنَاهُمْ». قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرامَ وَيَحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ الحَلالَ فَتَتَّبِعُونَهُمْ؟»، قَالَ عَدِّيٌّ: «بَلَى»، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَتِلْكَ عِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ» (*) - لا يكون للحاكم بالتشريع الإسلامي عصمة، فهو يخضع للمحاسبة كآحاد الناس. ثَانِيًا: الخَلْطُ بَيْنَ نِظَامِ الخِلاَفَةِ وَبَيْنَ التَّشْرِيعِ وَالمَذَاهِبِ وَالأَدْيَانِ: خلط بعض الكُتَّابِ بين نظام الخلافة وبين الالتزام بالتشريع الإسلامي من جانب، والالتزام بمذهب بعينه من جانب آخر. وأوضح ما يلي: 1 - لا يوجد ارتباط بين التزام كل دولة إسلامية بالتشريع الإسلامي في إقليمها وبين الطعن بعدم دستورية نظم الحكم الحالية طلبًا في توحيدها في نظام الخلافة الإسلامية، الذي لا يقبل تعدد الخلفاء، فهذه مرحلة أخرى يلزم أن يسبقها تربية الجيل أو الأجيال يحملون هذه الرسالة والأمانة، ويسعون إلى تطبيقها بتجرد وإخلاص حتى تتحد الدول في أي شكل أو صورة. وحتى يتم ذلك، فالدستور إذا تضمن نصًا بأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، مع نص آخر يحدد نظام الحكم في الدولة، فلا يترتب على النص الأول أي انعدام للدستورية نظام الحكم الوارد في النص الآخر، إذا تضمن الدستور قيام هذا ¬

_ (¬1) [التوبة: 31]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر: التعليق في ص 14 من هذا الكتاب.

النظام على أساس الشورى والعدل اختيار الأغلبية للحاكم ورضاها به، ثم حدد الوسيلة لذلك. فضلاً عن ذلك فإنه من القواعد الفقهية، أن حكم الحاكم وقضاء القاضي لا يعد باطلاً إلا إذا اصطدم بنصوص شرعية قطعية الدلالة، أو اصطدام بقاعدة شرعية إجماعية ونظام الحكم من الأمور التي ترك الإسلام فيها مجال الاجتهاد في حدود العدل والشورى ومن ثم فالطعن بعدم الدستورية في الأمور الخلافية لا محل له. 2 - أن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية. ومن المعلوم للكافة أن " الإنجيل " ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال. فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه، وبالتالي ففي الأمور الجزائية والمدنية والتجارية، أي فيما عدا الأحوال الشخصية يخضع الشخص لتشريع وطنه، أي يخضع لتشريع الإقليم الذي تمت فيه الوقائع، كما يخضع النصارى في غير الدول الإسلامية للتشريعات المدنية والتجارية لهذه الدول، كما يخضع النصارى وغيرهم من الأقليات في البلاد الإسلامية لتشريعاتها في هذا المجال طبقًا لهذه القاعدة، وهي إقليمية القانون أي سريانه من حيث المكان. 3 - إن الإسلام لا يكرس المذهبية والخلافات، ولا توجد أي مشكلة في تطبيق التشريع الإسلامي، لأن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) أي أن الفيصل في المسائل الخلافية أو المذهبية هو القرآن والصحيح من الحديث النبوي، فإن احتمل النص أكثر من دلالة في المعنى، فما تراه أغلبية الفقهاء محققًا لمصلحة المجتمع فهو التشريع الملزم طبقًا للقاعدة الفقهية - المشار إليها في البند [1]- وبالتالي ما يثار من الخلافات المذهبية لا أثر له على التشريع. ¬

_ (¬1) [النساء: 59].

ثالثا: الخلط بين الإسلام والعلمانية

ثَالِثًا: الخَلْطُ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: إنه سواءً كانت العلمانية هي اللادينية كما أثبت أكثر من عالم منهم الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه " حصوننا مهددة من داخلها " وكتاب " الاتجاهات الوطنية " وكما هو ثابت في المعاجم، أو كانت العلمانية لا تتصل بأوامر الدين ونواهيه وإنما تعني فقط فصل الدين عن الدولة كما يقول المدافعون عنها حسبما نشر في " الوطن " بتاريخ 26/ 2 / 1984 م، فإن النتيجة المترتبة على الأخذ بالعلمانية في الحالين هو فصل الدين عن شؤون الحياة، وبالتالي يخضع المسلم جبرًا عنه وبقوة القانون لتشريع يخالف تشريع الله تعالى، وهذا يخالف الإسلام والعلمانية مَعًا. أ - أما مخالفته للإسلام فالله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬1) ويقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬2). وقد استعرضت إدارة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الشأن وأصدرت بيانًا للمسلمين طبع ضمن كتاب سنة 1403 هـ - 1983 م بعنوان " دليل الحاج والمعتمر "، جاء به أن «اعْتِقَادَ جَوَازِ الحُكْمِ بِغَيْرِ ما أنزلَ اللهُ مِنَ المُعَامَلاَتِ أَوْ الحُدُودِ أَوْ غَيْرِهَا كُفْرٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ؛ لأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ قَدْ اِسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ اللهُ إِجْمَاعًا، وَكُلُّ مَنْ اِسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ اللهُ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالزِّنَا وَالخَمْرِ وَالرِّبَا وَالحُكْمِ بِغَيْرَ شَرِيعَةِ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ». ب - إن العلمانية أساسها رد الأمر إلى الأمة لأنها في النظام العلماني هي مصدر السلطات، وبالتالي فالتشريع الذي ترتضيه الأغلبية يصبح واجب النفاذ ويلزم الجميع، ولما كانت أغلبية المجتمعات الإسلامية تطالب بالإسلام ولا ترضى أن تستمد تشريعاتها من مصادر أخرى، فلماذا تصر أقلية قليلة على إكراه المسلم على الخضوع لغير شرع الله من جانب وإكراه الأغلبية على تشريع لا ترضاه أغلبية الأمة، وذلك يصادم أيضًا النظام الديمقراطي الذي تقول هذه الأقلية أنها تتبعه وترتضيه طبقًا لمفهوم العلمانية. ¬

_ (¬1) [الشورى: 21]. (¬2) [النساء: 65].

رابعا: لعنة الله والحصانة للعلماء والقضاء

رَابِعًا: لَعْنَةُ اللهِ وَالحَصَانَةُ لِلْعُلَمَاءِ وَالقَضَاءِ: إن المجتمعات البدائية والمتخلفة هي وحدها التي تقبل بعدم استقلال القضاء وبخضوعه لأهواء الأقوياء. أما المجتمعات التي أخذت شكل الدولة فإن دساتيرها تنص على استقلال القضاء، وذلك لضمان تحقيق العدل بين الناس. ولما كانت أمانة الكلمة وبيان حكم الله للمسلمين منوطًا بالعلماء العاملين؛ فإن تقرير هذه الحصانة لهم جزء لا يتجزأ من أداء الأمانة وتحقيق العدل. وبالتالي فإن التشهير بخطباء المساجد والعلماء لأنهم بصروا المسلمين بأخطار اختيار التشريعات والقوانين غير الإسلامية هو إخلال بحيدة القضاء وحيدة العلماء؛ لأن كليهما يعمل من أجل هدف واحد ورسالة واحدة يكمل بعضها بعضًا. بل إن حصر رسالة العلماء والخطباء في أحكام الحيض والنفاس والنجاسة والطهارة وعذاب القبر والسكوت عن المنكرات الاجتماعية، من شأنه أن تخلو الأمة من أهم مقومات بقائها وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا من نتائجه: أ - أَنْ يُعَرِّضَ الأمة كلها لغضب الله وللهلاك الجماعي، فالله تعالى يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬1). ب - أن يتعرض العلماء والأمة لغضب الله فتحل بهم لعنته - قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬2). إن حرية قيام خطباء المساجد بهذه الرسالة لهو مفخرة للدولة التي توفر هذا الأمن وترفع عن نفسها اللعنة وأسباب الهلاك، ولكن إذا أخطأ أحدهم في وسيلة التقويم كما هي في القرآن والسنة فجرح الأشخاص والهيئات، فلا يكون العلاج بالتشهير على الجميع، بل يكون بالنصح الفردي للمخالف، فإن لم يستجب على الفور يدفع الموضوع إلى الوزارة ¬

_ (¬1) [النحل: 112]. (¬2) [المائدة: 78، 79].

خامسا: إزالة الشبهات عن الإسلام

الأوقاف والشؤون الإسلامية لتقوم بالتحقيق في الموضوع ووضع الأمر في نصابه. خَامِسًا: إِزَالَةُ الشَّبُهَاتِ عَنْ الإِسْلاَمِ: «إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ إِلَى العِلْمَانِيَّةِ وَالفَصْلِ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالمُجْتَمَعِ، مَا نُشِرَ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَوْعِبَ مَلاَيِينَ القَضَايَا وَالمَشَاكِلِ الإِنْسَانِيَّةِ المُعَقَّدَةِ، أَوْ أَنْ تُقَدِّمَ حُلُولاً جَاهِزَةً لَكُلِّ مَا يَسْتَجِدُّ عَلَى مَسْرَحِ الحَيَاةِ» (" الوطن ": 12/ 3 / 1984 م)، وهذا التصور قائم على أساس أن الحكم بالإسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة. وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده - فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها اللهُ وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت اللهُ عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حرامًا. قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. وقد أوضح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله سكت عن أمور غير نسيان ولكن رحمة بنا كما أرشدنا أن ما سكت اللهُ عنه فهو من المباح الذي يخضع لاجتهاد كل مجتمع. وفي هذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». ولا نعني بتطبيق الشريعة الأخذ بالحدود وحدها كما يريد بعض الحاكمين، فالإسلام نظام ترتبط فيه الصلاة بالزكاة، والزواج بالأخلاق والحدود بالشورى وحرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترتبط أيضًا بالتكافل الاجتماعي الإسلامي. سَادِسًا: الإِسْلاَمُ وَالفَصْلُ بَيْنَ السُّلُطَاتِ: وقالوا: «إِنَّ تَفْضِيلَ العِلْمَانِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا مَبْدَأٌ يَقُومُ عَلَى الفَصْلِ بَيْنَ السُّلُطَاتِ الثَّلاَثِ، وَبِالتَّالِي يَكُونُ القَضَاءُ مُسْتَقِلاًّ عَنْ السُّلْطَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ، أَمَّا نِظَامُ الحُكْمِ فِي الإِسْلاَمِ فَلاَ يَفْصِلُ بَيْنَ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَنَجِدُ تَعْرِيفَ السِّيَاسَةِ وَإِدَارَةِ شُؤُونِ العِبَادِ مُنَاطَةٌ بِيَدِ حَاكِمٍ فَرْدٍ، وَفِي النُّظُمِ البَرْلَمانِيَّةِ يُمْكِنُ مُحَاسَبَةُ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ نَفْسَهُ وَمَحَاكَمَتُهُ وَعَزْلُهُ، وَهَذَا لاَ يَتَحَقَّقُ فِي مُجْتَمَعٍ يَقُومُ عَلَى الاِلْتِزَامِ بِالشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ حَرْفِيًّا لِعَدَمَ الفَصْلِ بَيْنَ السُّلُطَاتِ، فَإذَا أَسَاءَ الحَاكِمُ فَلاَ تُوجَدُ جِهَةٌ رَسْمِيَّةٌ عُلْيَا تَحَاسِبِهُ، وَيَكُونُ مَصِيرُ العُلَمَاءِ وَالمُفَكِّرِينَ مَرْهُونًا بِمِزَاجِهِ كَمَا سُجِنَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَعُذِّبَ أَحَمْدُ بْنُ حَنْبَلَ» (مقال بـ " الوطن " في 25/ 3 / 1984 م).

إن هذه الحجة قد ولدت ميتة؛ لأن النظم البرلمانية هي التي لاَ تُخْضِعُ رئيس الدولة للمحاكمة أمام القضاء كما تدل على ذلك الدساتير، والتي إن أخذت بمبدأ المحاكم فإنها تجعل له محكمة خاصة وإجراءات خاصة، لأن الأساس في هذه النظم هو أن رئيس الدولة ذاته مصونة لا تمس، والإسلام يخالف ذلك تمامًا فرئيس الدولة يخضع للقضاء العادي ويحاسب ويحاكم كسائر أفراد الشعب كما هو ثابت في جميع المصادر التاريخية. ويقول اللهُ تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ»، «كُلُّكُمْ لآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ». والفصل بين السلطات مبدأ شرعة الإسلام وطبقه الرسول والخلفاء بعده، فالتشريع محدد في أحكام القرآن والسنة، فلا يستطيع الحاكم أن يشرع طبقًا لهواه وذلك خلافًا للعلمانية، والقضاء مستقل أيضًا عن الحاكم ويخضع له رئيس الدولة، والثابت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيَّنَ قُضَاةَ كما فعل الخلفاء من بعده. ولقد كان الحكام والأمراء والخلفاء يخضعون لهذا القضاء كسائر أفراد الشعب، وحسبنا أن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قد قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1). فالكتاب يشير إلى التشريع، والميزان إلى القضاء، والحديد إلى السلطة التنفيذية. أما الاستشهاد بسجن ابن تيمية وتعذيب أحمد بن حنبل، فهو في غير محله، ذلك أن النظم المسماة بالديمقراطية يستغل فيها بعض الحكام هذا النظام فلا يقتلون فردًا أو يحبسونه فقط، بل يقتلون قُرَى وَمُدُنًا بِأَكْمَلِهَا، ومع هذا لا ينسب ذلك إلى النظام الديمقراطي بل إلى استغلال هذا النظام. والإسلام لا تسمح قواعده عند تطبيقها بهذا الاضطهاد وهذه المظالم ولا يجوز أن يكون خطأ بعض الحكام مبررًا لانتساب ذلك الخطأ إلى الإسلام. ويجب في ظل الحكم المستند إلى الشريعة الإسلامية أن ينص الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى ما يتعلق بمحاسبة الوزراء ورئيس الدولة في النظم الديمقراطية، وكذلك السيادة للأمة مما لا يخالف القرآن والسنة وفيما يقبل الاجتهاد في هذه النصوص بضوابط الاجتهاد الشرعية (¬2). ¬

_ (¬1) [الحديد: 25]. (¬2) نشر في مجلة " المجتمع " يوم 3/ 4 / 1984؛ وفي جريدة " الوطن " يوم 5/ 4 / 1984؛ وفي جريدتي " القبس " و " السياسة " يوم 6/ 4 / 1986.

مفاهيم علمانية خاطئة

مَفَاهِيمُ عِلْمَانِيَّةٍ خَاطِئَةٍ: تحت عنوان " بين العلمانية والشريعة " وعنوان " الإشكال الذي يقع فيه عدد كثير من المفكرين المسلمين ". كتب الدكتور عبد الله العمر يرد على مقال نشر لي بعنوان " الإسلام والعلمانية العربية ". وقد جاء بصدر هذا الرد أنه يلفت نظري إلى الأخطاء، وأنه يصحح لي ولكثير من المفكرين المسلمين الإشكال الذي نقع فيه .. وأنه يحلل العبارات والأقوال التي تضمنها مقالي، ليبين نصيبها من الخطأ والصواب لأنني تناولت فكره ولم أذكر اسمه. لقد جاء في الرد: «أَنَّهُ كَمْ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ أَنْفُسُهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى رَدِّ الأَمْرِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ». ثم وجه إِلَيَّ السُّؤَالَ «هَلْ أَعْتَقِدُ أَنَّ كِتَاب اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهَ وَحْدَهُمَا هُمَا الأَسَاسُ المُطْلَقُ الذِي يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ المُسْلِمِينَ؟ .. إِذْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الأَوَّلُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الاِجْتِهَادِ أَسَاسًا، وَلاَ إِلَى اِعْتِمَادِ القِيَاسِ، وَلَمَا كَانَ هُنَاكَ اِخْتِلاَفٌ بَيْنَ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ ...». هذه العبارات التي نقلناها بالحرف من مقالة هي التي تجعلنا نُذَكِّرُ النَّاقِدَ، ومن قرأ مقالته بالآتي: أَوَّلاً: الدُّكْتُورُ لَيْسَ صَاحِبَ فِكْرٍ: أن الدكتور العُمُرْ ليس صاحب فكر، فهو مقلد لفكر أوروبي له أسبابه وظروفه التاريخية، التي لا تتصل بواقع الأمة العربية من قريب أو من بعيد، وقد سبقه في هذا أساتذة له ولغيره، ثم تابوا عن هذا الخلط والخطأ - مثل الدكتور زكي نجيب محمود، والدكتور خالد محمد خالد، والدكتور مصطفى محمود، والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي .. ولهذا لم يرد اسمه في مقالي، بل أوضحت هذا في صدر المقال بقولي: «بَعِيدًا عَنْ الجَدَلِ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الفُرَقَاءِ وَبَعِيدًا عَنْ المُنْعَطَفَاتِ الإِقْلِيمِيَّةِ وَالمَحَلِّيَّةِ، وَدِفَاعًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ حَتَّى لاَ نَهْلَكَ نَحْنُ وَمُجْتَمَعَاتُنَا بِجُحُودِ شَرْعِ اللهِ». والقضية التي يثيرها ويكتب فيها منذ أسابيع قد ماتت وعفى عليها الزمان، فالعلمانية نشأت في أوروبا كرد فعل للحكم الديني في أوروبا، الذي كان يظن أنه يملك صكوك الغفران والحرمان، ولا يوجد هذا ولا غيره في الإسلام، بل إن الأوروبيين أنفسهم

ثانيا: أين الديمقراطية يا أتباع العلمانية؟

يشيدون بمزايا الإسلام، وأنه دين ودولة .. وآخر كتاب صدر في ذلك هو كتاب " الإسلام والدولة " للصحافي البريطاني (إدوارد مورتيمر) أكد فيه أن الإسلام دين ودولة، وأنه يعني التسليم بأوامر الله والالتزام بها، فلا يعد مسلمًا من ادعى أن من حقه أن يختار شريعة أخرى أو قانونًا آخر غير الإسلام، ويؤكد أنه لا يوجد في الإسلام نظام الحكومة الدينية في أوروبا .. فلا صلة أبدًا بين التشريع الإسلامي وحكومة الكهنوت في أوروبا، وقد شهد بهذا علماء من النصارى منهم الدكتور (نظمي لوقا) في كتابه " محمد الرسول والرسالة " والشمس لا تحتاج إلى شهادة أحد. ولهذا، فمن العبث وضياع الجهد والوقت أن أسترسل في بيان هذه المسألة. ثَانِيًا: أَيْنَ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ يَا أَتْبَاعَ العِلْمَانِيَّةِ؟: يذكر الدكتور العمر أن لي أفكارًا طرحتها في مقالي، وهو يكتب ليصحح ذلك لي ولغيري من المفكرين المسلمين، ولا يجهل أحد من الباحثين وغيرهم، أن ما تضمنه مقالي ليس فكرًا خاصًا بي .. بل هو قواعد أولية في الشريعة الإسلامية، وهذه القواعد تدرس في مدارس المسلمين ومعاهدهم وجامعاتهم، ويعلمها صبيان العلماء منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان. وهذه البديهيات جعلت الشعوب الإسلامية تُجمع في جميع الاستفتاءات على اختيارها الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للقوانين، ولهذا تم تعديل الدستور المصري وتضمن هذا النص، وحدث مثل هذا في السودان، وفي الباكستان، وفي إيران، وأجمع وزراء العدل بمجلس التعاون الخليجي على تعديل القوانين لتتفق مع الشريعة الإسلامية. ولم يكن هؤلاء مكرهين أو مضللين أو جاهلين، حتى يصحح لهم الدكتور العمر عقائدهم وفكرهم .. وإذا كان يستمسك حَقًّا بالديمقراطية لأقر هذه الأغلبية فيما اختارته ورضيت به .. ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يقول شيئًا مما كتبه الدكتور العمر؛ لأن من أبجديات الإسلام أن تؤمن بالله، وهذا الإيمان من شروطه التسليم بما أنزله اللهُ على رسوله .. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). ولكن الدكتور العمر يبتدع مقولة لم يقل بها مسلم، وهي ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 36].

ثالثا: بدهيات لغة التخاطب

قوله: «إِنَّ أَبْنَاءَ المُسْلِمِينَ لاَ يُسَلِّمُونَ بِرَدِّ الأَمْرِ إِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ». ثَالِثًا: بَدَهِيَّاتُ لُغَةِ التَّخَاطُبِ: لقد نقل عبارتي: «وَلَوْ رَدُّوا الأَمْرَ إِلَى صَاحِبِ الأَمْرِ لَمَا تَنَازَعُوا .. لأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ التَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ وَدَعَا عَلَى هَؤُلاَءِ المُتَنَطِّعِينَ»، ثم علق على ذلك مُدَّعِيًا أن في هذه العبارة غموضًا .. إذ لم أكلف نفسي إيضاح ما أعنيه بالتطرف - هل هو الديني أو السياسي أو العلمي أو العاطفي -، ولعل القارئ لا يجهل أن من بدهيات القواعد اللغوية في التخاطب أن حذف المعلوم جائز، ومع هذا لم أحذف معلومًا لأن عنوان المقال " الإسلام بين التطرف والعلمانية " يُفْصِحُ عن أن الموضوع خاص بالتطرف الديني وليس التطرف العاطفي أو غيره. رَابِعًا: صَاحِبُ الأَمْرِ عِنْدَ التَّنَازُعِ: نقل الدكتور العُمُرْ قولي عن التطرف: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ وَلَوْ رَدُّوا الأَمْرَ إِلَى صَاحِبِ الأَمْرِ لَمَا تَنَازَعُوا لأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ التَّنَطُّعِ ...». وقد ادعى أن في هذه العبارة غموضًا كسابقاتها، والغموض عنده أنني لم أفصح من صاحب الأمر الذي يرد إليه .. هل هو القرآن أو القرآن والسنة أم هما مع سيرة السلف ورجال الفقه واجتهاد الأئمة؟. ولا يخفى على القارئ أن العبارة التي يدعي غموضها، فيها تصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن التنطع وَدَعَا على المتنطعين بالهلاك. فصاحب الأمر هنا - وفي هذه المسألة - هو النبي، أي السنة النبوية، لأن هذه التفصيلات وردت في السنة، والقرآن قد أحال إليها في قول الله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). وهذه بدهيات يعلمها الباحث المسلم وغير المسلم حتى لو لم يصرح بها المقال. ومن البدهيات أيضًا، في شريعة الإسلام أنه عند التنازع يرد الأمر إلى القرآن والسنة - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ¬

_ (¬1) [النحل: 44].

خامسا: بين الفلسفة العقلية والوضعية

فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬1). خَامِسًا: بَيْنَ الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ وَالوَضْعِيَّةِ: كما ادعى الدكتور أن العبارة السابقة فيها تناقض في قولي: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ ...»، وقال: «إِنَّنِي عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الفَلْسَفَةَ العَقْلِيَّةَ تَعْنِي شَيْئًا مُخْتَلِفًا تَمَامًا .. بَلْ وَمُتَعَارِضًا كُلَّ التَّعَارُضِ مَعَ مَا تَعْنِيهِ الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَالفَلْسَفَةُ العَقْلِيَّةُ تَنْصَبُّ عَلَى قَوَانِينِ العَقْلِ المُجَرَّدَةِ وَاسْتِنْبَاطِ الأَفْكَارِ مِنَ المَبَادِئِ الأَوَّلِيَّةِ، أَوْ المَقُولاَتِ الفِطْرِيَّةِ التِي لَيْسَتْ لَهَا صِلَةٌ بِالعَالَمِ المَادِّيِّ أَوْ مُسْتَمَدَّةً مِنَ التَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ ... أَمَّا الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَنْصَبُّ أَسَاسًا عَلَى الوَقَائِعِ العَيْنِيَّةِ وَتَسْتَنِدُ فِي الأَصْلِ عَلَى الخِبْرَةِ الحِسِّيَّةِ وَالأَحْدَاثِ التِي تَقَعُ فِي عَالَمِ الطَّبِيعَةِ بِالفِعْلِ ..». وفيما نقله الدكتور من فوارق بين ما يسمى بالمذهب العقلي أو الفلسفة العقلية والتي نادى بها (ديكارت)، و (سبينوزا)، و (ليبز)، و (هيجل) وبين ما يسمى بالمذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية التي نادى بها (أوجست كونت) ... يجد هو وغيره من الباحثين أن بين الفلسفتين عاملاً مشتركًا هو إبعاد الدين عن مجال الأحكام في الأمور التي لا تخضع للتجارب والخبرة الحسية، ويشمل ذلك الأمور الغيبية، وهذه الأمور لها مصدر واحد هو الوحي المنزل على رسول الله .. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬2). أما المذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية فإن كانت تنصب على الوقائع المادية والتجارب الحسية .. إلا أنها تزعم «أَنَّ المَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ المَعْرِفَةُ المَبْنِيَّةُ عَلَى الوَاقِعِ وَالتَّجْرِبَةِ فَقَطْ، وَأَنَّ العُلُومَ التَّجْرِيبِيَّةَ هِيَ التِي تُحَقِّقُ المَثَلَ الأَعْلَى لِلْيَقِينِ» (¬3)، وترتب على هذا الزعم أن تلاميذ هذه المدرسة من قال: «لاَ أَرَى عَقْلَ الأُسْتَاذِ، فَهُوَ بِغَيْرِ عَقْلٍ»؛ لأن هذا المذهب يقوم على زعم آخر كنتيجة لهذه الفلسفة هو «أَنَّ الفِكْرَ البَشَرِيَّ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْتَنِبَ القَطِيعَةَ وَالخَطَأَ إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ قَبْلِيٌّ ..» (¬4). فهذه الفلسفة تتعارض مع الأديان في حصرها المعرفة واليقين في العلوم التجريبية، ¬

_ (¬1) [النساء: 59]. (¬2) [الحديد: 25]. (¬3) " المعجم الفلسفي "، جميل صليبا: ص 91. (¬4) المرجع السابق.

فكل شيء غير محسوس ولا يخضع للتجارب فهو غير يقيني. ولا يخفى على الباحثين أن العلماء اكتشفوا الأصوات والتموجات الكهربائية وهي غير ملموسة ولا مرئية، كما اكتشفوا كوكب النبتون ولم ترصده المناظير الأرضية، بل استدلوا عليه بالأشعة التي صدرت عنه وعكستها كواكب أخرى. وهكذا أصبح من المسلمات العلمية أن تقطع بوجود أشياء غير مرئية بالآثار الصادرة عنها، وهذا ما خاطب به القرآن الناس منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان - قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (¬1). والقرآن المكي مليء بهذه الاستشهادات، فليرجع إليه. لما كان ذلك .. فإن اتفاق الفلسفتين على إبعاد الدين عن مصادر المعرفة، يرفع التناقض الذي ظنه الدكتور الناقد. ومع هذا فعبارتي قد خلت من هذه المقولة والافتراضات الفلسفية التي هي بطبيعتها مقولات نظرية يدور حولها الجدل الذي يبعد كثيرًا عن الواقع، ويستمر هذا الجدل والحوار بغير جدوى وكأن الكلام غاية في ذاته، فقولي: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ ...» هذه العبارة لها أكثر من مدلول: [أ] فهي تجمع بين الفلسفتين وتجعلهما شيئًا واحدًا في خصوصية هذه المسألة، وهي رد الأمر إلى الكتاب والسنة والنعي على من يبعد الدين عن مصادر المعرفة والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، متقدمان ما كان من وضع البشر. [ب] وهي أيضًا تصف الفلسفة العقلية بالوضعية باعتبارها من وضع البشر. [ج] وهي تشير إلى مقالات نشرت عن التطرف، احتكم فيها بعض الكُتَّابِ إلى أساتذتهم في الجامعة - وهم أصحاب فلسفة عقلية وضعية - وكل هذه المدلولات الثلاث واردة في دلالات هذه العبارة، ولكن الموضوع الذي تناوله مقالي هو التشريع الإسلامي الذي لا ينكره علماء الغرب أنفسهم وهو مختلف تمامًا عن هذه الفلسفات النظرية التي تدور في فلك جدلي لا ينتهي .. ومن ثم أترك غيري للأخذ والرد والإرخاء والشد في معاني هذه الألفاظ. ¬

_ (¬1) [ق: 6].

سادسا: الكتاب والسنة مصدر التشريع

سَادِسًا: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَصْدَرُ التَّشْرِيعِ: يزعم الدكتور عبد الله العمر أن الكتاب والسنة ليسا وحدهما الأساس المطلق الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين، وإلا لما احتاج الأولون إلى الاجتهاد والقياس، ولما كان هناك اختلاف بين مذاهب أهل السنة، ولما كان هناك اختلاف بين السنة والشيعة أدى إلى صراعات دامية عبر التاريخ، وينتهي إلى أن صاحب الأمر يجب أن يكون هو العقل وهذا لا يمنع عنده أن يكون للدين دور في تصريف بعض شؤوننا المدنية. وبادئ ذي بدء فالذي لا يختلف عليه أحد من عقلاء المسلمين أو غيرهم أن القرآن الكريم قد نص على رد الأمر إلى الله ورسوله عند التنازع .. أي إلى الكتاب والسنة .. فلا يقبل من أحد أن يزعم أن المسلم له مصدر آخر يحتكم إليه عند التنازع، إذ لو كان مسلمًا لكان الكتاب والسنة هما مصدر الأحكام له ويرد إليهما النزاع وهذه بدهيات في قاموس التشريع الإقليمي والدولي ... فالقانون الدولي الذي أجمعت عليه جميع التشريعات الدولية يقضي أنه عند التنازع في مسائل الأحوال الشخصية يحتكم فيها إلى قانون جنسية الزوجين، إن اتفقت جنسيتهما، أو قانون الزوج إن اختلفت الجنسية. فلا يقبل من أحد أن يختار لنفسه قانونًا غير قانون جنسيته إلا إذا تنازل عن هذه الجنسية واكتسب جنسية أخرى .. والمسلم لا يقبل منه أن يطل الاحتكام إلى تشريع آخر غير الإسلام، فإن كان جَادًّا في طلبه ومنطقيًا مع ما يدعيه من اعتقاد .. فعليه أن يترك دين الإسلام وأن يكتسب الديانة أو الجنسية التي تحقق له السعادة التي ينشدها. ومن البدهي أيضًا أن القرآن في رده الأمر عند التنازع إلى الكتاب والسنة، لا يلغي دور العقل في استنباط الأحكام منها عن طريق الإجماع والقياس عند عدم وجود نص في القرآن والسنة، لأن الإجماع والقياس لا يستقلان بالشرع، بل يبنيان على القواعد العامة في القرآن والسنة وهو ما يعرف باسم مستند الإجماع والقياس .. أما الصراع الدموي بين طوائف من المسلمين تاريخيًا، فلم يكن سببه الدين .. بل الدنيا وأهلها، وهذا لا يجهله أحد من المنصفين. وأيضًا الخلاف بين السنة والشيعة لا يمنع من رد الأمر إلى القرآن، لأنه مصدر مجمع عليه بينهما .. ومن رد الأمر إلى السنة الثابتة عند الفريقين.

سابعا: عرف الصحافة والإعلان التجاري

أما الخلاف في الأحكام الفقهية العلمية فمسألة لا يترتب عليها أي إشكال لا بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم .. فتوجد قاعدة قانونية دولية تسمى «إقليمية القوانين»، ومن مقتضاها خضوع الشخص جبرًا عنه إلى قانون الإقليم الذي يقيم فيه بالنسبة لجميع التشريعات، ما عدا مسائل الأحوال الشخصية فيخضع فيها الشخص لشريعة، - أي قانون جنسية - الزوجين إن اتفقت جنسيتهما، أو قانون جنسية الزوج إن اختلفت جنسيتهما. سَابِعًا: عُرْفُ الصَّحَافَةِ وَالإِعْلاَنِ التِّجَارِيِّ: لفت الدكتور الناقد نظري إلى مخالفتي لما سماه بالعرف السائد في ميدان الكتابة والذي يمنع - في نظره - من أن ينشر مقالي في " المجتمع " بتاريخ 3/ 4 / 1984 وفي " الوطن " بتاريخ 5/ 4 / 1984 وفي كل من " السياسة " و" القبس " بتاريخ 6/ 4 / 1984 .. ويعلل ذلك بأن المقالة الصحفية ليست إعلانًا تجاريًا .. وهذه مقدمة غير صحيحة، لأن النشر للموضوع في أكثر من جهة ليس قاصرًا على الأمور التجارية، وليس بيد أصحاب هذه الموضوعات، بل يرجع إلى الصحف نفسها والمختصين فيها، هم الذين يقدرون مدى صلاحية المقال للنشر من جديد، وهذه ليست أول مقالة لي ولا لغيري يعاد نشرها. فما زالت الصحف المحلية والعربية بل وغيرها تنشر لي ولغيري منذ عشرات السنين دون اعتراض من أحد مِنَ الكُتَّابِ، بل ودون سعي مباشر أو غير مباشر مني .. فإن كان السبب لديه أن مقالي يرد عليه، فإن اسمه لم يذكر في مقالي، وإن قيل: فالمقال يرد على فكره، فإن كان هذا الفكر معلومًا لدى قراء هذه الصحف توجب أن يكون الرد معلومًا لهم، وإن كان مجهولاً عندهم فماذا يضيره أن يقرأوا مقالاً يرد على فكر مجهول لديهم. وأخيرًا فصاحب الحق في النشر من عدمه هي الصحف، فإن امتنعت صحف الكويت، هل يملك أن يمنع صحفيًا في السعودية وقطر والإمارات ومصر والهند وباكستان والأردن نشر المقالات التي تعد دفاعًا عن الإسلام وتوضيحًا لمبادئه، باعتباره عقيدة هذه الشعوب والمصدر الرئيسي لتشريعاتها ونظامها الاجتماعي. - غلق الحوار الجدلي: وأخيرًا فإنني من جانبي أغلق الحوار في هذه الفلسفات العقلية، التي لا ينكر أتباعها أنها تتغير من وقت لآخر ومن كاتب لآخر، بل إن هذا التغيير حاصل في

الفلسفات التي تدعي الحتمية مثل الماركسية، وهو تغيير ظهر أثره في الخلاف بين روسيا والصين، وبينهما وبين الأحزاب الشيوعية في أوروبا، والتي هي الأخرى تختلف أيضًا فيما بينها في الأصول وليس في الفروع، فإن خفي هذا على أحد في الكويت وظن أن العقل هو الفيصل والحكم في الأمور المختلف عليها بين الناس، أو خفي عليه أن التشريع الإسلامي يرتكز على أصول ثابتة لا تتغير ولا تتبدل هي القرآن والصحيح من السنة النبوية، وأنه بهذا يتميز الإسلام عن غيره، كما يتوحد المصدر الذي يحتكم إليه عند الخلاف، كما خفي عليه أسباب الخلاف بين فقهاء المسلمين الذي لا يؤثر في هذه الأمور الثابتة، فلا نحاور في هذه الحقائق فليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر أقوال زكي نجيب محمود في ص 78، 79.

الإسلام والحكم والفصل بين السلطات

الإِسْلاَمُ وَالحُكْمُ وَالفَصْلُ بَيْنَ السُّلُطَاتِ: بتاريخ 23/ 5 / 1984 نشرت " الوطن " مقالاً للدكتور عبد الله العمر بعنوان (فصل المقال وتقرير ما بين العلمانية والشريعة من الانفصال)، وقد خصصه كما قال لتفنيد أفكار لي نشرت في " الوطن " بتاريخ 18/ 4 / 1984، وذلك على الرغم من أن مقالي المذكور تضمن بوضوح أن ما سطرته ليس فكرًا لي ولا لغيري، إنما هي أحكام الإسلام الذي يؤمن به المسلمون، وعلى الرغم أيضًا من أنني ختمت المقال بعنوان (غلق الحوار الجدلي) أعلنت فيه أنني من جانبي أغلق باب الحوار الجدلي في هذه الفلسفات العقلية التي لا ينكر أتباعها أنها تتغير من عصر إلى آخر، بل من كاتب إلى آخر ... أما التشريع الإسلامي فإنه يرتكز على أصول ثابتة لا تتغير وهي القرآن الكريم وما ثبت من السنة النبوية، وهذه الأصول حقائق ثابتة لا يجوز لمسلم أن يحاور فيها، إذ لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل. ولكن لما كان الدكتور في رده ينسب إِلَيَّ مقالي سالف الذكر أمورًا ليست صحيحة بعد أن مضى على المقال شهر تقريبًا نسي فيه القراء هذه العبارات، كما أنه بمقاله يبرهن عملاً على إفلاس العلمانية العربية، وذلك أنها لم تجد في الإسلام صكوك الغفران والحرمان ولا مفهوم الحكومة الدينية، فراحت بلا علم تخلط بين الإسلام وأعمال حكام المسلمين، أو المرتدين عن الإسلام، ومع هذا فلا وجه للقياس على الحكومة الدينية أو الحاكم الذي هو ظل الله في الأرض في أوروبا، والذي إذا أحل شيئًا فهو حلال في السماء، وإذا حرم شيئًا فهو محرم في السماء، كما أن من يدعي أنهم يكفرون غيرهم، فلا يزعم أحد أنهم يملكون صكوك الغفران والحرمان!!. ولذا .. كان لزامًا أن أسطر الجواب التالي، حتى لا تكون هناك فتنة في الدين، وليكون الأمر للهِ وليس لبعض خلق الله. أَوَّلاً: أَيْنَ صُكُوكُ الغُفْرَانِ الإِسْلاَمِيَّةِ؟: نقل الدكتور قولي: «إِنَّ العِلْمَانِيَّةَ نَشَأَتْ فِي أُورُوبَا كَرَدِّ فِعْلٍ لِلْحُكْمِ الدِّينِيِّ هُنَاكَ، الذِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ صُكُوكَ الغُفْرَانِ وَالحِرْمَانِ». ثم كرر عبارات له سابقة هي اختصاصه أن «يُبَيِّنَ نَصِيبَ هَذَا الكَلاَمِ مِنَ الصِّحَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَ فِي مَرَّاتٍ سَابِقَةٍ». ثم قال: «لَوْ افْتَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ العِبَارَةَ صَحِيحَةٌ مِنَ النَّاحِيَةِ التَّارِيخِيَّةِ، فَهَلْ يَخْتَلِفُ حَالُنَا اليَوْمَ

مَعَ رِجَالِ الدِّينِ المُسْلِمِينَ المُتَطَرِّفِينَ عَمَّا دَرَجَ عَلَيْهِ رِجَالُ الكَنِيسَةِ فِي قَضِيَّةِ صُكُوكِ الغُفْرَانِ، أَوْ طَرْدِ النَّاسِ مِنَ الكَنِيسَةِ، أَلاَ يَعْمَلُ رِجَالُ الدِّينِ المُتَطَرِّفُونَ فِي يَوْمِنَا هَذَا عَلَى تَكْفيرِ كُلَّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ أَوْ يُسِيءُ إِلَيهِمْ، وَهَلْ غَابَ عَنْ بَالِنَا أَنَّهُمْ رَاحُوا بِكُلِّ سَذَاجَةٍ أَوْ غَبَاءٍ يَهْدِرُونَ دَمَ الذِينَ لاَ يُشَاطِرُونَهُمْ الرَّأْيَ، وَيَخْرُجُونَ عَلَيْنَا بِفَتْوَى تُؤَكِّدُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى مَنْ عَصَى لَهُمْ أَمْرًا، وَلاَ يَصِحُّ دَفْنُ مَنْ خَرَجَ عَلَى مِلَّتِهِمْ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ؟». وجوابي على ذلك هو: 1 - سبق أن كرر الدكتور أنه يصحح لي ولكثير من المفكرين المسلمين أخطاءنا والإشكال الذي نقع فيه بشأن العلمانية. ونود أن يتذكر الدكتور أن الذين يصحح لهم أفكارهم ليسوا هم أصحاب هذه الأفكار، إن صح تسميتها أفكارًا، فهم يستمسكون بنصوص القرآن والسنة النبوية، ويعتقدون أن كل مسلم لا يملك أن يتجاوز حدود هذه النصوص؛ لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). 2 - التصحيح لا يكون إلا بالاحتكام إلى مصدر لا خلاف عليه، لهذا فالمسلمون يحتكمون إلى القرآن والسنة، والشيوعيون يحتكمون إلى الماركسية والدكتور من المسلمين .. ولم يقل أحد خلاف ذلك - لم يكتب يومًا المصدر الذي احتكم إليه ليصحح لنا ولغيرنا هذا الفكر، ويفترض أنه كمسلم يرد الأمور المختلف فيها إلى القرآن والسنة، فهل في أقوالي وأفكاري ما يخالف القرآن والسنة؟ وأين هذه المخالفة؟ أما إن ادعى أن الإسلام لا يمنعه من تحكيم عقله أو عقل غيره من الناس في هذا، فالإسلام ليس أسرارًا خفية لا يعلمها إلا الكهنة، وليس له لغة لا يفقهها إلا الأحبار والرهبان، بل هو آيات بينات أقام عليها حضارة علمية ومدارس فقهية وفكرية. ويقول الله عن هذه الآيات: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬2). والإسلام يرد على هذه البدعة بقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬3). 3 - إن الإنسان الذي يملك صكوك الغفران والحرمان هو الذي يملك تصحيح أفكار ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 36]. (¬2) [القمر: 17]. (¬3) [النساء: 60].

الناس بقوله المجرد؛ لأنه يعتقد أنه لا ينطق إلا باسم الله الذي فوضه في ذلك، وليس بين المسلمين من يدعي لنفسه ذلك، فكيف يدعي هو ذلك؟ لأنه يرفض أن يكون القرآن والسنة المصدر الذي نحتكم إليه. 4 - إن الربط بين بعض المتطرفين المسلمين وبين صكوك الغفران لرجال الدين في أوروبا أمر غير صحيح، وهو قياس مع الفارق، فرجال الدين في أوروبا كانوا يزعمون أنهم يتحدثون، باسم الله، ولهذا فإن ما يحلونه في الأرض يحله الله في السماء، وما يحرمونه في الأرض يحرمه الله في السماء وهم يستندون في ذلك إلى " الإنجيل " الذي ينص على أن ما يحله عيسى باعتباره ابْنًا للهِ يحله الله في السماء، وما يحرمه في الأرض يحرمه الله في السماء، ولهذا لجأ الناس إلى العلمانية وهي عدم المبالاة بالدين والاعتبارات الدينية. فهل يوجد من المسلمين من يدعي أنه يملك صكوك الغفران والحرمان، بمعنى أنه يملك أن يطرد أحدًا من جنة الله، أو أن يدخله هذه الجنة لأنه يملك أن يحط عنه ذنوبه أو يحملها عنه. نرجو أن يدلنا الدكتور بالاسم على من يقول بذلك من المسلمين لندخله مستشفى المجانين؛ لأنه بهذا يكون قد فقد عقله أَوْ اسْتَحَقَّ الحَجْرَ عَلَيْهِ. 5 - أن من أسماهم بالمتطرفين المسلمين لا يكفرون من خالفهم، أو أساء إليهم ولا يهدرون دم من خالفهم في الرأي. بل يقولون إن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو فعل فعلاً لا يحتمل إلا الكفر فقد حكم على نفسه «بِإِنْكَارِهِ أَوْ فِعْلِهِ» بالكفر، وجعل نفسه نِدًّا للهِ، ويكفر بذلك بالإجماع. كما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أهدر دم المرتد عن الدين الخارج عن الجماعة، وأن الذي يوقع العقوبة هو الحاكم المناط به تنفيذ أمر العقوبات، كأي نظام اجتماعي في الدنيا بأسرها. كما أنهم لا يبتدعون حكمًا من عند أنفسهم بل يقولون بحكم الله تعالى، الذي أجمع عليه المسلمون وكان على من رمى هؤلاء بالتطرف أن يذكر النص الشرعي الذي خالفوه. أما من خرج على هذا الإجماع وزعم أن المسلم لا ينبغي أن يحتكم إلى شريعة الله، فقد انطبق عليه قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، ولكن لا نحدد أشخاصًا أو أسماء لنقول إنها بأسمائها وأعيانها كفرت؛ لأن هذه مهمة المحكمة الإسلامية فيما يعرض عليها من وقائع وليست مهمة الأفراد.

ثانيا: الأوروبيون وخصوم الإسلام

6 - لا يجوز أن ينسب الدكتور أمورًا كهذه أو غيرها إلى أحد دون أن يذكر أسماءهم، أو المصدر الذي نشروا فيه هذه الأقاويل أو غيرها، مما ذكره الدكتور في مقاله. كما لا يجوز له ولا لغيره في مجال الرد على شخص بعينه أن يعمم القول بالتطرف الديني؛ لأن الحكم بالتطرف يستلزم ذكر اسم المتطرف، والأقوال أو الأعمال التي تعد من التطرف، ثم بيان المصدر الذي يصف القول أو العمل بالتطرف؛ لأنه بغير ذلك تصبح الاتهامات بجميع أنواعها سلاحًا إرهابيًا بيد كل كاتب ليشهره في وجه من شاء بغير قيود ولا ضوابط. ثَانِيًا: الأُورُوبِيُّونَ وَخُصُومُ الإِسْلاَمِ: نسب الدكتور إِلَيَّ القول: «إِنَّ الأُورُوبِيِّينَ أَنْفُسُهُمْ يُشِيدُونَ بِمَزَايَا الإِسْلاَمِ». ثم رتب على هذه المقدمة الافتراضية نتائج أهمها: أ - أنني أعمم هذا الحكم على جميع الأوروبيين فيما يتعلق بالإسلام. ب - إن هذا ربما يؤدي إلى القول بأن خصوم الإسلام هم المعسكر الشيوعي وإسرائيل وجنوب أفريقيا، بينما المعسكر الغربي يناصر الإسلام. ج - إن كان هذا هو طابع الإشادة الأوروبية بإسلامنا فما عسى أن يكون سلوك الغرب نحونا. د - هل يجوز أن نقول إن الغربيين يناصرون الإسلام بالفعل أو يتعاطفون مع مطالبنا وحقوقنا. ولعل هذه النتائج نفسها تؤكد أن ذلك ليس مقصودًا من هذه العبارة مع أنها قد اجْتُزِئَتْ من موضوع في مجمله لا يمكن أن يفهم منه أي شيء من ذلك، حتى لو حذف حرف في الطباعة فإن سياق الكلام لا يؤدي أبدًا إلى هذا الخلط. وَمَا كَتَبْتُهُ هُوَ: «الحُكْمُ الدِّينِيُّ فِي أُورُوبَا، الذِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ صُكُوكَ الغُفْرَانِ وَالحِرْمَانِ، وَلاَ يُوجَدُ هَذَا وَلاَ غَيْرُهُ فِي الإِسْلاَمِ، بَلْ إِنَّ الأُورُوبِّيِّينَ أَنَفْسُهُمْ يُشِيدُونَ بِمَزَايَا الإِسْلاَمِ، وَأَنَّهُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ .. وآخِرُ كِتَابٍ صَدَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ " الإِسْلاَمُ وَالدَّوْلَةُ " لِلْصَّحَافِيِّ البَرِيطَانِيِّ (إِدْوَارْدْ مُورْتِيمَرْ) أَكَدَّ فِيه أَنَّ الإِسْلاَمِ دِينٌ وَدَوْلَةٌ، وَأَنَّهُ يَعْنِي التَّسْلِيمَ بِأَوَامِرِ اللهِ وَالاِلْتِزَامِ بِهَا» (*). وما كان للدكتور العمر أن يجتزئ عبارة من هذه العبارات ويفصلها عن باقي سياق الموضوع ليخلص إلى المقدمة والنتائج سالفة الذكر. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر هذه الفقرة في: ص 56 و 57 من هذا الكتاب.

ثالثا: الخلط بين نقد الإسلام ونقد دعاته

فسياق الكلام أن الأوروبيين لا يقولون بما يقول هو به عن الإسلام في خصوص الحكومة الدينية وصكوك الغفران الإسلامية. فكيف يتحول هذا السياق إلى مقدمة خاطئة ونتائج أكثر خطأ وشططًا. ثَالِثًا: الخَلْطُ بَيْنَ نَقْدِ الإِسْلاَمِ وَنَقْدِ دُعَاتِهِ: يردد أنصار العلمانية العربية والقومية العربية، أن المسلم إذا تكلم في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يكون بهذا قد عرض فكره للنقد وتأسيسًا على هذه المقولة يرد الدكتور العُمُرْ أنه يصحح لكثير من المفكرين المسلمين أفكارهم، عندما يقولون: إن القرآن والسنة وحدهما هما الأساس المطلق التي يمكن أن تجتمع عليه كلمة المسلمين. هذه المقولة يمارس أصحابها نوعًا من الإرهاب الفكري، ليبرروا لأنفسهم الطعن بعدم صلاحية القرآن والسنة. ولا يخفى على أحد أنه إن كان الفكر الذي يطرحه دعاة الإسلام في هذه الأمور مستندًا إلى القرآن والسنة، فهو ليس اجتهادًا منهم يقبل النقد والتجريح، بل هو حكم الله الذي لا يحل لمسلم أن يخالفه. فهذا هو الفيصل في هذه الأمور، فالله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). رَابِعًا: الخَلْطُ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَأَعْمَالِ الحُكَّامِ: نقل الدكتور قولي: «الشُّعُوبُ الإِسْلاَمِيَّةُ تَجْمَعُ فِي جَمِيعِ الاِسْتِفْتَاءَاتِ عَلَى اخْتِيَارِهَا الشَّرِيعَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ، وَلِهَذَا تَمَّ تَعْدِيلُ الدُّسْتُورِ المِصْرِيِّ وَتَضَمَّنَ هَذَا، وَحَدَثَ مِثْلَ هَذَا فِي السُّودَانِ وَالبَاكِسْتَانِ وَإِيرَانَ». هذه العبارة نقلها وحدها من السياق الذي يدلل على أن المسلمين يجمعون على الاحتكام للإسلام وليس إلى العلمانية كما يدعي أصحابها من العرب، وذلك رَدًّا على مقال له بتاريخ 14/ 4 قال فيه: «كَمْ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى رَدِّ الأَمْرِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ». ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 36].

خامسا: الإسلام والفصل بين السلطات

ولكن الدكتور بهذا التصرف في العبارات يصل إلى ما يريد في قوله: «إِنَّ الفِكْرَ يَحَارُ بِالفِعْلِ حَوْلَ الاِسْتِشْهَادِ بِتَجَارِبِ السُّودَانِ وَالبَاكِسْتَانِ وَإِيرَانَ، أَيُعْقَلُ أَنْ نَسْتَشْهِدَ بِمُمَارَسَاتِ هَذِهِ المُجْتَمَعَاتِ، وَهِي عَلَى مَا هِي عَلَيْهِ مِنْ فَوْضَى وَتَرَدِّي وَاِسْتِبْدَادٍ». ولا يوجد في سياق كلامي ما يدل على هذا، بل فيه أن قواعد الشريعة تدرس في المدارس والمعاهد، ويعلمها صبيان العلماء منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان، وهذه البدهيات جعلت الشعوب الإسلامية تجمع في جميع الاستفتاءات على اختيار الشريعة الإسلامية. إنه بنفس المنطق رد الدكتور البغدادي بتاريخ 21/ 4 فقال: «إِنَّ مَا يُرَدِّدُهُ الدُّكْتُورُ العُمَرُ لاَ يَقولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكِلاَنَا لاَ يَعْنِي الاِسْتِشْهَادَ أَوْ التَّمَسُّكَ أَوْ الإِشَادَةَ بِالمُمَارَسَاتِ الاِسْتِبْدَادِيَّةَ فِي هَذِهِ المُجْتَمَعَاتِ مَعَ أَنَّ الاِسْتِبْدَادَ لَيْسَ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ بَلْ مِمَّنْ بِيَدِهِمْ السُّلْطَةُ فِيهَا». ولكن الدكتور العمر يحلو له أن يجعل من أعمال بعض الحكام أو أكثرهم دليلاً على عدم صلاحية التشريع الإسلامي، ولعله يذكر أن مقاله في 16/ 4 قد تضمن الاستشهاد بحكام بني أمية، ليدلل على أن الإسلام حكم فردي مطلق لا فصل فيه بين السلطات. خَامِسًا: الإِسْلاَمُ وَالفَصْلُ بَيْنَ السُّلُطَاتِ: ولقد ردد الدكتور في مقاله سالف الذكر أن «فِي نِظَامِ الحُكْمِ الإِسْلاَمِيِّ السُّلُطَاتُ الثَّلاَثُ التَّشْرِيعِيَّةُ وَالتَّنْفِيذِيَّةُ وَالقَضَائِيَّةُ جَمِيعُهَا مُنَاطَةٌ بِيَدِ حَاكِمٍ وَاحِدٍ فَرْدٍ، وَوَاحِدٌ مُنْفَرِدٌ لاَ يُحَاسِبُهُ أَحَدٌ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». وسبق أن كرر ذلك في مقاله بتاريخ 25/ 3 / 1984 وزاد أن مصير العلماء والمفكرين في الحكم الإسلامي يكون مرهونًا بمزاج الحاكم. ولا يخفى على أحد من المسلمين على الأقل أن التشريع في النظام الإسلامي ليس من اختصاص الحكام أو غيرهم، ومن ادعى الإسلام ثم طلب الاحتكام عند التنازع إلى غير القرآن والسنة قال الله عنه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} (¬1). فكيف يكون التشريع في النظام الإسلامي بيد حاكم فرد وهو لا يملك ذلك، وقد سبق ¬

_ (¬1) [النساء: 60].

سادسا: تكفير المخالف والإساءة إليه

أن تضمن مقالي الأول في 5/ 4 / 1984 بيان ذلك وأن الإسلام لا يجمع بين السلطات الثلاث واستشهدت بالآية 25 من سورة الحديد (¬1). أما من يستشهد بالتطبيق في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه مبلغ عن الله، ولا يشرع من نفسه كما لا يحكم بشيء من عند نفسه، حيث كان يتنزل الوحي بحكم الله تعالى، فلا يوجد جمع في يده بين السلطات وقد أنزل الله عليه ليعلن للناس كافة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]. ومع هذا فقد عين قضاة في بعض الاختصاصات، وآخرين في البلاد البعيدة. فقد عين كُلاًّ من الإمام علي وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل قضاة في أقاليم متفرقة من اليمن. أما الخليفة أبو بكر الصديق فقد بدأ بفصل القضاء عن الحكم، فعين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة التي بها مقر الحكومة، كما عين قضاة للأقاليم. أما عمر بن الخطاب فكتابه الذي هو دستور القضاء قد أشاد به المتخصصون من الأوروبيين حيث توسع في هذا الأمر وفي النظم الإدارية. أما الإمام علي بن أبي طالب فيكفي أنه ظل حكمه وخلافته اختلف مع يهودي على درع، فاحتكما إلى القاضي واستشهد الخليفة بابنه الحسن وتابعه قنبر، لأن الإمام علي يرى قبول شهادة الابن فالعبرة بالعدالة والثقة، ولكن القاضي لا يرى ذلك فاكتفى بشهادة قنبر، وانتهى في حكمه إلى رفض دعوى الإمام علي لعدم اكتمال الشهادة. ومع هذا فما زال العلمانيون العرب يتخيلون أن الإسلام ليس فيه مبدأ الفصل بين السلطات، ثم ينسبون إلى الإسلام ما ليس فيه. سَادِسًا: تَكْفِيرُ المُخَالِفِ وَالإِسَاءَةُ إِلَيْهِ: ورد في رد الدكتور العمر عبارة «أَنَّهُمْ رَاحُوا بِكُلِّ سَذَاجَةٍ وَغَبَاءٍ يَهْدِرُونَ دَمَ الذِينَ لاَ يُشَاطِرُونَهُمْ الرَّأْيَ». «تَكْفِيرُ كُلَّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ وَالإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ». وفي رده على مقالي المنشور في 18/ 4 قال: «عَجِبْتُ مِنْ رَدِّهِ وَالتَّقَوُّلاَتِ التِي جَاءَتْ فِي مَقَالَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ ¬

_ (¬1) قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

يَتَقَوَّلَ بِعِبَارَاتٍ أَوْ يَخْتَلِقَ أَفْكَارًا مِنْ عِنْدِهِ وَيَنْسِبَهَا إِلَيَّ». وفي الوقت الذي يصف فيه مقالي بالتشنج والسخط يقول في مقاله بتاريخ 23/ 4 تعليقًا على قولي أنه ليس صاحب فكر «أَشْكُرُهُ لأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الوَصْفِ، وَلَمْ يُكْمِلْ بَقِيَّةَ السِّلْسِلَةِ مِنَ التُّهَمِ وَالافْتِرَاءَاتِ وَالسَّبِّ وَسَاقِطِ القَوْلِ». وهذا منه يدل أنه لا يوجد في مقالي غير عبارة «لَيْسَ صَاحِبَ فِكْرٍ». ومع هذا يكتب عن التقول عليه واختلاق الأفكار ونسبتها إليه، وعن تكفيره والإساءة بكل سذاجة وغباء (¬1). وكل عالم يدرك أن وصفي له في هذا الحوار أنه ليس صاحب فكر، ليس من السباب وساقط القول، كما يقول من ناصره بغير بينة. فالدكتور يردد أفكار العلمانيين العرب، ومن أخذوا عنهم من اليهود، ويفتخر أنه يقلد الدكتور زكي نجيب محمود، الذي تعهد بنشر المذهب الوضعي في العالم العربي، ثم رجع عن كثير من معقتداته الأوروبية (¬2). ¬

_ (¬1) " الوطن " في 9/ 6 / 1984. (¬2) ستأتي أقوال زكي نجيب محمود والتي تدل على تراجعه عن فكره في ص 78، 79.

العلمانية الأوروبية والعلمانية العربية

العِلْمَانِيَّةُ الأُورُوبِيَّةُ وَالعِلْمَانِيَّةُ العَرَبِيَّةُ: (¬1). ما إن نشرت مقالاً باسم " الإسلام والعلمانية العربية " حتى بدأ الدكتور عبد الله العمر من ذلك التاريخ في أوائل إبريل وحتى اليوم يكتب معلنًا، إنه يصحح لكثير من المفكرين المسلمين أوهامهم وأخطاءهم. وسبيله للتصحيح أن يقدم كلمات من المقال يفصلها عن باقي سياق الموضوع، ليصل إلى نتيجة يريدها من ذلك أن اعتبر أني أقول بعدم وجود نظام لمحاسبة الحاكم في النظام الديمقراطي، وهو يعلم أني لو جهلت ذلك ما حصلت على ليسانس الحقوق، ويبني على ذلك أن يقدم من الدساتير الغربية الأدلة والبراهين على شيء لم أخالفه فيه، حيث كان قولي إن النظام الإسلامي ينفرد بنظام لمحاسبة الحاكم حيث يجعله كالأفراد العاديين، فلا تشكل له محكمة خاصة وإجراءات خاصة، ولم أقل بعدم وجود نظام لمحاسبة الحاكم في النظام الديمقراطي. وفي مقال آخر يثبت لنا أصول التعامل مع غير المسلمين، مظهرًا أننا نحمل سيفًا أو نلعنهم مساءً ونحن نعلم قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2). لهذا آثرت وكتبت ردًا واحدًا فقط أعلنت فيه غلق باب الحوار ولكن الدكتور استمر في أسلوبه هذا. وبتاريخ 23/ 5 / 1984 كتب الدكتور العمر يقول: إنه يرد على مقالي المنشور في 18/ 4 ليصحح ما به من أخطاء. وفي سبيل ذلك ربط بين صكوك الغفران والحرمان في أوروبا، وبين من سماهم رجال الدين المتطرفين من المسلمين، ووصفهم بتكفير من يخالفهم في الرأي، وأنهم بكل سذاجة وغباء يهدرون دم الذين لا يشاطرونهم الرأي. وسبق أن رد على هذا المقال بتاريخ 23/ 4 / 1984، فقال: إنه يتعجب من التقولات التي جاءت في مقالي وإن عباراتي عاطفية ساخطة، وأنه يبين مواطن الضعف والخطأ في تصوراتي وأوهامي، لأني صاحب فكر مزيف هدام! وهو يعلم أن فكري من الإسلام ولا يستطيع أن يقول إنني ادعيت غير ذلك، أو أن يثبت خروج هذا الفكر على القرآن والسنة. ¬

_ (¬1) " الوطن ": 16/ 6 / 1984. (¬2) [الأنعام: 108].

أولا: حقيقة العلمانية

وفي مقال بتاريخ 28/ 4 / 1984 كتب الأستاذ الأديب / عبد الرزاق البصير أن وصف الدكتور أنه ليس صاحب فكر يعد من الشتائم، وأن الأقلام التي ردت عليه لم تلتزم الأصول العلمية للنقاش واتصفت بالتشنج. ومع خلو مقالاتي من السباب ومن التشنج والتكفير بالرأي ومع التزامي الأصيل بغلق باب الجدل مع هذه الفلسفات، لأنها في الحقيقة تكرر الفكر العلماني الذي نشأ في أوروبا كرد فعل لصكوك الغفران والحرمان، ولمظالم رجال الدين والحكومة الدينية بمفهومها الكهنوتي الأوروبي. إلا أنني سطرت إيضاحًا هذه تكملته، لأن ادعاء الرد على مقالي بعد شهر من نشره، ثم نقل عبارات منه وفصلها عن سياقها، ثم ترتيب نتائج على هذه العبارة، أمر لا يسيء إِلَيَّ فقط بل إلى المناهج العلمية كلها، وهذا ما فضلت الرد عليه بمقالي السابق، وحتى اليوم لم يحدد أحد ما هي الشتائم عندي وما هو التكفير أو التقول على الدكتور العمر أو غيره. وفي سبيل غلق هذا الجدل مرة أخرى أحصر الخلاف في هذه القضية في الآتي: أَوَّلاً: حَقِيقَةُ العِلْمَانِيَّةِ: العلمانية تعني عدم المبالاة بالدين والاعتبارات الدينية كما جاء في " المورد ": ص 827 لكملة SECULARISM والعلمانية هي قواعد غير مرتبطة بالقواعد والأنظمة الرهبانية، ولا بالقواعد ذات العلاقة بالكنيسة أو الأنظمة الدينية (¬1). 1 - فليس صحيحًا أن العلمانية تعني التقدم العلمي الصناعي، أو أن من تعريفاتها الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فالأنظمة التي تتبنى الشيوعية ولا تفصل بين هذه السلطات هي أنظمة علمانية، لأنها تتبنى قواعد غير دينية. 2 - والذين ينكرون الأخذ بالعلمانية في المجتمع الإسلامي - أي الذي يتكون من أغلبية إسلامية - لا يريدون السعي إلى الاستبداد وعدم الفصل بين السلطات. ولا ينكرون التقدم الصناعي والعمراني، بل يسعون إلى كل ذلك. فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ»، والله - عَزَّ وَجَلَّ - يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ¬

_ (¬1)) المرجع " قاموس أويستر ": ص 1044.

فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (¬1). 3 - كما أنهم لا يردون أي فكر أو حضارة لا تحل الحرام أو تحرم الحلال، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ [أَحَقُّ بِهَا]». 4 - لهذا فما زلت أقول إن من خلطوا بين الإسلام والحكومة الدينية، ومن ينادون بالعلمانية في المجتمعات الإسلامية ليسوا أصحاب هذا الفكر فهم مقلدون لأوروبا. بل إن تقليدهم هو إشهار علني لإفلاس العلمانية العربية، لأن العلمانية الأوروبية كانت رد فعل لصكوك الغفران والحرمان ولمظالم الحكومة الدينية هناك، والذي تبنى حرق العلماء التجريبيين بتهمة ممارسة السحر الأسود، ومخالفة الإرادة الإلهية، وكل هذه الخرافات ليست في الإسلام، ولا يجوز لمسلم أن يقول بها، أو أن يدعي أنه يملك هذه الصكوك، وإلا تم الحجر عليه قانونًا وأودع إحدى المصحات. 5 - وخير للعلمانيين العرب أن يكونوا مقلدين للعلمانية الأوروبية، لأن نسبة نشأة العلمانية إليهم يخالف الحقائق التاريخية ويجعل مناداتهم بالعلمانية في المجتمع الإسلامي أمر فيه تقول وافتراء على التشريع الإسلامي، وتكذيب للقرآن والسنة. وخير لهم أن يكونوا مقلدين لآخرين من أن يكونوا مكذبين لله ولرسوله. ولهذا فوصفهم بأنهم ليسوا أصحاب فكر، أي الفكر العلماني كما هو واضح من سياق المقال المنشور في 18/ 4، أمر ليس من الشتائم وهو خير لهم من التكذيب والافتراء على الله ورسوله. 6 - إن عبارات التكفير والسب والشتم والأوهام والسخط والنقولات، هي من الاتهامات التي ساقها ضدي الدكتور العمر، فكان لزامًا عليه أن يجدد هذه الاتهامات، وأين نشرت، ومن هو صاحبها؟ فمن المسلمات الأخلاقية ألا تنهى عن خلق ثم تأتي بمثله، فضلاً عن ذلك فإن كان الوصف بالتكفير قد ورد عن قول له أو لغيره فإن الفيصل في هذه المسألة لا يكون بأهواء من يكفر الغير، ولا بآراء من ينادي بعدم صلاحية الإسلام، بل برد الأمر المختلف فيه إلى نصوص القرآن والسنة، فهل دلت هذه النصوص على عدم كفر من أنكر أمرًا معلومًا من الدين، أو عدم كفر من أعلن خطأ القرآن والسنة؟ وذلك على الرغم من أن مقالي لم يحدد شخصًا بعينه وينسب إليه الكفر، أو غلى آخرين. ¬

_ (¬1) [العنكبوت: 20].

ثانيا: العقل بين الخلاف والاحتكام إلى السيف

7 - إن هذه الأسباب وغيرها جعلت دعاة اليسار في مصر وبعض البلاد العربية يغيرون في مناهجهم العلمانية، ويجعلون الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع (¬1)، كما أن مجلس التعاون الخليجي أصدر قرارًا بتعديل التشريعات، لتتفق مع الشريعة الإسلامية. كل ذلك إشهار لإفلاس العلمانية العربية. وأما تمسك الدكتور العمر بعبارة مصدر رئيسي، ورفضه عبارة المصدر الرئيسي، فإن كان الهدف منها إدخال مصادر أخرى تحلل الحرام وتخالف الإسلام، فذلك من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا الله أن نكفر به، أما إن كان الهدف الأخذ بتجارب الغير فيما لا يحرم أو يحلل من دون الله فذلك قد أمرنا اللهُ به. وإن كان الهدف تجنب تسلط أنظمة لا يطمئن إليها وعدم تبصيره بحكم يحترم شعبه ودينه فذلك يحتاج إلى صياغة أوردتها في مقالي الأول. ثَانِيًا: العَقْلُ بَيْنَ الخِلاَفِ وَالاِحْتِكَامِ إِلَى السَّيْفِ: يحاول الدكتور العمر أن يرد على قولي أنه جاء بشيء لم يجرؤ عليه أحد بين المسلمين، حيث يبتدع مقولة لم يقل بها مسلم، وهي أن أبناء المسلمين لا يسلمون برد الأمر إلى القرآن والسنة فيقول: 1 - هل هناك اتفاق بين المسلمين على مرتكب الكبيرة، هل يظل مسلمًا أم يخرج من ملة الإسلام؟ 2 - هل تجوز الثورة على الحاكم، أو يصير المسلم على جور الحاكم وظلمه؟ 3 - هل حدثت الفتنة الكبرى منذ القدم أو اختلفت آراء المسلمين فظهرت فرق الخوارج والشيعة والمرجئة؟ لولا تباين في وجهة نظرهم حول الكتاب والسنة. 4 - لماذا لا يلجأ المسلمون إلى الكتاب والسنة ليضعوا حدًا للنزاعات كمصيبة الحرب بين العراق وإيران؟ أَسْبَابُ الخِلاَفِ: ولعل الدكتور لا ينكر أن الخلاف بين المسلمين لم يكن حول الاحتكام إلى القرآن ¬

_ (¬1) انظر قول زكي نجيب محمود في نهاية هذا المقال.

والسنة الثابتة عند كل منهم فهذا لا يقول به مسلم. بل كان الاختلاف حول دلالات الألفاظ في القرآن والسنة، وأيضًا كان بعضه بسبب ثبوت الحديث النبوي في الموضوع المختلف فيه، فمن ثبت عنده الحديث أخذ به ومن شك في رواته عمل بالقياس على الثابت في السنة، وعلى القرآن الكريم، والعمل بالقياس لا يعني الاختلاف حول القرآن والسنة. ولقد تم إيضاح ذلك في مقالي الذي يرد عليه فقلت: «وَمِنَ البَدَهِيِّ أَنَّ القُرْآنَ فِي رَدِّهِ الأَمْرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لاَ يُلْغِي دَوْرَ العَقْلِ فِي اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مِنْهَا عَنْ طَرِيقِ الإِجْمَاعِ وَالقِيَاسِ، عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ نَصٍّ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، لأَنَّ الإِجْمَاعَ وَالقِيَاسَ لاَ يَسْتَقِلاَّنِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَلْ يُبْنَيَانِ عَلَى القَوَاعِدِ العَامَّةِ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ مُسْتَنَدِ الإِجْمَاعِ وَالقِيَاسِ». وإذا كان الدكتور يظن أنه توصل إلى نظرية تحسم الخلاف وتؤدي إلى المحبة والوئام، وهي كما كرر في مقالات سابقة وفي مقالة بتاريخ 24/ 5 / 1984 اتخاذ العقل حَكَمًا فِي المُنَازَعَاتِ، وإبعاد الدين والفصل بين الدين والدولة. فإن أكثر أسباب الخلاف ترجع إلى العقل سواءً كان التشريع علمانيًا أم دينيًا، وذلك لاختلاف العقول في قوة الاستنباط، أو ضعفه، وإدراك دلالات الألفاظ أو الجهل بها، أو الغوص في أعماق المعاني. فالتشريع الذي يحتكم إليه الناس سواءً كان لا دينيًا أو شرعيًا، ما هو إلا نصوص يفسرها العقل الذي يختلف حكمه للأسباب السابقة، وأيضًا لاختلاف البيئات والمؤثرات والمصالح، ولهذا اختلف فقهاء القانون في كل مجتمع. وإذا كان الناس قد اختلفوا ويختلفون عند تفسير التشريع الذي يحتكمون إليه، فما بالنا لو طبقت نظرية العلمانيين وأبعدنا حكم الله واحتكم كل منا إلى ما يريد بعقله، إذًا لكثرت النظريات والتشريعات ولتقاتل أصحابها. إنها الطامة الكبرى والصراع الدائم والحروب التي لا نهاية لها، وما أمر المعسكر الشرقي بأجنحته، والمعسكر الغربي بأجنحته ببعيد عن أحد لهذا كانت رحمة الله بالناس، وتمثلت في قواعد تشريعية أهمها: 1 - أن يكون التشريع من عند الله، لأن الاحتكام إلى عقول الناس يزيد من الخلافات، ولأن مجال عمل العقول فيما يخضع للتجارب، وعلاج الغرائز أمر لا يخضع للتجارب.

الخلاف والسيف

2 - استقلال القضاء وحيدته ونزاهته، لأنه الأمين على تطبيق هذا التشريع. 3 - تحويل الحاكم صلاحية الحسم في الأمور الخلافية وعند التنازع، فإذا ما حكم بموجب هذه الصلاحية وفي هذه الحالات لا يجوز للعلماء والفقهاء أن يردوا حكمه إلا إذا خالف نصًا صريحًا قطعي الدلالة أو خالف إجماعًا. وفي هذا كله قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ...} (¬1). الخِلاَفُ وَالسَّيْفُ: إن الخلافات التي نشبت بين الخوارج وغيرهم لم يكن سببها شرع الله، بل إن شرع الله عصم الأمة من الاستمرار في القتال، وذلك بالاحتكام إلى القرآن والسنة. لقد زال الخلاف وأجمع المسلمون سنة أربعين هجرية، وسمي بعام الجماعة. وكان سبب الخلاف هو اختلاف العقول في فهم نصوص الشريعة، واستخدام السيف والقتال لا يرجع إلى الشرع بل يرجع إلى استخدام العقل في غير موضعه وهل كانت الحروب بين الكوريين أو الصينيين بسبب الدين؟ وما ردده الدكتور العمر من أن القتال بين العراق وإيران سببه الدين، أمر لا أساس له من الصحة أو الواقع ولا يجوز السعي إليه، فهل كانت العراق تتبنى مذهبًا دينيًا، وبسببه اختلفت مع إيران ونشبت الحروب. وهل كان القتال بسبب الاختلاف حول شيعية إيران وسنية العراق؟ أم أن الخلاف له جذور ترجع إلى عصر الشاه. وإنه لمن الفتنة أن ترجع أسباب الخلاف إلى المذهبية الدينية وهو ليس كذلك، وإن تذرع أحد أطرافه بالدين، والأمور الخلافية التي ذكرها الدكتور العمر لا مجال لها ولو احتكم المسلمون إلى الإسلام، وهذا الاحتكام يلزمه تربية النفوس، لتصبح إسلامية في واقعها وسلوكها وأخلاقها، إذ ليس من الإسلام في شيء أن يتذرع كل إنسان باسمه الإسلامي ليطعن في صلاحية الإسلام. ¬

_ (¬1) [الحديد: 25].

بين العقل وشيطان الحرية

أو أن يفسر نصوص القرآن كما يشاء، أو أن يحل سفك الدم الحرام. كل ذلك أمر لا صلة له بالإسلام، فالإسلام شيء وأعمال بعض المسلمين شيء آخر (¬1). بَيْنَ العَقْلِ وَشَيْطَانِ الحُرِّيَّةِ: إن مقال الدكتور عبد الله العمر المنشور في " الوطن " يوم 23/ 5 / 1984 قد تضمن أنه من تلاميذ الدكتور زكي نجيب محمود، فيلسوف المذهب الوضعي في العالم العربي. وكان لزامًا عليه أن يعلم أن أستاذه قد كتب مقالات تضمنت براءته من شيطان الحرية، ومن إطلاق الحرية للعقل ليصادم الوحي السماوي. أ - ففي مقاله المنشور بـ " الأهرام " و" الوطن " يوم 12/ 11 / 1985، ذكر أن المسلمين متفقون جميعًا على ما جاء في القرآن الكريم، ومتفقون أن الإسلام والشيوعية ضدان، لا يجتمعان. كما ذكر أن شهادة أن لا إله إلا الله تبدأ بنفي ألوهية البشر. ب - وفي مقاله المنشور بـ " الأهرام " وفي " الوطن " يوم 26/ 1 / 1988 يقول: «في هذا العصر المضطربة أحكامه، اختلط على الناس أين الحرية وحدودها، وأين أضدادها من أصفاد وأغلال ... فليس صحيحًا أن الإنسان إما ذا عقل علمي، وإما ذا دين. بل الصحيح أن الإنسان الواحد يلتقي فيه الدين والعلم، ولا ينفي ذلك أن يكون لكل جانب منهما لحظاته ... ، ولن يكون بين القطبين شد ولا جذب، إذا ما عرف كل منهما أين مجاله، وما هي حدود ذلك المجال فللعقل مجال الاستدلال الذي يستند إلى ركيزة مقبولة، حتى لو كان ذلك مقبولاً مؤقتًا ومأخوذًا على سبيل الفرض، ومن تلك الركيزة يلتمس طريقة إلى نتيجة يستدلها .. الذي يشتمل فيما يشتمل عليه، على الإيمان الديني بكل أهميته في حياة الناس .. لكن الذي نريده لأنفسنا هما الجانبان مَعًا، لكل من العقل والقلب مجاله وفي الإنسان وحياته يلتقي الطرفان ... فقوة أي منهما تضفي قوة على الآخر، وضعف أي منهما يضفي ضعفًا، إنهما كالعينين أو الأذنين، يستقلان ويتعاونان في آن مَعًا ... أقول ¬

_ (¬1) " الوطن " في 16/ 6 / 1984.

إن العالم في أي جانب من الجوانب الكونية إذا ما حمل بين جوانحه قلبًا مؤمنًا بالدين، فسيتحيل ألا يزداد إيمانه، لأن علمه بأسرار الكائنات هو في الوقت نفسه علم بعظمة من خلق تلك الكائنات، وبدأها وسواها وأجراها على سنن منظومة، هي التي يكشف عنه العلماء ويطلقون عليها اسم (القوانين العلمية)». «ومن أبرز الفوارق بينهما، أي الدين والعلم، مما لا بد أن نكون على وعي شديد به هو أن مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بهذا الدين، لأنها معايير يقاس بها السلوك، ولا بد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد، وإلا فقد معياريته ... وأما العلم فهو متغير مع تقدمه في تعاقب العصور ..». ب - وفي مقاله المنشور في " الأهرام " و" الوطن " يوم 5/ 4 / 1988 يقول: «العقيدة مدارها التوحيد والقيم الضابطة للسلوك، ويرجع في ذلك إلى الأصلين، القرآن الكريم وسنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ما أشكل أمر لم يرد عنه نص في هذين الأصلين، فمرجع المسلم فيه هو العقل، ولا فرق بين أن نقول إنه العقل أو إنه إجماع الرأي عند الثقات. والنضج العقلي يكون بالقدرة على تمثيل المبادئ التي نزل بها دين الإسلام، والتزامها في استدلالاته العقلية بعد ذلك، كلما أراد لنفسه هداية في دنيا السلوك».

مستقبل العرب بين الإسلام والعلمانية العربية

مُسْتَقْبَلُ العَرَبِ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالعِلْمَانِيَّةِ العَرَبِيَّةِ: (¬1). عقدت " الوطن " ندوة بعنوان (الوضع العربي الراهن، مشكلته ومستقبله). وقد تولى إدراتها الدكتور أحمد الربعي، ودعا إليها عددًا مختارًا، اختيارًا خاصًا: هم الأساتذة والدكاترة: 1 - خلدون النقيب. 2 - عبد الله عبد الدايم. 3 - فؤاد زكريا. 4 - مصطفى خوجلي. 5 - خليل علي حيدر. 6 - رمزي زكي. ولقد تضمنت وصفًا لما سمي أزمة الفكر، ونذكر منه ما يأتي: 1 - ذكر الدكتور فؤاد زكريا، أن هناك علاقة غير طبيعية بين الإنسان العربي وماضيه، وهذه العلاقة تنحصر في أن الماضي يريد أن يحل محل الحاضر في ذهن الإنسان العربي. وذكر أن هناك أممًا لها ماض مجيد جِدًّا كاليونان، ولكنها لا ترتبط بماضيها بنفس الطريقة التي نرتبط نحن بها، وهذه النقطة أساسية، ومنها نستطيع معالجة مشكلة مثل مسألة موقفنا من التراث .. وكذا الدور الذي تلعبه الدعوة إلى الأصولية أو الدعوة السلفية أو مختلف التيارات الإسلامية، وما يسمى بالصحوة الإسلامية التي تطل برأسها في هذه الأيام وتريد أن تقتلع كل شيء. وقد أيد ذلك الدكتور أحمد الربعي، لأن الأمة اليونانية مثلاً لا تتعلق بتراثها بشكل نرجسي، كما هو الحال عند العرب. 2 - ودعا الدكتور مصطفى خوجلي إلى تكوين سيكولوجية جديدة غير مرتبطة بالماضي في جوانبه السلبية، فلا بد أن تحدث ثورة. وهذه الثورة بالتالي مرتبطة بالتفكير .. وهذا يقودنا إلى ما يدور حول التفكير الميتافيزيقي وربطه بالماضي والسلفية وغيره. 3 - ذكر الدكتور أحمد الربعي أن العالم العربي الآن يشهد تحولاً واسعًا في مسألة ¬

_ (¬1) نشر في جريدة " السياسة " في أول شوال 1406 هـ - 7/ 6 / 1986؛ ومجلة " المجتمع " في 10 شوال - 17/ 6 وفي جريدة " القبس " يوم 20/ 6 / 1986 بالكويت.

العودة إلى الماضي، إلى السلفية بطريقة معينة، وبالتأكيد فإن لها تأثيرًا مباشرًا على مستقبلنا في هذه المنطقة. 4 - ذكر الدكتور رمزي زكي أن المجتمع المتخلف، كما هو الحال في البلاد العربية، هو الذي يحن إلى الماضي خصوصًا إذا كان هذا الماضي زاهرًا، كما كان الحال في المنطقة العربية. 5 - ذكر الدكتور عبد الله عبد الدايم أن هذه الندوة تذكر بندوة التخلف الحضاري التي عقدت في الكويت عام 1974 فيظل التركيز على هذ الموضوع دليلاً على أنه موضوع حي وواقعي، وهو يحجب سواه ويعطله في بعض الأحيان، لأن النزعة إلى الماضي تصبح عبئًا ثقيلاً على الشعوب إذا لم تعرف كيف تدمجها دمجًا وثيقًا بالحاضر والمستقبل. وقال: «للإجابة على سؤال الدكتور فؤاد زكريا .. لماذا حنين الأمة العربية إلى الماضي؟ لا بد أن نذكر أن أسباب ذلك في مرحلة الاستعمار كانت العودة إلى الماضي للحفاظ على الذات والهوية، وعدم الذوبان في ثقافات الآخرين ... ولكن هذا لا يعني العودة حرفيًا إلى شكل من أشكال الماضي وتفاصيله .. فليست الثقافة التي تحقق الهوية مجرد الثقافة التي تعود إلى الماضي. ولا تستطيع أن تكون فعالة إلا إذا أسهمت في معالجة القيم الثقافية والمواقف الثقافية المنتشرة في المجتمع». 6 - وذكر الأستاذ خليل حيدر أن العقل العربي في بعض جوانبه متوقف عند القرن الأول أو الثاني الهجري، وتجد هذا واضحًا جدًا وقويًا في كتابات التيار الديني .. والأدهى من ذلك أن القطاع الذي ظل عبر التاريخ مجمدًا، وهو قطاع النساء استطاعت الحركة الدينية بسهولة أن تحركه بزخم جماهيري لم تشهد أي حركة أخرى مثيله. (نشرت هذه الأقوال يوم 25/ 5 / 1986). 7 - وبتاريخ 29/ 5 / 1986 نشر قول الدكتور مصطفى خوجلي: «إن الصراع بين التعليم والفكر الميتافيزيقي والعلمي هو أساسًا مرتبط فيما ذكر بموضوع السلطة، وإذا لم تحل هذه القضية فلن نستطيع حل القضية الأساسية والمواطن العربي الذي يستطيع أن يفكر ويتفاعل وينتقد».

أوهام وتناقضات!!

8 - كما ذكر الدكتور فؤاد زكريا «أن وزارات التربية في العالم هي التي تضم النخبة من المحافظين، وأن هذا النوع من التعليم مرتبط بانتشار فكرة السلطة، فسلطة الأب مفروضة داخل الأسرة، وسلطة الدين وهو يفسر تفسيرًا سلطويًا فيه الطاعة العمياء دون مناقشة، فيمتد كل هذا إلى ميادين التعليم الذي يصبح سلطويًا أيضًا». 9 - وبتاريخ 31/ 5 / 1986 نشر قول الأستاذ خليل حيدر «... إن الحركة الدينية تطورت من حركة سياسية تطالب بتجميع كل القوى العربية والإسلامية، للتصدي للاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، انتقلت مع سقوط الخلافة في أوائل العشرينات إلى حركة تطالب بإعادة الخلافة الإسلامية، وانتقلت بعد الحرب العالمية الثانية إلى المطالبة بالدولة الإسلامية البحتة .. ونجدهم لا يتحدثون أبدًا عن الديمقراطية، بل التركيز على الشورى وفيها لهم مفهوم خاص، فهي ليست إشراك كافة القوى السياسية في الحكم. فالشورى هي إشراك الصفوة، أو نوع من الديمقراطية المحتواة». أَوْهَامٌ وَتَنَاقُضَاتٌ!!: إن هذه الأقوال تتوارد فيها المعاني والعبارات، لتتفق على أمر رئيسي، هو أن تخلف الأمة العربية يرتبط بتقيدها بماضيها، ومنه التراث الإسلامي والسلفية - أي الأصولية الإسلامية -، وإن علاج هذا التخلف يحتاج إلى ثورة فكرية، وعلى الأخص فيما يتعلق بالتفكير الميتافيزيقي وربطه بالماضي والسلفية أو غيره، وهذا ينطوي على الثورة على العقيدة الإسلامية، والتشريعات الواردة في القرآن والسنة باعتبارها فكر غيبي؛ لأن معنى التفكير الميتافيزيقي - الذي لَمْ يُشِرْ إليه أصحاب هذه الأقوال - هو التفكير الغيبي، والميتافيزيقا هي ما وراء الطبيعة. وتشمل الأنتولوجيا: وهو علم الوجود، والكوزمولوجيا: وهي علم أصل الكون وتكوينه، وعند التوسع فيها تشمل الفلسفة وفروعها، ويتضيق المعنى وحصره تشمل علم الوجود (الأنتولوجيا). كما تشمل مجموعة المبادئ التي يقوم عليها موضوع معين. وهذا الذي تواردت عليه أقوال من ذكرنا هو وهم، بل أوهام، قدمت للقراء في ثوب علمي خداع، ينطوي على تناقضات، وهذا ما نركزه في الآتي: أَوَّلاً: الخَلْطُ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالنِّظَامِ البَابَوِيِّ: إن جوهر الخديعة والتناقض هو قياس تراث الأمة العربية، بما فيه القرآن الكريم

ثانيا: الخلط بين الوحي واجتهادات البشر

والسنة النبوية بالبابوية، وبالتالي طلب الثورة عليه تقليدًا لأوروبا. مع أنه توجد فوارق رئيسية بين التراثين، تناولها فلاسفة أوروبا أنفسهم، ومنهم الفيلسوف (روجيه جارودي) والدكتور (موريس بوكاي) وغيرهما. وأهم هذه الفوارق: أ - ليس في الإسلام صكوك غفران أو حرمان لطبقة معينة تسمى رجال الدين، بل لا توجد هذه الطبقة أصلاً في الإسلام. ب - لا يوجد في الإسلام صراع بين الدين والعلم كما حدث في أوروبا. ج - كما لا يوجد في الإسلام ولا في التاريخ الإسلامي تحالف بين علماء الدين وبين رجال الإقطاع ضد الشعوب، بل لا توجد طبقة الإقطاع، كما لا يوجد صراع بين الدين والحكم، لأن الصراع نشأ في أوروبا بسبب وجود نص نسب إلى السيد المسيح وهو قوله: «دَعْ مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَمَا للهِ للهِ». وقد أوضح الدكتور نظمي لوقا في كتابه " محمد الرسول والرسالة " أن الإسلام يهدم هذه القاعدة. فالقرآن الكريم ينص على أن الأمر كله لله فلا يملك أحد التشريع مع الله. د - بل إن القرآن الكريم قد أكد في أكثر من آية، على أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث ليضع عن البشرية الأغلال والقيود التي وضعها الأحبار والرهبان. وعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى عن النبي: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬1). وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2). ثَانِيًا: الخَلْطُ بَيْنَ الوَحْيِ وَاجْتِهَادَاتِ البَشَرِ: يخلط هؤلاء بين الوحي الممثل في القرآن والسنة النبوية وبين اجتهادات فقهاء المسلمين وغيرها، ويطلقون اسم التراث والسلفية والأصولية الإسلامية على كل ذلك، ويزعمون أن المسلمين الأصوليين يقفون عند القرن الأول أو الثاني للهجرة، وأنه تجب الثورة على الماضي وعلى هذا التخلف والجمود، بينما لا يوجد أحد من علماء المسلمين ولا ¬

_ (¬1) [الأعراف: 157]. (¬2) [التوبة: 34].

ثالثا: الخلط بين العقل والوحي

صبيان العلماء يقول بهذا الخلط، فلا يوجد أي قدسية لأقوال الفقهاء في ذاتها. فالقدسية لما نزل من عند الله وهو القرآن الكريم، وللسنة النبوية باعتبارها وحي من الله، لبيان ما ورد في القرآن عَامًّا أو مجملاً أو مطلقًا ولكن ألفاظهما ليست من عند الله. ثَالِثًا: الخَلْطُ بَيْنَ العَقْلِ وَالوَحْيِ: يخلط هؤلاء بين ما جاء به الوحي من تشريع، كتحريم الخمر والفواحش وعلاج الغرائز عن طريق العبادات وكل ما يتعلق بتربية النفس، يخلطون بين ذلك وبين ما يخضع لسلطان العقل واجتهادات البشر، وهو ما يطلق عليه اسم العلم التجريبي، فيوحون للقراء أن التمسك بالأصولية والسلفية الإسلامية معناه أن نقتلع كل شيء توصلت إليه البشرية في العلوم التجريبية، وهم لا يجهلون طبقًا لتخصصاتهم أن الإسلام يفرق بين هذين الأمرين تمامًا. فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول كما ورد في " صحيح مسلم ": «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ» كما أنه أكثر من موقف في الأمور التي لم ينزل فيها وحي من الله كان ينزل على رأي الخبراء، كما حدث في تحديد مكان غزوة بدر، أو على الأغلبية كما حدث في تحديد مكان غزوة أحد. رَابِعًا: التَّلْبِيسُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالاِجْتِمَاعِ: قد خلت جميع هذه الأقوال من تحديد المقصود في أن الماضي يفرض نفسه على الحاضر مما يعوق التقدم، بينما لا يوجد هذا التعلق النرجسي عند الأمم الأخرى. وهم بهذا يرددون مقولة (دوركايم) التي تضمنتها مناهج الاجتماع والتي تدرس في المدارس العربية، وهذه المقولة تزعم أن تقليد الماضي مهما كان يَحُولُ دُونَ تكوين رأي حر مستنير، وأن تقليد الزعماء مهما كانوا يَحُولُ دُونَ تكوين رأي حر مستنير. وهذا جزء مما يسمى نسبية القيم في الأخلاق، وكله فكر يهودي يريد الثورة على الماضي مهما كان، أي ولو كان مصدره الرسالات السماوية، وعدم التقيد بأقوال المصلحين مهما كانوا، أي ولو كانوا من الرسل والأنبياء، ويزعم هذا الفكر أن الأخلاق نسبية، تتغير من عصر إلى آخر ومن شخص إلى آخر، وهو ما تضمنته التوراة بعد تحريفها، حيث امتدحت فتاة ارتكبت الفاحشة مع حاكم لتخدم بذلك اليهود، وامتدحت ما زعموه من أن نبي الله موسى أمر اليهود بسرقة حلي المصريين، عند الرحيل من مصر في زمن الفرعون. وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله. ولا يجهل أي باحث أن القرآن الكريم قد حكم ببطلان بدعة نسبية القيم في الأخلاق .. قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ

تحقيق أهداف المستشرقين

إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1). كما لا يجهل أي باحث أن القرآن يفرق بين الصحيح وبين الفاسد من الماضي، فيقر الصحيح كقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬2). وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬3). كما يهدم القرآن الفاسد من الماضي، ويطلب الثورة عليه. قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (¬4). وقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...} (¬5). ولهذا يخاطب العصور كلها أن تربط حركتها بالحق وحده، فيقول سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬6). تَحْقِيقُ أَهْدَافِ المُسْتَشْرِقِينَ: إن هذه الاتجاهات وإن لم تقطع بصلة أصحابها بالخصوم فإنها تحقق أهداف المبشرين، مثل (زويمر) الذي أوصى أن تدفن جثته في مقابر اليهود، مما دل على أصله الحقيقي، وعلى أن الحقد اليهودي والصليبي قد اجتمعا في شخصيته حين قال مخاطبًا المبشرين في المؤتمر التبشيري الذي عقد في القدس 1935: «إِنَّكُمْ أَعْدَدْتُمْ نَشْئًا فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ لاَ يَعْرِفُ الصِّلَةَ بِاللهِ، وَلاَ يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَهَا، وَأَخْرَجْتُمْ المُسْلِمَ مِنَ الإِسْلاَمِ وَلَمْ تُدْخِلُوهُ فِي المَسِيحِيَّةِ، وَبِالتَّالِي جَاءَ النَّشْءُ الإِسْلاَمِيُّ طِبْقًا لِمَا أَرَادَهُ الاِسْتِعْمَارُ المَسِيحِيُّ، لاَ يَهْتَمُّ بِالعَظَائِمِ وَيُحِبُّ الرَّاحَةَ وَالكَسَلَ، وَلاَ يَعْرِفُ هِمَّةً إِلاَّ فِي الشَّهَوَاتِ. ¬

_ (¬1) [آل عمران: 75]. (¬2) [الأعراف: 199]. (¬3) [المائدة: 2]. (¬4) [المائدة: 78]. (¬5) [الأعراف: 28، 29]. (¬6) [البقرة: 134].

خامسا: الطعن في نظام الشورى الإسلامي

فَإِذَا تَعَلَّمَ فَلِلْشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَمَعَ المَالَ فَلِلْشَّهَوَاتِ، وَإِنْ تَبَوَّأَ أَسْمَى المَرَاكِزِ فَفِي سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ يَجُودُ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَإِنَّ مُهِمَّتَكُمْ تَمَّتْ عَلَى أَكْمَلِ الوُجُوهِ، وَانْتَهَيْتُمْ إِلَى خَيْرِ النَّتَائِجِ، وَبَارَكَتْكُمْ المَسِيحِيَّةُ وَرَضِيَ عَنْكُمْ الاسْتِعْمَارُ، فَاسْتَمِرُّوا فِي الأَدَاءِ، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ بِفَضْلِ جِهَادِكُمْ المُبَارَكِ مَوْضِعَ بَرَكَاتِ الرَّبِّ» (¬1). خَامِسًا: الطَّعْنُ فِي نِظَامِ الشُّورَى الإِسْلاَمِي: يطعن أحد هؤلاء في نظام الشورى الإسلامي، وينسبه إلى ما يسميه الصحوة الإسلامية، وإلى كتب سيد قطب والمودودي، وما يسميه غيره الدعوة السلفية التي تطل برأسها لتقتلع كل شيء. وهؤلاء وغيرهم لا يجهلون أن الشورى وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية، لم يبتدعها أحد ممن يسمونهم رجال الصحوة. كما لا يجهلون أن كل ما طعنوا عليه ونسبوه إلى رجال الصحوة، هو أحكام وردت في القرآن والسنة النبوية، ولم يبتدعها العلماء أو غيرهم. فالقضية هي في حقيقتها عدم الإيمان بصحة ما ورد في القرآن والسنة، متعلقًا بالتشريعات الاجتماعية، أو الاقتصادية أو غيرها، مما تناولته الفلسفات البشرية شرقية أو غربية. وفيما يتعلق بالشورى التي تنال تلبيسًا ومغالطات، فإن هذه الشورى تتفق مع الديمقراطية الغربية في اختصاص الأمة، باختيار الحاكم ومحاسبته وعزله: بل تنفرد عن النظم البشرية في اعتبار الحاكم كآحاد الناس، فلا تشكل له محكمة خاصة ولا يتفرد بأمور خاصة عن باقي الناس. والشورى لا تتفق مع الديمقراطية فيما تذهب إليه من تحويل الأغلبية حق التحليل والتحريم من دون الله. وقد ثبت للعالم كله أن ممارسة هذا الحق أدى إلى عدم تحريم الفواحش، بل والشذوذ، فأصاب هذه المجتمعات بالأمراض التي تحطم المجتمع، ولكن ¬

_ (¬1) " واقعنا المعاصر " للأستاذ محمد قطب: ص 386 نقلاً عن كتاب " المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام " للأستاذ محمد الصواف: ص 218.

مزاعم علمانية في صحف عربية

المنحرفين يصرون على الخديعة والتضليل، ولا يجهلون أن الإسلام لا ينفرد بتحديد مقومات أساسية للمجتمع لا يجوز المساس بها، فالماركسية تفعل ذلك، كما يوجد هذا في النظم الغربية ولكن الخلاف في تحديد هذه المقومات. وأخيرًا .. نتحدى أي إنسان أن يثبت تناقض العلم الحديث مع ما ورد في القرآن والسنة، وهذا ما يتهرب منه الذين يشغبون على الماضي ويخلطون الأمور على النحو سالف الذكر. مَزَاعِمُ عِلْمَانِيَّةٍ فِي صُحُفٍ عَرَبِيَّةٍ: إن الحملات الصحفية المتكررة التي تستخدم فيها الأقلام ضد مسيرة العمل الإسلامي، إنما تستهدف الإسلام ذاته. وأظهر مثال لذلك، هي كتابات (خليل حيدر) فهو في هذه الندوة يطعن في نظام الشورى في الإسلام، ولكنه يغلف ذلك بأن الحركة الإسلامية تجعل للشورى مفهومًا خاصًا يتعارض مع الديمقراطية وهو وغيره على علم بأن الشورى نظام جاء به الإسلام، ولم يبتدعه من يسمهم رجال الدعوة الإسلامية، فالطعن في حقيقته ضد الإسلام ذاته، وشواهد ذلك من أقواله هي كما نشرت بـ " الوطن ". 1 - يقول في مقاله يوم 14/ 10 / 1985: «هل المسلم حفار القبور في الفلبين أفضل من المسيحي الذي يساعد المقاومة الفلسطنية؟». 2 - وبتاريخ 8/ 8 / 1984: يقول «القرآن والسنة إن صلحا لعصر فلن يصلحا الآن». ويقول: «الدين يحتاج إلى تفسير والمفسرون ذوي ميول وأهواء، وهكذا كان الوضع في الماضي وهكذا اليوم أبدًا» والماضي يشمل الصحابة. 3 - وبتاريخ 17/ 11 / 1985: «إنني مع الرأي القائل بأن مزج الدين بالسياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة، يعرقل التطور كَمًّا وَكَيْفًا، ويسبب آلامًا لا آخر لها بدون مبرر». وهذه الأقوال وغيرها تدل على خروج ظاهر على الإسلام ذاته، مهما غلف ذلك بادعاء نقده للدعاة المعاصرين وهذا الموقف يسفه كل عقول العلمانيين، فالدكتور زكي نجيب محمود فيلسوف المذهب الوضعي في المجتمع الغربي في مقال نشر بـ " الوطن " يوم 12/ 11 / 1985: «لا يجوز تفسير الإسلام من خلال الفكر الماركسي، فالإسلام

خليل حيدر والتطرف ودعوى قتل المسلمين ونهبهم

والشيوعية ضدان لا يجتمعان، فالمنهج العلمي ينكر أن يفسر أحد الإسلام من خلال المذاهب اللادينية». والأستاذ محمد حسنين هيكل في دراسته المنشورة في " الوطن " يوم 3/ 5 / 1983 يقول عن الصحوة الإسلامية: «كانت العودة إلى الدين طلبًا لليقين، حركة طبيعية، وما اصطلح على تسميته بالأصولية الإسلامية، تمثل عودة إلى الأصول الأولى للإسلام، بالنقاء التي كانت عليه حين تنزل بها وحي السماء على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم تكن رسالته قاصرة على مجرد العقائد الدينية، ولكنها أيضًا كانت ترسم منهاجًا لتنظيم المجتمع وسلوك أفراده، إن الإسلام قد حدد علاقات الإنسان بربه، وعلاقته مع غيره من البشر، ولم يكن هذا التنظيم الاجتماعي صالحًا فقط لأجلهم وبلادهم، وإنما كان صالحًا للناس في كل زمان ومكان، ومن هنا أخذت العقيدة الإسلامية طابعها الشامل المتكامل». إن أصول البحث العلمي توجب أن تفرق بين الإسلام وبين المسلمين. فإذا أخطأ عالم أو جمع من العلماء فلا ينسب هذا إلى الإسلام، ولكن خليل حيدر يتهم الإسلام أولاً بالقصور ثم ينسب أمورًا إلى سيد قطب والمودودي ليدين بها الإسلام ذاته. خَلِيلْ حَيْدَرْ وَالتَّطَرُّفُ وَدَعْوَى قَتْلِ المُسْلِمِينَ وَنَهْبِهِمْ: إن السيد خليل حيدر في دراسته الأخيرة لم يستخدم العبارات التي تصرح بعدم صلاحية القرآن والسنة، ولكنه اختار كل ما كتب على لسان الخصوم، ونشر ما وصل إلى نتيجة ظهرت في مقال الجمعة 25 أكتوبر سنة 1985 وعنوانه " تيار التطرف يكتسح الساحة " ففي هذا المقال يلخص ما سماه النتيجة الحتمية لأفكار التيار الديني العقائدي، وبالذات الجناح الثوري منه في المجتمع العربي. فيذكر أن هذه الأفكار نشأت منذ 1965 م - 1375 هـ، ومضمونها هو: 1 - المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع كافر، وأن الأفراد والحكومات مرتدون مارقون. 2 - المساجد مساجد ضرار، لأنها تسير في ركاب الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل اللهُ، والمؤسسات الإسلامية الأهلية والحكومية حكمها حكم المجتمع. 3 - وجوب الخروج على الحكام وقتالهم بالسلاح، وأما المجتمعات والشعوب فتعامل طبقًا

للبنود الآتية: أ - يجوز اغتيالهم، ويجوز إظهار النفاق معهم حتى نتمكن من قتلهم، إذ يجوز الخداع معهم. ب - كل ديار المسلمين حاليًا ديار حرب، يجوز فيها القتل والنهب والغصب والخطف. ج - أموال هؤلاء يعني المسلمين الذين يعيشون في هذا المجتمع، يجوز سرقتها ونهبها باعتبارها أموال كفار وغنيمة. د - ليس للنساء والأطفال حرمة ويجوز استرقاق النساء وسبيهم. هـ - تجب العزلة الشعورية في هذا المجتمع، وبالتالي لا تجوز الصلاة في المساجد التي تنفق عليها الدولة. وكل هذه الأحكام لا يمكن للناقد الذي عاصر هذه المجتمعات أن يقول إنها تمثل تيارات الصحوة الدينية المعاصرة، وأنها تكتسح الساحة، حتى لو كان قد نقل أكثر هذه الأحكام أو بعضها من كتاب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق " فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله " كما يزعم، فهذه المقولات تنسب إلى أفراد حوكموا في قضية قتل وخطف الشيخ الذهبي، وقد أطلقت عليهم وسائل الإعلام اسم (جماعة التكفير والهجرة)، وهم قلة قليلة وقد صدرت ضدهم أحكام بالسجن وأعدم بعضهم ولا يمثلون تيارًا عامًا في الساحة وبالتالي لا يمكن نسبة أفكارهم إلى دعاة الإسلام المعاصر، فضلاً عن أنهم لا يتفقون جميعًا على هذه الأفكار وأكثرها نقل عنهم من غيرهم ومن خصومهم، ولا توجد مطبوعات لهم، ومن باب أولى فالذي انتهى إليه السيد / خليل حيدر في هذا المقال من أن «الكثير من هذه الأفكار هي تطوير لأصول فكرية وضعها القادة المعتدلون لأن الشباب المتطرف لم يخترع فكرة المجتمع الجاهلي وحاكمية الله والطاغوت والعزلة الشعورية والجماعة، فهذه وغيرها وما تحمله من مضامين صدامية وضعها كُتَّابٌ مثل المودودي وسيد قطب، ثم تطورت أكثر فأكثر في التطرف ومحاولة تفسير الإسلام من خلال القرآن والسنة». إنه مع هذه البدهيات فإنه ما زالت بعض الصحف تقدم خليل حيدر على أنه مفكر إسلامي، وهو أيضًا يقوم بنقد الحركة الإسلامية من الداخل، مع أنه صرح في كتاباته أنه لا يعتقد بصلاحية الإسلام (مقالة بـ " الوطن " يوم 8/ 8 / 1984 والمقالات المشار إليها من قبل) ثم تقدم هذه الدراسة على أساس أنها دراسة علمية .. فهل هي دراسة علمية؟ إن لينين الذي يؤمن به العلمانيون أكثر من إيمانهم بالإسلام يقول في كتابه " تاريخ

الحزب الشيوعي ": «إنه قبل أن نتحد ولأجل أن نتحد، ينبغي أن نبين الحدود التي تفصل بيننا بحزم وجرأة». فهل بَيَّنَ (خليل حيدر) الحدود التي تفصل بينه وبين الإسلام. وإذا كان قد فعل ذلك وأعلن عدم صلاحية الإسلام، فكيف يصبح مفكرًا إسلاميًا، ولماذا يصر هو ومن ينشر له على أن يخدع الناس بأنه مفكر إسلامي، وأنه ناقد من داخل الحركة الإسلامية. إن الدكتور (زكي نجيب محمود) الذي يعد فيلسوفًا للمذهب الوضعي في العالم العربي يقول في مقاله بـ " الوطن " يوم 12/ 11 / 1985: «إن الإسلام والشيوعية ضدان لا يجتمعان، وبالتالي لا يمكن أن يفسر الإسلام من خلال الفكر الماركسي، أو أي فكر آخر يناهض القرآن والسنة». كما يحدد ما هو التطرف فيقول: «أن يأخذ المسلم بفريضة معينة في الفهم، أو قال بمذهب معين، ثم يعلن أنه هو الصحيح وحده». «أو أن يتخذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، وهذا لا يلجأ إليه إنسان واثق بنفسه وعقيدته». فهل التزم الناقد العلماني بهذه الأصول العلمية. وهل يستطيع أن يقول: إن الشيوعية تقضي باعتبار الشيوعي المؤمن بالملكية الجماعية، متطرفًا وخارجًا على المذهب الشيوعي. وإذا كان ذلك غير مقبول في أي منطق علمي، فكيف يصبح مقبولاً منه أو غيره أن يزعم بتطرف من يتمسك بأحكام وردت في القرآن والسنة؟ إنه الإرهاب الفكري والتضليل الذي لا يجرؤ عالم على أن يكتبه! إن أساتذتنا محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا والمودودي وسيد قطب، لم يبتدعوا حكم كفر الحاكم بغير تشريع الله ولم يبتدعوا وصفه بحكم الجاهلية ولم يبتدعوا حكم تحريم زواج المسلمة من غير المسلم ولكن خليل حيدر يكذب على الأحياء والأموات وينسب هذه الأحكام الشرعية إلى قيادات الصحوة الإسلامية ثم يطعن فيها زاعمًا أنه يدين التطرف.

الفصل الثالث: الماركسية والواقع العربي

الفَصْلُ الثَّالِثُ: المَارْكْسِيَّةُ وَالوَاقِعُ العَرَبِيُّ: • العلمانية والثالوث اللاديني. • المثقفون بين اليمين واليسار. • اليسار الإسلامي بين الحقيقة والوهم. • الوجه الشيوعي لليمن السعيد. • مراحل النمو الاقتصادي والاشتراكيات المحلية بين اليمين واليسار. • موسكو بين اليهود والمسلمين. • متى يفيق اليسار العربي.

هدم المخيال الديني وإقامة العلمانية

هَدْمُ المِخْيَالِ الدِّينِيِّ وَإِقَامَةِ العِلْمَانِيَّةِ: يشترك الفكر الماركسي مع الفكر العلماني في إبعاد الدين عن التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتنفرد الماركسية بإنكار وجود الله تعالى، وبالتالي إنكار العبادات، التي تعد في الفكر العلماني من المسائل الشخصية. لهذا يرى الدكتور جلال أحمد أمين أن التيار الماركسي فرع من فروع التيار العلماني، ولا يختلف عنه إلا في أنه يستوحي مصدرًا آخر من مصادر الفكر بتأكيده على قضية الصراع الطبقي (¬1). أي أن العلمانية الغربية واللادينية الماركسية تتفقان في أن الإصلاح المنشود يكون عن طريق استبعاد الدين. مشكلة المثقفين العلمانيين، كما يحلو لهم هذا النعت، أنهم بحكم عامل الشد الذي يتنازعهم بين الأصالة والمعاصرة قد أصاب فكرهم وانتماءهم شرخ حاد .. شرخ طولي، فتراهم لا هم مع هذه الثقافة ولا هم مع تلك. مصابون بحالة من الاضطراب وانفصام الشخصية في جانبها الثقافي والفكري على وجه الخصوص. إنهم مع «الأصالة» والأصالة متضمنة التراث، والتراث كله دين وعقيدة وتاريخ إسلامي وفكر إسلامي. وهذه كلها في عرفهم «رجعية». ولهذا فهم مع «التقدمية»، والتقدمية ثورة على الأصالة والثقافة الإسلامية ... التقدمية اتجاه نحو الغرب بقيمه وأخلاقياته ومفاهيمه. المشكلة ثانية أنهم يرفضون «الأصالة» ولا يستطيعون الانفصال عنها، وينجذبون نحو «المعاصرة»، ولا يستطيعون الانسلاخ عن تراث أمتهم بما يشتمل عليه مصطلح «التراث» من فكر وثقافة وعقيدة وفن ... الخ. ¬

_ (¬1) " الوطن " في 25/ 5 / 1987.

من هنا نشأ الاضطراب والقلق في طروحاتهم الفكرية، بل في مسلكهم الحياتي. الأمثلة كثيرة على هذا الانفصام والاضطراب، وترانا هنا نقدم أحدثها وليس آخرها بالطبع: تقدم إحدى المجلات العربية المتخصصة أحد العلمانيين على هذا النحو: «برغم الفترة الطويلة التي قضاها هشام شرابي في الولايات المتحدة الأمريكية كطالب في البداية، ثم كأستاذ تاريخ في جامعة جورج واشنطن، فإنه لم ينقطع أبدًا عن جذوره ...». لا بأس، فالتقديم ينطوي على إطراء جميل، ولكن عزله عن سياق حديث هشام شرابي نفسه فيه ظلم للقارئ وتعمية للحقيقة، فلنقرأ إذن ما قاله الدكتور شرابي جوابًا على سؤال: هل هناك أمل في نهضة ثقافية وفكرية عربية؟. يقول الدكتور مجيبًا: «إن الانتقال إلى مرحلة جديدة قد يتم إذا تبلورت الرؤيا العلمانية التقدمية الحديثة، وإذا تمكن الجيل الطالع من رفض هيمنة " المخيال الديني الرجعي، وتجاوز قيم الثقافة البطركية أهدافها». ويضيف متابعًا: «وإن فشل عن ذلك، فليس لهذا المجتمع من مستقبل إلا الفوضى وهيمنة الرجعية». وتقع مسؤولية المثقفين التقدميين العلمانيين في رأي الدكتور شرابي، في وضع فكر نقدي جديد يفكك المفاهيم البطركية السائدة، ويمهد الطريق لنشوء رؤيا اجتماعية جديدة تمكن الجيل الطالع من هدم البنية البطركية القائمة، وتجاوزها وإقامة بنية علمانية حديثة مكانها». مع هذا الحديث يكون شرابي قد انقطع عن جذوره حتمًا. وإلا بات ضروريًا أن نبحث في جذور تراثنا عن هذه (العلمانية) التي من أهدافها نسف (المخيال الديني الرجعي). ولكن (العلمانية) التى يدعو لها ويتبناها شرابي هي في الحقيقة إفراز للثقافة الغربية .. سنلمس مَعًا هذا الخلط والاضطراب الذي يعيشه العلمانيون في جواب شرابي على سؤال حول التأثر السلبي للثقافة الغربية على الثقافة العربية. «... بالتأكيد، كان هذا التأثير سلبيًا، فقد خلق ثقافة ممسوخة، لا أصالة فيها،

ولا حداثة حقيقية ..». لقد حيرنا الدكتور، حمانا الله وإياه من حيرة الشك أو الاضطراب أو الدوار الفكري، الذي يصيب كل العلمانيين الذين يمخرون عباب البحر إلى الغرب في سفينة الهجرة عن العقيدة والتراث!! (¬1). دعك يا دكتور من الاشتغال بأدوات الغرب فهذه الأدوات لم تصنع إلا «الديسكو» و «الايدز» والفراغ الروحي، والانغماس في المادية حتى العظم، حتى بلي العظم .. الغرب يا دكتور كما تقول أنت في حديثك: «مصدر ويلات العرب ومركز الخطر الداهم الذى يهدد وجودهم ومستقبلهم». ¬

_ (¬1) نقلاً عن جريدة " اللواء " الأردنية بتاريخ 6/ 5 / 1987.

العلمانية والثالوث اللادينى

العِلْمَانِيَّةُ وَالثَّالُوثُ اللاَّدِينِى: إن القيم الأخلاقية هي عماد العدل، الذي أمر به الله تعالى في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬1). هذه القيم هي أساس الحياة الاجتماعية، وبدونها تنهار المجتمعات الإنسانية، ولكن العلمانية تزعم أن القيم الأخلاقية من المسائل الشخصية، ولا يجوز أن تتدخل في التشريعات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. وقد ابتدع فلاسفة اليهود وسائل لتحقيق هذا المأرب، وهو إبعاد الأخلاق عن الحياة الاجتماعية، فمن هذه الوسائل ما يسمى بعلم الاجتماع، القائم على أساس أن القيم والأخلاق نسبية، تتغير من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان آخر. ومن هده الوسائل نشر الإلحاد ممثلاً في الماركسية والوجودية وغير ذلك. ولا شك أن العلمانية وكذا الماسونية، من وسائل تحطيم القيم الأخلاقية، وذلك تحت شعارات مضللة، مثل الحرية والإخاء والمساواة وها هو (ناحوم جولدمان) (*) الذي كان سنة 1956 رئيسًا للوكالة اليهودية، يقول: «لا يهمنا نحن اليهود أن نكون في جانب واحد من التيارات السياسية العالمية، ما دمنا نعيش في أنحاء العالم كيهود فقط لا يهمنا أن نكون رأسماليين، أو شيوعيين؛ لأننا لا نفكر إلا في أننا يهود والقضاء والقدر قد حتما علينا أن نعيش في الأربع جهات من هذا العالم .. فإذا دعت روسيا لدعوتها ضد أمريكا كان اليهود أسبق الناس إلى تعضيد الشيوعية، وإذا دعت أمريكا لدعوتها ضد روسيا كان يهود أمريكا أسبق الأمريكيين إلى الدعوة ضد الشيوعية .. وهكذا يبقى مركزنا (كيهود) سليمًا إلى الأبد». " جهاد ناطق " (**): ص 123 للأستاذ عمر زاده، وقد سبق لكاتبين فرنسيين وهما الأخوان (جان وجيروم تارو) (...): أن وصفا اليهود وصفًا أصاب كبد الحقيقة في كتاب لهما عربه الخوري (أنطون يمين) تحت عنوان " إذا ملك إسرائيل " جاء فيه: «إن اليهودي شخص ذاتي يسعى في المجتمعات التي يعيش فيها إلى توحيد ثقافتها توحيدًا تامًا في جميع مناحي حياتها؟! حتى تذوب فيها المميزات العنصرية المؤلفة منها هذه ¬

_ (¬1) [الحديد: 25]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) ورد خطأ في الطباعة (دولدمان) والصواب ما أثبته: ناحوم جولدمان (1894 - 1982). Nahum Goldman من أصل ليتواني. (**) خطأ في الطباعة حيث ذكر العنوان كالآتي (حباد ناطق) والصواب: " جهاد ناطق في سبيل الإسلام والإنسانية "، وهي سلسلة محاضرات الداعية الإسلامي عمر مفتي زاده، ربيع الأول 1381هـ - 1961م، طبع دار الاعتصام - القاهرة، (220 صفحة). (...). (Jérôme (1874 - 1953) et Jean Tharaud (1877 - 1952 واسم الكتاب باللغة الفرنسية: Quand Israël est roi, Plon 1921

المجتمعات .. ويبقى وحده محتفظًا بميزته اليهودية الخاصة، التي لا يمكن أن تتحور مهما تقلبت عليها السنون والأجيال وبهذه الطريقة يبقى قويًا». ويسخر الكاتبان كثيرًا من أولئك المفكرين الذين يزعمون أن اليهودي يندمج مع العناصر التى يعيش في بلادها ويقولان: «إن اليهودى في الواقع يظل يهوديًا دائمًا وأبدًا، حتى أنه لو أحب الشعوب التي يعيش بينها أو اعتقد أنه أحبها، أو أنه أحبها بالفعل، فإن دمه يبقى دائمًا وأبدًا يهوديًا يسيطر على كافة تصرفاته وأعماله ويوجهها ..» (¬1). وهذا ما عبر عنه الفيلسوف اليهودي - إسحق دويتشر - (في محاضرة له في المؤتمر اليهودي لعام 1958 خلال أسبوع الكتاب اليهودي) حيث يقول: «إن اليهودي يظل يهوديًا وإن ارتكب خطيئة». ويقصد بذلك: أن الفيلسوف اليهودي يظل يهوديًا في تفكيره وإن لم يكتب في اليهودية، أو أنه رغم ما يبدو من أصمية فلسفته يظل يهوديًا جدًا على نحو .. أو يظل منه شيء من جوهر الحياة اليهودية والفكر اليهودي .. وقد رأينا في اليهود حول المدينة المنورة اتجاهًا دائمًا نحو العزلة والبعد عن الاندماج في المجتمع الإسلامي .. وهكذا كان اليهود في الإمبراطورية الرومانية القديمة وكذلك في انكلترا وأوروبا وروسيا القيصرية وفي كل مكان حلوا فيه. ويعمل اليهود في كل مكان وزمان ضد الدولة التى ينعمون بخيراتها .. ويسعدون بالأمن في ظلها .. فنجدهم يساعدون الغازي ضد أهل البلد الذي مد لهم يد العون، ويقومون بأعمال التجسس والتخريب ضد الوطن الذي احتضنهم وتكرر ذلك جليًا على مدار التاريخ، وذلك إذا آنسوا في البلد الذي يحلون فيه ضعفًا ظاهرًا .. أما إذا لم يستطيعوا الظهور بأشخاصهم والجهر بعداوة من حولهم، فإنهم يلجأون إلى التنظيمات والأحزاب السرية، يكمنوا فيها كالجراثيم ليهاجموا المجتمعات في عقائدها وآدابها وأخلاقها وعاداتها .. أو لتوجيه عملية الهجوم من خلال بعض الأقلام المدربة والتي صنعوها على أعينهم .. متسترين بما ترفعه تلك الأحزاب والتنظيمات التي ينتمون لها من شعارات براقة .. ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب. وهذا ما وضحه خير توضيح الأستاذ الكبير - عباس محمود العقاد - في مقال له تحت عنوان: " الوجودية ... الجانب المريض منها " .. حيث يقول: ¬

_ (¬1) عن مقال للأستاذ سامي الحيتاوي نشر في " السياسة " يوم 27/ 6 / 1986.

«ولن نفهم المدارس الحديثة في أوروبا ما لم نفهم هذه الحقيقة التي لا شك فيها .. وهي أن أصبعًا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها مجتمع الإنسان في جميع الأزمان فاليهودي كارل ماركس: وراء الشيوعية التى تهدم قواعد الأديان والأخلاق .. واليهودي دوركايم: وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة، ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب .. واليهودي سارتر: وراء الوجودية التي نشأت معززة بكرامة الفرد، فجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بآفات القنوط والانحلال .. ومن الخير أن تدرس المذاهب الفكرية .. بل الأزياء الفكرية .. كلما شاع منها مذهب جديد في أوروبا .. ولكن من الشر كل الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها .. دون ما وراءها من عوامل المصادفة العارضة والتدبير المقصود ..». وهناك الكثير من الأقوال التي تلقي الضوء على أصول الماركسية .. والتي تبين أنها نبتة يهودية ماسونية خبيثة .. من ذلك مثلاً: 1 - ما ذكره الشيخ جابر العلي في صحيفة " السياسة " الكويتية تحت عنوان " خواطر لمسؤول معروف "، حيث قال في خاطرته السياسية: «كرس ماركس وغيره من المفكرين كل جهودهم للوصول إلى أهدافهم، وبمفاهيم تتلاءم مع روح التراث في كل عصر .. فبغض النظر عما كانت عليه أوضاع الظلم والاضطهاد في المجتمع الأوروبي وتسلط الكنيسة والقياصرة .. استوصى ماركس ذلك الاضطهاد بنظرية من إرث تاريخ يهودي، وهو واحد من أساطيرهم، وقد شعر أن المؤمنين بالمسيحية والإسلام هو الأغلبية الساحقة من سكان العالم .. بينما اليهود أقلية .. وكان شعوره بالدرجة الثانية بأن هناك قوميات مختلفة وليس لليهود قومية تربطهم .. وهم منتشرون في بقاع مختلفة من بلاد العالم .. وكذلك رفض ماركس العزة الوطنية لأنه ليس لليهود وطن، وإذن فعليه أن يدمر هذه الأديان وهذه القوميات والمشاعر الوطنية، لكي يخلق طبقة واحدة أممية تعتمد على من يزرع ومن يصنع، وهذا سيكون أمام آلته، والآخر في حقله .. وبالتالي من الذي يفكر له ويوجهه، إذن ماركس اليهودي .. والمتأكد من تفوق صهيونيته العنصرية، ومفكروها القديرون يتولون قيادة المشتغلين بالآلة والحقل، وقد حصل ذلك، فبعدما كانت الصهيونية تتبعها قلة من اليهود ..

أصبح - نبيها - الجديد يسيطر على ملايين كثيرة في العالم». 2 - جاء فى مجلة " أكاسيا " الماسونية الصادرة عام 1953 ما نصه: «والماسونية هي التي هيأت الجو للثورة الماركسية، وعلى الماسونيين أن يعملوا بالاشتراك مع العمال، لأن الماسونية تملك القوة الفكرية والإمكانات العقلية، والعمال الذين يملكون القوة التدميرية يكونون عددًا هائلاً، وباجتماع هاتين القوتين يتولد الاضطراب الاجتماعي». (" أسرار الماسونية ": ص 31). 3 - وقال السيد فاروق القدومي - رئيس الدائرة السياسية بمنظمة التحرير الفلسطينية - في المجلس الوطني الذي انعقد في أيار عام 1969 مانصه: «الماركسية والماسونية مماثلتان». (انظر مجلة " دراسات عربية "، السنة الرابعة عدد 6، سنة 1971). 4 - وقال الشاعر الكويتي - أحمد السقاف - في محاضرة له تحت عنوان " تطور الوعي القومي في الكويت .. ": (قامت رابطة الأدباء في الكويت بطبعها عام 1983) ما نصه: «لقد استغل دعاة الماركسية التفاوت الطبقي والفقر والبطالة والاستعمار في سوريا ولبنان ومصر والعراق .. فجندوا لتحقيق أهدافهم من استطاعوا تجنيده، ويكفي أن نعلم أن بعض رسل الماركسية ومؤسسي أحزابها السرية في الأقطار العربية قد كانوا من اليهود الروس والبولنديين، وكان هدف هؤلاء التمهيد لقيام الكيان اليهودي في فلسطين». 5 - وقال الدكتور رفعت السعيد في صفحة (176 - 177) من كتابه " تاريخ المنظمات اليسارية المصرية 1940 - 1950 سنة 1976 " مانصه: «ويكمل اليهودي - هنري كورييل - القصة قائلاً: " وفي عام 1937 - 1938 اقتنعت بالماركسية .. وبدأت في الاتصال بآخرين .. اتصلت بـ (جورج بواتيه) و (راؤول كورييل - أخي-) و (مارسيل إسرائيل) وآخرين .. وبدأنا في تأسيس الاتحاد الديمقراطي .. " إلى أن يقول: " واتخذ الاتحاد الديمقراطي أول اجتماعاته في مقر إحدى الجمعيات الماسونية؟!!! "». 6 - ذكر الأستاذ يوسف الحاج (في صفحة 90 - 91) من كتابه " الشيوعية "

ادعاء المساواة وحتمية الماركسية

بأن المنشورات التي كانت توزع على الشعب الروسي قبيل الثورة الماركسية كانت تتضمن الشعارات التالية: أ - إن الحياة الاشتراكية هي الطريقة المثلى لسعادة الدولة وجنة الإنسان في الأرض. ب - إن الدين هو أفيون الحياة ومخدر أعصاب العقول. ادِّعَاءُ المُسَاوَاةِ وَحَتْمِيَّةِ المَارْكْسِيَّةِ: (¬1). تبشر الماركسيه الناس بالعدل والمساواة، ولهذا فالتحليل الماركسي أن مظالم الرأسمالية تؤدي حتمًا إلى الشيوعية، ولم يشر ماركس ولا غيره من الشيوعيين إلى نتائج المظالم الشيوعية. يقول الفيلسوف (أندريه جيد) عن تجربته في الحزب الشيوعي: «لقد حدث أن زرت إحدى المزارع الجماعية والنموذجية وهي أبدع المزارع في الاتحاد السوفياتي وأغناها، ودخلت بيوتًا متعددة، وليتنى أستطيع أن أنقل ذلك الانطباع المطرد الكئيب الذي يحس به من يدخل هذه البيوت من أثر انعدام الفردية انعدامًا كاملاً، لقد كان في كل منها نفس قطع الأثاث القبيحة، ونفس الصورة للزعيم ستالين، ولا شيء غير هذا .. ولو دخل أحد السكان بيتًا غير بيته ناسيًا لما أحس بأي تغيير أو اختلاف ... وأن الناس في روسيا تعتقد أنه لا يوجد هناك إلا رأي واحد فقط، هو الصائب مهما كان الموضوع والبحث وتقوم جريدة " البرافدا " في كل صباح بمهمة إخبار الناس بما هم في حاجة إلى معرفته، وبما ينبغي عليهم أن يؤمنوا به. ولقد أدهشني أن الجرائد لم تذكر شيئًا عن الحرب الأهلية في أسبانيا .. لقد أصبحت عقول الناس مدربة على الطاعة والامتثال بشكل طبيعي. إن اختفاء الرأسمالية لم يجلب الحرية للعامل السوفياتي، فلم يعد يستغلهم حملة الأسهم الرأسماليون، ولكنهم يستغلون أبشع استغلال وبطرق خفية وملتوية، وغالبيتهم العظمى يعيشون تحت مستوى الفقر .. إن ديكتاتورية الطبقة العاملة التي طالما نادت بها الماركسية لم تتحقق بعد، إلا أنه توجد ديكتاتورية من نوع آخر ديكتاتورية الحكومة الاستبدادية». ¬

_ (¬1) هذا الموضوع فصله كتاب " الغزو الفكري " للمؤلف.

كذب المادية الجدلية

ويقول: «إن الكاتب من بين جميع العمال الموظفين في الاتحاد السوفياتي يلقى أكبر الفضل وأعظم الرفق، ولقد أدهشتني وأفزعتني تلك الامتيازات الهائلة التي عرضت علي حتى لقد خفت أن أستجيب للإغراء .. لقد كان الثمن المطلوب أن يمتنع الكاتب عن أي معارضة، ومجرد النقد الحر يعتبر معارضة، لقد اكتشفت أن عضوا بارزًا من أعضاء أكاديمية العلوم قد أخرج من سجنه حديثًا، وكانت جريمته أنه مستقل الرأي، وقد طرد عالم آخر من أستاذيته في الجامعة وحرم من تسهيلات إنشاء مختبر " معمل " خاص، لأنه يعبر عن بعض الآراء العلمية التي لم تتطابق مع الرأي السوفياتي السائد، ثم أرغم على كتابة خطاب يتبرأ فيه من آرائه لكي يتجنب النفى إلى سيبيريا» (¬1). كَذِبُ المَادِّيَّةِ الجَدَلِيَّةِ: لقد استند (ماركس) و (إنجلز) ومن قبلهما (هيجل) على النظريات العلمية في عصرهم لإثبات قانون التناقض. فقالوا: إن الذرة هي وحدة الكون كله وأن الطبيعة مكونة من 92 عنصرًا تختلف باختلاف عدد الذرات بها، وعليه فحركة الطبيعة تثبت وجود تناقض بين عناصرها المختلفة لاختلاف تكوينها، وطبق هذا التناقض على الجنس البشري. ولكن كيف نشأت الذرة الأولى التي نشأ فيها أول صراع؟ تزعم المادة الجدلية أن الكون يتوالد باستمرار، ويحمل في أحشائه قدرته الخاصة في الحركة والتحول، وهو لذلك ليس في حاجة إلى محرك، وهذا التفسير يرتبط بإنكارهم وجود الخالق، ولكنهم عجزوا عن بيان خالق الذرة الأولى التي نشأ منها الكون وبنى عليها أول صراع. لقد قامت الماركسية على أساس هذا التفسير العلمي الذي يسمى بالاشتراكية العلمية. لقد أثبت العلم الحديث أن الذرة ليست هي وحدة الكون، حيث تم اكتشاف مكوناتها التي تنقسم إلى نواة، تتكون من بروتونات ونيترونات وأجسام أخرى يحيط بها عدد من الإلكترونات، والأكترون ذو شحنة سالبة والبروتون ذو شحنة موجبة والنيترون متعادل. ولم يعد هناك احتمال القول بوجود تناقض في المادة، فعدد الالكترونات السالبة في الذرات الواحدة يساوي عدد البروتونات بها، وهما لا يتصارعان داخل الذرة وذلك حسب اكثشاف (كولومب) المسمى بقانون كولومب. وثبت علميًا أن المادة تتحول إلى أخرى عن طريق فصل أو تجميع الذرات، كما ¬

_ (¬1) " الصنم الذي هوى ": ص 247، تعريب الأستاذ فؤاد حمودة، الطبعة الثانية 1970.

الشورى بين اليمين واليسار

تتحول من صورة إلى أخرى فلا يتم التناقض والصراع كما كان يعتقد ماركس، ولم تعد المادة ذات تأثير وتغير ذاتي من داخل الذرة إذ لا يوجد أي تأثير خارجي أي تأثير ذرة على أخرى لكي يتم التحويل، وتحويل مادة من صورة إلى أخرى يحتاج إلى مؤثر خارجى فمن الجامد إلى السائل يحتاج رفع درجة الحرارة. (انظر: " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة "). هذه الحقائق العلمية تحطم النظرية الماركسية، لهذا حاول البعض التنصل منها والتحايل، فقد قال الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه " أسس الاشتراكية ": «لقد قامت الجدلية المادية على فرضية لفظية أن الطبيعة جدلية وليس معنى ذلك أنه قد ثبت هذا علميًا ولكنها ضرورة لتفسير التاريخ ..» ولكن كتابه " العروبة والإسلام " يحطم الإلحاد. فهل يدرك الماركسيون العرب وكل من له عقل من البشر أن التفسير العلمي يضع تحليلات (ماركس) في سلة المهملات (¬1). الشُّورَى بَيْنَ اليَمِينِ وَاليَسَارِ: ما زالت تظهر بين الفترة والأخرى بحوث ومقالات تصنف المسلمين إلى اليمين واليسار، ولكن من الجرأة على تاريخ الأسلام والمسلمين أن يمتد هذا التصنيف إلى صحابة - رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنجد مقالات في مجلة " الكاتب " باسم الصراع بين اليمين واليسار في الإسلام (¬2) (وتفصيل الرد على ذلك فى كتاب " الغزو الفكري " للمؤلف). صاحب هذه المقالات أراد أن يخدم اليسار في عصرنا على حساب الإسلام وصحابة رسول الله والتاريخ الإسلامي. فيزعم الكاتب أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو مؤسس اليسار الإسلامي وواضع مبادئه، ثم يختلق مقدمة كاذبة ليصل إلى نتيجة خاطئة، ليقنع بها الغافلين من المسلمين. أما المقدمة الكاذبة فهي قول الكاتب: «في حياة النبى كان رجاله المقربرن هم المستضعفون، وعلى رأسهم على بن أبي طالب الذي لم يفارق النبى لحظة من حياته، إلا أن السياسة العليا لتثبيت دعائم الدولة الجديدة اقتضت ألا يدخل في مجلس الشورى، الذي لا نعرف بالضبط ما هي الصورة الرسمية التي تشكل على أساسها. فكل ما نعرفه أنهم كبار المسلمين من حيث مركزهم القبلى والسياسي». ¬

_ (¬1) " السياسة " في 30/ 5 / 1986. (¬2) نشرت في مصر سنة 1965 للكاتب أحمد عباس صالح: ص 43.

ثم يقول في هذه المقدمة «هذا المجلس لم يكن يضم من اليساريين الثوريين إلا علي بن أبي طالب. ولو تشكل مجلس الشورى أو على الأصح لو كان ممكنًا أن يتشكل المجلس منهم، لسار الإسلام سيرة أخرى تمامًا. ولكن ما كان يمكن أن يتصدر مجلس الشورى رجال من أمثال سلمان الفارسي أو أبي ذر الغفاري أو عمار بن ياسر أو صهيب الرومي والقبلية ما زالت في عنفوانها». هذه المقدمة تزعم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكل مجلس الشورى من أصحاب المراكز الاجتماعية. وأنه لم يدخله من المستضعفين إلا علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، والذي جعله الكاتب يساريًا. هذه المقدمة الكاذبة تؤدي إلى نتيجة كاذبة خاطئة، هي أن صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا موزعين إلى يمين ويسار. وأن اليساريين منهم كانوا مقربين إلى النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه زعيم اليسار ومؤسس مبادئه ولكنه لم يستطع أن يدخلهم في مجلس الشوري الذي أسسه، لوجوب موانع طبقية، اضطرته أن يبعدهم ما عدا علي بن أبي طالب. إن المصادر التاريخية التى يستقي منها هذا الكاتب، وكل من كتب أو يكتب عن هذه الفترة تكذب كل ما سطره الكاتب المذكور. ونكتفي من هذه الأدلة بما يأتي: أولاً: القرآن الكريم وهو أول هذه المصادر، يصف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته بقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬1) وبقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2)، كما يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬3)، ويقول الله تعالى عن المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬4). ويقول الله تعالى عن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 6]. (¬2) [الأحزاب: 40]. (¬3) [الفتح: 29]. (¬4) [الحشر: 8]. (¬5) [الحشر: 9].

ثانيًا: أن صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي مقدمتهم الإمام علي بن أبي طالب، لم يكن من اليمين أو اليسار، بل هذا الاصطلاح لا وجود له في هذه الفترة ولم يظهر إلا في القرن الثامن عشر، أي بعد مضي اثني عشر قرنًا على عصر الصحابة. ثالثًا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشكل مجلسًا خاصًا للشورى، بل كان يستشير الحاضرين من الصحابة لا يفرق بين الفقير والغني والرئيس والمرءوس. لهذا شاور جميع الصحابة في أمر قريش واعتراض قوافلها، وشاور جميع من حضر غزوة بدر في اختيار موقع المعركة. وشاور جميع الحاضرين من الصحابة في غزوة أحد، فاختار أغلبيتهم أن يخرجروا لملاقاة قريش خارج المدينة، واستشار الصحابة في تسليم ثلث ثمار المدينة مقابل انسحاب قريش وحلفائها في غزوة الخندق، فآثر الصحابة من أهل المدينة استمرار القتال وفاءً بعهدهم وبيعتهم لله ورسوله. كما شاورهم في صلح الحديبية، واستشار زوجته أم سلمة في أمر الصحابة، الذين لم يستجيبوا لبعض شروط الصلح ولم يتحللوا في العمرة، وعمل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برأيها فكان خيرًا وبركة. رابعًا: أن جميع المصادر التاريخية تثبت أنه لم يكن للنبي مجلس للشورى بتشريعنا الحالي بل كان يستشير جميع الحاضرين على النحو سالف الذكر. خامسًا: كما تثبت هذه المصادر التاريخية الكذب والاختلاق فيما زعمه الكاتب اليساري من استبعاد من سماهم بالمستضعفين أو اليساريين ومنهم سلمان الفارسي، فلا ينكر أحد من المؤرخين أن سلمان الفارسي هو الذي أشار بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، وأخذ بذلك النبي ولم يكن أحد من العرب يعرف هذه الوسيلة الدفاعية. سادسًا: أن المركز الاجتماعي ليس شرطا لتولي أي عمل أو مسؤولية في الإسلام، والمصادر كلها تكذب الكاتب في دعواه قصر الشورى على طبقة بعينها. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ». وشروط عضوية مجلس الشورى عند الفقهاء ثلاثة: على ما أورده الماوردي وهي العدالة، والحلم، والثالث هو: الرأي والحكمة (" الأحكام السلطانية ": ص 6) (¬1). ¬

_ (¬1) " الوطن " في 10/ 1 / 1986.

المثقفون بين اليمين واليسار

المُثَقَّفُونَ بَيْنَ اليَمِينِ وَاليَسَارِ: يظن بعض الكتاب المسلمين أن اليسار تعبير عن اتجاه يدعو إلى الأخذ بحلول جذرية لا تقبل المعالجة السطحية للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية. كما يظن آخر أن اليمين بين المسلمين في عرف اليسار تعبير عن أشخاص يلحون على الدعوة إلا الشعائر التعبدية التي لا تمس المظالم والفوارق الصارخة ويتعمدون السكون على المنكرات والمظالم. وفي المعلوم للجميع أنه قد نشأ اليمين واليسار كرد فعل للثورة الفرنسية، فأصحاب اليمين كانوا يدافعون عن القديم، ومن ثم يتمسكون بالدستور ويدافعون عنه وأصحاب اليسار يرون أن هذا القديم يمثل بقايا مظالم نظام الإقطاع في أوروبا، ولذلك ينادون بتغييره. ومن المعلوم أنه قد ظهرت حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) ضد الكنيسة فكانت تكافح تعاليم البابوية التي سماها تعاليم الشيطان، ولهذا، طالب بإلغاء سلطة البابا، وإلغاء صكوك الغفران وصكوك الحرمان. أما رد الفعل المتطرف فتمثل في فلسفة (هيجل) الذي ادعى أن خلق الكون يرجع إلى فكرة سماها العقل المطلق، فالله عنده عقل مطلق، ويقابل ذلك العقل المقيد وهو الطبيعة. ثم ظهر بعد ذلك (ماركس) وأخذ بفلسفة (هيجل) وقال إنها تسير على الرأس وتجعل القدمين في الهواء ويلزم في نظره أن تقلب ولهذا قال: الطبيعة والمادة هي أساس الخلق، وليس العقل، أي أن الطبيعة خلقت العقل والحياة والإنسان وتقوم فلسفة (هيجل) و (ماركس) على أساس النظريات العلمية آنذاك قد توصلت إلى أن هناك تناقضًا في أجزاء الذرة. أي أن حركة الطبيعة تنطوي على تناقض في عناصرها وبالتالي فالإنسان باعتباره من المخلوقات التي أوجدتها الطبيعة في نظرهم يخضع لهذا التناقض في حركته عبر التاريخ، ولهذا قال (ماركس) بالصراع الطبقي. ولكن ثبت علميًا أن المادة تتكون من عناصر متعادلة ولا تناقض بينها وأنه يمكن أن تتحول إلى أخرى عن طريق فصل أو تجميع الذرات وليس عن طريق التناقض والصراع، وهذا يسمى بـ (قانون كولومب) وبدلاً من أن يعلن الماركسيون عن توبتهم عن اتباع هذا الخطأ بدأ بعضهم يبرر هذه الخطيئة يبرر هذه الخطيئة فيدعي أن المادية الجدلية عند (ماركس) تقوم على افتراض

لفظي، عندما كانت حركة المادة غير معروفة ويقول: ولعل هذا قد وضع لتبرير تطبيق القوانين الجدلية على المادة (¬1). إن هذا التبرير من بعض الأعراب ليس له أساس ويناقض أقوال قادة الماركسية. يقول (لينين) (¬2): «إن المعنى الدقيق للجدلية هو دراسة التناقضات داخل ذات جوهر الأشياء». ويقول (ماوتسي تونج) (¬3): «فالمتناقضات الكامنة في الأشياء والظواهر هي السبب الرئيسي لنموها، بينما صلة الشيء أو الظاهرة المتبادلة مع الأشياء، أو الظواهر الأخرى وتأثيرها عليها إنما هي أسباب ثانوية». ويقول (إنجلز) (¬4): «أما المادة الحية فهي تخضع أيضًا لعملية تطور مستمرة فلقد تكونت ابتداءً من أول مراحل الحياة، ولذا لم يعد بالإمكان الاعتقاد بالخرافة التي نشرها الدين، منذ مئات السنين، بأن الله خلق الأنواع مرة واحدة فهي لا تتغير». إنه بالمناقشة الهادئة لهذه المفاهيم الخاطئة نصل بعون الله إلى الحقائق التالية: أولاً: ليس صحيحًا أن هذا التفسير المادي للأحداث التاريخية هو من باب الاستفادة من الفكر الإنساني فقد اتضح أن هذا التفسير ليس علمًا من العلوم التي يستفاد بها حيث بنى على نظرية ثبت عدم صحتها كما ذكرنا من قبل. ثانيًا: وليس صحيحًا أن اليمين أو اليسار سبيل لتحقيق العدل، وأنه أيما طريق لاستخراج العدل فثم شرع الله. فالعدل قد اختلفت طرقه البشرية وتنازعت وتصارعت، فالماركسية ترى أن العدل يتحقق بسيادة الطبقة العاملة، ودفنها لباقي فئات الشعب وتصفيتها جسديًا. والرأسمالية ترى أن العدل يتحقق بترك الحرية المطلقة لأصحاب الأموال يستغلون حاجة العمال وغيرهم حتى لو أدى ذلك إلى احتكار السلع وتجويع الشعوب. ثالثًا: إنه من العبث بالفكر والرشد الإنساني أن ينادي مسلم باتباع الماركسية، أو الرأسمالية، تاركًا شرع الله الذي لا يميز العمال أو أصحاب الأموال ولا يفرق بين الناس بسبب المال أو النسب أو الجاه حيث يصبح والحال هذه كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ¬

_ (¬1): (¬4) " المسلمون في لعبة اليمين واليسار ": ص 44 - 51 نقلاً عن " الغزو الفكري " للمؤلف.

أنكاثًا. لهذا جاء البيان الإسلامي للإنسانية وتمثل في قول الله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] (¬1). رابعًا: وليس صحيحًا أن أمور الاقتصاد والاجتماع من الفروع التي تقع تحت طائلة الاجتهاد فيمكن للمسلم أن يتبع النظام الراسمالي أو النظام الشيوعي ويصبح يمينيًا أو يساريًا ذلك أن الإسلام قد وضع لهذه الأمور قواعد كلية، لا يجوز الخروج عليها، وهي القواعد الواردة في القرآن والسنة وفيها قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2). ولو كانت هذه فرعيات ومتروكة للاجتهاد كما يزعمون لأصبح لدى المسلمين إسلام ماركسي وإسلام اشتراكي وإسلام رأسمالي. واللهُ يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ...} (¬3). وأيضًا فإن الشيء وضده ينسب إلى الإسلام، كتحريم الملكية على الأفراد أو ترك الحرية للاحتكار والاستغلال. خامسًا: وليس صحيحًا أن رفض اصطلاح اليسار واليمين يؤدي إلى فرض الانتماء السياسي في عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء، وهو في نظرهم انتماء لا يتفق مع مقتضيات عصرنا فما طَبَّقَهُ الرسول والخلفاء الراشدون ليس انتماءً سياسيًا بل اتباع لشريعة الله. فقد تجاهل هؤلاء أن الإسلام يطلق الاجتهاد للأمور التي تخضع للحواس، اي للتجربة البشرية فهذه تركها للناس، حيث قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». أما ما لا يخضع للحواس والتجارب فقد نزل فيه الوحي بالقرآن والسنة. من ذلك النظام السياسي والاجتماعي الذي فرض الشورى في مصالح الناس الدنيوية. قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬4). فالإسلام يقوم على التسليم بسيادة الله وشرعه في الحلال والحرام. قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬5) [الأنبياء: 23]. وقال - عَزَّ وَجَلَّ - ¬

_ (¬1) [البقرة: 256]. (¬2) [الأحزاب: 36]. (¬3) [الأنعام: 162، 163]. (¬4) [آل عمران: 159]. (¬5) [الأنبياء: 23].

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (¬1). فإذا اتبع الخلفاء الراشدون ذلك، واتبع المسلمون من بعدهم هذه النصوص، فلا يقال إن أحدًا يفرض على المسلم انتماءً من عنده، فكما أن الخلق لله فالحلال والحرام من عند الله القائل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬2). سادسًا: وأخيرًا فقد تناسى الماديون والشيوعيون أن نظريتهم تؤدي إلى إنكار وجود سلعة بغير ثمن أو مقابل، حيث لا يوجد إله يرزق الناس بغير ثمن كما يزعمون، والواقع يكذب ذلك، فقد خلق اللهُ الهواء والماء ليكونا من المنافع المشاعة مجانًا للجميع من إنسان أو حيوان أو نبات، ولأنها خلق الله فلا مجال لاحتكارها، حتى لا يتحكم مخلوق في خلق الله، حيث يتوقف عليها استمرار الحياة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي المَاءِ وَالكَلَأِ وَالنَّارِ». لما كان ذلك: فإن من السذاجة أن يشيع أتباع هذه الاتجاهات الخاطئة أن الثقافة ترتبط بإنكارهم الرسل والرسالات، وأنهم الطليعة المثقفة في وطنهم. وإنه من الخديعة والمغالطة أن تقتصر المؤتمرات الثقافية على هؤلاء ... ومن والاهم أو رضي بكفرهم بالله ورسوله، وأن تصدر منهم قرارات في شكل الإجماع والأغلبية المطلقة ثم ينسب جذورها إلى المثقفين الغائبين عن هذه المؤتمرات. وهي بإجماع الملاحدة فقط. وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) [الرعد: 16]. (¬2) [الأعراف: 54]. (¬3) [غافر: 82 - 85]. (¬4) نشر في " السياسة " في 30/ 5 / 1986.

اليسار الإسلامي بين الحقيقة والوهم

اليَسَارُ الإِسْلاَمِيُّ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالوَهْمِ: إن الأسباب والمبررات التي ساقها أصحاب اصطلاح اليسار الإسلامي واليمين المسلم تبعد كثيرًا عن الحقائق التاريخية والمصطلحات العلمية، وهذا ما نوجزه فيما يلي: أولاً: اليسار السياسي والاجتماعي: إن اصطلاح اليسار واليمين قد كان في بدايته اصطلاحًا سياسيًا، فقد نتج عن الثورة الفرنسية أن انعقدت الجمعية التشريعية في أول أكتوبر 1791 م، لتنفيذ الدستور وحماية نتائج الثورة ومكاسبها، وقد انقسم أعضاؤها إلى يسار ويمين ووسط (" تاريخ القرن التاسع عشر " لمحمد قاسم وحسين حسني: ص 18 عام 49). أ - أفكار اليسار يضم أنصار اليعاقبة الذين ينقمون على الدستور اعتداله في عرفهم ونادوا بالجمهورية وإلغاء طبقة الإقطاع. ب - وكان حزب اليمين من أنصار جماعة القويان الذين يعضدون الدستور ويحافظون عليه. ج - وكان حزب الوسط ويشمل الذين غلب عليهم طابع الحذر والتردد فليسوا من أنصار اليمين أو اليسار. ثانيًا: اليسار الاعتقادي: إذا كانت الثورة الفرنسية واليسار السياسي هما رد الفعل السياسي والاجتماعي لمظالم رجال الدين وأمراء الإقطاع في أوروبا فإن رد الفعل قد تمثل في الآتي: - حركة الإصلاح الديني التي قادها (مارتن لوثر) في القرن الخامس عشر، فكافح تعليم البابوية وسماها تعاليم الشيطان، وطالب بإلغاء سلطة البابا وصكوك الغفران والحرمان. ظهر (نيتشه) في القرن الثامن عشر وطالب باستقلال العقل وسيادته على النفس والعالم الخارجي عنه، وقال بالنقيض في مجال القصور الذهني وذلك بإدراك قيمة العقل واستقلاله وحريته. ومع بداية القرن التاسع عشر ظهر (هيجل) واستخدم مبدأ النقيض في مجال الفكرة، فادعى أن خلق العالم يرجع إلى فكرة اسمها " العقل المطلق ". فالله في نظره فكرة

مطلقة أو عقل مطلق، ونقيض ذلك العقل المقيد وهي الطبيعة التي هي ضد العقل المطلق فهي مقيدة ومحدودة. فالله عند (هيجل) لم يخلق الطبيعة بل يحمل في ذاته نقيضه، لذلك كانت الطبيعة ضرورية وصدفة وليس فيها حرية اختيار، والدولة هي صورة من صور العقل المجردة التي تمثل الإرادة العاقلة الإلهية، ولهذا كان (هيجل) يدعو إلى طاعة الدولة طاعة عمياء، فسمى بفيلسوف البلاط، ومن ثم ظهر المذهب الوضعي الذي [دعا] إليه (كونت)، ويرفض سيادة الدين أو العقل ويميل إلى سيادة الطبيعة على الدين والعقل الذي لا يعترف إلا بما جاء عن التجارب الحسية، وادعى (كونت) أن ما وراء الطبيعة «الله والوحي والدين» هو وهم سراب. ثم جاء (كارل ماركس) بعد هذه المراحل وبعد تكتل القوى ضد الدين الكنسي وضد الإقطاع فاستخدم مبدأ النقيض في مجال الاقتصاد ودعا إلى الفلسفة المادية التي تستخدم جدلية (هيجل) ولكنه ادعى أنها كانت مقلوبة فعدله، فـ (هيجل) يقول: إن العقل أساس الخلق، بينما (ماركس) يقول: إن المادة خالقة العقل، وينكر وجود الله تمامًا. وكان من أثر الثور الفرنسية 1789 م قيام النظام الرأسمالي الذي رفع شعار الحرية وفصل الدين عن الدولة، وعبارة (آدم سميث) هي: «دعه يعمل، دعه يمر»، وبالتالي سيطر رأس المال على الأخلاق وعلى مقدرات البشر، وتحكم كالماركسية في حاضرهم ومستقبلهم، وأصبحت المنفعة هي الضابط الذي يتحكم في الإنسان (¬1). ¬

_ (¬1) " السياسة في 30/ 5 / 1986 وتفصيل الموضوع في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة ".

الوجه الشيوعي لليمن الجنوبي بين العلمانية واللادينية

الوَجْهُ الشُّيُوعِيُّ لِلْيَمَنِ الجَنُوبِيِّ بَيْنَ العِلْمَانِيَّةِ وَاللاَّدِينِيَّةِ: (¬1). تَجْرِبَةٌ لِلْتَّنْفِيذِ بِالسَّعُودِيَّةِ وَدُوَلِ الخَلِيجِ: استكمالاً للوقائع والمقدمات التي ركزت عليها في مقالاتي السابقة، المتضمنة أن الحكام وسائر المسؤولين بدول الخليج وبالمملكة العربية السعودية [يزمعون] اتخاذ تدابير وقائية ضد العناصر اليسارية، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه النصح ولا تقبل النصيحة. أنصح هؤلاء أن الوقاية لا تكون باعتقال اليساريين واضطهادهم، فذلك سبيل الفاشلين ومناخ طبيعي للشيوعيين، إنما يكون بالتدابير بتوعية اليسار في الجيوش وصفوف الطلبة والعمال، وفتح حوار معهم، ليدركوا أضرار العمالة لليسار واليمين، وليوقنوا فشل مبادئ (ماركس) و (لينين)، وهذا الحوار إنما يصدر عن مجتمع تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. التَّطَوُّرُ المُفَاجِئُ: لقد بدأت الثورة الفعلية ضد حكم أسرة حميد الدين باليمن الشمالي سنة 1948 م إذ تم قتل الإمام يحيى في 23 سبتمبر / أيلول من هذا العام بتدبير من مجموعة من الوطنيين، ظهر منهم أحمد بن الوزير عضو ديوان الإمام، ومحمد محمود الزبيري الملقب بأبي الأحرار اليمنيين، والفضيل الورتلاني والنعمان وآخرين ممن كانوا أعضاء بالجمعية اليمنية التي شكلت في عدن. ولم يكتب النجاح لهذه الثورة فتمكن الإمام أحمد عن طريق الدول العربية من إعادة الأوضاع، وتم إعدام ابن الوزير وآخرين وفر الزبيري والورتلاني إلى خارج اليمن، وتمكن الإمام أحمد من سجن آخرين مثل الإرياني وأحمد النعمان وحسن العمري وآخرين. مِيثَاقٌ لِلْوَحْدَةِ اليَمَنِيَّةِ: ثم في خلال شهري فبراير ومارس 1961 قام المناهضون للأوضاع باليمن شماله وجنوبه، بعقد مؤتمرات، مثل فيها الشمال الزبيري والنعمان وآخرون، أمثال قحطان الشعبي. ¬

_ (¬1) " البلاغ " في 29 شعبان 1392 هـ - 7/ 10 / 1972.

قيام الثورة في الشمال

وكلف المؤتمر الشعبي بتقديم دراسة عملية تضمنت، أن «الحل العملي لا يمكن أن يكون إلا بتكوين جبهة قومية، تضم الفئات المخلصة في الحقل الوطني، وهي التي تؤمن إيمانًا حقيقيًا بقضيتها ومسؤوليتها القومية في إقليم اليمن جميعه، وتعتبر حركتنا القومية في اليمن بجزئيه إنما هي جزء لا يتجزأ من معركتنا العربية العامة، وأن مصير الشعب العربي جميعه في اليمن يرتبط ارتباطًا كاملاً بالوحدة العربية الشاملة». وبناءً على هذا التقرير شكل المؤتمر لجنة بالقاهرة في يناير سنة 1962 للعمل على وحدة اليمن في إطار الوحدة العربية الشاملة، وكانت اللجنة تتكون من أحمد النعمان، محمود الزبيري، قحطان الشعبي، محسن العيني، محمد أحمد النعمان، أحمد المعلمي، حسن السحولي. قِيَامُ الثَّوْرَةِ فِي الشَّمَالِ: وفي 26 سبتمبر 1962، أي بعد وفاة الإمام أحمد بأسبوع قامت الثورة اليمنية في الشمال، وأعلنت الجمهورية على أساس ميثاق الوحدة اليمنية، وكان من مبادئها الظاهرة إقامة العدل على أساس إسلامي صحيح، وتحقيق الوحدة اليمنية في ظل حكم ديمقراطي إسلامي. وما إن قامت هذه الثورة حتى سارع (عبد الناصر) الدخول فيها شريكًا خاسرًا، إذ نجم عن ذلك مساندة السعودية للإمام (البدر) الذي تمكن من الفرار، وظل القتال ست سنوات عجاف راح ضحيته الملايين من المصريين واليمنيين، وشل حركة الجيش المصري أمام العدوان الإسرائيلي سنة 1967، وخسرت مصر من الأموال ما لم يعلن عنه وما زال أثره حتى اليوم خفيًا عن الأمة وممثليها. ولأول مرة يكتب أحد قادة الجيش المصري بذلك، وهو الفريق صلاح الدين الحديدي، فبعد أن ذكر هذه النتيجة المؤسفة، قال في كتابه " شاهد على حرب سنة 1967 ": «لقد ساد الإحساس عام 1962 م (انفصال سوريا، وهرب زغلول عبد الرحمن ومؤتمر شتورا) أن القاهرة بدأت تفقد الأرض التي تقف عليها، وأن الدول العربية أو غالبيتها تتأهب لتقف في الجانب الآخر. لكل هذه الأسباب ونتيجة طبيعية لها، كان القيام بضربة مضادة سياسيًا مفيدة

محسن العيني يكشف الحكم في الجنوب

لمصر إلى حد بعيد، لتغيير الوضع غير الطبيعي الذي وجدت نفسها فيه عامي 1961 و 1962 ... وهكذا بدأت المباراة وبدأت الاشتباكات المسلحة بين الجمهوريين وبين الملكيين في اليمن وانغمست مصر فيها» انتهى. لقد رغب الإنجليز في الانسحاب من عدن، بل من شرق السويس، لأن البقاء هناك يكلفهم نفقات كبيرة، لعدم أهمية القوات البرية بعد وجود الصواريخ والاعتماد على إسرائيل كقاعدة للغرب في المنطقة. وبدلاً من أن يتركوا الأمور تجري في مسارها الطبيعي، عمدوا كعادتهم إلى خلق شقاق دائم بين أبناء الوطن الواحد، فسلموا الحكم لـ (الجبهة القومية) برئاسة قحطان الشعبي، الذي رفع شعارات ماركسية، ونقض ما اتفق عليه مع إخوانه في الشمال والجنوب. وكان طبيعيًا أن تنكر اليمن الشمالية هذا التصرف، وأن تتنكر هي وسائر الدول العربية لهذه العمالة، ولكن لاعتبارات أخرى اعترفوا بها وهي لا تمثل الشعب، حيث كان هناك خمسة عشر حزبًا بعدن وحدها، منها (جبهة التحرير) التي كانت تساندها مصر، و (رابطة أبناء الجنوب) التي تساندها السعودية، وكانت (الجبهة القومية) التي تكافح بالبيانات الصحفية، هي التي سلمتها بريطانيا الحكم مع إعلانها الماركسية. وبعض هذه الاعتبارات أشار إليها القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري باليمن الشمالي، فهو يصرح للبعثة الصحفية المصرية يوم 3/ 10 / 1972 الساعة 10.30 مَساءً، بأنه «لقد واصلت (جبهة التحرير) النضال والكفاح إلى أن اقتنع الإنجليز أن بقاءهم أصبح مستحيلاً، ولكن من عادة الاستعمار لا بد وأن يقف وراءه مشكلة للمواطنين، فاستدعى (الجبهة القومية) لمفاوضتها، وأعطاهم الاستقلال وأعلنوا الجمهورية، وفي رأيي أننا كنا متفقين معهم على الوحدة، غير أننا اضطررنا للاعتراف حتى لا يعطى الإنجليز أي مبرر في التأخير». مُحْسِنْ العَيْنِي يَكْشِفُ الحُكْمَ فِي الجَنُوبِ: لقد نشرت الصحف العربية حديث الأستاذ محسن العيني رئيس وزراء اليمن الشمالية، الذي أدلى به إلى البعثة المصرية، فكان مما نشرته الصحف في 5/ 10 / 1972 ما نصه:

الإنجليز سلموا الحكم لـ (الجبهة القومية)

الإِنْجْلِيزْ سَلَّمُوا الحُكْمَ لِـ (الجَبْهَةِ القَوْمِيَّةِ): قال: «قبل وجود القوات العربية في اليمن لم تكن هناك معارك مع الإنجليز، وكان بعض المشايخ واللاجئين وأتباعهم لاجئين هنا في اليمن، لخلافات مع الإنجليز، و (الجبهة القومية) وغير القومية لم يكن لها وجود عسكري، وجاءت القوات العربية، ومدوهم بالسلاح ودربوهم، ودخلوا الجنوب وعملوا ضد الإنجليز، وإلى ما قبل الاستقلال بحوالي سنة، كانت (الجبهة القومية) ترفض اللقاء مع (جبهة التحرير)، التي كانت الجمهورية العربية المتحدة واضعة ثقتها فيها، لأنهم يعملون بدون ضجيج، وليسوا أصحاب شعارات فارغة، ومع ذلك فقد حاولوا أن يجمعوا (جبهة التحرير) و (الجبهة القومية) في جبهة واحدة، ورفض القوميون ذلك، وعزلوا أنفسهم حتى عن الكفاح، وذهب بعضهم إلى القاهرة والبعض الآخر بقي في الشمال وبعضهم في الجنوب، فواصلت (جبهة التحرير) الكفاح، ولكن الإنجليز فاوضوا (الجبهة القومية) وسلموا الحكم إليها وحدها إضرارًا بالمواطنين، لأن الإنجليز يعرفون اتجاهات هذه الجبهة وشعاراتها». زُعَمَاءُ (الجَبْهَةِ القَوْمِيَّةِ) يَرْفُضُونَ رِئَاسَةَ الدَّوْلَةِ اليَمَنِيَّةِ المُتَّحِدَةِ: لقد أعلن الأستاذ محسن العيني للبعثة الصحفية المصرية، «أنه بوصفه رئيسًا للوزارة باليمن الشمالي، عرض على الأستاذ سالم ربيع رئيس حكومة اليمن الجنوبي أن يتم إدماج شطري اليمن في دولة واحدة يرأسها سالم ربيع، فرفض الأخير، وكان ذلك بحضور الرئيس معمر القذافي، وكانت شروطه للوحدة أن تكون (الجبهة القومية) هي الحزب الوحيد الحاكم في اليمن الشمالي وجنوبه، وهذا عند حكومة الشمال مستحيل، إذ لا وجود للحزبية هناك و (الجبهة القومية) لا تمثل الشعب اليمني وقد ضرب الرئيس لشقيقه مثلاً بالاتحاد السوفياتي، فشعبه أكثر من 232 مليونً بينما الحزب الشيوعي الحاكم لا يمثل إلا ما بين 10 إلى 15 مليون فقط». رَأْيُ القَاضِي الإِرْيَانِيِّ فِي الحِزْبِيَّةِ: لقد أعلن القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري باليمن الشمالي، إننا لا نقبل الحزبية سواءً جاءت في ثوب الشيطان، أو ارتدت مسوح الرهبان. فالامتناع

أمل اليسار المصري

السائد بين الحكومة هناك، وكذلك أعضاء مجلس الشورى، وهم الممثلون الحقيقيون للشعب اليمني، حيث اختارهم بانتخاب حر، إن الحرية ستجلب الشقاق والنفاق والفساد في أنحاء الشعب اليمني وهو شعب متماسك، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. لأن المراد من الحزبية أن يفتح الشمال أبوابه للحزب الشيوعي. والمأثور أيضًا عن الرئيس الإرياني كما سمعته من وكيل مجلس الشورى، الأستاذ محمد الرباعي، ومن وزير العدل القاضي علي السمان، أن الحزبية تبدأ فكرة وتنتهي بالعمالة. والواقع الذي شاهدته (¬1) هو ما عبروا عنه أصدق تعبير، فقد ذاق الشعب مرارة القتال والتفرق بين ملكيين وجمهوريين، وأدرك التجربة العملية أن اليمين واليسار عمالة تنتهي بأن يقاتل الأخ أخاه ويسب أمه وأباه، ولقد شاهدت في اليمن انخراط الشعب كله في صف واحد، لا فرق بين الملكي العائد إلى وطنه بعد غربته، أو الجمهوري الذي ذاق مرارة الخلاف وحدته، فلماذا يصر قادة الجنوب على خلق الصراع والشقاق في الشمال؟ وهل تلك إحدى الاتفاقات السرية، التي بموجبها سلمهم الإنجليز الحكم، وهل هناك أغراض أخرى وراء حتمية سيطرة الجبهة القومية؟ ولماذا أسلم الحكم للماركسيين؟. أَمَلُ اليَسَارِ المِصْرِيِّ: ويتبنى اليسار المصري هذه الأفكار سنة 1971 فكتبت مجلة " الطليعة " في عدد أول يناير 1971، بعنوان " ملاحظات على الوضع الاقتصادي في اليمن الجنوبي " بقلم الدكتور فؤاد مرسي وإليك ما يخص موضوعنا من هذا المقال. اليَمَنُ الشَّعْبِيَّةُ هِيَ المِثَالُ: وكما تمكنت ثورة 14 أكتوبر في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وهي التغيير الخصب والخلاق الملتهب لثورة شعبنا وقياداته السياسية هناك، وهي الوليد الطبيعي والشرعي المتفجر لثورة 26 سبتمبر، وهي الامتداد الحي والتقدمي والمتصاعد للثورة العربية كلها، من الاندفاع بقوة متنامية متعاظمة في طريق التطور الوطني الديمقراطي، فإن ثورة ¬

_ (¬1) كانت زيارتي لليمن الشمالي خلال يوليو سنة 1972.

الثورة في الجزيرة والخليج

26 سبتمبر في «الشمال» ستتمكن بالتأكيد - وهي النبع والمنطلق - من ارتياد نفس السبيل، واقتحام نفس الأف وستغدو صنعاء - كحتمية تاريخية - العاصمة الطبيعية والثورة لجمهورية اليمن الموحدة الوطنية الديمقراطية أي الشيوعية. الثَّوْرَةُ فِي الجَزِيرَةِ وَالخَلِيجِ: إن الوجه الماركسي باليمن الجنوبي تجربة، تمهيدًا لخلق نظام مماثل بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج، وأودت بعض الشواهد مثل تسليم بريطانيا الحكم لهذا الوجه الماركسي، ثم رفض هؤلاء رئاسة اليمن الموحد إلا إذا كان في إطار (الجبهة القومية)، أي الوجه الماركسي، وهذا كله خلافًا للميثاق المتفق عليه بين زعماء الشمال والجنوب سنة 1961 بمصر. وحتى لو لم توجد هذه الشواهد فإن النتيجة التي حددتها قد استقرأتها من عدة أحداث وأشكال بالدول النامية، ثم من عدة مراجع استطعت أن أصل من خلال سطورها إلى هذه النتيجة، وأرى الاكتفاء بالنصيحة. ولكن إذا أفصح القوم عن شيء من تخطيطهم فإذاعته لا تعطيهم شيئًا جديدًا يسترون به اتفاق اللعبة أو المسرحية. لقد نشرت مجلة " إفريك - أزي " [Afrique Asie] الفرنسية مقالاً أخيرًا عن أبعاد المعركة اليمينة، تراه منشورًا بإيجاز في جريدة " السياسة "، بتاريخ 4/ 10 / 1972 وبه: «ما يمكن قوله حتى بشكل محايد، أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في اليمن الديمقراطية لم يطرأ عليه تغيير انقلابي، كما تصور بعض الكتابات في الخارج، ولكن كل ما في الأمر أنها نوع من الطموحات والنيات والشعارات، التي تهدف إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي الخالي من الاستغلال والقهر». تقول هذه الصحيفة: «ولكن هناك جانب آخر مهم يجدر الحديث عنه: وهو وجود (الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي)، هذه الثورة - وليست نظامًا - التي تعمل يوميًا على تنوير ونسف كل العلاقات السابقة، وإلى نسف الأساس الإيديولوجي الغيبي - أي الدين - .. ، هذا بالإضافة إلى خطرها السياسي الكبير جدًا من حيث

نداء من اليسار العربي بامتداد الثورة في الخليج العربي

إمكانية امتدادها في الخليج والجزيرة». نِدَاءٌ مِنَ اليَسَارِ العَرَبِيِّ بِامْتِدَادِ الثَّوْرَةِ فِي الخَلِيجِ العَرَبِيِّ: واستكمالاً لهذا التخطيط ننقل إلى كل عربي سلم من العمالة شمالاً وجنوبًا، وإلى المسؤولين خاصة، النداء الذي نشرته الصحيفة السابق ذكرها ونصه: «علينا الآن أن نأمل من شعب اليمن الديمقراطية أن يتمكن من إفشال الجهود العديدة المتضاعفة والهادفة إلى حرمانه من سيادته، وإلى قطع مسيرته الثورية نحو الاشتراكية». ثم يقول الناصح: «وبما أن وجود وبقاء اليمن الجنوبي الثوري هما شرطان أساسيان لامتداد الحركة التحريرية في الخليج العربي، وفي بلدان البحر الأحمر، لذا من واجب الثوريين في العالم أجمع، أن يقوموا بجميع الخطوات اللازمة والفعالة الملموسة لمساعدة شعب اليمن الجنوبي، وإفشال جميع المحاولات التي تقوم بها الإمبريالية العالمية وعملاؤها». إن هذا النداء قد غفل أصحابه عن أن السياسة الأمريكية الحالية في المنطقة العربية والإسلامية وما تطلق عليه اسم البلاد النامي تنفذ ما أوصى به (والتوروستو) الأستاذ بجامعة برتستون والمستشار بالبيت الأبيض، من ضرورة قيام حكومات عسكرية في هذه البلاد تتبنى الاشتراكية وتتحالف مع روسيا في الظاهر، لتحقيق هدفين: الأول: تصفية الحركات الدينية وعلى الأخص الإسلامية. الثانية: تحويل الشيوعيين من العمل السري إلى العمل العلني المرتبط بالولاء للنظام، وعن طريقهم يتم تصفية القوى الإسلامية والرأسمالية. وقد غفل هؤلاء عن الطريقة التي نفذها النظام المصري مع الحزب الشيوعي المصري (حدتو) (*)، حيث تم الاتفاق معه على أن يذوب في الاتحاد الاشتراكي، ويعمل من خلاله علانية، على أن يكون جمال عبد الناصر هو المكافح بدلاً من (لينين)، وتكون مصر هي الأم بدلاً من روسيا، وأشارت " الأهرام " إلى ذلك في صفحتها الأولى، واعتبرت أن هذه أول مرة في العالم يحل حزب شيوعي نفسه. ولهذا لا يستغرب أن تقوم دول عربية معينة غير اشتراكية بالمحافظة على نظام الحكم في عدن، ولهذا سارعت هذه الدول بعمل مصالحة بين عدن وصنعاء بعد أن احتلت القبائل وقوات المجاهدين قعطبة (**) وبعض مدن اليمن الجنوبي، معلنة إسقاط هذا الحكم، فكان اتفاق الوحدة الذي سارعت مصر وليبيا في إخراجه، والتوفيق بين نظامي اليمن مع العداء السافر بين القذافي والسادات. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) (الحركه الديمقراطيه للتحرر الوطني) (حدتو) هي من المنظمات الشيوعيه المصرية. تكونت (حدتو) كامتداد للحركه المصريه للتحرر الوطني (حمتو) وشقيتها الحركه السودانيه للتحرر الوطني (حستو).:كانت لتلك المنظمتين امتدادات ضخمه في تاريخ مصر والسودان. فالأخيرة هي التنظيم السابق للحزب الشيوعي السوداني والأولى مثلت الأساس السياسي لامتدادات عديده متضمنة الحزب الشيوعي المصري اليوم وكذا حزب التجمع التقدمي الوحدوي حيث أن عددًا هامًا من أهم رموز حزب التجمع كخالد محي الدين، عريان نصيف، حسين عبد ربه، رفعت السعيد كانوا اعضاءً في (حدتو) ... (نقلاً عن " ويكيبديا "). (**) مديرية قعطبة أكبر مديريات محافظة الضالع في جنوب اليمن سكانًا. بلغ عدد سكانها 91206 نسمة عام 2004. مركز هذه المديرية مدينة قعطبة. (المصدر السابق).

الواقع اليمني والعلمانية

ولقد تضمن اتفاق الوحدة اليمنية مبادئ لم يستطع محسن العيني مواصلة خطة تنفيذها في الشمال وهذه المبادئ هي: أ - النص في ميثاق الوحدة على أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع فهم يهدم ما نص عليه الدستور اليمني من أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع. ب - ما تضمنه ميثاق الوحدة من أن أهداف الدولة الموحدة هو تحقيق الاشتراكية، وهذا يهدم نَصًّا من الدستور يبطل ما خالف الإسلام، ويجدد معالم العدالة الاجتماعية والاشتراكية بالإحالة إلى الشريعة الإسلامية، وليس في إطار الولاء العربي للاشتراكية بأنواعها. ج - ما تضمنته اتفاقية الوحدة من تكوين حزب سياسي في شطري اليمن، لأن هذا من شأنه اتباع نظام الحزب الواحد الحكومي الذي يحطم الأمة، كما هو الحال في الجنوب وفي الدول العربية التي سلكت هذا السبيل ولا شك أن هذه البنود الثلاث التي تضمنها الدستور الموحد ستؤدي إلى: 1 - شرعية أي قانون يصدر عن طريق المجلس أو في غيبته يخالف الشريعة الإسلامية، إذ أن خلو الدستور من بطلان القانون يضفي شرعية قانونية لأي تصرف مخالف للشريعة، سواءً كان هذا التصرف قانونًا أو إجراءً إداريًا. 2 - شرعية ممارسة الإلحاد في الشمال والجنوب بالنشاط السريع والعلني تحت شعار الاشتراكية، ومن خلال النظام السياسي والولاء للاشتراكية بأنواعها. 3 - شرعية اضطهاد وتصفية العلماء تحت اسم الثورة المضادة، وعرقلة الوحدة والعداء للاشتراكية والنظام. 4 - تحويل اليمن تدريجيًا وبخطة لتصبح دولة علمانية «لادينية»، وتلك هي غاية المعسكرين، وهذا هو ما يفسر محافظتهما مَعًا على الحكم الشيوعي في عدن. الوَاقِعُ اليَمَنِيُّ وَالعِلْمَانِيَّةُ: إن العلمانية في المجتمعات العربية تجعل رأي أغلبية الشعب هو القانون الواجب التطبيق، ولكن الاستعمار إنما سلم الحكم في عدن إلى اليسار الأمريكي الذي يتبنى الشيوعية المحلية، ليكبت رأي الأغلبية ولكن تحت ستار من الخداع الذي يبقى على الأذان والمناسبات الدينية، حتى يوم عاشوراء، وفي ذلك يقول أحد الماركسيين العرب:

الطليعة واليمن الشمالي

«يشاع أن في اليمن الديمقراطية الإلحاد سائد، والقضية ليست إلحادًا بل هي الإجراءات التي تتخذها السلطة لإسعاد الشعب، وإذا كانت القضية إلحادًا فجمال عبد الناصر مثلاً هو الملحد الأول»، «كل ما في الموضوع أن النظام يحاول علمنة هذه البرامج، وهو يعرف أن هذا الأساس الأيديولوجي العريض والمنغرس في عروق الجماهير لا يمكن إلغاؤه وشطبه بقانون، ولا حتى مواجهته والتصدي له بشكل مباشر»، لهذا فالوسائل هي «العمل يوميًا على تنوير الشعب، ونسف كل أشكال العلاقات السابقة، ونسف الأساس الأيديولوجي الغيبي» (¬1) أي نسف الدين بالتدريج. والوسائل أيضًا هي اتساع دائرة المثقفين الثوريين، وهم الذين فشلوا في الحصول على الإعدادية أو الثانوية، حيث يبعثون إلى موسكو على نفقة الاتحاد السوفياتي، لتتلقفهم جامعة الصداقة، أو جامعة لومومبا، ليعود حاملاً شهادة جامعية أو دكتوراه في الفلسفة، وهم لم يشموا رائحة العلوم الفلسفية بل تشربوا الفلسفة الشيوعية. والمثال الحي لذلك هو عبد الله باذيب، وزير التربية والتعليم في عدن، فقد فشل في المدرسة الثانوية فبعث الرسائل إلى موسكو، ثم انتهى الأمر إلى أن يصبح زعيمًا ثم وزيرًا للتربية والتعليم، وأصبح سمسارًا لهاتين الجامعتين وأصبح من أصحاب الأموال (¬2). الطَّلِيعَةُ وَاليَمَنُ الشَّمَالِيُّ: وفيما يتعلق باليمن الشمالي، نشرت مجلة " الطليعة " المصرية يوم 1/ 1 / 1971، تحليلاً للدكتور (محمد علي الشهاوي) جاء به: أنه ابتداءً من أغسطس 1955 سمح جمال عبد الناصر بإصدار نشرة باسم جريدة " صوت اليمن "، يرأسها الزبيري، ثم بعد ذلك أوقفها كما أوقف الأحاديث الموجهة ضد الإمام أحمد من إذاعة صوت العرب، ودعا كل من الملك سعود والإمام أحمد إلى ميثاق وحدة بينهم، الذي أبرم في 26/ 4 / 1956، ثم في 8/ 3 / 1958 أعلن عبد الناصر عن قيام اتحاد الدول العربية الذي انضمت فيه اليمن إلى الوحدة المصرية السورية، وهي وحدة صورية، فلم يجتمع المجلس الأعلى للاتحاد مرة واحدة. وبعد قرارات يوليو 1961 هاجم الإمام أحمد هذه الوحدة في قصيدة كانت ¬

_ (¬1) تحقيق سميح سمارة، نشر في " السياسة " يوم 4/ 10 / 1972. (¬2) " نداء الجنوب " في 2/ 6 / 1392.

ممنوعة بمصر، مطلعها: هَيَّا بِنَا إِلَى وَحْدَةٍ مَبْنِيَّهْ ... عَلَى أُصُولٍ بَيْنَنَا مَرْضِيَّهْ قَانُونُهَا شَرِيعَةُ الإِسْلاَمِ ... قُدْسِيَّةُ الأَوْصَافِ وَالأَحْكَامِ لَيْسَ فِيهَا شَائِبَةُ مِنَ البِدَعْ ... تُجِيزُ مَا الإِسْلاَمُ عَنْهُ قَدْ مَنَعْ مِنْ أَخْذِ مَا لِلْنَّاسِ مِنْ أَمْوَالِ ... وَمَا كَسَبُوا مِنَ الحَلاَلِ بِحُجَّةِ التَّأْمِيمِ وَالمُعَادَلَهْ ... بَيْنَ ذَوِي المَالِ وَمَنْ لاَ مَالَ لَهْ لأَنَّ هَذَا مَا لَهُ دَلِيلُ ... فِي الدِّينِ أَوْ تُجِيزُهُ العُقُولُ لهذا أعلنت القاهرة في 26/ 12 / 1961 إلغاء الاتحاد مع المملكة المتوكلية اليمنية، بعلة أن شعب اليمن لم يستفد من هذه التجربة حسبما نشرته " الأهرام " يوم 27/ 12 / 1961، ومن هنا فتحت الحرب الكلامية على الإمامية، بإشارة من الأستاذ هيكل في " الأهرام "، يوم 29/ 12 / 1961. والجدير بالذكر أنه بعد هذه القصيدة أعلن عبد الناصر في الإذاعة يوم 16/ 10 / 1961 ما نصه: «لقد وقعنا ضحية وهم خطير، فقد كنا دائمًا نرفض المصالحة مع الاستعمار، ولكننا وقعنا في خطأ المصالحة مع الرجعية، ولا بد أن نقاتل الاستعمار في تصور الرجعية». ومن هذا التاريخ بدأ عبد الرحمن البيضاني يذيع من صوت العرب ضد الإمام، وينشر في " روز اليوسف "، أما الزبيري والنعمان فأعلنا معارضتهما لتدخل مصر في شؤون اليمن الداخلية، فهذه سُبة في جبين الشعب اليمني إلى الأبد، فاتهمت مصر الزبيري أنه يعكس مصالح الجناح القبلي الإقطاعي المعارض للإمام أحمد، أما النعمان فقالت إنه يعبر عن مصالح الفئة الكومبرادورية (*) الهزيلة. وعندما قام السلال بانقلابه ضد الإمام أحمد، قال عبد الناصر: «إن هذا الانتصار لكم وللثورة في اليمن، وهذا خطر على الاستعمار وإسرائيل وعلى مصالحهم، وفيه قضاء على مطامعهم، ولكننا سنصمد لكل التحديات». ويستكمل الدكتور الشهاوي تحليله في " الطليعة "، بقوله: «ثم أعلن عبد الناصر سياسة النفس الطويل في اليمن، أي الانكماش، وهكذا ذهب الجيش المصري إلى اليمن في الربع الثاني من القرن التاسع عشر تحت علم محمد علي باشا الكبير، مما جعل الاستعمار البريطاني يحتل عدن سنة 1839، ثم عاد الجيش المصري إلى اليمن تحت علم الثورة الوطنية، ثم انسحب منها بعد سياسة النفس الطويل. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) كلمة الكومبرادورية، أصلها من اللغة البرتغالية (comprador) ، وكانت تطلق في الأصل على المواطن الصيني الذي يعمل وسيطًا أو وكيلاً في خدمة المستعمر الأوروبي، ثم أصبحت هذه الكلمة تطلق - في بلدان العالم الثالث - على المديرين المحليين والوكلاء التجاريين للشركات الأوروبية. وقد استخدم الحزب الشيوعي الصيني أثناء الثورة وبعدها بقيادة (ماوتسي تونج) مفهوم (الكومبرادوري) لفضح العملاء والوسطاء الصينيين المتعاونين مع الاستعمار. انظر أيضًا: " موسوعة المصطلحات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية "، هاشم حسين ناصر المحنك.

بريطانيا وشيوعية عدن

بَرِيطَانْيَا وَشُيُوعِيَّةُ عَدَنْ: ويقول شاكر الجوهري في تحليله عن الصراع في عدن، والذي نشر في جريدة " السياسة " الصادرة في الكويت في 5/ 3 / 1988: إن الصراع في عدن غذته عوامل خارجية، تمثلت في مؤامرات السلاطين وأجهزة المخابرات البريطانية، وأجهزة المخابرات المصرية، حيث انحاز جمال عبد الناصر إلى (جبهة التحرير)، بقيادة عبد القوي مكاوي وعبد الله الأصنج، وذكر أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب، وأن على بريطانيا أن تعترف بهذا الوضع، وتقوم بالتفاوض مع (الجبهة)، ووصفت (جبهة التحرير)، (الجبهة القومية) بأن أعضاءها عملاء جدد للاستعمار، واتهمتهم بتدبير نسف منزل عبد القوي مكاوي حيث مات في الحادث أولاده الثلاثة. والجدير بالذكر أن بريطانيا سلمت الحكم لـ (الجبهة القومية) في 30/ 11 / 1967، مع إعلانها البعية للشيوعية وتولي قحطان الشعبي رئاسة الدولة، وفي 22/ 11 / 1969 تم إقصاؤه وَسُجِنَ وأعلن انتصار اليسار على اليمين في 26/ 6 / 1978، تم إقصاء سالم ربيع فأعدم وأعلن أن اليسار تخلص من اليسار الانتهازي. وفي أبريل 1980 تم تنحية عبد الفتاح إسماعيل عن رئاسة الحزب والدولة، وفي 13 يناير 1986 تم تصفية علي ناصر محمد في أبشع حرب أهلية. وفي كتاب " الجبهة القومية " يقول مؤلفه (فيتالي تاؤمكين): إن جمال عبد الناصر كان قد أعلن عن استعداده للإقدام على حل سلمي لمسألة الجنوب العربي، وتسهيلاً لذلك قام عبد الله الأصنج بالاتفاق مع عبد الناصر في أول يناير 1967، على تشكيل حكومة انتقالية من زعماء منتمين إلى تنظيمات وطنية (ص 79) وقد أعلنت (جبهة التحرير) عن تشكيل حكومة في المنفى برئاسة عبد القوي مكاوي: (ص 179) هذا ولم نتعرض لما كتبه السفير أحمد عطية المصري عن (النجمة الحمراء في عدن)؛ حيث أن ذلك يحتاج إلى كتاب كامل لأنه كتاب قد كتب بمنظار أحمر ليوافق العنوان، وهذا حجب عنه رؤية الأطراف الأخرى، وحقيقة الصراع، ودور أمريكا في زرع الفكر الماركسي في المنطقة العربية لأهداف مرحلية، مستخدمة بريطانيا في هذه اللعبة.

مراحل النمو الاقتصادي وحكام النخبة

مَرَاحِلُ النُّمُوِّ الاِقْتِصَادِيِّ وَحُكَّامِ النُّخْبَةِ: عرض (وولتر رستو) أستاذ التاريخ الاقتصادي نظريته عن أطوار ومراحل النمو الاقتصادي، وذلك في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وقد لاقت من أجهزة الإعلام ومن الإدارة الأمريكية اهتمامًا دون غيرها من النظريات، حتى عقدت ندوة دولية لمناقشته في هذه النظرية .. التي أعدت للقضاء على الفكر الديني والفكر الشيوعي واستطاعت سحب البساط من تحت أقدام الماركسيين، ذلك أن (كارل ماركس) يقسم العوامل الاقتصادية في التاريخ إلى ست مراحل هي: 1 - مرحلة البدائية: وهي مرحلة تخلو من التناقض لانعدام الملكية. 2 - العصر العبودي: وتظهر فيه طبقة الأسياد والعبيد وهي تمثل قمة التناقض. 3 - العصر الإقطاعي: وفيه تسيطر طبقة الأسياد وهي الطبقة المالكة، لكن يسمح للعبيد بملكيات صغيرة. 4 - العصر البرجوازي: ويمثل احتكار الطبقة البرجوازية ويمهد إلى الرأسمالية. 5 - العصر الرأسمالي: ويتمثل في انتصار رأس المال وسيطرته. 6 - مرحلة الشيوعية العالمية: وفيها تحكم طبقة العمال وتختفي الحكومات، ويتحول العالم في نظر (ماركس) إلى أسرة عالمية واحدة، وتنتهي جميع صور التناقض. ونظرية (ماركس) هذه تبشر بحتمية ظهور الشيوعية وسيادة الطبقة العاملة، وقد جاء (رستو) بنظرية مضادة: هي مراحل النمو الاقتصادي، وقد قسمها إلى خمس مراحل هي (¬1): 1 - مرحلة المجتمع التقليدي. 2 - مرحلة ما قبل الإقلاع أو الانطلاق. 3 - مرحلة الانطلاق. 4 - مرحلة النضوج. 5 - مرحلة الاستهلاك الجماهيري. • والمرحلة الأولى عند (رستو) تتسم بانخفاض الإنتاج لهيمنة القطاع الزراعي. • أما الثانية عند (رستو) فهي تمهيد لتوفير شروط الإقلاع، والانطلاق، حيث تتدخل النشاطات الزراعية والصناعية، وتتحسن مجالات الاستثمار. ولتوفير شروط الانطلاق، يقسم (رستو) الدول إلى مجموعتين: - المجموعة الأولى: ¬

_ (¬1) " اقتصاديات التخلف والتنمية " د. أنطونيوس كرم: ص 118، طبعة بيروت سنة 1980.

هي مجموعة الدول النامية أو المتخلفة، وفيها تظهر المشكلة السكانية، وتتمثل في انخفاض حاد في الوفيات وزيادة في المواليد، وهي مرحلة طويلة وشاقة، ويرى (رستو) أن أكثر الدول النامية لا تزال في هذه المرحلة. - المجموعة الثانية: هي مجموعة الدول الغنية بمواردها الطبيعية حيث تنخفض فيها كثافة السكان ويكون معظم السكان من أصل أوروبي. • والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الانطلاق، وفيها يستطيع المجتمع توفير شروط الإقلاع أو الانطلاق، عندما يهيئ المجتمع نفسه لمرحلة الانطلاق نفسها. ويرى (رستو) أن يلزم ظهور حافز جاد، في هذه المرحلة، والذي يمكن أن يكون ثورة سياسية، تغير ميزان القوى الداخلي، وتحدث تغييرات في القيم الاجتماعية، وفي طبيعة المؤسسات الاقتصادية (¬1). وقد لوحظ أنه بهذه الطريقة ظهرت عدة انقلابات عسكرية في الدول النامية، كلها ترفع شعار الاشتراكية المحلية، وتتغنى بمرحلة الانطلاق، حتى سميت في مصر الثروة بمرحلة الانطلاق العظيم. وصدرت في ذلك عدة كتب ونشرات، ولكن (رستو) يحاول أن يخفي هدفه من نظريته، وهو سحب البساط من تحت أرجل الماركسيين، وتحطيم القوى الأخرى في المجتمعات النامية عن طريق تغيير ميزان القوى وإحداث تغييرات في القيم الاجتماعية. يحاول أن يخفي هذا الهدف بإشراك عوامل أخرى للتغيير في هذه المرحلة بخلاف الثورة السياسية. وذلك في شكل ابتكارات تكنولوجية، أو في شكل إحداث تطورات إيجابية في هذه الدولة، كفتح أسواق جديدة للصادرات، أو تطورات سلبية كالاستيلاء من شروط التبادل التجاري. ويضيف (رستو) شرطًا ضروريًا آخر لهذه المرحلة، وهو أن تكون هناك صفوة أو فئة يسميهم المنظمين. ويتساءل من أين سيأتي بهؤلاء؟ ثم يجيب بأن ذلك يشمل أكثر الحركات الإصلاحية الدينية أو الثقافية، كدور اليهود في كثير من الدول، وبالطبع تكون الحركات العسكرية هي صاحبة الدور الرئيسي. • المرحلة الرابعة: مرحلة النضوج: وفيها تضمحل القطاعات التي كانت رائدة في المرحلة السابقة ليحل محلها قطاعات رائدة جديدة، ويستمر النمو الاقتصادي حتى لا يدخل مرحلة ¬

_ (¬1) " اقتصاديات التخلف والتنمية " د. أنطونيوس كرم: ص 121. مركز الاتحاد القومي - بيروت، بالتعاون مع جامعة الكويت، الطبعة الأولى: سنة 1980.

دور الحزب الشيوعي المصري

الركود، وذلك تمهيدًا لمرحلة الاستهلاك. • المرحلة الخامسة: مرحلة الاستهلاك الجماهيري: وفيها تتحول القطاعات الاقتصادية الرئيسة إلى إنتاج السلع الاستهلاكية المعمرة، وهذه المرحلة هي أطول المراحل. وفي هذه المرحلة يصبح في متناول المواطنين جميع السلع الاستهلاكية الضرورية، والعديد من السلع الكمالية، بل يبشر أن يتحقق للمواطن الرفاهية الاجتماعية، حتى تضمن له مستوى عال من التعليم والخدمات الصحية والترفيهية، وتتحول النسبة الكبرى من الأيدي العاملة إلى قطاع الخدمات الحكومية والخاصة (¬1). وبتطبيق هذه النظرية على مصر، نجد أن عهد جمال عبد الناصر، قد قام بدور المرحلة الثانية والثالثة، بينما قام السادات بدور المرحلتين الرابعة والخامسة وهما النضوج، ثم الاستهلاك الجماهيري. دَوْرُ الحِزْبِ الشُّيُوعِيِّ المِصْرِيِّ: لقد استخدم جمال عبد الناصر، الحزب الشيوعي المصري (حدتو) في هذه المرحلة، وأبرم معهم اتفاقًا وقعه خمسون من قياداتهم. تضمن أن يكفل لهم حرية العمل على نشر مذهبهم، مقابل مساندة النظام واعتبارهم جزءًا منه، وذلك طبقًا للشروط التالية: 1 - أن يكون جمال عبد الناصر هو رمز الكفاح وليس (لينين). 2 - أن تكون مصر هي الأم وليس موسكو. 3 - أن يحل حزب (حدتو) نفسه، ويندمج في الاتحاد الاشتراكي، ويعمل من خلاله بصورة علنية. 4 - أن يتم القضاء على الخلايا السرية وتصبح جزءًا من أجهزة الاتحاد الاشتراكي. 5 - أن يتم الإفراج عن المعتقلين والمسجونين من الشيوعيين، وتسند إليهم أدوار هامة في الإعلام وغيره من أجهزة الدولة، وأن يتم تعويضهم ماديًا عن فترة السجن. والجدير بالذكر أن جريدة " الأهرام " قد نشرت في الصفحة الأولى في آخر مارس 1965، أن الحزب الشيوعي المصري قد حل نفسه، وذلك ليعمل من خلال قنوات الشرعية وهي الاتحاد الاشتراكي، وأنه لأول مرة في العالم يقوم حزب شيوعي بحل نفسه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق: ص 124.

هذا وقد تخوف بعض قادة هذا الحزب من عدم تمكينهم من صباغة الشعب المصري، في القالب الذي تقبله روسيا، لأن بعض هذه الشروط تعد خيانة لمبادئ (لينين) وهذه المخاوف قد ترجمها الأستاذ (غالي شكري) في كتابه " الأرشيف السري للثقافة المصرية " والذي نشرته دار الطليعة بيروت في مايو 1975. فقد ذكر ما نصه: «خرج اليساريون من السجون في أبريل ومايو سنة 1964، وبدأ الكتاب منهم يعودون إلى صحفهم، ومن لم يكن مقيدًا منهم في إحدى الصحف راح يبحث عن عمر، والدكتور عبد القادر حاتم وزير الثقافة يستقبلهم بناءً على التعليمات بالترحاب الشديد، ويفتح لهم قلبه مشيرًا إلى مؤلفات ماركس وإنجلز ولينين» (ص 87). ويعلق الكاتب على ذلك بقوله: «إن قرار الانفتاح على اليسار علوي، وقنوات التنفيذ مسدودة، حيث كانت مجلة " الرسالة " تنشر مقالات للمحقق اللغوي (محمود شاكر)، يرد فيها على سلسلة مقالات الدكتور (لويس عوض) في " الأهرام ". فاستخدم (محمود شاكر) معاجم الاتهام بالشعوبية، ومعاداة الإسلام، وتحولت " الرسالة " إلى ما يشبه جريدة " الدعوة " التي كان يصدرها الإخوان المسلمون - قبل حلهم -، إلى ما يشبه المنشورات الداعية إلى قلب نظام الحكم، وراح الشيخ (محمد الغزالي) يخطب في المساجد ضد (صلاح جاهين) (*)، الذي كان متحمسًا لعلمنة الأزهر، وتطوير قانون الأحوال الشخصية، وفي هذا المناخ وبالضبط سنة 1965 قامت المنظمات الشيوعية بحل نفسها. وكان الأمر فيما يبدو فوق السطح مزيدًا من الالتفاف حول قيادة عبد الناصر، لتوحيد الجهد والإسراع في طريق التحول السلمي نحو الاشتراكية، ولكن تحت السطح كان اليمين المتطرف بجمع صفوفه، وينظم تشكيلاته، ويستعد لوثبة مسلحة ضد اليسار والنظام، وحين أسفرت الفتنة عن وجهها المسلح تصدت لها أجهزة الأمن بالسجون والمعتقلات والمشانق واكتفى الرئيس عبد الناصر بإهداء وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى إلى الدكتور (لويس عوض)، واكتفى (شعراوي جمعة) بأن يكون أول عمل له في الداخلية سنة 1966 هو القبض على جيلين من مثقفي اليسار. وحين دخلت معتقل طرة في التاسع من أكتوبر وجدت معي (أحمد فوزي) و (أحمد فرج) و (سيد خميس) و (جمال الغيطاني)، وغيرهم من عشرات الشيوخ والكهول والشباب اليساري، وكانوا قد أفرجوا عن (لطفي الخولي) و (محمد الخفيف) و (إبراهيم سعد الدين) و (أمين عز الدين) بعد يوم أو يومين من اعتقالهم، وبقي بعضنا سبعين يومًا بين طرة والقلعة، وبقي البعض الآخر حتى الهزيمة في ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، المشهور بـ (صلاح جاهين)، (25 ديسمبر 1930 - 21 إبريل 1986 م) شاعر ورسام وكاتب مصري يساري.

موسكو بين اليهود والمسلمين

يونيو 1967. إن إقالة (حاتم) وحبس الإخوان المسلمين لم يمنع الهزيمة من الحدوث، لأن التناقض المأساوي كان فادحًا، وبدلاً من إبراز التناقض علت الأصوات المتعفنة: إن الاشتراكية لم تولد وإن البعد عن الدين هو السبب ... ورحل عبد الناصر سنة 1970. وعادت نغمة الدين تحتل موقع الصدارة بأقلام غير متدينة، كـ (أنيس منصور) و (مصطفى محمود) .. إنه هوس وجنون أن نتحول إلى مجتمع ضد المدنية والحضارة حتى طلبة الجامعة بدأت تتسرب إليهم التيارات الخبيثة تتلفع بثياب الدين , وتخفي أظافرها المتعطشة للدم بقفازات حديدية من السلف الصالح، وسأدعو إلى تكوين جمعية ضد أعداء الحضارة الذين [يتهجدون] بالصلوات والعبادات نهارًا» (ص 99). مُوسْكُو بَيْنَ اليَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ: (¬1). لقد كشفت قرارات السادات عن موقف التأزم الصاعد للقادة العرب من الاتحاد السوفياتي، إذ أن أول من أعلن خيبة الأمل العربي في العون الروسي هو الرئيس هواري بومدين، بعد زيارته لموسكو في أعقاب الهزيمة المخزية للعرب عام 1967. وجاء معمر القذافي ليؤكد استحالة معاونة الروس للعرب، وليظهر خطأ التوسع السوفياتي في المنطقة العربية، ذلك التوسع الذي اقترن بنفوذ سياسي وعقائدي واقتصادي وعسكري، والذي تم على حساب مقومات الأمة العربية (¬2) وعلى أشلاء القوى الوطنية بها. فما هي الأسباب الحقيقية لهذا التغيير، الذي يظنه المواطن العادي انقلابًا سلميًا، ويزعم الروس أنه تيار يميني تاركين لليسار العربي أن يعمق هذا المفهوم دفاعًا عن روسيا، لأنها الأم الذي فرض عليه إعطاء الولاء لها دون سواها. لقد كثرت التعليقات والتحقيقات الصحفية، بين مدافع عن الروس والماركسية وبين مهاجم، وكلها بأقلام عربية ووجوه عربية، بلغ الحال بينهما إلى السباب والفسوق في القول والسلوك ثم انتهى إلى الاتهام بالعمالة إلى المعسكرين. لست يمينيًا ولا يساريًا ولا أدين بالولاء لأيهما إنهما {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48]، من هنا وانطلاقًا من المصلحة الوطنية وحدها نكتب الجواب على هذه المسألة دون أن يكون للاستنتاج الصحفي أدنى دور في هذا الأمر. ¬

_ (¬1) " البلاغ " العدد 171 و 172 في 2 شعبان 1392 هـ - 10/ 9 / 1972 م. (¬2) كان ذلك في بداية حكمه عندما أعلن عن (النظرية الثالثة) والتي تدمج الأديان ضد الشيوعية.

الصداقة العربية السوفياتية

الصَّدَاقَةُ العَرَبِيَّةُ السُّوفْيَاتِيَّةِ: لقد اضطرت الأنظمة العربية التي تبنت المفاهيم الجديدة الثورية إلى كشف حقيقة الصداقة العربية السوفياتية، قبل أن تحل المشكلة الرئيسية، التي قيل إنها سبب هذه الصداقة، حتى ظن البعض أو حاول إقناع الأمة أن الوقت لم يكن ليسمح بهذا التصدع في العلاقات بين العرب والروس، إذ أن الحرب لم تضع أوزارها. والحقيقة أن الأنظمة العربية لم تكن لتستطيع إقناع الشعوب، باستمرار صداقة جرت العرب إلى هزيمة محققة. فقد أعلن جمال عبد الناصر في خطابه مساء 23 يوليو 1967 أنه بعد إغلاق خليج العقبة أصبح احتمال الحرب 100 %، وأنه أخبر القيادة العامة للقوات المسلحة في اجتماع الجمعة 2 يونيو 1967 أنه يتوقع ضربة من إسرائيل خلال 48 ساعة، ويتوقع أن يكون العدوان يوم 5 يونيو وأن الضربة الأولى ستوجه إلى قواتنا الجوية. ثم أعلن في هذا الخطاب أنه بعد التشاور مع القادة السوفيات وأخذًا بنصائحهم، رأى ألا يبدأ بإطلاق النار، وقد جاء في كتاب الفريق (صلاح الدين الحديدي) أن المخابرات الروسية هي التي استدرجت مصر للحرب، ومشيرًا إلى أن الهزيمة سببها التكتيك الروسي. مَنْطِقُ الرُّوسِ فِي دِفَاعِهِمْ: وقد نشرت مجلة " دير شبيجل " الألمانية الصادرة في أعقاب الهزيمة، أن الرئيس المصري أعطى إشارة الأمان الثالثة من صباح 5 يوليو بناءً على نصيحة الروس. والأنظمة العربية أيضًا لا تستطيع إقناع الشعوب بصداقة الروس، لأن روسيا تزود إسرائيل بالرجال عن طريق الهجرة، كما أن أمريكا تزودها بالمال والسلاح. لقد ادعت روسيا وروج لها بعض القادة العرب أنها ليست وراء هجرة اليهود من دول المعسكر الشيوعي كرومانيا وغيرها، ولكن ما لبثت الهجرة أن تمت من روسيا مباشرة وذلك اختصارًا للطريق، واختزالاً للوقت خصوصًا بعد أن استكملت إسرائيل بناء المستعمرات في شرم الشيخ وسيناء والجولان ورفح، وسائر المناطق المحتلة. وكيف يصدق الشعب العربي ما نشرته جريدة " البرافدا " السوفياتية بعنوان (جهود لا طائل تحتها). من أن السعودية والكتلة الخليجية والإخوان المسلمين وسائر المتدينين وأصحاب الميول القومية وهيكل والأردن كانوا جميعًا وراء تصدع الصداقة الروسية المصرية.

حجة داحضة

حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ: كيف يصدق ذلك وهو يشاهد الهجرة الروسية إلى إسرائيل، تدعيمًا لها بالعصب الرئيسي وهو الرجال، لأن اليهود الأمريكان والأوروبيين يستحيل هجرتهم إلى إسرائيل لمصالحهم الاقتصادية، والإخوان كانوا في السجون كما يعلم الروس. ثم كيف يصدق الماركسيون العرب في دفاعهم عن أمهم روسيا، والشعب يقرأ في الصحف أن الصهيونية العالمية لم تفكر في استدعاء المهاجرين الروس إلا عندما اقتضى الأمر بناء إسرائيل الكبرى. ثم ما هي العقول التي تصدق الماركسيين العرب وقد اتضح للجميع أن الروس يرفضون تزويد العرب بالسلاح اللازم، لتحرير أرضهم وطرد المعتدين وهو السلاح الهجومي، بل فرضوا قيودًا على الأسلحة الدفاعية التي أصبحت المحاصيل رهينة لها مع سائر الرهائن الاقتصادية. مَطَالِبُ المُسْلِمِينَ فِي سَيْبِيرْيَا وَالسَّبَبُ الحَقِيقِيُّ فِي هَذِهِ المَوَاقِفِ: لقد تذرع الروس بالضغوط الأدبية في إباحتهم الهجرة إلى إسرائيل، فإن كان ذلك فيه مسحة من الصدق فأين كانت الاعتبارات الأدبية عندما رفض القادة السوفيات مطالب المسلمين في سيبيريا وآسيا الوسطى، التي نشرتها وكالات الأنباء يوم الأربعاء 16 أغسطس 1972، وتتخلص في أنهم ما زالوا في مجاهل سيبيريا منذ عشرين عامًا ويطلبون السماح لهم بالعودة إلى بلادهم، ووضع حد للإرهاب والتمييز الطبقي الذي يرتكب ضد المسلمين التتر في شبه جزيرة القرم. لقد ذكرت وكالات الأنباء أن عريضة وقع عليها ثمانية عشر ألفًا، قدمت إلى (ليونيد بريجنيف) نيابة عن الملايين من المسلمين في شبه جزيرة القرم، تذكر أنهم رُحِّلُوا بالقوة المسلحة بعيدًا عن أوطانهم [سنة] 1944 في عهد ستالين وقذف بهم في أراضي سيبيريا وآسيا الوسطى وما زالوا مشردين بها حتى اليوم. ولم تكن هذه أول الاستغاثات من هذه التفرقة العنصرية، فقد توالت الالتماسات والعرائض تطالب بتنظيم عودة التتر إلى وطنهم، وقد أشارت وكالات الأنباء إلى جانب من هذا الاضطهاد، وهو انتقال المنازل والأراضي الخاصة بهؤلاء المسلمين إلى أيدي محتلين جدد تم ترحيلهم من روسيا. (نقلاً عن " الهيرالد تريبون أنترنشينال " - الخميس 17 أغسطس 1972).

المسلمون بين روسيا القيصرية وروسيا الماركسية

ثم ما هي الضغوط الأدبية وراء الأحداث التي جرت في براج سنة 1969، إذ نشرت الصحف أن (جولد شتوكر) رئيس اتحاد الأدباء التشيك و (أوتاسيك) نائب رئيس الوزراء السابق، عادوا إلى تشيكوسلوفاكيا، لأنهم من اليهود الصهاينة وكانوا قد طردوا منها، كما نشرت الصحف (" الجمهورية ": 2/ 4 / 1969) 15 محرم سنة 1389 هـ، أنه ليس من قبيل المصادفة أيضًا أن يكون (سميركوفسكي) رئيسًا للبرلمان التشيكي، وهو يهودي صهيوني. المُسْلِمُونَ بَيْنَ رُوسْيَا القَيْصَرِيَّةِ وَرُوسْيَا المَارْكْسِيَّةِ: في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأت روسيا القيصرية بضم المناطق الإسلامية إليها، ففي عام 1779 ضمت منطقة القرم، وفي 1801 احتلت جورجيا، وفي 1864 أخذت بقية مناطق قفقاسيا وكذا آسيا الوسطى. وفي عام 1868 تم احتلال بخارى وسمرقند، ثم خوقند سنة 1876 وطشقند سنة 1865. كل ذلك تم لضعف المسلمين في هذه المناطق، لأن حب الزعامة والسيطرة جعل بعض الحكام يتحالفون مع القياصرة ضد الحكام الآخرين، حتى ابتلعتهم روسيا تدريجيًا كما حدث من قبل في نكبة الأندلس. وكما حدث قريبًا في اللد والرملة بفلسطين، إذ سلمتها بعض الملوك لليهود كما سلمت شرخ الشيخ سنة 1956 لإسرائيل من بعض الرؤساء العرب الذين حولوا الهزيمة إلى نصر. ولقد أبقى الروس على إسلام هذه المناطق في عهد القيصرية بشرط أن تظل غير موحدة إداريًا أو سياسيًا أو دينيًا، إنما تخضع للاستعمار الروسي العسكري. وبقيام الثورة الشيوعية سنة 1917 ظن المسلمون أن الأمور قد تبدلت، فأعلن سكان قرية بجوار كازان عودتهم إلى الإسلام، وكانت الحكومة القيصرية قد أكرهتهم على اعتناق النصرانية، وظلوا على ذلك مائتي سنة ولكنهم ظلوا مسلمين سِرًّا رغم تحول مساجدهم إلى كنائس. هَدْمُ البَلاَشِفَةِ لِلْمَسَاجِدِ: ولكن بعد أن استتب الأمر للثورة الشيوعية، هدمت المساجد التي بناها هؤلاء،

صدمة القادة الروس من قوة الإيمان

وعم الاضطهاد سائر المناطق الإسلامية وصودرت المحاصيل الزراعية والثروة وذبح الملايين، وحولت المساجد إلى اصطبلات ومواخير والمدارس الدينية إلى نوادي. غير أنه خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م خفف الشيوعيون من حرب الإبادة، فقامت بعض الطوائف الدينية ببناء مساجد على حسابها الخاص، وتم إنشاء أربع مراكز إسلامية جديدة، ولكن ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 حتى بدأت المجازر من جديد. صَدْمَةُ القَادَةِ الرُّوسِ مِنْ قُوَّةِ الإِيمَانِ: غير أن هذه القسوة لم تستطع أن تمحو الإيمان إلا عند النفوس المريضة، لأنها تخشى أن تصبح في السجن أو القبر. ولقد روت جريدة " الحياة "، العدد 676 - 20 تشرين الأول سنة 1964 نقلاً عن صحيفة " الكمسومول اسكايا برافدا " أن وفاة طالب ثانوي في الصف التاسع كشف النقاب عن وجود مدارس دينية إسلامية سرية في آسيا الوسطى، فقد رفض الطالب (دولية إصلانوف) مساعدة الطبيب الشيوعي وقال: «لاَ أُريِدُ مُسَاعَدَةَ المُلْحِدِينَ فَكُلُّ شَيْءٍ بِيَدِ اللِه». ومات وهو يسب الماركسية. وقالت الصحيفة الروسية: إن المسؤولين الشيوعيين صدموا أمام هذا الموقف، خصوصًا أن الشاب عضو في " الكمسومول " أي (رابطة الشباب الشيوعي)، وقد تبين أنه كان يحضر الدروس في المدرسة الثانوية الحكومية، ثم يحضر دروسًا أخرى في مدرسة دينية إسلامية سرية، وكان من أمهر الطلاب. وذكرت الصحيفة أن أحد المحققين تحرى عن هذه المدرسة السرية ووصل إلى مقهى للشاي في مزرعة جدانوف التعاونية فوجد أربعة صفوف (فصول) من المراهقين يتعلمون اللغة العربية والآيات القرآنية، غير أن المحقق عندما اقترب من المكان سمع صفيرًا لتنبيه الطلاب، فما إن دخل عليهم حتى وجد الشاي في أيديهم واختفت الكتب الدينية وأجزاء القرآن. وتختم الصحيفة الشيوعية مقالها بقولها: «هكذا فإن الأيدي القذرة لهؤلاء المشايخ المشردين تتولى تكوين طباع الأطفال». بِلاَدُ الأَئِمَّةِ العَشْرَةِ: والجدير بالذكر أنه قد نشأ بهذه المنطقة علماء لن تنسى الأمة آثارهم ومنهم:

• من علماء الحديث: 1 - الإمام البخاري، المتوفى سنة 256 هـ. 2 - الإمام مسلم، المتوفى سنة 261 هـ. 3 - الإمام الترمذي، المتوفى سنة 279 هـ. 4 - الإمام النسائي، المتوفى سنة 303 هـ. 5 - الإمام البيهقي، المتوفى سنة 565 هـ. • ومن علماء التفسير والتاريخ: 6 - الإمام الطبري، المتوفى سنة 310 هـ. 7 - الإمام الزمخشري، المتوفى سنة 538 هـ. • ومن علماء الفقه والفلسفة: 8 - الإمام أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ. • ومن علماء الطب والفلسفة والأدب: 9 - ابن سينا، المتوفى سنة 428 هـ. • ومن علماء التاريخ والأدب واللغة: 10 - الخوارزمي، المتوفى سنة 428 هـ.

الموقف من اليهود

المَوْقِفُ مِنَ اليَهُودِ: (¬1). لقد نقلت بإيجاز شديد موقف الزعماء الشيوعيين من المسلمين الروس وهم سكان البلاد الأصليين، وقد قيل إن هذا الموقف ينبثق من العقيدة الشيوعية، التي تقوم على قاعدة ثابتة هي أن الدين أفيون الشعوب، فوجب تصفية العقيدة الدينية ونفي وتعذيب أصحابها. فهل كان ذلك كذلك بالنسبة لليهود الروس؟ لن نلجأ إلى الاستنتاج، إنما ننقل من المصادر الرسمية قولاً وعملاً. مَارْكِسْ وَالمَسْأَلَةُ اليَهُودِيَّةِ: في كتابات (كارل ماركس) بعنوان " المسألة اليهودية " يقول: «إن تحرير اليهود سياسيًا ليس كافيًا لحل المسألة اليهودية، بسبب مئات السنين من العنصرية والقيصرية المضادة، وبسبب ما يكون لدى اليهود من أوهام قومية ارتبطت بالتجارة والبيع والشراء». وإذا كان تحرير اليهود سياسيًا ليس كافيًا لحل مشكلتهم فما هو الحل الماركسي؟ يقول (ماركس): «إن تنظيم المجتمع الذي يلغي الظروف الأساسية للاتجار عن طريق الوسطاء والباعة المتجولين، ويلغي بالتالي إمكان القيام بذلك العمل، مما يجعل صفة اليهودي مستحيلة، والوعي لليهود سيذوب ويتحلل كالسديم في الهواء الحيوي الحقيقي للمجتمع». وخلاصة آراء (ماركس)، أن اضطهاد اليهود من القياصرة الروس هو الذي خلق العنصرية اليهودية فالعلاج هو زوال الاضطهاد. ثم يدعي (ماركس) أن القومية اليهودية ترتبط بالبيع والشراء، أي حياتهم التجارية وهذا سيذوب ويتحلل كالسديم في الهواء الحيوي الحقيقي للمجتمع! ولقد تناسى (كارل ماركس) قوله: «الدين أفيون الشعوب». وحصر المسألة اليهودية في البيع والشراء فإذا حلت هذه المسألة عن طريق النظام الاقتصادي الشيوعي ذابت المسألة اليهودية، خصوصًا إذا زال الاضطهاد لهذه الفئة. ¬

_ (¬1) " البلاغ "، العدد 172 في 9 شعبان 1392 هـ - 17/ 9 / 1972 م.

لينين والحركة الصهيونية

وهكذا يتلخص الموقف النظري لـ (ماركس) في إعطاء الأمن والأمان لليهود الروس، ووقف الاضطهاد الذي مارسته روسيا القيصرية بالنسبة لهم. لِينِينْ وَالحَرَكَةِ الصُّهْيُونِيَّةِ: أما (لينين) فيرى نفس الشيء إذ يقول: «الحركة الصهيونية لا تحل المشكلة اليهودية، والحل الوحيد هو اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، وإلغاء جميع أنواع الاضطهاد والتمييز وإعلان المساواة بين الجميع». ويقول: «الفكرة القائلة بأن اليهود يشكلون أمة منفصلة عن غيرها غير ثابتة من الناحية العملية، كما أنها فكرة رجعية من الناحية السياسية». ويحلل ذلك بقوله: «إن القوى الرجعية في أوروبا ولا سيما في روسيا القيصرية، هي التي تعارض اندماج اليهود وتسعى إلى إدامة عزلهم». فالموقف النظري لخليفة (ماركس)، هو إزالة جميع أوجه الاضطهاد والسماح لليهود بالاندماج في المجتمع الروسي. مَوْقِفُ سْتَالِينْ مِنَ اليَهُودِ الرُّوسِ: أما (جوزيف ستالين) فيقول في كتابه " الماركسية والمسألة اليهودية ": «اليهود لا يشكلون قومية ما داموا غير متحدين من الناحية الاقتصادية، ويسكنون مناطق مختلفة ويتكلمون لغات مختلفة». والجدير بالذكر أنه بعد قيام الثورة الشيوعية صدر بيان بالقضاء الفعال على الحركة اللاسامية المعادية لليهود، واقتلاعها من جذورها. فهل جاءت الثورة الشيوعية من أجل هذا؟ وهل قام الشيوعيون بإذابة اليهود في المجتمع السوفياتي؟ المَوْقِفُ العَمَلِيُّ لِلْمَارْكْسِيِّينَ، بَيَانٌ رَسْمِيٌّ بِعَدَمِ مُعَادَاةِ اليَهُودِ، وَتَخْصِيصِ إِقْلِيمٍ لَهُمْ: الموقف العملي للشيوعية تجسد في البيان الصادر بالقضاء على الحركة المعادية لليهود، فهل اقتصر التطبيق العملي على ذلك؟

هل هي أسباب اقتصادية خلف هذا التناقض؟

تدل إحصائية سنة 1959 الروسية أن اليهود يتمسكون بلغتهم بنسة 50 %، وأنه ما زالت لهم قومية مستقلة، فقد قام الزعماء الشيوعيون بتخصيص إقليم مستقل لليهود في الاتحاد السوفياتي هو إقليم (بيروبدخان) الذي أنشئ لهم سنة 1934 مع السماح لهم في الإقامة بالأقاليم الأخرى. أما " دائرة المعارف السوفياتية " الصادرة سنة 1932، فهي أكثر سخاء من الشاء على اليهود، حتى اضطر الروس لتغطية هذا سنة 1969 فصدر كتاب " حذار من الصهيونية " كتبه (يوري إيفانوف) (*) وفيه: «أن ما جاء في " دائرة المعارف السوفياتية بشأن اليهودية يعتبر تزييفًا لفكرة (لينين) عن الصهيونية، أما كون قادة الجيش الروسي الحاليين من اليهود فأمر ليس بغريب أمام هذه الفلسفة». هَلْ هِيَ أَسْبَابٌ اقْتِصَادِيَّةٌ خَلْفَ هَذَا التَّنَاقُضِ؟: لقد كان رأي بعض الخبراء السياسيين أن العوامل الاقتصادية هي السبب في موقف روسيا من مشكلة الشرق الأوسط، والذي وصفه الرئيس السادات بأنه موقف اللاسلم واللاحرب. فيقول الخبراء: إن بقاء هذا الوضع يضمن تصريف الروس المخزون من الأسلحة التي لا مكان لها في الحروب الخاطفة، ويضمن استنزاف الروس للموارد المصرية، واستمرار تدفق المنتجات المصرية إلى الاتحاد السوفياتي. فهل هو السبب في محاباة اليهود الروس ثم محاباة إسرائيل؟ .. وإذا كان ذلك كذلك، جدلاً، فهل هو أيضًا العامل الرئيسي في طرد الروس لمسلمي أرض القرم ونفيهم إلى سيبيريا وغيرها؟ إن المناطق الإسلامية أغنى مناطق الاتحاد السوفياتي، فهي المنتج الأول للكروم والرصاص والنحاس والتوتياء والحديد والفحم والذهب والفضة وإليك الأمثلة: 1 - تركستان بها أكثر من نصف النحاس والرصاص في الاتحاد السوفياتي، وأول مناطق العالم في إنتاج الكروم، وكان فيها 35 مليون مسلم أصبحوا 13 مليونًا في تعداد سنة 1963. 2 - كازاكستان وهي أكبر جمهورية في الاتحاد السوفياتي - ويكثر فيها الحبوب والفاكهة حتى سميت منطقة بحيرة بلقاش ببلاد التفاح، وكثرت فيها زراعة القطن، والثروة ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) ورد خطأ في الطباعة (إيفانوني) والصواب ما أثبته، يوري إيفانوف " حذار من الصهيونية "، طبعة سنة 1970، دار التقدم - موسكو، (244 صفحة).

الحيوانية بها تبلغ 15 % من مجموع الجمهوريات السوفياتية، و 20 % بالنسبة للغنم، و 57.4 % من النحاس، و 56.3 % من الرصاص، و 49.8 % من التوتياء، وبها ثروة ضخمة من الفحم والبترول والفضة. وعدد الشكان بها 12 مليون نسمة، ورغم عمليات البلشفة الواسعة فلم يزد أعضاء الحزب الشيوعي بها عن 1 إلى 3 % من السكان. وتدل الإحصائيات الروسية أن عدد السكان في انخفاض ولم تذكر السبب. 3 - أوربكستان: جمهورية أقيمت على أنقاض بخارى وخوارزم وغيرهما، سكانها 8 مليون نسمة. يكثر فيها الثروة الزراعية والحيوانية وفيها نهر سيحون ونهر جيحون. 4 - تركمانستان: تبلغ مساحتها مساحة فرنسا، ولكن سكانها مليون ونصف فقط، شردوا جميعًا ولم يبق منهم سوى 900 ألف، بها قناة تصل نهر جيحون الأرمني ببحر قزوين، وبها صحراء (قرة قرم) تشمل تسعة أعشار المنطقة. وأهم مدنها عشق آباد ومدينة مرو التي كانت مركز خراسان ومقر الوالي أيام الحكم الإسلامي. 5 - قيرغيزيا: منطقة جبلية سكانها حوالي 2.5 مليون نسمة، مشهورة بتربية الأغنام، وعدد السكان في تناقص مستمر بينما يزداد عدد الروس الوافدين. وهو المخطط المنفذ في سائر المناطق الإسلامية. والمنطقة غنية أيضًا بالزراعة وتكثر فيها الفاكهة، وتنقل خيرات المنطقة كغيرها إلى الروس، حتى طالب رئيس وزرائها (يوسوب عبد الرحمانوف) بعدم تصدير الخبز إلا بعد اكتفاء السكان منه، فاتهم بالخيانة واختفى من البلاد سنة 1937، ولا يعرف أحي هو أم ميت. 6 - طادجكستان: هي أصغر جمهورية في آسيا الوسطى، سكانها من أصل إيراني بينما الجمهوريات الأخرى من أصل تركي، سكانها يزيدون قليلاً عن المليون ونصف، عاصمتها (ستالين آباد) (*). وواضح من اسم العاصمة أنه اسم حديث، لأن هذه الجمهورية أنشئت في 25 مارس - آذار سنة 1925 لأغراض سياسية منها: [1]- أن إنشاء جمهورية على أساس قومي سلاح بيد الروس لينشر على العالم أنه يستعمر المناطق ولا يغير الأمر الواقع. [2]- هذه الجمهورية سلاح آخر للروس ضد أفغانستان، التي يقيم فيها نسبة ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) عاصمتها اليوم: دوشنبه.

الجواب في " البروتوكولات " و" التوراة "

كبيرة من أبناء هذه المنطقة. [3]- وغاية ثالثة من إنشاء هذه الجمهورية وهي أن تقود بمبادئها الإيرانيين، إذ يزعم الروس أن الثقافة الإيرانية أصلها طاجيكية، كما أن الطاجيك (سكان هذه الجمهورية) هم الذين وقفوا أمام تقدم الإسكندر المقدوني، وأمام زحف المغول بقيادة (جانكيزخان). هذا وتوجد جمهوريات أخرى صغيرة مثل باشكيريا وإستونيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، تعامل بنفس الأسلوب ويسيطر عليها الأقلية الحزبية. ولكن الاضطهاد والإبادة بهذه المناطق ليس بسبب ثرواتها الاقتصادية فقط، لأنها تحت السيطرة الشيوعية ومواردها بيد الروس طوعًا أو كرهًا، فكان استمرار الاضطهاد والنفي إلى سيبيريا وغيرها لسبب آخر هام فما هو؟ ولماذا لم يعامل اليهود في روسيا نفس المعاملة التي عومل بها المسلمون؟. الجَوَابُ فِي " البْرُوتُوكُولاَتِ " وَ" التَّوْرَاةِ ": لقد وضع اليهود مخططًا يهدف إلى هدم الأديان وتعميق الاختلافات المذهبية والسياسية، وخلق صراع يؤدي إلى حروب عالمية تمهد لسيادة اليهود ممثلين في دولة إسرائيل التي خططوا لقيامها ثم سيطرتها على العالم كله، بعد إضعافه وانهياره بالحروب والأزمات الاقتصادية. هذا المخطط السري هو " بروتوكولات حكماء صهيون "، الذي سرقته سيدة فرنسية أثناء معاشرتها لأحد زعماء اليهود بفرنسا، فتمكن العلامة (سرجي نيلوس) من نشره سنة 1902. ولقد جاء في البروتوكول الخامس عشر: «سَنَعْمَلُ كُلَّ مَا فِي وُسْعِنَا عَلَى مَنْعِ المُؤَامَرَاتِ التِي تُدَبَّرُ ضِدَّنَا، حِينَ نَحْصُلُ نِهَائِيًّا عَلَى السُّلْطَةِ، مُتَوَسِّلِينَ إِلَيْهَا بِعَدَدٍ مِنَ الانْقِلاَبَاتِ السِّيَاسِيَّةِ». المَارْكْسِيَّةُ رَبِيبَةُ اليَهُودِيَّةِ وَدَوْرُ يَهُودِ أَمِرِيكَا: من هنا وتخلصًا من اضطهاد روسيا القيصرية لليهود، قام يهود روسيا بالثورة الشيوعية سنة 1917، إذ كان على رأس الثورة (كريتسكي) و (تروتسكي) و (زينوفييف) و (رادك) وكلهم يهود، وكان للمذهب اليهودي الأمريكي دور في إسقاط الحكم القيصري الروسي، وتمكين الشيوعية في روسيا، وقد أشار إلى ذلك الأستاذ (سرجي نيلوس) ونقل عن كتاب " المؤامرة يهودية " ما نصه: «إن المحفل الأمريكي الماسوني الذي يدير الماسونية الكونية،

المكتب السوفياتي كله يهود

وكل أعضائه من أعاظم زعماء اليهود وحدهم، عقد مؤتمرًا، قرر فيه خمسة من اليهود أصحاب الملايين، خراب روسيا القيصرية، بإنفاق مليار دولار والتضحية بمليون يهودي لإثارة الثورة في روسيا، والخمسة الذين تبرعوا بالمال هم: (إسحاق موتير)، و (شتر)، و (ليفي)، و (رون)، و (شيف)». المَكْتَبُ السُّوفْيَاتِي كُلُّهُ يَهُودْ: ولا ينكر أحد أن (كارل ماركس) يهودي، وأن (تروتسكي) اليهودي هو الذي سعى لتمكين (لينين) وتسليم السلطة له لصلته باليهود. ولا ينكر أحد أن المكتب السوفياتي سنة 1901 تكون من سبعة عشر عضوًا منهم أربعة عشر يهوديًا هم: (جانوفيتش) نائب الرئيس و (برياوشفرتيك) و (كيرتشنين)، و (جوركين)، و (إليا ايرهمبرج)، و (هينسبرج)، و (يخليس وفربين)، و (جودي ولوزوفسكي)، و (كافتانون)، و (بيتر ليفنتسكي)، أما الثلاثة الباقون ففيهم يهودي الأم وجميعهم متزوجون يهوديات وعلى رأسهم (ستالين) رئيس الدولة، و (مولوتوف) و (غيرشليوف). الشُّيُوعِيَّةُ مُخَطَّطٌ صُهْيُونِي: ولقد جاء في البروتوكول الثاني: «لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء. ولاحظوا هنا ان نجاح دارون وماركس ونيتشه وقد رتبناه من قبل. والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي (غير اليهودي) سيكون واضحًا لنا على التأكيد». كما جاء في البروتوكول التاسع: «وإننا سنسخر في خدمتنا أناسًا من جميع المذاهب والأحزاب، من رجال يرغبون في إعادة الملكيات، واشتراكيين، وشيوعيين، وحالمين بكل أنواع الطوبيات (الممالك الفاضلة)، ولقد وضعناهم جميعاً تحت السرج، وكل واحد منهم على طريقته الخاصة ينسف ما بقي من السلطة، ويحاول أن يحطم كل القوانين القائمة. وبهذا التدبير تتعذب الحكومات، [وتصرخ طلبًا للراحة، وتستعد ـ من أجل السلام ـ لتقديم أي تضحية]، ولكننا لن نمنحهم السلام حتى يعترفوا في صراحة بحكومتنا الدولية العليا». الشُّيُوعِيَّةُ فِي التَّوْرَاةِ: ولقد حاول اليهود التنكر للبروتوكولات، وحرقوها مرارًا وتمكنوا من مصادرتها في بريطانيا وغيرها، ولكن التوراة تؤكد أن الشيوعية من صنع اليهود فقد جاء في الإصحاح الخامس من سفر اللاويين ما نصه «الأرض لا تباع، لأن لي الأرض وأنتم غرباء نزلاء عندي». وفي

الصلة بين البروتوكولات والكتب المقدسة

البروتوكول 15: «هم كالغنم غباوة، ورؤوسهم مملوءة بالفراغ. سنتركهم يركبون في أحلامهم على حصان الآمال العقيمة، لتحطيم الفردية الإنسانية بالأفكار الرمزية لمبدأ الجماعية». فهذه الأفكار وغيرها هي التي جعلت (كارل ماركس) اليهودي يضع نظريته رأس المال، ويدعو إلى إلغاء الملكية الفردية والمناداة بالملكية الجماعية. وفي إسرئيل حاليًا نظام المزارع الجماعية، ولها حزبان شيوعيان لهما كامل الحرية السياسية والاجتماعية. الصِّلَةُ بَيْنَ البْرُوتُوكُولاَتِ وَالكُتُبِ المُقَدَّسَةِ: والتوراة تؤكد نسبة البروتوكولات إليهم، ففي التوراة: «سيقوم الرب ويقيس الأرض ويجعل عبدة الأوثان تحت يد إسرائيل .. ويسلم جميع ممتلكاتهم لليهود». وفي آخر " سفر المزامير " وهو " الزبور ": «وليرغموا على مضاجعهم، تنويهات الله في أفواههم، وسيف ذو حدين في أيديهم، كي ينزلوا نقمتهم بالأمم، وتأديباتهم بالشعوب، ويأسروا ملوكهم بقيود وأشرافهم بأغلال من حديد، وينفذوا فيهم الحكم المكتوب». وفي " التلمود " وهي الكتاب السري لليهود: «واليهود يفضلون الأمميين - غير اليهود - كما يفضل الإنسان البهيمة، والأمميون جميعًا كلاب وخنازير ..». ونفس الشيء بالبروتوكول الأول: «إن الأمميين كقطيع من الغنم وإننا الذئاب». وفي البروتوكول الثاني: «لسنا في حاجة أن نقيم وزنًا للأمميين». الشُّيُوعِيَّةُ الجِنْسِيَّةُ فِي التَّوْرَاةِ: أما الإباحية الجنسية التي يتبناها الشيوعيون، فهي مباحة في التوراة التي تمتدح دور الفتاة التي قدمها عمها إلى ملك الفرس فأعجبته، وعن طريق الجنس قامت بدور في الإحاطة بل بقتل (هامان) وزير الملك، لأنه كان قد بدأ في اضطهاد اليهود، وقد أوعزت إلى الملك ليسلم منصب الوزير إلى (موردخاي) اليهودي (¬1). وتنسب التوارة إلى نبي الله (داود)، أعمال الجنس والفحش فتزعم أنه اغتصب زوجة أحد جنوده، وبعد أن حملت دبر قتله وتزوجها وولدت منه ابنًا آخر هو (سليمان). وتنسب إلى نبي الله (سليمان) الضلال الجنسي كأبيه فتزعم أنه ضم إليه ألف امرأة، بل تزعم أنه في ¬

_ (¬1) انظر صفحة 159.

من كان له أذن للسمع فليسمع

شيخوخته «أمال النساء قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً للرب إلهه». فتزعم أنه أقام معابده تماثيل لآلهة نسائه وشعوبهن وقد برأه القرآن كما برأ أباه. مَنْ كَانَ لَهُ أُذْنٌ لِلْسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ: عبارة خالدة، قد صرخ الأستاذ (نيلوس) (*) صرخة المسيح من قبل ليوقظ بها الروس قبل حلول كارثة الحكم الشيوعي باثني عشر عامًا، ولكنهم لم يسمعوا .. وأنا اليوم أعيدها مرارًا لمن كان له قلب، ليكون لنا فيما جرى عبرة، ولكي لا تنخدع الأمة العربية مرة أخرى بوعود الروس البراقة، وما من شك أنهم لن يتخلوا عن أحلامهم في المنطقة بهذه البساطة، ولكنهم كالحية التي تدخل جحرها الآن، انتظارًا لفرصة أخرى تنقض على الفريسة، ومن قبل عندما ساءت علاقاتهم مع (جمال عبد الناصر) سنة 1959 في أعقاب ثورة الشواف وسحق (عبد الكريم قاسم) لها بواسطة الشيوعيين، طأطأوا رؤوسهم للعاصفة ريثما أتيحت لهم الفرصة بعد ذلك والتفوا حول عنقه، وأصبح لا يعرف لسانه إلا أن يكيل المدح لهم حتى في ساعة الهزيمة برغم شهود الدنيا على تواطؤ الروس .. وإن نجحوا هذه المرة في مداهنة السادات فإنها ستكون الماحقة لكل مقومات الأمة العربية إلى الأبد، لأن الغدر طبع الدب الروسي (¬1). وهم ينسقون مع أمريكا في ذلك. هَلْ يَفِيقُ اليَسَارُ العَرَبِيُّ؟: إن أكثر أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي منذ قيامه وحتى أوائل الخمسينيات كانوا من اليهود. والذين أسسوا الأحزاب الشيوعية العربية كانوا في معظمهم يهودًا، كـ (هنري كورييل) في مصر، و (يوسف زليخة) و (وشلومو دلال) في العراق، حتى الحزب الشيوعي في فلسطين وحتى عام 1932 كان جلهم من اليهود الذين اعتبروا ثورة البراق عام 1929 «مذابح لليهود»، ودعوا فيما بعد لوحدة العمال العرب واليهود ضد الرأسماليين! وعندما كانت تختلف الزعامات الشيوعية فيما بينها، وتنشأ الانشقاقات كان «الكومينترن» يرسل إليهم شيوعيين يهودًا ليوحدوا بينهم. ومنذ تكوين الخلايا الأولى للأحزاب الشيوعية العربية، رفعت شعارات الوطنية والتحرر من الاستعمار والتقدمية، ودخلت في جبهات «وطنية» مع قوى أخرى، ¬

_ (¬1) " البلاغ " في 17/ 9 / 1972. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) خطأ في الطباعة حيث كتب (نيلسون)، لعل المؤلف يقصد (سرجي نيلوس)، انظر الصفحة 136 من هذا الكتاب.

وتجسدت هذه الشعارات أسماء نشرتها " الوطن "، " الحقيقة "، " إلى الأمام "، الشرارة "، " الطليعة " وغيرها، وما تزال هذه الأسماء هي العناوين التي يتسللون من خلالها! وإذا كان شعار «الوطنية» هي أكثر الشعارات التي تغنوا بها، فإن مواقفهم السياسية تكشف زيف هذا الشعار، وبخاصة مواقفهم من القضية الفلسطينية، القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية. ففي العراق طالب الشيوعيون رشيد عالي الكيلاني عام 1941 بعدم اضطهاد اليهود، وفي عام 1948 بارك الشيوعيون قيام دولة إسرائيل باعتراف الاتحاد السوفياتي بها. ومن قبل وقف الحزب الشيوعي الفلسطيني وكل الأحزاب الشيوعية العربية مع قرار التقسيم الصادر عام 1947. وبعد النكبة وتحديدًا عام 1951 كان أهم بنود برنامج الحزب الشيوعي الأردني، «النضال في سبيل تنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة، وفي سبيل عودة المشردين إلى ديارهم». وبعد قيام العمل الفدائي بعد هزيمة 1967 تحفظ عليه الشيوعيون بدعوى «أن الظروف لم تتضح للخوض في مثل هذا الأسلوب من الكفاح فضلاً عن أنه يعرقل التوصل إلى تسوية سلمية». وفي مواجهة العمل الفدائي رفعت قيادة الحزب الشيوعي الأردني «حكومة الوحدة الوطنية». وفي العراق أيد الشيوعيون قرار مجلس الأمن 242: 1 - الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. 2 - ومحاربة التوجه الإسلامي على مستوى انتشار الدعوة والتشريعات الإسلامية، بل وحتى على مستوى أعمال الخير والبر والإحسان. وفي بعض دول الخليج العربية استطاع بعض العلمانيين والشيوعيين التسلل لبعض المواقع المؤثرة سياسيًا وإعلاميًا وأجهزة حكومية. إن بعض اليهود كانت لهم الصدارة في الحزب الشيوعي العراقي وقيادته وهم: - كان المسؤول عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد عام 1947: اليهودي (يهودا صديق). - والمسؤول الأول عن عمال بغداد: اليهودي (يوسف زلوف) ثم تناوب المسؤولية عن

العمال كل من اليهودي: (حسقيل صديق)، واليهودي (موشي مراد كوهين). ثم أصبح اليهودي (يوسف زلوف) مسؤولاً عن تنظيم البصرة. - والمسؤول الأول عن مجلة " العصبة ": اليهودي (يوسف زلخة). - وتتكون لجنة التثقيف الحزبي من: (ساسون دلال) و (موسى مختار) و (إبراهيم شاؤول). - والمسؤول عن عمال الأحذية: (سليم منشي). - وعن عمال الخياطة: (موسى كوهين). - وعن عمال الصياغة: (يوسف زلوف). - وعن عمال التجارة: (حسقيل إبراهيم). - والمسؤول عن قطاع الكرخ: (مير يعقوب كوهين). - والمسؤول عن الكرادة: (موريس يعقوب). - عضو اللجنة المحلية للواء البصرة: اليهودي (ناجي شاؤول). - عضو اللجنة المحلية للواء كركوك: اليهودي (يونان وليم). - والمسؤول الأول عن اللجنة المركزية الثالثة: اليهودي (ساسون شلومو دلال). - والمساعد الأيمن في الحزب: اليهودي (سامون دلال)، واليهودي (مناحيم قوجمان). - المسؤول عن المطبعة السرية للحزب: اليهودي (يعقوب مير مصري). - والمسؤول عن الكليات: اليهودي (موشي سليمان). - والمسؤولة عن نساء بغداد: اليهودية (سعيدة ساسون). - أما اللجنة المركزية الرابعة: فالمنظم الأعلى للعمال: اليهودي (منشي يعقوب عبد الله). - والمسؤول عن الثانويات: اليهودي (ناظم يعقوب يونا). - والمسؤول عن تنظيم نساء السليمانية: اليهودية (حنبلة هارون زلخة). - أما الممولان الرئيسيان للحزب فهما: اليهودي (شلومو دانيال) واليهودي (داود دانيال). - أما اللجنة الخامسة فأحد أعضائها: اليهودي (يعقوب قوجمان). - ومنظم القطاع الجنوبي: اليهودي (سعيد شلومو صيون).

تزوير المذهب المادي للتاريخ

- ومراسل اللجنة المركزية فرع البصرة: اليهودي (يوسف ساسون). - والمسؤول عن مركز المراسلات في بغداد: اليهودي (شنطوب شميل). فهل يتدبر المنخرطون في سلك اليسار والسائرون في ركابه إلى أي وجهة يقصدون وبقيادة من يسيرون (¬1). تَزْوِيرُ المَذْهَبِ المَادِّيِّ لِلْتَّارِيخِ: إن أتباع المذهب المادي وخدامه يزعمون أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما اتبعوا ليخلصهم من المظالم، وليهنأوا برغد العيش في ظل الحكم الجديد. وهؤلاء لا يجهلون أنه لا يخلو مصدر من المصادر التاريخية من بيان موقف الرواد الأوائل لهذا الدين. إنهم لم يدخلوا هذا الدين ابتغاء مغنم في الدنيا أو لرفع ظلم السادة لهم، لأنهم يعلمون تمامًا أن دخولهم في هذا الدين لن يرفع عنهم الأغلال الدنيوية، ولن يمنحهم المال أو الجاه أو السلطان. فالقرآن الكريم يعلن أن أتباع هذا الدين لا بد أن يفتدوه بأموالهم وأنفسهم. قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (¬2). وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬3). ولهذا عندما أسلم بلال بن رباح صب عليه سيده أمية بن خلف كل أنواع العذاب، بما في ذلك وضع الصخرة الكبيرة على صدره، وتركه فوق الرمال الملتهبة في الظهيرة مع ضربه بالسياط بمعرفة حراس غلاظ شداد لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً. كما أن المصادر التاريخية تعلن أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقدم وعودًا لأحد بتحسين وضعه الاجتماعي، أو رفع الظلم والعذاب عنه. وَفِي هَذَا يَقُولُ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ ¬

_ (¬1) " الوطن " في 25/ 10 / 1985 نقلاً عن كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة "، للمؤلف. (¬2) [آل عمران: 186]. (¬3) [البقرة: 155].

وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». إن النبي الذي طلب منهم الصبر على البلاء لأنه سنة الدعوات، قد أعلن لهم بكل الثقة في الله، أن الله سينصر دينه، وسيحكم الإسلام أرض الجزيرة بل ومن صنعاء إلى حضرموت. ولكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل للمستضعفين إن هذا النصر سيتم على أيديهم، ولم يقدم وعودًا لأحد منهم يجني ثمار صبره في هذه الدنيا. ذلك لأن المسلم لا يبتغي بإسلامه إلا نصرة دينه، وطاعة ربه والجزاء الذي وعده الله به، وهو الجنة في الحياة الآخرة وليس الفوز بشيء من الدنيا. قد يأتي هذا النصر، وقد يتأخر ليجني ثماره أجيال أخرى كما حدث لأصحاب الأخدود. فقد أدخلوا نار الدنيا وحرقوا عن آخرهم، والسبب الذي رواه القرآن الكريم هو قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). والعقاب الذي توعد به الظالمين هو قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (¬2). لقد تجاهل هؤلاء هذه الحقائق التاريخية، وزعموا أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية هي التي دفعت المستضعفين للانضمام إلى جماعة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تجاهلوا أن الإسلام قد اعتنقه أغنياء وفقراء، بل لم يكتفوا بهذا التفسير الخاطئ الكاذب، بل زوروا التاريخ ليثبتوا صدق زعمهم، وذلك على حساب القرآن والسنة النبوية. ومن صور هذا قول أحدهم: «كان المدين ينزل للدائن عن زوجته أو عن أمه أو عن ابنته أو عن زوجة أبيه ليتسلمها الدائن، لا ليستمتع بها وحده فحسب، فقد كان من حقه بعد أن يستمتع بها، أن يلحقها بأحد بيوت اللهو الكبيرة، التي كانت ترفع عليها رايات خاصة». والمصادر التاريخية تثبت كذب هذا الافتراء أصلاً، كما تثبت عدم صدق التفسير المادي الذي اختاروه. يقول (فيليب حتي) في كتابه " تاريخ العرب ": ¬

_ (¬1) [البروج: 8]. (¬2) [البروج: 10].

«الحياة في الصحراء تخلق المساواة. فإن كانت الشعوب تفخر بقوميتها، فإن سكان الصحراء من البدو يحق لهم أن يفخروا بحريتهم الشخصية». وما يذكره كتاب " محمد رسول الحرية " عن استرقاق المرأة وتسليمها للغير من دَيْنٍ على العائلة أمر غير صحيح، فالمصادر التاريخية كلها تثبت أن الدفاع عن الشرف والعرض كان من سمات العرب، وأنه قد نشبت حروب بسبب الدفاع عن شرف النساء، ومن هذه الحروب حرب البسوس التي ظلت أربعين عامًا، وسببها أن البسوس قد تركت ناقتها فوردت ماء كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ، فصرع هذه الناقة فاستنجدت البسوس بابن أختها جساس بن مرة فقام لنصرتها وقتل كُلَيْبًا. وأيضًا حرب الفجار، سببها أن شبانًا حاولوا كشف وجه امرأة من بني عامر فرفضت فشد أحدهم ثوبها من الخلف فصاحت وطلبت النجدة فكانت هذه الحرب. وتأكيدًا لذلك يقول (فيليب حتي): «يفخر العرب فخرًا لا حد له بنقاء دمه، وقبل هذا وذاك بشرف نسبه، أما المرأة الأعرابية فكانت تتمتع بقدر من الحرية، بينما غيرها كان يعيش في مجتمع يغلب عليه النفاق ويسيطر عليه الرجل» (ج 1 ص 36). وتفصيل الرد على محاولات مَرْكَسَةِ الإِسْلاَمِ في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار ".

الفصل الرابع: القيم الأخلاقية بين الإلحاد والعلمانية

الفَصْلُ الرَّابِعُ: القِيَمُ الأَخْلاَقِيَّةُ بَيْنَ الإِلْحَادِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: • خطر الحرية الجنسية. • الدور النسائي في المخطط الأنجلو - صهيوني. • الشيطان الأخرس والجمعيات النسائية. • إخضاع النفس للتجارب. • المخطط الإسرائيلي وواجب العرب. • السلطة وحدودها. • إتلاف الخمر بين الشرعية والمصالح الفردية. • كرامتنا المهانة بين السياحة والفن. • الغزو الماركسي للتاريخ والسيرة. • المؤتمرون وأزمة التطور الحضاري.

القيم الأخلاقية بين الإلحاد والعلمانية

القِيَمُ الأَخْلاَقِيَّةُ بَيْنَ الإِلْحَادِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: خَطَرُ الحُرِّيَّةِ الجِنْسِيَّةِ: (¬1). انتشرت الحرية الجنسية في الغرب بفعل المناهج التحررية والعلمانية (اللادينية)، التي سادت أوروبا في القرن الماضي كرد فعل لمظالم القرون الوسطى، وهي قرون الظلام في أوروبا وحدها، وأصبح مفهوم الحرية عند هؤلاء هو التحرر من الفضائل، فهي قيود على نزواتهم ومصالحهم المادية. والماركسية أكثر إمعانًا في هذا، فعقيدتها وهي المادية الجدلية، تحتم على الإنسان أن يكون ماديًا فحسب، فغايته إشباع غرائزه وشهواته. والحرية في الإسلام هي التحرر من العبودية للمادة، والعبودية للأهواء، والتحرر من العبودية للبشر. والحرية في الإسلام: هي قانون الحركة المتوازنة حول محور ثابت، لكنها حركة إرادية، فقد خص الله الإنسان بالإرادة وكرمه على سائر المخلوقات. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬2). ففي هذا الإطار يتحرك الإنسان في نطاق بشريته التي هي مزيج بين المادة والروح، فالإنسان ليس حيوانًا، وليس ملاكًا، وليس مطلوبًا منه أن يكون هذا وذاك، والإسلام بهذا المفهوم يحقق التوازن بين المادة والروح، فلا يهمل مطالب الجسد، ولا يلغي الروح والمعاني والقيم. قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (¬3). وهذا التطبيق الصحيح لمفهوم الحرية، يصلح حياة الناس جميعًا وتستقر به النفوس، ولن تستقيم الحياة في ظل الحرية الجنسية، فكلما تحرر الإنسان من القيم والأخلاق ازداد تعطشًا وَنَهَمًا للانحراف والطغيان، وما أمر بريطانيا عنا ببعيد، فقد أباحت كل أنواع الحرية الجنسية بما فيها الشذوذ، فكانت النتيجة هي خطف الصغار من المدارس والاعتداء عليهم، ولم ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " يوم 19/ 9 / 1972 م - 11/ 8 / 1392 هـ. (¬2) [الإسراء: 70]. (¬3) [القصص: 77].

يوقف ذلك مظاهرات الآباء والأمهات، والمطالبة بالتدخل لحماية النشء من هذه الحيوانية المفترسة. لقد حاول المصلحون الاجتماعيون علاج هذه الظاهرة، ولكنهم ضلوا السبيل ففاقد الشيء لا يعطيه. فالبرغم من محاولات كنائس الوحدويين في أمريكا علاج جرائم الجنس، بعرض أفلام كاملة للعمليات الجنسية، ما زال المجتمع جنسيًا خالصًا، وتعلل العالمة الاجتماعية (إيرا رايس) ذلك بغياب الدين عن الواقع. ولقد انتقلت إلينا هذه الحيوانية ضمن ما ورثناه من التقليد الأعمى باسم التقدم والرقي، وشاعت الصدور العارية وانتشرت الإباحية الضارية وأضفينا على هذه الأمراض شتى المسميات، فكان أدب الجنس، وأصبح له فلاسفة بدعوى أنه حقيقة بين الصغار والكبار، بل أصبح للجنس وعاظ يزعمون أن الحرية الجنسية ليست حرامًا، فالدكتورة (هلين رايت) الفرنسية المشهورة والتي عملت مبشرة خمس سنوات لحساب الكنيسة الإنجليزية تقول في كتاب باسم " الجنس والمجتمع " بوجوب الحرية الجنسية بين الناس جميعًا بما فيهم المتزوجون، وتدعو إلى ضرورة تقبل الرجل والمرأة هذا على السواء، منعًا من هدم حياتهما الزوجية، وهي تنسب إلى الدين المسيحي هذا الفهم الغريب وتقول: «إن هذا السلوك لا يخالف المسيحية، لأن الأفكار القديمة الخاصة بالأخلاقيات قد انهارت، ويلزمنا أفكار جديدة للعلاقة الجنسية وهي الحرية الجنسية». وبين العرب من يزعم أن هذه الحرية لا تخالف القواعد الشرعية ويحتجون ببعض الأشعار وأخبار بعض الأدباء. ولئن صح أن هذا حال البعض فهي فئة منقرضة لا تمثل إلا نفسها، ولا تعدو أن تكون قليلة نادرة. والنادر لا حكم له. أما المجتمع العربي الإسلامي فقد كان في عصوره الأولى، طاهرًا متطهرًا من مظاهر ومحركات الشهوة الجنسية وعوامل الإغراء، ومن ثم انتصر على الإمبراطوريتين العالميتين الفرس والروم. وإذا افترضنا جدلاً - والجدل خلاف الواقع - أن الأقلية أو الأغلبية قد سلكت سبيلاً غير ذلك فالاحتكام إنما يكون لحكم الله ورسوله أي لما يجب أن يكون، وهو تطهير المجتمع من الفساد وعوامل الإغراء الجنسي، لأنها تؤدي إلى شيوع الفاحشة، ومن ثم تنحل أسباب ومقومات التكامل والقوة، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا

أدب الجنس

تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ. وَخُلُقُ الْإِسْلاَمِ الحَيَاءُ». وقال: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬2). من أجل ذلك لا يحل إشعال نار هذه الفتنة، لأن إباحة نشر وإذاعة هذه المسائل، لا يقل خطرًا عن نشر وشيوع السرقة أو القتل، بل إن الحرية الجنسية أشد خطرًا من هذه الجرائم، ولا أدل على ذلك من أن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جعل عقوبة الزاني الرجم، بينما اكتفى بقطع يد السارق، ذلك أن الزنا يهلك الأمة كلها ويضعف كل مقوماتها، ووسائل الحرية الجنسية، جزء من الزنا فهي أبوابه ومقوماته. أَدَبُ الجِنْسِ: من أجل ذلك لم يكتف الإسلام بتحريم الزنا، بل حرم الطرق المؤدية إليه. ففي الحديث الشريف: «فَالعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ». كما حرم الإسلام الكلام في المسائل الجنسية، فالوقاية خير من العلاج، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُبَاشِرُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ حَتَّى تَصِفَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا». وإذا كان وصف المرأة حرامًا، ولو كان ذلك في معرض الحديث بين زوج وزوجته، فهو أشد حرمة وأكبر خطرًا فيما وراء ذلك، ولهذا حرم الله تعالى أيضًا الأفعال التي تؤدي إلى هذه الفتنة فقال - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬3). {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] (¬4). فشيوع الجنس والدعوة إليه إضفاء الأوصاف الأدبية عليه قد أدى إلى انتشار الفواحش وانحلال المجتمعات، فأصبح شعار الشباب «مارس الحب والجنس واترك الحرب والشهامة». إن الذين روجوا للحفلات الراقصة بين الجنود باسم الترفيه، يجنون على الأمة شر جناية فلقد أدت هذه الوسائل إلى أن ترك الجنود الفرنسيون ميادين القتال في الحرب العالمية الأولى وتزاحموا على دور البغاء، ولم يملك قائدهم منعهم فأصدر بيانًا في 3 مايو سنة ¬

_ (¬1) [النور: 19]. (¬2) " التاج الجامع للأصول "، للشيخ منصور علي ناصف: 5/ 59. (¬3) و (¬4) [النور: 31].

مع الخطر البدني

1919 جاء فيه: «ومكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد العاهرات في دور البغاء حتى يكفين الجنود، ولكن قبل أن يتم ذلك نوصي رجال البنادق ألا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجلوا بقضاء شهواتهم». ولقد نتج عن ذلك كما جاء في تصريح المسيو (فرديناند ريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي، أن أصبح البغاء حرفة كسائر أنواع المهن وأصبح له أسواق لتصيد واستيراد الفتيات، وأصبحت بعض الفنادق أوكارًا لذلك، وجندت هذه الفئة أرباب القلم وناشري الكتب والأساتذة والأطباء. فهل إلى علاج من سبيل؟ مَعَ الخَطَرِ البَدَنِيِّ: والجدير بالذكر أنه صدرت عدة توصيات وكتب عن الأخطار المادية الجسدية للأمراض الجنسية، الناتجة عن الحرية الجنسية، والتي لم تعد شيئًا خافيًا، بل الأمر واضح وضوح الشمس ومتداول في الأوساط العلمية، بل ولدى جمهور المثقفين. يقول قرار منظمة الصحة العالمية في الاجتماع الثامن والعشرين، المنعقد في مايو 1975: «إن الأمراض الجنسية هي أكثر الأمراض المعدية انتشارًا، والتي تشكل تهديدًا خطيرًا على الصحة العامة في العالم اليوم». وهو ما أكده أيضًا " مرجع مرك العلمي الطبي " الطبعة الثالثة عشر 1977. ونذكر من الأمراض الجنسية أشهرها، وهي أكثر من أن تحصر في مقالة عاجلة، وهي الزهري الذي يؤدي إلى الشلل والجنون، والسيلان الذي يؤدي إلى العقم ثم الهربس المرض الفيروسي الذي لا شفاء منه إلى الآن. وهو سريع الانتشار إذ أن عدد ضحاياه في الولايات المتحدة فقط عام 1982 بلغوا عشرين مليونًا، والمرض يتسبب في آلام بدنية ونفسية للمصاب، كما أن وجوده في المرأة يؤدي إلى عدم اكتمال الحمل، وينتقل بصورة قاتلة إلى جنينها، كما ثبت علاقته بسرطان عنق الرحم. وفي عام 1979 ظهر لأول مرة داء خطير جديد هو مرض فقدان المناعة المكتسبة في الولايات المتحدة المعروف باسم (الإيدز) وانتشر بسرعة رهيبة بين الشاذين جنسيًا، والمريض يموت خلال عامين أو ثلاثة منذ ظهور الأعراض، وعلاجه غير متيسر ولا معلوم حتى الآن (¬1). ¬

_ (¬1) " الأمراض الجنسية، أسبابها وعلاجها " للدكتور محمد علي البار: ص 6 و 13. دار المنارة بجدة، سنة1985.

الدور النسائي في المخطط الأنجلو - صهيوني

الدَّوْرُ النِّسَائِيُّ فِي المُخَطَّطِ الأَنْجْلُو - صُهْيُونِي: لقد جعل الإسلام الأسرة هي البوتقة الطبيعية لصهر الأبناء، ليكونوا لَبِنَاتٍ صَالِحَةٍ في بناء متماسك قال عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ [الْجَسَدِ] بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، ولن تكون الأسرة والمجتمع على هذا النمط إلا إذا كانت الفضيلة والشرف هما قوام هذه الأسرة وهذا المجتمع. ومن هنا اهتم الإسلام بالمرأة فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة الوداع: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». فالمرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي المؤثر الأصيل في المجتمع في جميع أدوار حياتها وجميع أطوار المجتمع، فلها أثرها كبنت، ولها أثر أكبر وهي زوجة، ولها الأثر الأكبر وهي أم، فهي مدرسة لو أعددتها على القيم الربانية كنت قد أعددت الشعب كله على تلك القيم. لهذا الأثر، عندما فشل الأجانب في غزو الإسلام عن طريق الحروب، لجأوا إلى غزو المجتمعات عن طريق النساء، لتصبح المرأة أداة للترفيه وترويج السلع وهدم القيم. إن المجتمع الإسلامي الذي رد الصليبيين على أعقابهم خاسرين، لم يستطع أن يسترد أشبارًا من أرضه بعد أن احتلتها نساء صهيون أبناء القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. فما السر وراء ذلك؟ لقد لجأت الصهيونية متحالفة مع الماديين في الشرق والغرب إلى إفساد المجتمعات، واتخذت المرأة وسيلة لذلك. جاء في البروتوكول الأول من " بروتوكولات حكماء صهيون ": «ومن خلال الفساد الحالي الذي نلجأ إليه مكرهين». أي أن فساد اليهود وسيلة لإفساد الناس وليس غاية في ذاته ومن ثم قال كاتب " البروتوكولات ": «إن الغاية تبرر الوسيلة .. وعلينا ونحن نضع مخططنا ألا نلتفت إلى ما هو خير، وأخلاقي .. من المسيحيين أناس قد أضلتهم الخمر، وانقلب شبابهم مجانين بالكلاسيكيات .. والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلاؤنا ومعلمونا وخدمنا .. ومن إليهم، ونساؤنا في أماكن لهوهم». وقال الأستاذ (سرجي نيلوس) في تعليقه على " البروتوكولات " عندما نشرت سنة

الشيطان الأخرس والجمعيات النسائية

1902: النساء في خدمة صهيون يعملن كأحابيل ومصايد .. إن فرنسا أجبرت تركيا على منح امتيازات لجميع المدارس والمؤسسات الدينية. هناك ستمهد السبيل لإفساد الحماسة والنخوة والانحلال الخلقي، وخاصة بمساعدة النساء اليهوديات المتنكرات في صورة الفرنسيات .. والإيطاليات ومن إليهن. والتخطيط الوارد عند الصهاينة تراه عند حلفائهم، فيقول (مورو بيرجر) الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية: «إن نمو وضع النساء ومشاركتهن في الشؤون العامة، هو أخطر قوى تغيير، لا في الأسرة العربية وحدها، بل في المجتمع العربي على العموم، وإذ سمح للقوى التي حملت سلاحها الآن (النساء) .. أن تبرز إمكانياتها فما من شك أن مطامع النساء وحقوقهن سوف تحول المجتمع العربي عميقًا، وبصورة أبدية» (¬1). الشَّيْطَانُ الأَخْرَسُ وَالجَمْعِيَّاتُ النِّسَائِيَّةِ: إن الجمعيات النسائية في المنطقة العربية والإسلامية ما زالت تقلد الغرب والشرق تقليدًا إيجابيًا أو سلبيًا، على اختلاف بينها في مدى هذا التقليد إلا ما رحم ربك. وصور التقليد الإيجابي أن تتبنى الجمعية قضايا لا تخص المرأة العربية في شيء، كموضوع المساواة في الأجور بين الرجل والمرأة، وموضوع جعل الطلاق بيد القاضي، أو قضية المساواة على إطلاقها، دون إدراك أن المرأة في الغرب تابعة للرجل في اسمها وفي أموالها، كما أنها تحصل على نصف أجر الرجل، رغم تساوي العمل بينهما، ودون إدراك أن قضية المساواة هناك لها جذورها وأسبابها، ولا كذلك الحال في المنطقة العربية اللهم إلا في بعض الأمور اليسيرة الموروثة عن التقاليد، ومن ثم وجب حصر المطالب فيها دون غيرها، لأن التقليد يضعف منزلة المقلد رجلاً كان أو امرأة كما أنه يضر بالمجتمع كله. أما صور التقليد السلبي فهو السكوت على التيار العام السائد في أوساط المرأة العربية، والمؤدي إلى تقليدها للمرأة الغربية في كل شيء، حتى في طريقة الكلام والزي. وإذا لم يكن للمرأة العربية طابعها المميز، وكانت صورة بالكربون من المرأة الغربية فما ذلك بمدنية، إنها مدنية القرود، ونحن نربأ بالجمعيات النسائية العربية أن تقف موقف المتفرج من هذه الظاهرة. ¬

_ (¬1) " المجتمع " في 26/ 9 / 1972 م - 18/ 8 / 1392 هـ.

أين الطابع الشرقي والإسلامي؟

كما ننزهها أن تكون عربية الوجه غربية السلوك والمظهر، إن هذه الإدانة قد سطرتها أقلام غربية، فهل تدرك المرأة العربية أن التقليد صفة غير إنسانية، وأن ذوي الفهم السليم من أهل الغرب يحتقر مثل هذا التقليد. أَيْنَ الطَّابَعُ الشَّرْقِيُّ وَالإِسْلاَمِيُّ؟: إن من الناقدات لمثل هذا التقليد صحفية إنجليزية زارت القاهرة سنة 1961 قبل أن تظهر موجات العري السافر. فماذا قالت؟ لقد نشرت جريدة " الأهرام " (بتاريخ 27/ 3 / 1961 م - 10/ 10 / 1380 هـ) تعليقًا لهذه الصحيفة جاء فيه: «لقد صدمت بمجرد نزولي إلى أرض المطار، فقد كنت أتصور أنني سأقابل المرأة الشرقية بمعنى الكلمة، ترتدي الأزياء العملية، التي تتسم بالطابع الشرقي، وتتصرف بطريقة شرقية، ولكن لم أجد هذا، فالمرأة هنا هي نفس المرأة التي أبعدوها عن فطرتها، الأزياء هي نفسها بالحرف وتسريحة الشعر، والمكياج، حتى طريقة الكلام والمشي». ثم تقول الصحفية الإنجليزية: «لقد صدمني من المرأة الشرقية أنها تصورت أن التمدن والتحضر هو بتقليد المرأة الغربية». خَطَرُ تَقْلِيدِ الإِبَاحِيَّةِ الغَرْبِيَّةِ: وتحت عنوان " امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة " نشرت جريدة " الجمهورية " القاهرية في 9/ 6 / 1962 للصحفية الأمريكية (هلسيان ستانسبري) وهي متخصصة في مشاكل الشباب والأسرة وتكتب في أكثر من 250 صحيفة أمريكية وتعمل في أمريكا في مجال الإعلام ومنه التلفزيون والإذاعة والصحافة، وبعد أن أجرت استطلاعًا في المدارس والجامعات والأحياء المختلفة بالقاهرة نشرت هذا المقال وفيه: «إن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة، وتحتم احترام الأب والأم، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية، التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أمريكا وأوروبا، ولهذا أنصح أن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة. إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث،

وعصابات جيمس دين، وعصابات للمخدرات والرقيق. إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي هدد الأسر وزلزل القيم والأخلاق، فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث، تخالط الشبان وترقص وتشرب الخمر والسجائر، وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والإباحية». إذا كان هذا! فإننا نتساءل لماذا لا تتبنى الجمعيات النسائية، الثورة على الإباحية الغربية؟. ليس غريبًا أن تظل الهند متمسكة بتقاليدها في المظهر والسلوك، مهما كان رأينا في هذه التقاليد. لكن الغريب هو مسلك العرب رجالاً ونساءً، حيث شاع التقليد بين الجنسين دون أدنى تفكير بما يصلح وما لا يصلح، أو تفريق بين الممنوع والمشروع، إنما السينما في الهند تمنع القبلة على الشاشة ومن باب أولى تمنع ما هو أكبر من ذلك، لأن العمل السينمائي والمسرحي هو سفير متجول يعرف الشعوب الأخرى ببلده وأهله. وقد شعرت الهند بذلك على الصعيد الجماعي والفردي حتى أن أشهر ممثلة هناك وهي (وهدا دحمان) تقول: «من المستحيل أن أكون على الشاشة في قبلة سينمائية، إذ سأموت من الخجل». (" أخبار اليوم " المصرية: 21/ 3 / 1970). ولكن العرب - المسلمين بألسنتهم المهزومين في أنفسهم ومجتمعاتهم - جعلوا من العمل السينمائي والمسرحي وسيلة لإفساد النشء وأصبح سبة للبلد المصدر لمثل هذا العمل، حيث إنه في ظاهره يمثل مجتمع هذا البلد، وهو في الحقيقة لا يمثل إلا أخلاق حفنة من الماجنين والماجنات. فهذا العمل كما يراه ويلمسه الجميع صوره أحد الكتاب في جريدة " الجمهورية " يوم 22/ 3 / 1970 وقبل أن نزداد فحشًا وسوءًا، فقال: «بعد أن كانت ملابس فاتنات المسرح على موضة الميني جيب ثم الميكرو جيب، وفي بعض المسارح كشفت مساحات جديدة فوق الصدر وما تحت الصدر، فأصبحت بمايوه من قطعتين، وعلى سبيل المثال في إحدى المسرحيات المعروضة حاليًا، تستلقي الممثلة على كنبة وترفع إحدى ساقيها العاريتين لتضعها فوق حجر الممثل الأول، والساق الأخرى تجدها على الأرض ويبدأ هو بدوره يحدثنا عن البروتينات بالكلمة والنظرة واللمسة ...»

أين الجمعيات النسائية؟

إن الخليج لم يقلد بعد هذا العمل الفاحش، ولكنه يصدر إليه وبالتالي مع الزمن المتطور يصبح من التقاليد المتعارف عليها، فأين أولو الأحلام والنهى بين الرجال والنساء بلدًا من البلدان المصدرة لهذا العمل، استحله في وقت تحرمه الشعوب التي لا دين لها ألا وهو زمن الحرب. ففي أعقاب الهزيمة النكراء جاء مسؤول واعترض أن يناقش هذا ممثلو الشعب، وجمع كُتَّابًا بمكتبه من الماجنين والماجنات ليعلن أنه شكل لجنة لبحث موضوع الأفلام الجنسية وأن اللجنة انتهت إلى إباحة عرضها للجميع ولهذا بصفته المسؤول عن الثقافة والأدب والمصنفات يعلن إباحة عرض هذا النوع من الأفلام، وبالتالي منع مناقشة ذلك في مجلس الأمة. هذا يجري بين العرب ومن خلال الهزيمة بينما تقف سيدة دانماركية لتحتج على معرض الجنس الثاني في الدانمارك وتدون ذلك بسجلات المعرف فتقول: «هذا المعرض يريد أن يؤكد للعالم الفكرة الشائعة، وهي أن الدانماركيين لا هم لهم إلا الفراش وقراءة المجلات والكتب الجنسية، وهذا زائف وغير حقيقي فإن أهمية المعرض أن يجعل ما ليس بحقيقة، وبالتالي لا تنهض الدانمارك إلى مصاف الدول القوية الآمنة عندما يراد لاستقلالها ولسيادتها أن تمس». (" الجمهورية ": 21/ 3 / 1970). فهل تثور الأنشطة النسائية على ما يجري في المنطقة العربية؟. أَيْنَ الجَمْعِيَّاتُ النِّسَائِيَّةُ؟: إذا كان هذا هو رد الفعل عند الأصحاء من نساء ورجال الأمم غير العربية، بما فيها تلك التي لا دين لها، حيث منعت فيتنام الشمالية أعمال المسرح والسينما بجميع أشكالها خلال فترة نضالها. فلماذا سكتت الجمعيات والأنشطة النسائية العربية؟ ولماذا قبلت المرأة مثل هذا الدور في هذه الأفلام وغيرها؟ وهل تقبل أن يظل هذا رمزًا لوطنها وبني جنسها؟ إن أضعف الإيمان هو الاحتجاج، فأين التوصيات والمطالب في هذا. ولماذا تسكت الأنشطة النسائية عن اقتران حرية المرأة بالحرية السائدة بين الفنانات، وهي حرية كشف الصدور وخلع الملابس وإرخاء الستور على الخيانات المختلفة. لماذا لم تعلن الحرب على الحرية الجنسية التي أدت إلى أن تصبح الشاشة معرضًا

لمناظر، موضعها في أماكن خاصة؟ ولماذا رضي الرجال الشرفاء بدور الشيطان الأخرس، حتى أصبح الشارع مسرحًا لاصطياد الفتيات ومطاردتهن واغتصابهن. إن من ثمار هذه الحرية أن اعتدى شاب على زوجة أبيه واغتصبها، واغتصب ثان عروسًا في شهرها الأول، واغتصب شابان فتاة، لأن صدرها المكشوف أهاج ما كان ساكنًا عندهما من الغرائز. وأن (أنيس منصور)، احتج وضاق ذرعًا بذلك منذ خمس سنوات إذ كتب: «المعاكسة والمتابعة والمطاردة في كل مكان، حتى لو كان مع السيدة أو الفتاة زوجها أو أخوها أو الاثنان مَعًا، إن صديقًا كان يسير في شارع سليمان باشا ومعه زوجته وأخته وابنته، فإذا شاب يقول ما لا يقال، ويصف ويتمنى، ويحلم بالسيدة التي يراها بين أحضانه». وينتهي (أنيس منصور) إلى المطالبة بالعمل الجاد لتأمين سلامة وصحة الحياة الاجتماعية كلها، ولو عن طريق الإكراه. (جريدة " الأخبار " في 21/ 9 / 1969 م - 9/ 6 / 1389 هـ). وأخيرًا وليس آخرًا، لماذا تقصر الجمعيات النسائية مطالبها على ما كان ظاهرة نسائية. إن المطالبة برفع الظلم الاجتماعي وتأمين الحريات المختلفة ليس مطلبًا رجاليًا فحسب، إن آثاره سلبًا وإيجابًا، تشمل المجتمع كله رجالاً ونساءً، شيبًا وشبانًا، فلماذا خلت المطالب النسائية العالية من هذا وغيره من الأمور المشتركة؟ (¬1). ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " في 26/ 9 / 1972.

إخضاع النفس للتجارب

إِخْضَاعُ النَّفْسِ لِلْتَّجَارِبِ: إن إخضاع العلاقات الإنسانية للتجارب من أخطر ما ابتلي به البشر، لأن العلوم المادية وحدها هي التي تخضع للتجارب المادية، أما العلوم الإنسانية فليست كالطبيعة والكيمياء، ومن هنا تولى الله وحده وضع مناهجها فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (¬1). ولقد تجسم خطر التجارب في المنهاج البشري للمشكلة الجنسية، ففي العصور القديمة كانت العلاقات الجنسية حيوانية بحتة وكانت المرأة متاعًا ولا شيء غير ذلك، ولذا تباع وتشترى. ثم في عصور انحراف بعض الديانات كانت العلاقة الجنسية فحشًا ودنسًا، لأنها رجس من عمل الشيطان، وكان الكمال هو الرهبنة للقادر على أن يموت حبًا، والكبت لمن هم دون ذلك، ثم عادت النظرة الحيوانية مع عصر النضهة الأوروبية، وورثنا هذا المنهاج الحيواني ضمن ما ورثناه عن الغرب والشرق. ولكن الإسلام يقرر أن الرهبنة ليست علاجًا، وكذا الكبت أو الحرية الجنسية، كل ذلك يبعد عن النظرة الإنسانية للمشكلة الجنسية. النظرة الإنسانية هي في المنهاج الرباني الذي جعل الزواج هو العلاج، ثم هو السبيل الصحيح لبناء الأسرة الفاضلة، التي من خلالها تنشأ المودة والمحبة من المجتمعات، ليصبح الجميع جسدًا واحدًا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. إن الحرية الجنسية ليست علاجًا، والمجتمعات التي أصبحت جنسية في كل مظاهر حياتها كما في أوروبا وأمريكا، تواجه أخطار هذه الإباحية .. إن الاعتداء اليومي على البنات في المدارس اللندنية، ليس سببه الحرمان من الجنس، فقد أباحت بريطانيا كل أنواع العلاقات الجنسية بما فيها الشذوذ، والنتيجة هي التطرف في العلاقات، الذي بلغ حد الاعتداءات الصارخة مما اضطر معه الآباء والأمهات لتنظيم مظاهرة توجهت إلى مقر الحكومة للمطالبة بحماية أبنائهم وبناتهم من الحيوانات المفترسة وثورة الحريم في أمريكا لم يكن للمطالبة بالحرية في العلاقات، بل الحد منها إذ أصبحت المرأة متاعًا، لا كرامة لها. فالعلاج الطبيعي هو الزواج. لذلك كفل الإسلام تزويج الرجال والنساء فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) [الحديد: 25].

المخطط الإسرائيلي وواجب العرب

مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). وفي تطبيق هذا المبدأ يقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ مُوسِرًا لأَنْ يَتَزَوَّجْ، ثُمَّ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَيْسَ مِنِّي» (*)، كما يضع العلاج لمن لا يستطيع الزواج فيقول: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». فهل يدرك الشباب ذلك؟ وهل توقن الفتاة والفتى أن الحيوانات هي التي لا تملك إرادة التهذيب، ومن ثم تندفع في بهيميتها وحيوانيتها الجنسية في الشوارع، لا تدرك ولا تبالي، إن الذين يفعلون ذلك قد فقدوا شخصيتهم وأصبحوا أيتامًا على موائد اللئام (¬2). المُخَطَّطُ الإِسْرَائِيلِيُّ وَوَاجِبُ العَرَبِ: (¬3) لقد أدت الانتصارات العربية العاجلة التي حققتها القوات المصرية إلى إصابة إسرائيل بمخاض مفاجئ، هذت خلاله هذيانًا زعمت معه أن دخول مصر الحرب الرابعة، ليس إلا تهورًا سيدفع الرئيس المصري ثمنه، وهذى المتحدث الإسرائيلي في نتائج نترفع عن الرد عليها أو ذكرها، لأن مثل هذه الوقاحة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. إن مصر تسترد أرضها، فهل يصبح استرداد الحق عدوانًا آثمًا؟. إن الفكر الإسرائيلي يزعم ذلك، لأن المخطط الصهيوني يقوم على أساس ما وضع في التوراة، إذ جاء بالإصحاح الخامس عشر: «عهد من الله إلى أبرام (أي نبي الله إبراهيم) لنسلك تعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات». وتطبيقًا لهذا الحق المزيف أعلن (بن جوريون) سنة 1948 في بداية قيام إسرائيل: «ليست هذه هي نهاية كفاحنا، بل إننا اليوم قد بدأنا، وعلينا أن نمضي لتحقيق قيام الدولة التي جاهدنا في سبيلها من النيل إلى الفرات». ثم أعلن شروطه لتشكيل الوزارة سنة 1952 وهي: «أنني أقبل تشكيل الحكومة الإسرائيلية، بشرط استخدام كل الوسائل الممكنة للتوسع جنوبًا، وليفهم الجميع أن إسرائيل قامت بالحرب، وأنها لن تقنع بما بلغته حدودها حتى الآن، إن الإمبريالية الإسرائيلية سوف تمتد من النيل إلى الفرات». وبناءً على هذا المخطط رسمت الخريطة الإسرائيلية فشملت فلسطين كلها، وأجزاء من ¬

_ (¬1) [النور: 32]. (¬2) " السياسة " في 1/ 11 / 1982. (¬3) نشر يوم 10/ 10 / 1973 جريدة " السياسة " الكويتية. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " بلفظ: «مَنْ كَانَ مُوسِرًا لَأَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ، فَلَيْسَ مِنِّي». انظر " المعجم الكبير " للطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، 22/ 366، حديث رقم 920، الطبعة الثانية، نشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة.

أخلاق يهودية

كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية. ومن هذا يتضح أن العقيدة الدينية تلعب دورة رئيسًا في المخطط الصهيوني، وعلى أساسها قام المفهوم الإسرائيلي، وكانت بياناتهم الرسمية. وهذه العقيدة تتطلب اليوم قبل الغد تلاحمًا كاملاً شاملاً لجميع مقومات الشعوب العربية، شعوبًا وحكومات، وذلك إعمالاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬1). كما يتطلب المستقبل تصحيحًا لمفاهيم الجميع وتطهيرًا للمجتمعات من أدران الغزو الفكري بجميع صوره، وتربية الشباب على أساس الإسلام، ليحول ذلك دون توزيع الولاء يمينًا وشمالاً، هذا فضلاً عن إصلاح أخطاء الماضي ليكون النصر كاملاً غير منقوص: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2). أَخْلاَقٌ يَهُودِيَّةٌ: لقد رسمت التوراة لليهود خطة تمكنهم من سرقة المصريين، جاء ذلك في " الإصحاح الثالث " من " سفر الخروج " قول الرب في الوصية الثامنة: «أعطى نعمة لهذا الشعب (اليهود) في عيون المصريين، فيكون عندما تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها، أمتعة فضة وأمتعة ذهب، وثيابًا، وتضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين». هذه بعض وسائل اليهود في التعامل مع غيرهم، وقاعدتهم في هذا أشار إليها القرآن الكريم وهي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (¬3). أي لا يلتزمون بقواعد الأخلاق مع غيرهم (الأميين). وقد زعموا أن الله خصهم بهذا، ولهذا كان جواب الله تعالى في القرآن الكريم: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬4). كما مدحت التوراة فتاة قدمها عمها (مردخاي) لملك الفرس لتعاشره لتتمكن من إبعاد وزيره (هامان) الذي يعادي اليهود، وفعلاً بعد أداء دورها مع الملك استجاب لنصحها وقتل (هامان)، وسلم منصبه إلى اليهودي (مردخاي) (¬5). ¬

_ (¬1) [الصف: 2 - 4]. (¬2) [الرعد: 11]. (¬3) و (¬4) [آل عمران: 75]. (¬5) " الإصحاح - 1 - " سفر نحميا ".

صفات وأخلاق يجب أن تنهزم

إن هذا السلوك لا يتنافى معه أن تكشف اليهودية ما أمر الله بستره من الجسم، أو أن تصادق الرجال بدعوى الحب لتشيع الفحش بين غير اليهود. ولكنه سلوك محرم في الإسلام، وتأباه الفطرة السليمة - فلماذا نقلد هذه الأخلاق ونستورد هذه العادات تحت شتى الشعارات؟ إن هذا السلوك وهذه الأخلاق سبيل طبيعي إلى الهزيمة، ولهذا هزمنا في الماضي رغم كثرة عددنا وسلاحنا! فهل يمكن تدارك ذلك ابتداءً من البيت، فالمدرسة، فالطرقات؟ وهل توقن أجهزة الإعلام أن من واجبها لتصل إلى النصر، تعرية هذه الشعارات والتمكين للقيم الإسلامية؟. إن انتصار اليهود في الماضي كان خاطفًا وطارئًا، فهم غير مؤهلين أخلاقيًا لهذا النصر، ولكن عندما تصبح مصادر التوجيه والسلوك متقاربة، وعندما تكون هذه الأساليب عندهم وسيلة لتحطمنا ونستوردها لتكون غاية لنا، يفتخر بها المثقف والجاهل، وتتباهى بها الفتيات والسيدات عندئذٍ، نفقد أسباب النصر فضلاً عن مظالم الطواغيت. إن الوقوف بجانب الجندي في المعركة لا يكون بالتصفيق ولا بالأقوال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬1). صِفَاتٌ وَأَخْلاَقٌ يَجِبُ أَنْ تَنْهَزِمَ: لقد نقلت عن التوارة بعض أخلاق اليهود، وذلك لأن الفكر اليهودي قد تمكن من نشر بعض نظريات لإفساد البشرية أمثال نظرية نسبية القيم لـ (دوركايم)، والنظرية الجنسية لـ (فرويد)، وهدم تقاليد الآباء والأجداد لـ (صمويل بتلر). ولما كان بعض قومنا قد تلقى هذه النظريات على أنها علوم إنسانية، فإنني أنقل صفات وأخلاق اليهود أصحاب هذه النظريات، وأصحاب بيوت الأزياء العالمية ليحدد كل منا موقعه وموقفه. وسننقل عن كتبهم التي يقدسونها وأولها التوارة، ثم عن القرآن الكريم وأخيرًا عن الإنجيل بوصفه الكتاب المقدس عند النصارى: 1 - جاء في " سفر الملوك الثاني "، " الإصحاح 17 " وصف لأعمال اليهود: «وعملوا أمورًا قبيحة لإغاظة الرب ... وساروا وراء الباطل وصاروا». ¬

_ (¬1) " السياسة " في 23/ 10 / 1973 والآيات: [الصف: 2 - 4].

السلطة وحدودها

2 - وجاء في " سفر ميخا " (3): «اِسْمَعُوا هذَا يَا رُؤَسَاءَ بَيْتِ يَعْقُوبَ وَقُضَاةَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَيُعَوِّجُونَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ، الَّذِينَ يَبْنُونَ صِهْيَوْنَ [بِالدِّمَاءِ]، وَأُورُشَلِيمَ بِالظُّلْمِ ...»، «لاَ تَأْتَمِنُوا صَاحِبًا. لاَ تَثِقُوا بِصَدِيق. [احْفَظْ] أَبْوَابَ فَمِكَ عَنِ الْمُضْطَجِعَةِ فِي حِضْنِكَ، لأَنَّ الابْنَ مُسْتَهِينٌ بِالأَبِ، وَالْبِنْتَ قَائِمَةٌ عَلَى أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ عَلَى حَمَاتِهَا، وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ». 3 - أما أخلاق وصفات اليهود في القرآن الكريم فقد ذكرت في مواضع كثيرة فقد اشتملت سورة البقرة على أكثر هذه الصفات فنحيل إليها وننقل آيات من غيرها. 4 - في سورة المائدة يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬1). 5 - ثم قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (¬2). 6 - أما راي المسيحيين في اليهود فقد ورد في الإنجيل قول المسيح: «فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ ... أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ ... لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ [بَرَخِيَّا] الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ ... لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ... وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ» (¬3). السُّلْطَةُ وَحُدُودُهَا: لقد سأل سائل عن حدود السلطة التي يمارسها المجتمع على الفرد في مسألة الصوم. وقال لماذا يمارس الصائم نوعًا من الضغط تجاه الآخرين، فلماذا تمنع الغير من ممارسة حرية العقيدة، فلا نغلق المطاعم ولا نمنع الأكل والشرب في الأماكن العامة، ولو تم ¬

_ (¬1) [المائدة: 41، 42]. (¬2) [المائدة: 70، 71]. (¬3) نشرت في 24/ 10 / 1973 بجريدة " السياسة " الكويتية.

ذلك من المسلمين فلهم حرية ممارسة عقيدتهم والموت في سبيلها. قلت: إن الإسلام لا يجبر أحدًا على اعتناقه. قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (¬1). وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬2). ولكن الإسلام كسائر العقائد لا يسمح لأتباعه بالخروج عن منهاجه. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬3). فعقيدة المسلم هي صلاحية المنهج الإسلامي، ولا حرية له في الطعن على ذلك، ولا طاعة لمخلوق في هذا، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ». والإسلام كسائر النظم تسري أحكامه الدنيوية على المقيمين في وطنه من المسلمين وغيرهم. وجميع الأنظمة الأرضية تعاقب على المظهر الخارجي للإرادة، بل توجد قوانين دولية في هذا الشأن من هذه القوانين، اتفاقية 14 ديسمبر 1962، والتي تحظر تداول المخدرات بين الدول، والأفراد، فلا حرية لأحد في تداول المخدرات مهما كانت عقيدته بشأنها. ومن هذه القوانين الدولية، اتفاقية 4 مايو سنة 1910 و 12 سبتمبر 1923 بمنع تداول المطبوعات الشائنة، فلا حرية لأحد في تداول ذلك مهما كانت عقيدته فيها. فلماذا يصبح الإسلام معتديًا على الحريات أن منع المسلم من المظهر الخارجي المتنافي مع الإسلام. إن الدول المختلفة تمنع جميع المقيمين فيها من الإتيان بمظهر خارجي يخالف أنظمتها، ولكن الإسلام لا يفعل ذلك، هو يمنع المسلمين فقط في مسائل الحرام عنده، أما غير المسلمين فلا يهدر ما أحلته لهم شرائعهم من أشياء حرمها الإسلام، فلو أكل أو شرب أهل الكتب السابقة عندنا لا يعاقبهم الإسلام، وإذا ضبطت عندهم خمور لا عقاب عليهم، بل من أهدرها من المسلمين يلزم بتعويضهم. أما غير المسائل المتصلة بالمحرمات، كسائر العقوبات، فتخضع لها المسلم وغير المسلم وذلك شأنه شأن النظم التي ظهرت بعد الإسلام بقرون وهذا ما يعرف في القانون ¬

_ (¬1) [البقرة: 256]. (¬2) [الكهف: 29]. (¬3) [الأحزاب: 36].

أمية المثقف وحديث الصوم

الدولي باسم إقليمية القوانين الجنائية. فجميع الأنظمة تنص على أن الإرادة وحدها أي التفكير والنية لا عقاب عليها ولكن المظهر الخارجي للإرادة تعاقب عليه، فلماذا يصبح الإسلام وحده مطية كل أصحاب الشذوذ الفكري. إن منع المسلم من الأكل والشرب في الأماكن العامة ليس مرده إلى إجباره على الصوم فالصوم مسألة بين العبد وربه، وفيه يقول رب العزة في الحديث القدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». إنما مرد المنع إلى قواعد وضعها الإسلام لأنها من الفطرة ومن ثم سارت عليها جميع الأنظمة المعادية للإسلام وهي قاعدة إقليمية القوانين الجنائية، أي سريان القانون الجنائي على جميع المقيمين بإقليم الدولة من وطنيين وأجانب، ولو كانت عقائدهم لا تجرم هذه الأعمال فالأحزاب جريمة في دول وعقوبتها الإعدام وهو مظهر من مظاهر الحرية في دول أخرى، فهل تنتقل خاصية التحريم والتحليل إلى الناس فيشاركون الله في سلطانه ويصبح لكل فرد أن يحلل ويحرم باسم حرية العقيدة (¬1). أُمَّيَّةُ المُثَقَّفِ وَحَدِيثُ الصَّوْمِ: قد يكون غريبًا أن نجد أكثر المتباهين بالمعاصي من المثقفين، ووجه الغرابة أن العلم والمدنية التي يقلدونها قد توصلت إلى فوائد الصوم وأضرار الخمر والزنا. فمن شدة ولع العالم الأمريكي (ماك فادن) بفوائد الصوم ألف في ذلك كتابًا، ولسبب كثرة أضرار الخمر حرمتها بعض الولايات في أمريكا، ومنعتها الهند وتباهى رئيسها بذلك إذ أثبت الأطباء أن الخمر تؤدي إلى التهاب في الأعصاب ينتهي تدريجيًا بفقدان الإحساس ويسبب الإدمان قروحًا جلدية، وأمراضًا نفسية واجتماعية. كما ثبت لعلماء الطب أن الزنا يسبب مرض السيلان والزهري، الذي تصل جرثومته إلى جدار الأورطي والنخاع الشوكي والعظام، وتؤدي إلى تلف مستديم في المخ ينتهي بشلل نصفي أو جنون أو وفاة، وجرثومة الأمراض التناسلية تصل إلى هذه الأماكن بمباشرة العمل الجنسي، أو بالتقبيل لأنها تنتشر في أغشية الشفتين وحلمة الثديين. وقد يكون غريبًا أن نجد طالبات الجامعات وسائر المثقفات مندفعات في تقليد الغربيات ¬

_ (¬1) " السياسة " في 1/ 11 / 1972.

في الزي وغيره، وكأنهن قردة أو ببغاوات، فقد ثبت علميًا أن كشف الجسم في الحر يشعر الإنسان بالحرارة بنسبة 60 % بينما الملابس القطنية الخفيفة تمتص العرق من الجسم ثم تبخره فتزداد المساحة المرطبة للجسم بازدياد المساحة المغطاة من جسم الإنسان. ولكنا نشفق على هذه الجاهلية بالنسبة للمثقفين وغيرهم، لأن الصهيونية المتحالفة مع المذاهب العالمية، قدمت لهم هذه الأمور في ثوب التقدم والرقي بعد أن جعلتهم في فراغ عقائدي، بحسن استخدامها لحالة الساسة ووسائل الإعلام في كل مكان، وهي تفعل ذلك على أساس أنهم أحط من الحيوانات، ولذا استجابوا لهذه المنكرات. فالبروتوكول الخامس عشر فيه: «يسهل دفع الأمميين (غير اليهود) إلى حالة مضحكة من السذاجة والغفلة بإثارة غروره وإعجابه بنفسه .. إننا لم نعتمد قط بالضحايا من ذرية أولئك البهائم من الأمميين». وفي البروتوكول الثامن: «دعوهم يعتقدون أن هذه القوانين النظرية التي أوحينا إليهم بها إنما لها القدر الأسمى من أجلهم» (¬1). ¬

_ (¬1) نشرت في 11/ 10 / 1972 بجريدة " السياسة " الكويتية.

إتلاف الخمور بين الشرعية القانونية والمصالح الفردية

إِتْلاَفُ الخُمُورِ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ القَانُونِيَّةِ وَالمَصَالِحِ الفَرْدِيَّةِ: لقد نشرت الصحف بعض الاعتراضات على إتلاف الشرطة لكميات من الخمور عن طريق إلقائها في قاع البحر. ويرى المعترضون أن بعض الجهات كشركة الخطوط الجوية الكويتية، والسفارات الكويتية بالخارج تشتري هذه الخمور وتقدمها للغير، فكان يجب أن تحال الخمور المصادرة إليها بمقابل أو بدون مقابل. ولقد أجاب السيد الأستاذ النائب العام بأنه محكوم في عمله بنصوص قانون العقوبات، ومن ثم لا مجال لتنفيذ قرار المصادرة بغير هذه الطريقة وهي الإتلاف، لأن التصرف فيها إلى الجهات المشار إليها يخلق تناقضًا لا ينسجم مع قانون العقوبات الذي حرم التعامل في الخمور ومنع تداولها، وأوضح أن سلطة التصرف فيها تكون في حدود القانون المذكور. كما أوضح النائب العام حقيقة غابت وتغيب عن الناس، وهي أن المشرع لا يجوز له أن يساير الأفكار الجماهيرية، التي تضن عليه بهذا الإتلاف للخمور التي حرمها التشريع الكويتي، استنادًا إلى الشريعة الإسلامية، ومراعاة لتقاليد البلاد الإسلامية. وأمام هذه الاعتراضات سطرت هذه الكلمات، بعيدًا عن زخرف القول وابتعادًا عن أي جدل بيزنطي. ذلك أنه إن جاز الجدل في هذا في الدول الأخرى، فلا يجوز في الدول العربية، لأنها صاحبة حضارة وتراث عظيم حرم الخمر وسائر ما يضر بالمجتمع، وكان هذا التراث وأهله سائدًا وقائدًا ورائدًا يوم أن التزم به أهله، واليوم وبعد هزيمة العرب لا لشيء سوى تفرقهم واختلافهم وتقليدهم رغم أصالة عقائدهم، لا يجوز لهم الانصراف إلى هذه الصغائر ولو كانت مباحة في عقيدتهم، لأن وصمة العار ما زالت فوق الجبين، بسبب احتلال أبناء القردة لأراضيهم، ولا أطلب الانصراف عن المجادلات في إتلاف الخمر، لضعف في المنطق أو قصور في الحجة. فكل صبي وصبية من المسلمين، يعلم أن الله لا يحرم إلا الضار بالخلق، ولا مصلحة له في إرهاق الناس، ولهذا امتنع العرب عن شرب الخمور وارتكاب الفواحش، ولم تكن عندهم معمل أبحاث ليدركوا منها أن هذه الأمور ضارة بهم، بل

امتنعوا لأنهم آمنوا بالله رَبًّا، وبمحمد رسولاً، وارتضوا الإسلام دينًا، فكان لزامًا أن يصدقوا الله ورسوله وألا يستدركوا عليه، ويطعنوا في حكمه لأنه خالف أهوءهم. وكل من زالت عنه الجهالة يعلم أن الأطباء غير المسلمين، اكتشفوا أن الخمر ينتج عنها التهاب في الأعصاب، وتؤدي إلى فقدان الإحساس تدريجيًا، كما تسبب قروحًا جلدية. وكل منصف من غير المسلمين يدرك أضرار الخمر في النواحي الاجتماعية، ولذلك حرمتها بعض الولايات الأمريكية رغم أن عقائدها تبيح الخمر. وكلنا نرى أعمال السكارى وجرائمهم التي لم تجف آثارها بعد، بل لم يجف مداد الصحف التي نشرت أخبار هذه الجرائم. إن الغرب الذي نقلده يعلم أن الزنا يورث مرض الزهري والسيلان، وأن جرثومة المرض تصل إلى جدار الأورطي وإلى النخاع الشوكي وإلى العظام، وتؤدي إلى تلف مستديم في المخ، وينتج عن ذلك إما شلل نصفي أو جنون أو وفاة. ولكن الغرب يمارس الحرية الجنسية، وهي أمر من مظاهر المدنية، وقد أسرف بعض العرب في تقليدهم. فهل تصبح هذه الفواحش حقائق علمية وأصولاً اجتماعية تجعلنا نطلب توريد بيوت الدعارة إلى الخارج، أو فتحها تحت أسماء أخرى وفي أماكن على الحدود بدلاً من غلقها ومعاقبة أصحابها وأتباعها. إن المناداة بتسليم الخمور إلى السفارات أو شركات الطيران بمقابل أو بدون مقابل، هو كالمناداة بتوريد الساقطات إلى هذه الأماكن أو غيرها، والمناداة بتوريد المخدرات إلى هذه الأماكن أو غيرها ولا فرق بين الأمرين. ولسنا ندري هل تقلب الأوضاع فنعترض على إتلاف الخمر، لأن شركة أو سفارة تتعاطاها، أم نعترض على تداول هذه الخمر في السفارات وشركات الطيران، لأن كل أمة تحترم نفسها تجعل غيرها يحترم تقاليدها، وعقائدها، فإذا لم تستطع فأضعف الإيمان ألا تسعى هي إلى الإساءة إلى نفسها، بتقديم الخمر أو غيرها من الموبقات إلى الغير، أجنبيًا كان أم وطنيًا. إن المنطق يقضي بذلك، وبغيره يظل التناقض الذي أشار إليه النائب العام.

أنقذوا كرامتنا المهانة باسم الفن والسياحة

فهل تنتصر الشرعية القانونية، أم تتغلب النزوات الخفية والمصالح الفردية (¬1). أَنْقَذُوا كَرَامَتَنَا المُهَانَةَ بِاسْمِ الفَنّ وَالسِّيَاحَةِ: خلال فترات ضعف الأمة وهزيمتها، يجنح بعض الضعفاء إلى تقليد قيم وعادات فاسدة، ظنًا أنها من مظاهر التقدم التي أدت إلى انتصار الدولة الغازية، من ذلك ما كتبه محمد توفيق دياب بتاريخ 19/ 6 / 1926 م الموافق 8/ 12 / 1344 هـ، بالعدد 89، ونصه بجريدة " السياسة " المصرية الأسبوعية: «أرجو أن تفهم كلامي على وجهه، فلست أقول هدم أركان العفة، إنما أقتصر فأقول: زعزعة أركان العفاف. أريد أن أسأل الشرقيين عامة والمصريين خاصة، هل يريدون أن يحتفظوا كما كان أسلافهم بذلك المبدأ القديم، الذي نسميه صيانة الأعراض أو طهارة الآداب أو العفاف؟ أم هل نريد رأيًا جديدًا، هو أن آباءنا قد غلوا في ذلك غلوًا شديدًا، وأن الأمثل والأقرب إلى دواعي الفطرة هو التهاون في أمر هذا الشيء الذي يسمونه العِرْضَ، وأن المرأة خلقت للرجل والرجل خلق للمرأة، وأن هذه القيود العتيقة التي تقصر الرجل على زوجته والزوج على بعلها، في سائر وجوه المتاع البدني، قيود بالية يجب القضاء عليها مماشاة للروح الاشتراكية!!». ولكن عند يقظة الأمة تزول هذه الغشاوة ويتحدد ولاء الأفراد والجماعات، وبالتالي تختفي موجات التقليد وأسباب الهدم والفساد. وكان طبيعيًا أن يكون زوال الاحتلال الأجنبي مقترنًا بزوال عاداته وقيمته الفاسدة، ولكن الواقع المر أخرج لنا نتائج أخرى هنا وهناك، منها: ظاهرة البغاء وتجارة الجسد في العواصم العربية باسم السياحة أو الفن أو الحرية. ولقد تنبه إلى ذلك المكتب العربي الدولي لمكافحة الجريمة، فدعا إلى ندوة علمية خلال شهر نوفمبر سنة 1970، عقدت بمدينة القاهرة ونشرتها الصحف في 5/ 11 / 1970 تحت عنوان (ظاهرة البغاء وتجارة الجسد). ¬

_ (¬1) " السياسة " في 14/ 12 / 1972.

السياحة والبغاء

السِّيَاحَةُ وَالبَغَاءُ: لقد وزعت أسئلة على مندوبي الدول العربية، ويضمنها سؤال عن أثر السياحة في البغاء، وسؤال عن أثر فرق الفنانات على البغاء. وكانت إجابة أكثر المندوبين، أن لهذا وذاك أثرًا على البغاء، بل إن الدول العربية التي تخرج ما يسمى بالفرق الوطنية لتجوب أنحاء العواصم الأخرى، أكدت أن كثيرًا من أفراد الفرق ينزلقون إلى الدعارة. وكم أوصى هذا المؤتمر بعلاج هذه الظاهرة ولكن دون جدوى، لأن تحصيل المال والرغبة في الحصول على العملات الأجنبية أعمى القوم عن قيم الأمة وأخلاقها، الأمر الذي أدى إلى شيوع وانتشار الجرائم الأخرى كالسرقة والقتل. كما هو مشاهد ومعلوم للجميع. تَوْصِيَاتٌ فِي سَلَّةِ المُهْمَلاَتِ: وقد اهتمت أيضًا المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي، بظاهرة السياحة وأثرها السيء فوضعت عدة توصيات لعلاج البغاء وتجارة الجسد، وقد نشرتها جريدة " الأهرام " في 16/ 12 / 1970. ومن هذه التوصيات: أ - التوصية رقم 7 عن الإعلام وتضمنت هذه التوصية (المطالبة بأن تساهم أجهزة الأعلام إيجابيًا في تربية النشء العربي، والحد من نشر وعرض المصنفات التي تؤدي إلى الإثارة الجنسية). ب - التوصية رقم 8 عن الأفلام تضمنت هذه التوصية (ضرورة تشديد الرقابة على الأفلام والمسرحيات والكتب والمنشورات وغيرها). ج - التوصية رقم 9 عن السياحة وتضمنت هذه التوصية أنه (لوحظ من اقتران السياحة بالبغاء ومساهمتها في انتشاره، لذا يجب عدم التغاضي عن مقتضيات حماية الأخلاق، ومن الضروري منع انتشار البغاء مهما كانت أهمية السياحة اقتصاديًا. صَلاَةٌ لِلْسُّيَّاحِ الهَارِبِينَ: لقد مضى على هذه التوصيات أكثر من خمس سنوات، لم تجد خلالها أي توصية السبيل إلى النور، بل زاد الأمر ووفدت فرق باسم الفن الشعبي، التي عرضت بالأحياء

احذروا وسائل الصهيونية

والمناطق السكنية رقصات تحكي الفعل الجنسي، حتى أن شرطة الآداب في بعض العواصم العربية أوقفت هذه الأعمال وحررت محاضر بضبط هذه الجرائم، لأنها مخلة بالآداب، وتشكل جريمة بمقتضى قانون العقوبات، ولكن حفظت هذه المحاضر ومارست الفرق عملها وذلك تحت ستار المجاملة الديبلوماسية أو لأسباب أخرى خفية، وانتصرت هذه الفرق الفنية ذات الفن المخجل!!. وزاد الطين بلة أن تخصصت بعض الفنادق في العواصم العربية المختلفة في توظيف فتيات للترفيه عن الضيوف، ولا نجد صوتًا لرجال الآداب. لهذا وتحت عنوان " صلاة للسياح الهاربين " كتب مدير تحرير مجلة " صباح الخير " بالعدد 1074 الصادر في القاهرة بتاريخ 5/ 1 / 1976 ما نصه: «لم يحقق الموسم السياحي في الصيف الماضي أكثر مما يصرفه أحد أثرياء العرب في ليلة بلندن أو موناكو، والأرقام موجودة في وزارة السياحة، والأموال المحولة رسميًا معروفة ومسجلة، وما استفادته ميزانية الدولة من السياحة معروف ومنشور والنتيجة: كادت مصر أن تتحول في صيف العام الماضي إلى شقة مفروشة مباحة لمن يدفع أكثر! وينحني لأصحاب المال رجال ونساء، فتلتوي قوانين وتنكسر المحاذير، وترتفع الأصوات المخمورة في ليل القاهرة تعربد بجنيهاتها المهربة، فترتمي تحت الأقدام أخلاقيات وتقاليد، وطالما أغمضنا عيوننا وسددنا آذاننا وغطينا أنوفنا! والمضحك جدًا أن يخرج البعض بتحليل عبقري يقول: " إن السياح هربوا من مصر لأن هناك قانونًا صدر يمنع تداول الخمور وعدم السماح ببيعها ... "». وبعد .. فذلك مجمل ما كتبه مدير تحرير مجلة " صباح الخير " منذ عامين ولكن الأوضاع لم تتغير، والدور حاليًا لمجلة " منبر الإسلام " أو " مجلة الأزهر "، إذ لا بد أن تكون أكثر استنكارًا وأشد لهجة وأكثر أثرًا لدى المسؤولين، لأن الدولة قامت على العلم والإيمان!!. احْذَرُوا وَسَائِلَ الصُّهْيُونِيَّةَ: والذي يجب أن يدركه كل مسؤول أن النظرة الاقتصادية الخاطئة لهذا الموضوع ولغيره، تؤدي إلى إهدار كل ما هو أخلاقي في سبيل المال أو جريًا وراء التحرر، كما أن هذا نفسه من وسائل الصهيونية ويجب أن نتنبه لها، ففي " بروتوكولات حكماء صهيون " ما نصه: «إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خطتنا ألا نلتفت

إلى ما هو خير وما هو أخلاقي». إن هذه الفلسفة الخاطئة تحطم الأمة بتحطيم أخلاقها وإيمانها، وهذا ما تسعى إليه الصهيونية، فقد جاء في " البروتوكول الرابع عشر ": «يجب تحطيم كل عقائد الإيمان ويتم ذلك عن طريق المذاهب السياسية والاجتماعية والبيولوجية، مثل مذهب (دروكايم) والشيوعية والوجودية، ومذهب التطور والسريالية .. إن تلاميذهم من المسلمين والمسيحيين في كل الأقطار ومنها مصر يروجون لآرائهم الهدامة بين الناس جهلاً وكبرًا». إن هذه الفئة التي تصنع هذا الطعام الفاسد ثم تقدمه للشعب بل وتصدره إلى العواصم العربية في شكل أفلام وفرق فنية، يجب أن تعزل من مواقعها ليمكن تطهير الأمة من هذا الفساد (¬1). ¬

_ (¬1) " الوطن " في 29/ 9 / 1978 م نقلاً عن " الدعوة " الصادرة في مصر عدد شهر شوال 1398 هـ - سبتمبر 1978 م.

الغزو الماركسي للتاريخ والسيرة

الغَزْوُ المَارْكْسِيُّ لِلْتَّارِيخِ وَالسِّيرَةِ: كِتَابَاتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّرْقَاوِي وَالغَزْوِ المَارْكْسِيِّ لِلْتَّارِيخِ وَالسِّيرَةِ: تناول الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي سير صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابه " محمد رسول الحرية " في مقالات ما زالت تنشر في جريدة " الأهرام " وفي جريدة " الوطن ". وتناول أيضًا مواقف الإمام ابن تيمية في مقالات باسم الفقيه المعذب. وهذه المقالات ظاهرها أنها إسلامية، وتقدم صاحبها للقراء باسم المفكر المسلم، حتى أن جهات إسلامية رشحته لجائزة عالمية لإنتاجه في خدمة العمل الإسلامي. وإنه بتمحصيها يتضح أنها تؤول النصوص الشرعية، وتحرف مواقف الصحابة والفقهاء لتخدم الفكر الماركسي. فمثلاً زعم أن الجماهير ناقشت ابن تيمية كيف نصد التتار ونقاتل، بينما أصحاب رؤوس الأموال هو المستفيدون من صد التتار، حماية لأموالهم فكيف ندافع نيابة عنهم. فهذا التفسير من شأنه أن يوصم ابن تيمية بالعمل لصالح الرأسمالية والأغنياء، والمعلوم للجميع أن عمله كان جهادًا في سبيل الله وحفاظًا على الإسلام والمسلمين. من ناحية أخرى، فإن هذا التفسير الماركسي من شأنه أن تقف الجماهير متفرجة أثناء العدوان على الأوطان، لأن الماركسية تجعل ولاء الماركسيين في كل أنحاء العالم لوطنهم الأم وهو روسيا، ولهذا عندما صالح جمال عبد الناصر مع قيادات الماركسية المصريين اشترط عليهم أن يكون الولاء لمصر لا لروسيا، وأن يكون هو المكافح بدلاً من (لينين) وأن يدعو هؤلاء الماركسيين من خلال عملهم في الاتحاد الاشتراكي وغيره بصورة علنية ومشروعة، ليضمن أنهم لا يعملون سرًا ضد حكمه. مَوْقِفُ عُثْمَانَ مِنَ الفِتْنَةِ: نشرت " الوطن " بتاريخ 21/ 9 / 1983 م مقالاً عن أحداث الفتنة التي انتهت بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فكان مما كتبه: «وروى أهل مصر ما كان من أمرهم وأمر عثمان لأهل المدينة، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا ضيق على عثمان وطالب بتسليمه مروان، فانضم أهل المدينة إلى وفود الأنصار وشددوا النكير على عثمان». كما قال: «وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة النصوح، ويحتجون ويقسمون عليه بالله أن يعطيهم حق الله فإذا لم يفعل قتلوه». وكتب أيضًا ما يفيد أن الصحابة تحولوا إلى جمع المال وتركوا

الجهاد. والأستاذ الشرقاوي في هذا يستخدم الفلسفة المادية في تفسيرها للتاريخ، فيقدم الأحداث في ثوب ثورة من أهل المدينة ضد أمير المؤمنين، والمصادر التاريخية تكذب ذلك، فأصحاب الفتنة لم يكونوا أهل المدينة بل إن الصحابة بها أرادوا حماية عثمان والدفاع عنه فنهاهم عن ذلك وأعلن أن من كان في عنقه بيعة فليغمد سيفه وليلزم بيته. كما أن جهاد الصحابة وهجرتهم إلى الأمصار لم يكن لهدف مادي بل كان لنشر الإسلام وحماية عقيدته، كما هو معلوم للجميع (¬1). وينقل ابن حجر العسقلاني فيقول: «[رحل] أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله، وكتب له كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سلمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه في داره. واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، واللَّه المستعان» (¬2). ولقد روى الطبري: ج 5 ص 393 أن الإمام عليًا قال للثوار: «كيف علمتم يَا أَهْلَ الكُوفَةِ ويا أهل البَصْرَة بِمَا لقي أهل مصر، وَقَدْ سرتم مراحل، ثُمَّ طويتم نحونا؟ هَذَا وَاللَّهِ أمر أبرم بِالمَدِينَةِ!». قال الثوار العراقيون بلسان رؤسائهم: «فضعوه عَلَى مَا شئتم، لا حاجة لنا فِي هذا الرجل». لقد أشار الإمام علي على أن هذه مؤامرة دبرها من خطط لعودة قوافل من الغرب، أي المصريين، في وقت واحد مع قوافل الشرق وهم أهل العراق، فالذين استأجروا الراكب ليمثل دور رسول الخليفة إلى والي مصر، عبد الله بن أبي سرح، هم الذين دبروا مسرحية أخرى أمام وفود العراق لتعود في نفس الوقت مع قوافل المصريين. وقد أشار الطبري أن هذه المؤامرة دبرها الأشتر وحكيم بن جميلة، فلم يرجعا مع جماعتهما إلى بلدهم وتخلفا بالمدينة. إن هؤلاء أيضًا ومن معهم من المنافقين كانوا وراء الرسائل التي ¬

_ (¬1) " العواصم من القواصم ": ص 132. (¬2) " الإصابة في تمييز الصحابة ": 6/ 393.

أدت إلى قيام الحرب بين معاوية والإمام علي، وأدت إلى موقف عائشة وطلحة والزبير، فقد قال مسروق بن الأجدع الهمذاني - وهو من الأئمة الأعلام المقتدى بهم -: «" يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ كَتَبْتِ إِلَى النَّاسِ فَأَمَرْتِهِمْ بِالخُرُوجِ عَلَى عُثْمَانَ "، قَالَتْ: " وَاللِه مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ سَوَادًا فِي بَيَاضٍ "». قَالَ الأَعْمَشُ: «فَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لِسَانِهَا». وفي جميع الأحوال فإن انتصارنا للحق الذي كان يمثله الإمام علي، لا يترتب عليه سب الصحابة وتقديمهم للناس على أنهم يقاتلون من أجل المادة، أو أنهم حرفوا أو خانوا فذلك قد حكم فيه القرآن الكريم. ونرجو أن يعلم الأستاذ الشرقاوي ومن رضي بمثل هذا المنهج لأي سبب من الأسباب، أن الإسلام يحكم بأن نقف عند حدود قول الله تعالى عن الصحابة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬1). فهل يجوز لأحد أن يتهمهم بالتبديل وعدم الصدق. كما قال تعالى عنهم: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2). ولو كان الشرقاوي كاتبًا إسلاميًا ويخدم الإسلام في كتبه فليعلن توبته عن كتابه " محمد رسول الحرية "، فالرسول في هذا الكتاب ليس رسول الله بل رسول الحرية، كـ (ماركس) عند الشيوعيين، ففي هذا الكتاب يذكر أن الذي حرم الخمر ليس هو الله، للأسباب الواردة في القرآن لأنها رجس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتجلب العداوة والبغضاء، بل حرمها رسول الحرية لأن صحابته المقاتلين معه في أُحُدْ كانوا يذهبون غلى بيوت العاهرات اليهوديات ويشربون الخمر، فأراد الرسول أن يوجه هذه الأموال لأسر الشهداء. فهل يرجع الأستاذ الشرقاوي عن هذا التحريف الذي يغلب على كتابه ومقالاته الإسلامية، ليكون كاتبًا إسلاميًا أم أنه يفترض جهل القراء وعدم إدراكهم ذلك، أم أن هناك أمورًا أخرى فوق مستوى الشعوب؟ (¬3). ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 23]. (¬2) [الفتح: 18]. (¬3) نشرت بـ " الوطن " في 23/ 11 / 1984 والجدير بالذكر أنه في لقاء ودي بين المؤلف والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي بفندق " حياة ريجنسي " في حفل اليوبيل الذهبي لمجلة " العربي "، أوضح أنه لا يهدف إلى إثبات الحقائق التاريخية، ولا يسعى إلى خدمة الماركسية حيث يؤمن بالإسلام ومبادئه، ووعد بتوضيح ذلك في كتبه، وقد سجل هذا الحوار في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة "، وأما صلة المقال بالعلمانية، فهو في تطويع الدين للمادية الجدلية، التي تنكر الأديان، ومن باب أولى تستبعد الدين في الحياة الاجتماعية.

نحو مزيد من الصراع يا عرب فذلك هو المطلوب

نَحْوَ مَزِيدٍ مِنَ الصِّرَاعِ يَا عَرَبْ فَذَلِكَ هُوَ المَطْلُوبُ: نقلت إلينا وكالة الأنباء التركية وغيرها، أن قتالاً نشب بين القوات العراقية ورجال القبائل الكردية. كما نقلت إلينا وكالة رويتر أن راديو المُلاَّ مصطفى البرزاني دعا الأكراد إلى حمل السلاح، ورفض اقتراحات الحكومة العراقية المتعلقة بالحكم الذاتي للأكراد. كما أذاعت صحف تركية بأن الأكراد زُوِّدُوا بأسلحة جديدة من إيران، غير أن سفارة إيران في أنقرة نفت ذلك. ولقد حاول بعض الكُتَّابِ تحليل الموقف وعلاج الأزمة بتوجيه النقد إلى الملا البرزاني، لأنه لم يقبل الحكم الذاتي وآثر الصراع والقتال إلى غير مصلحة. وهذه جهود مشكورة لهؤلاء الذين يريدون الحد من سفك الدماء العربية. ولكن رغم خطأ البرازاني فليس وحده المسؤول عن هذا الواقع المؤسف. كما أن الحكم الذاتي لا يحقق الاستقرار المنشود فهل يمكن أن يصارح العرب أنفسهم بأسباب الصراع والعلاج الطبيعي والحاسم له أم تقوم القيامة لو قلنا غير ما ألفه الناس وارتبطت به مصالحهم. لقد شغل (لورانس) و (مكماهون) نعرات الوطنية والقومية في المنطقة العربية، وكان المراد بها هو ثورة العرب عن تركيا، لتتمكن أوروبا من احتلال المنطقة والقضاء على اتحاد العالم الإسلامي الممثل آنذاك في الخلافة التركية. وانخدع العرب بالوعود الكاذبة، والتي كانت لا تنطلي أصلاً على الصبيان، لأن النفاق في هذه الوعود كان أسطع من الشمس، فرسائل اليهودي (مكماهون) كانت تتضمن عبارات تنطق بالنفاق والكذب في شكلها وفحواها. من ذلك خطابه إلى أمير مكة ونصه: «إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، قبلة الإسلام والمسلمين، معدن الشرف، سلالة الوحي المحمدي الشريف ابن الشريف حسين بن علي أمير مكة المعظم، زاده الله رفعة وعلاءً، آمين». وكانت وعود (مكماهون) لا تقل عن هذا النفاق ففيها بالحرف الواحد: «فنحن نؤكد لكم أقوال اللورد (كتشنر) التي وصلت سيادتكم على يد (علي أفندي)، والتي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها، مع استصوابنا للخلافة العربية عن

مكانكم أيها المؤتمرون لبحث أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي

إعلانها، وإنا نصرح هنا مرة أخرى أن جلالة ملكة بريطانيا العظمى ترحب باسترداد الخلافة على يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة». (صدر في 30 أغسطس سنة 1915). فبمثل هذه الوعود كفل العرب للجيوش البريطانية الأمن، والخدمات وللفرنسيين مثل ذلك، لأنهم حلفاء جاؤوا لإقامة الخلافة الإسلامية العربية الهاشمية. ثم كان ما سمي بالثورة العربية الكبرى، التي أدت إلى احتلال بريطانيا وفرنسا للعالم العربي، والتي قال عنها (لورانس) في كتابه " أعمدة الحكمة السبعة ": استطاع (اللنبي) بحكمته أن يحقق ذلك «أي إسقاط الخلافة التركية ودون أن يراق دم إنجليزي». وهكذا أشعل هؤلاء النعرات القومية والوطنية، والمراد بها ترك رابطة الإسلام العالمية، والتي توجد بين الجميع ثم إحياء الآثار والأجناس القديمة. فالمصريون أحفاد الفراعنة، واللبنانيون أحفاد الفينيقيين، والعراقيون أحفاد البابليين، والحجازيون أحفاد العرب، ثم تحول ذلك إلى صراع القوميات فهذه قومية عربية، وتلك كردية وبتركيا طورانية وبغيرها بربرية. وهكذا يجدد العرب المسلمون ما قضى عليه الإسلام من النعرات الجاهلية، وذلك باسم الوطنية والحرية والقومية. فهل أدرك القوم ذلك بعد أن وزعت أوطانهم ومزقت أوصالهم وأصبحوا أيتامًا على موائد اللئام، أم أن العصبية والمصالح ستحجب الرؤيا، أم سترفع شعارات أخرى واتهامات لكل من كشف النقاب عن مكمن الخطر، وكل من تمسك بقول الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬1). لقد وجد بجانب صراع القوميات، صراع الأيديولوجيات، فهذه دولة رجعية وتلك تقدمية، والشعوب هي المجني عليها هنا وهناك فهل إلى علاج من سبيل؟ (¬2). مَكَانُكُمْ أَيُّهَا المُؤْتَمِرُونَ لِبَحْثِ أَزْمَةِ التَّطَوُّرِ الحَضَارِيِّ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ: لقد دعت الجامعة وجمعية الخريجين إلى بحث أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، فاجتمعت ندوة لهذا الغرض خلال الفترة من 7 إلى 11 أبريل، وكان واضحًا من المناقشات أن الندوة تحولت إلى مباريات وصراعات بين مختلف العقائديات والاتجاهات. ¬

_ (¬1) [الأنبياء: 92]. (¬2) نشرت بـ " الوطن " يوم 26/ 3 / 1974.

مفهوم الدين في البيان

وكان واضحًا أن أكثر الأعضاء قد جاء حاملاً فكرًا، أو عقيدة أو اتجاهًا وحاول فرضه، فلم يكن للبحث العلمي مجاله الطبيعي، وإن كان الجميع قد تحصن وتوارى خلف العلم، والعلم براء من المتعصبين براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وحتى لا نلقي القول على عواهنه نسطر بعض الأمثلة من أقوال بعض الأعضاء المختارين للندوية. فمن أقوال العضو (محمد ربيع): «إن الإيمان بالغيب خرافة»، ومن أقوال (محمد المويهي): «ليس للإسلام ميزة خاصة عن الأديان الأخرى». ولعل الكثيرين من القراء قد رأوا وسمعوا اتجاهات النماذج التي قدمها التلفزيون من بين أعضاء هذا المؤتمر. فهل تدارك البيان الختامي الأمر أم أنه كان مرآة لهذه الاتجاهات؟ وهل عالج المؤتمرون المشكلة التي انعقد المؤتمر من أجلها؟. وما هو نوع العلاج؟ هل هو عربي الصنع - أم أجنبي؟ وإذا كان أجنبيًا، فهل هو أجنبي الشكل والمضمون، أم أنه عربي الوجه أجنبي الفكر؟ سننقل فقرات من البيان الختامي، ثم نكشف مصادرها الفكرية لنعلم أيها أولى بالاتباع؟. مَفْهُومُ الدِّينِ فِي البَيَانِ: لقد جاء في البيان: «إذا كان الدين حقيقة عميقة الجذور .. فيجب ألا يفهم الفهم الجامد الثابت، على شكل صيغ محدودة يفرضها الخلف باسم السلف .. بل يجب العمل على أن يسمح للفروع فيها - مع حفظ الأصول - بمواكبة التغيير الحضاري المستمر وذلك بالاجتهاد الحكيم والتطور الواعي». إن البيان يطالب بتطوير الإسلام، وهذه رسالة حمل لواءها المبشرون والمستشرقون، لغرض أفصحوا عنه، لقد وضع جماعة منهم كتابًا علق عليه أحدهم وهو المستشرق الإنجليزي (جيب) الذي كان عضوًا بمجمع اللغة العربية بمصر. والكتاب اسمه " إلى أين يتجه الإسلام " وقد جاء فيه أن مشكلة الإسلام بالقياس إلى الأوروبيين ليست مشكلة أكاديمية خالصة فحسب، فإن لتعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم، ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أي تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي. ثم يقول:

لهجة عربية واتجاه أجنبي

«والواقع أن التعاليم الدينية ومظاهرها عند أشد المسلمين محافظة على الدين وتمسكًا به، قد أخذت في التحول ببطء في الإسلام آخذة في التحول، وأن هذا التحول يتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق، التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية في الكنيسة المسيحية». إن هؤلاء قد ضلوا السبيل واتخذوا من المسيحية ستارًا لإثارة العصبية، فلا ينكر أحد أن القيم الأخلاقية في الغرب اليوم ليست هي التعاليم الأخلاقية للسيد المسيح، وهؤلاء لا يخفون أغراضهم، ففي هذا الكتاب، يقول (جيب): «أصبح الرجل من عامة المسلمين يرى أن الشريعة الإسلامية لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من مشاكل». ثم يقول: «إن نجاح التطور يتوقف إلى حد يعيد على القادة والزعماء». ماذا يقول (كرومر)؟ إن (كرومر) كان المعتمد البريطاني بمصر خلال فترة الاحتلال البريطاني. وقد وضع كتابًا باسم " مصر الحديثة " يقول فيه: «الإسلام بطبيعة تعاليمه عدو للحضارة الأوروبية، والمسلم غير المتخلق بأخلاق الأوروبيين لا يقوى على حكم مصر في هذه الأيام، لذلك سيكون المستقبل الوزاري للمصريين المتربين تربية أوروبية». ولقد أكد (كرومر) بقوله: «سنرحل عن مصر على أن تحكم بأيد مصرية وعقول بريطانية». وكنا نود أن نواجه (كرومر) أو (جيب) أو (جولدتسيهر) (*) أو غيرهم، ولكن من دواعي الأسى والأسف أننا نحطم أنفسنا من الداخل بما تبناه البعض لدعوات هدامة، تسعى إلى تطوير مفهوم الدين باسم الحرية والتقدم والبعد عن الجمود، وهي الدعوات التي حمل لواءها أعداء الإسلام. لَهْجَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَاتِّجَاهٌ أَجْنَبِيٌّ: إن ما نقلناه عن المبشرين والمستشرقين تبناه بعض أعضاء المؤتمر، وتبناه غيرهم، وستظل المعركة حامية الوطيس طالما وجد على الأرض مستشرقون ومبشرون من الغرب والشرق. وعلى سبيل المثال منشورات جامعة برنستون الأمريكية المطبوعة في كتاب باسم " مستقبل الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة " نشر سنة 1963. فمن مقالات هذا الكتاب يقول الدكتور صبحي المحمصاني المحامي اللبناني: ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) كتبت الاسم كاملاً لكي يكون القارئ على بينة من المقصود بـ: (تسيهر)، فهو المستشرق اليهودي العدو اللدود للسنة النبوية خصوصًا والإسلام عمومًا. [" إجناس جولدتسيهر Ignas Goldziher 1850 - 1921 يهودي ولد في المجر (هنغاريا)، درس في أشهر مدارس الاستشراق في برلين وليبزيغ وبودابست ثم رحل إلى سوريا سَنَةَ 1873 حيث تتلمذ على العلاَّمة الشيخ طاهر الجزائري ثم نزح إلى فلسطين ومصر، ثم درس اللغة العربية على شيوخ الأزهر وقد شهد له علماء الغرب بطول الباع وَبُعْدِ النظر. له مؤلفات عديدة في الفِرَقِ الإسلامية والفقه، وقد رد عليه الدكتور مصطفى السباعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "].

ماذا يريد الماركسيون؟

«إن روح الشريعة الإسلامية تأبى الجمود ... ولكن المسلمين عندما نسوا هذه القاعدة وأرادوا أحكامًا ثابتة، وقبلوا أن يتقيدوا بها دون تعديل أو تبديل، حتى لو تطورت الأمم والعلوم، كان متحتمًا عليهم الوقوف عن ركب الحضارة». إن ما كتبه هذا المحامي ودعا إليه تحت أروقة مكتبة الكونغرس وجامعة برنستون، هو نفس ما كتبه ودعا إليه (جيب) و (كرومر) و (جولدتسير). ثم يأتي (فون جرونباوم) (*) لتنشر له الجامعة المذكورة في نفس الكتاب خطته وقومه فيقول: «فالتردد بل التأخير المتعمد في الأخذ بقيم الغرب، حيلة من حيل العقل الباطن، بالاحتفاظ بالذات الذي لا يصبح نبذة، قبل أن يجري نوع من التوفيق، المقنع بين القيم الجديدة والآمال القديمة». وقيم الغرب منها إباحة الفواحش والشذوذ. مَاذَا يُرِيدُ المَارْكْسِيُونَ؟: هذا ما يهدف إليه الغرب من تطوير الإسلام، فماذا يريد البلاشفة؟ لقد دعت " الأهرام " المفكر الماركسي (روجيه غارودي) لإلقاء محاضرات بمصر، موضوعها " الإسلام والماركسية "! وكان ذلك خلال المدة من 25 إلى 29 نوفمبر 1969، وفي إحداها قال: «إِنَّ الإِسْلاَمَ يَدْعُو إِلَى العَدْلِ وَالمَارْكْسِيَّةِ تُحَقِّقُ العَدْلَ، فَالمُؤْمِنُ عِنْدَمَا [يُطَبِّقُ] المَارْكْسِيَّةَ إِنَّمَا يُطَبِّقُ الإِسْلاَمَ» (**). إن المفهوم الماركسي والتطوير الأحمر للإسلام، حتى لا يظل جامدًا، هو أن الإسلام مجرد دعوة إلى العدل لا يصاحبها أي تطبيق، بينما الماركسية تطبق العدل، فمن طبق الماركسية فهو المسلم الحق!!! (يلاحظ أنه أسلم حديثًا وتاب عن هذا). تَطْوِيرُ القِيَمِ وَأَثَرُهُ: لقد ظن المؤتمرون أن ما قاله المستشرقون والمبشرون بشأن تطوير الإسلام، ظنوا أنه العلاج لمشاكل الأمة فقالوا في بيانهم: «وإذا كان أعضاء الندوة يؤكدون على أهمية تطوير القيم وأنماط السلوك الإيجابية والمؤثرة في صنع التقدم المرتكز على التخطيط العلمي ومستلزماته وعلى المصالح الحقيقية للجماهير، فإنهم يشددون في الوقت نفسه على ضرورة الفهم المتعاطف للقيم والمواصفات المحفزة للثقافات الشعبية وعلى التفاعل مع هذه الثقافات ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) غ. فون جرونباوم. G. von Grunebaum من أصل ألماني، يهودي انتدب إلى أمريكا للتدريس بجامعاتها وكان أستاذًا بجامعة شيكاغو، من ألد أعداء الإسلام. في جميع كتاباته تخبط واعتداء على القيم الإسلامية والمسلمين، كثير الكتابة وله معجبون من المستشرقين. ومن كتبه: " إسلام العصور الوسطى " صدر في عام 1946م؛ " الأعياد المحمدية " صدر في عام 1951م؛ " محاولات في شرح الإسلام المعاصر " صدر في عام 1947م؛ " دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية " صدر في عام 1954م؛ " الإسلام " مجموعة من المقالات المتفرقة، صدر في عام 1957م؛ " الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية "، صدر عام 1955م. انظر: " الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم "، الدكتور مصطفى السباعي، ص 42، دار الوراق للنشر والتوزيع - المكتب الإسلامي - بيروت. (**) انظر قول (غارودي - جارودي) هذا في: ص 18 و 33 من هذا الكتاب.

تأثرًا وتأثيرًا». ولا شك أن هؤلاء المؤتمرون يعلمون أن اليهود هم الذين دفعوا بعض الفلاسفة من أتباعهم، لينشروا نظرية نسبية القيم وغيرها من النظريات التي تسبب الخلافات وتشتت جهود الأمم، فظهرت نظريات (داروين) و (دوركايم) و (فرويد) واتبعها من اتبعها منا ظَنًّا أنها نظريات علمية، والعلم منها براء. فالقيم الدينية سواء في الإسلام أو غيره من الأديان السماوية، لا يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان، فما كان الكذب رذيلة في عصر نوح ثم أصبح فضيلة في عصر (ميكيافيلي)!. والسرقة لم تكن ولن تكون فضيلة! والفحش والدنس والانحراف الجنسي لم يكن مذمومًا ثم أضحى محمودًا!. إن الأديان تضع المناهج للنفس الإنسانية، وهذه النفس لم تتغير منذ الخليقة، فالذي يتغير هو وسائل حياة الإنسان ومعايشه، وهذه تركها الإسلام للناس ينظمونها حسب علومهم وتجربتهم، فروى " مسلم " عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». إن القول بأن القيم تتغير أو تتطور مع الزمن، يؤدي إلى أن يرتبط الدين بسدنة وكبراء كل عصر حتى تكون بقية الشعوب عبيدًا لهم ويتبعونهم ويقلدونهم. لقد جاءت الأديان لتحطم هذا المعتقد وهذا السلوك وتحرر الناس من هذه التبعية. وقد وصف الله تبرؤ الجماهير من هؤلاء القادة، فقال تعالى حاكيًا على لسانهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (¬1). إن المناداة بتطوير القيم الإسلامية هدف من أهداف أعداء الإسلام، لتكون تبعًا لهم في السلوك والأخلاق والتقاليد، كما صرحوا في كتبهم، وهذا من شأنه أن نظل مستضعفين مهزومين في كل شيء. فهل أراد المؤتمرون ذلك؟. ثم إن القول بتطوير القيم الإسلامية يؤدي إلى أن يكون هناك إسلام ماركسي وإسلام رأسمالي، وأن يكون لدعاة الجنس إسلام، وللمصريين إسلام وللعراق غيره وهكذا. فهل ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 67، 68].

أراد المؤتمرون ذلك. لقد أفصح أعداء الإسلام عن أهدافهم في إصرارهم على تطوير الإسلام، ونذكر المؤتمرين بقول (كرومر) البريطاني في مصر: «فإذا أمكن للمبادئ الإسلامية أن تتطور مع الزمن المتطور .. عند ذلك سوف يتحرر ملايين البشر من هذه العقائد». فهل يدرك المؤتمرون ذلك؟ ثم ماذا بعد الحق إلا الضلال (¬1). ¬

_ (¬1) نشرت في " الوطن " يوم 12/ 4 / 1974 وهو اليوم التالي للبيان الختامي.

الفصل الخامس: الفكر الإسلامي بين التأويل والتعطيل

الفَصْلُ الخَامِسُ: الفِكْرُ الإِسْلاَمِيُّ بَيْنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ: • حول اجتهادات الشيخ محمد سعاد جلال. • الدولة ومشاكل الأسرة. • قوانين الأسرة بين ضعف النساء وعجز العلماء. • تحديد موقف العلمانية والقوميين والإسلاميين مع سيف الدولة فيما لا يقبل الخلاف. • حول الأخطاء الإصلاحية.

حول هذا الفصل

حَوْلَ هَذَا الفَصْلِ: إن الاجتهادات التي يتناولها المؤلف بالرد عليها في هذا الفصل ليست كلها لأصحاب الفكر العلماني، فمنها ما صدر عن علماء لا يمتون إلى العلمانية أمثال الشيخ محمد سعاد جلال والشيخ أحمد حمائي وعلماء كانوا أقرب إلى القومية العلمانية ثم نشروا ما يهدم العلمانية واللادينية، أمثال الأستاذ الدكتور عصمت سيف الدولة، ولكن مع نفي الفكر العلماني عن هؤلاء فإن جانبًا من اجتهاداتها تؤدي إلى النتيجة التي يسعى إليها العلمانيون مثل استبعاد عقوبة الرجم واعتبار النقاب قضية عامة وهي مسألة شخصية وفردية، ثم استبعاد سُنَّةَ الآحَادِ. كما أن الجمود والتقليد الأعمى في علاج مشاكل الأسرة يؤدي إلى الأخذ بالحلول العلمانية كما فعل بورقيبة وخلفائه، وكما فعلت جيهان رؤوف حرم السادات، ولهذا ضممت هذه كلها إلى هذا الكتاب.

الحكم جزء من العقيدة والنقاب ليس بدعة والرجم حد شرعي ولا اجتهاد مع النص

الحُكْمُ جُزْءٌ مِنَ العَقِيدَةِ وَالنِّقَابُ لَيْسَ بِدْعَةً وَالرَّجْمُ حَدٌّ شَرْعِيٌّ وَلاَ اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ: نشر للدكتور الشيخ محمد سعاد جلال آراء تضمنت، أن الرجم ليس حَدًّا شرعيًا، وأن النقاب بدعة، والحكم بالإسلام خاص بالنص القطعي. وجوابنا على ذلك: (*) أَوَّلاً: حَدُّ الرَّجْمِ: وهو خاص بالزاني - أي المتزوج - إذا ارتكب جريمة الزنا. وقال الشيخ: «ولنا في هذه المسألة رأي وهو أن حد الرجم لم يوجد في القرآن بل وجد حد الزنا وهو مائة جلدة في الشيخ الأعزب إذا زنى، وفي الشخص المتزوج إذا زنى، وليس بينهما فرق، وذهب أصحاب المذاهب الأربعة وكثير من أهل السنة إلى القول بأن الزاني المحصن يرجم وهذا الرجم موجود في أحاديث كثيرة ولكن هذه الأحاديث كلها ليست متواترة ولكنها أحاديث خبر آحاد». والجواب عن ذلك: 1 - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحكم أنه كما جاء في القرآن في أمور التشريع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬1) قد نبه على أنه ستظهر مثل هذه الأراجيف لِرَدِّ السُّنَّةِ. فحدد الموقف منها حيث روى عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه أنه قال: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ». 2 - إن القرآن قد تضمن طاعة الرسول فيما جاء به من أحكام تبين القرآن، ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2). وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). 3 - إن القرآن الكريم كان يتنزل من الله طوال حياة النبي، وكان ينسخ أي اجتهاد يجتهده النبي قبل نزول الوحي عليه، ومن ذلك قول الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ...} (¬4). فلو كان حكم الرجم اجتهادًا من النبي بغير وحي لنزل القرآن بالحكم النهائي، كما حدث في أمر ¬

_ (*) نشرته " الوطن " في 17/ 7 / 1982؛ و" السياسة " في 21/ 7 / 1982. (¬1) [النجم: 3، 4]. (¬2) [النحل: 44]. (¬3) [الحشر: 7]. (¬4) [الأنفال: 67].

ثانيا: الحكم بالإسلام

أسرى الحرب وغيره مما لا مجال لتفصيله وقد فصلت هذه الأمور في كتاب " السنة المفترى عليها ". والمعلوم لنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم كل من ماعز والغامدية بحضور جمع من الصحابة وهؤلاء شهود عيان للرجم مما يدخل حكم المتواتر ولو كان حكم الله غير ذلك لنزل القرآن بنسخ هذا الرجم. 4 - إن الوحي ينزل بالسنة كما كان ينزل بالقرآن، ولكن الفرق في ألفاظ القرآن من الله. وألفاظ السنة من النبي - ومن الأمثلة على نزول الوحي بالسنة، ما رواه " البخاري " في كتاب الحج أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ [مُتَضَمِّخٌ] بِطِيبٍ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [سَاعَةً]، فَجَاءَهُ الوَحْيُ، ... فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ [سُرِّيَ] عَنْهُ» ... فَسَأَلَ عَنْ الرَّجُلِ وَقَالَ لَهُ: «اغْسِلِ الطِّيبَ الذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ». 5 - لهذا قال ابن حزم: «وَلَوْ أَنَّ امْرُءًا قَالَ: لاَ نَأْخُذُ إِلاَّ مَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ ...». (" الإحكام ": ج 1 ص 109). ثَانِيًا: الحُكْمُ بِالإِسْلاَمِ: يقول الشيخ [محمد] سعاد جلال: «إذا قال قائل: يجب أن نحكم بما أنزل الله نقول له: نعم، ما كان خطابًا قطعي الدلالة والثبوت. أما ما كان مصوغًا بلفظ ظني فهذا موضع اجتهادنا، لأنه يحتمل أقوالاً كثيرة ليس لأحد قط أن يلزمنا برأي دون آخر. إذن فجميع التصرفات وجميع الأعمال التي يقوم بها المسلمون راجعة إلى اجتهاد صحيح، مهما اختلفت فيها الآراء فهي حكم الله، لأن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قد كلفنا بالعمل بالأحكام التي يقوم عليها الدليل الظني، ثم ترك لنا حرية الاجتهاد في هذا الدليل الظني». والجواب عن ذلك هو: 1 - من حيث المبدأ الحكم بالإسلام جزء من العقيدة يكفر من أنكرها قولاً أو عملاً. 2 - إن تعميم الحكم بعدم الالتزام إلا بما كان قطعي الثبوت من النصوص، يعني عدم الالتزام بالسنة النبوية في معظمها، لأن العلماء الذين قسموا السنة إلى قطعية الثبوت وظنية الثبوت، انتهوا إلى: أن المتواتر منها هو القطعي، وهذا قليل جِدًّا، فجميع أحكام العبادات والمعاملات من أحاديث الآحاد وهي في هذا التقسم ظنية الثبوت. وعدم الالتزام بالسنة قد أوضحنا فساده في البند السابق، بل قال ابن حزم بكفر

ثالثا: حكم النقاب

من يدعي ذلك. 3 - إنه لو صح ما يريد أن يجعله محل اجتهاد بالنسبة للأحاديث النبوية المنسوب إليها أنها ظنية الثبوت، لتحلل المسلمون جميعًا من أحكام العبادات والمعاملات، وأمكن أن يكون الإسلام ماركسيًا عند من يرغبون ذلك، ورأسماليًا عند الرأسماليين وأصبح الحلال والحرام بين الناس يجتهدون فيه وفق مصالحهم وأهوائهم وهذا لا يقول به أحد من المسلمين، حيث يوجد إجماع على أن أحاديث الآحاد يجب العمل بها ولا يحل مخالفتها. 4 - إن أحاديث الآحاد قد قال جمع من الفقهاء إنها قطعية الثبوت، أو العلم بها يقيني كابن حزم الظاهري، وأبي يعلى الحنبلي وأبي إسحاق الشيرازي بل أكثرهم قال: إن أحاديث الآحاد إذا تلقتها الأمة بالقبول فقد أجمع المسلمون على تثبيتها، قال ذلك الإمام الشافعي في " الرسالة "، وكذا ابن الصلاح وابن كثير وابن تيمية وقال: هذا مذهب السلف عامة. 5 - أما النصوص الظنية الدلالة وهي التي يحتمل النص فيها أكثر من معنى واحد، مثل «القَرْءِ» في قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). فهذا اللفظ له معنيان، الطهر والحيض وهو وأمثاله مجال للاجتهاد فيه قائم، لأن الله ترك هذه الحرية للمسلمين في مثل هذه النصوص، وهذه لا تعني أبدًا عدم الالتزام بالتشريع في مجال الأحكام أو إخضاعه فالغالبية من أحكامه ليست ظنية الدلالة. 6 - هذا ما قطع به الشيخ أن الذين يطالبون بحكم الإسلام يريدون الحكم لأنفسهم، أمر يدخل في النيات وهذه لا يعلمها إلا الله بحكم حديث النبي لأسامة: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَلَى قَلْبِهِ»، فضلاً عن أن الأحزاب كلها تتضمن برامجها الوصول للحكم وهي لا تحكم بالإسلام، ولم يعترض عليهم أحد ونبي الله يوسف قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. ومع هذا فإن المعلوم للجميع أن الجماعات الإسلامية بباكستان انسحبت من الحكم وأن " الإخوان المسلمين " في مصر سنة 1953 رفضوا الحكم لعلمانيته. ثَالِثًا: حُكْمُ النِّقَابِ: وقال الشيخ: «اتفق علماء المسلمين على الإطلاق أن المرأة يجب عليها أن تستر جسدها كله إلا وجهها وكفيها. ويوجد أقوال للتابعين أنه يجوز كشف ذراعيها وقد أخذت ¬

_ (¬1) [البقرة: 228].

بهذا الرأي وأخذ بهذا الرأي صاحب الاختيار من أئمة المذهب الحنفي». وقال: «إن ذارع المرأة في غير الصلاة ليس بعورة». ثم قال: «وتغطية الوجه بصورة النقاب فهذا ما لا يعرف له أصلاً في الإسلام .. إن هذا النقاب إذا اصطنعته امرأة على أنه ضرب من حرية الإنسان في اختيار الملابس التي يختارها وليس على أنه حكم شرعي فنحن لا ننازع في ذلك ولا نتدخل في حرية الإنسان في اتخاذ أي ملابس يلبسها». والجواب على ذلك هو: 1 - إن القول بكشف الذراعين ليس منسوبًا للتابعين بل نقل ابن جرير الطبري: 18/ 84 ذلك عن النبي في أسلوب يضعف الحديث ونص الحديث: «" لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُخْرِجَ يَدَهَا إِلاَّ إِلَى هَاهُنَا "وَقَبَضَ نِصْفَ الذِّرَاعِ». وهذا من رواية قتادة وهي رواية سندها منكر (" حجاب المرأة " للألباني). وبالتالي فلا تعتبر سندًا في الحكم ولا عبرة لنقل هذا عن بعض التابعين أو من جاء بعدهم لبطلان الحكم تبعًا لبطلان السند. 2 - أما تحديد (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بنص شرعي فقد ورد قول النبي لعائشة: «" إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا " وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ». أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد ": 5/ 137 برواية الطبراني في " الكبير " و " الأوسط ". 3 - قول الشيخ سعد: إن النقاب بدعة ولم يؤثر عن الصحابة وما ارتدته من باب الحرية (الموضة) يكون مقبولاً، أما من باب الحكم الشرعي فلا. هذا القول يخالف ما كان عليه صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تفسيرهم لقول الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. منهم من قال: إن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان. قال الطبري: «هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ». والحديث السابق حجة في هذا. ولكن من الصحابة عبد الله بن مسعود قال: هي الرداء والثياب على ما كان عند نساء العرب من القناع فما يبدو من أسفل الثياب فلا حرج منه. ومن الفقهاء من استدل بقول الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬1). ولكن هذا الحكم خاص بزوجات النبي كما هو ظاهر من الآيات السابقة واللاحقة لهذا النص، وأيضًا لحديث عائشة بالعفو عن الوجه والكفين ومع هذا فإن من قالوا بالنقاب ليسوا مبتدعين، ولا يجوز أن نرميهم بالابتداع في الدين ولا أن يقال إن ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 53].

رابعا: رد العقل للسنة

هذا الرأي لم يكن عند أحد من الصحابة والتابعين (¬1). رَابِعًا: رَدُّ العَقْلِ لِلْسُّنَّةِ: يقول شيخنا في مقاله الأخير: «إن الحديث النبوي له صورتان من الانقطاع. الانقطاع الظاهر: وهو انقطاع السند بسقوط فرد أو أكثر من سلسلة السند، وهو يقضي بعدم حجية الحديث، والانقطاع الباطن: وهو أن يكون سند الحديث متصلاً لكن يقع معناه على خلاف مقتضى العقل، فيكون من أسباب انقطاع معناه وترك العمل به». ولقد نسب هذه المقولة إلى الخوارج وعززها بقوله: «إن روح العصر الحاضر ومشاعر الناس في هذ الزمن لم تعد تحتمل وقع هذه العقوبة الشنيعة، وأصبح ذلك موضع نقد موجه إلى أحكام الفقه الإسلامي الاجتهادي، لا نقول إلى الشريعة الإسلامية وهو نقد غير مرفوض حتى من وجهة نظر الشريعة نفسها، لأن الشريعة يجب أن تكون فيما لا يصطدم بقطعي، أداة قانونية مرنة موظفة للتعبير عن مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر». هذا الذي يؤمن به شيخنا ويدعو المسلمين للإيمان به يحتاج إلى وقفة موضوعية، لأن الإيمان به من شأنه أن يصبح كل من يظن أن عقله قد بلغ مرتبة الاجتهاد حاكمًا على سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيرد ما يشاء منها، ويحل منها ما يشاء ويحرم ما يشاء. وبهذا يصبح عند المسلمين الآلاف من الأرباب الذين يملكون التحليل والتحريم، وهذا ما حذر منه ربنا في القرآن الكريم، وفصله بالسنة النبوية حيث قال النبي لعدي بن حاتم: «أَلْقِ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ» وَكَانَ يَحْمِلُ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَاءَ يُعْلِنُ إِسْلاَمَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فَقَالَ عَدِيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ». فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرَامَ فَاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قَالَ: «بَلَى»، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَتِلْكَ عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُمْ» (*). ولسنا ندري ما هو العقل الذي سيحكم على الحديث النبوي بعدم حجيته وعدم جواز العمل به لأن معناه يخالف هذا العقل. إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوحي من الله قد أخبرنا أن شؤون الدنيا تخضع لعقول الناس ¬

_ (¬1) " السياسة " 21/ 7 / 1982 - أول شوال 1402 هـ نقلاً عن " الوطن " 25 رمضان. هذا والشيخ [محمد] سعاد جلال ليس علمانيًا بل يعد نفسه من كبار المجتهدين الشرعيين، ولكنه في اجتهاده ردد مقولات العلمانية العربية وبحث لها عن استدلالات شرعية، فالتقى مع العلمانية في هذه النتيجة وهي استبعاد السنة في الحدود أو في الأحكام الشرعية مع التفاوت في ذلك. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) قارن بما في صفحة: 14، 50، 248، 251، 255 من هذا الكتاب.

وتجاربهم فقال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». ومن المعلوم للكافة أن العقل لا يستطيع الحكم على شيء إلا من خلال الحواس الخمس، فهي التي تمده بما يحكم به، فمثلاً لا يعرف الأبيض من الأسود إلا عن طريق حاسة البصر. فكيف يحكم العقل على السنة النبوية وهي من الوحي، ولا تتضمن أحكامها بأمور الحلال والحرام، وهذه تخرج عن نطاق الحواس الخمس وعن نطاق أحكامها بأمور الحلال والحرام، وهذه لا تخرج عن نطاق الحواس الخمس وعن نطاق التجارب البشرية. ومن المعلوم للكافة أن الناس تتفاوت أحكامهم وتختلف اختلافًا كبيرًا في الأمور التي لا تخضع لنطاق الحواس الخمس، فأي عقل من هذه العقول يصبح هو الحكم على هذه الخلافات. إن الإسلام قد صحح الانحرافات التي مارسها كثير من رجال الدين من أهل الكتاب حيث زعموا أن بيدهم صكوك الغفران والحرمان، فجاء القرآن وأبطل اختصاص هؤلاء بالتحليل والتحريم. فهل تعود هذه الانحرافات مرة أخرى تحت اسم جديد هو حكم العقل. إن العقل لا يصدق أَنْ يَرُدَّ أحد البصر للأعمى، أو أن يحيي الموتى، ولكن القرآن قد أخبر أن نبي الله عيسى فعل ذلك فصادقنا ذلك وقبلناه، لا بحكم العقل، بل بالإيمان بصدق القرآن. والإيمان بصدق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يجعلنا نقبل الأحكام التي جاء بها عن طريق السنة أو القرآن ومع هذا لم يثبت أحد أنها تضر بالخلق. كما أن عقول الأوروبيين تحسن الزنا وتراه أمرًا عاديًا وليس جريمة في حق المجتمع. فهل تصبح هذه العقول حكمًا على سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواءً نطق بهذا الحكم شخص غير مسلم، أو نطق به مسلم بلسانه لكنه أوروبي بعقله وبيانه. إن مشاعر أصحاب هذه العقول لا تحكم على الله ورسوله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. إن مشاعر ملايين من البشر في روسيا قد تقبل أن يقتل السارق ولكنها لا تقبل أن تعاقب الزوجة الزانية بأدنى العقوبات، وهي مشاعر دعاة الحرية الجنسية ترى أن الرجم عقوبة شنيعة بينما رجم القرى والمدن بأهلها بوابل من القنابل في لبنان وفلسطين وأفغانستان وأرتريا وكشمير وتشاد والفلبين لا يعد أمرًا شنيعًا أو مَاسًّا بمشاعر الناس، ومع هذا يصبح من الاجتهاد في شرع الله أن يقال إن اعتراض هؤلاء على عقوبة الزنا نقد غير مرفوض من وجه نظر الشريعة نفسها.

ثم من هو الذي يملك أن يتحدث وحده باسم الشريعة ليقول: إن هذا مقبول من جهة نظر الشريعة. إن الشريعة الإسلامية لا تعبر عن مشاعر الجماهير المتطورة بتطور العصر. فهذه المشاعر تحل الزنا والخمر والقتل الجماعي وغير ذلك من الموبقات والمهلكات، وقد جاء الإسلام لتحكم نصوصه من قرآن وسنة على أعمال هؤلاء وتصحح أخطاءهم، فكيف تتبع الشريعة مشاعرهم؟. حسبنا أن الله تعالى قد قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (¬1). وحسبنا قول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). وبالله تعالى نعتصم ونتأيد. ملحوظة: تناولت الطبعة الثالثة من كتاب " السنة المفترى عليها " الرد على جميع الشبهات الخاصة بالسنة النبوية ومنها شبهات الشيخ [محمد] سعاد جلال وعز الدين بليق وحسين أحمد أمين، والشيخ محمود أبو رية وجولدتسيهر وغيرهم. ¬

_ (¬1) [المائدة: 48]. (¬2) [النور: 51].

خطاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية حول مشاكل الأسرة

بسم الله الرحمن الرحيم خِطَابُ مَفْتُوحٌ إِلَى رَئِيسِ الجُمْهُورِيَّةِ حَوْلَ مَشَاكِلِ الأُسْرَةِ: السيد رئيس الجمهورية العربية المتحدة السيد المشرف العام على الاتحاد القومي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما زالت تطالعنا الصحف بأنباء غير سارة عن مشروع قوانين الأحوال الشخصية، ولما كانت هذه من أخص خصائص الدين ولا مجال للعقل في تحريم أو تحليل أي من أصول قواعدها وكان المشرع الإسلامي قد نظم هذه الأحوال تنظيمًا يمتنع معه الشكوى من سوء استعمال الحقوق التي قررها لأي من الزوجين، وكان ما عليه لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ليس مستمدًا بأكمله من المصادر الأصلية للشريعة الإسلامية بل من أقوال فقهائها، الأمر الذي يشكو منه المجتمع اليوم. لما كان ذلك فإننا نرى لزامًا علينا أن نضع أمامكم المبادئ العامة للأحوال الشخصية مستمدة من مصادر الشريعة المتفق عليها، وذلك علاجًا لما نشر بالصحف عن مشروع القانون الجديد. ونأمل مخلصين أن تتفضلوا بالعمل على وضعها موضع التنفيذ. أَوَّلاً: بَيْتُ الطَّاعَةِ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْشَّرِيعَةِ: تنفيذًا للائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادرة بالقانون رقم 25/ 1929، تجبر الزوجة على معاشرة زوجها وتسجن في بيته إن أبت ذلك، وهذا أمر لا يمكن أن يصدر عن القرآن والسنة. فالزواج يقوم على المودة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1). وقد عالج القرآن الخلاف الذي قد ينشأ بين الزوجين. قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2). وبالضرورة يدري كل ذي حِسٍّ وبصيرة أن حق هؤلاء المحكمين مطلق في الإصلاح أو التفريق، والقاضي يقضي بما يرى بأنه الأصلح. ¬

_ (¬1) [الروم: 21]. (¬2) [النساء: 35].

ثانيا: الطلاق وبيد من يكون

ولا يمكن القول بأن طاعة الزوجة لزوجها تتضمن إجبارها على الحياة معه. قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1).فإذا تعذر الإمساك المشار إليه فلا مفر من الطلاق. قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (¬2). فإذا كان رأي الحكمين مؤيدًا للزوج حكم القاضي على الزوجة بالطاعة، إلا أن التنفيذ الجبري يكون غير ممكن إذ يستلزم تدخل شخص الزوجة، ومن ثم يسلك القاضي سبيل التهديد المالي كما في المادة 213، 214 من القانون المدني. فإذا لجأ القاضي إلى هذا التهديد ولم يفلح، لا مناص من الحكم بالطلاق مع تعويض الزوج كما في نص المادة 215 من القانون المدني. والتعويض في الشريعة الإسلامية يحدد فيما لحق الشخص من ضرر، وذلك خلافًا للقوانين الوضعية التي تضيف إلى ذلك التعويض عما فاته من كسب. ثَانِيًا: الطَّلاَقُ وَبِيَدِ مَنْ يَكُونُ: إنه وإن جاز فصام عرى الرباط المقدس بمعرفة القاضي في أحوال معينة، إلا أنه لا يجوز إسناد هذا الأمر إلى الزوجة، فالعصمة بيد الرجل وحده، وجعلها بيد المرأة مخالف للنظام العام في الشريعة الإسلامية، ويجب عدم الاعتداد به. كما لا يجوز تقييد الطلاق بحكم المحكمة، إذ أن هذا لا يتفق مع الحياة السعيدة، إذ كيف يرضى الزوجان بالاستمرار في حياة ظاهرها حفظ كيان الأسرة وباطنها من قبله العذاب. إن تقييد الطلاق بصورته الواردة في مشروع القانون لا يفترق عن تقييد حق صاحب العمل في فصل العامل، ومن ثم تصبح العلاقة الزوجية أقرب ما تكون إلى الإجارة وعقود العمل، بل ليتها كذلك، فقانون العمل الموحد رقم 91 لسنة 59 لم يعلق إنهاء عقد العمل على حكم القاضي، بل منع الفصل التعسفي فحسب، فإذا ما خالف صاحب العمل هذا القانون، ولم تفلح التسوية الودية التي يقوم بها مكتب العمل، ثم رفض صاحب العمل تنفيذ حكم المحكمة القاضي بإعادة العامل إلى عمله لكون الفصل غير مشروع، لا ينفذ هذا الحكم جبرًا على صاحب العمل بل ينتقل حق العامل إلى التعويض، والحال ليس كذلك بالنسبة لمشروع قانون الأحوال الشخصية، فقد حجر على الزوج، وجعل القاضي ¬

_ (¬1) [البقرة: 229]. (¬2) [النساء: 130].

قيمًا على الرجال جميعًا، وهذا فيه خطورة بالغة، إذ يؤدي إلى الإحجام عن الزواج، الأمر الذي يعانيه المجتمع اليوم وكفى. والشريعة الإسلامية إنما أعطت الرجل حق الطلاق، لأنه قوام على المرأة، ويملك التحكم في أعصابه ويفكر كثيرًا قبل أن يقدم على هدم الأسرة، ثم جاءت الشريعة الإسلامية فوضعت قيودًا زمنية تحول دون إساءة استعمال هذا الحق، دون أن تتدخل في الحريات أو تعرض أسرار العائلات إلى هذه العلانية الأمر الذي يحول دون استئناف الحياة الزوجية. كما أعطت المرأة حق التطليق فيما يسمى بالخلع فقد قال ابن رشد: «[فَإِنَّهُ لَمَّا جُعِلَ] الطَّلَاقُ بِيَدِ الرَّجُلِ [إِذَا فَرَكَ المَرْأَةَ]، جُعِلَ الخُلْعُ بِيَدِ المَرْأَةِ [إِذَا فَرَكَتِ الرَّجُلَ]» (*). كما قرر المشرع الإسلامي حق التعويض وهو يحول تلقائيًا دون إساءة استعمال حق الطلاق. ونركز هذه القيود في البنود التالية: 1 - بطلان الطلاق المعلق. 2 - بطلان الطلاق الموصوف بِعَدَدٍ لفظًا وإشارة، وإيقاعه طلقة واحدة. 3 - بطلان الطلاق الواقع في فترة الحيض أو في طهر مس الزوج زوجته فيه. والمبدأ الأول والثاني تأخذ بهما لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، أما المبدأ الثالث فمهجور بمقولة أنه طلاق بدعي، يجوز مع الكراهة، وفي ذلك مغالطة، ولو صح هذا أو جاز، فبطلان مثل هذا الطلاق أولى وألزم من الحجر على الرجال وجعل الطلاق بيد القاضي. وبطلان هذا الطلاق يستمد من القرآن والحديث، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} (¬1). وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَسَلمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». ¬

_ (¬1) [الطلاق: 1، 2]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر: " بداية المجتهد " لابن رشد، 3/ 93، طبعة سنة 1425 هـ - 2004 م، دار الحديث - القاهرة.

ومقصد الشريعة من هذه القيود الزمنية الإمساك على الزواج في كثير من حالات الطلاق التي مبعثها أمور وقتية تزول بعد فترة من الزمن. وهذا الطلاق المنهي عنه هو كالنكاح المنهي عنه، لا يصح ولا يعتد به إذ النهي يقتضي البطلان في الحالتين. 4 - النص على مبدأ التعويض: فإذا أساء الزوج استعمال حقه في الطلاق حكمت المحاكم بالتعويض المناسب للزوجة، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ ضَرَر وَلاَ ضِرَارَ». فوقًا عن ذلك فإن مبدأ تعويض المطلقة، قد قرره الإسلام بغض النظر عن سوء استعمال الحق من عدمه، قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1). هذه هي المتعة وهذا هو التعويض وعلته فيما ترى هو الضرر الأدبي الذي يحيك بالزوجة نتيجة الطلاق أيًا كان. وإذا رأت اللجنة المختصة أن هذه الحلول تحتاج إلى تفصيل أو أسانيد شرعية فيمكن التعاون معها في ذلك. وبالله نعتصم ونتأيد (¬2). سالم البهنساوي تحريرًا في 16 ذو القعدة 1379 هـ. 11 مايو سنة 1960 م. ¬

_ (¬1) [البقرة: 241]. (¬2) هذه المذكرة قد نشر ملخصها في جريدة " الأهرام " بتاريخ 25/ 5 / 1960 ونشرت بالكامل في جريدة " العمال " العدد 19 في 5 يوليو 1960، وقد أحيلت من رئاسة الجمهورية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لتدرج مع بحوث الأسرة وتناقش مع اللجنة المختصة بتعديل قانون الأحوال الشخصية كما أنها قد نوقشت في مؤتمر المرأة الذي عقد في مدينة المنصورة تحت إشراف وزيرة الشؤون والذي انتهى بإقرار ما ورد بها ورفعها كتوصيات إلى مجلس الأمة وقد كانت موضوعات هذه المذكرة محل حوار في محاضرة عامة دعي إليها محافظ الدقهلية وقدم لها الأستاذ عقيل مظهر سكرتير عام المحافظة وفيما يلي نص ما نشر.

مجلة المنصورة تحت عنوان " الشريعة تحل مشاكل الأسرة "

مَجَلَّةُ المَنْصُورَةِ تَحْتَ عُنْوَانِ " الشَّرِيعَةُ تَحُلُّ مَشَاكِلَ الأُسْرَةِ ": حوالي ألف مواطن احتشدوا بمدرج مدرسة ابن لقمان الإعدادية، ليستمعوا وليناقشوا مشكلة الطلاق .. من أين بدأوا؟ وما موقف الديانات منه؟ .. وكيف يتم الطلاق في الإسلام؟. ولماذا ينادي البعض بتقييد الطلاق؟ .. ولماذا لا تلجأ لجان الأحوال الشخصية إلى الأسس الدينية في العلاقات الزوجية؟ .. أسئلة كثيرة تناولها بالتحليل والإجابة والنقد ثلاثة من علماء الدقهلية .. هم الشيخ عبد الحكيم مرسي الأستاذ بالمعهد الديني والشيخ عبد الخالق بدور مفتش الوعظ والأستاذ سالم البهنساوي مدير التأمينات الاجتماعية .. وتحدث الاثنان الأولان عن حكمة الطلاق، وكيف أنه أبغض الحلال إلى الله .. وكيف لم يجعل الإسلام الطلاق مباحًا .. ويعطي الرجل حق الطلاق كيفما شاء .. بل أوجب عليه العدل في المعاشرة والإحسان في المفارقة وفي القرآن الكريم: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وتحدثا أيضًا عن تاريخ الطلاق وحدوده في الديانات السماوية، وقالا: إن شريعة موسى وعيسى تحرم الطلاق تحريمًا نهائيًا مهما كانت الظروف. وَذَكَرَا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ [مَا بَأْسٍ]، لَمْ تُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ». وتلاهما الأستاذ سالم البهنساوي فتحدث عن تقييد الطلاق. وقال: «إنني لا أوافق عليه» - ودهش الجميع .. واستطرد يقول: «ولا أوافق أيضًا على الفكرة القائلة بالتأمين على الزواج لدى شركة التأمين» .. وعلت الدهشة وجوه الحاضرين .. إذن ماذا يقصد؟ .. ودارت أسئلة ومناقشات كثيرة حول التقييد والتأييد .. ولم أجد مفرًا من حديث خاص معه أعرف منه آراءه في هذا الموضوع الهام.

وذهبت إليه في مكتبه وسألته: هل تعني بعدم موافقتك على تقييد الطلاق بأنك تؤيد الانطلاق فيه؟؟. قال: «إن رفضي لتقييد الطلاق لا يعني الانطلاق فيه، بل إنني أطالب بالرجوع إلى القيود التي وضعها الدين على الطلاق .. إن كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيه كل التشريعات التي تقيده ولو اتبعناها لأرحنا واسترحنا» .. وما هي هذه القيود؟ - هذه القيود كثيرة وهي تؤكد حرص الإسلام على العلاقة الإنسانية السامية القائمة بين الزوجين. 1 - وأول هذه القيود: أن طلاق الرجل للزوجة يبطل إذا طلقها وهو غاضب، وطلاق الرجل للزوجة يبطل إذا كان معلقًا بفعل عمل من الأعمال. وبديهي أن جميع حالات الطلاق لا تحدث إلا والغضب يملك زمام نفوس الزوجين. ولذلك فإن النية الحقيقية والإرادة الصحيحة للطلاق غير موجودة، ولقد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك: «لَا طَلَاقَ [وَلَا عِتَاقَ] فِي إِغْلَاقٍ». وذلك حرصًا على بيت الزوجية أن يتهدم في لحظة غضب. 2 - وثاني هذه القيود: أن الطلاق لا يقع في فترة الحيض،ويصبح باطلاً، لأنه قد يكون هناك بعض النفور في العلاقة الزوجية في هذه الفترة. 3 - وثالث هذه القيود: أن الطلاق لا يقع إذا حدث جماع بين الزوجة وزوجها، لأنه يمكن بعد ذلك أن تحمل الزوجة أو يكون بينهما من التآلف والمودة السابقين ما يجعل الطلاق لا يقع. 4 - ورابع هذه القيود هو: الإقامة في البيت بعد الطلاق وهذه هي العدة التي تبلغ ثلاثة شهور. والحكمة في هذا أوردها القرآن وهي احتمال أن يزيل الله هذا الشقاق وتستأنف الحياة الزوجية. ولكن الذي يحدث الآن أنه مجرد وقوع الخلاف بين الزوجين تترك الزوجة منزل

قوانين الأسرة بين ضعف النساء .. وعجز العلماء

الزوجية وتلجأ إلى أهلها، وهي لا تعلم أن خروجها يزيد هوة الخلاف اتساعًا. واستأنف مدير التأمينات الاجتماعية: «وإنني أختتم حديثي باقتراح هام هو: لماذا لا يدرس الزواج وأسسه والطلاق وقيوده في مرحلة معينة من مراحل الدراسة للبنين والبنات ... حتى يشبوا جميعًا فاهمين للتعاليم الدينية الأصيلة عاملين على تنفيذها. وبعد .. يا رجال الفقه والقانون ما رأيكم في هذا الحديث؟؟ ..» (¬1). قَوَانِينُ الأُسْرَةِ بَيْنَ ضَعْفِ النِّسَاءِ .. وَعَجْزِ العُلَمَاءِ: تردد على لسان بعض السيدات اللاتي يشعرن أنهن في مواقع المسؤولية، أن هدفهن وغايتهن، تعديل قانون الأحوال الشخصية، لتحصل المرأة على ضمان عدم الطلاق ولهذا فمطلبهن العادل، كما صرحت إحداهن في المؤتمر العالمي للمرأة المنعقد في المكسيك والمنشور في صحف يوم 18/ 6 / 1975، هذا المطلب هو، إلغاء الطلاق الذي يكون بناءً على طلب من الزوج، وكذلك إلغاء تعدد الزوجات، قالته حرم السادات. ولما كانت هذه الدعوة ليست في صالح المجتمعات البشرية عامة والإسلامية بصفة خاصة، كما أنها استسلام للغزو الفكري والمخطط الذي يهدف إلى القضاء على البقية الباقية من التشريع الإسلامي، ألا وهي ما سمي بقانون الأحوال الشخصية، وذلك ليقترب الإسلام من التشريعات الغربية وليذوب تدريجيًا في هذه المجتمعات، وذلك ليس تكهنًا مني بل هو ما سطره سدنة الفكر الغربي، فمن ذلك ما سجله المستشرق الإنجليزي (جب) في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام " إذ قال: «إن مستقبل التغريب - أي جعل الإسلام غربيًا، أو حمل العالم الإسلامي على حضارة الغرب - لا يتوقف على هذه المظاهر الخارجية للتأثر والاقتباس، فهذه ليست إلا شيئًا ثانويًا، علينا أن نبحث عن الآراء الحديثة والحركات المستحدثة، التي ابتكرت بدافع من التأثر بالأسباب الغربية بعد أن تهضم يصبح جزءًا من كيان هذه الدول الإسلامية». ثم يقول: «والمدارس والمعاهد ليست إلا خطوة أولى في الطريق. يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفًا إلى خلق رأي عام، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة». ثم يقول: «إلى عهد قريب لم يكن للمسلم من عامة ¬

_ (¬1) العدد 41، السنة 2 في 1/ 12 / 1963 من مجلة المنصورة بمصر.

القانون والمشروع المصري

الناس من أدب إلا الأدب الديني، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الدين، أما الآن، فلم يعد مرتبطًا بالدين». لأن وجهة نظر الدين لا تناقش على الإطلاق، وأصبح الرجل من عامة المسلمين يرى أن الشريعة لم تعد هي الفصل فيما يعرض له من مشاكل ثم يقول: «إن نجاح التطور يتوقف إلى حد بعيد على القادة والزعماء في العالم الإسلامي، والشباب منهم خاصة». وكما أن الاعتماد في ذلك على القادة والزعماء، فهو أيضًا يعتمد على النساء، وهذا ما أفصح عنه مؤتمر جامعة برنستون الأمريكية، الذي نشرت أعماله في كتاب " العالم العربي اليوم " للأستاذ (مورو بيرجو)، فمما جاء فيه - أن نمو وضع النساء ومشاركتهن في الشؤون العامة، هو أخطر قوى التغيير لا في الأسرة العربية وحدها، بل في المجتع العربي على العموم، فإن سمح للقوى التي حملت سلاحها الآن - أي النساء - أن تبرر إمكانياتها، فما من شك أن مطامح النساء وحقوقهن سوف تحول المجتمع العربي تحولاً عميقًا وبصورة أبدية. لما كان ذلك: نسأل قومنا: هل تم وضع مشروعات القوانين من خلال الواقع هذه الأمة على افتراض أنها أمة إسلامية؟ أم وضعت المشروعات لأمة لا دين لها، وبالتالي فيمكن أن تدخل التخطيطات الغربية والشرقية إلى قوانين الأسرة بدعوى الإصلاح والتجديد، كما دخلت على القوانين الأخرى من قبل، والتي أدت إلى الازدواج في شخصية الأمة. القَانُونُ وَالمَشْرُوعُ المِصْرِيِّ: لما كانت أكثر الدول العربية تعاني من اختلال العلاقات الأسرية، وكان مشروع قانون الأحوال المصري على الأبواب، وكانت مصر هي المصدر الأكبر في التشريعات والعادات، ولهذا تقلدها أكثر الدول العربية، فإننا نناقش بعض قواعد هذا القانون وبعض نصوص المشروع: في حالات طلب الطلاق العادية، على المحكمة أن تعين حكمين للتوفيق بينهما، ويكونان من أهل الزوجين، فإن كانت الإساءة من الزوج يقترح الحكمان الطلاق، وإن كان الزوج يطلب الطلاق بدون إساءة من الزوجة يرفض طلبه، وإذا كانت الإساءة من الزوجة تدفع قدرًا من المال يقرره الحكمان، وإذا كانت الإساءة مشتركة يقترح الحكمان التفريق. فهذا المشروع بهذه الصورة قد أدخل أمرًا غريبًا على المجتمع الإسلامي، ألا وهو جعل الطلاق بيد القاضي، ولأسباب بلورها القانون في الإساءة.

المرأة عدوة نفسها

وعلى الرغم من هذا فإن المتباكيات على مصلحة المرأة وحقوقها لم يقفن عند هذه الحدود، بل وكما نشرت مجلة " حواء " يوم 18/ 10 / 1974 في العدد - 995 - طالبن بمشروع جديد مثل مشروع وزارة الشؤون الاجتماعية. المَرْأَةُ عَدُوَّةُ نَفْسِهَا: إن المرأة التي تسعى لجعل الطلاق بيد القاضي ولأسباب معينة، هي عدوة نفسها وتحارب دينها بسلاح التبشير الصريح أو المقنع. لقد سعى المجتمع الغربي لجعل الطلاق بيد القاضي، للتخلص من عقدة حظر الطلاق وعدم السماح به إلا لعلة الزنا، وتبرعت سيدات مسلمات لتكون صوتًا للغرب في الطعن على الإسلام، لأنه لم يجعل الطلاق بيد القاضي، على الرغم من أن الذين لا يجدون الطريق مفتوحًا أمامهم للتخلص من حياة زوجية أصابها التمزق والشقاق، إنما يلجأون إلى الإسلام ويتحولون عن المسيحية، وعلى الرغم من أن المجتمعات الغربية سعت إلى جعل الطلاق بيد القاضي، لتتوصل إلى فصم عرى هذا الرباط عندما تستحيل الحياة، أما نحن معاشر المسلمين، فمن يسعى منا لجعل الطلاق بيد القاضي إنما يقلد من غير إدراك، لأن ذلك الذي نسعى إليه وهو حظر الطلاق إنما شكى منه الغرب، وتخلص منه بجعل الأمر بيد القاضي. وإذا كانت ثمة حالات يتسرع فيها الرجل فيطلق فهي حالات نادرة، ولا يجب أن تكون سببًا في الحجر على جميع الرجال، وجميع الأسر وإصابتها بالاضطرابات والخلل والصراعات المختلفة. إن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء قد أصدر نشرة الأرقام عن المرأة والأسرة، وتفيد أن نسبة الطلاق أصبحت سنة 1972: 1.7 % من عدد حالات الزواج، وأما نسبة الزواج بثانية فيقد أصبح: 2.7 % ونسبة الزواج بثالثة أصبحت: 0.37 أقل من الواحد الصحيح (نقلاً عن " أخبار اليوم " عدد 22/ 9 / 1973)، فهل من أجل 1 % أو 2 % تصدر قوانين بالحجر على جميع الرجال، حتى لو كان هذا الحجر يضر بالمرأة قبل الرجل. إن هذا لشيء عجاب، وإنه السفه بعينه، والجهل بنفسه. إن حظر الطلاق على الزواج وجعله بيد القاضي، ولسبب محدد مثل الإساءة يؤدي إلى نتائج منها: 1 - أنه قد لا يعبأ الرجل بالقانون ويطلق بدون الالتجاء إلى القضاء، وذلك

انعدام الصلاحية

استنادًا إلى أن حكم الله أولى من حكم البشر، وأن من المهانة أن يلجأ إلى القضاء ويسطر ما أمر الله به أن يستر. هما تكون الزوجة مُطَلَّقَةً شَرْعًا وَزَوْجَةً قَانُونًا وبذا تظل بائسة لا تتمتع بحقوق الزوجة وليست حرة من قيودها فلا تستطيع أن تتزوج، وإن زنت سجنت، وأما زوجها فلا ضرر عليه: أ - فله أن يتزوج بثانية. ب - فإن صدر قانون يمنع ذلك فلا يمنعه من أن يلجأ إلى الزواج العرفي، لأن القانون المانع من التعدد يخالف الشرع. ج - وإن كان لا يخشى الله اتخذ خليلة أو أكثر على ما هو نظام الحياة في المجتمعات الغربية التي تقلدها. 2 - وقد يلجأ الرجل المحجور عليه في أمر الطلاق إلى الإضرار بزوجته، حتى تطلب هي الطلاق، بل وحتى تدفع المال في سبيل موافقته على طلاقها، كما يحصل في بعض الحالات بسبب سوء تطبيق نظام الخلع كما شرعه الله، إذ القوانين العربية تجعله رهن موافقة الزوج مما ييسر لبعضهم طلب مقابل غير عادل. 3 - وقد يخلق السبب المؤدي إلى الطلاق وجمع من الشهود عندنا في المنطقة العربية على أتم استعداد لذلك إذا ما طلبهم الأزواج ولوحوا لهم بالمنفعة. 4 - من النتائج السيئة لهذا القانون إن صدر أن يزيد استهتار بعض أصحاب النفوذ من السيدات، وهن من يدفعهن الغرور إلى الاستعلاء، أو يدفعهن توفر المال في أيديهن إلى النشوز، أو يدفعهن حب الشهرة إلى ترك واجبات الزوجية. فهذه الفئة قد تظن أن القانون يمكن لها أن تصبح زوجة رغم أنف الرجل فتعمل ما شاءت ولا تبالي وهنا تكون الطامة وتكمن المشاكل. انْعِدَامُ الصَّلاَحِيَّةِ: لا خلاف في أن حماية الأسرة والمحافظة على مقومات بقائها لا بد منه للمجتمعات الفاضلة. ولكننا نختلف مع القوم في صلاحية أي من الجنسين أو كليهما في وضع أصول هذه

مشكلة الطلاق

المقومات، ولا ينبغي أن يترك الأمر للأخذ والرد بين الجنسين والإرخاء والشد بين الاتجاهين، أو يعلق ذلك على حصول أي منهما على موافقة ممثلي الشعب. ذلك أن الجهة التي أرست قواعد الزواج ورتبت آثاره هي صاحبة الصلاحية في علاج هذه المشاكل على ضوء مبادئها وفي حدود المفاهيم والقيم التي بنت عليها نظمها الاجتماعية (" الوعي الإسلامي ": في صفر 1398 هـ). فهل وضع أفراد المجتمع وممثلوه نظام الزواج والطلاق حتى يحق لهم تغيير ما شرعوه لأنفسهم؟ من هو صاحب الصفة في تحديد مفاهيم العلاقة بين الجنسين، والصورة التي تكون فيها هذه العلاقة مشروعة من عدمه؟ من الذي جعل عقد الزواج يتصف بالمشروعية إذا صاحب قيامه شهود، ويصبح جريمة فاضحة إذا انعدم عنصر الشهادة مع توفر الرضا بين الجنسين في الحالتين؟ من الذي منع قيام العلاقة الزوجية بين درجات معينة من الأقارب أو بعد مدة زمنية من الانفصال أو الطلاق؟ هل وضع القوم هذه النظم أم أن واضعها رب القوم وخالقهم؟ وهل صفة هذا المشروع ما زالت قائمة أم قضت عليها معالم الحضارة؟ هل زال دين القوم الذي رسم هذه النظم فأصبح للجنسين مجتمعين أو منفردين الحق في اختيار النظام الأصلح في نظر أي منهما؟ تحت ظلال هذه المبادئ وفي حدود هذه الصلاحيات وضعت هذا البحث، حتى لا تؤدي الحلول الوضعية إلى إفساد الحياة الاجتماعية، والقضاء على النظم الأخلاقة القائمة في المجتمعات العربية الإسلامية، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله رب العالمين. لما كان ذلك فإننا نتعرض لمشكلة الطلاق. مُشْكِلَةُ الطَّلاَقِ: نادى البعض بإلغاء الطلاق ونادى آخرون بحظره على الرجل، وإسناده للمحكمة،

1 - إلغاء الطلاق

ونشأ حل وسط بتضمين عقد الزواج نصًا بالتأمين ضد الطلاق لدى إحدى شركات التأمين. وهذه الحلول مقتبسة من التشريعات الأجنبية التي ضل ضلالاً بعيدًا، وما زالت تلتمس الهداية ولا سبيل لها، لأن علاج النفوس بيد الخلاق العليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .. وسنوجز أسباب بطلان هذه الحلول. 1 - إِلْغَاءُ الطَّلاَقِ: إن القول بضرورة إلغاء الطلاق ارتداد إلى العصور الأولى للمسيحية التي قضت بعدم جواز الطلاق، بل وعدم السماح للقاضي بالتطليق، لأن ما جمعه الرب لا يفرقه العبد. هذه النظم لم تستطع البقاء أمام المطالب الاجتماعية، فأباحت الكنيسة للقاضي التطليق في حالة زنا الزوجة، ثم توسعت في أسباب الطلاق حتى شملت زنا الزوج أيضًا، أو أصبح الزوج عِنِّينًا، أو حكم عليه بالحبس خمس سنوات، أو إصابته بجنون، أو اعتداء أي من الزوجين على حياة الآخر أو تعود إيذائه. ورغم أن المذهب الكاثوليكي كان من أشد المذاهب المسيحية تمسكًا بالزواج المؤبد الذي لا ينحل ولو بسبب الزنا ... إلا أنه خر راكعًا أمام التطور الاجتماعي، ومن هنا نجد إيطاليا وهي معقل هذا المذهب تبيح الطلاق لعدة أسباب، منها الزنا وهجر أحد الزوجين منزل الزوجية أو اعتدائه على الآخر باللفظ أو الإشارة بمعاملته للآخر أو رفض الزوج إعداد سكن ملائم لزوجته (¬1). وفي ديسمبر سنة 1970 عقب تعديل القانون والتوسع في أسباب الطلاق بلغ عدد قضايا الطلاق في شهر واحد مليون قضية، أكثرها كان ينتظر هذا التعديل من عشر سنوات. ولا يخفى على القوم أن بعض الولايات الأمريكية اليوم يبيح الطلاق لأتفه الأسباب، كإرسال الزوج للحيته أو تأخره في العودة إلى منزله مساءً. ولسنا في حاجة بعد هذا إلى التدليل على فساد نظام العقد المؤبد، فقد أثبت التاريخ فشل هذا النظام وتمت إباحة الطلاق على الوضع المشار إليه. أما الشرائع المسيحية التي لم تتوسع في أسباب التطليق فيلجأ أصحابها إلى تغيير ¬

_ (¬1) المواد 150، 152، 153 من القانون الإيطالي.

2 - إسناد الطلاق للمحكمة

دينهم توصلاً إلى الطلاق، أو يهجرون منزل الزوجية، وهذا ما يسمى بالتفريق الجثماني المنصوص عليه في المادة - 17 من الإرادة الرسولية. 2 - إِسْنَادُ الطَّلاَقِ لِلْمَحْكَمَةِ: نادى القوم بجعل الطلاق بيد القاضي حفاظًا على الأسرة من الانهيار لتسرع الزوج في استعمال حقه في الطلاق، وهذا العمل يؤدي إلى إفشاء أسرار العائلات وتسطيرها في محاضر بعد أن كانت داخل إطار الأسرة، مما يؤذي الأولاد المرزوقين من هذا الزواج، كما أنه لن يأتي بالإصلاح المنشود، لأن القاضي لا يستطيع الحكم في الحالات التي يتعذر إثباتها بالشهود، وغير ذلك من الأمور الشخصية المتصلة بذات الزوجين، أو الحالات التي توجد فيها مواقع أدبية أو أخلاقية، بالإضافة إلى أن هذا العمل سيخلق مشاكل أكثر من الوضع القائم اليوم، فأمام شعور الرجال بالحجر عليهم ظلمًا وزورًا قد يؤدي هذا بعضهم إلى اختلاق الاتهامات لزوجاتهم تمكنًا من طلاقهن، عندها تصبح الحياة جحيمًا في نظرهم ونعيمًا في نظر القاضي. ثم من ذا الذي يتحمل تبعة هذا العمل فيما لو تولى الرجل استعمال حقه المخول له بمقتضى الشريعة الإسلامية، وطلق ولم يعترف بالقيود الوضعية، ولا يحق للقاضي أو غيره إبقاء زوجته في عصمته. هنا تصبح الزوجة أجنبية عنه في نظر الشريعة الإسلامية، بينما لا تعترف القوانين بذلك وتجبرها على البقاء في أسرة انحل رباطها. هل تعاشر الزوجة رجلاً آخر ويفعل الرجل مثل ذلك؟ وهل هذه حياة كريمة في نظر القوم؟. من دواعي الأسى والأسف أن تطالب النساء بمثل هذا التدخل السافر في شؤون الأسرة، ظنًا أن ذلك حماية لها وهي في الحقيقة وبال. مَوْقِفُ الغَرْبِ مِنْ حَظْرِ الطَّلاَقِ: إن حظر الطلاق وجعله بيد القاضي قد تعرض له المفكرون في دول الغرب وانتهوا إلى أنه ليس من مصلحة الفريقين، فالفيلسوف الإنجليزي المستر (بنتام) سجل ذلك في كتاب " أصول الشرائع " فقال: «إن القانون الكنسي يتدخل بين العاقدين (الزوجين)،

3 - التأمين ضد الطلاق

ليقول: فلتعلما أنكما تدخلان سجنًا يحكم غلق بابه ولن أسمح بخروجكما وإن تقاتلتما بسلاح العداوة والبغضاء». ويقول الفيلسوف (سبنسر) في كتابه " علم الاجتماع ": «لو كان الموت هو المخلص من زواج هذا شأنه، لتنوعت صنوف القتل وتعددت مذاهبه». ويقول الدكتور (نظمي لوقا) في كتابه " محمد الرسول والرسالة ": «الزواج الذي تستقيم به حياة الإنسان هو الذي يستحق الإبقاء عليه». ثم يقول: «إن التطبيق العملي أتلف ذلك، وصارت أمم الغرب المسيحية تجيز الطلاق في قوانينها بواسطة المحاكم، وذهب بعضها إلى التوسع في أسباب الطلاق وإجراءاته حتى كأنها أصبحت مهزلة شكلية». 3 - التَّأْمِينُ ضِدَّ الطَّلاَقِ: نادى بعض القوم بالتأمين ضد الطلاق لدى إحدى شركات التأمين، وهذا الأمر لا يتأتى في المجتمعات القائمة على الفضيلة، كما أنه غير قائم في غيرها، فمثل هذا العمل يزيد من إحجام الرجال عن الزواج، وييسر انتشار الرذائل والجرائم الاجتماعية، لأنه يحول دون اكتمال العلاقة الشريفة، كما ييسر السبل للعلاقة الغير المشروعة حيث لا قيود عليها ولا حرج ولا تثريب، بينما العلاقة الشرعية تحاط بأغلال كثيرة منه المغالاة في المهور، ثم غلاء المعيشة مما أدى إلى نتيجة محزنة وهي تزايد عدد السكان إلى الضعف، وتناقص حالات الزواج إلى النصف. ووضح أن هذا الاقتراح قد هدم نفسه للسبب المشار إليه، ولأن شركات التأمين لا تقبل مثل هذه العقود، لأنه قد يتفق الطرفان على الطلاق للحصول على قيمة التعويض ثم يعلنا استئناف الحياة الروحية بعد المدة اللازمة. لهذا لا مجال لبحث مدى شرعيته. 4 - انْحِلاَلُ الأُسْرَةِ بِإِرَادَةِ المَرْأَةِ: الشريعة الإسلامية وحدها هي التي جعلت الزواج ينحل بإرادة الزوج أصلاً، ولكن لا تضار الزوجة من ذلك، فإن كرهت الحياة مع زوجها لها أن تطلب الطلاق على أن ترد المهر. ففي " صحيح البخاري " أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا [أَعْتِبُ] عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ - لاَ تُحِبُّهُ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» - الصَّدَاقَ - قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» - كان

الطلاق ومسؤولية القضاة

صداقها حديقة -. وقد يحلو للبعض - ممن يحسون إحساسًا عميقًا بالشعور بالنقص - أن ينادى بالمساوة التامة بين الرجل والمرأة، ومن ثم إعطائها حق الطلاق بإرادتها المنفردة من غير أن تلجأ إلى القضاء ودون أن ترد الصداق. ولم نجد جهلاً أكثر من هذا، ذلك أنه لا مساواة إلا بين متكافئين، ولا تعادل بين الرجل والمرأة فهي أكثر منه عاطفة، ومن هنا اختصت هي بالنسل والرضاعة ولم يختص الرجل بذلك، كما أن عليه وحده النفقة والصداق. ولا تستطيع أي قوة في عالم الجنسين أن تغير من هذه الطبيعة والخلقة، فقد أودع اللهُ في الرجل خصالاً وطبائع تخالف طبائع المرأة وغرائزها، وجعل لكل منهما وظيفته في المجتمع، ومن ثم جعل قيادة الأسرة بيد الرجل، وجعل له حق فصم هذا الرباط بعد إجراءات هي قيود على هذا الحق، كما هو مبين فيما بعد. وإعطاء الزوجة حق الطلاق ييسر هدم بيت الزوجية لأقل الأسباب، كما أنه يرتب على الزوج تبعات مالية لا تجوز إلا بموافقته، وحتى لو فوض زوجته في ذلك فهذا تفويض باطل في نظرنا، لأن مبدأ القوامة للرجل من النظام العام في الشريعة الإسلامية ولا يجوز الاتفاق على مخالفته لصريح ألفاظ القرآن الكريم، ولا اجتهاد مع النص - {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. وعدم صلاحية إسناد العصمة للمرأة لا ضرر فيه عليها لأن الإسلام كفل لها حق الطلاق عند الضرر كما أوضحناه (" الوعي الإسلامي ": العدد 159/ 1398 هـ). الطَّلاَقُ وَمَسْؤُولِيَّةِ القُضَاةِ: كتب فيصل السعد: «ترددت كثيرًا في مواجهة الأستاذ (سالم البهنساوي) لأنني أعتقد أنه نشر كل ما عنده عن قانون الأحوال الشخصية، إذ نشرت له الصحف عشر مقالات في هذا الموضوع، كما ساهم في بعض برامج التلفزيون شارحًا وجهة نظره، وأجرت بعض المجلات الأسبوعية مقابلات صحفية معه في هذا الشأن، ولكني مع هذا توجهت إليه لا لأنه مارس المحاماة منذ ما يقرب من عشرين عامًا، ولا لأنه خبير اجتماعي أو كان مديرًا

للتأمينات الاجتماعية في محافظات الشرقية والمنوفية والمنصورة ودمياط بجمهورية مصر العربية، وأخيرًا لم أواجهه بصفته المستشار القانوني لإدراة الأيتام ولديه العديد من المشكلات والحلول. بل واجهته لأنه عارض تقييد الطلاق بالندوة التي ناقشت مشروع قانون الأحوال الشخصية، ورفض أن يكون الطلاق بيد القاضي، ومع هذا اختير عضوًا بلجنة الصياغة. توجهت إليه بهذه الأسئلة: س: لقد عارضت جعل الطلاق بيد القاضي وعارضت تقييد الطلاق، فهل غيرت رأيك بعد أن شرعت سيدة في الانتحار إذا لم تطلق؟». ج: ليس صحيحًا أنني عارضت قيود الطلاق بل عارضت أن توضع أسباب محددة لا يتم الطلاق إلا بمقتضاها، وعارضت أن يكون الطلاق بيد القاضي وحده لأسباب كثيرة أوضحناها في مقالات عديدة، ولكني أوجزها بما لا يعد تكرارًا. فالحياة الزوجية إذا أصبحت جحيمًا فلا يجوز إجبار الزوجين على حياة العداوة والبغضاء. وبالتالي فوضع أسباب محددة، لا يتم الطلاق إلا من خلالها، من شأنه أن يحرض أحد الزوجين أو كلاهما على اختلاق أحد هذه الأسباب إذا أراد الطلاق، كما يفعل الأوروبيون حاليًا، فالطريقة السهلة للحصول على الطلاق عندهم، هو أن يصطحب الزوج امرأة شابة إلى الفندق، ثم تطلب الزوجة الشرطة في وقت متفق عليه، بحيث يمكن ضبط الزوج متلبسًا بحالة معينة يمكن وصفها بأنها خيانة زوجية. وإذا لم تقبل أخلاق الزوجة أو الزوج لمثل هذه الوسائل للحصول على الطلاق، فالنتيجة أن يظلا يقتتلان بسلاح العداوة والبغضاء إلى أن يموت أحدهما أو تتغير الظروف أو يقتل أحدهما الآخر. وسبب رئيسي آخر يخص المرأة التي تظن أن جعل الطلاق بيد القاضي من مصلحتها، هذا السبب هو أنه إذا رفض القاضي الطلاق، أو طلق الزوج عن غير طريق المحكمة فالزوجة هي المضارة، لأن الزوج يستطيع أن يهجر البيت ويستعيض عنها بأخرى في صورة زواج لمن التزم بالأخلاق، أو يستعيض عنها بأخريات في صورة خليلات لمن كانت الأخلاق عنده غير ثابتة ونسبية. أما الزوجة، فتظل هي المجني عليها، فإما أن تصبر على هذا الظلم، أو أن تحاول

الحصول على الطلاق ولو بالتهديد بالانتحار لمن استطاعت ذلك. ولهذا أو لغيره جعل الله الطلاق حَقًّا لكل من الزوج والزوجة، وليس صحيحًا أن الإسلام يمنع الزوجة من حق الطلاق إلا لأسباب على سبيل الحصر، بل الصحيح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم في عدة قضايا بما يعطي الزوجة الحق في فسخ الزواج لغير ما سبب ظاهر، ومن هذا قضية ثابت بن قيس إذ رفعت زوجته أمرها إلى النبي وأفصحت عن عدم حبها له إذ قالت: «مَا [أَعْتِبُ] عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ».أي لا تحب الزوج ولا تريد أن تكون منافقة وهي مسلمة، أو أن تخل بحقوق الزوجية وهي مسلمة فلم يسألها النبي عن السبب، بل استشارها هل تستطيع أن ترد الصداق لأنها الكارهة فقالت: نعم. فأمر النبي الزوج أن يقبل الصداق ويطلقها والمذهب الذي لا يأخذ بذلك يرد حكمه فلا اجتهاد مع النص. س: لكن الزوج حاليًا يسيء استخدام الطلاق فلماذا ترفض القيود على حق الزوج في الطلاق؟ ج: إنني لم أرفض البحث عن علاج مشروع لمسألة سوء استخدام حق الطلاق، بل عارضت فقط أن يكون القيد أو العلاج هو جعل الطلاق بيد القاضي للسبب السابق ذكره. أما قيود الطلاق أو علاج سوء استخدام الرجل لهذا الحق، فقد أورده النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك: 1 - أنه منع الطلاق عند شدة الغضب. 2 - ومنع الطلاق خلال مدة الحيض. 3 - ومنع الطلاق خلال مدة الطهر المصحوب باتصال. 4 - ومنع الطلاق في حالة التأثر بالمسكرات. ففي هذه الحالات الغالب أن الطلاق جاء وليد ظروف طارئة ولهذا منعه الإسلام، فإذا أصر الزوج على الطلاق وانتظر حتى زالت الأسباب التي منعها الشرع من الطلاق عند وجودها، فلا جدوى من إكراهه على الحياة الزوجية التي أصيبت بالشلل، بل يضع له الإسلام علاجًا آخر من ذلك: 1 - أمر بإقامة المطلقة في بيت الزوجية خلال مدة العدة ليفتح الباب لإلغاء أثر

الطلاق. 2 - جعل المطلقة في حكم الزوجة خلال فترة العدة وأباح معاملتها كزوجة ليسهل إلغاء أثر الطلاق بأي قول أو فعل من أحد الزوجين. 3 - جعل للمطلقة تعويضًا ورد ذلك في قول الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1). وهذا في الحالات التي يكون فيها الطلاق من جهة الزوج. وبهذا وغيره يفتح الباب لإلغاء أثر الطلاق. وإذا لم تستقم الحياة الزوجية، وأصر أحد الزوجين على الفراق، فالمجتمع الإسلامي يكفل المطلقة بل ويضمن لها حياة كريمة. أما إذا لم يراع الزوج هذه القيود وأساء استخدام الطلاق، فالإسلام يخول الحاكم حق وضع عقوبات مالية وبدنية في مثل هذه الحالات. س: فلماذا إذن لم يطبق القضاة هذه المبادئ السامية ولماذا لجأت هذه السيدة إلى الانتحار وما علاج سوء التطبيق؟ ج: أرجو أن يوجه هذا السؤال إلى القضاة وبعدها أستبيح لنفسي أن أناقشهم وألقي المسؤولية على من التزم بحرفية بعض الأقوال أو النصوص التي للفهم فيها مجال. وأرجو أن يوجه هذا السؤال إلى كل مختص ومسؤول بأجهزة الإعلام المختلفة، إذ من الواجب أن تعالج هذه الأجهزة المشاكل الاجتماعية علاجًا لا يقتصر على الموعظة العنكبوتية، بل يمتد إلى السينما والمسرح والمدرسة ويدخل البيت من خلال ما يعرض ويذاع، وأرجو أن يوجه السؤال إلى المتصديات لقضية المرأة، إذ يجب أن تحدد المفاهيم أولاً، قبل أن نقلد الغرب أو الشرق، رغم أن الواضح أن النشاط النسائي بالكويت لم يساير غيره في الدول العربية من حيث الطعن السافر على قوانين الأحوال الشخصية. أما مسألة علاج سوء التطبيق فالتربية والتوجيه العام هما الوقاية، ولا يمنع هذا من وضع عقوبات مختلفة لعلاج الحالات الشاذة، أما موقف هذه المرأة فهي تتبع مذهبًا آخر!. س: لماذا أباح الله للزوج ضرب زوجته إذن؟ ج: لقد فهم البعض هذه المسألة على غير طبيعتها في الإسلام فقول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬2). ¬

_ (¬1) [البقرة: 241]. (¬2) [النساء: 34].

تحديد موقف العلمانيين والقوميين والإسلاميين

جعل الضرب العلاج الأخير لحالة خاصة هي النشوز عند فئة خاصة من النساء، وهن من كانت هذه هي طباعهن وفي هذا يقول النبي: «أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ العَبْدَ؟». وقد نهى النبي عن عادة ضرب النساء التي كانت في الجاهلية. واشتكى الرجال من أن الزوجات قد تمردن في النشوز أي في الاستعلاء، وطلبوا أن يسمح لهم بالضرب كعلاج قال: «لَنْ يُضْرَبَ خِيَارُكُمْ». وأخيرًا كان آخر العهد هو دستور حجة الوداع إذ قال النبي: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلَا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ». ففي الدستور قد أوضح الحالات التي يباح فيها الضرب، وهي التلبس بالفاحشة، أو إدخال الزوجة للغير في بيت الزوجية رغم كراهية الزوج لذلك، ولا شك أن الضرب في مثل هذه الحالات أشرف للزوجة من تطليقها بهذه الأسباب، ومع هذا فإن الضرب ليس مندوبًا إليه بل هو علاج من بين وسائل أخرى للعلاج (¬1). تَحْدِيدُ مَوْقِفِ العِلْمَانِيِّينَ وَالقَوْمِيِّينَ وَالإِسْلاَمِيِّينَ: وإذ أشكر الأستاذ الدكتور / عصمت سيف الدولة على الموضوعية والدقة العلمية التي كانت سمات دراسته التي نشرت في " الوطن " عن العروبة والإسلام أود أن يقبل عتابًا لائقًا بمكانته ودراسته القيمة، وأود أن يتعمق دعاة القومية العلمانية وكذا دعاة الإسلام في فهم هذه الدراسة فقد أظهرت ما يأتي: أولاً: أن كل من يؤمن بفكرة أو عقيدة فهو كافر بما يخالفها، وما يصدق على النظم غير الإسلامية يصدق على الإسلام، فيكفي لقيام النظام الإسلامي أن تقبله الأغلبية وأن عدم قبول الأقلية لهذا النظام يلزمها برأي الأغلبية حتى يقتنع الناس برأي الأقلية إذ يبقى عليهم إقناع الناس برأيهم للحصول على أغلبية بما يرونه. وأنه لا توجد صعوبة في معرفة متى يكون النظام إسلاميًا، وقد يسيئ البعض فهم الإسلام فيعتبر أن رأيه أو مذهبه هو الشريعة الإسلامية، ويكاد أن يفرضه بالقوة، مع أن كل الآراء أو المذاهب التي يشملها تعبير ¬

_ (¬1) جريدة " السياسة " في 4/ 6 / 1974.

الشريعة الإسلامية بذاتها فليس أصحابها رسلاً بعد الرسول، أي أنها إسلامية بمقدار ما تستند إلى القرآن والسنة النبوية، وبالتالي فما يعبر عليه البعض من تكفير الرأي المخالف إنما يجعلون أنفسهم أحبارًا، والقاعدة أنه لا إنكار في الأمور الخلافية. ثانيًا: كشف عن أن نظام فصل الدين عن الدولة - أي العلمانية - ليست نزعة خارج الإنجيل أو موقفًا منكرًا له بل هي ركن من أركان الديانة في أوروبا، ولا كذلك في الإسلام، وسجل انحراف من يقول بخلاف ذلك، فمن الغريب أنهم ما قالوا مقولتهم عن جهل بل عن عمد وتبعية. كما أوضح أن مبدأ الفصل بين الدين والدولة أساسه تحريم تدخل الدولة في شؤون الدين، لكن لما قويت شوكة الدولة في القرن العشرين طبقت المبدأ على الوجه الذي يتفق مع موازين القوة الجديدة، فحرمت على الكنيسة أن تتدخل في شؤون الدولة. (مقال 25/ 12 / 1985). ثالثًا: أوضح أن العلمانية في مجتمع من المسلمين، هي أن نستبدل بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام شرائع وقواعد وآداب وضعية. (11/ 1 / 1986). وأن الاحتلال الأجنبي ارتهن مصر أرضًا وأذلها شعبًا، وهم يبذرون فيها بذور العلمانية ويستنبتون من أبنائها علمانيين، لأن من المحال مخادعة كل الناس كل الوقت فكان لا بد لكي يقبل الناس نظامهم، من إقناعهم بأن الإسلام دين للهِ وليس نظام للحياة في الوطن، وذلك عن طريق دعوة فكرية (العلمانية) يقوم بها دعاة من العرب المسلمين. رابعًا: أوضح أن العلمانية التي جعلت مصدر مشروعية أي نظام، هو قبول أغلبية الناس له، وفدت إلينا فاستبدت بنا شعبًا وأرضًا، وفرضت علينا نظامها فرضًا، وخلقت الازدواج في السلطة فنقضت مبادئها، لأنها ليست مع الدين أو ضده بل هي بداية نظام فردي ربوي (6/ 1 / 1986). وضرب أمثلة لنتائج العلمانية بقانون (نابليون) الذي ساد المنطقة العربية، وتغنى به العلمانيون ورجال القانون الذين تربوا على أساس من هذه العلمانية، وأوضح أن هذا القانون يتعارض مع الإسلام في أمور منها: 1 - إن القانون يعرف الحق في حالة السكون كالحق في الحرية وفي المساواة، أي دون أن يتوفر لصاحبها مضمون هذا الحق، والإسلام يعرف الحق في حالة الحركة كمضمون عيني يمارسه صاحبه فعلاً فيضع يده عليه ويتبعه. 2 - القانون يطلق ملكية الأرض بغير حدود، والإسلام يضع قيودًا لصالح المجتمع. 3 - والقانون يطلق حرية استعمال الحقوق بغير قيود حتى لو أتلف الشيء وحرم المجتمع

منه، والإسلام يجعل استعمال الحق محدودًا بمصالح المجتمع. 4 - القانون سالف الذكر يجعل تعويض الضرر منوطًا بالفاعل المباشر، والإسلام يجعل هذا التعويض للفاعل المباشر والفاعل غير المباشر أي المتسبب في الضرر. 5 - القانون لا يحمي المغفلين والنظام الإسلامي يحمي ذي الغفلة والمغبون أو ضحية الغش والتدليس. 6 - القانون لا يحرم الربا والزنا، والإسلام يحرم ذلك تحريمًا قطعيًا كما حرمته كل الأديان. فهل آن الأوان لأتباع العلمانية، من العرب أَسَرُّوا أَوْ جَهَرُوا بالتبعية للشرق أو الغرب أن يكفوا عن خداع الشباب بهذه الفلسفات الخاطئة الكاذبة، والتي تزعم أن الحكم الإسلامي يردنا إلى نظام الحكومة الإلهية في أوروبا، وهو ما كان يردده الدكتور وحيد رأفت والدكتور خلف الله وتلاميذهما هنا وهناك. خامسًا: أوضح أن الإسلام لا يتفق مع العلمانية في أكثر من وجه، ولهذا فإنه طالما أن أغلب الشعب العربي مسلمون فسبيل خديعتهم بالعلمانية هو الإبقاء على الإسلام كدين للهِ واستبعاده كنظام للحياة، لتخلو الحياة العربية لنظام علماني لا يتفق مع الإسلام نظامًا، وهذا هو النفاق طبقًا لمعايير الصدق والكذب في مخاطبة شعب عربي مسلم. سادسًا: كشف أن وحدة الانتماء إلى الإسلام لا تلغي الانتماء القومي، وأن تعدد الانتماء القومي لا يناقض وحدة الانتماء إلى الدين الإسلامي. وأوضح أن الحضارة العربية حضارة إسلامية، حسبما يكشفه الواقع من الحياة العامة للعرب مسلمين وغير مسلمين فمعيار الحكم على الأشياء عند الجميع يتم بمقياس الإسلام كتحريم الكذب والغش والظلم والفواحش .. وأكد أنه لا شك أن الشعب العربي إذا تحققت وحدته شعبًا ووطنًا ليقيم دولته فلن يقبل إلا الإسلام، لأن الأمة العربية هي أمة الإسلام، والحضارة العربية هي حضارة الإسلام وبهذا المنطق فإن الدكتور سيف الدولة قد كشف النقاب عن عمالة وتبعية المثقفين العرب الذين يستترون بالعلم و (مركز دراسات الوحدة العربية)، فزعموا أن من مقومات القومية العربية التمسك بالعلمانية لأنها تمنح العرب حرية وانطلاقًا لتحقيق الصالح العام، وهذه مقولة الدكتور محمد خلف الله، في كتاب " الإسلام والقومية العربية ": ص 55. وفي نفس المرجع نسب إلى الدكتور محمد عمارة أن المصلحة هي المعيار، وهي تقوم على النص ولو كان قرآنًا قطعي الثبوت وقطعي الدلالة: ص 554، وذلك على الرغم من أنه في موضع آخر يقول: أراد أحد آباء الكنيسة القبطية وضع قانون مدني،

عتاب أخوي فيما لا يقبل الخلاف وبدعة تعطيل سنة الآحاد

فوضع كتابًا سماه " المجموع الصفوي " نقله عن فقه الشافعي، وهو يطبق حاليًا في أثيوبيا، وهذا يعني أن الفقه الإسلامي هو التراث القانوني للأمة العربية على اختلاف الديانات: ص 554 (¬1). عِتَابٌ أَخَوِيٌّ فِيمَا لاَ يَقْبَلُ الخِلاَفَ وَبِدْعَةُ تَعْطِيلِ سُنَّةِ الآحَادِ: إنه على الرغم من الدقة العلمية والتعمق في البحث اللذين اتصفت بهما الدراسة التي نشرت للأستاذ الدكتور عصمت سيف الدولة عن العروبة والإسلام وهو ما أشرت إليه من قبل داعيًا القوميين والعلمانيين العرب وكذا الدعاة من المسلمين إلى الاهتمام بهذه الدراسة. على الرغم من ذلك فإنه قد اكتنف بعض عباراتها غموض وإبهام يحتاج إلى بيان يزيل هذه الشبهات التي لا يقبلها الكاتب بحال من الأحوال، لأنها تؤدي إلى استبعاد السنة النبوية وهذا لا يقبله أي مسلم كما توجد عبارات أخرى تقبل الخلاف والأخذ والرد مثل: أ - نفي أن تكون دولة الخلافة في عصر الخلفاء الراشدين دولة إسلامية وقال: إنها تحمل خصائض النظم الإمبراطورية المعاصرة لها وهي عدم ثبات حدود الأرض والخليط من الشعوب والقتال المستمر والقيادة المركزية الموحدة. وكان لزامًا عليه أن يذكر ما انفردت به دولة الخلافة في هذا الشأن، من ذلك أنها لا تعيش على أشلاء الشعوب الأخرى المغلوبة كما هي سمات النظم الإمبراطورية، كما لا تستولي على موارد هذه الشعوب وترفض إقامة معسكرات داخل عواصم هذه الشعوب لتختار ما ترغب من الديانات، كما أن دولة الخلافة تتميز أنها ما قاتلت من أجل الغنائم، إنما قاتلت من أجل المستضعفين، وهو ما عبر عنه ربعي بن عامر في مواجهة رستم قائد الفرس حيث أعلنه برسالة المسلمين في كلمات هي: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ ابْتَعَثَنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ العِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلاَمِ». ب - التمس عذرًا للعرب الذين قاموا ضد الخلافة العثمانية، لأنه في نظره حيث بدأ الأتراك الهجوم على القومية العربية بدأ العرب الدفاع، ومع هذا فإن العرب في مؤتمر باريس لم يطالبوا بالاستقلال عن تركيا: (مقال 14/ 12 / 1985). ونرى أن اتجاه " جمعية الاتحاد والترقي " إلى إحياء القومية التركية، دفع زعماء العرب بالتحالف مع بريطانيا لحرب الخلافة ¬

_ (¬1) نشر بـ " الوطن " في 7/ 3 / 1986.

• ما لا يقبل الخلاف

العثمانية نظير وعد من (بلفور) للعرب باستقلال بلادهم عن تركيا، سواءً علم زعماء العرب بوعد بريطانيا لليهود أم جهلوه والسبيل الوحيد أو رد الفعل هو العمل على إعادة النظام الإسلامي للحكم فهو الضمان الوحيد لعلاج هذه المعضلات. فالدعوة إلى تنازع القوميات من عربية وطورانية وفرعونية وفينيقية وبربرية ليس علاجًا، والواقع قد أثبت ذلك فضعفت دولة الخلافة بظهور التنازع سالف الذكر واقتسمتها بريطانيا وفرنسا والأولى أن نبحث عن الحل الإسلامي لهذه الظاهرة. • مَا لَا يَقْبَلُ الخِلاَفَ: (*) أما العبارات التي لو فهمت على ظاهرها لكانت مرفوضة من المسلمين لأنها أمر لا يقبل الخلاف وهو حجية السنة، فهي قوله: 1 - «إن شهادة أن لا إله إلا الله تعني على سبيل القطع أنه ليس مقدسًا إلا كلام الله وليس ملزمًا للمسلمين كافة إلا أوامره ونواهيه، كل ما عدا ذلك ليس مقدسًا وغير ملزم للمسلمين إلا إذا حولوه إلى نظام ارتضوه فالتزموه» (18/ 12 / 1985). فهذه العبارات ظاهرها يؤدي إلى القول أن السنة غير ملزمة فهي على سبيل القطع ليست كلام الله، ولكن الله أمرنا أن نلتزم بما جاء فيها من أمر أو نهي ولا يجادل في ذلك أي مسلم، فهي وحي من الله ولكن الكلام والألفاظ من النبي. 2 - «كل قاعدة تستند إلى حديث غير متواتر أو تجيء عن طريق تأويل حديث متواتر هي قاعدة وضعية وليست بيانًا فهي ليست من قواعد النظام العام الإسلامي». فهذه العبارات تؤدي إلى القول أن سنة الآحاد وضعية غير ملزمة، وهذا ما لا يقبله مسلم، فلا يجادل في قوة إلزام سنة الآحاد إلا من يجادل في قوة إلزام السنة كلها، وهذا لا يعد من المسلمين. 3 - «كل قاعدة جاءت بها آيات القرآن المحكمة - أي القطعية الدلالة - أو حديث متواتر قطعي الدلالة، هي قاعدة ملزمة ولا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها». وكل ما عدا هذا مما يقال أنه من مصادر الشريعة الإسلامية هو من عند البشر، فهو موضوع وكل ما جاء من القواعد بناءً عليه جاء بها البشر فهي موضوعة، والاستنباط موضوع، والقياس موضوع، والاستحسان موضوع، والاستصحاب موضوع والإجماع موضوع. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: انظر: " السنة المفترى عليها " للمستشار سالم البهنساوي: ص 341 وما بعدها، الطبعة الثالثة: 1409 هـ - 1989 م، دار الوفاء - القاهرة / دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع - الكويت.

فهذه العبارات بهذا العموم تفيد: أ - أن السنة النبوية لا تلزم المسلم إلا إذا كانت متواترة وقطعية الدلالة مَعًا. ب - أن الأحكام المستمدة من آيات قرآنية غير محكمة، أحكام وضعية، أي من عند البشر، ولا تلزم المسلم. ويرى أن المسلم لا يلتزم بما كان مصدره سنة الآحاد أو الآيات القرآنية ظنية الدلالة إلا إذا قبل ذلك وفي حدود ما يقبله. وهذا يؤدي إلى عدم الالتزام بما كان مصدره سنة الآحاد مثل: 1 - المحرمات من الرضاع والنسب: فالقرآن الكريم نص على المحرمات بسبب الرضاع في قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1). والحديث النبوي فصل ذلك فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فزاد بذلك محرمات أخريات مثل: أم زوج المرضعة، وبنات أبناء المرضعة، وبنات بناتها، والقرآن الكريم حَرَّمَ الجمع بين الأختين في قول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2). والسنة النبوية أخذت في تفصيل هذا التحريم، روى " البخاري " و" مسلم ": أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»، ولو أخذنا بعموم هذه الأقوال للمفكر لكانت هذه المحرمات مرهونة بقبول المسلم، لا لأنها في نظره من وضع الفقهاء الذين قالوا بها. 2 - العبادات: وبهذه القاعدة البشرية فأحكام الطهارة والنجاسات والصلاة والصوم والزكاة والحج مما كان مصدره أحاديث آحاد كل ذلك وهو الكثرة الغالبة من الأحكام يصبح من صنع البشر ولا يلزم المسلم إلا إذا قبله، لأنها ليست قطعية الثبوت عنده. 3 - المعاملات: وبهذه القاعدة البشرية تكون أحكام المعاملات من بيع وشراء وإجارة وأحكام الزواج والطلاق وَالمُحَرَّمُ من الطعام والشراب يصبح كل ذلك من وضع البشر لو كان مصدره سنة الآحاد. ¬

_ (¬1) و (¬2) [النساء: 23].

• حكم القرآن الكريم

4 - الحدود والعقوبات: وبهذه القاعدة البشرية يكون الرجم حكمًا بشريًا، وكذا تحديد مكان قطع اليد في السرقة، وشروط المال المسروق وصفات السارق، كما تكون حكمًا بشريًا سائر العقوبات التي كان مصدر حكمها سنة الآحاد. • حُكْمُ القُرْآنِ الكَرِيمِ: إن الله تعالى قد أمرنا بطاعة ما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو نهى عنه، ولم يخص السنة المتواترة بهذا الإلزام وذلك لعموم قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقد جعل الله طاعة الرسول في ذلك طاعة لله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ومهما كانت أقوال الفقهاء في تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، فإن ذلك لا يؤثر على لزوم العمل، فالفقهاء مجمعون على أنه إذا صح الحديث ولم يصح ما ينسخه بالفرض على المسلمين الأخذ به، وأن سنة الآحاد يقينية في مجملها. • المُحْكَمُ وَغَيْرُهُ فِي القُرْآنِ: لقد جعل الإلزام بالأحكام الشرعية قاصرًا على آيات القرآن الكريم المحكمة والأحاديث المتواترة إذا كانت هي الأخرى قطعية الدلالة، وقطع أن ما عدا هذا مما يقال أنه من مصادر الشريعة الإسلامية هو من عند البشر. وهذا المبحث من المباحث اللغوية فمن الألفاظ ما هو واضح في دلالته على المراد منه، مثل ألفاظ الأعداد فلا تحتمل إلا دلالة واحدة. فإذا كان النص لا يحتمل التأويل ولا يقبل حكمه النسخ سمي بالمحكم. أما إذا كان يحتمل التأويل مثل لفظ «القَرْءِ»، حيث يطلق على الطهر والحيض، ولفظ العين حيث يطلق على أداة الإبصار والتبر والجاسوس. فمثل هذا اللفظ لا يدل على المراد منه بنفس الكلمة بل يفهم من دلالة خارجة. إن هذ النص يدل على أكثر من معنى ولكن هذا لا يعني أن الحكم المستفاد منه قول بشري غير ملزم، حيث توجد قواعد لذلك نعرفها جميعًا ومنها: 1 - أن الأصل في النص الظاهر أنه يدل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على

أمر خارجي، ولكن المراد منه ليس هو المقصود من السياق، ومن ثم يحتمل التأويل من هذا الوجه كقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ...} (¬1). فالظاهر هو إباحة زواج ما حل من النساء، ولكن هذا المعنى غير مقصود أصالة [من] سياق الآية ولكن المقصود أصالة هو الزواج بواحدة وإباحة تعدد الزوجات إلى أربع عند القدرة وتحقيق العدالة. 2 - وقد يدل اللفظ على ما سيق له مما يزيده وضوحًا على الظاهر، مثل قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. فالنص في اللغة هو توضيح الشيء وتبيينه، لهذا إذا تعارض الظاهر مع النص يقدم النص ويرجح على الظاهر، ومن ثم يرجح الخاص على العام عند التعارض، لأن الخاص هو المقصود أصالة بالحكم. 3 - وقد يكون اللفظ مفسرًا وهو ما دل بنفسه على معناه المفصل بحيث لا يبقى معه احتمال، كقول الله في عقوبة القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬2)، لهذا إذا تعارض النص مع المفسر يرجح المفسر. 4 - ويكون اللفظ خفيًا أي تدل صفته على المراد منه بوضوح، ولكن في تطبيقه يوجد خفاء في بعض أفراده ويزول هذا الخفاء عن طريق المباحث اللغوية والقرائن، مثل لفظ «السَّارِقِ» فهو واضح الدلالة ولكن يعرض الخفاء لبعض من يشملهم هذا اللفظ مثل النشال الذي يسرق الجيوب خفية والنباش الذي يسق الكفن من القبر. فتوصل العلماء بدخول النشال في عداد السارقين في حكم القرآن الكريم، لأن اسمه دل على نوع خاص من السرقة ولا يمنع فهو يسرق في غفلة من الأعين الساهرة، والآخر يسرق في غفلة من الأعين النائمة، أما النباش فلا يدخل في حد السرقة، لأنه يسرق ما ليس له صاحب. 5 - والمجمل: لفظ لا يدل بصيغته على المراد منه ولا توجد قرائن تبينه، والسنة النبوية جاءت لتبين ذلك فلا يقال: إن الحكم المستخلص من هذا اللفظ من وضع البشر. فقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3)، لفظ الصدقة فيه مجمل، ولكن دلت القرائن على أنه قد أريد به زكاة المال حسبما فصلتها السنة النبوية، فوجد العمل بذلك، ولا يقال إن هذا التفصيل حكم بشري غير ملزم. وكذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) [النساء: 3]. (¬2) [النور: 4]. (¬3) [التوبة: 103].

• بين القرآن والسنة

آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). الإجمال هنا في لفظ «أَخْرَجْنَا» فلم يبين المقدار، وجاءت السنة النبوية وفصلت ذلك في أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ [بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ]» (فيما سقي بدلو أو راشية نصف العشر) (*)، كما فصل الزكاة ومقاديرها وكل هذا بوحي من الله. 6 - أما اللفظ المشترك مثل «القَرْءِ» و «عَيْنٍ» لا يقال أنه يشمل جميع المعاني، فتشمل العين حاسة الرؤية وعين الماء وعين الركبة وعين الجاسوس وعين الشمس بل يصبح هذا اللفظ المشترك موقوفًا على بيان المعنى المقصود بالقرائن أو سياق الكلام. • بَيْنَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: إن آيات القرآن تشتمل على ألفاظ تحتاج إلى بيان، وإن بيانها يجيء في السنة وأكثرها آحاد، وكل ما ثبت من الأحكام عن طريق السنة النبوية المتواتر منها، والآحاد هو وحي من الله ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقال إن سنة الآحاد غير ثابتة، وبالتالي فالحكم المأخوذ منها وضع بشري، أو أن يقال إن قطعي الدلالة من المتواتر هو الملزم وما عداه غير ملزم، فلا يقبل من أحد أن يقول بوجوب الصلاة على الحائض، بدعوى أن رفع هذا التكليف جاء عن طريق السنة النبوية، التي أمرت الحائض بقضاء الصوم ولم تأمرها بقضاء الصلاة. فقد جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر الآحاد حجة في أمور الدين فأرسل آحادًا يبلغون أحكام الإسلام إلى الآخرين (¬2) (**). فالصحابة: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري، قد أرسلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلاًّ منهم منفردًا إلى إقليم من أقاليم اليمن، لينقل إلى المسلمين أمور الدين وأحكامه، كما أرسل عَلِيًّا وحده إلى المسلمين في موسم الحج ليبلغهم الأحكام الواردة في سورة براءة وفيها ما يتعلق بالكفر والإيمان، كما أرسل آحادًا غير هؤلاء إلى قومهم لتبليغ أحكام الإسلام. فلو كان خبر الواحد الثقة العدل لا يصلح في هذا ولا يعد ثابتًا أو يقينيًا ما فعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولنزل القرآن الكريم بذلك كما نزل في أمور أخرى منها عدم الاعتداد بأقل من أربعة شهود لإثبات جريمة الفاحشة. ¬

_ (¬1) [البقرة: 267]. (¬2) تفصيلة في كتاب " السنة المفترى عليها ". [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) لم يرد نص حديث بهذا اللفظ، وما وضعته ما بين (....) تفسير من المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - لنص الحديث الذي أثبته ما بين [....] كما ورد في كتب الحديث. (انظر: " السنة المفترى عليها " للمؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، بنسق المكتبة الشاملة: ص 344). (**) " السنة المفترى عليها ": ص 345.

• الإجماع والمصادر المختلف فيها

ولهذا قال الإمام الشافعي: «اِجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَديثًا عَلَى تَثْبِيتِ خَبَرَ الوَاحِدِ وَالاِنْتِهاءِ إِلَيْهِ» (¬1). والألفاظ المجملة في القرآن والسنة المتواترة تفصلها سنة الآحاد ولا يمكن أن يقال إنها ليست وحيًا من الله تعالى، فقد حدد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضع قطع يد السارق، قطع اليد من الرسغين ولم يقطعهما من الكتف أو مفصل الذراع، فلا يجوز لأحد أن ينسب هذا إلى وضع البشر، ومن هنا قال الفقهاء: إن هذا حكم بالقرآن، وكذلك الحال في الصلوات الخمس والصيام وسائر الأحكام التفصيلية كلها دل عليها القرآن الكريم (¬2). قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬3). • الإِجْمَاعُ وَالمَصَادِرُ المُخْتَلَفُ فِيهَا: لقد ذكر الدكتور عصمت سيف الدولة أن الإجماع والقياس والاستحسان وكل ما جاءت بها من القواعد هي حكم بشري ينسب إلى من اجتهد فوضعه، وهذه المسألة كانت تحتاج إلى تفصيل وإلى تفرقة بين أنواع منها: 1 - إذا أجمع صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حكم شرعي ورد أصله في القرآن مجملاً، وفي هذا قال الفقهاء: «كُلُّ مَا وُجِدَ فِي القُرْآنِ مِنْ حُكْمٍ مَنُوطٍ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ (السُّنَّةُ بِهِ) (فَالوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ) مَأْخُوذٌ مِنْ القُرْآنِ وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الجِمَاعَ وَاللَّمْسَ بِاليَدِ ثُمَّ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ الجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ» فَالوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} (¬4)». هذا والأمر بالتيمم للجنب. رواه النسائي في كتاب الطهارة - باب 92: 1/ 170؛ و" عون المعبود " (**)، كتاب الطهارة، باب 123، 1/ 528. ويدل أيضًا أن المراد باللمس الجماع وليس اللمس باليد، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ». فالإجماع هنا ليس اجتهادًا بشريًا. ¬

_ (¬1) " الرسالة ": ص 106. (¬2) " [الفصول] في الأصول " (*)، للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق الدكتور عجيل النشمي: ص 283، 284. (¬3) [النجم: 3، 4]. (¬4) [المائدة: 6]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) عنوان الكتاب: " الفصول في الأصول ". تأليف: أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370 هـ)، تحقيق: الدكتور عجيل جاسم النشمي، الطبعة الثانية: 1414 هـ - 1994 م، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - دولة الكويت، (4 مجلدات). (**) في الكتاب المطبوع خطأ في الطباعة: («والترمذي في " عون المعبود "» نقلاً عن " الفصول في الأصول: هامش ص 283 حيث قال الدكتور النشمي: وعون المعبود، كتاب الطهارة ... ولم يذكر «والترمذي في " عون المعبود "»). والحديث في " سنن أبي داود "، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، رقم الحديث 321، 1/ 164، الطبعة الأولى: 1418هـ - 1997 م، دار ابن حزم - بيروت.

• القياس والاجتهاد البشري

2 - وقد أورد الجصاص أمثلة أخرى عن الأخذ بالإجماع على حكم ورد بالقرآن غير معين المراد منه، كقول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬1). فقال: «اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ القَوَدَ حُكْمٌ لِبَعْضِ المَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَالوَاجِبُ بِأَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ القَوَدَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ». ويسمى قودًا لأن الجاني يقاد إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه أو تصالحوا على شيء أو عفوا عنه. 3 - كذلك قول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). حدد مراد الله فيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ» (¬3). والحكم أن ما سقي من غير جهد من الإنسان فزكاته هي العشر، وغيره الزكاة فيه هي نصف العشر والإجماع على ذلك. هذا والقول بإجماع الصحابة على تخصيص الآيات القرآنية لا يراد به أن إجماعهم في ذاته هو الحجة ولو خالف القرآن، فالدليل المخصص هو سند الإجماع حسبما ورد في الأمثلة السابقة. • القِيَاسُ وَالاِجْتِهَادُ البَشَرِيُّ: ليس كل حكم مصدره القياس هو من اجتهاد البشر ووضعهم بالتالي يكون غير مفروض، فتوجد أحكام من هذا النوع التي يكون مصدرها المصالح المرسلة وتسمى المناسب المرسل، لأن علة الحكم فيها لم يرتب الشارع حكمًا بموجبها بل هي مرسلة لا يوجد دليل باعتبارها أو بإلغائها، مثل وضع الخراج على الأراضي الزراعية. ولكن الأحكام التي يكون مصدرها القياس الجلي وهو الذي يدل فيه النص على علته فلا تحتاج إلى اجتهاد بشري مثل تحريم الخمر الوارد في القرآن الكريم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» (¬4). بهذا يأخذ حكم الخمر وهو التحريم لكل مسكر من السائل أو الجامد، ولا يمكن أن يقال إن النبيذ المسكر والذي لا يسمى خمرًا قد حرم باجتهاد بشري ويكون غير ملزم إلا إذا قبله الناس. ¬

_ (¬1) [الإسراء: 33]. (¬2) [الأنعام: 141]. (¬3) رواه البخاري والجماعة إلا مسلم. (¬4) رواه مسلم.

حول الأخطاء الإصلاحية

وبعد، فهذا التعقيب فيما ورد من حكم تعطيل سنة الآحاد لا يقصد به الدكتور سيف الدولة، فلم يتعمد ذلك. ولكن وجب تحديد المفاهيم حتى لا يستغل المرجفون عموم العبارات (¬1). حَوْلَ الأَخْطَاءِ الإِصْلاَحِيَّةِ: لقد نشر مقال لفضيلة الشيخ أحمد حمائي رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر (¬2) تضمن أنني لم أكن محققًا ولا مدققًا أو متحريًا الحق فيما نسبته إلى الشيخ محمد عبده ومدرسته بشأن رد المعجزات النبوية الواردة عن طريق الأحاديث النبوية التي دونت بطريق الآحاد. ونسب إلى المقال أيضًا الإفتاء بخروج هؤلاء على الإسلام وكفرهم به، وهذه الفتوى تنسحب في نظره على صحابة أبرار قالوا: بأن الإسراء بالروح فقط ومنهم حذيفة ومعاوية وعائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. الاِتِّهَامُ المُوَجَّهُ إِلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ وَمَدْرَسَتِهِ: لقد نسب إلينا المقال القول بأن الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية ردت المعجزات النبوية وأولت النصوص الشرعية تبعًا للهوى ومسايرة للغرب. ثم دافع عنه لأنه «ليس في طائفتهم من ينكر معجزة أو يرده، مما ورد في القرآن أو جاءت به الأحاديث الصحيحة تواترًا أو آحادًا، وليس فيهم من يؤول المعجزات الواردة في القرآن بنص صريح بل فيهم من يعتبر ذلك ردة وكفرًا». ولقد أيد وجهة نظره بأقوال الشيخ محمد، رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده. ونود أن نؤكد أنه لم يرد في مقالي أن تأويلهم النصوص كان تبعًا للهوى، بل قلت: إنهم تأثروا في الغرب فسايروه في إنكار الإسراء بالجسد ظنًا منهم أنهم يدافعون عن الإسلام. وكنت أود أن ينقل لنا الأستاذ أقوالاً للشيخ محمد عبده تفيد أنه لا يرد المعجزات النبوية الواردة بطريق أحاديث الآحاد، لأن أقوال الشيخ رشيد رضا تعبر عن وجهة نظر شيخه، اللهم إن كان شيخه لم يصرح بخلافها، فما بالنا والشيخ محمد عبده قد تجاوز الحدود العلمية في تأويل المعجزات، وقد نقلنا هذا التأويل عنه وكان الأولى أن يناقش ذلك من خالفنا ليتضح هل رجمناه بالغيب عندما نسبنا له ذلك أم أن هذه أقواله. ¬

_ (¬1) نشر بـ " الوطن " في 14/ 3 / 1986 م. (¬2) مجلة " المجتمع " عدد 9 رمضان 1397 هـ (23/ 8 / 1977 م) والأعداد التالية له.

تأويل صريح القرآن

لقد جاء في مقالي ما نصه: «وقد بدأ أصحاب هذا التيار برد المعجزات التي لم ينص عليها القرآن الكريم والسنة المتواترة، ولكن النتيجة الطبيعية لهذه البدعة هي أن هؤلاء العلماء أصبحوا يؤولون المعجزات الواردة في القرآن الكريم بنص صريح. فزعموا أن الإسراء كان بالروح فقط، وزعموا أن هزيمة أصحاب الفيل كانت عن طريق الرعب والخوف مع أن الله تعالى يقول: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬1) ولكن الإصلاح الديني الذي أرادوه هو الزعم بأن هذه الطيور هي مرض الجدري والحصبة الذي جعل الجيش يولي هاربًا». وهذه تأويلات الشيخ محمد عبده كما نقلت عنه في " التفسير " وفي " الأعمال الكاملة " وكتابه " رسالة التوحيد " حيث قال: «لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ حَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ الآحَادِ، دَلِيلاَ عَلَى العَقِيدَةِ مَهْمَا قَوِيَ سَنَدُهُ». تَأْوِيلُ صَرِيحِ القُرْآنِ: والشيخ محمد عبده أَوَّلَ الملائكة والجن والشياطين، فقال عن الملائكة: «هِيَ نَوَازِعُ الخَيْرِ فِي أَنْفُسِنَا، وَعَنْ الشَّيَاطِينِ هِيَ نَوَازِعُ الشَّرِّ». (المرجع السابق: ج 4 ص 143). والشيخ محمد عبده لا يجهل ما رواه الإمام مسلم عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - (في تفسر سورة الجن): {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. فقد جاء في الحديث النبوي: «وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ. فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ. قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ. فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا. فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا». فالحديث صريح في أن الشياطين مخلوقات تتحرك وليست نوازع في النفس الإنسانية. والقرآن الكريم فيه آيات كثيرة تدل على أن الملائكة مخلوقات وكذا الشياطين، وأن لها حياة ومملكة ووظائف نكتفي هنا بقول الله في وصف إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬2). وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ¬

_ (¬1) [الفيل: 3 - 5]. (¬2) [الأعراف: 27].

تحقيق أهداف المستشرقين

أَبَى} (¬1). وقال تعالى عن وظائف الملائكة: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} (¬2). ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (¬3). كما يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬4). كما يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (¬5). فهل هذه نوازع في النفس أم مخلوقات لها رسالة تتحرك لتحقيقها؟ تَحْقِيقُ أَهْدَافِ المُسْتَشْرِقِينَ: إن الذين يؤولون نصوص القرآن والسنة يخدمون أهداف المستشرقين، مع أنهم ما فعلوا ذلك إلا رَدًّا على هؤلاء الأعداء ودفاعًا عن الدين فيما يفهمون، فالمستشرقون تواتروا على ذلك وحسبنا هنا ما كتبه المستشرق (درمنجم) الذي نقل عن الدكتور (هيكل) في كتابه " حياة محمد "، فقد زعم هذا المستشرق أن أحاديث الإسراء والمعراج أساطير لم يرجح منها علماء الحديث رواية واحدة يعتمد عليها. ثم يقول الدكتور (هيكل): «وأحسبك لو سألت الذين يقولون الإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبًا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في الجهات النائية»، ثم يأتي الشيخ محمد مصطفى المراغي - وهو من المدرسة الإصلاحية - ويكتب مقدمة كتاب " حياة محمد " فيقول (*): «وعلم استحضار الأرواح فسر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها وفهم ما تستطيعه من السرعة في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا بتقريب قصة الإسراء فأتى بشيء طريف». وإذا كان هذا اتجاه المستشرقين - وهؤلاء ظهروا حديثًا - فإن التبشير والمبشرين لم يكن معاصرًا لحركة المستشرقين بل يمتد إلى عصور الإسلام بطرق مختلفة، ومنها اختلاق أحاديث وروايات ونسبتها إلى بعض الصحابة والتابعين، ولذا لا يجب الاعتماد على كتب السيرة ¬

_ (¬1) [البقرة: 34]. (¬2) [آل عمران: 124]. (¬3) [النساء: 97]. (¬4) [الأنعام: 93]. (¬5) [الأنفال: 50]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر " السنة المفترى عليها " للمستشار سالم البهنساوي: ص 212، 213.

التطاول على الصحابة وتكفير المسلم

والتاريخ إلا إذا تم تحقيق رواياتها كما حدث في كتب السنة النبوية. لهذا أظهر المخطط الصليبي ومفكروه وفلاسفته رضاهم عن اتجاه مدرسة محمد عبده وتشجيعهم لها، من ذلك قول (جِبْ) في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام ": «لسوء الحظ ظل قسم كبير من المسلمين المحافظين ولا سيما في الهند لا يخضعون لهذه الحركات الإصلاحية المهدئة وينظرون إلى الحركة التي تزعمها مدرسة عليكرة بالهند، ومدرسة محمد عبده بمصر نظرة كلها ريبة وسوء ظن لا تقل عن ريبتهم في الثقافة الأوروبية نفسها» والإصلاح الذي ينشده المستشرق (جِبْ) أوضحه في نفس الكتاب إذ قال: «إن مشكلة الإسلام بالقياس إلى الأوروبيين، ليست مشكلة أكاديمية خالصة فحسب فإن لتعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أي تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي ..». التَّطَاوُلُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَتَكْفِيرِ المُسْلِمِ: لقد نسب المقال إلى صاحب هذه السطور أنه أطلق فتواه بخروج أصحاب المدرسة الإصلاحية عن الإسلام وكفرهم به. وبهذه الفتوى هل يصدق أن حذيفة ومعاوية وعائشة قد كفروا: «كما يستفاد من الفتوى، لأنهم قالوا: إن الإسراء كان بالروح فقط كما هو في " تفسير ابن جرير الطبري "». وجوابنا أن القاصي والداني يعلم أن بعض النصوص الشرعية قد ترد بلفظ الكفر أو نفي الإيمان، ولكن تفسر بأنه كفر النعمة أو الكفر المجازي وذلك مثل حديث «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، لأن الله تعالي يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬1). ومثل حديث: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ... مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». فهنا المعنى لا يكون كامل الإيمان أي النفي هنا للكمال. والعبارة التي أخذت علينا هي: إذا ما أخبر النبي أن الله قد أرسل له جبريل فأخذه على البراق حتى وصل إلى بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماوات العُلَى حيث فرض الله عليه الصلوات الخمس، ثم عاد، لا يقبل من مسلم أن يزعم أن هذا كان بالروح فقط. وهذه العبارة لا تؤدي إلى الحكم بكفر أصحاب المدرسة الإصلاحية بل معناه أن ¬______ (¬1) [الحجرات: 9].

المسلم الذي لا يشك في هذه الرواية التي وردت عن النبي لا يقبل منه أن يفسرها بما لا تقبله أساليب اللغة العربية. ولا ندري كيف ينسحب هذا الحكم إن جاز جدلاً، إلى الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -؟ لقد استخلص المقال أن من أنكر المعجزات وزعم أن الإسراء بالروح فقط من أصحاب المدرسة الإصلاحية كان كافرًا، وهذا لم يصدر عني صراحة أو ضمنًا، كما أن الكلام لا يتصل بالصحابة أبدًا، كما لا يؤدي إلى جعل السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - في زمرة المتهمين بتحريف الكلام كما يقول كاتب المقال. (الرد) في هذا استنتاج في غاية الغرابة وأسلوب مرفوض في الدفاع عمن أخطأ من أصحاب المدرسة الإصلاحية، وهذه مسألة لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح حتى لو كانت الروايات عن عائشة وبعض الصحابة صحيحة السند، لأن وصف أصحاب هذه المدرسة بتأويل النصوص كرد فعل لهجوم المستشرقين لا يمكن أبدًا أن يفهم منه أن من قال جدلاً إن الإسراء بالروح في عهد الصحابة يكون قد أَوَّلَ لنفس العلة. أما ما نقله الفخر الرازي من روايات عن حذيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أن الإسراء والمعراج كان رؤيا فقط، وما نقله عن عائشة ومعاوية والحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ليس إلا روايات لابن إسحاق في " السيرة "، وبتمحيصها طبقًا لقواعد علم مصطلح الحديث يتبين أن ابن إسحاق قال: «حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ»، ولا توجد معاصرة بينه وبين من روى عنهم لأنه قد مات في منتصف القرن الثاني الهجري، كما أنه لم يذكر اسم من روى عنهم، فتكون الرواية منقطعة وليست حجة في أي استدلال علمي. والرواية المنقولة عن معاوية أيضًا منقطعة إذ يوجد فارق زمني كبير بين يعقوب بن عقبة شيخ ابن إسحاق الذي روى عنه وبين معاوية المنسوب إلى هذا القول، وهذا الانقطاع يجعل الرواية ساقطة ولا يحتج بها علميًا. وحذيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - نقل عنه ابن كثير في " السيرة ": (ص 60) أنه وعمر وبعض الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يرون أن الإسراء والمعراج كَانَا أولاً رؤيا منامية تدريبًا وتيسيرًا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمهيدًا للرحلة الواقعية في اليقظة وهي رحلة الإسراء والمعراج الواردة في الكتاب والسنة. كما نقل ذلك عن " شرح الشفاء " للعلامة علي القاري: ج 1 ص 405، 407.

المرجع أيضًا " رسالة الإسراء والمعراج " للأستاذ محمد أنس مراد: ص 58، 59. وهذا يؤكد المعجزة فإن الثابت في " الصحيحين البخاري ومسلم " أن أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قالت: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ». وفي الحديث الذي نقله الناقد، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ ...». وهذا يؤكد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسري به بالجسد والروح، وأن عائشة هي التي روت هذا فكيف تروي مرة أخرى أنه بالروح، ولو حدث هذا فالرواية الأصح هي التي تقبل. ومع ضعف سند هذه الروايات فإن الشبهة التي يرون أنها دليل لهم هي قول الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (¬1). وقد أجاب الجمهور على ذلك أنها رؤيا عين، وأخرج ذلك " البخاري " عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - في تفسير هذه الآية. والراجح أنها تتعلق برحلة الإسراء والمعراج كمشاهدة عملية، لأن الفتنة لا مجال لها إذا كانت رؤيا فهذا يحدث لجميع الناس ولا يكذبه أحد. أما ما ورد في بعض أحاديث الإسراء والمعراج من عبارات مثل: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ»، ومثل: «فَاسْتَيْقَظْتُ»، فلا يدل على الرؤية المنامية، لأنه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائمًا فعلاً وجاء جبريل وأيقظه، وآيات سورة الإسراء تقطع بأن الرحلة ليست رؤيا منامية. لما كان ذلك فلا يجوز أن نأخذ هذه الأحداث من كتب التاريخ أو التفسير أو السير، لأنها لم تمحص مثلما محصت الأحاديث النبوية وكتبها، فقد كانت الأمانة تجعل أصحاب هذه الكتب مثل الفخر الرازي، ينقلون في كتبهم كل ما اتصل بعلمهم ولو كانوا يشكون في صحته، ولهذا نجد في هذه الكتب أقوالاً هي إسرائيليات ونسبت إلى بعض الصحابة أمورًا حول خلافهم وتنازعهم على الحكم والدنيا بصورة لا يمكن أن تصدر عن هؤالاء الذين رضي الله عنهم، بل إن بعض هذه الكتب تنقل روايات تنسب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمورًا لا تصدر عن الرعاع، مثل الإسرائيليات المنقولة عن قصة الحب المزعومة بينه وبين السيدة زينب بنت جحش حيث قالوا: إن الحب المزعوم هو سبب طلاقها والقرآن يكذبهم. ¬

_ (¬1) [الإسراء: 60].

فهل يحتج بمثل هذه الروايات لوجودها في الكتب سالفة الذكر أو في بعضها؟ لقد نقل كُتَّابُ التاريخ والسير كل ما سمعوه أو قرأوه وفيه أقوال القصاصين والوضاعين وأهل الأهواء والمذاهب المختلفة، وبالتالي فهذه المصادر تحتاج إلى تحقيق مثل الأحاديث النبوية، لأن الراوي قد نراه مردودًا ومتهمًا في علم مصطلح الحديث بينما نرى روايته في كتب السير والتاريخ هي السائدة (¬1). ¬

_ (¬1) تفصيل ذلك في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار " للمؤلف.

الفصل السادس: الحكومة الدينية بين الإسلام والعلمانية

الفَصْلُ السَّادِسُ: الحُكُومَةُ الدِّينِيَّةُ بَيْنَ الإِسْلاَمِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: • حقيقة الإسلام والعلمانية. • الديمقراطية وغسيل المخ العربي. • الحقيقة الضائعة بين السلطة والعلمانية. • خصائص الدستور الإسلامي. • خصائص الدستور الإسلامي. • مع علمانية الدكتور خلف الله. • القومية والقرآن العصري بين خلف الله وسيف الدولة: • الثيوقراطية بين الإسلام وحكومة رجال الدين. • حول المفهوم الإسلامي للحاكمية.

حقيقة الإسلام والعلمانية

حَقِيقَةُ الإِسْلاَمِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: بتاريخ 18/ 7 / 1986 نشرت " الأهرام " أقوالاً للدكتور فؤاد زكريا، تتعلق بالإسلام والعلمانية ورد فيها أنه لا يوجد تعارض بين الإسلام والعلمانية، فهي كتعبير تعرضت لسوء فهم شديد يسيء إلى سمعتها بإظهارها على أنها نقيض للإسلام، واستدل بأن مصر في الأربعينات كانت تسير في طريق علماني، وليس معنى ذلك أنه لم يكن زعماء مصر يؤدون فرائض الإسلام، وأن أوروبا اتجهت إلى العلمانية كرد فعل على التفكير الذي يتمسك بأقوال أرسطو ورجال الكنيسة، بينما كانت أوروبا تسعى للتوسع والسيطرة والتصنيع والعلوم وكان العائق هو التمسك بأفكار أرسطو والكنيسة، فلا يقال إن هذا التفكير الأوروبي ليس عندنا فلا داعي إذًا للعلمانية. لما كان ذلك وكانت هذه القضية تتردد بين الحين والآخر في كثير من المجتمعات العربية فتناولتها أقلام بهذا المفهوم الذي طرحه الدكتور (فؤاد زكريا) في ندوة نقابة الأطباء في مصر من ذلك ما نشر في صحيفة " الوطن " بالكويت بتاريخ 19/ 11 / 1982 و 18/ 3 / 1983 و 23/ 5 / 1984 وكذلك ما نشر بصحيفة " الوفد " بتاريخ 12/ 6 / 1986 للدكتور وحيد رأفت، كل هذا كان يخلط بين الحكومة الإلهية في باريس وبين الإسلام، ثم استحدث الدكتور فؤاد زكريا تعريفًا للعلمانية لم ينسبه لأي مصدر من المصادر، وينطوي على إضفاء صفة العلم عليها، ومن ثم وجب أن نرد ما اختلف فيه إلى مصادره الأصلية وذلك على النحو التالي بإيجاز شديد: 1 - العلمانية هي ترجمة كلمة Secularism ومعناها كما جاء في " المورد " ص 827 هو عدم المبالاة بالدين وبالاعتبارات الدينية، أي فيما يتعلق بالقواعد والنظم الاجتماعية فقد جاء في قاموس " وستر " ص 1444 أن العلمانية هي قواعد غير مرتبطة بالقواعد ذات العلاقة بالكنيسة أو الأنظمة الدينية. وعلى هذا الأساس فالعلمانية تعني رفض القوانين التي يكون مصدرها الوحي الإلهي، فهي تحل الفواحش والربا ولحم الخنزير وسائر المحرمات الواردة بالقرآن الكريم، وفي

الكتب السماوية الأخرى كالأنجيل والتوراة، لمجرد أن مصدرها الدين طبقًا لما استقر عليه النظام العلماني بقاعدة فصل الدين عن الدولة. 2 - ليس صحيحًا أن العلمانية تعني التفكير العلمي أو تقتصر على التقدم الصناعي والمعماري، فالعلم قد أثبت أن أكل لحم الخنزير يضر بالإنسان ويكفي أنه يولد الدودة الشريطية التي يصل طولها بأمعاء الإنسان إلى ثمانية عشر مترًا، كما أثبت العلم أضرار الفواحش وتمثل ذلك في أمراض الزهري والسيلان ثم أخيرًا مرض الإيدز، ومع هذا فالتشريعات العلمانية في أوروبا تبيح هذه الأمور والعلم يوجب خطرها أما أن الفكر الديني يناهض العلوم والتصنيع ولهذا لجأت أوروبا إلى المذهب العلماني فإن ذلك قاصر على أوروبا وحدها ولا ينبغي أن نتبع أوروبا في مشاكلها وأمراضها أو في علاج المشاكل والأمراض التي ليست في مجتمعاتنا، فالإسلام يطلق الحرية الكاملة في البحث العلمي وفي كل شيء يتعلق بالصناعة وغيرها مما يخضع للتجارب البشرية، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ [بِأَمْرِ] دُنْيَاكُمْ». والأحاديث والآيات القرآنية في هذا لا نكاد نحصيها. 3 - إن ما عرف في أوروبا باسم الحكم الثيوقراطي أو الحكومة الإلهية، أمر لم يوجد في المجتمعات العربية ولن يوجد فيها، فإذا كان لرجال الدين في أوروبا في القرون الوسطى ما عرف باسم الحق الإلهي، الذي يخول لهم التصرف في الناس وفي التشريعات وفي أمور الحلال والحرام ثم يقولون: إن هذا من الله، وبالتالي كانوا يملكون صكوك الغفران والحرمان، كما قاموا بسجن أو حرق من بحث في العلوم الطبية أو غيرها من العلوم التجريبية فإن كل ذلك لا وجود له في الإسلام فهو لا يخول أحدًا من الناس في هذه الخصائص أو غيرها، كما أنه لا يفوض أشخاصًا بأعيانهم لتولي السطلة في الأرض أو لممارسة السلطة الدينية على الناس بل إن القرآن الكريم قد نزل لإبطال هذه المغالطات المنسوبة إلى الدين وإلى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، فقد أعلن ذلك إلى الناس جميعًا، قال الله: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1). 4 - إن تأدية بعض الزعماء للصوم والصلاة والنظم العلمانية ليس معناه أن هذه النظم لا تتعارض مع الدين، لأن التعارض بين الدين والعلمانية يكون فيما يتعلق بالتشريعات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، لأن العلمانية لا تعني إنكار وجود الله والديانات كماهو الحال في الشيوعية، وقد سجل القرآن موقف أهل مدين في هذا الشأن من نبيهم شعيب في ¬

_ (¬1) [آل عمران: 64].

الديمقراطية وغسيل المخ العربي

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬1). الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ وَغَسِيلِ المُخِّ العَرَبِيِّ: حَوْلَ الأُمَّةِ مَصْدَرِ السُّلُطَاتِ: نشرت جريدة " الأهرام " مقالاً للدكتور (يوسف إدريس) بعنوان " جولة في عقول القراء " وذلك بتاريخ 5/ 1 / 1985. وهذا المقال ذكر فيه لب الخلاف حول تطبيق الشريعة الإسلامية فقال: «لب الموضوع أن أحدًا لا ينادي أبدًا بعدم تطبيق الشريعة الإلهية الإسلامية، إنه يكون مجنونًا لو فعل ذلك، فالشرائع السماوية كلها وعلى رأسها الإسلام، فوق أنها أمر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، إلا أنها لم تأت إلا لتقيم العدل السياسي بمبدأ الشورى، والعدل الاقتصادي بمبدأ الزكاة، والعدل الاجتماعي بالمساواة التامة بين البشر. من هو المجنون الذي يعترض على شريعة الله؟». ثم قال: «إنما المشكلة أن الشريعة حقًا وصدقًا شريعة الله ولكن من يطبق تلك الشريعة؟ أليسوا هم البشر؟». وانتهى إلى أن نقد أقوال هؤلاء لا تعني الاعتراض على شريعة الله، لأن هؤلاء بشر يخطئون ويصيبون ليست لهم عصمة. ولقد ضرب مثلاً لذلك بالخلاف في تطبيق مبدأ الشورى أو الديمقراطية، فقال الدكتور يوسف إدريس: أ - يرى الأستاذ (خالد محمد خالد) حتمية تطبيق الديمقراطية حتى تكون الأمة هي مصدر السلطات. ب - وقال: يجيء شيخنا الأكبر الأستاذ (عمر التلمساني) ليعطي تفسيرًا مختلفًا باعتبار أن فكرة الديمقراطية نفسها فكرة غير إسلامية. ج - ثم قال: إن الأستاذ (عمر عبد الرحمن) يرى شيئًا ثالثًا مختلفًا تمامًا فيقول إن الأمة ليست مصدر السلطات. وانتهى الدكتور يوسف إدريس من ضربه لهذه الأمثال ولما يعرض في البرامج الدينية في ¬

_ (¬1) [هود: 87].

الخلاف الرفيع وتحديد المفاهيم

التلفزيون والإذاعة، انتهى إلى أنه اكتشف أن غسيلاً يجري للمخ العربي والمصري حول المفاهيم الشرعية، ونادى بعلاج هذه الظاهرة ونقدها لأن البشر الذين يطبقون الشريعة لا يتنزل عليهم الوحي من السماء حتى يكون رأيهم هو حكم الله الذي لا اعتراض عليه. الخِلاَفُ الرَّفِيعُ وَتَحْدِيدُ المَفَاهِيمِ: (¬1). لهذا وإذا قمنا نساهم في هذا الحوار فيجب أن نحدد سبب الخلاف، وأن نقبل جميعًا الحوار العلمي ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول: «رَأْيُنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الخَطَأَ وَرَأْيُ غَيْرِنَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ». إن الخلاف القائم بين العلماء المعاصرين حول موقف الإسلام من النظام الديمقراطي، ليس نابعًا في حقيقته من عدم وضوح الحكم الإسلامي في هذه المسألة، بل نبع الخلاف من اختلاف هؤلاء في أمر الديمقراطية نفسها، ولهذا يقرر فقهاء الأصول في الفقه الإسلامي قاعدة هامة هي أن الحكم على الشيء فرع من تصوره. أ - لهذا فمن تصور الديمقراطية من جانب واحد هو أنها تخول أغلبية النواب الحق في إصدار التشريع الذي يرونه، حتى لو أباح الزنا والشذوذ كما هو كائن في بعض العواصم الأوروبية من تصور ذلك قال: إن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام حيث أن أحكام الحلال والحرام وردت قطعية في القرآن والسنة ولا يحل التغيير والتبديل فيها حيث قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2) [الأحزاب: 36]. ب - أما من تصور الديمقراطية من جانبها الآخر، هو أنها تخول الشعب عن طريق نوابه حق تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله وحق إصدار القوانين فيما لا يتعارض مع الدستور الإسلامي، فقال: إن الديمقراطية نظام إسلامي واستند في ذلك إلى قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬3) وإلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ ¬

_ (¬1) نشر هذا المقال في جريدة " اللواء " الأردنية بتاريخ 26/ 5 / 1987 بعد أن ظل لدى الدكتور يوسف إدريس أكثر من عام وبعد أن رفضت بعض الصحف الكويتية نشره، ولكن الدكتور يوسف إدريس في مقاله المنشور بـ " الأهرام " يوم 8/ 2 / 1988 ذكر أنه كان يعترض على الآراء المؤدية إلى نبذ العلم والتكنولوجيا، وأن ما شاهده من أعمال شباب الجماعات الإسلامية يجعله يقول: «اللهم إن كان التيار الإسلامي هكذا، فأنا أول المنضمين إليه، فإذا شئتم حزبًا يبشر بهذا ويعمل به، يخاطب العقل فينا وينهرنا عن الغوغائية فخذوني معكم». (¬2) [الأحزاب: 36]. (¬3) [الشورى: 38].

الأمة الإسلامية ومصدر السلطات

بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» (¬1). وهذ الخلاف لا وجود له في ظل الدستور الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، لأن من قواعد النظام الديمقراطي، قاعدة دستورية القوانين، ومن مقتضاها عدم جواز إصدار قانون يخالف الدستور، وعدم جواز إصدار لائحة أو قرار يخالف القانون، ولا يخفى على أولي الفقه والرأي أن كل أمة وكل شعب يضع لنفسه مقومات أساسية، ليتضمنها دستور هذه الأمة الذي يلتزم به النواب والحكام والقضاة، فلا يجوز إصدار ما يخالفه، ولهذا فالدول التي اختارت الماركسية مذهبًا اجتماعيًا يحظر دستورها إصدار قانون يخالف هذا المذهب. والدول التي اختارت المذهب الرأسمالي، يتضمن دستورها نَصًّا يحظر قوانين تخالف هذا المذهب أي تغير المجتمع ليصبح شيوعيًا. وعلى هذا الأساس فاختيار الديمقراطية في المجتمع الإسلامي يكون مسبوقًا بدستور ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ويحدد حقوق الأمة وحقوق الحاكم وواجباته بما لا يخرج عن القواعد المجمع عليها بين فقهاء المسلمين، ومن بينها أن المال في الإسلام وظيفة اجتماعية فليس لأصحابه الحق المخول لنظرائهم في النظم الرأسمالية ولهذا فرض الإسلام الزكاة وحرم الاحتكار، وحمى حقوق الفقراء والمستضعفين في المال العام، وهذا ما عبر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «لاَ حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ»، كما جعل الإسلام في المال حقوقًا أخرى غير الزكاة حسبما فصله الفقهاء المسلمون. ومن هذه القواعد أن تطبيق الإسلام لا يبدأ بالحدود وإنما يسبقه توفير المأكل والملبس والمسكن للمواطنين، وتوفير سبل تكوين الأسرة، ولهذا لم يقم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بإقامة الحد على اثنين من العمال سرقَا من مال مخدومهما لأنه لم يوفر لهما سبل العيش مما اضطرهما للسرقة. وأمير المؤمنين لم يوقف حد السرقة كما يفهم البعض خطأ، بل طبق الشروط والموانع الشرعية وبالتالي إعمالاً لهذه الموانع لم يطبع الحد على هؤلاء. الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةِ وَمَصْدَرُ السُّلُطَاتِ: إذا كان النظام الديمقراطي قد نتج عنه أن تكون الأمة هي مصدر السلطات، فإن تطبيق ذلك في مجتمع أغلبيته إسلامية لا يعني أن يصدر مجلس الأمة تشريعات تخالف ¬

_ (¬1) " سنن أبي داود "، الحديث 2608، 2609.

سلطة تفسير القرآن والسنة

الأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية، فكون الأمة مصدر السلطات يعني أن تكون عقيدة هذه الأمة هي المصدر الرئيسي للتشريع ولهذا فإنه في ظل الدستور المصري السابق والذي كان ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، قضت محكمة النقض المصرية أنه «إذا خالف الحكم نصًا من القرآن أو السنة أو خالف الإجماع، فإنه يبطل - وإذا عرض على من أصدره أبطله - وإذا عرض على غيره أهدره ولم يعمل به» (نقض مدني 23/ 6 / 1975 طعن 258 م 40 ق، ونقض مدني 13/ 12 / 1972 " مجموعة الأحكام " 23 ص 1377). بالتالي تكون الأمة مصدر السلطات في تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله وفي اختيار نوابها وفي التشريع فيما لا يعارض نصًا قطعي الدلالة في القرآن أو السنة النبوية. سُلْطَةُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: لا جدال في أن البشر يختلفون في الفهم والإدراك والملكات الذهنية وينتج عن ذلك اختلافهم في فهم النصوص - سواءً نصوص القرآن والسنة أو نصوص الدستور والقوانين - ولكن يترتب على ذلك الاختلاف أن نقول: يعطل الدستور أو يُلغى العمل بالقوانين، والإسلام بقواعده الأصولية هو أول من عالج هذه المسألة، فكانت القاعدة الأصولية أن الأمور الخلافية تمتنع إذا صدر في شأنها حكم القاضي أو قرار الحاكم. وقد توصلت الدول المعاصرة حديثًا إلى إنهاء هذا الخلاف عن طريق درجات التقاضي أمام القضاء، حيث تحكم المحكمة العليا في الأمور المختلف فيها بين المحاكم حكمًا تستقر به النصوص محل الخلاف، وبعض الدول تحدد محكمة خاصة للفصل في تفسير النصوص عند الاختلاف في ذلك. كما أن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لا يعني إهدار جميع القوانين المطبقة حاليًا أو تعطيلها فورًا: أ - إن ما مصدره الشريعة الإسلامية أو ما هو مطابق لها لا يحتاج إلى تشريع جديد. ب - وقسم آخر لا يخالف حكمًا مقطوعًا به في الشريعة الإسلامية وهذا أيضًا يعمل به دون حاجة إلى تشريع جديد. ج - وقسم ثالث يحتاج للحكم بعدم شرعيته بحثًا يقوم به فقهاء يجمعون بين فقه الشريعة وفقه القانون، وهذا أيضًا يظل العمل به حتى يصدر بشأنه تشريع جديد. د - وقسم أخير لا خلاف في أنه يخالف أحكام الشريعة الإسلامية كما هو الحال في جريمة

الحقوق الضائعة بين السلطة والعلمانية

الزنا، حيث أن قانون العقوبات المصري نقلاً عن القانون الفرنسي لا يجعل الزنا وهتك العرض جريمة في ذاته بل يصبح جريمة إذا تم عن طريق الاغتصاب أو مع زوجة بغير رضا زوجها، ومثل هذه القوانين يجب إبطالها لأن المحاكم من تلقاء نفسها يفترض أن تحكم بعدم دستوريتها على غرار محكمة النقض سالف الذكر. ولما كان ذلك: فلا مجال لتأخير تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى أن البشر الذين يطبقونها لا عصمة لهم، لأن هذه العلة متوفرة عند تطبيق القوانين البشرية والتي لا تخلو من الثغرات والكثير من الخلافات، بينما نصوص الشريعة ممثلة في القرآن والسنة النبوية قد عصمها اللهُ من الأخطاء والثغرات، وما يحتمل الخلاف فيها إنما هو للتيسير على الناس، ويرتفع هذا الخلاف بموجب القواعد الشرعية إذا تبنى القاضي أو الحاكم رأيًا من الآراء الخلافية إذ يصبح هذا الرأي هو المعمول به ولا مجال للخلاف فيه. الحُقُوقُ الضَّائِعَةُ بَيْنَ السُّلْطَةِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: (*) رد على الدكتور وحيد رأفت. بتاريخ 6 شوال 1406 هـ (12/ 6 / 1986 م) نشرت جريدة " الوفد " للأستاذ الدكتور وحيد رأفت بعنون " الانتماء والولاء لمن؟ "، جاء به إنه «قد حققت الجماعات الدينية المعتدلة نصرًا ملحوظًا في موضوع تطبيق الشريعة عندما عدلت المادة الثانية من الدستور الحالي الصادر في 11 سبتمبر 1971، وذلك للنص فيها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ولقد تعهدت الحكومة ومجلس الشعب بأنه لن يصدر تشريع بعد ذلك مخالف للشريعة الإسلامية، هذا بالإضافة إلى مراجعة التشريعات القائمة جميعًا لتنسيقها مع أحكام الشريعة ... غير أن الجماعات الدينية ولا سيما المتطرفة لا تكتفي بهذا القدر بل تطالب أيضًا بأن يكون لها دور أو قول في تصريف الشؤون العامة، وذلك سواءً بالسماح لها بتشكيل أحزاب دينية وهو ما يرفضه قانون الأحزاب رقم 40 سنة 1977 حتى يومنا هذا سدًا للذرائع، وحرصًا عل الوحدة الوطنية من التمزق، أو سواءً باختراق بعض الأحزاب السياسية القائمة» كما جاء به أن التيار الإسلامي الذي يملأ الآن الساحة ... يريد فرض نفسه على أرض الواقع تحت شعار أن الإسلام دين ودنيا أو دين ودولة أو عبادات ومعاملات وعقيدة وشريعة، ثم يقول: «والحق أن أحدًا لا يحاول صرف رجال الدين أو المشتغلين بالدين عن إبداء رأيهم في الشؤون العامة الدنيوية ... وفي مصر ¬

_ (*) نشر بـ " المجتمع " يوم 19/ 8 / 1986 حيث لم تنشره " الوفد ".

وقفة موضوعية وأخوية مع العلمانية والوطنية

علماء الأزهر الشريف على مدى التاريخ كانوا ينادون بكلمة الحق على منابر المساجد وعلى صفحات المجلات الإسلامية ... وما من دولة أو نظام مهما بلغت سعة صدره أو سماحته يقبل أن يستغل رجال الدين أو غيرهم حق التعبير عن الرأي وحق النقد والخروج على القانون والتحريض على التمرد أو الثورة على النظام، وهذا للأسف ما سعت وتسعى إليه بعض الجماعات الدينية المتطرفة، باستخدامها المنابر من أجل الترويج لأفكارها ومعتقداتها، وتحت شعار تقويم المجتمع وإصلاح شؤونه، ومن هنا كان الاتجاه إلى منع بعض الدعاة المسلمين من الخطابة في المساجد وحرمانهم من ممارسة رسالتهم في الدعوة للإصلاح بطريقتهم الخاصة، فآداب الإسلام وتعاليمه فضلاً عن القوانين الوضعية تطالبهم بأداء هذه المهمة بأسلوب مهذب لا ينبغي إثارة الفتنة أو تجريح أشخاص بأعينم سواءً كانوا في الحكم أو خارجه، ولهم في رسول الله أسوة حسنة. ولقد اعتبر الكاتب هتاف بعض الشباب (مصر إسلامية) هو «خلط بين الانتماء الديني والانتماء الوطني، بينما لا يوجد تعارض بين الاثنين، فمصر لجميع أبنائها من المصريين»، انتهى. وَقْفَةٌ مَوْضُوعِيَّةٌ وَأَخَوِيَّةٌ مَعَ العِلْمَانِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ: إن هذه القواعد التي يتبناها الأستاذ الدكتور وحيد رأفت، هي ما تردده جهات تتبنى الدكتاتورية لتحقيق مصالح خاصة محلية أو عالمية، ليست هي مصلحة الأغلبية الساحقة من المصريين. والدكتور وحيد رأفت يعلم أن الفكر العلماني الذي يدين به يقرر أن الحق ما تسفر عنه آراء أغلبية الشعب، فلماذا لا يلتزم ذلك إزاء الجماعات الإسلامية التي يقرر أنها تفرض نفسها على الساحة لأنها تملأها، ولكن ما قال به هو ترديد لجهات أخرى منها: أ - فعلى سبيل المثال كتب (يوجين روسو) الذي كان مستشارًا للرئيس (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط، وأحد مخططي حرب يونيو 1967: «يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية ... إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن

• أولا: التطرف وحقوق الجماعات الدينية

فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها». (نقلاً عن كتاب " معركة المصير " للأستاذ جلال العالم: ص 87 إلى 94). ب - ومن وسائل تنفيذ هذا التخطيط الأمريكي ما ورد في " مجلة الإرسالية الإنجيلية " التي تصدر في لندن بقلم الدكتور (نيكلوس) حيث يقول: «إن المسيحيين في العالم الغربي ينظرون إلى الدولة العلمانية على أساس أنها ضارة بمصالحهم، إلا أن علمانية الدولة في الشرق الأوسط تعتبر من النعم التي أنعم الله بها على الكنيسة، فالتشريع الحالي في مصر يعتمد أساسًا على قانون (نابليون) الذي يمنع تكوين أي حزب سياسي يقوم على أساس من الدين، إلا أن الضغط يزداد من أجل تغيير الشخصية العلمانية الأساسية للحكومة عن طريق تحكيم الشريعة الإسلامية». وينقل (نيكلوس) عن مقال (أريك رولو) في جريدة " اللومند " (*): «أن الموقف بالنسبة للتحدي المتمثل في المحافظة على العلمانية في مصر لا يدعو إلى الاطمئنان حيث حانت ساعة سقوط الدولة العلمانية، فالمتطرفون قد تم انتخابهم في نقابات العمال ورجال [الأعمال] والاتحادات الاجتماعية والثقافية». ج - من هذه الأقوال سواء التي وردت في مقال الدكتور (وحيد رأفت) أو (يوجين روسو) أو (نيكلوس) أو (رولو) أو ما كتبه المستشرق الإنجليزي (جب) في كتابه " [إلى أين] يتجه الإسلام " من أن المقصود من حمل العالم الإسلامي على الحضارة الغربية، هو أن تفقد الحضارة الإسلامية طابعها وأن يجري التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية وهذا هو السبيل ولا سبيل غيره. إن هذه الأقوال جميعًا تنطوي على مغالطات في بعضها وفقدان الوعي في الجانب الآخر، بحقيقة الإسلام ومبادئه، وهذا ما نشير إليه بإيجاز في البنود التالية: • أَوَّلاً: التَّطَرُّفُ وَحُقُوقُ الجَمَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ: إن حق التعبير عن الرأي والمعتقد سواءً الأفراد أو الجماعات الدينية أو غيرها يستند إلى ما سطرته الدساتير المحلية والعالمية نقلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من كفالة الحرية الدينية والسياسية وغيرها، وذلك أمر مجمع عليه في دساتير الدول جميعًا فيما عدا الكتلة الشيوعية، وهو حق طبيعي للإنسان قبل الإعلان وبعده (¬1) فلماذا تصبح ¬

_ (¬1) نقلاً عن مجلة " الإصلاح " بالإمارات العربية، السنة الثامنة، العدد 94 ربيع أول 1406 هـ - نوفمبر 1985 م. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) Eric Rouleau صحفي في جريدة Le Monde الفرنسية.

المطالبة بمساهمة الجماعات الدينية في تصريف الشؤون العامة للبلاد بالقول أو الفعل من خلال الأحزاب أو الصحافة أو النقابات أو غيرها، نوعًا من التطرف أو يمزق الوحدة الوطنية؟ لماذا يحرم المتمسك بدينه من حقوق المواطن؟ إن مثل هذه المقولة والواردة في المقال تصادم حقائق وبديهيات منها: 1 - أن التطرف حسبما عرفه الدكتور (زكي نجيب محمود) في مقاله بـ " الأهرام " في 11/ 11 / 1985 يكون «باتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، وهذا لا يلجأ إليه إنسان واثق بنفسه وعقيدته وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورة من صوره». والتطرف في " القاموس المحيط ": «هو تجاوز حد الاعتدال في المسألة»، فأين الإرهاب هنا يا قومنا. ولماذا تخشون تقديمهم للمحاكم المختصة قانونًا؟. 2 - إن التطرف قائم في جميع بلاد العالم ولا يقتصر على بعض الجماعات الإسلامية، وعلاج هذا التطرف لا يكون بالحرمان من الحقوق كما هو الشأن في قانون الأحزاب رقم 40 سنة 1977 والذي يستند إليه الدكتور (فهمي هويدي) في صفحة الرأي بـ " الأهرام " بتاريخ 20/ 5 / 1986: «إن القيود الموضوعية على شرعية العمل الإسلامي تصنف جميع الممارسات في مربع اللاشرعية، وتفرض حالة من الظلام والتعتيم وهي البيئة الطبيعية لنمو الأفكار المتطرفة ... وبالديمقراطية الحقيقية تطرح كل التيارات والأفكار بضاعتها في النور، ويجد كل اتجاه مكانه في المسيرة والشباب في المقدمة». 3 - إن وجود تيارات إسلامية داخل الأحزاب السياسية القائمة أو من خلال أحزاب إسلامية لا يمكن أن يؤدي إلى نقض عُرَى الوحدة الوطنية، فالتيارات غير الإسلامية لها جماعات وأحزاب وصحف، ولا يعترض الإسلاميون على ذلك ولا ينبغي لهم على الرغم من حرمانهم من هذه الحقوق وهم يشكلون الأغلبية، فلماذا تصبح ممارسة هؤلاء وهم أقليات، أمرًا مشروعًا ولا يناقض الوحدة الوطنية وتكون مطالبة أصحاب الأغلبية بنفس الحقوق نوعًا من اللامشروعية أو تكون هدمًا لعرى الوحدة الوطنية؟ إنها الميكيافيلية بعينها وهي غاية صهيونية. 4 - إن جوهر الرسالة الإسلامية والذي تطالب به الجماعات الدينية هو احترام الدستور لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا لا يتعارض مع معتقدات المسيحيين الواردة في الإنجيل لأنه لم ينظم أحكام المعاملات والعقوبات، وبالتالي فهم يخضعون لما تخضع له

• ثانيا: تطبيق الشريعة والوحدة الوطنية

الأغلبية في كل بلد، والإسلام ينفرد عن سائر القوانين باستثناء هؤلاء في كل ما ورد في كتبهم المقدسة حتى لو كانت لا تندرج تحت الأحوال الشخصية كما في أحكام الخمر والخنزير. • ثَانِيًا: تَطْبِيقُ الشَّرِيعَةِ وَالوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ: إن تعديل الدستور المصري في المادة الثانية والنص على الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع لم يكن مطلبًا للجماعات الدينية وحدها، بل هو مطلب الأغلبية الساحقة للمصريين مسلمين ومسيحيين، فإنه على الرغم من الدعايات الكاذبة ضد أحكام الشريعة الإسلامية، وعلى الرغم من المقالات العديدة التي نشرتها الصحف المصرية وفي مقدمتها " الأهرام " بالتحذير من تعديل هذه المادة وعلى الأخص ما كتبه الأستاذ (جمال العطيفي) في " الأهرام " وآخرها 14/ 7 / 1971 مدعيًا أن التطرف يعوق حركة المشرع المصري التي بدأها نحو تقنين الثورة وقوانين يوليو الاشتراكية، إذ يصبح الباب مفتوحًا للطعن بعدم دستوريتها. وبالرغم مما كتب حول الوحدة الوطنية وتعرضها للانهيار عند تعديل هذا النص. فقد نشرت جريدة " الأخبار " في 15/ 7 / 1971 أن اللجنة التحضيرية لإعداد الدستور الدائم، وافقت بالإجماع على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ذلك بناءً على إجماع الأغلبية الساحقة للشعب المصري وهذا ما أذاعه التلفزيون المصري في نشرة الساعة التاسعة من يوم 14/ 7 / 1971 ونقلته الصحف في اليوم التالي. ودعوة تعرض الوحدة الوطنية للتمزق عند تطبيق أحكام الشريعة هي في حقيقتها تُسِيءُ إلى المسيحيين أنفسهم، لأن القوانين السائدة في أوروبا والتي يطلق عليها (يوجين روسو) و (جب) أنها الحضارة المسيحية، هذه القوانين تبيح الزنا وبعضها يبيح الشذوذ، وأضرارها عمت أوروبا وأمريكا وآخرها مرض الإيدز، والمسيحية بريئة من هذه القوانين فهي تحرم الزنا والفواحش، وجميع الأديان السماوية تحرم هذا الأمر. وكل ما ورد في الشريعة الإسلامية من أحكام تتعلق بالمعاملات لا يوجد ما يناقضه في عقيدة النصارى، وبالتالي ادعاء تمزيق الوحدة الوطنية هو كذب وافتراء، والذين يناهضون تطبيق الشريعة هم الذين يخشون أن تنالهم هذه الأحكام سواء فيما يتعلق بالسرقة من المال أو يتعلق بممارسة الفواحش الظاهرة والباطنة، أو يتعلق بمساوئ الحكام بالمحكومين في الحقوق والواجبات، والنصارى بريئون من الدفاع عن هذه المصالح والنزوات.

• ثالثا: رجال الدين والشؤون العامة

• ثَالِثًا: رِجَالُ الدِّينِ وَالشُّؤُونِ العَامَّةِ: إن ما أورده المقال من أن التيار الإسلامي يريد فرض نفسه على أرض الواقع، مع أن أحدًا لا يحاول صرف رجال الدين عن إبداء رأيهم في الشؤون العامة ولكن دون أن يستغلوا ذلك بالخروج على القانون والثورة على النظام، وهو ما سعت إليه بعض الجماعات الدينية المتطرفة باستخدامها المنابر من أجل الترويج لأفكارها ومعتقداتها. إن هذا الذي أورده الدكتور (وحيد رأفت) ينطوي على تناقضات كنا نود أن يتنزه عنها، وهو المسؤول الثاني في حزب الوفد ورجل القانون المشهور عالميًا، وذلك لأسباب أهمها: 1 - أن استخدام المنابر من أجل الترويج للأفكار والمعتقدات لا يمكن أن يوصف أنه ثورة على النظام أو تمرد أو خروج على القانون، فالدستور قد كفل حق التعبير عن الرأي وممارسة ذلك - سواءً من خلال المنابر أو الصحافة أو المؤتمرات - لا يعد خروجًا على القانون ولا ثورة على النظام، وكيف يكون ذلك هو الخروج على القانون مع فتح الباب للأعمال السرية؟ وكيف يصبح النهي عن المنكرات ثورة على النظام؟ 2 - إن حزب الوفد يتبنى الدعوة إلى الديمقراطية وإلى احترام الدستور، والديمقراطية توجب العمل بما تتفق عليه الأغلبية، فلماذا يصبح الحَجْرُ على رأي الأغلبية سدًا للذرائع أو حفاظًا على الوحدة الوطنية، أو للحيلولة دون الثورة على النظام. والدستور الذي يكافح الوفد للذود عنه قد نص في مادته الثانية على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وقد خالف نواب الحكومة هذا الدستور واختلقوا الأسباب الواهية للتنصل من تطبيق هذا النص، بينما عارضهم نواب الوفد، فلماذا يتغير موقف الرجل الثاني في حزب الوفد ولا ينزل على حكم الدستور وعلى الديمقراطية؟. 3 - إن تعبير رجال الدين والاستشهاد بواقع هؤلاء في أوروبا ليس محلاً للقياس في مصر والبلاد العربية، لأن الإسلام لا يعرف هذا التعبير ولا اسم الحكومة الدينية والتي ظهرت في أوروبا حيث يكون أفرادها من الكهنة ورجال الدين الذين لهم حق التحليل والتحريم، ولهم عصمة عند أتباعهم حتى ابتدعوا صكوك الغفران والحرمان، وتحالفوا مع رجال الإقطاع ضد الشعوب وعاقبوا كل من مارس حقه في العلوم التجريبية، وكل هذه المفاسد ليست في النظام الإسلامي بل جاء القرآن لهدمها وهو ما لا ينكره أحد من المنصفين الأوروبيين. وبالتالي

فقصر حق النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على بعض أشخاص تعينهم وزارة الأوقاف ثم يسمون برجال الدين أمر يخالف الإسلام والدستور وكل المبادئ الإنسانية. وهذا الحق وهو النصيحة مكفول للجميع ولا يقتصر على الوعاظ الرسميين، فما بالنا وهؤلاء الوعاظ تصدر لهم التعليمات لمباركة كل ما يصدر عن الحزب الحاكم بغض النظر عن موافقته للدستور من عدمه، وعن مناهضته للدين والأخلاق من عدمه، حتى نص القانون على تحريم بعض الوعاظ لنقدهم لأي قانون في البلاد، ويدخل في ذلك القوانين التي تحمي الربا وتبيح تحريم الزنا، وفي ذلك مصادرة على أبسط الحقوق الإنسانية، ومناهضة النظام الديمقراطي الذي يخول نواب الشعب حق سن التشريعات وحق محاسبة الوزراء والمسؤولين واستجوابهم، فإذا لم يسمع هؤلاء وغيرهم كلمة الحق والنصيحة الخالصة فيما يشوب التشريعات من أخطاء وثغرات وذلك للعمل على تعديلها بالطرق القانونية. إذا لم يسمعوا هذه النصيحية تنفيذًا لهذا القانون، فيكون أمر الحكومة الدينية في أوروبا قد عاد من جديد في ثوب تنكري خداع، ينطوي على عصمة كل ما يصدر عن الحزب الحاكم فهو وصكوك الغفران سواء. 4 - إن قيام البعض بتجريح الأشخاص لا يقتصر على المنابر، بل إن الصحافة أكثر تأثيرًا وانتشارًا، ولم يقل أحد بمنع فئات من الكتابة في الصحف لاحتمال صدور هذا منهم أو إثارتهم للفتنة، ولكن الدكتور يضفي شرعية لهذا الإجراء الخاطئ بأنه سد لذريعة إثارة الفتنة وتجريح الأشخاص، وهو نفس الاتهام الذي يوجه إلى صحيفة " الوفد " من الصحف القومية فيما تقوم به من نقد للإصلاح. فهل يعطي هذا شرعية بإصدار قانون لسحب ترخيصها أو منع رئيس تحريرها من الكتابة؟ أم يحال المخالف إلى القضاء؟ وختامًا ... فكان الأولى للكاتب الكبير وبصحيفته أن تمتد مطالبتهما بالحريات إلى حرية الجماعات الإسلامية في ممارسة ما كفله الدستور لغيرها لأن الجميع يشتركون في صفة المواطنة (¬1). إن هذا يقوم به رئيس التحرير الأستاذ (مصطفى شردي)، ومدير التحرير الدكتور (جمال بدوي) وكذا الأستاذ الدكتور (محمد عصفور). ¬

_ (¬1) نشر بـ " المجتمع " يوم 19/ 8 / 1986 حيث لم تنشره " الوفد ".

خصائص الدستور الإسلامي

خَصَائِصُ الدُّسْتُورِ الإِسْلاَمِيِّ: الدستور من الناحية الموضوعية هو القواعد الضابطة للسلوك الاجتماعي، ومن هذا المنطلق يكون القرآن هو دستورنا لأنه اشتمل على هذه القواعد وأحالها على السنة النبوية لتفصيلها في قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). لكن من ينظر إلى التعريف الشكلي للدستور المتضمن هذه الوثيقة التي تحدد شكل الحكم وحقوق الحاكم وعلاقة السلطات الثلاث ببعضها البعض، قد لا يقبل شعار «القُرْآنُ دُسْتُورُنَا». ونحن نرى أن الدستور الإسلامي هو الصحيفة أو البيان الذي أعلنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيام حكومته بالمدينة وحدد فيه حقوق الدولة والأفراد من مختلف الأديان. والدستور الإسلامي بالمعنى الشكلي أو الموضوعي ليس له مصدر واحد، لأن المصدر الرئيسي هو القرآن الكريم ويليه السنة النبوية ويليها أعمال الخلفاء الراشدين ومذاهب الأئمة. ولكن المصدر الثالث والرابع لا استقلال لهما بل يكشفان عن المبادئ من خلال المصدر الأول والثاني، أي الكتاب والسنة. ويتميز الدستور الإسلامي بأمور أهمها: 1 - أن الحكم لله ولذلك لا طاعة للحاكم ولا للقانون فيما خالف القرآن والسنة. 2 - أن الشورى هي أساس الحكم. 3 - أن الحاكم لا يتميز بشيء من الحقوق. 4 - أنه حدد غاية الدولة ورسالتها فلا يخضع ذلك لسلطة الأمة. 5 - أنه ليس من عند البشر، فقد كفل حقوق الفرد كما كفل حقوق المجتمع، فليس فيه عيوب المذهب الفردي أو الجماعي. الدُّسْتُورُ الإِسْلاَمِيُّ بَيْنَ الدَّسَاتِيرِ الحَدِيثَةِ: إن ما يهمنا كمسلمين نلتزم بتقييم الحياة من خلال مبادئ الإسلام، هو أن نصنف الدساتير في العالم إلى أنواع ثلاثة حسب الواقع الحالي وهي: • الدساتير الخاصة بالدول الغربية، وهي تقوم على أساس نظرية السيادة، ومؤداها أن الأمة ¬

_ (¬1) [الحشر: 7].

الإسلام ونظرية السيادة

هي مصدر السلطات وبالتالي يملك ممثلوها وضع التشريعات التي تتفق عليها أغلبية المجالس التشريعية. • الدساتير الخاصة بالدول الشيوعية، وهي تقوم على أساس الالتزام بالماركسية، فلا يملك ممثلو الأمة الخروج عليها. وهذه لا مجال للمقارنة بينها وبين الإسلام، لأنها تنكر الأديان. • دساتير الدول الإسلامية، ونعني بها التي بها أغلبية مسلمة، وتتضمن دساتيرها نصوصًا مؤداها أن الدولة دينها الإسلام، وهو مصدر رئيسي للتشريع، كما تتضمن دساتيرها أيضًا أن السيادة للأمة وهي مصدر السلطات. لهذا يهمنا كمسلمين أن نبين مضمون نظرية السيادة وهل تتعارض مع الإسلام أم تتفق معه، والأدلة على ذلك بإيجاز. الإِسْلاَمُ وَنَظَرِيَّةُ السِّيَادَةِ: هذه النظرية كما يعرفها فقهاء القانون الدستوري، هي سلطة أصيلة مطلقة عامة غير محددة، تهيمن على الأفراد والجماعات. وقد وقف منها علماء المسلمين في عصرنا موقفين متعارضين، فأغلبية منهم يعتبرونها نظامًا إسلاميًا لقول الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬1)، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬2). بل منهم من يصرح بأن الأمة مصدر جميع السلطات. والخطأ في ذلك هو هذا الإطلاق الذي يخول الشعب حق التشريع المطلق كما هو الحال في الغرب، بينما الإسلام يقيد ذلك بنصوص القرآن والسنة لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ»، ولقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3). أما الطائفة الأخرى من علماء المسلمين فترى أنه لا وزن لرأي الأغلبية لا في الأمور التشريعية ولا في غيرها مما لم يرد فيه نص شرعي، مستندين إلى أقوال في الفقه تتضمن أن الشورى معلمة لا ملزمة. والخطأ في ذلك هو إعطاء الحاكم سلطة مطلقة استنادًا إلى قول الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (¬4). وقد أجاب الإمام البخاري على ذلك في قوله: «وَأَنَّ المُشَاوَرَةَ قَبْلَ العَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ ...» أي في الأمور التي لم يتبين فيها للشرع حكم، تجب المشاورة ويلتزم الحاكم ¬

_ (¬1) [آل عمران: 159]. (¬2) [الشورى: 38]. (¬3) [المائدة: 49]. (¬4) [آل عمران: 159].

شبهات حول الدستور الإسلامي

بنتيجة الشورى. أما إذا تبين للشرع حكم فيكون العزم في تنفيذ هذا الحكم، وهذا ما فعله الخليفة الأول في شأن قتال مانعي الزكاة، وما فعله النبي والصحابة في غزوة بدر حيث نزل الرسول على رأي الحُبَابِ بْنِ المُنْذِرِ لعدم وجود وحي من الله وأن الموضوع متروك للرأي والحرب. كما نزل النبي على رأي الأغلبية في اختيار مكان موقعة أحد، وكان رأيه وكبار الصحابة البقاء بالمدينة وكانت ترى الأغلبية الخروج لملاقاة العدو فأخذ بذلك. شُبُهَاتٌ حَوْلَ الدُّسْتُورِ الإِسْلاَمِيِّ: وأما عدم وضوح الدساتير العربية في الالتزام الكامل بأحكام الإسلام فيما يصدر من تشريعات، فإن تيارًا شعبيًا يدعو إلى تغيير النص المتضمن أن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع ليصبح «الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع». وقد أثار بعض الكُتَّابِ ممن ينتمون إلى الفكر الرأسمالي والفكر الماركسي شبهات حول هذا المطلب تركزت فيما نشرته الصحافة لبعضهم متضمنًا أن هذا التعديل ينقل سلطة التشريع إلى وزارة الأوقاف أو كلية الشريعة، وأنه يكفي لضمان سيادة الإسلام على التشريع أن نواب المجالس التشريعية مسلمون كلهم أو أكثرهم وكذلك الناخبون، كما قيل إن التعديل غير ديمقراطي. ونأمل أن يكون واضحًا أن كل شعب أو أغلبية لها عقيدة أو مبدأ تضع في الدستور نصًا باحترام هذا المبدأ بحيث لا يصدر تشريع مخالف له، ولا تكتفي الأنظمة بذلك بل تفرض ما يسمى بالرقابة الشعبية. فدستور الاتحاد السوفياتي، الذي التزم بالمبدأ اللينيني الماركسي، لم يكتف بذلك، فنص في المادة 14 من دستور عام 1936 على اختصاص مجلس السوفيات الأعلى بالإشراف على تنفيذ الدستور، مع أن الماركسية التي يحميها من خيال االبشر وقد عدلوا عن كثير منها في روسيا والصين وأحزابهم بأوروبا كما نرجو أن يكون واضحًا أن وجود مثل هذا النص المقترح في دساتير البلاد الإسلامية لا يعني اختصاص الوعاظ بالأوقاف أو مدرسي الشريعة بوضع التشريعات المدنية والجنائية والتجارية والتأمينية، فليس في الإسلام رجال دين يملكون حق التشريع أو التفسير المطلق وليس أدل على ذلك من أن الإسلام يحيل إلى أهل الاختصاص. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) [الأنبياء: 7].

توجيه إلى الإسلاميين

لهذا نجد في كل بلد إسلامي لجنة من المتخصصين في كل فرع من فروع القانون، ولكن يوضع أمامهم قاعدة الالتزام بالإسلام في كل تشريع. أما عدم ديمقراطية التعديل فهو تعبير مغلوط، لأن الديمقراطية هي حكم الشعب أي النزول على رأي الأغلبية. والأغلبية العظمى في البلاد العربية مسلمون، ويريدون حكم الإسلام بمن فيهم غير الملتزمين بجميع أحكامه، ولكن الأقلية هي التي تفرض التشريعات الإسلامية مخالفة حكم الله، والديمقراطية التي تتحصن خلفها. وهؤلاء الذين يريدون بهذه المقولة أن تظل هذه الميوعة في الدساتير العربية، لا يجهلون أن الدستور السوفياتي يمنع إصدار أي تشريع يتعارض مع الماركسية ومع هذا لم تتناول أقلامهم ذلك بالتعدي والاتهام بعدم الديمقراطية! كما يجهل هؤلاء أن بعض الدساتير العربية تتضمن الالتزام ببعض الأمور التي هي من وضع البشر وتخضع للخطأ والصواب، مثل تحديد اختصاص القضاء وإخراج أعمال السيادة من اختصاص المحاكم، وهذه الأمور ليست محل استهجان من هؤلاء الكُتَّابِ. تَوْجِيهٌ إِلَى الإِسْلاَمِيِّينَ: وأخيرًا نشير إلى أن بعض الفئات الإسلامية تظن أن الإسلام قد اشتمل على شكل محدد للدولة كالخلافة أو الإمامة أو الجمهورية، وكل فئة ترى أن الاسم والشكل الأخير هو نظام كفر. ونود أن ندرك جميعًا أنه لا يوجد نص في القرآن أو السنة النبوية يحدد هذا الشكل لأنهما تضمنا فقط قوعد عامة هي الالتزام بالشورى والعدل في حدود الإسلام. وليس أدل على ذلك من أن أبا بكر قد اصطلح الصحابة على تسميته (خليفة رسول الله)، ثم وافق نفس الصحابة على اقتراح عمر بن الخطاب في تسميته (أمير المؤمنين). فالعبرة بالمسميات والتزام الإسلام في جوهره وليس في شكلية يعتقدها بعضنا. فإذا ما التزم نظام الحكم بالتشريع الإسلامي كله وجبت طاعته ويحرم الخروج عليه بغض النظر عن الوصف الذي يضيفه على شكل الحكم، لأن الخروج شرعًا لا يكون إلا فيما حدده النبي بقوله: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا (ظاهرًا)، [عِنْدَكُمْ] مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» (¬1). فالمشرع يوجب أن نلتزم بأحكام الإسلام، ولا يطلب منا شكلاً فقط، كالخلافة أو الإمامة بينما يوجد تحت هذه اللافتة الظلم والفساد والانحراف. ¬

_ (¬1) " القبس " 22 / ... / 1980.

وقفة موضوعية مع الدكتور محمد خلف الله

وَقْفَةٌ مَوْضُوعِيَّةٌ مَعَ الدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ خَلَفْ اللهْ: في يوم الجمعة الماضي نشر للدكتور محمد أحمد خلف الله تصريحات خطيرة زعم فيها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تقم له حكومة أو حكم بل إدارة أعمال وأن من يطالب بحكم الإسلام إنما يطالب بحكومة دينية لا وجود لها بعد النبي، وأن ما لم يرد في القرآن فلا نلتزم به أي لا يلتزم المسلم بالسنة النبوية، ثم عاد وادعى أن السنة لا يعمل بها، إلا إن كانت مبنية للنصوص القرآنية، غير قطعية الدلالة. إنه من التحريف البين لنصوص القرآن الكريم وأحداث السيرة النبوية ما زعمه الكاتب المجتهد في قوله: «لا نستطيع أن نسمي ما قام به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحكومة فما قام به هو شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة، ولو كان حكومة في ذلك الوقت لكان ملكًا وهذا مرفوض من وجهة نظر النبي، ففي حياته عرض عليه الملأ من قريش أن يكف عن أعمال الرسالة ويعطوه الملك إن أراد حيث قالوا له: " إن كنت تريد ملكًا ملكناك "، فأبى إلا أن يكون رسولاً». هذا القول فيه تحريف ومغالطة وذلك على النحو التالي: - أولاً: صحيح أن الكفار قد طلبوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعلوه ملكًا أو حاكمًا عليهم ورفض ذلك، ولكن سبب الرفض هو أنهم أرادوا أن يترك رسالة الإسلام مقابل الحكم، فليس صحيحًا أن الرفض سببه أن النبي ما جاء ليحكم، فقد قال الله تعالى لنبيه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1). وقال لنبيه داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬2). - ثانيًا: إن أحداث السيرة النبوية تؤكد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أقام دولة المدينة المنورة، وليس صحيحًا أن ما قام به من هذا الشأن هو إدارة أعمال فقط، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام دولة وحكومة بكل المقومات الحديثة للدولة. فإذا رجعنا إلى القوعد الدستورية الحديثة نجد أن الدولة لها مقومات ثلاثة: • الأول: شكل الحكومة ودعامتها: والإسلام حدد ذلك من قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ ¬

_ (¬1) [المائدة: 49]. (¬2) [ص: 26].

شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬1). • الثاني: السلطات ومصدرها ومن يتولاها: والإسلام يجعل التشريع هو القرآن والسنة. • الثالث: حقوق الأفراد وحرياتهم: والإسلام قد كفل هذه الحقوق، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ضمن حقوق الإنسان في إعلانه بحجة الوداع إذ قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا». كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصفته رئيسًا للدولة وضع القانون الذي ينظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وهذا الكتاب قد جاء به «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، المُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَالقِسْطِ». كما جاء بهذا الدستور: «وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ». إلى أن قال: «وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا (¬3) بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ وَعَقْلٍ ... وَإِنَّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ ... وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬4). - ثالثًا: المبادئ القانونية والتشريعية: ففي نطاق القوانين المحلية بين المؤمنين وغيرهم. والتي لم تصل إليها الدول إلا بعد أربعة عشر قرنًا. وتعرف باسم القانون الدولي الخاص. فإن الكتاب الذي وضعه النبي كدستور الحكومة بالمدينة تضمن أن المؤمنين أمة من دون الناس وأنهم متضامنون في الحياة الاجتماعية وفي أداء الديات، وأن هذه المعاهدة مفتوحة لمن أراد الانضمام إليها من غير المسلمين. وفي مجال تنازع القوانين حسم النبي الأمر فقرر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عند اختلاف الديانات فالقانون الواجب التطبيق هو شريعة الإسلام إذا اختلف أصحاب هذه الديانة ولجأوا إلى محاكم المسلمين. ¬

_ (¬1) [الشورى: 38]. (¬2) [البقرة: 188]. (¬3) المفرح: المثقل بالدين الكثير العيال. (¬4) " البداية والنهاية ": 3/ 224.

أما في نطاق اتصال الدولة بغيرها من الدول وهو ما يعرف حاليًا بالقانون الدولي، فالإسلام نظام عالمي تضمن المعاهدات الداخلية والمعاهدات بين الدول في السلم والحرب. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬3). - رابعًا: وأخيرًا تعلل الباحث بأمر آخر فقال: «لقد نص القرآن الكريم على أن محمدًا - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - هو آخر النبيين والمرسلين. ومعنى ذلك أن استمداد الحاكم السلطة من الله لمن يكون بعد وفاة النبي. فكل من جاء بعده وتولى الخلافة كان يستمد سلطته من الناس وليس من الله»، وقال: «ونستطيع أن ننظر في الخلافة فنرى الخليفة يستمد سلطته من الناس عن طريق البيعة، فإن كانت الحكومة الإسلامية التي تطالب بها الجماعات الدينية، هي الحكومة التي تستمد سلطتها من الناس فلا فرق كبير بينهما وبين ما تمارس به الحكومة اليوم من سلطات. وأما إذا كانوا يدعوننا إلى سلطة دينية فإن السلطة الدينية لا تكون إلا من الله وقد أعلن القرآن الكريم أن محمدًا - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - آخر الأنبياء وخاتم المرسلين، أي آخر الناس الذين يستمدون سلطتهم في إدارة شؤون الحياة من الله». إن هذا القول يخلط بين حكم الإسلام وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا وكانت تدعي أنها ظل الله في الأرض، وبالتالي فما يصدر عنها يكون تشريعًا من الله لأنها جاءت بسلطان من الله تعالى. وهذا الأمر يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً. والقاصي والداني يعلم ذلك. فالقرآن الكريم قد حذر من هذا السلطان الديني الكاذب وعده من أنواع الشرك بالله، وهذا ما قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (*) لعدي بن حاتم: «أَلْقِ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»، وَقَرَأَ عَلَيْهِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، قَالَ عَدِيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ». قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرَامَ فَاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قَالَ عَدِيٌّ: «بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ»، قَالَ: ¬

_ (¬1) [آل عمران: 104]. (¬2) [الحجرات: 9]. (¬3) [النساء: 58]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) قارن بما في صفحة: 14، 50، 187، 251، 255 من هذا الكتاب.

وقفة أخوية مع الدكتور خلف الله: بين الإسلام وحكومة الكهنوت

«فَتِلْكَ عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُمْ». ولقد نص القرآن على أن الرسول هو خاتم النبيين وذلك ليمنع قيام مثل هذا السلطان الديني، فلا يملك أحد بعد النبي أن يشرع للناس بخلاف ما جاء في القرآن والسنة. وهذا هو الفيصل بين حكم الإسلام وبين ما يسمى بالحكومة الدينية، فحكم الإسلام هو تطبيق نصوص القرآن والسنة والتزام الحاكم والمحكوم بها وليس إعطاء قدسية لبعض الحكام يحلون ويحرمون من دون الله. فذلك هو الشرك مع الله كما جاء في القرآن وبينته السنة النبوية (¬1). وحسبنا ما كتبه الأستاذ الشيخ خالد محمد خالد في كتابه " الدولة الإسلامية " حيث اعترف بخطئه الفاحش فيما كتبه عن الحكم الإسلامي وأنه نوع من الحكومة الدينية في أوروبا وكان ذلك عام 1950 في كتابه " من هنا نبدأ ". وقد بين أسباب انحرافه في هذا الفهم وساق الأدلة على أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالحكومة الوثنية وهذا ما نتناوله في المقام القادم إن شاء الله (¬2). وَقْفَةٌ أَخَوِيَّةٌ مَعَ الدُّكْتُورِ خَلَفْ اللهْ: بَيْنَ الإِسْلَامِ وَحُكُومَةِ الكَهَنُوتِ: بتاريخ 19/ 11 / 1982 نشرت جريدة " الوطن " حديثًا للأستاذ محمد خلف الله تضمن أمورًا منها: أ - لا نستطيع أن نسمي ما قام به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحكومة، فما قام به هو شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة. ب - إن كان ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله، فنحن نفكر ونتعامل بعقولنا مع كل ما هو ناجم عن الفكر البشري وليس له أساس من كتاب الله، أي أنه لم ينزل من عند الله. ج - الحكم يجب أن يكون بما أنزل الله إذا كان ما أنزل الله قطعي الدلالة أو ما يبينه الرسول كان من القرآن الكريم غير قطعي الدلالة. لهذا ... وبتاريخ 20/ 11 / 1982 أرسلت إلى السيد رئيس التحرير رَدًّا من ¬

_ (¬1) راجع " السنة المفترى عليها " و " الحكم وقضية تكفير المسلم " للمؤلف. (¬2) نشر بـ " الوطن " في 26/ 11 / 1982.

أولا: حقيقة أقوال الفقهاء

ثلاث مقالات: - الأولى: تضمنت أن النبي أقام دولة وحكومة شملت جميع مقومات الدولة والحكومة في الأنظمة الدستورية المعاصرة. - الثانية: تضمنت أن ما أنزل الله يشمل القرآن والسنة النبوية مَعًا وَأَنَّ قَصْرَ ما أنزل الله على القرآن وحده هو إنكار للسنة النبوية. كما أن ما جاء في القرآن غير قطعي الدلالة لا يتوقف العمل به على ورود حديث نبوي قطعي الدلالة. - الثالثة: تضمنت بيان الحكومة والسلطة في الإسلام والفرق بينها وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا. وأوضحت أن الإسلام لا يعرف هذا المفهوم الكنسي للحكومة. ولقد قامت " الوطن " بنشر المقالة الأولى في الصفحة الدينية يوم الجمعة 26/ 11 / 1982 والمقال الثاني الخاص بالسنة النبوية يوم 3/ 12 / 1982 مصحوبًا بكلمة من " الوطن " بعنوان: " الدكتور خلف الله لم ينكر السنة " لأن ما ورد في حديث الدكتور يشير إلى أن الدين من عند الله ورسوله الكريم. وإن العبارة الواردة أن الدين لا يكون إلا من عند الله، فالمغزى منها واضح إذ يتجه القصد إلى اجتهادات المجتهدين والفقهاء وليس إلى أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي اليوم المحدد لنشر المقال الثالث الخاص بالحكومة الدينية نشر بدلاً منه رد للدكتور محمد خلف الله عن الموضوع الخاص بهذا المقال الذي لم ينشر، فإذا كان هو حرية الدكتور خلف الله في الرد فإن ذلك يكون بعد انتهاء المقالات التي سيرد عليها أو نشر مقالي ورده مَعًا. لما كان ذلك وكان الدكتور خلف الله في رده قد طلب مني أن أجيب على أسئلة طرحها وطلب مني أن أهتدي بهدي القرآن الكريم لأخرج من الظلمات إلى النور وأهتدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فإنني أوضح الحقائق التالية: أَوَّلاً: حَقِيقَةُ أَقْوَالِ الفُقَهَاءِ: إن جريدة " الوطن " ليست وكيلاً عن الدكتور خلف الله، ولا تملك أن تعبر عن قصده، فعبارته: «إن كل ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله» هذه العبارة في ظاهرها تفيد أن

ثانيا: طبيعة الحكومة الإسلامية

السنة النبوية ليست ما أنزل الله، وبالتالي تسري بشأنها القاعدة التي وضعها وهي أن التعامل معها بعقولنا فنقبل منها ما تقبله هذه العقول التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأفهام والتأثيرات اليمينية واليسارية. وإذا كان الدكتور خلف الله يقصد أن أقوال ابن تيمية وابن القيم والمودودي وسائر الفقهاء ليست بذاتها من عند الله، وبالتالي لنا أن نجتهد فيها وأن نتعامل معها بعقولنا فهذا ما يقوله الصغير والكبير في الجماعات الإسلامية التي أشار إليها الدكتور. فأقوال الفقهاء تعرض على القرآن والسنة النبوية ولا تطاع إلا في حدود موافقتها لهما. ولكن سياق عبارة الدكتور خلف الله تشمل السنة النبوية كما تشمل أقوال الفقهاء. فكان عليه الإيضاح إن كان ما يقصده هو ما أجابت به جريدة " الوطن ". ثَانِيًا: طَبِيعَةُ الحُكُومَةِ الإِسْلَامِيَّةِ: أورد الدكتور في رده أن الخلفاء لا يخلفون الله من حيث أن الله لم ينص ذلك كما نص في خلافة داود. ومن حيث أن الخليفة يخلف غيره حين يغيب لمرض أو سفر أو وفاة وليس يصح شيء من ذلك بالنسبة إلى الله. وتساءل الدكتور: هل أملك أن أعين خليفة للهِ في أرض اللهِ من غير أن يأذن اللهُ؟. وأين هو الإذن؟ ولن أجيب على ذلك بما أوردته في المقال الثالث عن الحكومة الدينية التي كانت ظل الله في الأرض. لأن هذا قد أوقفت " الوطن " نشره. وإنما أحيل الجميع إلى المقال الأول المنشور يوم 26/ 11 / 1982 حيث جاء به بالحرف: «إن قول الدكتور خلف الله يخلط بين حكم الإسلام وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا. وكانت تدعي أنها ظل الله في الأرض، وبالتالي فما يصدر عنها يكون تشريعًا من الله، لأنها جاءت بسلطان من الله تعالى. وهذا الأمر يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً، والقاصي والداني يعلم ذلك. فالقرآن الكريم قد حذر من هذا السلطان الديني الكاذب وعده من أنواع الشرك بالله وهذا ما قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدي بن حاتم حين جاء يعلن إسلامه. فَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ قَوْلَ اللهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فَقَالَ عَدِيٌّ: «مَا عَبَدْنَاهُمْ». قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ الحَرَامَ وَيُحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ الحَلَالَ فَاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قَالَ عَدِيٌّ: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُمْ». انتهى (*) ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) قارن بالصفحة 187 من هذا الكتاب.

ثالثا: بين النبوة والحكومة الدينية

ثَالِثًا: بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالحُكُومَةِ الدِّينِيَّةِ: قال الدكتور: «لقد كان محمد - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - يستمد سطلته من الله. فهل أمده اللهُ بسلطة غير سلطة النبوة والرسالة. وهل أمد الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خلفاء محمد - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بمثل هذه السلطة؟». وطلب مني الدكتور أن أجيب. وجوابي أشرت إليه في المقال الأول على النحو السالف ثم قلت: «ولقد نص القرآن على أن الرسول هو خاتم النبيين وذلك ليمنع قيام مثل هذا السلطان الديني فلا يملك أحد بعد النبي أن يشرع للناس بخلاف ما جاء في القرآن والسنة. وهذا هو الفيصل بين حكم الإسلام وبين ما يسمى بالحكومة الدينية». وأما سلطة الحكم ففي البند التالي. ثم قلت: «الإسلام لا يعرف ما يسمى بالحكومة الدينية وهذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله». ولكن المقال لم ينشر. رَابِعًا: الحُكْمُ الإِسْلَامِيُّ وَالحُكُومَةُ الدِّينِيَّةُ: يقول الدكتور خلف الله: «أعتقد أن ما بيني وبين الأستاذ سالم البهنساوي قريب جِدًّا وأن الاختلاف يمكن أن يقضي عليه عندما نقف عند المفاهيم القرآنية ولا تتجاوزها إلى مفاهيم أخرى عصرية، لم يقصدها القرآن الكريم أبدًا. وأول هذه المفاهيم هو معنى الحكم الذي أشار إليه الأستاذ البهنساوي، وقدم الدليل عليه من القرآن الكريم حين أورد قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (¬1). ووقوف الأستاذ البهنساوي عند هذا الحد من الآية الكريمة هو الذي حال بينه وبين مفهوم كلمة الحكم من حيث أن كل الآيات التي وردت في القرآن الكريم لا تعني من هذه الكلمة الحكومة أو السلطة وإنما تعني بها القضاء بالعدل». ثم أورد آيات الحكم بما أنزل الله وعلق عليها بقوله: «إن الحكم في هذه الآيات جميعها، وفي كل آية وردت فيها هذه الكلمة لا يعني أبدًا غير الفصل في الخصومات بالأحكام الشرعية التي وردت في التوراة والإنجيل والقرآن. الحكم في القرآن كله لا يعني غير القضاء والفصل في المنازعات. والحكم في القرآن الكريم لا يعني أبدًا الحكم الذي يستمد سلطته من الناس وينشئ الحكومة التي تدير شؤون الحياة في المجتمعات». ¬

_ (¬1) [المائدة: 49].

خامسا: الإسلام والدين والدولة

جوابنا على ذلك هو: أ - لقد تضمن مقالي الأول أن السلطان الديني والحكومة الدينية بالمفهوم الكهنوتي لا يقول به مسلم. وقلت في نهاية المقال: «فحكم الإسلام هو تطبيق نصوص القرآن والسنة والتزام الحاكم والمحكوم بها. وليس إعطاء قدسية ما لبعض الحكام يحرمون ويحلون من دون اللهِ. فذلك هو الشرك مع اللهِ كما جاء في القرآن وبينته السنة النبوية». ب - لم يقل علماؤنا أن القرآن والسنة قد نَصَّا على أشخاص يستمدون سطلتهم من الله في حكمهم للناس، فذلك هو المفهوم الكنسي للحكومة الدينية وهو ما يبطله الإسلام ويعده شركًا مع الله. ولكن قيام الحكومة من الناس واستمدادها السلطة من الأمة لا يعني أن هذه الحكومة تملك أن تصدر التشريع الذي يخالف القرآن والسنة النبوية. فهذا أمر مقبول في المجتمعات الغربية وله قواعد دستورية أهمها نظرية السيادة التي تجعل الشعب هو صاحب السيادة في التشريع. وفي المجتمعات الشيوعية يتولى الحزب الشيوعي نصب الحكومة التي لا تملك الخروج على مبادئ ماركس ولينين. أما الإسلام فالحكومة فيه تستمد سلطتها من الأمة ولكنها مقيدة في أعمالها وتصرفاتها، فلا تملك أن تخالف القرآن والسنة النبوية، فإن فعلت كان قرارها باطلاً لا شرعية له. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). خَامِسًا: الإِسْلَامُ وَالدِّينُ وَالدَّوْلَةُ: يقول الدكتور خلف الله: «إن النبي لم تكن له وظيفة أخرى غير النبوة والرسالة، وإذا كان الأستاذ البهنساوي يريد أن يؤكد للناس أن الإسلام قد كان له دولة فإن عليه أن يقدم الدليل من القرآن الكريم». والجواب على ذلك هو: أ - لماذا يقتصر الدليل على ما ورد في القرآن؟. فالدكتور لا ينكر السنة وعليه أن يطلب الدليل منها. وإلا كان منكرًا لها حسب ظاهر أقواله. ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 36].

سادسا: جعل الدكتور خلف الله رده بعنوان

ب - أوضحت في المقال الأول أن الدولة الحديثة لها مقومات ثلاثة هي شكل الحكومة والسلطات الثلاثة وحقوق الأفراد. وكل ذلك قد جاء به القرآن. وقدمت الدليل عليه من كتاب الله، كقول الله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬1). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} (¬2). وأود أن يعلم الجميع أن الآية 25 من سورة الحديد قد نصت على أن رسول الله كانت له مهمة رئيسة هي إقامة الدولة والحكم بين الناس بالقسط، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. فهذا النص قد وضح أن الرسل جاءوا للبشرية لإقامة حكم فيه: 1 - سلطة تشريعية هي الكتاب الذي دل على السنة. 2 - سلطة تنفيذية رمز إليها بالحديد. وقدمت الدليل من السنة النبوية ومن ذلك الدستور الذي وضعه النبي في أول حكمه بالمدينة ليحكم العلاقات بين المسلمين وبينهم وبين غير المسلمين، وأن هذا الدستور يتضمن القانون الدولي العام والخاص. ج - إن لم يكن الرسول حاكمًا، وأمر المسلمين بإقامة حكم إسلامي، فما معنى قول الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقوله سبحانه: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. د - إن كانت وظيفة النبي هي النبوة والرسالة فقط - أي مجرد تبليغ الدين - فالحروب والغزوات التي قام بها لا تدخل ضمن ما حدده له بها ولا تدخل ضمن ما حدده له الدكتور من عمل الرسالة. وكذلك إعداده الجيوش والقواد لغزو الروم ثم التحرك بهم حتى وصل إلى تبوك وعقده مع زعماء جرباء وأذرح وأيلة. وهل تعيينه معاذًا حاكمًا على اليمن من أعمال النبوة؟، وهل غزوة مؤتة المتجهة نحو الروم من أعمال النبوة؟، وهل تعيينه أمراء لجمع الزكاة جبرًا من أعمال النبوة؟، أم أن ذلك من أعمال الدولة فقام بها الخلفاء؟. سَادِسًا: جَعَلَ الدُّكْتُورُ خَلَفْ اللهْ رَدَّهُ بِعُنْوَانٍ: «هل يجوز أن يكون الدين من عند غير الله؟» وساهمت " الوطن " في نشر ذلك في صفحتها الأولى وهذا يوحي أنني أجيز ذلك ولا أحب أن أقول: أذلك قد ورد في مقالتي الأولى الذي نشرته " الوطن " يوم 26/ 11 / 1982 ومقالي الثاني المنشور يوم 3/ 12 / 1982 وكلاهما تضمن أنه لا يحل لمسلم أن يقتصر على ما جاء في القرآن، فالدين يشمل القرآن ¬

_ (¬1) [الشورى: 38]. (¬2) [الحجرات: 9].

وَالسُّنَّةِ مَعًا، والنبي يقول: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، والله تعالى يقول عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬1). أما ما ختم الدكتور به في قوله: «بقي أن أهمس في أذن الأستاذ البهنساوي بأن الدين غير التشريع، وأن مصدر الدين هو الله سبحانه وتعالى، أما مصدر التشريع فيكون القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين والإجماع والقياس وما إلى ذلك مما عده علماء أصول الفقه من مصادر التشريع والتي وصلت إلى تسعة عشر مصدرًا». والجواب عليه: 1 - أنه لو صح أن الدين غير التشريع لكان مصدر الدين هو القرآن والسنة وليس القرآن فقط فإن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). 2 - إن مصدر التشريع ينحصر في القرآن والسنة النبوية، لأن الإجماع والقياس وغيرهما مما عده علماء الأصول مصادر هي في حقيقتها ليست مصدرًا مستقلاً. فلا حجة لها إلا إذا كان لها مستند من الكتاب والسنة. وهذا هو الذي يفرق بين الاجتهاد البشري وبين التشريع المنزل من عند الله والمتمثل في القرآن والسنة. 3 - لقد ورد لفظ الدين في القرآن الكريم بمعنى التشريع والقانون في قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (¬3). وورد الدين بمعنى العقيدة في قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬4). وورد بمعنى المناسك التعبدية في قول الله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬5). وقد فصلت ذلك في كتابي " الحكم وقضية تكفير المسلم " المتضمن الرد على انحرافات بعض الشباب. 4 - ولا يوجد أحد من المسلمين يقول: إن الإنسان أو الحاكم خليفة الله بمعنى أنه ينوب عن الله ويتولى سلطاته، لأن هذا ما أخبر النبي أنه شرك مع الله، في قوله لعدي بن حاتم (*) عن الأحبار والرهبان {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. ¬

_ (¬1) [النجم: 3، 4]. (¬2) [الحشر: 7]. (¬3) [البقرة: 193]. (¬4) [البقرة: 256]. (¬5) [الشورى: 13]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر: التعليق في ص 14 من هذا الكتاب.

وقفة نهائية مع الدكتور محمد خلف الله: النبي والدولة .. والاجتهاد والنص

أما قول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬1)، فليس معناه خليفة عن الله بل يفسره قول الله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (¬2). أي يخلف بعضهم بعضًا. فقد جاء في معاجم اللغة: خلف فلان فلانًا أي جاء بعده. ومنه قول الله: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (¬3). كما قال الله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (¬4). فَهَذَا خَلَفَ هَذَا أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ. أما قول الله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (¬5). أي أنفقوا من المال الذي أنتم عليه أمناء ويدكم عليه يد عارضة سيخلفكم فيه غيركم من الورثة وسيؤول إليهم. وختامًا نرجو أن يدرك الجميع أن ما نلقاه وذكرناه ليس جدالاً ولا مراءً (¬6). وَقْفَةٌ نِهَائِيَّةٌ مَعَ الدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ خَلَفْ اللهْ: النَّبِيُّ وَالدَّوْلَةُ .. وَالاِجْتِهَادُ وَالنَّصُّ: لقد نشر الدكتور محمد خلف الله كلامًا يتعلق بالحكم الإسلامي والسنة النبوية، تناولته بالحوار لكنه في 17/ 12 / 1982 ادعى أنني في حواري معه نقلت عنه غير الحقيقة بل أوهامًا توهمتها إذ لم أقرأ النصوص قراءة سليمة ولم أفهمها فهمًا دقيقًا، وانتهى إلى أن ما يقوله هو الحق وما قلته هو الباطل وطلب أن أهتدي معه إلى هذا الحق وأترك الجدال. ولما كان دفاعي لا يتعلق بشخصي بل ينصب حول وظيفة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنزلة السنة النبوية مع الدين والتشريع وهذا أمر لا يملك أحد منا أن يبتدع فيه حكمًا كما أن ما قاله كل منا ليس سرًا لم يطلع عليه أحد بل قد نشرته الصحف اليومية ويمكن الاحتكام إليه دون تراشق بالألفاظ أو تحوير الكلمات. فأضع صاحبي والقراء أمام الحقائق التالية: • أَوَّلاً: السُّنَّةُ وَقِيَامُ الدَّوْلَةِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ: «لا نستطيع أن نسمي ما قام به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحكومة، فما قام به هو ¬

_ (¬1) [البقرة: 30]. (¬2) [الأنعام: 165]. (¬3) [الأعراف: 142]. (¬4) [الفرقان: 62]. (¬5) [الحديد: 7]. (¬6) نشر بـ " الوطن " يوم 17/ 12 / 1982.

شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة». وفي رده يوم 17 ديسمبر طلب مني: أ - ألا أخلط بين شؤون الدولة والحكم، وبين شؤون النبوة والرسالة. ب - أن يكون سندي في كل ما أرغب في الوصول إليه هو القرآن الكريم. ج - ألا أنكر ولا غيري صحة قوله: «إن ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل اللهُ». وأضاف أن القارئ قد فطن إلى أن قوله هذا لا يتصل بقريب أو بعيد بعنوان مقالي الثاني «السنة بين المستشرقين وعلماء السلطان». والجواب على ذلك هو: 1 - أن تكرار طلبه أن يكون دليلي هو القرآن لهو أكبر دليل على عدم أخذه بالسنة النبوية. 2 - أن عبارته التي يدعي أنني لم أفهمها وهي: «أن ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله» لا تحتاج إلى إعمال نظر في الفهم، فهي صريحة أن كل ما لم يرد في القرآن ليس من عند الله يدخل في ذلك السنة النبوية وهو حتى اليوم لم يصرح باحتكامه إلى هذه السنة. 3 - إن المسلم لا يملك أن يقول: إن السنة النبوية غير ملزمة بدعوى أنها لم ترد في القرآن أو أن يقول أنه لا يأخذ من السنة إلا ما كان بيانًا لما في القرآن، وهذا هو إجماع المسلمين لما يأتي: - الأول: لتبين أن القرآن أمرنا بطاعة الرسول فيما أمر به أو نهى عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). وقطعًا فهذا أمر آخر غير القرآن، فمن قال: غير القرآن لا يكون من عند الله دون أن يستثني السنة النبوية، يدخل هذه السنة في الفكر البشري الخاضع للاجتهاد وهذا ما يحاوله صاحبنا. - الثاني: أن قول الله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2). يخول ¬

_ (¬1) [الحشر: 7]. (¬2) [النحل: 44].

• ثانيا: النبي والدين والدولة

الرسول بيان ما جاء في القرآن، وهذا البيان يشمل أيضًا كل حكم جديد ليس في القرآن كتحريم لحم الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وهذا ما فصلته في المقال الثاني مع مزيد من الأمثلة والأدلة من القرآن والسنة، وكذلك تحريم زواج العمات والخالات، وهذا ما عليه إجماع المسلمين، وصاحبنا يقول بخلافه، وهو ما يقول به المستشرقون وبعض الحكام سواءً من غير المسلمين أو مسلمين نكسوا رؤوسهم. فهل ما أجمع عليه المسلمون بشأن السنة النبوية وهو ما نتمسك به هو الضلال، والبدعة التي ينادي بها الدكتور خلف الله هي الحق الذي يجب أن نهتدي إليه؟ • ثَانِيًا: النَّبِيُّ وَالدِّينُ وَالدَّوْلَةُ: كرر صاحبنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينشئ حكمًا ولا دولة بل قام بإصلاح إداري، ولم يبين الدولة والحكومة التي أسندت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإصلاح الإداري المزعوم، والغريب أن الإسلام في رسالته الخاتمة قد تميز بتنظيمه للدولة في شؤونها الداخلية والخارجية، وقد أوضحت في المقال الأول أن هذا من مهام الرسل استنادًا إلى الآية 25 من سورة الحديد، التي أشارت إلى مقومات الدولة والسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. ولكن صاحبنا قد تجاهل ذلك وادعى أن قول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬1) أمر خاص بنبي الله داود ولا ينطبق على خاتم المرسلين، ويزعم أنه لم يرد في القرآن بذلك. وبهذا المنطق المعكوس يستطيع كل جاهل أو محرف لدين الله يقول إن صلاة الصبح أو صلاة الظهر لم ترد في القرآن فلا نلزم بها أو إن زكاة المعادن لم ترد في القرآن فلا نلزم بها. ومع عدم [تسليمنا] له أن يكون الدليل من القرآن فقط لأن في هذا إنكار للسنة النبوية. فإن القرآن الكريم قد قال لنبيه والمؤمنين معه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬2). وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (¬3). كما قال الله لنبيه في شأن أسرى معركة بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬4). فهذه الآيات وغيرها مما أوردته في المقال الأول متعلقة بأمور السلم والحرب، لا يمكن أن ينفذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من خلال حكومة ودولة. ¬

_ (¬1) [ص: 26]. (¬2) [الأنفال: 39]. (¬3) [الأنفال: 41]. (¬4) [الأنفال: 67].

فهل كانت المدينة المنورة تحت حكم اليهود أو الوثنيين من العرب ونفذوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآيات القرآنية لأنه قام بإصلاح إداري لحسابهم! ثم كيف ينكر مسلم أن أول شيء فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة هو أن وضع وثيقة ودستورًا يحكم العلاقة بين أفراد الدولة التي أقامها سواءً من المسلمين أو اليهود أو غيرهم، وقد جاء في ديباجة هذا الدستور أو هذه الوثيقة أو هذه الصحيفة: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِالحَقِّ وَلَحِقَ بِهِمْ»، وجاء بهذه الوثيقة عن اليهود «أَنَّ اليَهُودَ يَتَّفِقُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ». وقد حدد هذا الكتاب حدود الدولة وسماها النبي بحرم المدينة. وهذا الكتاب يقع في 47 مادة أو بُنْدًا، فما حكم من أنكره؟ لقد حصر الدكتور محمد حميد الله الوثائق السياسية في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبلغت 244 وثيقة، منها هذا الدستور وصلح الحديبية، الذي تضمن وضع الحرب 10 سنين، والذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الفتح، فهل هذه ليست دليلاً على الدولة؟ وهل المشورة في الحروب التي قادها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست إلا لجانًا من أولي الأمر ولا تدل على وجود دولة؟. ولم يقم بها الرسول الكريم، كما يدعي الدكتور خلف الله. وإذا كانت مشورة النبي في الحروب «ليست دليلاً على الدولة وخصوصًا عندما تكون هذه اللجان من أولي الأمر إلى جانب النبي»، وهو ما ادعاه الدكتور خلف الله. فمن هم أولو الأمر الذين شكلوا اللجان بجانب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وإذا قلنا ذلك نكون محرفين بالنصوص أو لم نفهمها فهمًا دقيقًا ونكون قد قلنا الباطل؟ وإلى من يتوجه الخطاب في قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} (¬1)، لقد نزل هذا على النبي في عصره فهل التحاكم في هذا النص وغيره موجه إلى أفراد ليس لهم سلطان الدولة التي تحتكم إليها وإلى مؤسساتها الدستورية، لأن القرآن لا يحكم هو بين الناس بل يحكم به الحكام ومن يسندون إليهم هذا الأمر من القضاة والأمراء؟ ¬

_ (¬1) [النساء: 60].

إن العالم في أي جانب من الجوانب الكونية إذا ما حمل بين جوانحه قلبًا مؤمنًا بالدين، فيستحيل ألا يزداد إيمانه، لأن علمه بأسرار الكائنات هو في الوقت نفسه علم بعظمة من خلق تلك الكائنات، وبدأها وسواها وأجراها على سنن منظومة، هي التي يكشف عنها العلماء ويطلقون عليها اسم «القوانين العلمية». «ومن أبرز الفوارق بينهما، أي الدين والعلم، مما لا بد أن نكون على وعي شديد به، هو أن مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بهذا الدين، لأنها معايير يقاس بها السلوك ولا بد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد، وإلا فقد معياريته ... وأما العلم فهو متغير مع تقدمه في تعاقب العصور». ج - وفي مقاله المنشور في " الأهرام " و" الوطن " يوم 5/ 4 / 1988 يقول: «العقيدة مدارها التوحيد والقيم الضابطة للسلوك، ويرجع في ذلك إلى الأصلين، القرآن الكريم وسنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ما أشكل أمر لم يرد عنه نص في هذين الأصلين، فمرجع المسلم فيه هو العقل، ولا فرق بين أن نقول إنه العقل أو إنه إجماع الرأي عند الثقات. والنضج العقلي يكون بالقدرة على تمثيل المبادئ التي نزل بها دين الإسلام، والتزامها في استدلالاته العقلية بعد ذلك، كلما أراد لنفسه هداية في دنيا السلوك». لا ينكر أحد أن الرسل كانوا يحكمون، لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1). ويقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬2)، وإن كان فهمي هذا باطلاً مع أنه إجماع فقهاء الأمة فمن من الفقهاء فهم مثل فهم الدكتور خلف الله وادعى أن مصلحة الناس تقدم على النص وهو القرآن أو السنة أم أن الإجماع أن المصلحة تقدم إذا لم تتعارض مع القرآن أو السنة (¬3). وأخيرًا فأحيل القارئ إلى مقالي التالي والذي نشر بـ " الأهرام " حيث قد عرى الدكتور خلف الله من تمسحه بالقرآن الكريم. ¬

_ (¬1) [آل عمران: 79]. (¬2) [النساء: 105]. (¬3) نشر بـ " الوطن " في 24/ 12 / 1982. وانظر صفحة 278.

القومية والقرآن العصري بين خلف الله وسيف الدولة

القَوْمِيَّةُ وَالقُرْآنُ العَصْرِيُّ بَيْنَ خَلْفَ اللهْ وَسَيْفِ الدَّوْلَةِ: نشر الأستاذ الدكتور (محمد أحمد خلف الله) مقالاً في صفحة " الحوار القومي " تناول موضوع القومية العربية والإسلام. تطرق فيه إلى مقال للأستاذ (محمد حامد أبو النصر)، ومقال الأستاذ المرحوم (عمر التلمساني) .. وقد علل الدكتور (خلف الله) رده بقوله: «مقال المرشد العام، قد أفسد الجو بين القومية العربية والإسلام إلى الحد الذي لا يصح معه السكوت أبدًا». كما وصف مقال المرشد الراحل الأستاذ عمر التلمساني بقوله: «إنه الأقرب إلى مفهوم وحدة الأمة الذي جاء به القرآن الكريم». وبقوله: «إنه يرفع التناقض بين العروبة والإسلام». وكما قدم الدكتور خلف الله نفسه للقراء في قوله وعلاقة الإسلام بالعروبة إنما تتحدد بما حدده القرآن الكريم لهذه العلاقة وليس أبدًا بما نفرضه نحن على هذه العلاقة، فهل جعل الدكتور خلف الله الإسلام هو الفيصل فيما اختلف فيه؟ إنه لم ينزل إلى حكم الإسلام في مقاله هذا، وفي فكره القومي بصفة عامة، في الوقت الذي يقول فيه: إن القرآن هو الذي يحدد علاقة الإسلام بالعروبة لهذا ودفاعًا لهذا ودفاعًا عن الإسلام نركز على الآتي: عَلَاقَةُ الإِسْلَامِ بِالعُرُوبَةِ: ذكر أن القرآن الكريم حين يحدد العلاقة بين العروبة والإسلام، يجعل العروبة هي الأصل ويجعل الإسلام هو الفرع، ثم يذكر أن الثقافة الإسلامية تؤكد ما جاء به القرآن من أن الإسلام مرتبط بالعروبة ارتباطًا عضويًا، وأن الأصل العروبة وليس الإسلام، وهذا الذي يذكره الدكتور خلف الله لا يوجد أي دليل عليه من القرآن الكريم الذي جعل العقيدة هي الأصل وليست العروبة أو غيرها .. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). وها هو المفكر القومي الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه " عن العروبة والإسلام " يصحح هذا الخطأ فيقول: «لا مجال إذن للخلط بين علاقة الانتماء إلى العروبة وعلاقة الانتماء إلى الإسلام، لا في الأشخاص ولا في المضمون ...». إن الإسلام علاقة ¬

_ (¬1) [التوبة: 24]، وهذا الرد قد نشرته " الأهرام بتاريخ 10/ 6 / 1987.

الإسلام والقومية

انتماءً إلى دين خالد في الزمان بحكم أنه خاتم الرسالات والأديان وخالد في المكان بحكم أنه رسالة إلى كل البشر، أما العروبة فعلاقة انتماء مقصورة على شعب معين» (¬1)، ويقول: «وإن من المنافقين من أبناء أمتنا العربية من يناهضون الإسلام باسم العروبة»، كما يقول: «ولا نتتبع هنا كل صور النفاق الذي يخفي مناهضة الإسلام بالعروبة ومن أشكال هذا النفاق هو ظاهر السذاجة ... ومن ذلك الاستعلاء على الإسلام باسم العروبة، فالاستعلاء استئصال يمهد للاستغناء. حيث يفاخر بعض العرب بأن الرسول قد كان منهم، وكان القرآن بلغتهم وبأن في ذلك آيتين على أن الإسلام دين العرب وفضلهم على الناس كافة، وأنهم استحقوا أن توضع الرسالة فيهم فوضعت. إنهم ينافقون الشعب العربي يبغون مرضاته، ربما ليقبلهم في موقع القيادة منه، ولكنهم يجعلون من الإسلام ثمرة من ثمار حضارة ينسبونها إلى أمة عربية لم توجد قط، كأن العروبة هي الأصل وما كان الإسلام إلا فرعًا، ونشهد أننا لم نقرأ ولم نسمع شيئًا أكثر جهالة من هذا الذي اختاره العرب أسلوبًا لمناهضة الإسلام باسم العروبة» (¬2). لا جدال أن الإسلام مثلما جاء للعرب وبلغتهم، فإنه جاء للناس كافة، فكما قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} (¬3)، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} (¬4) [المائدة: 15]. وقال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (¬5). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬6). الإِسْلَامُ وَالقَوْمِيَّةُ: يقول الدكتور: «يخطئ المرشد العام (أبو النصر) لأنه ذهب إلى أن العروبة هي اللسان واللغة وليست القومية». والدكتور لا ينكر أن القومية مذهب يؤمن به الإنسان عند إدراكه، أما العروبة فهي انتساب إلى وطن والأصل فيه اللغة، ولهذا قال المفكر القومي الدكتور (عصمت سيف الدولة): «إن الإسلام علاقة انتماء تنشأ بالتمييز فالإدراك فالإيمان. أما العروبة فعلاقة انتماء إلى ¬

_ (¬1) كتاب " عن العروبة والإسلام ": ص 24. (¬2) نفس المصدر: ص 182. (¬3) [المزمل: 15]. (¬4) [المائدة: 15، 19]. (¬5) [النساء: 79]. (¬6) [سبأ: 28].

الهدف من الإسلام

وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن مميزًا» (¬1). فإذا أريد بالقومية تفضيل العرب على غيرهم فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» (¬2)، وقال: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اعْمَلِي فإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا». وإذا أريد بالقومية، رابطة تناهض الإسلام فالله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬3). أما إذا كانت القومية أن يصبح العرب أمة واحدة تتفاعل فيما بينها للدفاع عن أرضها وشعبها وتعمل من أجلهم وتجاهد من أجل عقيدتهم المشتركة فهذا لا ينازع فيه أحد من العرب والمسلمين، - إن كانوا عربًا أو مسلمين - وهذا ما أوضحه الدكتور (عصمت سيف الدولة) الذي أشاد برأي الإمام (حسن البنا) مؤسس " جماعة الإخوان " في ذلك. ويقول خلف الله: «حين دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرب إلى إفراد الله بالعبادة، كان يعتبر ذلك البديل للشرك العربي الممثل في اللات والعزى وما إلى ذلك .. ثم ترتبط الصلاة بالأرض العربية ويرتبط الحج بالأمكنة العربية والأزمنة العربية وكذلك الصوم يراه مرتبطًا بالشهور العربية، فهل يستطيع المسلم أن يؤدي فرائض دينه في غير مقوماتها العربية وإن كل الذي دخلوا في الإسلام سواءً تعربوا أم لا، إنما يمارسون حياتهم الدينية من حيث الفروض والواجبات على أساس من العروبة وليس يصلح لغير العربي أن يقيم الدين الإسلامي إلا على أساسه العربي وإلا كان ما سيؤديه إسلامًا آخر». ولسنا ندري ما هو النص سواءً الآية القرآنية الكريمة، أو الحديث النبوي الشريف الذي يجعل إسلام الأوروبي إسلامًا آخر إذا صلى بغير اللغة العربية. ثم ما هو النص الشرعي الذي يجعل إفراد الله بالعبادة بديلاً عن الشرك العربي، فعبادة الله وحده ليست بديلاً عن الشرك فهي أصل والشرك عارض وطارئ. الهَدَفُ مِنَ الإِسْلَامِ: إن القرآن الكريم قد حدد الهدف من رسالة الإسلام في آيات لا نكاد نحصيها منها قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق: ص 23. (¬2) رواه أحمد: ج 2 ص 252. (¬3) [الأحزاب: 36].

إقليمية الرسالة

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (¬1). ولكن الدكتور يقول: «إن الهدف من الرسالة الإسلامية أولاً وقبل كل شيء هو الارتفاع بالمستوى الحضاري للأمة العربية، وذلك عن طريق الرسول الذي يعلمهم الكتاب والحكمة». وأين هذا من الآيات القرآنية التي تحدد رسالة الإسلام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور عن طريق اتباع تشريع الله الممثل في القرآن والسنة، إذ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ...} (¬2). وقال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...} (¬3). إِقْلِيمِيَّةُ الرِّسَالَةِ: يحاول الدكتور (خلف الله) أن يجعل من العروبة رسالة يصبح الإسلام تابعًا لها كما جعل العروبة هي الأصل والإسلام هو الفرع، فيقول: «وعروبة القرآن أو اختيار المولى سبحانه وتعالى للغة العربية لتكون لغة الوحي إنما كان بسبب أن الرسالة الإلهية موجهة إلى الأمة العربية أولاً وقبل كل شيء». وسبق أن ذكرت رد الدكتور (عصمت سيف الدولة) من أن الإسلام رسالة للناس كافة، أما العروبة فانتماء إلى شعب معين. وقد ختم هذه القضية بقوله: «كانت خلاصة ما تقدم من تحزيب وتغريب أن نشأت في كل قطر عربي طبقة قومية الانتماء، إقليمية الولاء، مادية الباطن، إسلامية الظاهر، فردية البواعث، نفعية الغايات، رأسمالية النشاط، اجتماعية الأرباح، يتعلق بها وتتغذى عليها شخوص من الفلاسفة والمفكرين والكُتَّابِ والأساتذة والتلاميذ ... وهي طبقة نشأت مع الاستعمار، لتؤدي بالنيابة عنه ولحسابه نقض الحضارة العربية من بناء شخصية الإنسان العربي» (¬4). إنه لا يجهل أحد أن الإسلام جاء للعرب، ولكنه أيضًا جاء للناس كافة وهذا ما يدركه الدكتور (خلف الله) الذي لا نعنيه بالاقتباس الأخير. حَقِيقَةُ فِكْرِ الدُّكْتُورِ خَلَفْ اللهْ: إن الدكتور (خلف الله) يستشهد بالآيات القرآنية الكريمة، ليوهم القارئ أن العروبة ¬

_ (¬1) [المائدة: 48]. (¬2) [النساء: 60]. (¬3) [النساء: 65]. (¬4) المصدر السابق: ص 429.

براءة القرآن من أركسة القوميين

هي الأصل والإسلام هو الفرع، ويرتب على ذلك نتائج خطيرة لم يذكرها صراحة في مقاله، ولكنه نشرها في مقالات وكتب وهذه أهمها: 1 - بحوث الندوة الفكرية التي نظمها " مركز دراسات الوحدة العربية " المنشورة في كتاب باسم " القومية العربية والإسلام " والمنشور 1981. وفي هذه البحوث يرد الدكتور (محمد خلف الله) على المفكرين الذين يربطون بين الإسلام والقومية العربية فيقول: «يطلب للربط بين الإسلام والقومية العربية التنازل عن العلمانية، وهو ما لا يمكن أن تتخلى عنه القومية العربية، لأن ممارسة الحياة على أساس من العلمانية يمنح المجتمع حرية وانطلاقًا في تحقيق المصلحة العامة، على أساس من الحضارة العلمية أكثر مما يمنحه الإسلام» (¬1). 2 - وكتابه " الأسس القرآنية للتقدم "، يصرح بأكثر من ذلك فيقول: «تبقى بعد ذلك عملية تحرير العقل البشري من السلطة الدينية المتمثلة في نظام النبوة» (¬2). ويقول: «لقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان الآلهة فيما عدا سلطان الله» (¬3)، ولكنه يقول: «أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بنى عليه التوحيد وكيف كان تحرير العقل البشري من سلطان الآلهة بما فيهم سلطان الله» (¬4). لما كان ذلك كذلك فليس للدكتور (خلف الله) أن يلبس هذا الفكر اللاديني ثوب القرآن الكريم، وله إن شاء أن يكون علمانيًا أو لادينيًا ولكن ليس له صلاحية تحوير نصوص القرآن الكريم، هذا ما نبه عليه الدكتور (عصمت سيف الدولة) في فصل النفاق وفصل العلمانية بكتابه سالف الذكر (¬5). بَرَاءَةُ القُرْآنِ مِنْ أَرْكَسَةِ القَوْمِيِّينَ: بتاريخ 17/ 6 / 1987 نشر الدكتور (محمد خلف الله) مقالاً عن عروبة الإسلام ذكر فيه أنني ممن يعيشون في الوهم الذي صنعته القومية الفارسية، وأن وهمًا آخر يرسخ في ذهني، وهو أن عروبة الإسلام ضد عالميته تقتضي فصله عن عروبته، وذلك على الرغم من أنني لم أكتب ذلك ولم أقله. وكنا نود أن يذعن الدكتور (خلف الله) لحكم الإسلام في تحديد العلاقة بين الإسلام والعروبة والقومية، وخصوصًا وأنه يكرر أن الحقائق القرآنية لا يمكن أن تكون موطن الجدل ¬

_ (¬1) كتاب " القومية العربية والإسلام ": ص 55. (¬2) " الأسس القرآنية للتقدم ": ص 41. (¬3) المصدر السابق: ص 44. (¬4) المصدر السابق: ص 36. (¬5) نشر بـ " الأهرام " بتاريخ 10/ 6 / 1987 في صفحة " الحوار القومي ".

ومحل الشك والارتياب. غير أنه تعصب لفكره القومي العلماني، وحاول أن يجعل القرآن الكريم وسيلة لتأييد هذا الفكر مع مناهضته للإسلام حسبما فصله مقالي السابق. فها هو قد كتب في ذات الصفحة مقالين تناولا كلامي وكلام الدكتور (عبد الصبور شاهين) نشر الأول في 17/ 6 بعنوان " عروبة الإسلام " والآخر في 24/ 6 بعنوان " القومية حقيقة قرآنية ". وقد وضح، أنه يحاول إيهام القارئ أن الحوار كان يدور حول مسمى المقالين، بينما القضية الرئيسة في الحوار تمثلت في سؤال صريح بدأت به مقالي السابق وهو " هل جعل الدكتور (خلف الله) الإسلام هو الفيصل فيما اختلف فيه؟ " ثم أجبت بقولي: «إنه لم ينزل على حكم الإسلام في مقاله هذا وفي فكره القومي بصفة عامة». وقد استندت في إجابتي المذكورة إلى فقرات كاملة من أقواله، كما استشهدت على بعد فكره عن القرآن الكريم بآيات عديدة منه، وبفقرات من كلام الدكتور (عصمت سيف الدولة). فما كان من الدكتور (خلف الله) إلا أن أغفل هذه [الحقيقة] ............... (*). أن يفسد منا بيني وبين الدكتور (عصمت سيف الدولة)، ومس عقيدتي مسًا لا يصدر عن مستشار يبحث دائمًا عن الحق والعدل. والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن الدكتور (خلف الله) هو الذي حدد عقيدته بنفسه، وهي التي تباعد بينه وبين الدكتور (سيف الدولة) وغيره من الملتزمين بحكم الإسلام، بل ومن المنصفين من الباحثين غير المسلمين، وما كان دوري إلا أن أظهرت هذه الحقيقة، وما زال الأمر بيده إن شاء ترك فكره الذي يناهض الإسلام بالعروبة والقومية، وإن شاء أصر على موقفه السابق، غير أنه لا يوجد باحث منصف يقره على نسبه هذا الفكر إلى الإسلام. أما ما يوهم القارئ أن الحوار يدور حول مسمى مقاليه سالفي الذكر، فيتضح من قوله: «تلك هي القضية الأساسية التي لم تستوعبها الجماعات الدينية بعد، والتي يثور بشأنها الجدل والحوار ويقع ذلك على الرغم من أن عروبة الإسلام حقيقة قرآنية ...». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) بياض بالكتاب المطبوع.

كما تتضح هذه المحاولة من عبارات أخرى له منها قوله: «إن القرآن الكريم لم يتخذ موقفًا معاديًا للقومية». وبهذه المحاولات يتجاهل أن مقالي محل رده هذا، وقد ورد به: «إذا كانت القومية أن يصبح العرب أمة واحدة ... فهذا لا ينازع فيه أحد من العرب أو المسلمين». كما تجاهل الدكتور (عصمت سيف الدولة) وهو من كبار المفكرين القوميين، قد حدد موقف كبرى الجماعات الإسلامية من العروبة والقومية بقوله: «إن الأمة العربية هي أمة الإسلام وإنجاز ثورته، وحاضنة حضارته، وحاملة رسالته إلى كل شعب يقبلها بدون إكراه، في أي دولة من دول الأرض، وهذا ما فطنته " جماعة الإخوان المسلمين " بإرشاد قائدها (حسن البنا)»: ص 165. ولعل الدكتور (محمد خلف الله) قد اطلع على " رسالة المؤتمر الخامس " للشهيد حسن البنا الذي حدد الموقف من الوحدة القومية والعربية والإسلامية فقال: «إِنَّ هَذَا الإِسْلاَمَ الحَنِيفَ نَشَأَ عَرَبِيًّا وَوَصَلَ إِلَى الأُمَمِ عَنْ طَرِيقِ العَرَبِ، وَجَاءَ كِتَابُهُ الكَرِيمُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَتَوَحَّدَتْ الأُمَمُ بِاسْمِهِ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ يَوْمَ كَانَ المُسْلِمُونَ مُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: إِذَا ذَلَّ العَرَبُ ذَلَّ الإِسْلَامُ ...»: ص 176. ولعل الدكتور (خلف الله) لا ينكر أنه قد اقترن بالدعوة إلى القومية العربية تياران: - أحدهما: علماني يحاول أن يجعل من القومية مذهبًا يناهض الإسلام وهو ما قال عنه الدكتور (سيف الدولة): «إن الاستعلاء على الإسلام بالعروبة مناهضة وأركسة» أي قلب للحقائق: ص 185. «ويجعلون من الإسلام ثمرة من ثمار حضارة ينسبونها إلى أمة عربية لم توجد قط، كأن العروبة هي الأصل وما كان الإسلام إلا فرعًا منها، ونشهد أننا لم نقرأ ولم نسمع شيئًا أكثر جهالة من هذا الذي اختاره بعض العرب أسلوبًا لمناهضة الإسلام باسم العروبة»: ص 182 من كتابه " عن العروبة والإسلام ". - أما التيار الآخر، فيضع القومية العربية في موضعها الطبيعي داخل النظام الإسلامي، ولهذا نادى (الكواكبي) بانتقال الخلافة إلى العرب وأن تتكون جامعة إسلامية يتم توزيع وظائفها وفقًا لأهليات وخصال الأقوام المسلمين. وحقيقة فكر الدكتور (خلف الله) أنه يتبنى اتجاه التيار الأول، ولقد برهنت على ذلك في مقالي السابق فنقلت عنه إصراره على أن تظل القومية العربية إسلامية، لكن بشرط أن لا تتخلى عن العلمانية. كما نقلت عنه ادعاءه «أن الأساس الذي بنى عليه التوحيد هو تحرير

العقل البشري من سلطان الآلهة بما فيهم سلطان الله» (¬1). ولقد حاول الدكتور (خلف الله) أن ينقل القارئ إلى موضوع آخر يبعدنا عن الحوار سالف الذكر فحشد الآيات القرآنية التي تدل على الصلة بين الإسلام والعربية والقومية، ثم قال: «إن مصر تحركت بعد زوال الخلافة العثمانية وطلبت بالخلافة للملك (فؤاد)»، وقال: «إن المرحوم الأستاذ (حسن البنا) كان من الذين يتظاهرون من أجل دعوة الخلافة في مصر ولـ (أحمد فؤاد)». ولكن " مذكرات البنا " و" رسائله " لا تتضمن ذلك، ولم يسند الكاتب هذا إلى أي مصدر تاريخي، والمصادر تثبت أن (البنا) كان آنذاك طالبًا بدار المعلمين بدمنهور، والملك (فؤاد) لا يجرؤ في التفكير بالخلافة الإسلامية فضلاً عن أن يرشح نفسه حتى تقوم مظاهرات بتأييده، فهذا الملك كان أحد أدوات بريطانيا التي أسقطت الخلافة الإسلامية وخدعت العرب بوعد ونفذت وعدًا آخر لليهود، وفي سبيل ذلك قسمت بلاد العرب بينها وبين فرنسا طبقًا لاتفاق (سايكس بيكو). وأخيرًا يؤيد الكاتب فكره بأن كلمة الناس في أكثر آيات القرآن الكريم تعني العرب، أو المشركين منهم، من ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (¬2). وقال الناس هنا هم العرب، فالقبائل توجد فيهم إلى اليوم ولا توجد بمصر مثلاً، وقد نسي أن أصول اللغة العربية بمقتضى أن اللفظ العام يظل على عمومه ما لم تدل القرائن على أنه خاص، والعموم هنا لا دليل على تخصيصه بالعرب، لأنه إن كانت القبائل فيهم فهي توجد أيضًا في أفريقيا وأوروبا، كما أن الذكورة والأنوثة والشعوب ليست خاصة بالعرب بل الناس كافة. وفي الختام فإن لكل شخص أن يعتقد ما شاء من العقائد والأفكار، ولكن ليس له أن يفرض على القرآن الكريم مذهبًا قد ظهر على أيدي غير المسلمين، ثم تبناه بعض من أعلنوا العلمانية التي تختلف مع الإسلام، والقرآن منها براءٌ، ولكن (خلف الله) يريد أن يفرض على القراء مذهبه اللاديني، وينسب هذا الباطل إلى القرآن الكريم، وبهذا يستخف بعقول القراء ويستخدم أسلوبًا من النفاق الذي حذر منه الدكتور (عصمت سيف الدولة) (¬3). ¬

_ (¬1) كتاب " الأسس القرآنية للتقدم " للدكتور خلف الله: ص 36. (¬2) [الحجرات: 13]. (¬3) أرسل هذا المقال في 28/ 6 / 1987 بالبريد المسجل إلى جريدة " الأهرام " كرد على مَقَالَيْ خلف الله، ولكن =

الثيوقراطية بين الإسلام وحكومة رجال الدين

الثِّيُوقْرَاطِيَّةُ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَحُكُومَةِ رِجَالِ الدِّينِ: يطلق اصطلاح «الحكومة الدينية» على ذلك الشكل من الحكومة التي يكون أعضاؤها من الكهنة ورجال الدين، الذين لهم حق وضع الشرائع الدينية وتفسيرها، ويمارسون من خلال مناصبهم السلطة الزمنية والدينية، ويتمتعون بحق إلهي في الحكم، وبذلك فهم معصومون عن الخطأ في نظر أتباعهم الذين ينتمون إلى ملتهم ويطيعونهم كطاعة الله. ولقد عُرِفَ هذا الشكل من الحكومات في كثير من الشعوب البدائية التي كانت تمنح زعماءها وحكامها منزلة الأنبياء والآلهة، فلهم حق الحكم بدون مناقشة أو معارضة، لأنهم معصومون، وتعود أقدم أشكال هذه الحكومات، إلى اليهود بعد أن حرفوا التوراة وخالفوا أنبياءهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله .. وبدأ الكهنة فيهم يحللون ويحرمون ويغيرون في شرع الله كما يصور لهم الهوى والحاجة، كإباحة الربا مع غير اليهود وتحريمه فيما بينهم ولقد أفاضت آيات القرآن الكريم في بيان تزويرات اليهود وتحريفات كهنتهم للكتاب وسيطرتهم على عقول أتباعهم بتسلط خبيث. وَعُرِفَتْ هذه الحكومات أيضًا في العصور الوسطى الأوروبية عندما كانت سطلة الكنيسة تسيطر على الملوك والأمراء، وتفرض عليهم الإتاوات وتمنحهم البركة وصكوك الغفران، وزعمت أن لرجال الدين صلاحية إلهية في منح البركة وشفاء المرضى وعقد الزواج وقبول الاعتراف ومنح المغفرة وسلطة التحليل والتحريم. ولقد مارست هذه السلطة أعتى تصلبها في فرض الحروب الصليبية والدعوة إليها، وفي محاربة العلم والمنطق وفي إنزال أشد العقوبة بالمخالفين، كما في محاكم التفتيش والحروب الدينية القائمة في أوروبا. من هنا نرى أن «الثيوقراطية» أو ما يسمى بحكومة رجال الدين ليس من الإسلام ولا علاقة له بها، وطالما حاول أعداء الإسلام والمتجنون عليه أن يصموا حكم المسلمين بمثل هذا الشكل من الحكومات ويقولون «إنه عفا عليها الزمن»؛ لأن أوروبا تركتها بعد الثورة الفرنسية، ونرى بعض مدعي الإسلام وهم منافقون في الواقع يعارضون حكم الإسلام والدستور الإسلامي بحجة أنه يعني «حكم المشايخ أو وزراة الأوقاف» وهم ¬

_ = المسؤول عن صفحة " الحوار الوطني " وهو الأستاذ لطفي الخولي، كما لم ينشر رد شيخ الأزهر.

الإسلام والحق الإلهي المقدس

بذلك يفضحون جهلهم بالإسلام وغربتهم عنه أولاً. وثانيًا يفضحون مقدار عمالتهم الفكرية حيث يريدون تطبيق المفاهيم اليهودية أو المسيحية على الإسلام. الإِسْلَامُ وَالحَقُّ الإِلَهِيُّ المُقَدَّسُ: إن الاعتقاد بألوهية الحاكم نشأ في المجتمعات البدائية كما هو معلوم في التاريخ. فكان فرعون يستدل على ألوهيته في الحكم بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (¬1)، وبقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬2). ولكن بعد غرق فرعون مصر على نبي الله موسى زالت فكرة ألوهية الحاكم، ولكن عادت هذه من جديد بعد عصر (بولس الرسول)، فكانت صكوك الغفران والحرمان التي مارسها البابوات على الشعب، وعلى الحاكم، حيث جعلت سلطة الحاكم مستمدة من الله مباشرة، وهذا عرف باسم الحق الإلهي المباشر الذي جعل البابا (ليون الثالث عشر) يقرر أن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة. وبعد صراع بين الكنيسة والإمبراطور تطور هذا المفهوم فقالت الكنيسة بنظرية الحق الإلهي غير المباشر، ومقتضاه أن السلطة ممنوحة للحاكم عن طريق الشعب ولكن بتوجيه من الإرادة الإلهية غير المباشرة التي وجهت الشعب لاختيار الحاكم. ثم تطور هذا نتيجة إصرار الأباطرة على أنهم يستمدون سلطتهم من الله، ولا يمكن أن يكونوا مسؤولين أمام الشعب، وقد أدى هذا الانحراف إلى ردود فعل كبيرة، منها نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها (جان جاك روسو) و (توماس هوبز)، ومؤداها: أن السلطة السياسية جاءت نتيجة عقد واتفاق بين الحاكم والشعب ينوب فيه الحاكم عن الشعب ولقد كان مفهوم العقد الاجتماعي عند (لوك) أكثر تقييدًا لسلطة الحاكم إذ يشير إلى أن العقد بينهما يتضمن التزامًا على الحاكم بعدم المساس بالحقوق الطبيعية للإنسان. ولقد كان رد الفعل في أوروبا هو الديمقراطية، ومؤداها أن الشعب هو الذي يختار السلطة الحاكمة فإذا استمدت سلطتها من غير الشعب كانت سلطة غير شرعية، وهذه الديمقراطية تخول الشعب عن طريق من يمثلونه في البرلمان أن يضع ما يشاء من التشريعات. ¬

_ (¬1) [الزخرف: 51]. (¬2) [القصص: 38].

طبيعة الحكم الإسلامي

طَبِيعَةُ الحُكْمِ الإِسْلَامِيِّ: الإسلام يجعل التشريع من عند الله وهو تشريع قد اكتمل في القرآن والسنة النبوية فلا يملك حاكم أو محكوم أن يضع تشريعًا يخالفها. والحاكم يختاره الشعب ومهمته تنفيذ شرع الله، وهو التشريع سالف الذكر، فالحاكم ليست له حقوق وسلطات الحاكم في النظام الديمقراطي، فلا يوجد في النظام الإسلامي ما عرف باسم سلطات رئيس الدولة بل يوجد واجبات الخليفة. وطاعة الحاكم في الإسلام مقيدة ومشروطة بالتزامه بالقرآن والسنة، للحديث النبوي: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ». قال الماوردي: «فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ [فَهِيَ العَدَالَةُ] التِي تَجُوزُ بِهَا شَهَادَتُهُ، وَتَصِحُّ مَعَهَا وِلَايَتُهُ، وَإِنْ انْخَرَمَ مِنْهَا وَصْفٌ مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالوِلَايَةِ، فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ قَوْلٌ وَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ حُكْمٌ». وقال الإمام ابن حزم الأندلسي: «فَإِذَا زَاغَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُمَا، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَأقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ وَالحَقُّ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ أَذَاهُ إِلَّا بِخَلْعِهِ، خُلِعَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ». والحكم الإسلامي من أهم خصائصه أن يكفل الحريات العامة للإنسان، وأهمها الحرية الشخصية وحرية التنقل وحق الأمن وحق السكن وحرمته، وحرية العقيدة والفكر وحرية التملك وحرية العمل. إن هذه الطاعة للحاكم هي في حقيقتها طاعة للهِ الذي أمرنا باتباع هذا التشريع وطاعة من التزم به: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1) ... (¬2). حِوَارٌ حَوْلَ المَفْهُومِ الإِسْلَامِيِّ لِحَاكِمِيَّةِ اللَّهِ: لَيْسَ صَحِيحًا أَنَّ الحَاكِمِيَّةَ حُكُومَةَ كَهَنُوتٍ: في يوم الجمعة الماضي نشر بالصحيفة شعار الحاكمية لله، أن السلطان السياسي في المجتمع الإسلامي ليس حَقًّا من حقوق الأمة، فالبشر ليسوا هم الحكام في مجتمعاتهم، وإنما الحاكم في هذه ¬

_ (¬1) [النساء: 80]. (¬2) " الوطن " 3/ 1 / 1986، وفصل ذلك في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة " للمؤلف.

المجتمعات هو الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، أي أن الأمة هي مصدر السلطات كما تعارفت على ذلك الدساتير والأنظمة والنظريات التي تسود أغلب أنحاء الدنيا في العصر الذي نعيش فيه. وللوهلة الأولى تبدو هذه الدعوى ذات سلطان ديني يصادر تفكير الذين يختلفون مع أصحابها حول هذا الموضوع، فمن ذا الذي ينكر حكم الله؟ ومن ذا الذي يجادل ويماري في انتفاء سلطات الأمة أمام سلطان المولى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -؟. هذا النفر من العاملين والمشتغلين بالدراسات الإسلامية السياسية عندما يقررون أن نظرية الإسلام السياسية تختلف جوهريًا مع الديمقراطية السياسية لأن الديمقراطية هي حكم الشعب والأمة والسلطة فيها للشعب، على حين أن السلطة في الإسلام كما يقولون هي لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذ هو الحاكم والحاكمية له ولا حاكم إلا الله. وهم بقولهم هذا يجعلون صاحب السلطة السياسية في النظام الإسلامي الحاكم وكيلاً عن الله سَوَاءً صَرَّحُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يُصَرِّحُوا، لأن الحاكم هو في النهاية منفذ شريعة ومطبق قانون، وهو في عمله هذا إنما ينوب عن صاحب السلطة الأصلي في المجتمع، فإذا قلنا أن السلطة لله كانت دينًا ووحيًا ومن ثم كانت سلطة دينية وكان متوليها حاكمًا بالحق الإلهي ونائبًا عن الله وخليفة له وظلاً. أما إذا قلنا كما هو الحال في الفكر الديمقراطي، بأن صاحب السلطة الأصلي هو الشعب كان متوليها نائبًا عن الأمة ووكيلاً عنها أو شبه وكيل، وكان مسؤولاً أمام الأمة التي لها الحق في محاسبته ومراقبته وعزله إن هو أخل بشروط عقد البيعة والتفويض والاختيار، «على حين أن السلطة التي يزعم أربابها أن الحاكم في السياسة والاقتصاد هو الله، وتحدد بأنها تحكم باسم الله ونيابة عنه لا عن الناس». «وفي رأي هؤلاء الباحثين أن محور نظرية الإسلام السياسية يتمثل في نزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر لأن ذلك أمر مختص به الله وحده، ولما كانت الديمقراطية، السلطة فيها للشعب فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية بل أصدق منها تعبيرًا كلمة الحكومة الإلهية». انتهى.

المفهوم الإسلامي للحاكمية

المَفْهُومُ الإِسْلَامِيُّ لِلْحَاكِمِيَّةِ: يتضح من الأقوال السابقة والتي نقلناها من كتاب الدكتور (عمارة) بالحرف ما يأتي: 1 - ينسب إلى بعض العلماء والفقهاء المسلمين المعاصرين أنهم يستخدمون اصطلاح الحاكمية لله بمعنى الحكومة الإلهية، وهذا غير صحيح على إطلاقه. 2 - يخلطون بين السلطة والتشريع، ويرتب على ذلك اتهامه لمن يقولون: إن الحاكم في السياسة والاقتصاد هو الله، بكونهم يريدون أن يحكموا الناس بالسلطان الإلهي المقدس المعروف في الكنيسة ولا يحكمون نيابة عن الناس. 3 - يخلطون بين مفهوم نظرية الإسلام السياسية المتضمن التزام المسلمين بنصوص القرآن والسنة في أمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبين سلطة الشعب في النظام الديمقراطي. وفيما يلي بيان هذه الأمور بإيجاز: أَوَّلاً: بَيْنَ الحُكُومَةِ الإِلَهِيَّةِ وَحَاكِمِيَّةِ اللَّهِ: لقد كان من أثر انحراف رجال الدين في أوروبا أن زعموا أنهم مفوضون عن الله في حكم الناس، وأنهم ينوبون عن الله في التشريع والتحليل والتحريم، وبالتالي بيدهم حق إدخال الجنة وحرمان الناس منها وإدخالهم النار، وهذا ما عرف باسم صكوك الغفران والحرمان. وقد نشأ عن ذلك ما عرف باسم الحكومة الدينية أو «الثيوقراطية» التي حرقت العلماء وصادرت حريات الناس باسم الحق الإلهي سالف الذكر. ولقد جاء بعض الغافلين عن حقيقة الإسلام وحاولوا وصف الحكم الإسلامي بالحكومة الإلهية أو الدينية، قال ذلك الشيخ (خالد محمد خالد) في كتابه " من هنا نبدأ "، ولكن بعد ثلاثين عَامًا أعلن خطأه في كتاب صدر سنة 1982 باسم " الدولة في الإسلام ". ولكن الدكتور (عمارة) يعود إلى ما انتهى إليه سلفه، ويتجنب البداية الأولى الخاطئة والتي لم يستطع منصف من اليهود أو النصارى أن يقول بها، لكنه يرى أن هذا الخلط عند بعض المعاصرين وهذه أقوالهم التي تثبت عكس ذلك. 1 - فالإمامان أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، هما أشهر من استخدم مصطلح «الحَاكِمِيَّةِ لِلَّهِ»، ولكنهما لم يتركا المجال للربط بين هذا المصطلح وبين نظام الحكومة

الدينية في أوروبا، ولكن الدكتور عمارة قد نقل فقرات من كتاب " معالم في الطريق " عن حاكمية الله، وربط بينها وبين الحكومة الدينية في أوروبا، بينما الإمام سيد قطب يقول في كتابه " معالم في الطريق " ص 60: «ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس!! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة». ويقول، ويبين المقصود بحاكمية الله: «الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم [مكان] العبيد ... أو بالتعبير القرآني الكريم: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬1). {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬2). {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬3)». هذا هو مفهوم الحاكمية عند الأستاذ سيد قطب - رَحِمَهُ اللهُ - ولكن عبارة الأخ الدكتور (عمارة) ومن أخذ عنهم، يجب أن تضم إلى هذه الأقوال. 2 - والإمام المودودي يوضح مفهوم خلافة الإنسان في الأرض بقوله: «إن الإسلام لا ينوط أمر الخلافة بفرد من الأفراد أو بيت من البيوت أو طبقة من الطبقات بل يفوض أمرها إلى جميع أفراد المجتمع الذي يؤمن بالمبادئ الأساسية من التوحيد والرسالة. وإن هذا هو المقام الذي تنشأ فيه وتبتدئ منه فكرة الجمهورية في الإسلام، فكل واحد من أفراد المجتمع الإسلامي له نصيب من الخلافة وحق في التمتع بها، وهذه الحقوق سواءً فيما بين جميع أفراد المجتمع كأسنان المشط، لا يحل لأحد أن يحرم هذه الحقوق من شاء من أفراد المجتمع، فالظاهر أن كل حكومة تتهيأ لتسيير دفة هذه المملكة وإدارة أمرها، لا تتألف ولا تشكل إلا بآراء الجمهور وتأييدهم ومشورتهم، فمن نال رضاهم وحاز ثقتهم ينوب عنهم في القيام بواجبات الخلافة، ومن فقد ثقة أفراد المجتمع به، لا مندوحة له عن اعتزال هذا المنصب الجلل» (¬4). وهذا هو معنى الحاكمية للهِ إذ يجعل للناس سلطة اختيار الحاكم ولكنه يقيده بالقرآن والسنة وليس في أقواله الأخيرة هذا الغموض الذي استند إليه الدكتور. ¬

_ (¬1) [الزخرف: 84]. (¬2) [يوسف: 40]. (¬3) [آل عمران: 64]. (¬4) " نظام الحياة في الإسلام ": ص 25، 26.

ثانيا: السلطة للأمة والتشريع من الله

ثَانِيًا: السُّلْطَةُ لِلْأُمَّةِ وَالتَّشْرِيعُ مِنَ اللَّهِ: لقد ربط الدكتور (عمارة) بين سلطة الأمة في تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله، وبين الحق الإلهي المقدس في أوروبا والذي يجعل البابوات أصحاب السلطان والتشريع ولا سلطات للأمة ولهذا قال: «إن من يقولون إن الحاكم في الاقتصاد والسياسة هو الله، يريدون أن يحكموا الناس بالسلطان الإلهي المقدس المعروف في الكنيسة ولا يحكمون نيابة عن الناس». إن الذين ينادون بحاكمية الله للبشر قد أوضحوا كما نقلنا عن المودودي وسيد قطب، عن أن الحاكمية لا تنطوي أبدًا على أن يباشر حكام بأعينهم سلطانًا من الله على الناس كما كان في أوروبا، بل تقوم الحاكمية لله بأن تكون شريعة الإسلام هي مصدر التشريع، ولا يختلف الفقهاء قديمًا وحديثًا في أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على قاعدة أن السلطان للأمة أي الحكم لها، وذلك من خلال مبادئ ثلاثة هي البيعة والشورى ومحاسبة الحكام. وسلطان الأمة لا يعني أنها تشرع من دون الله، بل من خلال مبادئ القرآن والسنة بحيث لا يصدر تشريع يخالف هذه المبادئ. ثَالِثًا: السِّيَادَةُ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَالعِلْمَانِيَّةِ: لقد ظهر اصطلاح معاصر يسمى نظرية السيادة أضفى عليها بعض الكُتَّابِ قدسية تعلو على ما يصدر عن الله تعالى. ويعرف البروفسور (ويسمن) السيادة بأنها «سلطة أصلية مكلفة غير محددة تهيمن على الأفراد والجماعات». كما تعرف بأنها «حق النفوذ والسلطان والأمر والنهي وما يتبع ذلك من جزاء» (¬1). هذه السيادة جعلها غير المسلمين للأمة وذلك كنتيجة طبيعية لنظام رجال الدين في أوروبا ولهذه ارتبطت بفصل الدين عن الدولة وجعل سلطة التشريع للناس وليس للهِ. ومن هذه النظرية نشأ النظام الديمقراطي فكانت الأمة هي مصدر التشريع ومصدر السلطات. ¬

_ (¬1) " أصول الحكومة الدستورية " ترجمة زعيتر: ص 31؛ و" السياسة والحكم في ضوء الدساتير المقارنة ": ص 259.

ويرى الدكتور (عمارة) أن من ينادي من المسلمين بالحاكمية للهِ في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية إنما يعلنون هدم النظام الديمقراطي، لأن الديمقراطية تجعل السلطة للشعب، ونظام الحاكمية يجعل السلطة للهِ، ورتب على ذلك أنهم يطالبون بحكومة البابوات. وهذه الأقوال تتداخل فيها الديمقراطية كنظام سياسي يتمثل في تخويل الأمة حق اختيار الحاكم ورقابته، وهذه لا تتعارض مع النظام الإسلامي في هذا الخصوص بل الإسلام قرر ذلك وكانت أوروبا في ظلامها السابق. ويختلف الإسلام مع الديمقراطية كنظام ينبع عن نظرية السيادة للشعب وتتمثل في حق الشعب المطلق في التشريع بأغلبية أصوات النواب حتى لو أحل الحرام وحرم الحلال، فأباح الشذوذ والزنا كما هو قائم في بلاد أوروبية، بينما الحاكمية لله في الإسلام بمعنى: أن يلتزم الحاكم بشرع الله وهي تتعارض مع الديمقراطية في هذا الجانب فقط، والإسلام ليس هو النظام الوحيد الذي يضع قيودًا على الناس في أمر التشريع، فالماركسية تضع قيودًا على الشعب فلا يملك أن يشرع أمرًا يخالف المذهب الماركسي. الأنظمة الديمقراطية تضع قيودًا على السلطة التشريعية عند تعديلها لبعض القوانين، هذه القيود والاستثناءات تسمى أعمال السيادة، ففي مصر مثلاً كان من أعمال السيادة ما يصدر عن رئيس الجمهورية من قرارات، وكذا حتمية تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50 % بمجلس الأمة، فلا يجوز المساس بهذين القيدين، ويوجد شبيه بذلك في دول أخرى عربية وأوروبية. فإذا نص القرآن الكريم على هيمنة تشريعات الإسلام وأحكامه الممثلة في القرآن والسنة على جميع التشريعات كما في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). نقارن هذا النص وقول الدكتور (عمارة): «سنكون عندئذٍ قد عدنا بعقارب الساعة إلى فلسفة الحكم بالحق الإلهي على النحو الذي عرفته الفرس أيام كسرى وروما (*) وخطر تلك الفلسفة السياسية والقول بأن الحاكم ملتزم بالشريعة لأن العدول عن مبدأ (الأمة مصدر السلطات) سيحرر الحاكم بدرجات متفاوتة من قيد تستخدمه الأمة للحيلولة دون الشطط والاستبداد، كما سيفتح له الطريق كي يضفي عليه نفسه قداسة معينة وسلطة ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 36]. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) في الكتاب المطبوع (رومانيا) لعل المؤلف يقصد (روما) لا (رومانيا) التي حكمها الطاغية الماركسي والذي قتله شعبه الرئيس (تشاوسسكو).

ربانية تتنافى تمامًا مع روح الإسلام ونصل إلى أن الاستبداد يكون بمخالفة الإسلام». فأيهما نتبع، فلسفة الغرب ومن أخذ عنهم أم قول الله تعالى؟. فالدكتور (عمارة) يرى أن روح الإسلام هو في الالتزام بمبدأ الأمة مصدر السلطات وهذا يخول لأعضاء المجالس التشريعية أن يصدروا من القوانين ما يريدون حتى لو أباحوا الزنا والشذوذ الجنسي، كما هو حاصل اليوم في بعض دول أوروبا، ثم هل يكون الالتزام بشريعة الله وسيلة لإضفاء قدسية على الحاكم تمكنه من العودة إلى حكم كسرى وقيصر وحكم البابوات في أوروبا وهذا لم يقل به علماء الإسلام مع أن الذي يمكن الحاكم من هذا الطغيان هو نظرية السيادة، فالسلطة التشريعية للأمة التي يجعلها الغربيون بديلاً عن تشريع الله، فالنواب الذين يوصلهم بعض الحكام إلى المجلس التشريعي يضعون لهم ما يريدون من القوانين، لأنه لا يوجد أي قيد على التشريعات الصادرة عن هذا المجلس حيث أصبح أعضاؤه يمثلون الحق الإلهي المقدس الذي ظن العلمانيون أنه قد أبطلته نظرية السيادة للأمة. إن تقييد السلطة التشريعية بالقرآن والسنة النبوية أنفع للناس، فهما مصدران معلومان للكافة وليس فيهما ما يضفي قدسية على الحاكم بل ينفرد التشريع الإسلامي عن سائر التشريعات الوضعية في الشرق أو الغرب بتجريد الحاكم من كل قدسية وهيمنة وجعله كباقي البشر، بينما الأمر ليس كذلك في غير الإسلام. فضلاً عن ذلك فإن المسلم يعتقد أن حكم الله أصلح له في الدنيا ويدرأ عنه العذاب في الآخرة، وحسبنا قول الله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (¬1). وهل من مصلحة جماهير الناس أن يتنازلوا عن هذه الحماية التي كفلها الإسلام لهم، ويفوضوا المجلس التشريعي في أن يمارس الحق الإلهي المقدس لصالح فئة قليلة من أصحاب النفوذ والسلطان كما هو ملموس في عدد من البلاد النامية وغيرها. وأخيرًا إذا كان هؤلاء الناس يملكون نسخ تشريع الله باسم شعار الأمة مصدر السلطات، فهل لدى الدكتور (عمارة) دليل على أن الشعب المسلم قد اختار هذا بحريته أم أنه ليس هو مصدر السلطات؟. أمام هذا يلزم أن يحدد الدكتور (عمارة) قصده من قوله: «من ذا الذي ينكر حكم الله؟ ومن ذا الذي يجادل ويماري في انتفاء سلطات الأمة أمام سلطان المولى - سُبْحَانَهُ ¬

_ (¬1) [البقرة: 140].

رابعا: الدولة بين الحكم والقضاء

وَتَعَالَى -» فهذا التقرير يتعارض مع ما انتهى إليه، كما يلزم أن يبحث معنا ومع غيرنا عن المقصود بالدعوة إلى تنقيح التشريعات بما يتلاءم مع الإسلام وهي التي تبناها مجلس الأمة في مصر والكويت والسودان وغيرها، ونتج عن ذلك صدور تشريعات في الكويت تتلاءم مع التشريع الإسلامي، ومنها نص الجزاء الذي عاقب على الزنا بعد أن كان القانون السابق مستمدًا من التشريع الغربي الذي يجعل ذلك من الحرية الشخصية، هل المقصود بذلك العودة إلى نظام الحكومة الدينية؟ أم يظل أمر اختيار الحكام ومحاسبتهم متروكًا للأمة على النحو المبين في القانون وما معنى إثارة موضوع الحكومة الدينية الذي لا يعرفه أحد من المسلمين؟ ومع هذا نشكره على قبوله النقد بصدر رحب. رَابِعًا: الدَّوْلَةُ بَيْنَ الحُكْمِ وَالقَضَاءِ: استعرض البعض آيات قرآنية وردت عن الحكم ومنها قول الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ...} (¬1). قول الله لنبيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬2). وقال: إن القرآن يستخدم مصطلح الحكم بمعنى القضاء لا بمعنى السلطة السياسية ويلتزم هذا الاستخدام حتى عندما يكون الحديث عن الدنيا. استشهد بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. وقال: المعنى، يقضي بما يريد من تحليل وتحريم. وهذا التحليل يرتبط بالمقدمة السابقة وهي أن الحاكمية في المجتمعات إنما تكون للناس طبقًا للقاعدة القانونية الأمة مصدر السلطات. وقد أوضحنا خطأ هذه المقدمة وبالتالي فالنتيجة خاطئة أيضًا لأسباب أهمها: 1 - أن كلمة الحكم لها في معاجم اللغة عدة معان فترد بمعنى: أ - القضاء والفصل في الخصومات. ب - وبمعنى الحاكم والسلطات. ج - وبمعنى العلم والفقه والحكمة. ولكن الكاتب تعمد تجريد هذه الكلمة من أحد معانيها وهو الحكم والسلطان ¬

_ (¬1) [الأنبياء: 78]. (¬2) [النساء: 105].

ليصل إلى النتيجة التي يحاربها والتي تخول للناس حق التحليل والتحريم. 2 - أنه لو جاز جدلاً أنه لا يوجد كلمة الحكم إلا معنى القضاء، فكل ذي حس وبصيرة يدرك ويعلم أن القضاء لا يتولاه الأشخاص إلا من خلال مجتمع له رئيس أيًا كان اسم هذا الرئيس، حاكمًا أو أميرًا أو خليفة أو سلطانًا، أو رئيس جمهورية أو غير ذلك. 3 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو رئيس المجتمع الإسلامي، وكانت عاصمته المدينة المنورة، وكان يجمع بين سلطة القضاء وسلطة رئيس الدولة، ثم أسند القضاء في بعض المناطق إلى قضاة عينهم لذلك بوصفه الرئيس الأعلى للدولة كما فعل الخلفاء من بعده مثل ذلك. وأنه بهذه الصفة أمره الله تعالى بالحكم بما أنزل الله. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ...} (¬1). 4 - أنه من الخلط البين القول أن آيات الحكم الخاصة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعني قضاء القاضي وليس نظام حكم وسياسة المجتمع، لسببين: - الأول: أن القاضي لا يملك تنفيذ حكمه إلا من خلال دولة وسلطة تنفيذية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حاكمًا قبل أن يكون قاضيًا، ولهذا أمره الله بجمع الزكاة جبرًا من أصحاب الأموال. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ...} (¬2). وقد أسند النبي أمر جمع الزكاة إلى أشخاص خولهم هذه السلطة بصفته رئيسًا للدولة لا قاضيًا. - الثاني: أن الأوامر الصادرة إليه من الله بالحكم بالإسلام لم تصدر إليه بصفته قاضيًا مختارًا بل بصفته رئيسًا لدولة تضم المسلم وغير المسلم، لهذا كان التكليف هو: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬3). فالقضاء احد مقومات الدولة. 5 - أنه ليس صحيحًا أن آيات الحكم الخاصة بداود وسليمان خاصة بالقضاء وليست بالحكم، فقد قال اللهُ عن داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ...} (¬4). فهذا النبي كان حاكمًا وقد كان سليمان صاحب ملك ودولة واسعة تضم الإنس والجن والطير، قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} (¬5). ¬

_ (¬1) [المائدة: 49]. (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) [النساء: 105]. (¬4) [ص: 26]. (¬5) [النمل: 17].

6 - أنه لا ينكر غير المسلمين، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أسس دولة عاصمتها المدينة المنورة، وأنه قاد الجيوش في حروب مع أعداء الإسلام وأبرم المعاهدات كرئيس لهذه الدولة، فكيف يقبل من مسلم أن يقول: إن آيات الحكم المتعلقة بالنبي تخاطبه بوصفه قاضيًا لا حاكمًا سياسيًا. والنتيجة أن مبدأ الأمة مصدر السلطات مقبولة في النظام الإسلامي، إذا طبق فيما يتعلق باختيار الحكام ومحاسبتهم وعزلهم، ويتعارض مع الإسلام فيما يتعلق بحق المجالس النيابية كسلطة تشريعية في التحليل والتحريم من دون الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) نشر بـ " الوطن " في 11/ 3 / 1983، والجدير بالذكر أن الدكتور محمد عمارة قد أصدر كتابه " الإسلام وحقوق الإنسان " سنة 1985 جاء به: «أن الأمة في الشورى الإسلامية هي مصدر السلطات وعليها عن طريق ممثليها مراقبة الحكومة ومحاسبتها وتغييرها إن جارت»: (ص 53). ثم أصدر كتابه " الدين والدولة " سنة 1986 رد فيه على العلمانيين وأوضح أن الدولة رغم طابعها المدني فهي من الإسلام كدين ولقد برأها من الكهانة والثيوقراطية ولا يقطع الصلات بين الدولة والدين على النحو الذي يدعيه العلمانيون: (ص 41).

الفهرس

الفهرس: الصفحة الموضوع 5 - المقدمة. • الفصل الأول: غسيل المخ والتيارات الفكرية: 12 - الإسلام والأسرار الكنسية. 13 - المقدمات الخاطئة وجنة الطغاة. 13 - الإسلام الرأسمالي والماركسي. 15 - النكبة العربية الكبرى. 16 - العلمانية في ماضيها وحاضرها. 17 - وضع عميد الأدب العربي. 18 - كاثوليكية أمين عثمان. 18 - توبة خالد محمد خالد. 18 - التفسير العصري بين لبنان ومصر. 18 - دور لويس عوض. 19 - غسيل مخ المرأة بين الشيوعية والأمية. 21 - الإسلام المفترى عليه بين الشرق والغرب. 22 - المادية الجدلية جهل وجاهلية. 23 - المادية الجدلية تهدم المجتمع الشيوعي. 25 - فشل الماركسية اقتصاديًا. 25 - إنكار الدين. 26 - اعتراف القادة السوفييت. 27 - الخيانة الوطنية. 28 - ولاء العرب لغيرهم خيانة وطنية. 29 - غسيل مخ العرب والتيارات الفكرية الحديثة. 30 - أعداء الدين في الماضي والحاضر. 31 - التيارات الحديثة في المجتمع. 31 - أولا: تيارات وافدة من الغرب. 32 - ثانيا: تيارات وافدة من الشرق. 34 - ثالثا: تيارات عربية محلية. 38 - ماركسية نجيب محفوظ وكاثوليكية أمين عثمان. 39 - تناقض يكشفه التطبيق الشيوعي.

الصفحة الموضوع 41 - السلف الصالح وجاهلية القرن العشرين. 42 - الأنبياء بين الرجعية والتقدمية. 43 - جاهلية القرن العشرين ولعبة المضللين: • الفصل الثاني: إشهار إفلاس العلمانية العربية: 48 - أولا: الخلط بين الإسلام والحكومة الدينية. 50 - ثانيا: الخلط بين نظام الخلافة وبين التشريع والمذاهب والأديان. 52 - ثالثا: الخلط بين الإسلام والعلمانية. 53 - رابعا: لعنة الله والحصانة للعلماء والقضاء. 54 - خامسا: إزالة الشبهات عن الإسلام. 54 - سادسا: الإسلام والفصل بين السلطات. 56 - مفاهيم علمانية خاطئة. 64 - الإسلام والحكم والفصل بين السلطات. 67 - الأوروبيون وخصوم الإسلام. 68 - الخلط بين نقد الإسلام ونقد دعاته. 69 - الإسلام والفصل بين السلطات. 72 - العلمانية الأوروبية والعلمانية العربية. 75 - العقل بين الخلاف والاحتكام إلى السيف. 78 - بين العقل وشيطان الحرية. 80 - مستقبل العرب بين الإسلام والعلمانية العربية. 82 - أوهام وتناقضات. • الفصل الثالث: الماركسية والواقع العربي. 93 - هدم المخيال الديني وإقامة العلمانية. 96 - العلمانية والثالوث اللاديني. 100 - ادعاء المساواة وحتمية الماركسية.

الصفحة الموضوع 102 - الشورى بين اليمين واليسار. 105 - المثقفون بين اليمين واليسار. 109 - اليسار الإسلامي بين الحقيقة والوهم. 111 - الوجه الشيوعي لليمن الجنوبي بين العلمانية واللادينية. 116 - الثورة في الجزيرة والخليج. 117 - نداء من اليسار العربي بامتداد الثورة في الخليج العربي. 121 - بريطانيا وشيوعية عدن. 124 - دور الحزب الشيوعي المصري. 126 - موسكو بين اليهود والمسلمين. 133 - لينين والحركة الصهيونية. 136 - الجواب في " البروتوكولات " و" التوراة ". 138 - الصلة بين البروتوكولات والكتب المقدسة. 139 - هل يفيق اليسار العربي؟. 142 - تزوير المذهب المادي للتاريخ. • الفصل الرابع: القيم الأخلاقية بين الإلحاد والعلمانية: 147 - خطر الحرية الجنسية. 151 - الدور النسائي في المخطط الأنجلو - صهيوني. 157 - إخضاع النفس للتجارب. 158 - المخطط الإسرائيلي وواجب العرب. 163 - أمية المثقف وحديث الصوم. 165 - إتلاف الخمور بين الشرعية القانونية والمصالح الفردية. 167 - أنقذوا كرامتنا المهانة باسم الفن والسياحة. 171 - الغزو الماركسي للتاريخ والسيرة.

الصفحة الموضوع • الفصل الخامس: الفكر الإسلامي بين التأويل والتعطيل: 183 - الحكم جزء من العقيدة والنقاب ليس بدعة والرجم حد شرعي. 190 - خطاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية حول مشاكل الأسرة. 200 - قوانين الأسرة بين ضعف النساء وعجز العلماء. 204 - الطلاق ومسؤولية القضاة. 208 - تحديد موقف العلمانيين والقوميين والإسلاميين. 219 - حول الأخطاء الإصلاحية. • الفصل السادس: الحكومة الدينية بين الإسلام والعلمانية: 229 - حقيقة الإسلام والعلمانية. 231 - الديمقراطية وغسيل المخ العربي. 235 - الحقوق الضائعة بين السلطة والعلمانية. 236 - وقفة موضوعية وأخوية مع العلمانية والوطنية. 242 - خصائص الدستور الإسلامي. 246 - وقفة موضوعية مع الدكتور محمد خلف الله. 249 - وقفة أخوية مع الدكتور خلف الله: بين الإسلام وحكومة الكهنوت. 256 - وقفة نهائية مع الدكتور محمد خلف الله: (النبي والدولة .. والاجتهاد والنص). 261 - القومية والقرآن العصري بين خلف الله وسيف الدولة. 265 - براءة القرآن من أركسة القوميين. 264 - الثيوقراطية بين الإسلام وحكومة رجال الدين. 266 - حوار حول المفهوم الإسلامي لحاكمية الله. 281 - الفهرس.

§1/1