تنوير الغبش في فضل السودان والحبش

ابن الجوزي

بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم رب عونا قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْحَافِظ جمال الدّين أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْجَوْزِيّ رَحمَه اللَّهِ: الْحَمد لله الَّذِي اخْتَار من جَمِيع الْمَخْلُوقَات الْإِنْسَان، ثمَّ اصْطفى مِنْهُ أهل التقى وَالْإِيمَان، ثمَّ جعل مَحل نظره الْقُلُوب لَا الْأَبدَان؛ هُوَ ينظر إِلَى صفاء الْأَسْرَار، لَا إِلَى نقاء الألوان، فاوت بَين الْآدَمِيّين، فَمنهمْ ملك وَمِنْهُم شَيْطَان، يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت؛ فالخليل من آزر ذِي الكفران، وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ؛ فَمن نوح: كنعان، جرى قدره، فَكفر أَبُو طَالب وَأسلم عُثْمَان، وضل أَبُو لَهب، وَأذن لِبلَال فِي الْأَذَان، يفني ويبقي، ويسعد ويشقي، كل يَوْم هُوَ فِي شان. أَحْمَده - إِذْ أنعم وصان - عدد الأوراق والأغصان، وَأقر بوحدانيته إِقْرَارا يصدر عَن برهَان، وأصلي على رَسُوله مُحَمَّد أشرف مَخْلُوق وجد وَكَانَ، وعَلى صَاحبه أبي بكر الصّديق الَّذِي انْفَرد بنصره فِي الْغَار وأعانه، وعَلى عمر الْفَارُوق المتشدد فِي الدّين فمالان، وعَلى التقي النقي عُثْمَان بن عَفَّان، وعَلى عَليّ بن أبي طَالب مقدم الْعلمَاء وَسيد الشجعان، وعَلى عَمه الْعَبَّاس بن عبد المطلب المستسقى بشيبته، فَأقبل السح الهتان، جد سيدنَا ومولان الإِمَام المستضيء

بِأَمْر اللَّهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي أشرق بولايته الزَّمَان، سقِِي زرع الْعدْل مياه الْفضل، فالدنيا فِي أَيَّامه بُسْتَان، فَذكره فِي مسام مشام الصَّالِحين أزكى من ريح وَرَيْحَان، وَقُلُوبهمْ معتلقة بحبه وَحب الْخلق لحب الْخَالِق عنوان، قرن اللَّهِ نعْمَة دُنْيَاهُ بِنِعْمَة أخراه، وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان، واستجاب فِي أَيَّامه دُعَاء كل دَاع ذاق فِيهَا طعم الْإِحْسَان. أما بعد ... . فَإِنِّي رَأَيْت جمَاعَة من أخيار الحبشان تنكسر قُلُوبهم لأجل اسوداد الألوان، فأعلمتهم أَن الِاعْتِبَار بِالْإِحْسَانِ لَا بالصور الحسان، وَوضعت لَهُم هَذَا الْكتاب فِي ذكر فضل خلق كثير من الْحَبَش والسودان، وَقد قسمته ثَمَانِيَة وَعشْرين بَابا، وَالله الْمُسْتَعَان.

(ذكر تراجم الأبواب)

(ذكر تراجم الْأَبْوَاب) الْبَاب الأول: فِي ذكر من ينْسب إِلَيْهِ السودَان. الْبَاب الثَّانِي: فِي ذكر سَبَب سَواد ألوانهم. الْبَاب الثَّالِث: فِي ذكر إحْيَاء عِيسَى بن مَرْيَم حام بن نوح. الْبَاب الرَّابِع: فِي ذكر ممالك السودَان من الأَرْض وسعتها. الْبَاب الْخَامِس: فِي ذكر فَضَائِل اجْتمعت فِي طباع السودَان. الْبَاب السَّادِس: فِي ذكر فَضَائِل أَشْيَاء خصت بسواد اللَّوْن من الْحَيَوَانَات والنباتات والأحجار. الْبَاب السَّابِع: فِي بَيَان أَن لَا فضل لأبيض على أسود، إِنَّمَا الْفضل بالتقوى. الْبَاب الثَّامِن: فِي ذكر من هَاجر من الصَّحَابَة إِلَى الْحَبَشَة. الْبَاب التَّاسِع: فِي إِنْفَاذ قُرَيْش إِلَى النَّجَاشِيّ ليسلم إِلَيْهِم أَصْحَاب

رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الْبَاب الْعَاشِر: فِي ذكر مُكَاتبَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّجَاشِيّ وإسلامه وَإِسْلَام أَصْحَابه. الْبَاب الْحَادِي عشر: فِي ذكر قدوم الْحَبَشَة على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولعبهم بالحراب فِي الْمَسْجِد، وَرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينظر. الْبَاب الثَّانِي عشر: فِي ذكر مَا جَاءَ من الْقُرْآن مُوَافقا للغة الْحَبَشَة. الْبَاب الثَّالِث عشر: فِي ذكر مَا سَمعه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كَلَام الْحَبَشَة فأعجبه. الْبَاب الرَّابِع عشر: فِي ذكر تَخْصِيص الْحَبَشَة بِالْأَذَانِ. الْبَاب الْخَامِس عشر: فِي ذكر من كَانَ نَبيا من السودَان. الْبَاب السَّادِس عشر: فِي ذكر كبار مُلُوك الْحَبَشَة. الْبَاب السَّابِع عشر: فِي ذكر أَشْرَاف السودَان من الصَّحَابَة. الْبَاب الثَّامِن عشر: فِي ذكر أَشْرَاف السودَان من الصحابيات. الْبَاب التَّاسِع عشر: فِي ذكر المبرزين فِي الْعلم من السودَان.

الْبَاب الْعشْرُونَ: فِي ذكر شعرائهم وَمن تمثل مِنْهُم بِشعر. الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر جمَاعَة من فطناء السودَان وأذكيائهم وكرمائهم. الْبَاب الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر المتعبدين مِنْهُم والزهاد. الْبَاب الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر المتعبدات من نِسَائِهِم والفاضلات. الْبَاب الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر من كَانَ يُؤثر الْجَوَارِي السود على الْبيض، وَمن كَانَ يعشقهن، وَمن مَاتَ من عشقهن. الْبَاب الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: فِي ذكر أَبنَاء الحبشيات من قُرَيْش. الْبَاب السَّادِس وَالْعشْرُونَ: فِيهِ مواعظ ووصايا. الْبَاب السَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أذكار وتسبيحات. الْبَاب الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أدعية.

(الباب الأول)

(الْبَاب الأول) (فِي ذكر من تنْسب إِلَيْهِ السودَان.) [1] أخبرنَا أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ: أَنا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أَنا أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن عَليّ الطَّحَّان قَالَ: ثَنَا عمر بن مُحَمَّد أَبُو الْقَاسِم القَاضِي قَالَ: ثَنَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ قَالَ: ثَنَا حَاجِب بن الْوَلِيد قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ولد لنوح [عَلَيْهِ السَّلَام] سَام وَحَام وَيَافث، فَأَما سَام فَأَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَأما يافث فَأَبُو يَأْجُوج وَمَأْجُوج والخزر، وَأما حام فَأَبُو هَذِه الْجلْدَة السَّوْدَاء ".

[2] وروى الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سَمُرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ، " ولد نوح ساما وحاما وَيَافث، فسام أَبُو الْعَرَب، وَحَام أَبُو الزنج، وَيَافث أَبُو الرّوم "، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: سَام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَحَام أَبُو السود، وَيَافث أَبُو التّرْك وَأَبُو يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وهم بَنو عَم التّرْك. قَالَ المُصَنّف [رَحمَه اللَّهِ] : ولد لحام كوش ونيرس وموعع وبوان، وَولد لكوش نمْرُود، وَهُوَ أول النماردة، ملك بعد الطوفان بثلاثمائة عَام، وعَلى عَهده قسمت الأَرْض فَتفرق النَّاس، وَاخْتلفت الأسرة، ونمرود إِبْرَاهِيم من أَوْلَاده، وَمن ولد نيرس التّرْك والخزر، وَمن ولد موعع يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَمن ولد بوان الصقالبة والنوبة والحبشة والهند والسند. وَلما اقتسم أَوْلَاد نوح الأَرْض نزل بَنو حام مجْرى الْجنُوب وَالدبور فَجعل اللَّهِ [تَعَالَى] فيهم أدمة وبياضا قَلِيلا، وَلَهُم أَكثر الأَرْض.

(الباب الثاني)

(الْبَاب الثَّانِي) (فِي سَبَب سَواد ألوانهم) قَالَ المُصَنّف [رَحمَه الله] : الظَّاهِر فِي الألوان أَنَّهَا خلقت على مَا هِيَ عَلَيْهِ بِلَا سَبَب ظَاهر، إِلَّا أَنا قد روينَا أَن أَوْلَاد نوح عَلَيْهِ السَّلَام اقتسموا الأَرْض بعد موت نوح، وَكَانَ الَّذِي قسم بَينهم الأَرْض قالغ بن عَابِر، فَنزل بَنو سَام سرة الأَرْض وَكَانَ فيهم الأدمة وَالْبَيَاض، وَنزل بَنو يافث مجْرى الشمَال وَالصبَا، فَكَانَت فيهم الْحمرَة والشقرة، وَنزل بَنو حام مجْرى الْجنُوب وَالدبور فتغيرت ألوانهم. فَأَما مَا يرْوى أَن نوحًا انكشفت عَوْرَته فَلم يغطها فاسود، فشيء لَا يثبت وَلَا يَصح.

(الباب الثالث)

(الْبَاب الثَّالِث) (فِي ذكر إحْيَاء عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام حام بن نوح) [3] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْخلال قَالَ نَا يُوسُف بن عمر الزَّاهِد قَالَ قرئَ على عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن زِيَاد النَّيْسَابُورِي وَأَنا أسمع قيل لَهُ: أخْبركُم يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ أَنا ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة عَن ابْن الْهَاد عَن ابْن شهَاب قَالَ: قيل لعيسى بن مَرْيَم [عَلَيْهِ السَّلَام] أَحَي حام بن نوح، فَقَالَ: أروني قَبره. فأروه، فَقَامَ فَقَالَ: يَا حام بن نوح، احي بِإِذن اللَّهِ [عز وَجل] فَلم يخرج، ثمَّ قَالَهَا الثَّانِيَة، [فَخرج] فَإِذا شقّ رَأسه ولحيته أَبيض، قَالَ: مَا هَذَا [الْبيَاض] ؟ قَالَ: سَمِعت الدُّعَاء [الأول] فَظَنَنْت أَنه من اللَّهِ عز

وَجل [لِلْحسابِ] فشاب لَهُ شقي، ثمَّ سَمِعت [الدُّعَاء] الثَّانِي فَعلمت أَنه من الدُّنْيَا، فَخرجت، قَالَ: مُنْذُ كم [مت] قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة مَا ذهبت عني سكرة الْمَوْت. قَالَ المُصَنّف: هَكَذَا فِي هَذَا الرِّوَايَة، وَقد رُوِيَ لنا من طَرِيق آخر عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة أَن الَّذِي أَحْيَاهُ عِيسَى بن مَرْيَم: سَام بن نوح [عَلَيْهِ السَّلَام] وَالله أعلم.

(الباب الرابع)

(الْبَاب الرَّابِع) (فِي ذكر ممالك السودَان من الأَرْض وسعتها) [4] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز قَالَ ثَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ [بن ثَابت] الْخَطِيب قَالَ أَنا أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ نَا أبي قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يزِيد قَالَ ثَنَا أَبُو صَالح يحيى بن وَاقد قَالَ ثَنَا الْأَصْمَعِي عَن النمر بن هِلَال قَالَ: الأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ فاثنا عشر ألفا للسودان وَثَمَانِية [آلَاف] للروم وَثَلَاثَة [آلَاف] للْفرس وَألف [فَرسَخ] للْعَرَب. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن جَعْفَر الْمُنَادِي: بلغنَا أَن الْبَحْر الْمَعْرُوف بنطس من وَرَاء قسطنطينية يَجِيء من بَحر الخزر وَعرض فوهته سِتَّة أَمْيَال، وإقليم الدُّنْيَا الأول يَبْتَدِئ من الْمشرق من أقاصي بِلَاد الصين فيمر على بِلَاد الصين مِمَّا يَلِي الْجنُوب، وَفِيه مَدِينَة ملك الصين ثمَّ يمر فِي جنوب بِلَاد الْهِنْد ثمَّ بِلَاد السَّنَد ثمَّ يقطع الْبَحْر إِلَى جَزِيرَة الْعَرَب فِي أَرض الْيمن فَيكون فِيهِ من

الْمَدَائِن المعروفات مَدِينَة أظفار، وعمان، وحضرموت، وعدن، وَصَنْعَاء، وتبالة وجرش. ثمَّ يقطع الأقاليم بَحر القلزم فيمر فِي بِلَاد الْحَبَشَة وَيقطع نيل مصر، وَفِيه مَدِينَة مملكة الْحَبَشَة، وَتسَمى جرمى، ودنقلة مَدِينَة النّوبَة، ثمَّ يمر الإقليم فِي أَرض الْمغرب على جنوب بِلَاد البربر إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى بَحر الْمغرب. [5] أَنبأَنَا عَليّ بن عبيد اللَّهِ عَن أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي عَن أبي حَفْص بن سناهر قَالَ ثَنَا نصر بن الْقَاسِم قَالَ ثَنَا أَحْمد بن عمر ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة قَالَ ثَنَا الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد قَالَ: ربع من لَا يلبس الثِّيَاب من السودَان مثل جَمِيع النَّاس.

(الباب الخامس)

(الْبَاب الْخَامِس) فِي ذكر فَضَائِل اجْتمعت فِي طباع السودَان مِنْهَا: قُوَّة الْبدن، وَقُوَّة الْقلب، وَذَلِكَ يُثمر الشجَاعَة، وَيذكر الْحَبَشَة بِالْكَرمِ الوافر، وَحسن الْخلق، وَقلة الْأَذَى، وَضحك السن، وَطيب الأفواه، وسهولة الْعبارَة، وعذوبة الْكَلَام. [6] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك بن خيرون قَالَ أَنبأَنَا أَحْمد ابْن عَليّ بن ثَابت قَالَ أَنبأَنَا أَبُو عَليّ الجاذري قَالَ ثَنَا الْمعَافى بن زَكَرِيَّا قَالَ ثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ ثَنَا أَبُو الْفضل الربعِي قَالَ قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ شبيب بن شيبَة: دخل خَالِد بن صَفْوَان على أبي الْعَبَّاس السفاح فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد حرمت نَفسك استظراف الْجَوَارِي، إِن مِنْهُنَّ، السمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، ومولدات الْمَدِينَة والطائف واليمامة ذَوَات الألسن والعذبة، وَالْجَوَاب الْحَاضِر.

(الباب السادس)

(الْبَاب السَّادِس) فَضَائِل أَشْيَاء خصت بسواد اللَّوْن من الْحَيَوَانَات والنبات والأحجار. (فصل) فَمن الْحَيَوَانَات: سَواد الْعين: وَقد ركبت الْعين [من] عشرَة أَجزَاء، وَهِي سبع طَبَقَات وَثَلَاث رطوبات، والطبقات كقشور البصل، وَمَوْضِع النّظر مِنْهَا الْأسود، وَهَذَا يدل على شرف هَذَا اللَّوْن حِين اختير لهَذَا الْعُضْو الشريف، وَقد جعلت أهداب أشغار الجفن سُودًا لِتجمع الضَّوْء. وَمن ذَلِك الكبد: وَهِي الَّتِي تطبخ الطَّعَام وتوجهه إِلَى الْبدن بوساطة الْعرق الأجوف النَّابِت من محدودبها، ثمَّ توجه المائية إِلَى الكليتين، والرغوة الصفراوية إِلَى المرارة والرسوب السوداوي إِلَى

الطحال، وللكبد عروق تحذف الْغذَاء لَهَا وَيُسمى الْبَاب، وعرق يحمل الْغذَاء مِنْهَا إِلَى الْأَعْضَاء وَيُسمى الأجوف، والكبد هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْأَعْضَاء غذاءها الَّذِي بِهِ سقِِي، وَمَعَ هَذَا الشّرف هِيَ سَوْدَاء وَهَذَا يدل على شرف السوَاد حِين اختير لهَذَا الْعُضْو الْكَرِيم. وَمن ذَلِك الْقلب: وَهُوَ أشرف مَا فِي الْبدن ووسويداؤه، فِي وسطة كالعلقة تتنزل منزلَة الدِّمَاغ من الرَّأْس. [7] أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ أَنا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ أَنا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا يحيى بن سعيد عَن زَكَرِيَّا قَالَ ثَنَا عَامر قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يَقُول، سَمِعت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب ". أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمن ذَلِك الشّعْر: فَإِنَّهُ إِذا كَانَ أسود كَانَ جمال الْآدَمِيّ، فَإِن ابيض زَالَ جماله. [8] أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر بن يُوسُف قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عَليّ بن

الْمُهْتَدي قَالَ أنبا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ أَنا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ ثناد عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ ثَنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ ثَنَا عَليّ بن الْحسن بن شَقِيق قَالَ ثَنَا حُسَيْن بن وَاقد قَالَ نَا أَبُو نهيك الْأَزْدِيّ عَن عَمْرو بن أَخطب قَالَ، استسقى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَيْته بِإِنَاء فِيهِ شَعْرَة فرفعتها ثمَّ ناولته فَقَالَ: " اللَّهُمَّ جمله ". قَالَ أَبُو نهيك: فرأيته بعد ثَلَاث [وَتِسْعين سنة] وَمَا فِي رَأسه ولحيته شَعْرَة بَيْضَاء. [9] وَقد روينَا عَن أبي قَتَادَة أَن رَسُول اللَّهِ [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] دَعَا لَهُ لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَارك فِي شعره وبشره ". فَتوفي وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَكَأَنَّهُ ابْن خمس عشرَة سنة. وَمَا زَالَت الْعَرَب تبْكي على رحيل الشَّبَاب ونزول المشيب.

قَالَ عَمْرو بن الْوَلِيد: (أَمْسَى الشَّبَاب مودعا ... لما رأى نور المشيب) (يَا لَيْت أَنا نشتري قرب ... الْبعيد بذا الْقَرِيب) (لَا يبعدن عصر الشَّبَاب ... الرامح الْغُصْن العجيب) (كَانَ الشَّبَاب حبيبنا ... كَيفَ السَّبِيل إِلَى الحبيب) وَقَالَ دعبل: (لَا تعجبي يَا سلم من رجل ... ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فبكا) (قد كَانَ يضْحك فِي شيبته ... فَمضى الشَّبَاب فَقل مَا ضحكا) (أَيْن الشَّبَاب وأيه سلكا ... لَا أَيْن يطْلب ضل بل هلكا) وَقَالَ أَبُو تَمام: (لَا تلم من يبكي شبيبته ... إِلَّا إِذا لم يبكها بِدَم) (لسنا نرَاهَا حق رؤيتها ... إِلَّا زمَان الشيب والهرم) (كَالشَّمْسِ لَا تبدو فضيلتها ... حَتَّى تغشى الأَرْض بالظلم) (ولرب شَيْء لَا تبينه وجدا ... بِهِ إِلَّا مَعَ الْعَدَم)

وَقَالَ المتنبي: (وَقد أَرَانِي الشَّبَاب الرّوح فِي بدني ... وَقد أَرَانِي المشيب الرّوح فِي بدلي) [10] أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز قَالَ أَنا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ أَنا الْحسن بن أبي بكر قَالَ أَنا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يَعْقُوب قَالَ أنشدنا أَبُو طَالب الدعبلي قَالَ أنشدنا عَليّ. ابْن الجهم: (لما رَأَتْ شيبا يلوح بمفرقي ... صدت صدود مفارق متجمل) (فظلت أطلب وَصلهَا بتذلل ... والشيب يغمزها بِأَن لَا تفعلي) [11] أَنبأَنَا زَاهِر بن طَاهِر قَالَ أَنبأَنَا أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ قَالَ ثَنَا أَبُو عبد اللَّهِ الْحَاكِم قَالَ أَنْشدني نصر بن مُحَمَّد الطوسي قَالَ أَنْشدني أَبُو بكر الصنوبري: (مَلَأت وَجههَا عَليّ عبوسا ... واستثارت من المآقي الأروسا) (ورأتني أسرح العاج بالعاج ... فظلت تستحسن الآبنوسا)

وللرضى: (سَواد الرَّأْس سلم للغواني ... وَبَين الْبيض وَالْبيض الحروب) (ودلال الشَّبَاب على الغواني ... فبادر قبل يعزلك المشيب) وَله أَيْضا: (من شَافِعِيّ وذنوبي عِنْدهَا الْكبر ... إِن الْبيَاض لذنب لَيْسَ يغْتَفر) (رَأَتْ بَيَاضًا مسودا مطالعة ... مَا فِي للحب لَا عين وَلَا أثر) (وَلَيْسَ كل ظلام دَامَ غيهبه ... يسر خابطه أَن يطلع الْقَمَر) ولمهيار: (وَلما توافقنا وَفِي الْوَصْل فضلَة ... بِقدر الْوُقُوف سَاعَة ثمَّ تَنْقَضِي) (رَأَتْ شيبَة مَا صرحت بعوارضي ... فَصرحَ بالهجران كل معرض) (وَقَالَت أشيخ قلت كهل فأطرقت ... وَقَالَت أَمَام الْهم إنذار منبض) (نبا عَنْك بعد الشيب قلبِي وناظري ... وَمن أَيْن يصفو أسودان لأبيض)

وَله: (ذكرتها الْعَهْد على كاظمة ... قَالَت نسيت والفراق ينسي) (وشعرا مبدلا بِشعر ... بدل فِيك بالنفار أنسي) (هَل هُوَ إِلَّا الشيب أم مَالك ... لَا بُد أَن يصبح ليل الممسي) [قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ:] وَقد كَانَت الْعَرَب تُؤثر ميل الشفتين فِي حق الْمَرْأَة إِلَى السوَاد لِأَنَّهُ أشهى عِنْدهم للتقبيل. قَالَ ذُو الرمة: (لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وَفِي اللثاث وَفِي أنيابها شنب)

(فصل) [قَالَ المُصَنّف] وَفِي النَّبَات أَشْيَاء كَثِيرَة لَا نطيل بذكرها وَمِنْهَا: الشونيز: وَهُوَ الْمُسَمّى بِحَبَّة السَّوْدَاء، يحلل الرِّيَاح الْبَارِدَة، وَيقطع البلغم، وينقي الصَّدْر من الرطوبات اللزجة، ويقلع الثآليل والبهق، وَيقتل الديدان ويدر الطمث، ويسقى بالعسل وَالْمَاء الْحَار للحصاة فِي المثانة والكلية، ويجمد الحميات البلغمية والسوداوية، ويهرب الْهَوَام من دخانه. [12] أخبرنَا عبد الْوَهَّاب الْأنمَاطِي قَالَ أنبأ أَبُو الْحُسَيْن ابْن النقور قَالَ أنبأ عِيسَى بن عَليّ الْوَزير قَالَ أنبأ الْبَغَوِيّ قَالَ ثَنَا كَامِل بن طَلْحَة قَالَ نَا لَيْث بن سعد عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن فِي الْحبَّة السَّوْدَاء شِفَاء من كل دَاء إِلَّا السام ".

قَالَ الزُّهْرِيّ: السام الْمَوْت، والحبة السَّوْدَاء: الشونيز. أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمِنْهَا: ثَمَر الْأَرَاك: [13] روى الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمر الظهْرَان نجني الكباث، فَقَالَ: " عَلَيْك بالأسود مِنْهُ فَإِنَّهُ أطيبه ". قَالَ الْأَصْمَعِي: النضيج من ثَمَر الْأَرَاك هُوَ الكباث، وأسوده أَشد نضجا. وَمِنْهَا: الأبهل: وَهُوَ ثَمَر العرعر الْجبلي مختاره الْأسود، ينفع من القروح العفنة، والسدد، وأورام الأعصاب. وَمِنْهَا: الأهليلج الْأسود: فَإِنَّهُ يسهل السَّوْدَاء، وينشف البلغم من الْمعدة، وينفع الجذام.

وَمِنْهَا: بزر قطونا: أجوده أشده سوادا يسكن الكرب والحرارة. وَمِنْهَا: الآبنوس:. يفتت حَصى المثانة وينفع الْبيَاض الْحَادِث فِي الْعين والغشاوة إِذا سحق مِنْهُ وزن دِرْهَم مَعَ دِرْهَم من السكر، وكحل بِهِ مرَارًا ولونه مستحسن.

(فصل) (وَمن الْأَحْجَار، الْحجر الْأسود) [14] أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم [هبة اللَّهِ] بن الْحصين أَبُو بكر بن عبد الْبَاقِي قَالَ ثَنَا أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ قَالَ ثَنَا [أَبُو أَحْمد الغطريفي، قَالَ ثَنَا أَبُو خَليفَة قَالَ حَدثنَا] شَاذ بن فياض قَالَ ثَنَا عمر بن إِبْرَاهِيم الْعَبْدي عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحجر الْأسود من حِجَارَة الْجنَّة ". [15] أخبرنَا أَبُو مَنْصُور القراز قَالَ أنبأ عبد الْعَزِيز بن عَليّ الْحَرْبِيّ قَالَ أنبأ أَبُو طَاهِر المخلص قَالَ ثَنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي قَالَ ثَنَا إِسْحَاق بن خلدون قَالَ حَدثنِي حَفْص بن عمر الْعَدنِي قَالَ ثَنَا الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " الْحجر يَمِين اللَّهِ، فَمن لم يدْرك بيعَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمسح

الْحجر فقد بَايع الله وَرَسُوله ". [16] أخبرنَا عَليّ بن عبيد اللَّهِ وَأحمد بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد قَالُوا ثَنَا عبد الصَّمد بن الْمَأْمُون قَالَ أنبأ عَليّ بن عمر السكرِي قَالَ ثَنَا أَحْمد بن الْحسن الصُّوفِي قَالَ ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ قَالَ ثَنَا عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان قَالَ ثَنَا عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليبْعَثن هَذَا الْحجر يَوْم الْقِيَامَة لَهُ عينان يبصر بهما ولسان ينْطق بِهِ يشْهد على من استلمه بِحَق ". قَالَ المُصَنّف [رَحمَه اللَّهِ: قلت:] وَالْحجر الَّذِي يُسمى المغناطيس حجر أسود وَفِيه الخصيصة العجيبة وَهُوَ اجتذاب الْحَدِيد إِلَيْهِ من غير مس. وَالْحجر الَّذِي يحك عَلَيْهِ الذَّهَب فَيظْهر سر بَاطِنه.

وَالْحِجَارَة الَّتِي ينقدح بهَا النَّار أَكْثَرهَا على لون الْحَبَشَة. وَمن الْحِجَارَة الَّتِى قد عَم نَفعهَا حِجَارَة الْكحل الْمُسَمّى: بالإثمد، وَهِي حِجَارَة شَدِيدَة السوَاد. [17] أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أنبأ ابْن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا يعلى بن عبيد قَالَ نَا سُفْيَان عَن عبد اللَّهِ بن عُثْمَان عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. " خير أكحالكم الإثمد؛ يجلو الْبَصَر، وينبت الشّعْر ". [قَالَ المُصَنّف رَحمَه اللَّهِ] : وَلَو تتبعنا مثل هَذِه الْأَشْيَاء طَال الْأَمر وَكُنَّا نذْكر الْمسك فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْمسك: " هُوَ أطيب الطّيب ". وَكُنَّا نذْكر الْعود [العنبر] وَغير ذَلِك، لَكِن الْإِشَارَة تَنْبِيه على مَا ترك.

(الباب السابع)

(الْبَاب السَّابِع) فِي بَيَان أَنه لَا فضل لأبيض على أسود باللون وَإِنَّمَا الْفضل بالتقوى. [18] أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك قَالَ ثَنَا أَبُو الْحسن بن عبد الْجَبَّار قَالَ ثَنَا أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ العشاري قَالَ ثَنَا أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن يُوسُف العلاف قَالَ ثَنَا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ ثَنَا أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن الرّبيع الْأَسدي قَالَ ثَنَا عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سره أَن يكون أكْرم النَّاس فليتق اللَّهِ [عز وَجل] ".

[19] قَالَ الْقرشِي، وحَدثني مُحَمَّد بن أبي معشر عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ، من أكْرم النَّاس؟ قَالَ: " أَتْقَاهُم لله عز وَجل ". [20] أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أَنا ابْن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَحْمد ابْن جَعْفَر قَالَ: ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا أَبُو الْمُغيرَة قَالَ: ثَنَا صَفْوَان قَالَ: حَدثنِي رَاشد بن سعد عَن عَاصِم بن حميد عَن معَاذ بن جبل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بَعثه إِلَى الْيمن خرج مَعَه يوصيه، ومعاذ رَاكب، وَرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمشي تَحت رَاحِلَته فَلَمَّا فرغ قَالَ: " يَا معَاذ إِنَّك عَسى أَن لَا تَلقانِي بعد عَامي هَذَا، ولعلك أَن تمر بمسجدي هَذَا وقبري ". فَبكى معَاذ جزعا لفراقه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ الْتفت فَأقبل بِوَجْهِهِ نَحْو

الْمَدِينَة فَقَالَ " إِن أولى النَّاس بِي المتقون، من كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا ". وَقَالَ بعض الْعلمَاء لبَعض الْأَشْرَاف: شرفك يحْتَاج إِلَى تقوى، وَصَاحب التَّقْوَى لَا يحْتَاج إِلَى شرف. [21] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " للْعَبد المصلح الْمَمْلُوك أَجْرَانِ ". [22] وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " الْمَمْلُوك الَّذِي يحسن عبَادَة ربه وَيُؤَدِّي إِلَى سَيّده الَّذِي عَلَيْهِ من الْحق والنصيحة وَالطَّاعَة لَهُ أَجْرَانِ ".

(الباب الثامن)

(الْبَاب الثَّامِن) فِي ذكر من هَاجر من الصَّحَابَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة وعددهم كَانَ السَّبَب فِي هِجْرَة من هَاجر إِلَى الْحَبَشَة أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أظهر الْإِسْلَام نصب لَهُ الْمُشْركُونَ الْعَدَاوَة وبالغوا فِي أَذَاهُ وأذى الصَّحَابَة، فَمَنعه اللَّهِ تَعَالَى بِعَمِّهِ أبي طَالب، فَأمر أَصْحَابه بِالْخرُوجِ إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَقَالَ لَهُم. " إِن بهَا ملكا لَا يظلم النَّاس ببلاده فتحرزوا عِنْده حَتَّى يأتيكم اللَّهِ بفرج مِنْهُ ". وَهَاجَر جمَاعَة، واستخفى جمَاعَة، ثمَّ بلغ أهل الْحَبَشَة أَن الْمُشْركين قد لانوا لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّة فَبَلغهُمْ أَنهم قد عَادوا لَهُ بِالشَّرِّ، فَرَجَعُوا إِلَى الْحَبَشَة وَلم يدْخل أحد [مِنْهُم] مَكَّة إِلَّا ابْن مَسْعُود فَإِنَّهُ دخل بجوار، وَخرج مَعَهم عدد كَبِير من الْمُسلمين.

(وَهَذِه تَسْمِيَة الْمُهَاجِرين من الصَّحَابَة إِلَى الْحَبَشَة على حُرُوف المعجم:) الْأسود بن نَوْفَل، أَسمَاء بنت عُمَيْس، بركَة بنت يسَار، تَمِيم بن الْحَارِث، جَابر بن سُفْيَان، جَعْفَر بن أبي طَالب، جُنَادَة بن سُفْيَان، جهم ابْن قيس، الْحَارِث بن حَاطِب، الْحَارِث بن خَالِد، الْحَارِث بن عبد قيس. حَاطِب بن الْحَارِث، حَاطِب بن عَمْرو، الْحجَّاج بن الْحَارِث، خُزَيْمَة بنت عبد الْأسود، الْحَارِث بن عَمْرو، حَسَنَة أم شُرَحْبِيل، خَالِد بن سُفْيَان، خَالِد بن سعيد، خَالِد بن حزَام، خُزَيْمَة بن جهم، خُنَيْس بن حذافة، ربيعَة بن هِلَال، رقية بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَملَة بنت أبي عَوْف، ريطة بنت الْحَارِث، الزبير بن الْعَوام، السَّائِب بن الْحَارِث، السَّائِب بن عُثْمَان ابْن مَظْعُون، سعد بن خَوْلَة، سعيد بن الْحَارِث، سعيد بن عبد قيس، سعيد بن عَمْرو، سُفْيَان بن معمر، السَّكْرَان بن عَمْرو، سَلمَة بن هِشَام، سليط بن عَمْرو، سويط [بن سعد] ، سَوْدَة زوج رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،

سهلة بنت سُهَيْل، شُرَحْبِيل بن عبد اللَّهِ، شماس بن عُثْمَان، طليب بن أَزْهَر، طليب بن عُمَيْر، عَامر بن ربيعَة، عَامر بن أبي وَقاص، عَامر، أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، عبد اللَّهِ بن جحش، عبد اللَّهِ ابْن الْحَارِث عبد اللَّهِ بن سُفْيَان، عبد اللَّهِ بن سُهَيْل، عبد اللَّهِ بن شهَاب، عبد اللَّهِ ابْن عبد الْأسد، عبد اللَّهِ أَبُو مُوسَى، عبد اللَّهِ بن مخرمَة، عبد اللَّهِ بن مَسْعُود، عبد اللَّهِ بن مَظْعُون، عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عتبَة بن غَزوَان، عتبَة بن مَسْعُود، عُثْمَان بن عَفَّان، عُثْمَان بن مَظْعُون، عُثْمَان بن ربيعَة، عُثْمَان بن عبد غنم، عدي بن نَضْلَة، عُرْوَة بن أبانة، عمار بن يَاسر، عمرَان بن رِئَاب، عَمْرو بن أُميَّة، عَمْرو بن جهم، عَمْرو بن الْحَارِث، عَمْرو بن سعيد، عَمْرو بن عُثْمَان، عَمْرو بن أبي سرح، عُمَيْر بن رِئَاب، عميرَة بنت السَّعْدِيّ، عَيَّاش بن أبي ربيعَة، عِيَاض بن زُهَيْر بن أبي شَدَّاد، فَاطِمَة بنت صَفْوَان، فَاطِمَة بنت عَلْقَمَة، فَاطِمَة بنت الْمُحَلّل، فراس بن النَّضر، فكيهة بنت سِنَان،

قدامَة بن مَظْعُون، قيس بن حذافة، قيس بن عبد الله، ليلى بنت أبي حثْمَة، مَالك بن زَمعَة، مُحَمَّد بن حَاطِب، محمية بن جُزْء، مُصعب بن عُمَيْر، الْمطلب بن أَزْهَر، معبد بن الْحَارِث، معتب بن عَوْف، معمر بن عبد اللَّهِ، معيقيب، الْمِقْدَاد، نبيه بن عُثْمَان، هَاشم بن أبي حُذَيْفَة، هَبَّار بن سُفْيَان، هِشَام بن العَاصِي، هِشَام بن عتبَة، همينة، هِنْد زوج رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يزِيد بن زَمعَة، الرّوم بن عُمَيْر، أَبُو سُبْرَة بن أبي رهم، أَبُو فكيهة، أَبُو قيس بن الْحَارِث، أم كُلْثُوم بنت سُهَيْل.

(ذكر من ولد بِالْحَبَشَةِ للْمُسلمين) عبد اللَّهِ وَعون وَمُحَمّد أَوْلَاد جَعْفَر بن أبي طَالب، سعيد وَأمة ابْنا خَالِد بن سعيد، عبد اللَّهِ بن الْمطلب، مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة، مُحَمَّد بن حَاطِب، زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، مُوسَى وَعَائِشَة وَزَيْنَب أَوْلَاد الْحَارِث بن خَالِد.

(الباب التاسع)

(الْبَاب التَّاسِع) (فِي إِنْفَاذ قُرَيْش إِلَى النَّجَاشِيّ ليسلم إِلَيْهِم أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) [23] أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أنبأ أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَبُو بكر أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ ثَنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ نَا أبي قَالَ نَا يَعْقُوب قَالَ ثَنَا أبي عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد ابْن مُسلم بن شهَاب عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت: لما نزلنَا الْحَبَشَة جاورنا بهَا خير جَار النَّجَاشِيّ؛ أمننا على ديننَا، وعبدنا اللَّهِ [عز وَجل] لَا نؤذى، وَلَا نسْمع شَيْئا نكرهه، فَلَمَّا بلغ ذَلِك قُريْشًا ائْتَمرُوا أَن يبعثوا إِلَى النَّجَاشِيّ منا رجلَيْنِ جلدين وَأَن يهدى إِلَى النَّجَاشِيّ هَدَايَا مِمَّا يستطرف من مَتَاع مَكَّة، وَكَانَ من أعجب مَا يَأْتِي مِنْهَا الْأدم، فَجمعُوا لَهُ أدما كثيرا،، وَلم يتْركُوا من بطارقته بطريقا إِلَّا أهدوا لَهُ هَدِيَّة،

ثمَّ بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي وَعَمْرو بن العَاصِي، وأمروهما [أَمرهم] وَقَالُوا لَهما: ادفعا إِلَى كل بطرِيق هديته قبل أَن تكلمُوا النَّجَاشِيّ فيهم، ثمَّ قدمُوا إِلَى النَّجَاشِيّ هداياه، ثمَّ سلوه أَن يسلمهم إِلَيْكُم قبل أَن يكلمهم. قَالَت: فخرجنا فقدمنا على النَّجَاشِيّ، وَنحن عِنْده بِخَير دَار، وَعند خير جوَار، فَلم يبْق من بطارقته بطرِيق إِلَّا دفعا إِلَيْهِ هديته قبل أَن يكلما النَّجَاشِيّ، ثمَّ قَالَا لكل بطرِيق مِنْهُم: إِنَّه قد صبا إِلَى بلد الْملك منا غلْمَان سُفَهَاء فارقوا دين قَومهمْ، وَلم يدخلُوا فِي دينكُمْ، وَجَاءُوا بدين مُبْتَدع لَا نعرفه نَحن وَلَا أَنْتُم، وَقد بعثنَا إِلَى الْملك فيهم أَشْرَاف قَومهمْ ليردهم إِلَيْهِم، فَإِذا كلمنا الْملك فيهم فأشيروا عَلَيْهِ أَن يسلمهم إِلَيْنَا وَلَا يكلمهم، فَإِن قَومهمْ أَعلَى بهم عينا، وَأعلم بِمَا عابوا عَلَيْهِم، فَقَالُوا لَهما: نعم. ثمَّ إنَّهُمَا قربا هداياهم إِلَى النَّجَاشِيّ فقبلها مِنْهُم ثمَّ كلماه فَقَالَا لَهُ: أَيهَا الْملك، إِنَّه قد حبا إِلَى بلدك منا غلْمَان سُفَهَاء فارقوا دين قَومهمْ، وَلم يدخلُوا فِي دينك، وَجَاءُوا بدين مُبْتَدع لَا نعرفه نَحن وَلَا أَنْت، وَقد بعثنَا إِلَيْك

فيهم أَشْرَاف قَومهمْ من آبَائِهِم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إِلَيْهِم، فهم أَعلَى بهم عينا،، وَأعلم بِمَا عابوا عَلَيْهِم وعاتبوهم فِيهِ، قَالَت، وَلم يكن شَيْء أبْغض إِلَى عبد اللَّهِ بن أبي ربيعَة وَعَمْرو بن العَاصِي من أَن يسمع النَّجَاشِيّ كَلَامهم، فَقَالَت بطارقته حوله: صدقُوا أَيهَا الْملك، قَومهمْ أَعلَى بهم، وَأعلم بِمَا عابوا عَلَيْهِم، فأسلمهم إِلَيْهِمَا فليردا هما إِلَى بِلَادهمْ وقومهم. قَالَت: فَغَضب الجاشي ثمَّ قَالَ: لَا هَا اللَّهِ إِذا لَا أسلمهم إِلَيْهِمَا، وَلَا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حَتَّى أدعوهم، وأسألهم مَا يَقُول هَذَانِ فِي أَمرهم، فَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ سلمتهم إِلَيْهِمَا، ورددتهم إِلَى قَومهمْ، وَإِن كَانُوا على غير ذَلِك منعتهم مِنْهُم؛ وَأمنت جوارهم مَا جاوروني. قَالَت: ثمَّ أرسل إِلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا أَن جَاءَهُم رَسُوله اجْتَمعُوا ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض: مَا تَقولُونَ للرجل إِذا جئتموه؟

قَالُوا: نقُول وَالله مَا علمناه وَمَا أمرنَا بِهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَائِن فِي ذَلِك مَا هُوَ كَائِن. فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقد دَعَا النَّجَاشِيّ أساقفته فنشروا مصاحفتهم حوله سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدّين الَّذِي فارقتم فِيهِ قومكم وَلم تدْخلُوا فِي ديني وَلَا فِي دين أحد من هَذِه الْأُمَم؟ قَالَت: وَكَانَ الَّذِي كَلمه جَعْفَر بن أبي طَالب فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْملك، كُنَّا قوما أهل جَاهِلِيَّة نعْبد الْأَصْنَام، وَنَأْكُل الْميتَة، ونأتي الْفَوَاحِش، ونقطع الْأَرْحَام، ونسيء الْجوَار، فيأكل الْقوي منا الضَّعِيف، وَكُنَّا على ذَلِك حَتَّى بعث اللَّهِ عز وَجل إِلَيْنَا رَسُولا منا نَعْرِف نسبه وَصدقه وأمانته وَشرف عفافه فَدَعَانَا إِلَى الله عز وَجل لنوحده ونعبده، ونخلع مَا كُنَّا نعْبد نَحن وآباؤنا من دونه من الْحِجَارَة والأوثان، وأمرنا بِصدق الحَدِيث، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وصلَة الرَّحِم، وَحسن الْجوَار [وكف الْأَذَى] والكف عَن الْمَحَارِم والدماء، ونهانا عَن الْفَوَاحِش، وَقَول الزُّور، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَقذف المحصنة، وأمرنا أَن نعْبد اللَّهِ لَا نشْرك بِهِ شَيْئا، وأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام. قَالَت: فعدد عَلَيْهِ أُمُور الْإِسْلَام فصدقنا وآمنا بِهِ واتبعناه على مَا جَاءَ بِهِ فعبدنا اللَّهِ وَحده فَلم نشْرك بِهِ شَيْئا، وحرمنا مَا حرم علينا، وأحللنا مَا أحل لنا، فَعدا علينا قَومنَا فعذبونا وفتنونا عَن ديننَا، ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان من

عبَادَة الله عز وَجل، وَأَن نستحل مَا كُنَّا نستحل من الْخَبَائِث، فَلَمَّا قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بَيْننَا وَبَين ديننَا، خرجنَا إِلَى بلدك فاخترناك على من سواك، ورغبنا فِي جوارك، ورجونا أَن لَا نظلم عنْدك أَيهَا الْملك. قَالَت؛ فَقَالَ [لَهُ] النَّجَاشِيّ: هَل مَعَك مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن الله عز وَجل من شَيْء؟ فَقَالَ [لَهُ] جَعْفَر: نعم، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيّ: فاقرأه عَليّ: قَالَت: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدرا من {كهيعص} . قَالَت: فَبكى وَالله النَّجَاشِيّ حَتَّى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حَتَّى اخضلت مصاحفهم حِين سمعُوا مَا تلِي عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيّ: إِن هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى ليخرج من مشكاة وَاحِدَة، انْطَلقَا فوَاللَّه لَا أسلمهم إلَيْكُمَا أبدا وَلَا أكاد. قَالَت أم سَلمَة: فَلَمَّا خرجنَا من عِنْده قَالَ عَمْرو بن العَاصِي: وَالله

لَآتِيَنه غَدا أعيبهم عِنْده بِمَا أستأصل بِهِ غضراءهم، فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ بن أبي ربيعَة - وَكَانَ أتقى الرجلَيْن - فِينَا: لَا تفعل، فَإِن لَهُم أرحاما، وَإِن كَانُوا قد خالفونا. قَالَ: وَالله لأخبرنه أَنهم يَزْعمُونَ أَن عِيسَى ابْن مَرْيَم [عَلَيْهِ السَّلَام] عبد. قَالَت: ثمَّ غَدا عَلَيْهِ الْغَد، فَقَالَ: أَيهَا الْملك، أَنهم يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم قولا عَظِيما، فَأرْسل إِلَيْهِم فَسَأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَت: فَأرْسل إِلَيْهِم يسألهم عَنهُ، قَالَت: وَلم ينزل بِنَا مثلهَا، فَاجْتمع الْقَوْم، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: مَاذَا تَقولُونَ فِي عِيسَى إِذا سألكم عَنهُ؟ قَالُوا: نقُول وَالله فِيهِ مَا قَالَ اللَّهِ عز وَجل وَمَا جَاءَ بِهِ نَبينَا كَائِنا فِي ذَلِك مَا هُوَ كَائِن. فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَر بن أبي طَالب: نقُول فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ عبد اللَّهِ وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول. قَالَت: فَضرب النَّجَاشِيّ يَده على الأَرْض فَأخذ مِنْهَا عودا ثمَّ قَالَ:

مَا عدا عِيسَى بن مَرْيَم مَا قلت هَذَا الْعود، فتناخرت بطارقته حوله حِين قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِن نخرتم وَالله اذْهَبُوا فَأنْتم سيوم بأرضي، والشيوم الآمنون من سبكم غرم، من سبكم غرم، مَا أحب أَن لي دبرا [من] ذهب وَأَنِّي آذيت رجلا مِنْكُم - والدبر بِلِسَان الْحَبَشَة: الْجَبَل - ردوا عَلَيْهِمَا هداياهما فَلَا حَاجَة لنا بهَا فوَاللَّه مَا أَخذ اللَّهِ مني الرِّشْوَة حِين رد عَليّ ملكي فآخذ الرِّشْوَة فِيهِ، وَمَا أطَاع النَّاس فِي فأطعهم فِيهِ. قَالَت: فَخَرَجَا من عِنْده مقبوحين مردودا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وأقمنا عِنْده بِخَير دَار مَعَ خير جَار. قَالَت: فوَاللَّه إِنَّا على ذَلِك إِذْ نزل بِهِ من ينازعه فِي ملكه، قَالَت: فوَاللَّه مَا علمنَا حزنا قطّ كَانَ أَشد من حزن حزناه عِنْد ذَلِك تخوفا أَن يظْهر ذَلِك على النَّجَاشِيّ، فَيَأْتِي رجل لَا يعرف من حَقنا مَا كَانَ النَّجَاشِيّ يعرف مِنْهُ. قَالَت: وَسَار النَّجَاشِيّ وَبَينهمَا عرض النّيل. قَالَت: فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[هَل] من رجل يخرج حَتَّى

يحضر وقيعة الْقَوْم، ثمَّ يأتينا بالْخبر؟ فَقَالَ الزبير بن الْعَوام: أَنا قَالَت: وَكَانَ من أحدث الْقَوْم سنا، قَالَت: فنفخوا لَهُ قربَة فَجَعلهَا فِي صَدره، ثمَّ سبح عَلَيْهَا حَتَّى خرج إِلَى بَاب النّيل الَّتِي بهَا ملتقى الْقَوْم، ثمَّ انْطلق حَتَّى حضرهم. قَالَت: ودعونا اللَّهِ للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين لَهُ فِي بِلَاده. واستوسق عَلَيْهِ أَمر الْحَبَشَة، وَكُنَّا عِنْده فِي خير منزل حَتَّى قدمنَا على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بِمَكَّة. [24] أَنبأَنَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب قَالَ أَنا أَبُو جَعْفَر بن الْمسلمَة قَالَ أَنا أَبُو طَاهِر المخلص قَالَ أَنا أَحْمد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد قَالَ أَنا الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي عمي مُصعب بن عبد اللَّهِ قَالَ: بعثت قُرَيْش عمَارَة بن الْوَلِيد مَعَ عَمْرو بن العَاصِي إِلَى النَّجَاشِيّ يكلمانه فِيمَن

قدم عَلَيْهِ من الْمُهَاجِرين، فراسل عمَارَة بن الْوَلِيد جَارِيَة للنجاشي لعَمْرو بن العَاصِي وَكَانَت مَعَه حَتَّى مَضَت إِلَيْهِ فَأطلع على ذَلِك عَمْرو بن العَاصِي فَقَالَ: (تعلم عمَارَة أَن من شرشيمة ... لمثلك أَن تدعى ابْن عمر لَهُ ابْن أما) (فَإِن كنت ذَا بردين أحوى مرجلا ... فلست برَاء لِابْنِ عمك محرما) (إِذا الْمَرْء لم يتْرك طَعَاما يُحِبهُ ... وَلم ينْه قلبا هاويا حَيْثُ يمما) (قضى وطرا مِنْهُ وغادر سبة ... إِذا ذكرت أَمْثَالهَا تملأ الفما) وَقد كَانَ عمَارَة أخبر عمرا أَن زَوْجَة الْملك النَّجَاشِيّ علقته وأدخلته، فَلَمَّا يئس عَمْرو بن العَاصِي من أَمر الْمُهَاجِرين عِنْد النَّجَاشِيّ مَحل بعمارة عِنْده، فَأخْبرهُ خَبره وَخبر زَوجته. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيّ: ائْتِنِي بعلامة أستدل بهَا على مَا قلت، فَعَاد عمَارَة وَأخْبر عمرا بأَمْره وَأمر زَوْجَة النَّجَاشِيّ فَقَالَ لَهُ

عَمْرو: لَا أقبل هَذَا مِنْك، إِلَّا بِأَن لَا ترْضى مِنْهَا إِلَّا بِأَن تعطيك [شَيْئا] من دهن الْملك الَّذِي لَا يدهن بِهِ غَيره. فكلمها عمَارَة فِي الدّهن، فَقَالَت: أَخَاف من الْملك. فَأبى أَن يرضى مِنْهَا حَتَّى تعطيه ذَلِك الدّهن فَأَعْطَتْهُ مِنْهُ فَأعْطَاهُ عمرا، فجَاء بِهِ إِلَى النَّجَاشِيّ، فَنفخ سحرًا فِي إحليله، فَذهب مَعَ الْوَحْش فِيمَا يَقُوله قُرَيْش، فَلم يزل مستوحشا يرد مَاء فِي جَزِيرَة بِأَرْض الْحَبَش، حَتَّى خرج إِلَيْهِ عبد اللَّهِ بن أبي ربيعَة فِي جمَاعَة من أَصْحَابه، فرصده على المَاء فَأَخذه فَجعل يَصِيح بِهِ: أَرْسلنِي فَإِنِّي أَمُوت إِن أمسكتني، فأمسكه فَمَاتَ فِي يَده.

(الباب العاشر)

(الْبَاب الْعَاشِر) (فِي ذكر مُكَاتبَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) (النَّجَاشِيّ [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام وإسلامه) [قَالَ مُؤَلفه رَحمَه اللَّهِ] : كتب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى النَّجَاشِيّ يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام، فَأسلم وآمن مَعَه جمَاعَة من أَصْحَابه، وأجابه عَن كِتَابه وَبعث إِلَيْهِ وَلَده فِي سِتِّينَ من الْحَبَشَة فَغَرقُوا فِي الْبَحْر، وَسَيَأْتِي ذكر قصَّته فِي بَاب ذكر مُلُوك الْحَبَشَة إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.

(الباب الحادي عشر)

(الْبَاب الْحَادِي عشر) (فِي ذكر قدوم الْحَبَشَة على رَسُول اللَّهِ ولعبهم بالحراب فِي الْمَسْجِد وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينظر) [25] أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أَنا ابْن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا أَبُو الْمُغيرَة قَالَ ثَنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ ثَنَا الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] قَالَت رَأَيْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسترني بردائه وَأَنا أنظر إِلَى الْحَبَشَة يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِد حَتَّى أكون أَنا أسأم، فاقدروا قدر الْجَارِيَة الحديثة السن الحريصة على اللَّهْو. [26] قَالَ أَحْمد وثنا عبد الرَّزَّاق قَالَ ثَنَا معمر عَن ثَابت عَن أنس قَالَ: لما قدم رَسُول اللَّهِ الْمَدِينَة لعبت الْحَبَشَة لقدومه بِحِرَابِهِمْ فَرحا بذلك.

[27] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّار قَالَ أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي أَن أَبَا بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن سلم أخبرهُ إجَازَة قَالَ ثَنَا أَبُو بكر بن دَاوُد قَالَ ثَنَا أَحْمد بن صَالح قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي عَمْرو ابْن الْحَارِث قَالَ حَدثنِي أَبُو الْأسود عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] قَالَت: كَانَ عِنْدِي رَسُول اللَّهِ يَوْم لعب السودَان بالدرق والحراب. فإمَّا سَأَلت رَسُول اللَّهِ ، وَإِمَّا قَالَ لي: " تشتهين تنظرين؟ " فَقلت: نعم، فأقامني من وَرَائه خدي على خَدّه وَهُوَ يَقُول: " دونكم يَا بني أرفدة ". حَتَّى إِذا مللت قَالَ: " حَسبك؟ ". قلت: نعم. قَالَ: فاذهبي ".

[28] قَالَ ابْن مُسلم: وَحدثنَا أَبُو عبد اللَّهِ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن سعيد قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي قَالَ: ثَنَا زيد بن الْحباب قَالَ: حَدثنِي خَارِجَة بن عبد اللَّهِ قَالَ ثَنَا يزِيد بن رُومَان عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسا فَسمع لَغطا وَصَوت صبيان فَقَامَ فَإِذا حبشية تزفن وَالصبيان حولهَا، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا عَائِشَة تعالي وانظري ". فَجئْت فَوضعت ذقني على منْكب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَجعلت أنظر إِلَيْهَا مَا بَين مَنْكِبَيْه إِلَى رَأسه فَقَالَ لي: " أما شعبت؟ ". فَقلت: لَا؛ لأنظر منزلتي عِنْده.

[29] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أَنا عبيد اللَّهِ بن عَمْرو بن أَحْمد المروروذي قَالَ ثَنَا أبي قَالَ: ثَنَا نصر بن الْقَاسِم قَالَ ثَنَا لوين قَالَ ثَنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر مرا بِالْحَبَشَةِ وهم يَلْعَبُونَ وَيَقُولُونَ: (يَا أَيهَا الطيف المعرج طَارِقًا ... لَوْلَا مَرَرْت بآل عبد الدَّار) (لَوْلَا مَرَرْت بهم تُرِيدُ قراهم ... مفعول من جهد وَمن إقتار)

(الباب الثاني عشر)

(الْبَاب الثَّانِي عشر) (فِي ذكر مَا جَاءَ من الْقُرْآن مُوَافقا للغة الْحَبَشَة) [30] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا مُحَمَّد بن المظفر الْحَافِظ قَالَ أَنا عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد قَالَ ثَنَا أَبُو حَفْص عَمْرو بن عَليّ قَالَ ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ ثَنَا إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن أبي مُوسَى: {يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} ، قَالَ: ضعفين وَهُوَ بِلِسَان الْحَبَشَة: كِفْلَيْنِ. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والمشكاة: الكوة بِلِسَان الْحَبَشَة. [31] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ ثَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أَنبأَنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر قَالَ أَنا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْبَزَّاز عَن شيخ لَهُ قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الحساني قَالَ نَا وَكِيع قَالَ نَا إِسْرَائِيل عَن سعيد بن عِيَاض قَالَ: الْمشكاة: الكوة بِلِسَان الْحَبَشَة.

قَالَ وَكِيع: وَحدثنَا عمر بن أبي زَائِدَة قَالَ: سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول {طه} بِلِسَان الْحَبَشَة: قل يَا رجل. قَالَ وَكِيع: وَحدثنَا أَبُو إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: {إِن ناشئة اللَّيْل} قَالَ بِلِسَان الْحَبَشَة إِذا شَاءَ قَامَ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ قيام اللَّيْل بِلِسَان الْحَبَشَة. وَقَالَ الزّجاج: ناشئة اللَّيْل: ساعاته كل مَا تشَاء مِنْهُ. [32] أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك قَالَ أَنا أَبُو الْفضل ابْن خيرون قَالَ أَنا ابْن شَاذان قَالَ أَنا أَحْمد بن كَامِل قَالَ أَنا مُحَمَّد بن سعيد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنِي عمر عَن أَبِيه عَن جده عَن ابْن عَبَّاس (إِن

إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} قَالَ: الأواه: الْمُؤمن وَهُوَ بالحبشية.

(الباب الثالث عشر)

(الْبَاب الثَّالِث عشر) (فِي ذكر مَا سَمعه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كَلَام الْحَبَشَة فأعجبه) [33] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر الْحَافِظ قَالَ أَنا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أَنا عبيد اللَّهِ بن عمر الْوَاعِظ قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ نَا عَليّ بن مُحَمَّد ابْن أَيُّوب الرقي وَعبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن زِيَاد النَّيْسَابُورِي قَالَا ثَنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ ثَنَا ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي مُسلم بن خَالِد عَن ابْن خثيم عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: لما رجعت مهاجرة الْحَبَشَة إِلَى رَسُول اللَّهِ قَالَ: " أَلا تحدثوني بِأَعْجَب شَيْء رَأَيْتُمْ بِأَرْض الْحَبَشَة ". قَالَ فتية مِنْهُم: يَا رَسُول اللَّهِ، بَينا نَحن جُلُوس إِذْ مرت علينا عَجُوز من عجائزهم، تحمل على رَأسهَا قلَّة من مَاء، فمرت بفتى مِنْهُم، فَجعل إِحْدَى يَدَيْهِ بَين كتفيها، ثمَّ رَفعهَا [فخرت] على ركبتيها فَانْكَسَرت قلتهَا فَلَمَّا ارْتَفَعت التفتت إِلَيْهِ فَقَالَت: سَوف تعلم يَا غدر إِذا وضع اللَّهِ عز وَجل

الْكُرْسِيّ، وَجمع الْأَوَّلين والآخرين، وتكلمت الْأَيْدِي والأرجل بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، تعلم أَمْرِي وأمرك عِنْده غَدا، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدقت: كَيفَ يقدس اللَّهِ قوما، لَا يُؤْخَذ لضعيفهم من قويهم؟ ".

(الباب الرابع عشر)

(الْبَاب الرَّابِع عشر) (فِي ذكر تَخْصِيص الْحَبَشَة بِالْأَذَانِ) [34] أخبرنَا الكروخي قَالَ: أَنا أَبُو عَامر الْأَزْدِيّ قَالَ: أَنا الجراحي قَالَ ثَنَا المحبوبي قَالَ ثَنَا التِّرْمِذِيّ قَالَ ثَنَا أَحْمد بن منيع قَالَ ثَنَا زيد بن حباب قَالَ ثَنَا مُعَاوِيَة بن صَالح قَالَ ثَنَا أَبُو مَرْيَم الْأنْصَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْملك فِي قُرَيْش، وَالْقَضَاء فِي الْأَنْصَار، وَالْأَذَان فِي الْحَبَشَة، وَالْأَمَانَة فِي الأزد " يَعْنِي: الْيمن.

(الباب الخامس عشر)

(الْبَاب الْخَامِس عشر) (فِيمَن ذكر أَنه كَانَ نَبيا من السودَان فَمِمَّنْ رُوِيَ أَنه كَانَ من الْأَنْبِيَاء أسود نَبِي أَصْحَاب الْأُخْدُود.) [35] فروى جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْفضل الرَّسْعَنِي فِي تَارِيخه بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: كَانَ نَبِي أَصْحَاب الْأُخْدُود حَبَشِيًّا. [وَذكر أهل التَّفْسِير: أَن الَّذين أحرقوا كَانُوا من الْحَبَشَة] . قَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانُوا اثْنَي عشر ألفا. وَقَالَ ابْن السَّائِب: سبعين ألفا. وَكَانَ السَّبَب فِي إحراقهم مَا روينَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ أَنه قَالَ: " كَانَ ملك من الْمُلُوك قد سكر فَوَقع على أُخْته، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ لَهَا: وَيحك، كَيفَ الْمخْرج؟ فَقَالَت لَهُ: اجْمَعْ أهل مملكتك

فَأخْبرهُم أَن اللَّهِ قد أحل نِكَاح الْأَخَوَات /، فَإِذا ذهب هَذَا فِي النَّاس وتناسوه، خطبتهم تحرمه، فَفعل ذَلِك، فَأَبَوا أَن يقبلُوا ذَلِك مِنْهُ، فَبسط فيهم السَّوْط، ثمَّ جرد السَّيْف فَأَبَوا، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا وأوقد فِيهِ النَّار، وَقذف من أَبى قبُول ذَلِك.

(فصل) وَقد اخْتلفُوا فِي ذِي القرنين. فَقَالَ عبد اللَّهِ بن عَمْرو بن سعيد بن الْمسيب وَالضَّحَّاك بن مُزَاحم: كَانَ نَبيا. [36] وروينا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ عبدا صَالحا من الْقُرُون الأول من ولد يافث بن نوح. [37] وَذكر جَعْفَر بن مُحَمَّد الرَّسْعَنِي فِي تَارِيخه عَن إِبْرَاهِيم عَن عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ قَالَ: كَانَ ذُو القرنين أسود. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: كَانَ ذُو القرنين فِي زمن [إِبْرَاهِيم] الْخَلِيل [عَلَيْهِ السَّلَام] وَمَات فِي ذَلِك الزَّمن. وَفِي عِلّة تَسْمِيَته بِذِي القرنين عشرَة أَقْوَال: الأول: أَنه دَعَا قومه إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فضربوه على قرنه فَهَلَك،

فغبر زَمَانا ثمَّ بَعثه اللَّهِ تَعَالَى فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ [تَعَالَى] فضربوه على قرنه الآخر فَهَلَك، فَذَلِك قرناه، قَالَه عَليّ [بن أبي طَالب] . الثَّانِي: أَنه سمي بذلك لِأَنَّهُ سَار إِلَى مغرب الشَّمْس وَإِلَى مطْلعهَا. رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: لِأَن صفحتي رَأسه كَانَتَا من نُحَاس. الرَّابِع: لِأَنَّهُ رأى فِي النّوم كَأَنَّهُ امْتَدَّ من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فَأخذ بقرني الشَّمْس فَقص ذَلِك على قومه فَسُمي بِذِي القرنين. الْخَامِس: لِأَنَّهُ ملك فَارس وَالروم. السَّادِس: لِأَنَّهُ كَانَ فِي رَأسه شبه القرنين. رويت هَذِه الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة عَن وهب بن مُنَبّه. السَّابِع: لِأَنَّهُ كَانَت لَهُ غديرتان من شعر. قَالَه الْحسن. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَالْعرب تسمي ضفيرتي الشّعْر غديرتين وقرنين. الثَّامِن: أَنه كَانَ كريم الطَّرفَيْنِ من أهل بَيت ذَوي شرف. التَّاسِع: لِأَنَّهُ انقرض فِي زَمَانه قرنان من النَّاس وَهُوَ حَيّ.

الْعَاشِر: لِأَنَّهُ سلك الظلمَة والنور. ذكر هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ. قَالَ مُجَاهِد: ملك الأَرْض أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فالمؤمنان: سُلَيْمَان بن دَاوُد [نَبِي اللَّهِ] وَذُو القرنين، والكافران: نمْرُود، وبخت نصر. [38] أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الأرموي قَالَ أَنا أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي قَالَ نَا أَبُو حَفْص بن شاهين قَالَ نَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد الباغندي قَالَ ثَنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة قَالَ ثَنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ حَدثنِي زَائِدَة عَن سماك بن حَرْب عَن حبيب بن حَازِم قَالَ: قَالَ رجل لعَلي [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] كَيفَ بلغ ذُو القرنين الْمشرق وَالْمغْرب؟ فَقَالَ عَليّ: سخر لَهُ السَّحَاب، ومدت لَهُ الْأَسْبَاب، وَبسط لَهُ النُّور. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كَانَ ذُو القرنين يركب فِي ألف ألف، وعَلى مقدمته سِتّمائَة ألف، وعَلى ساقته مائَة ألف. [فسبحان الْحَيّ الْبَاقِي] .

(ذكر صفة بنائِهِ السد) [39] روى أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: أَنه لما عزم ذُو القرنين على الْمسير إِلَى مطلع الشَّمْس أَخذ على طَرِيق كابل والهند وتبت فَتَلَقَّتْهُ الْمُلُوك بالتحف وَالْأَمْوَال، وانْتهى إِلَى الْحُصُون المعطلة، وَقد بقيت فِيهِ بقايا فَسَأَلُوهُ أَن يسد الرَّدْم، فَنزل مَعَه الصناع، فَاتخذ قدور [النّحاس و] الْحَدِيد الْكِبَار، والمغارف الْحَدِيد، وَأمر أَن يَجْعَل كل أَرْبَعَة من تِلْكَ الْقُدُور على حِدة، كَانَ طول كل وَاحِد خَمْسُونَ ذِرَاعا، وَأمر الصناع أَن يضْربُوا لبن الْحَدِيد فضربوها طول كل لبنة ذِرَاع وَنصف، وسمكها شبر، وبنوا السد، وَجعلُوا فِي وَسطه بَابا عَظِيما عَلَيْهِ مصراعان، كل مصراع خَمْسُونَ ذِرَاعا وَعَلِيهِ قفل نَحْو عشرَة أَذْرع، فَلَمَّا فرغ من بِنَاء السد أضرم عَلَيْهِ النَّار فَصَارَ معجونا كَأَنَّهُ حجر وَاحِد. [40] قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: وَبَلغنِي عَن ابْن خرداذبة قَالَ: حَدثنِي سَلام الترجمان أَن الواثق لما رأى فِي الْمَنَام أَن السد الَّذِي سَده ذُو القرنين قد انْفَتح وجهني فَقَالَ: عاينه وائتني بِخَبَرِهِ. وَضم إِلَيّ

خمسين رجلا، ووصلني بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وَأَعْطَانِي ديتي عشرَة آلَاف دِرْهَم، [وَأمر بِإِعْطَاء كل رجل معي ألف دِرْهَم] ، ورزق سِتَّة أشهر، وَأَعْطَانِي مِائَتي بغل تحمل الزَّاد وَالْمَاء، فشخصنا من سر من رأى بِكِتَاب من الواثق إِلَى أبي إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل صَاحب أرمينية فِي إنفاذها فَكتب لنا إِسْحَاق إِلَى صَاحب السرر، فَكتب لنا ذَلِك إِلَى اللاب وَكتب لنا إِلَى فيلا نشاه، فَكتب لنا إِلَى الخزر، فَأَقَمْنَا عِنْد ملك الخزر يَوْمًا وَلَيْلَة، ثمَّ وَجه مَعنا خمسين رجلا أدلاء، فسرنا من عِنْده خمْسا وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ صرنا إِلَى أَرض سَوْدَاء منتنه الرّيح، وَقد كُنَّا تزودنا قبل دُخُولهَا طيبا نشمه للرائحة الْمَكْرُوهَة فسرنا فِيهَا عشرَة أَيَّام، ثمَّ صرنا إِلَى مدن خراب، فسرنا

فِيهَا سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا، فسألنا عَن تِلْكَ المدن فخبرنا أَنَّهَا المدن الَّتِي كَانَ يَأْجُوج وَمَأْجُوج يطرقونها، فخربوها، ثمَّ صرنا إِلَى حصون بِالْقربِ من الْجَبَل الَّذِي السد فِي شعب مِنْهُ، وَفِي تِلْكَ الْحُصُون قوم يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية، مُسلمُونَ يقرؤون الْقُرْآن لَهُم كتاتيب ومساجد، فَسَأَلُونَا من أَيْن أقبلتم؟ فأخبرناهم أَنا رسل أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَقْبَلُوا يتعجبون وَيَقُولُونَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ! قُلْنَا: نعم، فَقَالُوا: شيخ هُوَ أم شَاب؟ فَقُلْنَا: شَاب، فَقَالُوا: أَيْن يكون؟ قُلْنَا: بالعراق فِي مَدِينَة يُقَال لَهَا: سر من رأى، فَقَالُوا: مَا سمعنَا بِهَذَا قطّ. ثمَّ صرنا إِلَى جبل أملس لَيْسَ عَلَيْهِ خضراء، وَإِذا جبل مَقْطُوع بواد عرض مائَة وَخَمْسُونَ ذِرَاعا، وَإِذا عضادتان مبنيتان مِمَّا يَلِي الْجَبَل من جنبتي الْوَادي عرض كل عضادة خمس وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، الظَّاهِر من تحتهَا عشرَة أَذْرع خَارج الْبَاب، وَعَلِيهِ بِنَاء بِلَبن من حَدِيد مغيب فِي نُحَاس فِي سمك خمسين ذِرَاعا، وَإِذا دروند حَدِيد طرفاه على العضادتين طوله مائَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، قد ركب على العضادتين على وَاحِد بِمِقْدَار عشرَة أَذْرع فِي عرض خَمْسَة أَذْرع، وَفَوق الدروند بِنَاء بذلك الْحَدِيد المغيب فِي النّحاس إِلَى

رَأس الْجَبَل فِي ارتفاعه مد الْبَصَر، وَفَوق ذَلِك شرف حَدِيد فِي كل شرفة قرنان، ينثني كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه، وَإِذا بَاب حَدِيد عَلَيْهِ مصراعان مغلقان عرض كل مصراع خَمْسُونَ ذِرَاعا، فِي ارْتِفَاع خمسين فِي نَحْو خَمْسَة أَذْرع وقائمتاهما فِي دوارة فِي قدر الدروند وعَلى الْبَاب قفل طوله تِسْعَة أَذْرع فِي غلظ ذِرَاع فِي الاستدارة وارتفاع القفل من الأَرْض خمس وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وَفَوق القفل بِقدر خَمْسَة أَذْرع غلق طوله أَكثر من طول القفل، وقفيز كل وَاحِد مِنْهُمَا ذراعان، وعَلى الغلق مِفْتَاح مُعَلّق طوله ذِرَاع وَنصف، وَله اثْنَتَا عشرَة دريجة، كل وَاحِدَة قدر فَرسَخ أكبر مَا يكون من هاون مُعَلّق فِي سلسلة طولهَا ثَمَان أَذْرع فِي استدارة أَرْبَعَة أشبار وَالْحَلقَة الَّتِي فِيهَا السلسلة مثل حَلقَة المنجنيق، وَعتبَة الْبَاب عشرَة أَذْرع بسط مائَة ذِرَاع سوى مَا تَحت العضادتين، وَالظَّاهِر مِنْهَا خَمْسَة أَذْرع، وَهَذَا الذِّرَاع كُله بالذراع السرداء، وَرَئِيس تِلْكَ الْحُصُون يركب فِي كل جُمُعَة فِي

عشرَة فوارس مَعَ كل فَارس مرزبة حَدِيد، فِي كل وَاحِدَة خَمْسُونَ وَمِائَة منا، فَيضْرب القفل بِتِلْكَ المرزبات فِي كل يَوْم مَرَّات ليسمع من وَرَاء الْبَاب الصَّوْت، فيعلموا أَن هُنَالك حفظَة، وَيعلم هَؤُلَاءِ أَنه أُولَئِكَ لم يحدثوا فِي الْبَاب حَدثا، وَإِذا ضرب أَصْحَابنَا القفل وضعُوا آذانهم فيسمعون لمن هُوَ دَاخل دويا، وبالقرب من هَذَا الْموضع حصن كَبِير يكون عشرَة فراسخ فِي عشرَة فراسخ تكسير مائَة فَرسَخ، وَمَعَ الْبَاب حصنان يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مِائَتي ذِرَاع فِي مِائَتي ذِرَاع، وعَلى بَاب هذَيْن الحصنين شجرتان، وَبَين الحصنين عين عذبة، فِي أحد الحصنين آلَة الْبناء الَّذِي بني بِهِ السد من الْقُدُور الْحَدِيد والمغارف الْحَدِيد، على كل أثفية أَربع قدور مثل قدور الصابون، وَهُنَاكَ بَقِيَّة من اللَّبن قد التزق بَعْضهَا بِبَعْض من الصدأ، واللبنة ذِرَاع وَنصف فِي سمك شبر، وسألوا من هُنَالك؟ هَل رَأَوْا أحدا من يَأْجُوج وَمَأْجُوج فَذكرُوا أَنهم رَأَوْا مرّة عددا فَوق الشّرف فَهبت ريح

سَوْدَاء، فألقتهم إِلَى جانبهم، وَكَانَ مِقْدَار الرجل مِنْهُم فِي رَأْي الْعين شبْرًا وَنصفا. قَالَ سَلام الترجمان: فَلَمَّا انصرفنا أخذتنا الأدلاء إِلَى نَاحيَة خُرَاسَان فسرنا إِلَيْهَا حَتَّى خرجنَا خلف سَمَرْقَنْد بِسبع فراسخ، وَقد كَانَ أَصْحَاب الْحُصُون زودونا مَا كفانا، ثمَّ صرنا إِلَى عبد اللَّهِ بن طَاهِر، قَالَ سَلام: فوصلني بِمِائَة ألف دِرْهَم، وَوصل كل رجل معي بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم، وأجرى للفراس خَمْسَة دَرَاهِم، وللراجل ثَلَاثَة دَرَاهِم فِي كل يَوْم إِلَى الرّيّ، فرجعنا إِلَى سر من رأى بعد خروجنا بِثمَانِيَة وَعشْرين شهرا. قَالَ ابْن خرداذبة: فَحَدثني سَلام الترجمان بجملة هَذَا الْخَيْر، ثمَّ أمله عَليّ من كتاب كتبه للواثق. وَقد روى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن ذَا القرنين لَقِي إِبْرَاهِيم الْخَلِيل [عَلَيْهِ

السَّلَام] بِمَكَّة فَسلم عَلَيْهِ واعتنقه. وَفِي حَدِيث آخر أَنه سمع بإبراهيم فَنزل فَمشى إِلَيْهِ، وَقَالَ: مَا كنت لأركب فِي بلد فِيهِ إِبْرَاهِيم. وروى أَرْبَاب السّير: أَن ذَا القرنين أَمر بِبِنَاء مدن كَثِيرَة مِنْهَا، الدهرسية، وجهدان، وسيرل، وبرج الْحِجَارَة، وَلما بلغ الْهِنْد بنى مَدِينَة: سرنديب، وَأَن أَرْبَاب الْحساب قَالُوا لَهُ: إِنَّك لَا تَمُوت إِلَّا على أَرض [من] حَدِيد وسماء من خشب. وَكَانَ يدْفن كنوز كل أَرض بهَا، وَيكْتب ذَلِك بمقداره وموضعه فَبلغ بابل فرعف فَسقط عَن دَابَّته فبسطت

لَهُ درع، فَنَامَ عَلَيْهِ، فآذته الشَّمْس فأظلوه بترس فَنظر فَقَالَ: هَذِه أَرض من حَدِيد وسماء من خشب، فأيقن بِالْمَوْتِ فَمَاتَ وَهُوَ ابْن ألف وسِتمِائَة سنة.

(فصل) [قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله] وَقد اخْتلفُوا فِي لُقْمَان: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّه كَانَ حكيما وَلم يكن نَبيا. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: بل كَانَ نَبيا. قَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ لُقْمَان أسود، وَقَالَ غَيره: كَانَ حَبَشِيًّا لرجل قصار من بني إِسْرَائِيل اشْتَرَاهُ بِثَلَاثِينَ دِينَارا، وَإِن مَوْلَاهُ أمره يَوْمًا بِذبح

شَاة وأوصاه أَن يخرج مِنْهَا أطيب مضغتين فِيهَا فَأخْرج اللِّسَان وَالْقلب، ثمَّ إِن مَوْلَاهُ قَالَ لَهُ بعد مُدَّة: اذْبَحْ لنا شَاة، وَأخرج أَخبث مضغتين فِيهَا، فَأخْرج مِنْهَا اللِّسَان وَالْقلب، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا فِي الشَّاة أطيب من قَلبهَا ولسانها [إِذا طابا] ، وَلَا أَخبث مِنْهُمَا - إِذا خبثا -[وَكَذَلِكَ ابْن آدم لَيْسَ شَيْء أحسن من قلبه وَلسَانه وَلَا أَخبث مِنْهُمَا إِذا خبثا] . وَقَالَ الْحسن: اعتزل لُقْمَان النَّاس فَنزل فِيمَا بَين الرملة وَبَيت الْمُقَدّس لَا يخالطهم. [41] حَدثنَا الْمُبَارك بن عَليّ الصَّيْرَفِي لفظا قَالَ أَنا أَحْمد بن الْحُسَيْن بن قُرَيْش قَالَ أَنا إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ أَنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الدقاق قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان قَالَ ثَنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ قَالَ نَا ابْن عَائِشَة قَالَ ثَنَا سعيد بن عَامر قَالَ حَدثنِي حسن أَبُو جَعْفَر قَالَ: كَانَ لُقْمَان الحبشي عبدا لرجل جَاءَ بِهِ إِلَى السُّوق ليَبِيعهُ قَالَ: فَكَانَ كلما جَاءَ إِنْسَان يَشْتَرِيهِ، قَالَ لَهُ لُقْمَان: مَا تصنع بِي؟ قَالَ: أصنع بك كَذَا وَكَذَا، قَالَ: حَاجَتي إِلَيْك أَن لَا تشتريني حَتَّى جَاءَ رجل فَقَالَ: مَا تصنع بِي؟ قَالَ:

أصيرك بوابا على بَابي، قَالَ: أَنْت اشترني، فَاشْتَرَاهُ، وَجَاء بِهِ إِلَى دَاره، [قَالَ: قَالَ:] وَكَانَ لمَوْلَاهُ ثَلَاث بَنَات يبغين فِي الْقرْيَة، وَأَرَادَ أَن يخرج إِلَى ضَيْعَة لَهُ فَقَالَ: إِنِّي قد أدخلت إلَيْهِنَّ طعامهن وَمَا يحتجن إِلَيْهِ فَإِذا خرجت فأغلق الْبَاب واقعد من وَرَائه وَلَا تفتحه حَتَّى أجيء. قَالَ: فخرجن إِلَيْهِ كَمَا كن يخْرجن، فَقُلْنَ لَهُ: افْتَحْ الْبَاب، فَأبى عَلَيْهِنَّ فشججنه، فَغسل الدَّم وَجلسَ فَلَمَّا قدم لم يُخبرهُ، ثمَّ عَاد مَوْلَاهُ بعد الْخُرُوج فَقَالَ: إِنِّي قد أدخلت إلَيْهِنَّ مَا يحتجن إِلَيْهِ فَلَا تفتحن الْبَاب فَلَمَّا خرج خرجن إِلَيْهِ فَقُلْنَ لَهُ: افْتَحْ فَأبى فشججن ورجعن فَجَلَسَ [يبكي] فَلَمَّا جَاءَ الْمولى لم يُخبرهُ بِشَيْء. قَالَ: فَقَالَت الْكَبِيرَة: وَمَا بَال هَذَا العَبْد الحبشي أولى بِطَاعَة اللَّهِ [عز وَجل] مني {وَالله لأتوبن، فتابت. فَقَالَت الصُّغْرَى: وَمَا بَال هَذَا العَبْد الحبشي وَهَذِه الْكُبْرَى أولى بِطَاعَة الله مني} وَالله لأتوبن، فتابت:

فَقَالَت الْوُسْطَى: مَا بَال هَاتَانِ وَهَذَا العَبْد الحبشي أولى بِطَاعَة اللَّهِ عز وَجل مني! وَالله لأتوبن. قَالَ: فَقُلْنَ غواة الْقرْيَة: مَا بَال هَذَا العَبْد الحبشي وَبَنَات فلَان أولى بِطَاعَة اللَّهِ عز وَجل منا فتبن إِلَى اللَّهِ عز وَجل، فَكُن عوابد الْقرْيَة. [42] أَنبأَنَا يحيى بن ثَابت بن بنْدَار قَالَ أَنا أبي قَالَ أَنا الْحسن ابْن الْحُسَيْن بن دَوْمًا قَالَ أَنا مُحَمَّد بن جَعْفَر الباقرجي قَالَ أَنا الْحسن بن عَليّ الْقطَّان قَالَ أَنا إِسْمَاعِيل بن عِيسَى الْعَطَّار قَالَ ثَنَا إِسْحَاق بن بشر الْقرشِي قَالَ أَنا عبد اللَّهِ بن زِيَاد عَن مَكْحُول: أَن لُقْمَان كَانَ عبدا أسود، وَكَانَ قد أعطَاهُ اللَّهِ الْحِكْمَة وَكَانَ لرجل من بني إِسْرَائِيل اشْتَرَاهُ بِثَلَاثِينَ مِثْقَالا وَنصف وَكَانَ مَوْلَاهُ يلْعَب بالنرد يخاطر عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ على بَابه نهر جَار، فلعب يَوْمًا بالنرد على أَن من قمر صَاحبه شرب المَاء الَّذِي فِي النَّهر كُله أَو افتدى مِنْهُ، فقهر سيد لُقْمَان فَقَالَ لَهُ سيد لُقْمَان: اشرب مَا فِي النَّهر وَإِلَّا فافتد مِنْهُ، فَقَالَ: سلني الْفِدَاء، فَقَالَ: عَيْنَيْك أفقؤهما وَجَمِيع

مَا تملك، قَالَ: أمهلني يَوْمًا، قَالَ: لَك ذَلِك. فأمسى كئيبا حَزينًا إِذْ جَاءَ لُقْمَان وَقد حمل حزمة من حطب على ظَهره فَسلم وَوضع مَا مَعَه، وَقَالَ لسَيِّده: مَالِي أَرَاك كئيبا حَزينًا؟ فَأَعْرض عَنهُ، فَأَعَادَ القَوْل فَأَعْرض عَنهُ، فَأَعَادَ فَأَعْرض، فَقَالَ لَهُ: أَخْبرنِي فَلَعَلَّ لَك عِنْدِي فرج [فَأخْبرهُ] قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِذا قَالَ الرجل لَك: اشرب مَا فِي النَّهر، فَقل لَهُ: أشْرب مَا بَين ضفتي النَّهر أَو الْمَدّ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَك: مَا بَين الضفتين، فَقل لَهُ: احْبِسْ عني الْمَدّ حَتَّى أشْرب مَا بَين الضفتين، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع [ذَلِك] وَتَكون قد خرجت مِمَّا ضمنت لَهُ فَعرف الرجل أَنه قد صدقه، فطابت نَفسه، فَلَمَّا أصبح الرجل جَاءَ فَقَالَ لَهُ: ف لي بشرطي، فَقَالَ لَهُ: نعم، أشْرب مَا بَين الضفتين أَو الْمَدّ؟ فَقَالَ: لَا، مَا بَين الضفتين، قَالَ: فاحبس عني الْمَدّ، قَالَ كَيفَ أستطع! فخصمه قَالَ: فَأعْتقهُ مَوْلَاهُ، فَأكْرمه اللَّهِ. وَكَانَ يخْتَلف إِلَى دَاوُد يقتبس مِنْهُ [الْحِكْمَة] فَاخْتلف إِلَيْهِ سنة. وَدَاوُد يتَّخذ درعا وَلَا يسْأَله مَا هَذَا؟ وَلَا يُخبرهُ دَاوُد حَتَّى فرغ مِنْهَا، فصبها دَاوُد على نَفسه فَقَالَ حِين رأى ذَلِك: الصمت حكم.

قَالَ الْقرشِي: وَأخْبرنَا خَالِد بن النَّضر عَن مَكْحُول: أَن أول مَا سمع دَاوُد [عَلَيْهِ السَّلَام] من حِكْمَة لُقْمَان أَنه رأى النَّاس يَخُوضُونَ وَهُوَ سَاكِت، فَقَالَ دَاوُد: أَلا تَقول يَا لُقْمَان كَمَا يَقُول النَّاس؟ فَقَالَ: لَا خير فِي الْكَلَام إِلَّا بِذكر اللَّهِ عز وَجل وَلَا فِي السُّكُوت إِلَّا فِي الفكرة فِي الْمعَاد، وَإِن صَاحب الدّين قد فكر، فعلته السكينَة، وشكر فتواضع، وقنع، فاستغنى، وَرَضي فَلم يهتم، وخلع الدُّنْيَا فنجا من الشرور، ورفض الشَّهَوَات فَصَارَ حرا، وَانْفَرَدَ، فَكفى الأحزان، وَطرح الْحَسَد، فظهرت الْمحبَّة، واستكمل الْعقل وَأبْصر الْعَاقِبَة، فأمن الندامة، فَالنَّاس مِنْهُ فِي رَاحَة، وَهُوَ من نَفسه فِي تَعب، فَقَالَ دَاوُد: صدقت يَا لُقْمَان، وأعجب بِهِ وشاع ذكره بالحكمة، وَاجْتمعَ بعد ذَلِك النَّاس إِلَيْهِ يقتبسون مِنْهُ ويسمعون مِنْهُ الْحِكْمَة. قَالَ الْقرشِي: وَحدثنَا ابْن سمْعَان عَن زيد بن أسلم أَن لُقْمَان لما ظَهرت حكمته للنَّاس جَاءَهُ رجل من عُظَمَاء بني إِسْرَائِيل فَقَالَ لَهُ: يَا لُقْمَان، ألم تكن عبدا نوبيا لفُلَان؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَمن أَيْن بلغت هَذِه الْمنزلَة؟ قَالَ: صدق الحَدِيث، وتركي مَالا يعنيني.

قَالَ الْقرشِي: وَحدثنَا ابْن سمْعَان عَن مَكْحُول عَن كَعْب أَن لُقْمَان قَالَ لِابْنِهِ: يَا بني، إِن الدُّنْيَا بَحر عريض، وَقد هلك فِيهِ عَالم كثير، فَإِن اسْتَطَعْت أَن تجْعَل سفينتك فِيهَا الْإِيمَان بِاللَّه، وشراعها التَّوَكُّل على اللَّهِ، وزادك فِيهَا التَّقْوَى، فَإِن نجوت فبرحمة اللَّهِ، وَإِن هَلَكت فبذنوبك. قَالَ: وَحدثنَا عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ: يَا بني، رح من الدُّنْيَا باليسير، وَلَا تنافس فِي نعيمها؛ فَإِن الْقَلِيل يَكْفِيك مِنْهَا، إِن خير الْعلم مَا نفع، يَا بني، أعلم النَّاس أَشَّدهم خشيَة. قَالَ الْقرشِي: وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن أدهم: بَلغنِي أَن لُقْمَان لما حَضرته الْوَفَاة بَكَى، فَقَالَ لَهُ ابْنه: يَا أبه، مَا يبكيك؟ قَالَ: يَا بني، لَيْسَ على الدُّنْيَا أبْكِي، وأنما أبْكِي على مَا أَمَامِي: شقة بعيدَة، ومفازة سحيقة، وَعقبَة كؤود، وَزَاد قَلِيل، وَحمل ثقيل، فَمَا أَدْرِي أيحط ذَلِك الْحمل حَتَّى أبلغ الْغَايَة، أَو يبْقى عَليّ، فأساق مَعَه إِلَى نَار جَهَنَّم؟ {} ثمَّ مَاتَ. قَالَ: وَبَلغنِي أَن قبر لُقْمَان مَا بَين مَسْجِد الرملة وَمَوْضِع سوقها

الْيَوْم، وفيهَا قُبُور سبعين نَبيا مَاتُوا بعد لُقْمَان كلهم فِي يَوْم وَاحِد من الْجُوع؛ أخرجهم بَنو إِسْرَائِيل فألجأوهم إِلَى الرملة، ثمَّ أحاطوا بهم فماتوا كلهم جوعا [عَلَيْهِم السَّلَام] . (فصل) [قَالَ المُصَنّف] : وكما ضرب النَّاس الْمثل بحكمة لُقْمَان ضربوا الْمثل بنومة عبود وَكَانَ عبود أسود حطابا فَبَقيَ فِي محطبه أسبوعا لم ينم، ثمَّ انْصَرف فَنَامَ أسبوعا، فَضرب بِهِ الْمثل لمن ثقل نَومه. قَالَ الشَّرْقِي بن قطامي: تماوت عبود على أَهله، وَقَالَ: اندبوني لأعْلم كَيفَ تندبوني إِذا مت، فسجينه وندبنه فَإِذا هُوَ قد مَاتَ.

(الباب السادس عشر)

(الْبَاب السَّادِس عشر) (فِي ذكر كبار مُلُوك الْحَبَشَة) سيدهم النَّجَاشِيّ الَّذِي هَاجَرت إِلَى بَلَده الصَّحَابَة، وَكتب إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسلم وملوك الْحَبَشَة كلهم يتسمى بالنجاشي كَمَا يتسمى مُلُوك فَارس بكسرى. قَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْم النَّجَاشِيّ: أَصْحَمَة، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ: عَطِيَّة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا النَّجَاشِيّ اسْم الْملك كَقَوْلِك: هِرقل وَقَيْصَر، قَالَ: وَلست أَدْرِي أَبَا الْعَرَبيَّة أم وفَاق وَقع بَين الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا؟

والناجشي هُوَ الناجش، والنجش استثارة الشَّيْء، وَمِنْه قيل للزائد فِي ثمن السّلْعَة: ناجش ونجاش. قَالَ ابْن إِسْحَاق: بعث رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمْرو بن أُميَّة إِلَى النَّجَاشِيّ، وَكتب مَعَه: " بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم. من مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى النَّجَاشِيّ ملك الْحَبَشَة: إِنِّي أَحْمد إِلَيْك اللَّهِ الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن، وَأشْهد أَن عِيسَى بن مَرْيَم روح اللَّهِ وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم البتول الطّيبَة، فَحملت بِعِيسَى، وَإِنِّي أَدْعُوك إِلَى اللَّهِ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن تتبعني فتؤمن بِالَّذِي جَاءَنِي؛ فَإِنِّي رَسُول اللَّهِ، وَقد بعثت إِلَيْكُم ابْن عمي جَعْفَر، وَمَعَهُ نفر من الْمُسلمين، وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى ". فَكتب النَّجَاشِيّ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:

بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن. إِلَى مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من النَّجَاشِيّ: سَلام عَلَيْك يَا نَبِي اللَّهِ وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الَّذِي هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَام. . أما بعد، فقد بَلغنِي كتابك يَا رَسُول اللَّهِ، فَمَا ذكرت من أَمر عِيسَى فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِن عِيسَى بن مَرْيَم [عَلَيْهِ السَّلَام] مَا يزِيد على مَا ذكرت ثفروقا إِنَّه كَمَا قلت، وَقد عرفنَا مَا بعثت بِهِ إِلَيْنَا، وَقد قدم ابْن عمك وَأَصْحَابه، وَأشْهد أَنَّك رَسُول اللَّهِ، وَقد بَايَعْتُك وبايعت ابْن عمك، وَأسْلمت على يَدَيْهِ لله رب الْعَالمين، وَقد بعثت إِلَيْك ابْني، وَإِن شِئْت أَن آتِيك فعلت يَا رَسُول اللَّهِ، فَإِنِّي أشهد أَن مَا تَقول حق، وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته ". قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَذكر لي [أَنه] بعث ابْنه فِي سِتِّينَ من الْحَبَشَة] فِي سفينة] فَغَرقُوا. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ عَن أشياخه: كَانَ أول رَسُول بَعثه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمْرو بن أُميَّة إِلَى النَّجَاشِيّ، وَكتب إِلَيْهِ كتابين يَدعُوهُ فِي أَحدهمَا إِلَى الْإِسْلَام وَيَتْلُو عَلَيْهِ

الْقُرْآن وَأخذ كتاب رَسُول اللَّهِ فَوَضعه على عَيْنَيْهِ، وَنزل عَن سَرِيره فَجَلَسَ على الأَرْض تواضعا، ثمَّ أسلم وَشهد شَهَادَة الْحق، وَقَالَ: لَو كنت أَسْتَطِيع أَن آتيه لأتيته، وَكتب إِلَى رَسُول اللَّهِ [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] بإجابته وتصديقه وإسلامه. وَفِي الْكتاب الآخر يَأْمُرهُ أَن يُزَوجهُ أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَكَانَت قد هَاجَرت إِلَى الْحَبَشَة مَعَ زَوجهَا، وَأمره فِي الْكتاب أَن يبْعَث إِلَيْهِ بِمن قبله من أَصْحَابه ويحملهم، فَفعل ذَلِك. ذكر أَمر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّجَاشِيّ أَن يُزَوجهُ أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بن حَرْب. كَانَت أم حَبِيبَة قد خرجت إِلَى أَرض الْحَبَشَة مَعَ زَوجهَا عبيد اللَّهِ بن جحش فَتَنَصَّرَ هُوَ هُنَاكَ وَثبتت [هِيَ] على الْإِسْلَام. [43] فأنبأنا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي عَن الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ ثَنَا أَبُو عمر بن حيوية قَالَ أَنا ابْن مَعْرُوف قَالَ نَا ابْن الْفَهم قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنا مُحَمَّد بن عمر قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن عَمْرو بن زُهَيْر عَن إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ قَالَ: قَالَت أم حَبِيبَة: رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَن عبيد اللَّهِ

ابْن جحش زَوجي بأسوء صُورَة وأشوهها فَفَزِعت، فَقلت: تَغَيَّرت وَالله حَاله، فَإِذا هُوَ يَقُول حِين أصبح: يَا أم حَبِيبَة، إِنِّي نظرت فِي الدّين فَلم أر دينا خيرا من النَّصْرَانِيَّة، وَكنت قد دنت بهَا ثمَّ دخلت فِي دين مُحَمَّد، ثمَّ قد رجعت إِلَى النَّصْرَانِيَّة، فَقلت: وَالله مَا خير لَك، وأخبرته بالرؤيا الَّتِي رَأَيْت فَلم يحفل بهَا، وأكب على الْخمر حَتَّى مَاتَ. فَأرى فِي الْمَنَام كَأَن آتِيَا يَقُول: يَا أم الْمُؤمنِينَ، فَفَزِعت فَأَوَّلتهَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَزَوَّجنِي. قَالَت: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن انْقَضتْ عدتي فَمَا شَعرت إِلَّا برَسُول النَّجَاشِيّ على أتان يسْتَأْذن، فَإِذا جَارِيَة لَهُ يُقَال لَهَا: أَبْرَهَة كَانَت تقوم على ثِيَابه ودهنه، فَدخلت عَليّ فَقَالَت: إِن الْملك يَقُول [لَك] : إِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إِلَيّ أَن أزَوجك، فَقلت: بشرك اللَّهِ بِخَير يَقُول لَك الْملك وكلي من يزوجك، فَأرْسلت إِلَى خَالِد بن سعيد ابْن العَاصِي فَوَكَّلَتْهُ، وَأعْطيت أَبْرَهَة سِوَارَيْنِ من فضَّة، وخدمتين كَانَتَا فِي رجْلي، وخواتيم فضَّة كَانَت فِي أَصَابِع رجْلي سُرُورًا بِمَا بشرت، فَلَمَّا كَانَ الْعشي أَمر النَّجَاشِيّ جَعْفَر بن أبي طَالب وَمن هُنَاكَ من الْمُسلمين فَحَضَرُوا، فَخَطب النَّجَاشِيّ

[رَضِي اللَّهِ عَنهُ] وَقَالَ: الْحَمد لله الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَأَن الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى بن مَرْيَم صلى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسلم، أما بعد ... فَإِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إِلَيّ أَن أزَوجهُ أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، فأجبت إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ، وَقد أصدقهَا أَربع مائَة دِينَار، ثمَّ سكب الدَّنَانِير بَين يَدي الْقَوْم. فَتكلم خَالِد بن سعيد فَقَالَ: الْحَمد للَّهِ، أَحْمَده وَأَسْتَعِينهُ وأستغفره، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ، أما بعد ... فقد أجبْت إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ وَزَوجته أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، فَبَارك الله لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَدفع الدَّنَانِير لخَالِد بن سعيد فقبضها، ثمَّ أَرَادوا أَن يقومُوا فَقَالَ: اجلسوا فَإِن سنة الْأَنْبِيَاء إِذا تزوجوا أَن يُؤْكَل طَعَام على التَّزْوِيج، فدعي بِطَعَام فَأَكَلُوا، ثمَّ تفَرقُوا. قَالَت أم حَبِيبَة: فَلَمَّا وصل إِلَيّ المَال أرْسلت إِلَى أَبْرَهَة الَّتِي بشرتني فَقلت لَهَا: إِنِّي كنت أَعطيتك مَا أَعطيتك يَوْمئِذٍ وَلَا مَال بيَدي، فَهَذِهِ خَمْسُونَ دِينَارا فخذيها واستعيني بهَا، فَأَبت وأخرجت حَقًا فِيهِ كل مَا

كنت أعطيتهَا فَردته عَليّ وَقَالَت: عزم عَليّ الْملك أَن لَا أرزأك شَيْئا، وَأَنا الَّتِي أقوم على ثِيَابه ودهنه، وَقد اتبعت دين مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ، وَأسْلمت لله رب الْعَالمين، وَقد أَمر الْملك نِسَاءَهُ يبْعَثْنَ إِلَيْك بِكُل مَا عِنْدهن من الْعطر قَالَت: فَلَمَّا كَانَ الْغَد جَاءَتْنِي بِعُود وَوَرس وَعَنْبَر وَزِيَاد كثير، فَقدمت بذلك كُله على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ يرَاهُ عَليّ وَعِنْدِي فَلَا يُنكره، ثمَّ قَالَت أَبْرَهَة: حَاجَتي إِلَيْك أَن تقرئي على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مني السَّلَام، وتعلميه أنني اتبعت دينه. قَالَت: وَكَانَت الَّتِي جَهَّزْتنِي، وَكَانَت كلما دخلت عَليّ تَقول: لَا تنسي حَاجَتي إِلَيْك، فَلَمَّا قدمت على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخْبرته كَيفَ كَانَت الْخطْبَة، وَمَا فعلت بِي أَبْرَهَة فتبشر وَأَقْرَأْته السَّلَام مِنْهَا فَقَالَ " وَعَلَيْهَا السَّلَام وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته ". قَالَ عبد اللَّهِ بن أبي بكر بن حزم: وَكَانَ ذَلِك [فِي] سنة سبع. قَالَ الزُّهْرِيّ: وجهزها النَّجَاشِيّ وَبعث مَعهَا شُرَحْبِيل بن حَسَنَة. وَلما بلغ أَبُو سُفْيَان تَزْوِيج رَسُول اللَّهِ أم حَبِيبَة قَالَ: ذَلِك الْفَحْل لَا يقرع أَنفه.

قَالَ الزُّهْرِيّ: فَلَمَّا قدم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب الْمَدِينَة جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَلمهُ أَن يزِيد فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة، فَلم يقبل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ فَقَامَ فَدخل على ابْنَته أم حَبِيبَة، فَلَمَّا ذهب ليجلس على فرَاش النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طوته دونه، فَقَالَ: يَا بنية أرغبت بِهَذَا الْفراش عني أم بِي عَنهُ، فَقَالَت: بل هُوَ فرَاش رَسُول اللَّهِ ، وَأَنت امْرُؤ نجس مُشْرك. فَقَالَ: يَا بنية لقد أَصَابَك بعدِي شَرّ. قَالَت عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] : دعتني أم حَبِيبَة عِنْد مَوتهَا فَقَالَت: قد كَانَ يكون بَيْننَا مَا بَين الضرائر، فغفر اللَّهِ لي وَلَك، فَقلت: غفر اللَّهِ لَك ذَلِك كُله وَتجَاوز، وحللك من ذَلِك، فَقَالَت: سررتيني، سرك اللَّهِ، وَأرْسلت إِلَى أم سَلمَة فَقَالَت لَهَا مثل ذَلِك. وَتوفيت سنة أَربع وَأَرْبَعين فِي خلَافَة مُعَاوِيَة. ذكر إِعْلَام رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاس بِمَوْت النَّجَاشِيّ وَصلَاته عَلَيْهِ.

توفّي النَّجَاشِيّ فِي رَجَب سنة تسع من الْهِجْرَة. [44] وَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أَنا ابْن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَبُو بكر ابْن مَالك قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ ثَنَا يحيى عَن مَالك قَالَ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: نعى لنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّجَاشِيّ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخرج إِلَى الْمصلى، فَصف أَصْحَابه خَلفه، فَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا. قَالَت عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] : لما مَاتَ النَّجَاشِيّ كُنَّا نتحدث أَنه لَا يزَال يرى على قَبره نور.

(ذكر ملك كَبِير من مُلُوك الْحَبَشَة) [45] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر الْحَافِظ قَالَ أَنا مَحْفُوظ بن أَحْمد قَالَ أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الجازري قَالَ ثَنَا الْمعَافى بن زَكَرِيَّا قَالَ ثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ ثَنَا الْفضل بن الْعَبَّاس الربعِي قَالَ حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ سَمِعت عمي سُلَيْمَان بن أبي جَعْفَر يَقُول: كنت وَاقِفًا على رَأس الْمَنْصُور لَيْلَة وَعِنْده إِسْمَاعِيل بن عَليّ وَصَالح بن عَليّ وَسليمَان بن عَليّ وَعِيسَى بن عَليّ فتذاكروا زَوَال ملك بني أُميَّة، وَمَا صنع بهم عبد اللَّهِ، وَقتل مَا قتل مِنْهُم بنهر أبي فطرس، فَقَالَ الْمَنْصُور: أَلا من عَلَيْهِم ليروا من دولتنا مَا رَأينَا من دولتهم وَيرغبُوا إِلَيْنَا كَمَا رغبنا إِلَيْهِم، فقد لعمري عاشوا سعداء وماتوا فُقَرَاء، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بن عَليّ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن فِي حَبسك عبد اللَّهِ بن مَرْوَان بن مُحَمَّد، وَقد كَانَت لَهُ قصَّة عَجِيبَة مَعَ ملك النّوبَة، فَابْعَثْ إِلَيْهِ فسله عَنْهَا، فَقَالَ: يَا مسيب، عَليّ بِهِ، فَأخْرج فَتى مُقَيّدا بِقَيْد ثقيل وغل ثقيل، فَمثل بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته، فَقَالَ: يَا عبيد اللَّهِ، رد السَّلَام أَمن. وَلم

تسمح لَك نَفسِي بذلك بعد، وَلَكِن اقعد، فجاؤوا بوسادة فثنيت فَقعدَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ: قد بَلغنِي أَنه كَانَت لَك قصَّة عَجِيبَة مَعَ ملك النّوبَة، فَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: لَا وَالَّذِي أكرمك بالخلافة مَا أقدر على النَّفس من ثقل الْحَدِيد، وَلَقَد صدئ قيدي مِمَّا أرشش عَلَيْهِ من الْبَوْل، وأصب عَلَيْهِ المَاء فِي أَوْقَات الصَّلَاة، فَقَالَ: يَا مسيب، أطلق عَنهُ حديده. ثمَّ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلما قصد عبد اللَّهِ بن عَليّ إِلَيْنَا كنت [أَنا] الْمَطْلُوب من بَين الْجَمَاعَة، لِأَنِّي كنت ولي عهد أبي من بعده فَدخلت إِلَى خزانَة فاستخرجت مِنْهَا عشرَة آلَاف دِينَار، ثمَّ دَعَوْت عشرَة من غلماني وحملت كل وَاحِد على دَابَّة، وَدفعت إِلَى كل غُلَام ألف دِينَار وأوقرت خَمْسَة أبغل، وشددت فِي وسطي جوهرا لَهُ قيمَة مَعَ ألف دِينَار، وَخرجت هَارِبا إِلَى بلد النّوبَة، فسرت فِيهَا ثَلَاثًا، فَوَقَعت إِلَى مَدِينَة خراب فَأمرت الغلمان فعدلوا إِلَيْهَا فكسحوا مِنْهَا مَا كَانَ قذرا، ثمَّ فرشوا بعض تِلْكَ الْفرش، ودعوت غُلَاما لي كنت أَثِق بعقله فَقلت: انْطلق إِلَى الْملك فأقرئه مني السَّلَام، وَخذ مِنْهُ الْأمان، وابتع لي ميرة. قَالَ: فَمضى فَأَبْطَأَ حَتَّى سُؤْت ظنا، ثمَّ أقبل وَمَعَهُ رجل آخر، فَلَمَّا أَن دخل كفر لي، ثمَّ قعد بَين يَدي فَقَالَ لي: الْملك يقْرَأ

عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول لَك: من أَنْت؟ وَمَا جَاءَ بك إِلَى بلادي؟ أمحارب لي، أم رَاغِب إِلَيّ، أم مستجير بِي؟ قلت: ترد على الْملك السَّلَام، وَتقول: أما محَارب لَك فمعاذ اللَّهِ، وَأما رَاغِب فِي دينك فَمَا كنت لأبغي بديني بَدَلا، وَأما مستجير بك فلعمري، قَالَ: فَذهب ثمَّ رَجَعَ إِلَيّ فَقَالَ: إِن الْملك يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول لَك: أَنا صائر إِلَيْك غَدا، فَلَا تحدثن فِي نَفسك حَدثا وَلَا تتَّخذ شَيْئا من ميرة، فَإِنَّهَا تَأْتِيك وَمَا تحْتَاج إِلَيْهِ، فَأَقْبَلت الْميرَة، فَأمرت غلماني فرشوا ذَلِك الْفرش كُله، وَأمرت بفرشة ففرش لَهُ ولي مثله، [وَأَقْبَلت] من غَد أرقب مَجِيئه، فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك أقبل غلماني يحْضرُون وَقَالُوا: إِن الْملك قد أقبل، فَقُمْت بَين شرفتين من شرف الْقصر أنظر إِلَيْهِ فَإِذا أَنا بِرَجُل قد لبس بردين ائتزر بِأَحَدِهِمَا وارتدى بِالْآخرِ حاف راجل، وَإِذا عشرَة مَعَهم الحراب، ثَلَاثَة يقدمونه وَسَبْعَة خَلفه، وَإِذا الرجل الموجه إِلَى جنبه، فاستصغرت أمره، وَهَان عَليّ لما رَأَيْته فِي تِلْكَ الْحَال، وسولت لي نَفسِي قَتله، فَلَمَّا قرب من الدَّار إِذا أَنا بسواد عَظِيم، فَقلت: مَا هَذَا السوَاد؟ فَقيل: الْخَيل توافي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زهاء عشرَة آلَاف عنان،

فَكَانَت موافاة الْخَيل إِلَى الدَّار وَقت دُخُوله، فأحدقوا بهَا فَدخل إِلَيّ، فَلَمَّا نظر إِلَيّ قَالَ لِترْجُمَانِهِ: أَيْن الرجل؟ فَأَوْمأ الترجمان إِلَيّ فَلَمَّا نظر إِلَيّ وَثَبت إِلَيْهِ فأعظم ذَلِك، وَأخذ بيَدي فقبلها ووضعها على صَدره، وَجعل يدْفع مَا على الْفسْطَاط بِرجلِهِ، فتشوش الْفرش، فَظَنَنْت أَن ذَلِك يجلونه أَن يطأوا على مثله، حَتَّى انْتهى إِلَى الْفرش، فَقلت لِترْجُمَانِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لم لم يقْعد على الْموضع الَّذِي وطئ لَهُ؟ فَقَالَ: قل لَهُ: إِنِّي ملك، وكل ملك حَقه أَن يكون متواضعا لِعَظَمَة اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ رَفعه اللَّهِ تَعَالَى ثمَّ أقبل ينكت بِأُصْبُعِهِ فِي الأَرْض طَويلا، ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ لي: كَيفَ سلبتم هَذَا الْملك وَأخذ مِنْكُم وَأَنْتُم أقرب النَّاس إِلَى نَبِيكُم؟ فَقلت: جَاءَ من هُوَ أقرب قرَابَة إِلَى نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسلبنا وقتلنا وطردنا، فَخرجت إِلَيْك مستجيرا بِاللَّه عز وَجل ثمَّ بك. قَالَ: فَلم كُنْتُم تشربون الْخمر وَهِي مُحرمَة عَلَيْكُم فِي كتابكُمْ؟ فَقلت: فعل ذَلِك عبيد وَأَتْبَاع وأعاجم دخلُوا فِي ملكنا من غير رَأينَا. قَالَ: [فَلم] كُنْتُم تَرْكَبُونَ على الديباج وعَلى دوابكم الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَقد حرم ذَلِك عَلَيْكُم؟ قلت: عبيد وَأَتْبَاع وأعاجم دخلُوا فِي مملكتنا. قَالَ:

فَلم كُنْتُم إِذا خَرجْتُمْ إِلَى صيد تقحمتم على الْقرى وكلفتم أَهلهَا مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ بِالضَّرْبِ الوجيع، ثمَّ لَا يقنعكم ذَلِك حَتَّى تموشوا زُرُوعهمْ فتفسدوها فِي طلب دراج قِيمَته نصف دِرْهَم، أَو فِي فِي عُصْفُور قِيمَته لَا شَيْء، وَالْفساد محرم عَلَيْكُم فِي دينكُمْ؟ قلت: عبيد وَأَتْبَاع قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حرم اللَّهِ وأتيتم مَا نهاكم عَنهُ فسلبكم اللَّهِ [تَعَالَى] الْعِزّ، وألبسكم الذل، وَللَّه فِيكُم نقمة لم تبلغ غايتها بعد، وَإِنِّي أَتَخَوَّف أَن تنزل النقمَة بك إِذا كنت من الظلمَة فتشملني مَعَك، فَإِن النقمَة إِذا نزلت عَمت وشملت، فَاخْرُج بعد ثَلَاث، فإنني إِن أخذتك بعْدهَا أخذت جَمِيع مَا مَعَك وقتلتك وَقتلت جَمِيع من مَعَك. ثمَّ وثب فَخرج فأقمت ثَلَاثًا وَخرجت إِلَى مصر، فأخذني وليك فَبعث بِي إِلَيْك وَهَا أَنا إِذا وَالْمَوْت أحب إِلَيّ من الْحَيَاة، فهم أَبُو جَعْفَر بِإِطْلَاقِهِ،

فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بن عَليّ: فِي عنقِي بيعَة لَهُ قَالَ: فَمَا ترى؟ قَالَ: ينزل فِي دَار من دُورنَا وَيخرج عَلَيْهِ مَا يخرج على مثله. قَالَ: فَفعل ذَلِك بِهِ، فوَاللَّه مَا أَدْرِي أمات فِي حَبسه أم أطلقهُ الْمهْدي.

(ملك آخر) [46] روى أَبُو الْقَاسِم النَّخعِيّ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن يُوسُف قَاضِي صنعاء قَالَ: كتب إِلَيّ ملك الزنج فَكَانَ فِي آخر كِتَابه: (لَا أسأَل النَّاس عَن مَا فِي نُفُوسهم ... مَا فِي ضميري لَهُم من ذَاك يَكْفِينِي) (وَلَا أَقُول لعرس الْجَار فِي لطف ... فِي غَفلَة من عُيُون الْحَيّ أرويني) (لَا أَبْتَغِي وصل من يَبْغِي مفارقي ... وَلَا أَلين لمن لَا يَبْتَغِي ليني) (وَالله لَو كرهت كفي مصاحبتي يَوْمًا ... لَقلت لَهَا من ساعدي بيني) (ثمَّ الْتفت إِلَى الْأُخْرَى وَقلت لَهَا ... مهلا عَلَيْك وَإِلَّا مثلهَا كوني)

(الباب السابع عشر)

(الْبَاب السَّابِع عشر) فِي ذكر أَشْرَاف السودَان من الصَّحَابَة: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة كَانَ يؤم الْمُهَاجِرين من مَكَّة حَتَّى قدم الْمَدِينَة لِأَنَّهُ كَانَ أقرأهم وَصلى خَلفه أَبُو بكر وَعمر [رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا وأرضاهما] . [47] أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ أَنا حمد بن أَحْمد قَالَ أَنا أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْحَافِظ قَالَ: نَا أَبُو حَامِد بن جبلة قَالَ نَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق السراج قَالَ نَا مَحْمُود بن خِدَاش قَالَ ثَنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة قَالَ نَا سعيد قَالَ سَمِعت شهر بن حَوْشَب يَقُول: قَالَ عمر بن الْخطاب [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] : لَو اسْتخْلفت سالما مولى أبي حُذَيْفَة فَسَأَلَنِي عَنهُ رَبِّي عز وَجل: مَا حملك على ذَلِك لَقلت: رب سَمِعت نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَقُول: " يحب اللَّهِ [عز وَجل] حَقًا من قلبه ".

قَالَ أَبُو نعيم: أَخذ سَالم يَوْم الْيَمَامَة لِوَاء الْمُسلمين بِيَدِهِ فَقطعت، فَأَخذهَا بِشمَالِهِ فَقطعت، ثمَّ اعتنق اللِّوَاء، وَجعل يقْرَأ: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل} [فَقتل رَضِي اللَّهِ عَنهُ] .

(بِلَال بن رَبَاح) وينسب إِلَى أمه فَيُقَال: بِلَال بن حمامة، وَفِي الصَّحَابَة جمَاعَة نسبوا إِلَى أمهاتهم، واشتهر ذَلِك، مِنْهُم: معَاذ ومعوذ ابْنا عفراء، وَهِي أمهما، وأبوهما الْحَارِث بن رِفَاعَة، وَسُهيْل وَصَفوَان ابْنا بَيْضَاء وَهِي أمهما، وَاسم أَبِيهِمَا وهب، وَمَالك بن نميلَة وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه ثَابت الْمُزَكي، وشرحبيل بن حَسَنَة وَهِي أمه، أَبوهُ عبد اللَّهِ بن المطاع، وَبشر بن الخصاصية وَهِي أمه، وَأَبوهُ معبد بن شرَاحِيل، وَابْن أم مَكْتُوم، وَأَبُو عَمْرو بن قيس، وَعبد اللَّهِ بن بُحَيْنَة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه مَالك الْأَزْدِيّ، والْحَارث بن البرصاء وَهِي أمه وَاسم أَبِيه مَالك بن قيس، ويعلى بن منية، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه أُميَّة، ويعلى بن سيابة وَهِي أمه، وأسم أَبِيه مرّة، وَسعد بن حبتة، وَهِي أمه، وَأَبوهُ بجير بن مُعَاوِيَة وَمن وَلَده

أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَبُدَيْل بن أم أَصْرَم [وَهِي أمه] وَاسم أَبِيه سَلمَة وخفاف بَين ندبة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه عُمَيْر، وَهَؤُلَاء كلهم صحابة. وَفِي التَّابِعين وَمن بعدهمْ خلق اشتهروا بأسماء أمهاتهم كإسماعيل بن علية وَاسم أَبِيه إِبْرَاهِيم، وَمُحَمّد بن عتمة [وَهِي أمه] وَاسم أَبِيه خَالِد، وَسليمَان بن قَتَّة، وَمَنْصُور بن صَفِيَّة وَغَيرهم. (فَأَما حَدِيث بِلَال) فَإِنَّهُ أسلم قَدِيما وَكَانَ قومه يعذبونه وَيَقُولُونَ لَهُ: رَبك اللات والعزى، وَهُوَ يَقُول: أحد، فَأتى عَلَيْهِ أَبُو بكر [الصّديق رَضِي اللَّهِ عَنهُ] وَاشْتَرَاهُ بِسبع أَوَاقٍ، فَأعْتقهُ، فَشهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا، وَهُوَ أول من أذن لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُؤذن لَهُ حضرا وسفرا، وَكَانَ خازنه على بَيت مَاله، وَكَانَ آدم شَدِيد الأدمة نحيفا طوَالًا أقنى لَهُ شعر كثير، خَفِيف العارضين بِهِ شمط.

[48] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ أَنا الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا ابْن حيويه قَالَ أَنا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ ثَنَا الْحُسَيْن ابْن الْفَهم قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنا جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد قَالَ: أول من أظهر الْإِسْلَام سَبْعَة: رَسُول اللَّهِ، وَأَبُو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وَسُميَّة أم عمار. فَأَما رَسُول اللَّهِ فَمَنعه عَمه، وَأما أَبُو بكر فَمَنعه قومه، وَأخذ الْآخرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاع الْحَدِيد، ثمَّ صهروهم فِي الشَّمْس، حَتَّى بلغ الْجهد مِنْهُم كل مبلغ، فأعطوهم مَا سَأَلُوا فجَاء إِلَى كل [رجل] مِنْهُم بأنطاع الْأدم فِيهَا المَاء وألقوهم فِيهِ، وحملوا بجوانبه، إِلَّا بِلَال، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفسه فِي اللَّهِ حَتَّى جعلُوا فِي عُنُقه حبلا، ثمَّ أمروا صبيانهم يشدونه بَين أخشبي مَكَّة، فَجعل بِلَال يَقُول: أحد أحد.

[49] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم الْبَغْدَادِيّ قَالَ أَنا حمد ابْن أَحْمد قَالَ أَنا أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْحَافِظ قَالَ ثَنَا جُنْدُب بن الْحسن قَالَ نَا مُحَمَّد بن يحيى قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَيُّوب قَالَ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير عَن أَبِيه: كَانَ ورقة بن نَوْفَل يمر ببلال وَهُوَ يعذب وَهُوَ يَقُول: أحد أحد، ثمَّ أقبل ورقة على أُميَّة بن خلف فَقَالَ: أَحْلف بِاللَّه عز وَجل لأتخذنه حنانا، حَتَّى مر بِهِ أَبُو بكر الصّديق يَوْمًا وهم يصنعون ذَلِك بِهِ، فَقَالَ لأمية: أَلا تتقي اللَّهِ عز وَجل فِي هَذَا الْمِسْكِين، حَتَّى مَتى؟ قَالَ: أَنْت أفسدته، فأنقذه مِمَّا ترى، فَقَالَ أَبُو بكر: أفعل، عِنْدِي غُلَام أسود أجلد مِنْهُ وَأقوى على دينك أعطيكه بِهِ. قَالَ: قد قبلت. قَالَ: هُوَ لَك. فَأعْطَاهُ أَبُو بكر غُلَامه ذَلِك وَأخذ بِلَالًا. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: وَكَانَ أُميَّة يُخرجهُ إِذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظَهره فِي بطحاء مَكَّة، ثمَّ يَأْمر بالصخرة الْعَظِيمَة فتوضع على صَدره، ثمَّ يَقُول لَهُ: لَا تزَال هَكَذَا حَتَّى تَمُوت أَو تكفر بِمُحَمد وَتعبد اللات والعزى فَيَقُول - وَهُوَ فِي ذَلِك الْبلَاء - أحد أحد.

[50] أخبرنَا يحيى بن ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أَنا أبي، قَالَ: أَنا أَبُو بكر البرقاني قَالَ أَنا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو يعلى قَالَ نَا صَالح بن مَالك قَالَ نَا عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ سَمِعت جَابر بن عبد اللَّهِ يَقُول: قَالَ عمر: كَانَ أَبُو بكر سيدنَا وَأعْتق سيدنَا، يَعْنِي بِلَالًا. [51] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي الْقَاسِم قَالَ أَنا حمد بن أَحْمد قَالَ أَنا أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد اللَّهِ قَالَ نَا سُلَيْمَان بن أَحْمد قَالَ نَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز قَالَ نَا أَبُو حُذَيْفَة قَالَ نَا عمَارَة بن زَاذَان عَن ثَابت عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (بِلَال سَابق الْحَبَشَة) [52] قَالَ سُلَيْمَان: وَحدثنَا أَحْمد بن حَامِد قَالَ ثَنَا أَبُو تَوْبَة قَالَ ثَنَا مُعَاوِيَة بن سَلام عَن زيد سَلام يَقُول: [حَدثنِي عبد اللَّهِ الْهَوْزَنِي قَالَ: لقِيت بِلَالًا فَقلت: يَا بِلَال:] حَدثنِي كَيفَ كَانَت نَفَقَة رَسُول

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَيْء، كنت أَنا الَّذِي آتِي لَهُ بعد ذَلِك مذ بَعثه اللَّهِ عز وَجل حَتَّى توفّي وَكَانَ إِذا أَتَاهُ الرجل الْمُسلم فَرَآهُ عَارِيا فيأمرني فأنطلق فأستقرض لَهُ الْبردَة فأكسوه وأطعمه. [53] أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ أَنا ابْن الْمَذْهَب قَالَ أَنا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن أَحْمد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنِي زيد بن الْحباب قَالَ حَدثنِي حُسَيْن بن وَاقد قَالَ أَخْبرنِي عبد اللَّهِ بن بُرَيْدَة قَالَ سَمِعت أبي يَقُول: أصبح النَّبِي فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ: يَا بِلَال بِمَ سبقتني إِلَى الْجنَّة؟ مَا دخلت الْجنَّة قطّ إِلَّا سَمِعت خشخشتك أَمَامِي، إِنِّي دخلت البارحة الْجنَّة فَسمِعت خشخشتك " قَالَ: مَا أحدثت إِلَّا تَوَضَّأت وَصليت رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِهَذَا ".

[54] قَالَ أَحْمد وثنا يُونُس قَالَ ثَنَا حَمَّاد - يَعْنِي بن زيد - عَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] قَالَت: قدم رَسُول اللَّهِ الْمَدِينَة وَهِي وبيئة، فَكَانَ بِلَال إِذا أَخَذته الْحمى يَقُول: (أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... بواد وحولي إذخر وجليل) (وَهل أردن يَوْمًا مياه مجنة ... وَهل يبدون لي شامة وطفيل) اللَّهُمَّ الْعَن عتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة وَأُميَّة بن خلف كَمَا أخرجونا من مَكَّة. قَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: لما توفّي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن بِلَال وَرَسُول اللَّهِ لم يقبر، وَكَانَ إِذا قَالَ أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، انتحب النَّاس فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا دفن رَسُول اللَّهِ قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أذن، فَقَالَ: إِن كنت إِنَّمَا أعتقتني لِأَن أكون مَعَك فسبيل ذَلِك، وَإِن كنت أعتقتني لله [عز وَجل] فخلني وَمن أعتقتني لَهُ، فَقَالَ: مَا أَعتَقتك إِلَّا للَّهِ [عز وَجل] قَالَ: فَإِنِّي لَا أؤذن لأحد بعد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[قَالَ: فَذَاك إِلَيْك. قَالَ: فَأَقَامَ حَتَّى خرج بعوث الشَّام فَسَار مَعَهم.

قَالَ المُصَنّف: توفّي بِلَال بِدِمَشْق سنة ثَمَانِي عشرَة وَهُوَ ابْن بضع وَسِتِّينَ وَسنة ".

(مهجع مولى عمر بن الْخطاب) كَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، وَهُوَ أول من قتل من الْمُسلمين يَوْم بدر، قَتله عَامر بن الْحَضْرَمِيّ. [55] أَنبأَنَا هبة اللَّهِ بن أَحْمد الحريري قَالَ أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عَليّ ابْن الْفَتْح قَالَ نَا ابْن سمعون قَالَ أَنا أَحْمد بن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي قَالَ نَا هِشَام بن عمار قَالَ ثَنَا صَدَقَة بن خَالِد قَالَ نَا عبد الرَّحْمَن ابْن يزِيد بن جَابر قَالَ: بَلغنِي أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سادة السودَان أَرْبَعَة: لُقْمَان وَمهجع وبلال وَالنَّجَاشِي ".

(أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل) كَانَت خيل لبني الْقَيْن فِي الْجَاهِلِيَّة قد أغارت على أَبْيَات بني معن فاحتملوا زيدا وَهُوَ يؤمئذ غُلَام، فوافوا بِهِ سوق عكاظ. فَعَرَضُوهُ للْبيع، فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة بأربعمائة دِرْهَم، فَلَمَّا تزَوجهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهبته لَهُ، فَتَبَنَّاهُ قبل الْإِسْلَام، وَكَانَ زيد قَصِيرا آدم شَدِيد الأدمة، فِي أَنفه فطس، فَأعْتقهُ رَسُول اللَّهِ وزوجه مولاته أم أَيمن وَكَانَت حاضنة رَسُول اللَّهِ فَولدت لَهُ أُسَامَة ويكنى أُسَامَة أَبَا مُحَمَّد، وَكَانَ يُقَال لَهُ: الْحبّ بن الْحبّ وَكَانَ أسود. [56] أخبرنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَاق الْبَرْمَكِي قَالَ أَنا ابْن حيويه قَالَ: أَنا ابْن مَعْرُوف قَالَ أَنا ابْن الْقَاسِم قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ ثَنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ نَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخر الْإِفَاضَة من عَرَفَة من أجل أُسَامَة بن زيد ينتظره، فجَاء غُلَام أفطس أسود، فَقَالَ أهل الْيمن: إِنَّمَا حبسنا من أجل هَذَا، قَالَ: فَلذَلِك كفر أهل الْيمن من أجل ذَا، قلت ليزِيد بن هَارُون: وَمَا يَعْنِي بقوله: كفر أهل الْيمن؟ قَالَ: ردتهم حِين ارْتَدُّوا فِي زمن أبي بكر،

إِنَّمَا كَانَت لاستخفافهم بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. [57] قَالَ ابْن سعد: وَأخْبرنَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء قَالَ ثَنَا الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث سَرِيَّة فيهم أَبُو بكر وَعمر وَاسْتعْمل عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فَكَأَن النَّاس طعنوا فِيهِ - أَي فِي صغرة - فَبلغ رَسُول اللَّهِ فَصَعدَ الْمِنْبَر فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ، وَقَالَ: " إِن النَّاس قد طعنوا فِي إِمَارَة أُسَامَة ابْن زيد، وَقد كَانُوا طعنوا فِي إِمَارَة أَبِيه من قبله، وإنهما الخليقان لَهَا، وَكَانَا خليقين لذَلِك، وَإنَّهُ لمن أحب النَّاس إِلَيّ، وَكَانَ أَبوهُ من أحب النَّاس إِلَيّ، أَلا فأوصيكم بأسامة خيرا ". [58] قَالَ ابْن سعد: وَحدثنَا الْفضل بن دُكَيْن قَالَ نَا حَنش قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: اسْتعْمل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُسَامَة وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة.

[59] قَالَ ابْن سعد: وَأخْبرنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ ثَنَا قُرَّة بن خَالِد قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سِيرِين قَالَ: بلغت النَّخْلَة على عهد عُثْمَان بن عَفَّان [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] ألف دِرْهَم، قَالَ: فَعمد أُسَامَة إِلَى نَخْلَة فنقرها، فَأخْرج جمارها فأطعمه أمه، فَقَالُوا لَهُ: مَا يحملك على هَذَا وَأَنت ترى النَّخْلَة قد بلغت ألف دِرْهَم؟ قَالَ: إِن أُمِّي سألتنيه وَلَا تَسْأَلنِي شَيْئا أقدر عَلَيْهِ إِلَّا أعطيتهَا. قَالَ الْوَاقِدِيّ: قبض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأُسَامَة ابْن عشْرين سنة، وَكَانَ قد سكن بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَادي الْقرى ثمَّ نزل الْمَدِينَة، فَمَاتَ بالجرف فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة. قَالَ الزُّهْرِيّ: حمل أُسَامَة حِين مَاتَ من الجرف إِلَى الْمَدِينَة. (أَبُو بكرَة واسْمه: نفيع) لما حاصر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطَّائِف نَادَى مناديه: أَيّمَا عبد نزل من الْحصن وَخرج إِلَيْنَا فَهُوَ حر، فَخرج جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكرَة، نزل فِي بكرَة، فَقيل: أَبُو بكرَة. فَهُوَ يعد من موَالِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(أسلم الْأسود) كَانَ غُلَاما لرجل من بني نَبهَان من طَيئ، بَعثه طَيئ ربية، فَلَمَّا ورد عَليّ بن أبي طَالب بِلَادهمْ أَخذ أَصْحَابه هَذَا العَبْد وأوثقوه وخوفوه الْقَتْل، فَأسلم وَشهد مَعَ خَالِد الْيَمَامَة. (مغيث زوج بَرِيرَة) [60] روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ زوج بَرِيرَة عبدا أسود يُقَال لَهُ: مغيث عبدا لبني فلَان كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يطوف وَرَاءَهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة، ودموعه تسيل على لحيته، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للْعَبَّاس: " يَا عَبَّاس، أَلا تعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن بغض بَرِيرَة مغيثا ". فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو راجعتيه ". فَقَالَت: يَا رَسُول اللَّهِ، تَأْمُرنِي؟ قَالَ: " إِنَّمَا أشفع ". قَالَت: فَلَا حَاجَة لي فِيهِ.

[61] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا أَبُو عمر بن حيوية قَالَ أنبأ أَبُو بكر مُحَمَّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْهَيْثَم قَالَ ثَنَا يُوسُف بن عدي عَن سعيد وَأَيوب عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا أسود [مولى] لبني الْمُغيرَة، وَالله لكَأَنِّي بِهِ فِي أَطْرَاف الْمَدِينَة ونواحيها وَإِن دُمُوعه لتجري على لحيته يتبعهَا يَتَرَضَّاهَا لتختاره، فَلم تفعل.

(سعد الْأسود) [62] أخبرنَا أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْملك قَالَ أَنا إِسْمَاعِيل ابْن مسْعدَة قَالَ أَنا حَمْزَة بن يُوسُف قَالَ أَنا أَبُو أَحْمد بن عدي قَالَ أَنا بهْلُول بن إِسْحَاق عَن بهْلُول الْأَنْبَارِي وَعبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَا ثَنَا سُوَيْد بن سعيد (ح) وأنبأنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن المحسن التنوخي قَالَ أَنا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْعَبَّاس قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَ نَا سُوَيْد بن سعيد قَالَ نَا مُحَمَّد بن عمر بن صَالح بن مَسْعُود الكلَاعِي قَالَ حَدثنِي الْحسن وَقَتَادَة عَن أنس بن مَالك قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: يمْنَع سوَادِي ودمامتي دُخُول الْجنَّة؟ قَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا اتَّقَيْت اللَّهِ عز وَجل وَآمَنت بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله " قَالَ: فوالذي أكرمك بِالنُّبُوَّةِ لقد شهِدت أَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَالْإِقْرَار بِمَا جَاءَ بِهِ من قبل أَن أَجْلِس مِنْك هَذَا

الْمجْلس بِثمَانِيَة أشهر، فَمَا لي يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَالَ: " لَك مَا للْقَوْم وَعَلَيْك مَا عَلَيْهِم، وَأَنت أخوهم ". قَالَ: فَلَقَد خطبت إِلَى عَامَّة من بحضرتك وَمن لَيْسَ مَعَك فردوني لسوادي ودمامة وَجْهي، وَإِنِّي لفي حسب من قومِي من بني سليم مَعْرُوف الْآبَاء، وَلَكِن غلب عَليّ سَواد أخوالي. قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَل شهد الْمجْلس الْيَوْم عَمْرو بن وهيب؟ " وَكَانَ رجلا من ثَقِيف قريب الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ - قَالُوا: لَا، قَالَ: " تعرف منزله؟ " قَالَ: نعم، قَالَ: " فَاذْهَبْ واقرع الْبَاب قرعا رَفِيقًا، ثمَّ سلم، فَإِذا دخلت عَلَيْهِ فَقل: زَوجنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتاتكم. " وَكَانَت لَهُ ابْنة عاتق، وَكَانَ لَهَا حَظّ من جمال وعقل، فَلَمَّا أَتَى

الْبَاب قرع وَسلم، فرحبوا بِهِ وسمعوا لُغَة عَرَبِيَّة ففتحوا الْبَاب، فَلَمَّا رَأَوْا سوَاده ودمامة وَجهه انقبضوا عَنهُ، قَالَ: إِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوجنِي فتاتكم، فَردُّوا عَلَيْهِ ردا قبيحا، فَخرج الرجل، وَخرجت الْجَارِيَة من خدرها، وَقَالَت: يَا عبد اللَّهِ، ارْجع، فَإِن يَك رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زوجنيك، فقد رضيت لنَفْسي مَا رَضِي اللَّهِ عز وَجل لي وَرَسُوله. فَأتى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأخْبرهُ، وَقَالَت لأَبِيهَا: يَا أبتاه، النجا النجا قبل أَن يفضحك الْوَحْي، فَإِن يَك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زوجنيه فقد رضيت مَا رَضِي لي رَسُول اللَّهِ، فَخرج الشَّيْخ حَتَّى أَتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي أدنى الْقَوْم مَجْلِسا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنْت الَّذِي رددت على رَسُول اللَّهِ مَا رددت؟ " قَالَ: قد فعلت ذَلِك، وَأَسْتَغْفِر اللَّهِ، فظننا أَنه كَاذِب، فقد زوجناها إِيَّاه فنعوذ بِاللَّه من سخط اللَّهِ وَسخط رَسُول اللَّهِ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اذْهَبْ إِلَى صَاحبَتك فَادْخُلْ بهَا ". قَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا آخذ شَيْئا حَتَّى أسأَل إخْوَانِي فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مهر امْرَأَتك على ثَلَاثَة من الْمُؤمنِينَ، اذْهَبْ إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان فَخذ مِنْهُ مِائَتي دِرْهَم، فَأعْطَاهُ وزاده، واذهب إِلَى عَليّ بن أبي طَالب

فَخذ مِنْهُ مائَة دِرْهَم، فَأعْطَاهُ وزاده، واذهب إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَخذ مائَة دِرْهَم، فَأعْطَاهُ وزاده. وَاعْلَم أَنَّهَا لَيست بِسنة جَارِيَة وَلَا بفريضة فَمن شَاءَ فليتزوج على الْقَلِيل وَالْكثير، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي السُّوق مَعَه مَا يَشْتَرِي لزوجته ينظر مَا يجهزها بِهِ إِذْ سمع صَوتا يُنَادي: يَا خيل اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي، فَنظر نظرة إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَه السَّمَاء وإله الأَرْض وَرب مُحَمَّد لأجعلن هَذِه الدَّرَاهِم الْيَوْم فِيمَا يحب اللَّهِ وَرَسُوله والمؤمنون، وانتفض انتفاضة الْفرس الْعرق فَاشْترى سَيْفا ورمحا وفرسا، وَاشْترى جُبَّة وَشد عمَامَته على بَطْنه، واعتجر بِالْأُخْرَى، فَلم تَرَ مِنْهُ إِلَّا حماليق عَيْنَيْهِ حَتَّى وقف على الْمُهَاجِرين فَقَالُوا: من هَذَا الْفَارِس الَّذِي لَا نعرفه؟ فَقَالَ لَهُم عَليّ بن أبي طَالب: كفوا عَن الرجل فَلَعَلَّهُ مِمَّن طَرَأَ عَلَيْكُم من قبل الْبَحْرين أَو من قبل الشَّام حَتَّى يسألكم عَن معالم دينه فَأحب أَن يواسيكم الْيَوْم بِنَفسِهِ، إِذْ رَآهُ رَسُول اللَّهِ فَقَالَ ": من هَذَا الْفَارِس الَّذِي لم يأتنا؟ " فرغبن فِي الْجِهَاد إِذا اقتحمت الكتيبتان فَجعل يضْرب بِسَيْفِهِ، ويطعن برمحه قدما قدما، إِذْ قَامَ بِهِ فرسه، فَنزل عَنهُ وحسر عَن ذِرَاعَيْهِ، فَلَمَّا رأى رَسُول اللَّهِ سَواد ذِرَاعَيْهِ عرفه، فَقَالَ: " أسعد "؟

قَالَ: سعد: فدَاك أبي وَأمي يَا رَسُول اللَّهِ. قَالَ: " سعد جدك "، فَمَا زَالَ يضْرب بِسَيْفِهِ ويطعن برمحه، إِذْ قَالُوا: صرع سعد، فَخرج رَسُول اللَّهِ نَحوه، فَرفع رَأسه فَوَضعه فِي حجره فَأخذ يمسح عَن وَجهه التُّرَاب بِثَوْبِهِ. وَقَالَ: " مَا أطيب رِيحك، وَأحسن وَجهك، وَأَحَبَّك إِلَى اللَّهِ [عز وَجل] وَإِلَى رَسُوله " وَبكى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ ضحك، ثمَّ أعرض عَنهُ بِوَجْهِهِ، ثمَّ قَالَ: " ورد الْحَوْض وَرب الْكَعْبَة " فَقَالَ أَبُو لبَابَة: " بِأبي أَنْت وَأمي، مَا الْحَوْض؟ قَالَ: " حَوْض أعطانيه رَبِّي [عز وَجل] مَا بَين صنعاء إِلَى بصرى، حافتاه مكلل بالدر والياقوت، آنيته كعدد نُجُوم السَّمَاء مَاؤُهُ أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل، من شرب مِنْهُ شربة لم يظمأ بعْدهَا أبدا " قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، رَأَيْنَاك بَكَيْت وضحكت ورأيناك أَعرَضت بِوَجْهِك، فَقَالَ: " أما بُكَائِي فشوقا إِلَى سعد، وَأما ضحكي فَفَرِحت لَهُ بِمَنْزِلَتِهِ من اللَّهِ عز وَجل وكرامته عَلَيْهِ. وَأما إعراضي فَإِنِّي رَأَيْت أَزوَاجه من الْحور الْعين يتبادرون كاشفات

سوقهن بارزات خلاخيلهن، فَأَعْرَضت حَيَاء مِنْهُنَّ ". قَالَ: وَأمر بسلاحه وَمَا كَانَ لَهُ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى زَوجته وَقُولُوا لَهَا: " إِن اللَّهِ عز وَجل قد زوجه خيرا من فتاتكم، وَهَذَا مِيرَاثه، " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنِّي لأذب عَن الْحَوْض كَمَا يذب الْبَعِير الأجرب عَن الْإِبِل أَن تخالطها، إِنَّه لَا يرد على حَوْضِي إِلَّا التقي ". قَالَ أَبُو عبد اللَّهِ الصُّورِي: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث الْحسن وَقَتَادَة، وَلَا أعلم حدث بِهِ عَنْهُمَا غير مُحَمَّد بن عمر الكلَاعِي وَلَا رَأَيْته عَنهُ إِلَّا من حَدِيث سُوَيْد بن سعيد.

(يسَار الْأسود) [63] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أَنا الْحسن ابْن مُحَمَّد الْخلال قَالَ: كتب إِلَيّ أَحْمد بن عَليّ بن هِشَام يذكر أَن عبد اللَّهِ بن زَيْدَانَ حَدثهمْ قَالَ نَا أَحْمد بن حَازِم قَالَ نَا الحكم بن سُلَيْمَان الْجبلي قَالَ ثَنَا سيف بن عمر عَن مُوسَى بن عقيل الْبَصْرِيّ عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: دخلت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لي: " يَا أَبَا هُرَيْرَة، يدْخل عَليّ من هَذَا الْبَاب السَّاعَة رجل من أحد السَّبْعَة الَّذين يدْفع اللَّهِ [عز وَجل] عَن أهل الأَرْض بهم ". فَإِذا حبشِي قد طلع من ذَلِك الْبَاب، أجدع على رَأسه جرة من مَاء فَقَالَ رَسُول الله: " هُوَ هَذَا ". قَالَ: وَقَالَ رَسُول الله - ثَلَاث مَرَّات -: " مرْحَبًا بيسار " قَالَ: وَكَانَ يرش الْمَسْجِد ويكنسه.

(جُلَيْبِيب) قَالَ المُصَنّف: ذكر أَنه كَانَ أسود. [64] أخبرنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر الْبَزَّار قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا أَبُو عَمْرو بني حيوية قَالَ أَنا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ نَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ نَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنا عَارِم قَالَ ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة قَالَ نَا ثَابت عَن كنَانَة بن نعيم الْعَدوي عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ أَن جليبيباكان امْرأ من الْأَنْصَار، وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا كَانَ لأَحَدهم أيم لم يُزَوّجهَا حَتَّى يعلم ألرسول اللَّهِ فِيهَا حَاجَة أم لَا، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ ذَات يَوْم لرجل من الْأَنْصَار: " يَا فلَان، زَوجنِي ابْنَتك ". قَالَ: نعَم ونعُم عين، قَالَ: " إِنِّي لست لنَفْسي أريدها ". قَالَ: فَلِمَنْ؟ قَالَ: " لجليبيب ". قَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ، حَتَّى أَستَأْمر أمهَا، فَأَتَاهَا فَقَالَ: إِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب ابْنَتك، قَالَت: نعَم ونعُم عين، زوج رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: إِنَّه

لَيْسَ لنَفسِهِ يريدها، قَالَت: فَلِمَنْ؟ قَالَ: لجليبيب، قَالَت: حلقي ألجليبيب {لَا، لعمر اللَّهِ لَا أزوج جليبيبا. فَلَمَّا قَامَ أَبوهَا ليَأْتِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إلَيْكُمَا؟ قَالَا: رَسُول اللَّهِ، قَالَت: أفتردون على رَسُول الله أمره} ادفعوني إِلَى رَسُول اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لن يضيعني، فَذهب أَبوهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " شَأْنك بهَا فَزَوجهَا جليبيبا ". قَالَ إِسْحَاق بن عبد اللَّهِ بن أبي طَلْحَة لِثَابِت: أَتَدْرِي مَا دَعَا لَهَا بِهِ النَّبِي؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ صب عَلَيْهَا الْخَيْر صبا صبا، وَلَا تجْعَل عيشها كدا " قَالَ ثَابت: فَزَوجهَا إِيَّاه فَبينا رَسُول اللَّهِ فِي مغزى لَهُ قَالَ: هَل تَفْقِدُونَ من أحد؟ " قَالُوا: نفقد فلَانا ونفقد فلَانا، ثمَّ قَالَ: " هَل تَفْقِدُونَ من أحد؟ " قَالُوا: نفقد فلَانا ونفقد فلَانا، ثمَّ قَالَ: " هَل تَفْقِدُونَ من أحد؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: " لكني أفقد جليبيبا، فاطلبوه فِي الْقَتْلَى " فنظروا فوجدوه إِلَى جنب سَبْعَة قد قَتلهمْ ثمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا مني وَأَنا مِنْهُ، قتل سَبْعَة ثمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مني وَأَنا مِنْهُ ".

فَوَضعه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ساعديه، ثمَّ حفروا لَهُ، مَا لَهُ سَرِير إِلَّا ساعدي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى وَضعه فِي قَبره. قَالَ ثَابت: فَمَا فِي الْأَنْصَار أيم أنْفق مِنْهَا. قَالَ ابْن سعد: وَسمعت من يذكر أَن جليبيبا كَانَ رجلا من بني ثَعْلَبَة حليفا فِي الْأَنْصَار، وَالْمَرْأَة الَّتِي زَوجهَا النَّبِي إِيَّاه من بني الْحَارِث بن الْخَزْرَج. (صَحَابِيّ حبشِي) [65] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك قَالَ أَنبأَنَا الْجَوْهَرِي عَن الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي حَاتِم التنيسِي قَالَ أَنا الْحسن بن سُفْيَان قَالَ نَا مُحَمَّد ابْن عبد اللَّهِ بن عمار قَالَ نَا عفيف بن سَالم عَن أَيُّوب عَن عتبَة عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: جَاءَ رجل من الْحَبَشَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سل واستفهم ". فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ، فضلْتُمْ علينا بالصورة والألوان والنبوة، أَفَرَأَيْت إِن آمَنت بِمثل مَا آمَنت بِهِ وعملت بِمثل مَا عملت بِهِ أَنِّي كَائِن مَعَك فِي الْجنَّة؟ قَالَ:

" نعم " ثمَّ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه ليرى بَيَاض الْأسود فِي الْجنَّة مسيرَة ألف عَام ". ثمَّ قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ كَانَ لَهُ بهَا عِنْد اللَّهِ عز وَجل عهد، وَمن قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ كتب لَهُ مائَة ألف حَسَنَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف حَسَنَة ". فَقَالَ رجل: كَيفَ نهلك بعد هَذَا يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن الرجل ليَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِالْعَمَلِ لَو وضع على جبل لأثقله " قَالَ: " فتقوم النِّعْمَة من نعم اللَّهِ عز وَجل فيكاد يستفذه ذَلِك إِلَّا أَن ينْطق اللَّهِ برحمته ". قَالَ: ثمَّ نزلت هَذِه السُّورَة {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما وملكا كَبِيرا} ، قَالَ الحبشي: وَإِن عَيْني لتريان مَا ترى عَيْنَاك فِي الْجنَّة؟ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نعم ". فاستبكى الحبشي حَتَّى فاضت نَفسه، قَالَ: فَلَقَد رَأَيْت رَسُول اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدليه فِي حفرته بِيَدِهِ. (صَحَابِيّ أسود) روى أَبُو طَاهِر بن العلاف فِي كِتَابه الْمُسَمّى بِكِتَاب [زهر] الرياض أَن حَبَشِيًّا أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كنت أعمل الْفَوَاحِش، فَهَل لي من تَوْبَة؟ قَالَ: " نعم ". فولى ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَكَانَ اللَّهِ يراني وَأَنا أعملها؟ قَالَ: " نعم، يَا حبشِي ". فصاح الحبشي صَيْحَة خرجت مِنْهَا نَفسه.

(الباب الثامن عشر)

(الْبَاب الثَّامِن عشر) (فِي ذكر أَشْرَاف السوداوات من الصحابيات أم أَيمن مولاة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحاضنته) وَاسْمهَا بركَة ورثهَا من أَبِيه، وَكَانَت سَوْدَاء فَأعْتقهَا حِين تزوج خَدِيجَة، فَتَزَوجهَا عبد اللَّهِ بن زيد فَولدت لَهُ أَيمن، وَتَزَوَّجت بعده زيد بن حَارِثَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة. [66] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر قَالَ أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا ابْن حيوية قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ أَنا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنا ابْن أُسَامَة - يَعْنِي حَمَّاد بن أُسَامَة - عَن جرير بن حَازِم قَالَ: سَمِعت عُثْمَان بن الْقَاسِم يحدث قَالَ: لما هَاجَرت أم أَيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء، فعطشت فدلي عَلَيْهَا من السَّمَاء دلو من مَاء برشاء أَبيض، فَأَخَذته فَشَربته حَتَّى رويت، وَكَانَت تَقول: مَا أصابني بعد ذَلِك عَطش، وَلَقَد تعرضت للعطش بِالصَّوْمِ فِي الهواجر فَمَا

عطشت بعد تِلْكَ الشربة. قَالَ المُصَنّف: وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكرمها ويمازحها، قَالَت لَهُ يَوْمًا: احملني، قَالَ: " أحملك على ولد النَّاقة ". قَالَت: لَا يطيقني. قَالَ: " لَا أحملك إِلَّا على ولد النَّاقة ". وَكَانَت تدل على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتخاصمه فيحتملها. وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر يزورانها بعد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَت تبْكي وَتقول: إِنَّمَا أبْكِي لخَبر السَّمَاء كَيفَ انْقَطع عَنَّا. وَحَضَرت أحدا وَكَانَت تَسْقِي المَاء وتداوي الْجَرْحى، وَشهِدت حنينا، وَتوفيت فِي خلَافَة عُثْمَان، وَقيل فِي خلَافَة أبي بكر [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا]

(أم زفر) [67] روى البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: أَلا أريك امْرَأَة من أهل الْجنَّة؟ قلت: بلَى، قَالَ: هَذِه الْمَرْأَة السَّوْدَاء أَتَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: إِنِّي أصرع وَإِنِّي أتكشف فَادع اللَّهِ لي قَالَ: " إِن شِئْت صبرت وَلَك الْجنَّة، وَإِن شِئْت دَعَوْت اللَّهِ أَن يعافيك ". قَالَت: أَصْبِر، وَقَالَت: فَإِنِّي أتكشف، فَادع الله أَن لَا أنكشف. فَدَعَا لَهَا. (جَارِيَة من الصحابيات) [68] أخبرنَا عبد الأول قَالَ أَنا ابْن المظفر الدَّاودِيّ قَالَ ثَنَا ابْن أعين قَالَ نَا الْفربرِي قَالَ نَا البُخَارِيّ قَالَ نَا فَرْوَة بن أبي المغراء قَالَ ثَنَا عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] قَالَت: أسلمت

امْرَأَة سَوْدَاء لبَعض الْعَرَب، وَكَانَ لَهَا حفش فِي الْمَسْجِد قَالَت: فَكَانَت تَأْتِينَا فتتحدث عندنَا، فَإِذا فرغت من حَدِيثهَا قَالَت: (وَيَوْم الوشاح من تعاجيب رَبنَا ... أَلا إِنَّه من بَلْدَة الْكفْر أنجاني) فَلَمَّا أكثرت قلت لَهَا: وَمَا يَوْم الوشاح؟ قَالَت: خرجت جوَيْرِية لبَعض أَهلِي وَعَلَيْهَا وشاح من أَدَم فَيسْقط مِنْهَا، فانحطت عَلَيْهِ الحدياء وَهِي تحسبه لَحْمًا فَأَخَذته فاتهموني بِهِ فعذبوني حَتَّى بلغ من أَمْرِي أَنهم طلبوه فِي قبلي، فَبَيْنَمَا هم حَولي وَأَنا فِي كربي إِذا أَقبلت الحديا حَتَّى وازت رؤوسنا ثمَّ ألقته فَأَخَذُوهُ، فَقلت لَهُم: هَذَا الَّذِي اتهمتموني بِهِ وَأَنا مِنْهُ بريئة. (ذكر صحابية سَوْدَاء) [69] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنا جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ: ثَنَا عبد الْعَزِيز بن عَليّ بن حمدَان أخْبرهُم إجَازَة قَالَ: أَنا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن

الْحسن بن هَارُون بن بدينا قَالَ: أمْلى علينا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ ابْن عمار الْموصِلِي قَالَ: ثَنَا الْمعَافى عَن عبد الحميد بن بهْرَام قَالَ: ثَنَا شهر عَن عبد اللَّهِ بن شَدَّاد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج إِلَى بطحاء من الْمَدِينَة فَإِذا النَّاس ينطلقون إِلَى رجل من كبراء الْمَدِينَة يعودونه من مرض، فَانْطَلق وَأَصْحَابه حَتَّى مروا ببطحاء، فَإِذا هم بزنجية قد علق ولدان الْمَدِينَة فِي رجلهَا حبلا فهم يسحبونها فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَصْحَابه: " أَتَرَوْنَ هَذِه الزنجية؟ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لهي خير من ملْء الأَرْض مثل صَاحبكُم الَّذِي تساقون إِلَيْهِ ".

(الباب التاسع عشر)

(الْبَاب التَّاسِع عشر) (فِي ذكر المبرزين فِي الْعلم من السودَان فَمن أهل مَكَّة:) (عَطاء بن أبي رَبَاح) وَاسم أبي رَبَاح أسلم، أَخذ الْعلم عَن ابْن عمر وَأبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم، وفَاق فِي الْعلم والنسك. [70] أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الطَّبَرِيّ قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ: أَنا عبد اللَّهِ ابْن جَعْفَر قَالَ: أَنا يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ: نَا الْفضل بن زِيَاد قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل - يَقُول: الْعلم خَزَائِن يقسم اللَّهِ [تَعَالَى] لمن أحب، كَانَ عَطاء بن أبي رَبَاح حَبَشِيًّا. [71] أخبرنَا عبد الْحق بن عبد الْخَالِق قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن مَرْزُوق

قَالَ: أَنا أَحْمد بن عَليّ [ثَابت] الْخَطِيب قَالَ: أَنا أَحْمد بن أبي جَعْفَر الْقطيعِي قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الخراز قَالَ: ثَنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان ابْن إِسْحَاق الْجلاب قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: كَانَ عَطاء بن أبي رَبَاح عبدا أسود لأمرأة من أهل مَكَّة، وَكَانَ أَنفه كَأَنَّهُ باقلاة، وَجَاء سُلَيْمَان بن عبد الْملك إِلَى عَطاء هُوَ وابناه فجلسوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا صلى انْفَتَلَ إِلَيْهِم، فَمَا زَالُوا يسألونه عَن مَنَاسِك الْحَج، قد حول قَفاهُ إِلَيْهِم، ثمَّ قَالَ سُلَيْمَان لابْنَيْهِ: قوما، فقاما، فَقَالَ: يَا بني لَا تنيا فِي طلب الْعلم، فَإِنِّي لَا أنسى ذلنا بَين يَدي هَذَا العَبْد الْأسود. [72] سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي يَقُول: سَمِعت حمد بن أَحْمد يَقُول: سَمِعت أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْحَافِظ يَقُول: سَمِعت سُلَيْمَان بن أَحْمد يَقُول: سَمِعت أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّافِعِي يَقُول: كَانَت الْحلقَة فِي الْفتيا بِمَكَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام لِابْنِ عَبَّاس، وَبعد ابْن عَبَّاس لعطاء ابْن أبي رَبَاح. [73] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر قَالَ: أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: نَا أَبُو عمر بن حيوية قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ: أَنا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أَنا الْفضل بن دُكَيْن قَالَ: نَا سُفْيَان عَن سَلمَة بن كهيل قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا يُرِيد بِهَذَا الْعلم وَجه اللَّهِ عز وَجل غير هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَطاء وَطَاوُس، وَمُجاهد.

[74] أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد قَالَ: أَنا عمر بن عبيد اللَّهِ الْبَقَّال قَالَ: أَنا أَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان قَالَ: ثَنَا عُثْمَان بن أَحْمد الدقاق قَالَ: نَا حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد اللَّهِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَان قَالَ: قَالَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة: كَانَ عَطاء طَوِيل الصمت، فَإِذا تكلم يخيل إِلَيْنَا أَنه يُؤَيّد. [75] أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن حسنون قَالَ: أَنا أَبُو مُحَمَّد بن أبي عُثْمَان قَالَ: أَنا القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن الْمُنْذر قَالَ: أَنا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ: ثَنَا أَبُو بكر بن عبيد قَالَ: ثَنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: أَنا يعلى بن عبيد قَالَ: دَخَلنَا على مُحَمَّد بن سوقة فَقَالَ: أحدثكُم بِحَدِيث لَعَلَّ اللَّهِ [تَعَالَى] ينفعكم بِهِ؛ فَإِنَّهُ قد نَفَعَنِي ثمَّ قَالَ: قَالَ لنا عَطاء ابْن أبي رَبَاح: يَا بني أخي، إِن من كَانَ قبلكُمْ كَانُوا يكْرهُونَ فضول الْكَلَام، وَكَانُوا يعدون فضوله مَا عدا كتاب اللَّهِ عز وَجل أَن يقرأه وَيَأْمُر بِمَعْرُوف أَو يُنْهِي عَن مُنكر أَو تنطق بحاجتك فِي معيشتك الَّتِي لَا بُد لَك مِنْهَا، أتنكرون أَن عَلَيْكُم حافظين، كراما كاتبين عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد، مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد، أما يستحي أحدكُم أَن لَو نشرت صَحِيفَته الَّتِي أمل صدر نَهَاره، كَانَ أَكثر مَا فِيهَا لَيْسَ من أَمر دينه وَلَا دُنْيَاهُ؟ {}

(موعظة عَطاء بن أبي رَبَاح هِشَام بن عبد الْمطلب) [76] أَنبأَنَا أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْملك قَالَ أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ أَخْبرنِي أَبُو الْحسن عَليّ بن أَيُّوب القمي قَالَ أَنا أَبُو عبيد مُحَمَّد بن عمر المرزباني قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد الْكَاتِب قَالَ: ثَنَا عبد الله بن أبي سعيد الْوراق قَالَ نَا عمر بن شبة قَالَ: حَدثنِي سعيد بن مَنْصُور الرقي قَالَ: حَدثنِي عُثْمَان بن عَطاء الْخُرَاسَانِي قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي وَهُوَ يُرِيد هشاما، فَلَمَّا قربنا مِنْهُ إِذا بشيخ أسود على حمَار عَلَيْهِ قَمِيص دنس، وجبة دنسة، وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فَضَحكت وَقلت لأبي: من هَذَا الْأَعرَابِي؟ قَالَ: اسْكُتْ، هَذَا سيد فُقَهَاء أهل الْحجاز، هَذَا عَطاء بن أبي رَبَاح، فَلَمَّا قرب نزل أبي عَن بغلته، وَنزل هُوَ عَن حِمَاره، فاعتنقا وتساءلا، ثمَّ عادا فركبا، وانطلقا حَتَّى وَقفا بِبَاب هِشَام، فَلَمَّا رَجَعَ أبي سَأَلته فَقلت: حَدثنِي مَا كَانَ مِنْكُمَا قَالَ: لما قيل لهشام: عَطاء بن أبي رَبَاح، أذن لَهُ، فوَاللَّه مَا دخلت إِلَّا لسببه، فَلَمَّا رَآهُ هِشَام قَالَ: مرْحَبًا مرْحَبًا، هَا هُنَا، فرفعه حَتَّى مست ركبته ركبته وَعِنْده أَشْرَاف النَّاس

يتحدثون، فَسَكَتُوا، فَقَالَ هِشَام: مَا حَاجَتك يَا أَبَا مُحَمَّد؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أهل الْحَرَمَيْنِ أهل الْحَرَمَيْنِ، أهل اللَّهِ وجيران رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم، قَالَ: نعم، يَا غُلَام، اكْتُبْ لأهل الْمَدِينَة وَأهل مَكَّة بعطاءين وأرزاقهم لسنة، ثمَّ قَالَ: هَل من حَاجَة غَيرهَا يَا أَبَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أهل الْحجاز وَأهل نجد أصل الْعَرَب، وقادة الْعَرَب ترد فيهم فضول صَدَقَاتهمْ، قَالَ: نعم، يَا غُلَام، اكْتُبْ بِأَن ترد فيهم صَدَقَاتهمْ. ثمَّ قَالَ: هَل من حَاجَة غَيرهَا يَا أَبَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أهل الثغور يرْمونَ من وَرَاء بيضتكم ويقاتلون عَدوكُمْ، وَقد أجريتم لَهُم أرزاقا تدرها عَلَيْهِم؛ فَإِنَّهُم إِن هَلَكُوا غزيتم، قَالَ: نعم، اكْتُبْ بِحمْل أَرْزَاقهم إِلَيْهِم يَا غُلَام، هَل من حَاجَة غَيرهَا يَا أَبَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أهل ذمتكم لَا تجبى صغارهم، وَلَا تتعتع كبارهم، وَلَا يكلفون مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِن مَا تجبونه مَعُونَة لكم على عَدوكُمْ، قَالَ: نعم، اكْتُبْ يَا غُلَام، لَا يحملون مَالا يُطِيقُونَ، هَل من حَاجَة غَيرهَا؟ قَالَ: نعم أَمِير الْمُؤمنِينَ، اتَّقِ اللَّهِ [عز وَجل] فِي نَفسك فَإنَّك خلقت وَحدك،

وَتَمُوت وَحدك، وتحشر وَحدك، وتحاسب وَحدك، وَلَا وَالله مَا مَعَك مِمَّن ترى أحدا، قَالَ: فأكب هِشَام، وَقَامَ عَطاء، فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْبَاب إِذا رجل قد تبعه بكيس مَا أَدْرِي مَا فِيهِ أدراهم أم دَنَانِير، وَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمر لَك بِهَذَا، قَالَ: لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين، قَالَ: ثمَّ خرج عَطاء، وَلَا وَالله مَا شرب عِنْده حسوة من مَاء فَمَا فَوْقه. [77] أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد قَالَ: أَنا عمر بن عبيد اللَّهِ الْبَقَّال قَالَ: أَنا أَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان قَالَ: ثَنَا عُثْمَان بن أَحْمد الدقاق قَالَ: نَا حَنْبَل بن إِسْحَاق قَالَ نَا يحيى بن معِين قَالَ: قَالَ ابْن أبي ليلى: حَنْبَل بن إِسْحَاق قَالَ نَا يحيى بن معِين قَالَ: قَالَ ابْن أبي ليلى: حج عَطاء سبعين حجَّة وعاش مائَة سنة. (حبيب بن أبي ثَابت) وَاسم أبي ثَابت: قيس بن دِينَار، أَبُو يحيى، مولى لبني أَسد كُوفِي كَانَ عَالما كَبِيرا، سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَسمع مِنْهُ الْأَعْمَش وَالثَّوْري، وَكَانَ كثير التَّعَبُّد كَرِيمًا، أنْفق على الْفُقَرَاء مائَة ألف، وَكَانَ أسود اللَّوْن.

(يزِيد بن أبي حبيب) كَانَ عَالما كَبِيرا. [78] أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن هبة اللَّهِ الطَّبَرِيّ قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ: أَنا عبد اللَّهِ بن جَعْفَر قَالَ أَنا يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ ثَنَا الْفضل بن زِيَاد قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: الْعلم خَزَائِن يقسم اللَّهِ [عز وَجل] لمن أحب، كَانَ يزِيد بن أبي حبيب نوبيا أسود. (مَكْحُول الشَّامي) أَبُو عبد اللَّهِ، كَانَ عَالما فَقِيها، وَكَانَ مَمْلُوكا لعَمْرو بن سعيد بن العَاصِي، فوهبه لرجل من هُذَيْل بِمصْر، وأنعم عَلَيْهِ بهَا، قَالَ: فَمَا خرجت من مصر حَتَّى ظَنَنْت أَنه لَيْسَ بهَا علم إِلَّا وَقد سمعته، ثمَّ قدمت الْمَدِينَة، فَمَا خرجت مِنْهَا حَتَّى ظَنَنْت أَنه لَيْسَ بهَا علم إِلَّا وَقد سمعته. وَرَأى أنس بن مَالك وواثلة بن الْأَسْقَع وَأَبا أُمَامَة وَغَيرهم. وَتُوفِّي سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة.

(إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بن الْمَنْصُور) يكنى أَبَا إِسْحَاق، كَانَ شَدِيد سَواد اللَّوْن، وَكَانَ فَاضلا فصيحا، مليح الشّعْر، بُويِعَ لَهُ بالخلافة؛ وَكَانَ السَّبَب أَن الْمَأْمُون بَايع لعَلي بن مُوسَى الرِّضَا بِولَايَة الْعَهْد، فَغَضب بَنو الْعَبَّاس، وَقَالُوا: لَا يخرج الْأَمر من بَين أَيْدِينَا، فَبَايعُوا إِبْرَاهِيم، فَخَطب لَهُ على المنابر، وَغلب على الْكُوفَة والسواد فَتوفي عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا، وَقدم الْمَأْمُون فضعف أَمر إِبْرَاهِيم، وتفرق النَّاس عَنهُ، فاستتر فَأَقَامَ كَذَلِك سِتّ سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام، فَلَمَّا ضجر من الاستتار كتب إِلَى الْمَأْمُون: ولي الثأر مُحكم فِي الْقصاص، وَالْعَفو أقرب للتقوى، وَمن تنَاوله الاغترار بِمَا مد لَهُ من أَسبَاب الرَّجَاء أَمن عَادِية الدَّهْر، وَقد جعل اللَّهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَوق كل ذِي عَفْو، كَمَا جعل كل ذِي ذَنْب دونه، فَإِن عَفا فبفضله، وَإِن عاقب فبحقه. فَوَقع الْمَأْمُون على قصَّته أَمَانه، وَقَالَ فِيهَا: الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة، وَكفى بالندم إنابة. فَدخل عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم فَقَالَ: (إِن أكن مذنبا فحظي أَخْطَأت ... فدع عَنْك كَثْرَة التأنيب) (قل كَمَا قَالَ يُوسُف لبني يَعْقُوب ... لما أَتَوْهُ لَا تَثْرِيب)

[79] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالَ: أَنا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أَنا الْجَوْهَرِي قَالَ: أنبأ مُحَمَّد بن الْعَبَّاس قَالَ: أَنْشدني عبيد اللَّهِ بن أَحْمد المرورذي قَالَ: أنْشد لإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي: (قد شَاب رَأْسِي وَرَأس الْحِرْص لم يشب ... إِن الْحَرِيص على الدُّنْيَا لفي تَعب) (قد يَنْبَغِي لي مَعَ مَا حزت من أدب ... أَن لَا أخوض فِي أَمر ينقص بِي) (لَو كَانَ يصدقني ذهني بفكرته ... مَا اشْتَدَّ غمي على الدُّنْيَا وَلَا نصبي) (أسعى فأجهد فِيمَا لست أدْركهُ ... وَالْمَوْت يقْدَح فِي زندي وَفِي عصبي) (بِاللَّه كم بَيت مَرَرْت بِهِ ... قد كَانَ يعمر باللذات والطرب) (طارت عِقَاب المنايا فِي جوانبه ... فَصَارَ من بعْدهَا للويل والحزب) (فامسك عنانك لَا تجمع بِهِ طلع ... فَلَا وعيشك مَا الأرزاق بِالطَّلَبِ) (مَعَ أنني وَاجِد فِي النَّاس وَاحِدَة ... الرزق والنوك مقرونان فِي سَبَب) (وخصلة لَيْسَ فِيهَا من يُنَازعنِي ... الرزق أروغ شَيْء عَن ذَوي الْأَدَب)

(يَا ثقب الْفَهم كم أَبْصرت ذَا حمق ... الرزق أعزى بِهِ من لَازم الجرب) توفّي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَصلى عَلَيْهِ المعتصم. (عبد اللَّهِ بن حَازِم السّلمِيّ) كَانَ أَمِيرا كَبِيرا على خُرَاسَان، وَجَرت لَهُ حروب كَثِيرَة، وَكَانَ ذَا علم.

(الباب العشرون)

(الْبَاب الْعشْرُونَ) (فِي ذكر شعرائهم وَمن تمثل مِنْهُم بِشعر من كبار شعرائهم: عنترة بن شَدَّاد) كَانَت أمه زنجية، أسود، وَله الْأَشْعَار الفائقة من مستحسنها قَوْله فِي قصيدته الْمَشْهُورَة: (هَل غادر الشُّعَرَاء من متردم ... أم هَل عرفت الدَّار بعد توهم) ويروى: من مترنم، قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: ردم ثَوْبك، أَي رقعه، يَقُول: هَل ترك الشُّعَرَاء شَيْئا يرقع أَي هَل تركُوا لقَائِل شَيْئا. (يَا دَار عبلة بالجوى تكلمي ... وَعمي صباحا دَار عبلة واسلمي) (حييت من طلل تقادم عَهده ... أقوى وأقفر بعد أم الْهَيْثَم) (هلا سَأَلت الْخَيل يَا ابْنة مَالك ... إِن كنت جاهلة بِمَا لم تعلمي) (يُخْبِرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عِنْد الْمغنم)

(وَمن شعرائهم: سحيم عبد بني الحسحاس) اشْتَرَاهُ عبد اللَّهِ بن عَامر وأهداه إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] فَرده عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، وَله أشعار كَثِيرَة وأخبار. [80] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أنبأ أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أنبأ الْجَوْهَرِي قَالَ أنبأ ابْن حيوية قَالَ نَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ: قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: كَانَ سحيم حَبَشِيًّا، وَقد أدْرك الْجَاهِلِيَّة. [81] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أنبا أَبُو عمر مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد قَالَ أَنا أَبُو عبد اللَّهِ أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَكِّيّ قَالَ: ثَنَا الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز عَن خَالِد بن يُوسُف بن الْمَاجشون قَالَ: اشْترى عبد اللَّهِ بن أبي عبد اللَّهِ سحيما عبد بني الحسحاس وَكتب إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان: إِنِّي ابتعت لَك غُلَاما حَبَشِيًّا شَاعِرًا، فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان: لَا حَاجَة لي بِهِ فاردده، فَإِنَّمَا قصارى هَذَا العَبْد الشَّاعِر إِن شبع أَن يتشبب بنسائهم،

وَإِن جَاع أَن يهجوهم، فَرده عبد اللَّهِ فَاشْتَرَاهُ رجل من بني الحسحاس من بني أَسد بن خُزَيْمَة، وَكَانَ حَبَشِيًّا مغلظا، أعجمي اللِّسَان، ينشد الشّعْر. قَالَ الزبير: وحَدثني عمر بن أبي بكر عَن أبي صَالح الفقعسي قَالَ: كَانَ سحيم عبد بني الحسحاس، وَكَانَ حَبَشِيًّا شَاعِرًا. قَالَ الزبير: وحَدثني موهوب بن رشيد الْكلابِي عَن أبي صَالح الفقعسي قَالَ: كَانَ عبد بني الحساس حَبَشِيًّا شَاعِرًا وَكَانَ يهوى ابْنة مَوْلَاهُ عميرَة بنت أبي معبد ويكنى عَن حبها إِلَى أَن خرج مَوْلَاهُ أَبُو معبد سفرا وَخرج بِهِ مَعَه، وَكَانَ أَبُو معبد يتشوق إِلَى ابْنَته يَقُول: (عميرَة ودع إِن تجهزت غاديا ... ... ... ... ... ) فردد الصَّوْت وَلَا يزِيد عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: انقذنا يَا سحيم، فهيج مِنْهُ مَا كَانَ بَاطِنا فَقَالَ: (عميرَة ودع إِن تجهزت غاديا ... كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا) ثمَّ بنى عَلَيْهَا فأتمها قصيدة، وانْتهى بهما فِيهَا وفحش عَلَيْهَا

فَقَالَ: (وبتنا وسادانا إِلَى علجانة ... وحقف تهاداه الرِّيَاح تهاديا) (توسدني كفا وَتثني بمعصم عَليّ ... وتحني رجلهَا من ورائيا) (وهبت شمالا آخر اللَّيْل قُرَّة ... وَلَا ثوب إِلَّا درعها وردائيا) (فمازال ثوبي طيبا من نسيمها ... إِلَى الْحول حَتَّى أنهى الثَّوْب بَالِيًا) قَالَ: فَذهب بِهِ جندل أَبُو معبد إِلَى الْمَدِينَة ليَبِيعهُ بهَا فَقَالَ بعد أَن أخرجه يَوْمًا: (وَمَا كنت أخْشَى جندلا أَن يبيعني ... بِشَيْء وَلَو أمست أنامله صفرا) (أخوكم وَمولى مالكم وربيبكم ... وَمن قد ثوى فِيكُم وعاشركم دهرا) (أشوقا وَلما يمض لي غير لَيْلَة ... فَكيف إِذا سَارَتْ الْمطِي بِنَا عشرا) قَالَ: فرق عَلَيْهِ جندل فَرده مَخَافَة قومه فلاموه وَأَرَادُوا قتل العَبْد، وَكَانَ جندل يضن بِهِ فَخرج بِهِ إِلَى السُّلْطَان بِالْمَدِينَةِ فسجنه وضربه ثَمَانِينَ سَوْطًا ثمَّ خرج بِهِ رَاجعا إِلَى بِلَاده فتغنى بِهِ سحيم وَقَالَ: (أَبَا معبد بئس العريضة للفتى ... ثَمَانُون لم تتْرك لحلفكم عبدا)

(كسوني غَدَاة الدَّار سمراء كَأَنَّهَا ... شياطين لم تتْرك فؤادا وَلَا عهدا) (فَمَا السجْن إِلَّا ظلّ بَيت دَخلته ... وَمَا السَّوْط إِلَّا جلدَة خالطت جلدا) (أَبَا معبد وَالله مَا حل حبها ... ثَمَانُون سَوْطًا بل يزِيد بهَا وجدا) (فَإِن تقتلوني تقتلُوا ابْن وليدة ... وَإِن تتركوني تتكروا أسدا وردا) (غَدا يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد دَاري من دِيَاركُمْ بعدا) قَالَ: فَأَخْبرنِي عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز أَن هَذَا الْبَيْت الْأَخير للعرجي. قَالَ المُصَنّف: وَكَانَ آخر أَمر سحيم أَنه أحب امراة من أهل بَيت مَوْلَاهُ فَأَخَذُوهُ وأحرقوه. (وَمِنْهُم نصيب بن محجن) أَبُو محجن الشَّاعِر، مولى عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، وَكَانَ أسود. [86] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أنبأ الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنا إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو الْحُسَيْن الزَّيْنَبِي قَالَ نَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن عَمْرو وَأحمد بن حَرْب قَالَا: نَا زبير بن أبي

بكر قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن المؤمل بن طالوت قَالَ: حَدثنِي أبي عَن الضَّحَّاك ابْن عُثْمَان الْحزَامِي قَالَ: خرجت فِي آخر أَيَّام الْحَج فَنزلت بالأبواء على امْرَأَة فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت من حسنها وأطربني فتمثلت بقول نصيب. . (بِزَيْنَب ألمم قبل أَن يرحل الركب ... وَقل إِن تملينا فَمَا مل الْقلب) (خليلي من كَعْب ألما هديتما بِزَيْنَب ... لَا يفقد كَمَا أبدا كَعْب) (وقولا لَهَا مَا فِي البعاد لذِي الْهوى ... يُعَاد وَمَا فِيهِ لصدع النَّوَى شعب) (فَمن شان أم الصرم أَو قَالَ ظَالِما ... لصَاحبه ذَنْب وَلَيْسَ لَهُ ذَنْب) فَلَمَّا سمعتني أتمثل الأبيات قَالَت لي: يَا فَتى، أتعرف قَائِل هَذَا الشّعْر؟ قلت: ذَاك نصيب، قَالَت: نعم، هُوَ ذَاك. فتعرف زَيْنَب؟ قلت: لَا. قَالَت: أَنا وَالله زَيْنَب. قلت: فحياك اللَّهِ. قَالَت: أما إِن الْيَوْم موعده من عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ، خرج إِلَيْهِ عَام أول، وَعَدَني هَذَا الْيَوْم، ولعلك لَا تَبْرَح حَتَّى ترَاهُ. قَالَ: فَمَا بَرحت من مجلسي حَتَّى إِذا أَنا بِرَاكِب يَزُول مَعَ السراب، فَقَالَت: ترى حث ذَلِك الرَّاكِب؟ إِنِّي لأحسبه إِيَّاه. قَالَ: وَأَقْبل الرَّاكِب فأمنا حَتَّى أَنَاخَ قَرِيبا من الْخَيْمَة فَإِذا هُوَ نصيب، ثمَّ ثنى

رجله عَن رَاحِلَته فَنزل، ثمَّ أقبل فَسلم عَليّ وَجلسَ فِيهَا نَاحيَة، وَسلم عَلَيْهَا وسألها وَسَأَلته فاحتفا، ثمَّ إِنَّهَا سَأَلته أَن ينشدها مَا أحدث من الشّعْر بعْدهَا، فَجعل ينشدها، فَقلت فِي نَفسِي: عاشقان أطالا التنائي لَا بُد أَن يكون لأَحَدهمَا إِلَى صَاحبه حَاجَة، فَقُمْت إِلَى رَاحِلَتي أَشد عَلَيْهَا، فَقَالَ لي: على رسلك، أَنا مَعَك. فَجَلَست حَتَّى نَهَضَ، ونهضت مَعَه، فتسايرنا سَاعَة ثمَّ الْتفت فَقَالَ: فَقلت: قلت فِي نَفسك: محبان التقيا بعد طول ثَنَاء، لَا بُد أَن يكون لأَحَدهمَا إِلَى صَاحبه حَاجَة؟ قلت: نعم، قد كَانَ ذَلِك. قَالَ: لَا وَرب هَذِه البنية الَّتِي إِلَيْهَا نعمد مَا جَلَست إِلَيْهَا مَجْلِسا قطّ أقرب من مجلسي الَّذِي رَأَيْت، وَلَا كَانَ بَيْننَا مَكْرُوه قطّ. قَالَ المُصَنّف: قلت: وَقد روى لنا أَن زَيْنَب كَانَت سَوْدَاء أَيْضا. [83] وأنبأنا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أَنا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا ابْن حيوية قَالَ: نَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن معَاذ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنِي رجل من قُرَيْش عَمَّن حَدثهُ قَالَ: كنت حَاجا وَمَعِي رجل من الْقَافِلَة لَا أعرفهُ وَلم أره قبل ذَلِك وَمَعَهُ هوداج وأثقال وصبية وَعبيد ومتاع فنزلنا منزلا فَإِذا فرش ممهدة

وَبسط قد بسطت فَخرج من بَعْضهَا هودج امْرَأَة زنجية، فَجَلَست على تِلْكَ الْفرش الممهدة، ثمَّ جَاءَ زنجي فَجَلَسَ [إِلَى جنبها، فَبَقيت مُتَعَجِّبا مِنْهُمَا فَبينا أَنا أنظر إِلَيْهَا] إِذْ مر بِنَا مار وَهُوَ يَقُود إبِلا فَجعل يتَغَنَّى وَيَقُول: (بِزَيْنَب ألمم قبل أَن يرحل الركب ... وَقل إِن تملينا فَمَا مل الْقلب) قَالَ: فَوَثَبت الزنجية إِلَى الزنْجِي فخبطته وضربته وَهِي تَقول: شهرتني بَين النَّاس شهرك اللَّهِ. فَقلت: من هَذَا؟ فَقَالُوا لي: نصيب الشَّاعِر وَهَذِه زَيْنَب. [84] أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أنبأ مَحْفُوظ بن أَحْمد قَالَ: أنبأ أَبُو عَليّ مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن الحارذي قَالَ: ثَنَا الْمعَافى بن زَكَرِيَّا قَالَ: نَا إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد بن عَرَفَة قَالَ: ثَنَا أَحْمد بن يحيى قَالَ: ثَنَا الزبير قَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ عَن معَاذ صَاحب الْهَرَوِيّ، قَالَ: دخلت مَسْجِد الْكُوفَة فَرَأَيْت رجلا لم أر قطّ أنقى ثيابًا مِنْهُ، وَلَا أَشد سوادا فَقلت لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا نصيب. فَقلت: أَخْبرنِي عَنْك وَعَن أَصْحَابك. فَقَالَ: جميل إمامنا، وَعمر أوصفنا لربات الحجال، وَكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وَقد قلت مَا سَمِعت، قلت: فَإِن النَّاس يَزْعمُونَ أَنَّك لَا تحسن أَن تهجو. قَالَ:

وأقروا لي أَنِّي أحسن أمدح؟ قلت: نعم، قَالَ: فترى لَا أحسن أَن أجعَل مَكَان عافاك اللَّهِ أخزاك اللَّهِ؟ قلت: بلَى، قَالَ: وَلَكِنِّي رَأَيْت النَّاس رجلَيْنِ: رجلا لم أسأله وَلَا يَنْبَغِي لي أَن أهجوه فأظلمه، ورجلا سَأَلته فَمَنَعَنِي، فَكَانَت نَفسِي أَحَق بالهجاء، إِذْ سَوَّلت لي أَن أطلب مِنْهُ. [85] أَنبأَنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر الْبَزَّاز قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَاق الْبَرْمَكِي قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عَمْرو بن حيوية قَالَ: أَنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمَكِّيّ قَالَ: ثَنَا الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي عمي حَدثنِي أَيُّوب بن عَبَايَة قَالَ: حَدثنِي رجل من بني نَوْفَل بن عبد منَاف قَالَ: لما أصَاب نصيب من المَال مَا أصَاب - وَكَانَت عِنْده أم محجن، وَكَانَت سَوْدَاء - تزوج امْرَأَة بَيْضَاء، فَغضِبت أم محجن وَغَارَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا أم محجن، وَالله مَا مثلي يغار عَلَيْهِ إِنِّي لشيخ كَبِير، وَمَا مثلك يغار، إِنَّك لعجوز كَبِيرَة، وَمَا أحد أكْرم عَليّ مِنْك وَلَا أوجب حَقًا، فحوزك هَذَا الْأَمر وَلَا تكذب بِهِ عَليّ، فرضيت وقرت، ثمَّ قَالَ لَهَا بعد ذَلِك: هَل لَك أَن أجمع إِلَيْك زَوْجَتي الجديدة، فَهُوَ أصلح لذات الْبَين وألم للشعث وَأبْعد للشماتة، فَقَالَت: افْعَل. فَأَعْطَاهَا دِينَارا وَقَالَ لَهَا: إِنِّي أكره أَن ترى بك خصَاصَة أَن تفضل عَلَيْك، فاعملي لَهَا إِذا أَصبَحت عنْدك غَدا نزلا بِهَذَا الدِّينَار، ثمَّ أَتَى زَوجته الجديدة فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قد أردْت أَن أجمعك إِلَى أم محجن غَدا وَهِي مكرمتك، وأكره أَن تفضل عَلَيْك

، فَخذي هَذَا الدِّينَار فأهدي لَهَا بِهِ إِذا أَصبَحت عِنْدهَا غَدا لِئَلَّا ترى بك خصَاصَة وَلَا تذكرين الدِّينَار لَهَا. ثمَّ أَتَى صاحبا لَهُ ليستنصحه، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أجمع زَوْجَتي الجديدة إِلَى أم محجن غَدا فأتني مُسلما، فَإِنِّي سأستجلسك للغداء، فَإِذا تغديت فسلني عَن أحبهما إِلَيّ، فَإِنِّي سأنفر وَأعظم ذَلِك وَأبي أَن أخْبرك، فَإِذا أَبيت ذَلِك فاحلف عَليّ، فَلَمَّا كَانَ الْغَد زارت زَوجته الجديدة أم محجن وَمر بِهِ صديقه فاستجلسه فَلَمَّا تغديا أقبل الرجل عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا محجن، أحب أَن تُخبرنِي عَن أحب زوجتيك إِلَيْك. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ {أتسألني عَن هَذَا وهما يسمعان} مَا سَأَلَ عَن هَذَا أحد قبلك. قَالَ: وَإِنِّي أقسم عَلَيْك لتخبرني، فوَاللَّه لَا أعذرك، وَلَا أقبل إِلَّا ذَاك، قَالَ: أما إِذْ فعلت فأحبهما إِلَيّ صَاحِبَة الدِّينَار، وَالله لَا أزيدك على هَذَا شَيْئا، وأعرضت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تضحك، ونفسها مسرورة وَهِي تظن أَنه عناها بذلك القَوْل. [86] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أَنا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أَنا أَبُو عمر بن حيوية قَالَ: أنبأ أَبُو بكر مُحَمَّد بن خلف قَالَ: أَخْبرنِي يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي عَن مُحَمَّد بن سَلام قَالَ:

دخل نصيب على يزِيد بن عبد الْملك فَقَالَ لَهُ: حَدثنِي بِبَعْض مَا مر عَلَيْك. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ علقت جَارِيَة حَمْرَاء - يَعْنِي بَيْضَاء - فَمَكثت زَمَانا تمنيني الأباطيل فَأرْسلت إِلَيْهَا بِهَذِهِ الأبيات: (وَإِن أك حالكا فالمسك أحوى ... وبالسواد جلدي من دَوَاء) (ولي كرم عَن الْفَحْشَاء نائي ... كبعد الأَرْض من جو السَّمَاء) (ومثلي فِي رجالكم قَلِيل ... ومثلي لَا يرد عَن النِّسَاء) (فَإِن ترضي فردي قَول رَاض ... وَإِن تأبي فَنحْن على السوَاء) فَلَمَّا قَرَأت الأبيات، قَالَت: المَال وَالْعقل يعفيان على غَيرهمَا فزوجتني نَفسهَا. [87] قَالَ ابْن خلف: وحَدثني أَبُو بكر بن شَدَّاد قَالَ حَدثنِي أَبُو عبد اللَّهِ ابْن أبي بكر قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن زيد بن عبد اللَّهِ السَّعْدِيّ قَالَ: حَدَّثتنِي جدتي عَن أَبِيهَا عَن جدها قَالَ: رَأَيْت رجلا أسود وَمَعَهُ امْرَأَة بَيْضَاء فَجعلت أتعجب من سوَاده وبياضها، فدنوت مِنْهُ، فَقلت: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا الَّذِي أَقُول: (أَلا لَيْت شعري مَا الَّذِي يحدثن لي ... إِذا مَا غَدا النأي المفرق والبعد)

(أتصرمني عِنْد الألى فهم العدا ... فتشمتهم بِي أم تدوم على الْعَهْد) قَالَ: فصاحت: بلَى وَالله تدوم على الْعَهْد. فَسَأَلت عَنْهَا، فَقيل: هَذَا نصيب، وَهَذِه أم بكر. [88] قَالَ [ابْن] خلف: وَأَخْبرنِي جَعْفَر بن عَليّ الْيَشْكُرِي قَالَ: حَدثنِي الرياشي قَالَ: أَخْبرنِي الْعُتْبِي قَالَ: دخل نصيب على عمر بن عبد الْعَزِيز ابْن مَرْوَان فَقَالَ لَهُ: هَل عشقت يَا نصيب؟ قَالَ: نعم، جعلني الله فدَاك. قَالَ: وَمن؟ قَالَ: جَارِيَة لبني مُدْلِج فأحدق بهَا الواشون فَكنت لَا أقدر على كَلَامهَا إِلَّا بِعَين أَو إِشَارَة، [فَكنت] أَجْلِس إِلَيْهَا على الطَّرِيق حَتَّى تمر بِي فأراها، وَفِي ذَلِك أَقُول: (جَلَست لَهَا كَيْمَا تمر لعلني ... أخالسها التَّعْلِيم إِن لم تسلم) (فَلَمَّا رأتني والوشاة تحدرت ... مدامعها خوفًا وَلم تكلم) (مَسَاكِين أهل الْعِشْق مَا كنت مُشْتَرِي ... حَيَاة جَمِيع العاشقين بدرهم) فَقَالَ لَهُ عبد الْعَزِيز: وَمَا فعلت المدلجية؟ قَالَ: اشْتريت وأولدت. قَالَ: فَهَل فِي قَلْبك مِنْهَا شَيْء؟ قَالَ: عقابيل أوجاع.

(أَبُو دلامة الشَّاعِر) واسْمه زند - بالنُّون - ابْن الجون مولى لبنى أَسد كَانَ عبدا حَبَشِيًّا لرجل من أهل الْكُوفَة من بني أَسد يُقَال لَهُ فصاص بن لَاحق فَأعْتقهُ، فصحب السفاح، ثمَّ صحب الْمَنْصُور، ثمَّ صحب الْمهْدي، وَله شعر حسن ونوادر عَجِيبَة مضحكة. [89] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالَ: أنبأ أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أنبأ الْحسن بن أبي بكر قَالَ: أنبأ أَبُو سهل أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ: سَمِعت ثعلبا يَقُول: لما مَاتَت حمادة بنت عِيسَى امْرَأَة الْمَنْصُور وقف الْمَنْصُور وَالنَّاس حوله على حفرتها ينتظرون مَجِيء الْجِنَازَة، وَأَبُو دلامة فيهم، فَأقبل عَلَيْهِ الْمَنْصُور فَقَالَ: يَا أَبَا دلامة، مَا أَعدَدْت لهَذَا المصرع؟ فَقَالَ: حمادة بنت عِيسَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: فأضحك الْقَوْم. [90] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن قَالَ أنبأ أَحْمد بن عَليّ قَالَ أنبأ أَحْمد بن مُحَمَّد العتيقي قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس قَالَ نَا ابْن دُرَيْد قَالَ نَا ابْن أخي الْأَصْمَعِي قَالَ: سَمِعت الْأَصْمَعِي يَقُول: أَمر الْمَنْصُور أَبَا دلامة بِالْخرُوجِ نَحْو عبد اللَّهِ بن عَليّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة: أنشدتك بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تحضرني شَيْئا من عساكرك، فَإِنِّي شهِدت تِسْعَة عَسَاكِر انْهَزَمت كلهَا، وأخاف

أَن يكون عسكرك الْعَاشِر، فَضَحِك مِنْهُ وأعفاه. [91] أَنبأَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: أنبأ أَحْمد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ قَالَ: أنبأ أَبُو أَحْمد الفرضي قَالَ: أنبأ أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد قَالَ: نَا ثَعْلَب عَن مُحَمَّد بن سَلام قَالَ: لَقِي روح بن حَاتِم بعض الحروب، فَقَالَ لأبي دلامة - وَقد دَعَا رجلا مِنْهُم إِلَى البرَاز تقوم إِلَيْهِ؟ قَالَ: لست بِصَاحِب قتال. قَالَ: لتفعلن. قَالَ: إِنِّي جَائِع فأطعمني. فَدفع إِلَيْهِ خبْزًا وَلَحْمًا، وَتقدم فهم بِهِ الرجل، فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة: اصبر، مَا هَذَا؟ ثمَّ قَالَ: أتعرفني؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَل أعرفك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا فِي الدُّنْيَا أَحمَق منا وَدعَاهُ للغداء فتغديا جَمِيعًا وافترقا. فَسَأَلَ روح عَن مَا فعل، فَحدث فَضَحِك وَدعَاهُ، فَسَأَلَهُ عَن الْقِصَّة فَقَالَ: (إِنِّي أعوذ بِروح أَن يقدمني ... إِلَى الْقِتَال فَيجْرِي فيّ بَنو أَسد) (آل الْمُهلب حب الْمَوْت إرثكم ... إِذْ لَا أورث حب الْمَوْت عَن أحد) قَالَ المُصَنّف: توفّي أَبُو دلامة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة. [92] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ الدينَوَرِي قَالَ: سَمِعت أَبَا الْفضل عبد الْوَاحِد بن عبد الْعَزِيز الْوَاعِظ قَالَ: سَمِعت أَبَا الصَّقْر يَقُول: سَمِعت جمَاعَة من أَصْحَابنَا يَقُولُونَ:

سمعنَا أَبَا زيد الْمصْرِيّ يَقُول: رَأَيْت [زنجيا] مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة يَقُول كلَاما بالزنجية، فَسَأَلت زنجيا فصيحا أَن يفسره لي فَقَالَ: إِنَّه يَقُول: (مدامعي مِنْك قريحات ... وَفِي الحشا مِنْك سريرات) (طُوبَى لمن مَاتَ وأعضاؤه ... من الْمعاصِي مستريحات) [93] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أَنا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أَنبأَنَا ابْن حيوية. قَالَ: نَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن خلف قَالَ: أنبأ عبد اللَّهِ بن شبيب قَالَ: أَخْبرنِي الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد ابْن الْحسن قَالَ: حَدثنِي فهَيْرَة بن مرّة قَالَ: كَانَ لي غُلَام أسود يَسُوق بِأَصْحَابِي وينطق بالزنجية بِشَيْء يشبه الشّعْر، فَمر بِنَا رجل يعرف لِسَانه، فاستمع لَهُ، ثمَّ قَالَ: يَقُول: (فَقلت لَهَا إِنِّي اهتديت لفتية ... أناخوا بِي عجاج قَلَائِص سَهْما) (فَقَالَت كَذَاك العاشقون وَمن يخف ... عُيُون الأعادي يَجْعَل اللَّيْل سلما) قَالَ ابْن خلف: وحَدثني عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي القحطبي قَالَ: أَخْبرنِي بعض الروَاة قَالَ: بَينا أَنا يَوْمًا على ركي قَاعِدا، وَذَلِكَ فِي أَشد مَا يكون من الْحر إِذا بِجَارِيَة سَوْدَاء تحمل جرا لَهَا، فَلَمَّا وصلت

إِلَى الركي وضعت جرها، ثمَّ تنفست الصعداء وَقَالَت: (حر هجر وحر حب وحر ... أَيْن من ذَا وَذَا وَذَاكَ المفر) وملأت الجرة وانصرفت، فَلم ألبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى جَاءَ أسود وَمَعَهُ جر فَوَضعه بِحَيْثُ وضعت السَّوْدَاء الْجَرّ فَمر بِهِ كلب أسود فَرمى إِلَيْهِ رغيفا كَانَ مَعَه وَقَالَ: (أحب لحبها السودَان حَتَّى ... أحب لحبها سود الْكلاب) [94] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبأ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْكَرِيم الجواليقي قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن فَارس الْحَافِظ قَالَ: نَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن حَمْزَة قَالَ: ثَنَا أَبُو العيناء قَالَ ثَنَا الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء عَن السّري بن جَابر قَالَ: دخلت بِلَاد الزنج فَرَأَيْت زنجية تدق الْأرز وتبكي وَتقول كلَاما لم أَقف عَلَيْهِ، فَسَأَلت شَيخا، فَقَالَ تَقول: (رميت بطرفي يمنة ثمَّ يسرة ... فَلم أر غير اللَّهِ يألفه قلبِي) (فجئتك إدلالا بِمن قد عَرفته ... وبالفعل وَالْإِحْسَان تغْفر لي ذَنبي) (أياديك لَا تخفى وَإِن طَال عدهَا ... وإحسانك المبذول فِي الشرق والغرب)

بلغنَا عَن ذِي النُّون [الْمصْرِيّ] أَنه قَالَ: كنت يَوْمًا مارا فِي تيه الشَّام فَإِذا أَنا بزنجي مفلفل الشّعْر كلما ذكر اللَّهِ [تَعَالَى] حَالَتْ لبسته وتغيرت، وَصَارَ وَجهه كدارة الْقَمَر، وَزَالَ السوَاد، فَقلت لَهُ: يَا أسود، إِنِّي أرى مِنْك عجبا، قَالَ: وَمَا الَّذِي رَأَيْت؟ قلت: أَرَاك كلما ذكرت اللَّهِ عز وَجل حَالَتْ لبستك وَتغَير لونك فَقَالَ: وَمن هَذَا تعجب؟ أإنك لَو ذكرت اللَّهِ عز وَجل حَقِيقَة ذكره لحلت لبستك وَتغَير لونك، ثمَّ جعل ذَلِك الزنْجِي يخطو فِي التيه وَيَقُول: (ذكرنَا وماكنا نَسِينَا لنذكر ... وَلَكِن نسيم الْقرب يَبْدُو فيبهر) (فأحيا بِهِ عني وَأَحْيَا بِهِ لَهُ ... إِذْ الْحق عَنهُ مخبر ومعبر) وبلغنا عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: لقِيت أسود فِي الْبَريَّة كلما ذكر اللَّهِ [عز وَجل] ابيضّ، فَقلت لَهُ: مَا هَذَا؟ فَأَنْشد: (أَمُوت إِذا ذكرتك ثمَّ أَحْيَا ... فكم أَحْيَا عَلَيْك وَكم أَمُوت) (شربت الْحبّ كأسا بعد كأس ... فَمَا نفد الشَّرَاب وَلَا رويت)

(الباب الحادي والعشرون)

(الْبَاب الْحَادِي وَالْعشْرُونَ) (فِي ذكر طَائِفَة من فطناء السودَان والسوداوات وأذكيائهم وكرمائهم) [95] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبأ أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن عَليّ العلاف قَالَ أنبأ أَبُو بكر أَحْمد بن سلم فِيمَا أجَاز لنا قَالَ نَا أَبُو دلف هَاشم بن مُحَمَّد بن هَارُون الْخُزَاعِيّ قَالَ نَا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ عَن الْعُتْبِي عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: بَيْنَمَا سُلَيْمَان بن عبد الْملك يسير ذَات يَوْم فِي موكبه إِذْ عرض لَهُ رجل أسود عَلَيْهِ بردَان، مؤتزر بِأَحَدِهِمَا، مُرْتَد بِالآخِرَة، فَأخذ بلجام دَابَّة سُلَيْمَان، ثمَّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اتَّقِ اللَّهِ [عز وَجل] وَاذْكُر الْأَذَان. قَالَ: وَمَا الْأَذَان؟ قَالَ الرجل: قَالَ الله تَعَالَى: {فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة اللَّهِ على الظَّالِمين} فَبكى بكاء كثيرا، ثمَّ رفع رَأسه إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيحك، وَمَا مظلمتك؟ قَالَ: ظَلَمَنِي وكيلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالْيمن وغصبني ضيعتي وأدخلها فِي ضيعتك. قَالَ: فَدَعَا سُلَيْمَان وَهُوَ مَكَانَهُ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس، وَكتب بِيَدِهِ إِلَى وَكيله بِالْيمن

أَن ادْفَعْ إِلَى فلَان ضيعته الَّتِي غصبته إِيَّاهَا وَمثلهَا من ضيعتي وَلَا تظلم أحدا. [96] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أنبأ عبد الْعَزِيز ابْن الْحسن الضراب قَالَ: أنبأ أبي قَالَ: نَا أَحْمد بن مَرْوَان الدينَوَرِي قَالَ: نَا إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قَالَ ثَنَا عُثْمَان بن مُحَمَّد الْأنمَاطِي قَالَ نَا عَمْرو بن أبي قيس قَالَ: خرج عبد اللَّهِ بن جَعْفَر إِلَى حيطان الْمَدِينَة فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ نظر إِلَى أسود على بعض الْحِيطَان وَهُوَ يَأْكُل، وَبَين يَدَيْهِ كلب رابض، كلما أكل لقمه رمى للكلب مثلهَا، فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى فرغ من أكله، وَعبد الله بن جَعْفَر وَاقِف على رَأسه ينظر إِلَيْهِ، فَلَمَّا فرغ دنا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَام، لمن أَنْت؟ قَالَ: لوَرَثَة عُثْمَان بن عَفَّان. فَقَالَ: لقد رَأَيْت مِنْك عجبا، فَقَالَ لَهُ: وَمَا الَّذِي رَأَيْت من الْعجب يَا مولَايَ؟ قَالَ: رَأَيْتُك تَأْكُل فَكلما أكلت لقْمَة رميت للكلب مثلهَا. فَقَالَ لَهُ: يَا مولَايَ، هُوَ رفيقي مُنْذُ سِنِين، وَلَا بُد أَن أجعله كأسوتي فِي الطَّعَام. فَقَالَ لَهُ: فدون هَذَا الجزيل. فَقَالَ لَهُ: يَا مولَايَ، وَالله إِنِّي

لأَسْتَحي من الله [عز وَجل] أَن آكل وَعين تنظر إِلَيّ لَا تَأْكُل، ثمَّ مضى عني، فَأتى جَعْفَر وَرَثَة عُثْمَان فَنزل عِنْدهم، فَقَالَ: جِئْت فِي حَاجَة. قَالُوا: وَمَا حَاجَتك؟ قَالَ: تبيعوني الْحَائِط الْفُلَانِيّ فَقَالُوا لَهُ: قد وهبناه لَك. قَالَ: لست آخذه إِلَّا بِضعْف: فباعوه فَقَالَ لَهُم: وتبيعوني الْغُلَام الْأسود. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قد ربيناه وَإنَّهُ كأحدنا، فَلم يزل بهم حَتَّى باعوه، وَانْصَرف عَنْهُم. فَلَمَّا أصبح غَدا على الْغُلَام وَهُوَ فِي الْحَائِط، فَقَالَ لَهُ: أشعرت أَنِّي قد اشترتيك واشتريت الْحَائِط من مواليك؟ فَقَالَ لَهُ: بَارك الله لَك فِيمَا اشْتريت، وَلَقَد غمني مفارقتي لموَالِي أَنهم ربوني. فَقَالَ لَهُ: وَأَنت حر، والحائط ملك لَك. قَالَ: إِن كنت يَا مولَايَ صَادِقا فاشهد عَليّ أَنِّي قد أوقفته على وَرَثَة عُثْمَان بن عَفَّان، فتعجب عبد اللَّهِ بن جَعْفَر مِنْهُ وَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ. [97] أَنبأَنَا عَليّ بن عبد اللَّهِ عَن أبي الْحسن بن الْمُهْتَدي عَن أبي حَفْص ابْن شاهين قَالَ: ثَنَا أَحْمد بن إِسْحَاق بن بهْلُول قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن الْهَيْثَم قَالَ ثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: تبع رجل سَوْدَاء فَقَالَت: أما زاجر من عقل إِذا لم يكن ناه من دين. فَقَالَ: وَهل يَرَانَا إِلَّا الْكَوَاكِب؟ قَالَت: فَأَيْنَ مكوكبها؟ [98] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أنبأ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أنبأ أَبُو عمر بن حيوية قَالَ أَنبأَنَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ نَا أَبُو سعيد الْمَدِينِيّ قَالَ نَا بعض أَصْحَابنَا قَالَ: نزل رجل من أهل الْحجاز

بِمَالك، فَسَأَلَ أبي: مَا هَذَا؟ فَقيل لَهُ: مَالك وَإِذا بَين يَدَيْهِ صبية سَوْدَاء تلقط النَّوَى فَقَالَ: قَاتل اللَّهِ الَّذِي يَقُول: (احذر على مَاء الْعَشِيرَة والهوى ... على مَالك يَا لهف نَفسِي على مَالك) وَأي شَيْء كَانَ يتعشق من مَالك، إِنَّمَا هِيَ جرة سَوْدَاء، قَالَ: تَقول الصبية: أَي بِأبي إِنَّه وَالله كَانَ لَهُ بهَا شجن لم يَك لَك. [100] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ أَبُو الْحسن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أنبأ أَبُو عمر بن حيوية قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْفضل الْكَاتِب عَن أبي مُحَمَّد العامري قَالَ: قَالَ إِسْمَاعِيل بن جَامع، كَانَ أبي يعظني فِي الْغناء ويضيق عَليّ، فهربت مِنْهُ إِلَى أخوالي بِالْيمن، فأنزلني خَالِي غرفَة لَهُ مشرفة على نهر فِي بُسْتَان، وَإِنِّي لمشرف مِنْهَا إِذا طلعت سَوْدَاء مَعهَا قربَة فَنزلت إِلَى المشرعة فَجَلَست وَوضعت قربتها وغنت: (إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بخلها وسماحتي ... لَهَا عسل مني وتبذل علقما) (فردي مصاب الْقلب أَنْت قتلته ... وَلَا تتركيه هائم الْقلب مغرما) وذرفت عَيناهَا وَاسْتقر بِي مَا لَا قوام لي بِهِ، ورجوت أَن ترده، فَلم تفعل

وملأت الْقرْبَة ونهضت، فَنزلت أعدُّوا وَرَاءَهَا، وَقلت: يَا جَارِيَة، بِأبي أَنْت وَأمي، ردي الصَّوْت. قَالَت: مَا أشغلني عَنْك. قلت: بِمَاذَا؟ قَالَت: عَليّ خراج كل يَوْم دِرْهَمَانِ. فأعطيتها دِرْهَمَيْنِ، وَجَلَست حَتَّى أَخَذته، وانصرفت ولهوت يومي ذَلِك، فَأَصْبَحت وَمَا أذكر مِنْهُ حرفا وَاحِدًا، وَإِذا أَنا بِالسَّوْدَاءِ قد طلعت، فَفعلت كفعلها الأول، إِلَّا أَنَّهَا غنت غير ذَلِك الصَّوْت ونهضت وعدوت فِي أَثَرهَا، فَقلت: الصَّوْت قد ذهب عَليّ مِنْهُ نَغمَة. قَالَت: مثلك لَا تذْهب عَلَيْهِ نَغمَة، فَتبين بعضه بِبَعْض. وأبت أَن تعيده إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ، فأعطيتها ذَلِك، فأعادته، فَذَكرته، فَقلت: حَسبك، قَالَت: كَأَنَّك تكاثر فِيهِ بأَرْبعَة دَرَاهِم، كَأَنِّي وَالله بك قد أصبت بِهِ أَرْبَعَة آلَاف [دِينَار] . قَالَ ابْن جَامع: فَبينا أَنا أُغني الرشيد وَبَين يَدَيْهِ أكيسة، فِي كل كيسى ألف دِينَار، إِذْ قَالَ: من أطربني فَلهُ كيس، فغن لي صَوتا. فغنيته، فَرمى إِلَيّ بكيس، ثمَّ قَالَ: أعد. فأعدته، فَرَمَانِي بكيس، وَقَالَ: أعد. فأعدته، فَرَمَانِي بكيس، فتبسمت، فَقَالَ: مِم تضحك؟ قَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، [إِن] لهَذَا الصَّوْت حَدِيث أعجب مِنْهُ، فَحَدَّثته الحَدِيث

فَضَحِك وَرمى إِلَيّ الْكيس الرَّابِع، وَقَالَ: لَا نكذب قَول السَّوْدَاء، فَرَجَعت بأَرْبعَة آلَاف. قَالَ ابْن خلف: وَذكر الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: أتيت جَرِيرًا فَقلت: أَخْبرنِي أَي بَيت هجيتم كَانَ أَشد عَلَيْكُم؟ قَالَ قَوْله: (أَنْت قرارة كل مدفع سوءة ... وَلَك سَائِلَة يسيل قَرَار) وعَلى رَأسه جَارِيَة سَوْدَاء حلوة فَقَالَت: كَذبك وَالله، أصعب مَا هجي بِهِ قَوْله: (لَيْسَ الْكِرَام بناحليك آبَاءَهُم ... حَتَّى يرد إِلَى عَطِيَّة نعثل) فَقَالَ جرير: صدقت الخبيثة. [101] قَالَ ابْن خلف: وحَدثني حمدون بن عبد اللَّهِ قَالَ: حَدثنِي أَبُو حشيشة قَالَ: كَانَت بدل أحسن النَّاس وَجها، وَكَانَت أستاذة كل محسن ومحسنة، وَكَانَت صفراء مدينية، وَكَانَت أروى النَّاس للغناء، وَكَانَت لجَعْفَر بن مُوسَى الْهَادِي فَوضعت لمُحَمد بن زبيدة، فَبعث إِلَى جَعْفَر يسْأَله أَن يُرِيد إِيَّاهَا فأبي، فزاره مُحَمَّد فِي منزله فَسمع مَا لم يسمع مثله،

قَالَ: يَا أخي، بِعني هَذِه الْجَارِيَة، فَقَالَ: يَا سَيِّدي، لَيْسَ مثلي من بَاعَ جَارِيَة. قَالَ: فهبها لي. قَالَ: هِيَ مُدبرَة. قَالَ: فاحتال لَهُ مُحَمَّد حَتَّى أسكره، فَنَامَ جَعْفَر، وَأمر مُحَمَّد بِبَدَل فَحملت مَعَه فِي حراقته، فَانْصَرَفت بهَا، فَلَمَّا انتبه جَعْفَر سَأَلَ عَن بدل، فَأخْبر خَبَرهَا فَسكت، وَبعث إِلَيْهِ مُحَمَّد من الْغَد، فَجَاءَهُ وَبدل جالسة تغنيه، لم يقل شَيْئا، فَلَمَّا أَرَادَ جَعْفَر الِانْصِرَاف قَالَ مُحَمَّد: أوقروا حراقة ابْن عمي دَرَاهِم. قَالَ: فأوقرت، فَكَانَ مبلغ ذَلِك المَال عشْرين ألف ألف، وَبقيت بدل فِي دَار مُحَمَّد بن زبيدة إِلَى أَن حدث عَلَيْهِمَا حدث. [102] قَالَ ابْن خلف: وحَدثني أَبُو عبد اللَّهِ التَّمِيمِي قَالَ: حَدثنِي أَبُو الوضاح الْبَاهِلِيّ عَن أبي مُحَمَّد الربذي قَالَ: قَالَ عبد اللَّهِ ابْن عمر بن عَتيق: خرجت أَنا وَيَعْقُوب بن حمدي بن كاسب قافلين من مَكَّة، فَلَمَّا كُنَّا بودان لَقينَا جَارِيَة من أهل ودان، فَقَالَ لَهَا يَعْقُوب: يَا جَارِيَة، مَا فعلت نعم؟ فَقَالَت: سل نَصِيبا. فَقَالَ: قَاتلك اللَّهِ، مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ أحد ذهنا وَلَا أحضر صَوَابا وَإِنَّمَا أَرَادَ يَعْقُوب قَول نصيب فِي نعم - وَكَانَ ينزل ودان: (أيا صَاحب الخيمات من بطن أرثد ... إِلَى النّخل من ودان مَا فعلت نعم) (أسائل عَنْهَا كل ركب لقيتهم ... وَمَالِي بهَا من بعد مكتنا علم)

[103] أخبرتنا شهدة بنت أَحْمد بن الْفرج قَالَ أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أنبأ القاضيان أَبُو الْحُسَيْن النوري وَأَبُو الْقَاسِم التنوخي قَالَا: أَنا أَبُو عمر بن حيوية قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن الْفضل قَالَ: أَخْبرنِي أبي قَالَ أنبأ القحدمي قَالَ: دخل ذُو الرمة الْكُوفَة، فَبَيْنَمَا هُوَ يسير فِي بعض شوارعها على نجيب لَهُ إِذْ رأى جَارِيَة سَوْدَاء واقفة على بَاب دَار فأستحسنها، وَوَقعت بِقَلْبِه فَدَنَا إِلَيْهَا فَقَالَ: يَا جَارِيَة، اسْقِنِي مَاء. فأخرجت إِلَيْهِ كوزا فَشرب، وَأَرَادَ أَن يمازحها ويستدعي كَلَامهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا أحر ماؤك! فَقَالَت: لَو شِئْت لأقبلت على عنوت شعرك، وَتركت حر مائي وبرده. فَقَالَ لَهَا: وَأي شعري لَهُ عنت؟ فَقَالَت: أَلَسْت ذُو الرمة؟ قَالَ: بلَى: قَالَت: (فَأَنت الَّذِي شبهت عَنْزًا بقفرة ... لَهَا ذَنْب فَوق استها أم سَالم) (جعلت لَهَا قرنين فَوق جبينها ... وطبيين مسودين مثل المحاجم) (وساقين إِن سمكًا مِنْك تبركا ... فخدك يَا غيلَان مثل المياسم) (أيا ظَبْيَة الوعسانين جلاجل ... وَمن النقا أَأَنْت أم سَالم؟)

قَالَ: نشدتك بِاللَّه أَلا أخذت رَاحِلَتي هَذِه وَمَا عَلَيْهَا، وَلم تظهري هَذَا وَلَا تذكري لأحد مَا جرى. [وَنزل عَن رَاحِلَته، فَدَفعهَا إِلَيْهَا، وَذهب ليمشي فدفعتها، وضمنت أَلا تذكر لأحد مَا جرى] [104] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر قَالَ: أَنبأَنَا عَليّ بن المحسن عَن أَبِيه قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْكَاتِب قَالَ: حَدثنِي بعض الْأَشْرَاف بِالْكُوفَةِ أَنه كَانَ بهَا رجل جني يعرف بالأدرع شَدِيد الْقلب جدا قَالَ: وَكَانَ فِي خرابات الْكُوفَة شَيْء يظْهر للمجتازين فِيهِ نَار تطول تَارَة وتقصر أُخْرَى، يَقُولُونَ: هَذَا غولة ويفزع مِنْهُ النَّاس، فَخرج الأدرع لَيْلَة رَاكِبًا فِي بعض شَأْنه، فَقَالَ لي الأدرع: فَاعْترضَ لي السوَاد وَالنَّار فطال الشَّخْص فِي وَجْهي، فأنكرته، ثمَّ رجعت إِلَى نَفسِي، فَقلت: إِمَّا شَيْطَان أَو غولة فَهُوَ مين، وَلَيْسَ إِلَّا إِنْسَان، فَذكرت اللَّهِ [تَعَالَى] وَصليت على نبيه [صلى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسلم] ، وجمعت عنان الْفرس وقنعته وطرحته على الشَّخْص فازداد طوله وَعظم الضَّوْء فِيهِ، فنفر الْفرس فمنعته، فَطرح نَفسه عَلَيْهِ، فقصر الشَّخْص حَتَّى صَار على قدر قامة، فَلَمَّا كَاد الْفرس يخالطه ولى هَارِبا

فحركت خَلفه، فَانْتهى إِلَى خربة فَدَخلَهَا، فَدخلت خَلفه، فَإِذا هُوَ قد نزل سردابا فِيهَا، فَنزلت عَن فرسي وشددته، وَنزلت وسيفي مُجَرّد، فحين حصلت فِي السرداب، أحسست بحركته يُرِيد الْفِرَار مني، فطرحت نَفسِي عَلَيْهِ، فَوَقَعت يَدي على بدن إِنْسَان، فقبضت عَلَيْهِ فَأَخْرَجته فَإِذا هُوَ جَارِيَة سَوْدَاء، فَقلت: أَي شَيْء أَنْت وَإِلَّا قتلتك السَّاعَة؟ قَالَت: قبل كل شَيْء إنسي أَنْت؟ أوجني؟ فَمَا رَأَيْت أقوى قلبا مِنْك [قطّ] فَقلت: أَي شَيْء أَنْت؟ قَالَت: أمة لآل فلَان - قوم من الْكُوفَة - أبقت مِنْهُم مُنْذُ سِنِين، فتغربت فِي هَذِه الخربة، فولد لي الْفِكر أَن أحتال بِهَذِهِ الْحَال، وأوهم النَّاس أَنِّي غولة حَتَّى لَا يقرب الْموضع أحد، وأعترضه لَيْلًا للأحداث، فيفزعونه، وَرُبمَا رمى أحدهم منديلا أَو إزارا، فَآخذهُ، وأبيعه نَهَارا، فأقتاته أَيَّامًا. قلت: فَمَا هَذَا الشَّخْص الَّذِي يطول وَيقصر، وَالنَّار الَّتِي تظهر؟ قَالَت: كسَاء معي طَوِيل أسود فَأخْرجهُ من السرادب، وقصبات مهندمة أَدخل بَعْضهَا فِي بهض فِي الكساء وأرفعة فَيطول، فَإِذا أردْت تَقْصِيره رفعت من الأنابيب وَاحِدَة وَاحِدَة فتقصر، وَالنَّار فَتِيلَة شمع معي فِي يَدي، لَا

أخرج إِلَّا رَأسهَا مِقْدَار مَا يضيء الكساء، فأرتني الشمعة والكساء والأنابيب ثمَّ قَالَت: قد وَالله جَازَت هَذِه الْحِيلَة نيفا وَعشْرين سنة، واعترضت فرسَان الْكُوفَة وشجعانها، فَمَا أقدم عَليّ أحد غَيْرك، وَلَا رَأَيْت أَشد قلبا مِنْك. فحملها الأدرع إِلَى الْكُوفَة فَردهَا على مواليها، وَكَانَت تحدث بِهَذَا الحَدِيث، وَلم ير بعد ذَلِك أثر غولة، فَعلم أَن الحَدِيث حق.

(الباب الثاني والعشرون)

(الْبَاب الثَّانِي وَالْعشْرُونَ) (فِي ذكر المتعبدين مِنْهُم والزهاد) فَمن المعروفين الْأَسْمَاء مِنْهُم غير من سبق ذكره من الصَّحَابَة [وَالتَّابِعِينَ] (أَبُو مُعَاوِيَة الْأسود) واسْمه الْيَمَان، نزل طرسوس. [105] أَنبأَنَا عَليّ بن عبيد اللَّهِ عَن الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي عَن أبي حَفْص ابْن شاهين قَالَ: سَمِعت عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث يَقُول: سَمِعت أَبَا حَمْزَة - يَعْنِي ابْن الْفرج الْأَسْلَمِيّ وَكَانَ خَادِم أبي مُعَاوِيَة الْأسود - قَالَ: كَانَ أَبُو مُعَاوِيَة مولى أبي جَعْفَر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ يَقُول للنَّاس: استخدموني أَنا عبدكم، إِنَّمَا اشْتريت من الْفَيْء، وَكَانَ لَهُ فرس رائع يَغْزُو عَلَيْهِ، قد أعطي بِهِ سبعين دِينَارا فَرَأى شَابًّا فِي الدَّار نزل لَيْلَة فاغتسل، ثمَّ أُخْرَى فاغتسل ثمَّ نزل فاغتسل، فَلَمَّا أصبح أَبُو مُعَاوِيَة جَاءَ فَحل فرسه وَأَعْطَاهُ الْفَتى، وَقَالَ: هاك يَا فَتى، اشْتَرِ بِهِ جَارِيَة. قَالَ: وَكَانَ قد دَعَا اللَّهِ

عز وَجل أَن يطيب فِي فَمه جَمِيع مَا يَأْكُلهُ، فَكَانَ يخرج إِلَى الْبَريَّة، فيجتني من بقولِهَا ويجففه فِي بَيته، وَيَطوف على الْمَزَابِل فينتقي مِنْهَا الْعِظَام الَّتِي عرق مِنْهَا اللَّحْم وطرحت، فيلطخها بذلك البقل. [106] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ: انبأنا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أنبأ أَبُو مُحَمَّد الْخلال قَالَ: نَا عبد الْوَاحِد بن عَليّ الفامي قَالَ: نَا عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن عِيسَى قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن أبي هَارُون الوارق قَالَ ثَنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي عَبدة الْخُرَاسَانِي قَالَ: كَانَ أَبُو مُعَاوِيَة الْأسود إِذا مرض يعمد إِلَى قَصْعَة، فَيجْعَل فِي جَانب مِنْهَا عسلا، فَإِذا دخل عَلَيْهِ رجل يسْأَل عَنهُ يَقُول: يَا أَبَا مُعَاوِيَة، تشْتَهي شَيْئا؟ فَيَقُول: رجل لَا يقدر يَأْكُل هَذَا، أَي شَيْء يشتهى يحتجز بِهِ بِهِ عَن النَّاس. [107] أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ: أنبأ حمد بن أَحْمد قَالَ أنبأ أَحْمد بن عبد اللَّهِ قَالَ نَا أَبُو مُحَمَّد بن حَيَّان قَالَ: نَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ ثَنَا أَحْمد بن أبي الْحوَاري قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن وديع يَقُول: قَالَ أَبُو مُعَاوِيَة الْأسود: إخْوَانِي كلهم خير مني. قيل لَهُ: وَكَيف ذَاك يَا أَبَا مُعَاوِيَة؟ قَالَ: كلهم رأى الْفضل لي على نَفسه وَمن فضلني على نَفسه فَهُوَ خير مني.

[108] أخبرنَا أَبُو بكر بن حبيب قَالَ أنبأ عَليّ بن أبي صَادِق قَالَ أنبأ ابْن باكويه قَالَ نَا عَليّ بن الْحسن الأرجاني قَالَ ثَنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحسن الرامَهُرْمُزِي قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت أَبَا مُعَاوِيَة الْأسود وَهُوَ على سور طرسوس من جَوف اللَّيْل يبكي وَيَقُول: أَلا من كَانَت الدُّنْيَا من أكبر همه طَال فِي الْقيام غَدا همه، وَمن خَافَ مَا بَين يَدَيْهِ ضَاقَ فِي الدُّنْيَا ذرعه، وَمن خَافَ الْوَعيد أَبى من الدُّنْيَا عَن مَا يُرِيد. يَا مِسْكين، إِن كنت تُرِيدُ لنَفسك الجزيل، فاقلل نومك بِاللَّيْلِ إِلَّا الْقَلِيل، اقبل من اللبيب الناصح إِذا أَتَاك بِأَمْر وَاضح. لَا تهتمن بأرزاق من تخلف، فلست بأرزاقهم تكلّف. نظف طريقك للمقال، إِذا وقفت بَين يَدي رب الْعِزَّة للسؤال. قدم صَالح الْأَعْمَال، ودع عَنْك كَثْرَة الأشغال. بَادر ثمَّ بَادر قبل نزُول مَا تحاذر. إِذا بلغ روحك التراقي، انْقَطع عَنْك من أَحْبَبْت أَن تلاقي، كَأَنِّي بهَا وَقد بلغت الْحُلْقُوم، وَأَنت فِي سَكَرَات الْمَوْت مغموم، وَقد انْقَطَعت حَاجَتك إِلَى أهلك، وَأَنت تراهم حولك، وَبقيت مرتهنا بعملك. الصَّبْر ملاك الْأَمر، وَفِيه أعظم الْأجر، فَاجْعَلْ ذكر اللَّهِ [عز وَجل] من جلّ شَأْنك، واملك فِيمَا سوى ذَلِك لسَانك.

ثمَّ بَكَى أَبُو مُعَاوِيَة بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ: أوه، من يَوْم يتَغَيَّر فِيهِ لوني، ويتلجلج فِيهِ لساني، ويجف فِيهِ ريقي /، ويقل فِيهِ زادي. [109] أخبرنَا أَحْمد بن ظفر قَالَ: أنبأ الْحسن بن أَحْمد بن الْبَنَّا قَالَ أنبا هِلَال بن مُحَمَّد قَالَ أَنا عَليّ بن أَحْمد الْمصْرِيّ قَالَ: سَمِعت عُثْمَان بن السكن قَالَ: سَمِعت مُؤذن غَزَّة قَالَ: حدثت عَن أبي الزهراء أَنه قَالَ: قدمت طرسوس فَدخلت على أبي مُعَاوِيَة، وَهُوَ مكفوف الْبَصَر، وَفِي منزله مصحف مُعَلّق، فَقلت: رَحِمك اللَّهِ، مصحف وَأَنت لَا تبصر! قَالَ: تكْتم عَليّ يَا أخي حَتَّى أَمُوت؟ قلت: نعم، قَالَ: إِنِّي إِذا أردْت أَن أَقرَأ الْقُرْآن فتح لي بَصرِي. [110] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر [الْحَافِظ] قَالَ أَنبأَنَا الْحسن بن أَحْمد قَالَ: ثَنَا ابْن أبي القواس قَالَ أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمُزَكي قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْمسيب قَالَ: سَمِعت عبد اللَّهِ بن خبيق يَقُول: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّهِ قَالَ: استطال رجل على أبي مُعَاوِيَة الْأسود، فَقَالَ لَهُ رجل: مَه. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُعَاوِيَة: دَعه يشتفي، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر الذَّنب الَّذِي سلطت عَليّ بِهِ هَذَا.

[111] أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا عَليّ بن مُحَمَّد العلاف قَالَ أنبأ عَليّ بن أَحْمد الحماس قَالَ أَنا إِسْمَاعِيل بن عَليّ الحطبي قَالَ نَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْفَهم قَالَ: سَمِعت يحيى بن معِين قَالَ: رَأَيْت أَبَا مُعَاوِيَة الْأسود وَهُوَ يلتقط الْخرق من الْمَزَابِل، فيلفقها ثمَّ يغسلهَا، فَقيل لَهُ: يَا أَبَا مُعَاوِيَة، إِنَّك تُكْسَى. فَقَالَ: مَا ضرهم مَا أَصَابَهُم فِي الدُّنْيَا، جبر اللَّهِ [عز وَجل] لَهُم بِالْجنَّةِ كل مُصِيبَة. ذُو النُّون [ثَوْبَان] بن إِبْرَاهِيم أَبُو الْفَيْض الْمصْرِيّ أَصله من النّوبَة. قَالَ أَبُو عمر فِي كتاب (أَعْيَان الموَالِي) : وَمِنْهُم ذُو النُّون بن إِبْرَاهِيم الأخميمي، كَانَ أَبوهُ إِبْرَاهِيم نوبيا. قَالَ المُصَنّف: قلت: كَانَ لإِبْرَاهِيم بنُون: ذُو النُّون، وَذُو الكفل وَعبد الْهَادِي والهميسع، وَكَانَ ذُو النُّون قد حبس، فجيء بِطَعَام، فَنَاوَلَهُ إِيَّاه السجان، فَلم يَأْكُلهُ، وَقَالَ: إِنَّه مر على يَد ظَالِم.

قَالَ ابْن الْجلاء: لقِيت سِتّمائَة شيخ، مَا لقِيت فيهم مثل أَرْبَعَة، أحدهم ذُو النُّون. [112] أخبرنَا المحمدان: ابْن نَاصِر وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا: أَنا حمد ابْن أَحْمد قَالَ أَنا أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي قَالَ ثَنَا عُثْمَان بن مُحَمَّد العثماني قَالَ قرئَ على أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الرَّازِيّ سَمِعت يُوسُف بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعت ذَا النُّون يَقُول: بِصُحْبَة الصَّالِحين تطيب الْحَيَاة، وَالْخَيْر مَجْمُوع فِي القرين الصَّالح؛ إِن نسيت ذكرك، وَإِن ذكرت أعانك. [113] أخبرنَا أَبُو بكر بن حبيب قَالَ أنبأ ابْن أبي صَادِق قَالَ أَنا ابْن باكويه قَالَ: سَمِعت فَارِسًا الْبَغْدَادِيّ يَقُول: سَمِعت يُوسُف ابْن الْحُسَيْن يَقُول: قلت لذِي النُّون وَقت مفارقتي لَهُ: من أجالس؟ قَالَ: عَلَيْك بِصُحْبَة من يذكرك اللَّهِ عز وَجل رُؤْيَته، وَتَقَع هيبته على باطنك، وَيزِيد فِي علمك مَنْطِقه، ويزهدك فِي الدُّنْيَا عمله، وَلَا تَعْصِي اللَّهِ [عز وَجل] مَا دمت فِي قربه، يعظك بِلِسَان فعله، وَلَا يعظك بِلِسَان قَوْله.

وَسمعت ذَا النُّون يَقُول: سقم الْجَسَد فِي الأوجاع، وسقم الْقُلُوب فِي الذُّنُوب، فَكَمَا لَا يجد الْجَسَد لَذَّة الطَّعَام عِنْد سقم، كَذَلِك لَا يجد الْقلب حلاوة الْعِبَادَة مَعَ الذُّنُوب. وسمعته يَقُول: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حَيْثُ لَا يعلم. [114] قَالَ ابْن باكويه: وَسمعت بكران بن أَحْمد يَقُول: سَمِعت يُوسُف بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعت ذَا النُّون يَقُول: مَا خلع اللَّهِ عز وَجل على عبد من عبيده خلعة أحسن من الْعقل، وَلَا قَلّدهُ قلادة أجمل من الْعلم، وَلَا زينه بزينة أفضل من الْحلم وَكَمَال ذَلِك كُله: التَّقْوَى. [115] أخبرنَا المحمدان ابْن نَاصِر وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا: أَنا حمد بن أَحْمد قَالَ ثَنَا أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ ثَنَا أبي قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مصقلة قَالَ ثَنَا سعيد بن عُثْمَان قَالَ: سَمِعت ذان النُّون يَقُول: من ذبح حنجرة الطمع بِسيف الْيَأْس، وردم خَنْدَق الْحِرْص ظفر بكيمياء الْخدمَة، وَمن استقى بِحَبل الزّهْد على دلو الْعُرُوق استقى

من جب الْحِكْمَة، وَمن سلك أَوديَة الكمد جنى حَيَاة الْأَبَد، وَمن حصد عشب الذُّنُوب بمنجل الْوَرع، أَضَاءَت لَهُ رَوْضَة الاسْتقَامَة، وَمن قطع لِسَانه بشفرة الصمت، وجد عذوبة الرَّاحَة، وَمن تدرع درع الصدْق، قوي على مجاهدة عَسْكَر الْبَاطِل، وَمن فَرح بمدحة الْجَاهِل ألبسهُ الشَّيْطَان ثوب الحماقة. [116] أخبرنَا عمر بن ظفر قَالَ أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أنبأ عبد الْعَزِيز بن عَليّ الْأَزجيّ قَالَ أَنا ابْن جَهْضَم قَالَ ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى قَالَ حَدثنِي يُوسُف بن الْحُسَيْن قَالَ: قَالَ الْفَتْح بن شحرف: دخلت على ذِي النُّون عِنْد مَوته فَقلت لَهُ: كَيفَ تجدك؟ فَقَالَ: (أَمُوت وَمَا مَاتَت إِلَيْك صبابتي ... وَلَا رويت من صدق حبك أوطاري) (مناي المنى كل المنى أَنْت لي منى ... رَأَيْت الْغنى كل الْغنى عِنْد إقتاري) (وَأَنت مدى سؤلي وَغَايَة رغبتي ... وَمَوْضِع آمالي ومكنون إضماري) (تضمن قلبِي مِنْك مَالك قد بدا ... وَإِن طَال سري فِيك أَو طَال إظهاري) (وَبَين ضلوعي مِنْك مَا لَا أبثه ... وَلم أَبَد بادية لأهل وَلَا جَار)

(سرائر لَا يخفى عَلَيْك خفيها ... وَإِن لم أبح حَتَّى التنادي بأسراري) (فَهَب لي نسيما مِنْك أحيى بِقُرْبِهِ ... وجد لي بيسر مِنْك يطرد إعساري) (أنرت الْهدى للمهتدين وَلم يكن ... من الْعلم فِي أَيْديهم عشر معشار) (وعلمتهم علما فبانوا بنوره ... وَبَانَتْ لَهُم مِنْهُ معالم أسرار) (مُعَاينَة للغيب حَتَّى كَأَنَّهَا لما ... غَابَ عَنْهَا مِنْهُ حَاضِرَة الدَّار) (وأخبارهم محجوبة وَقُلُوبهمْ تراك ... بأوهام حديدات أبصار) (جمعت لَهَا الْهم المفرق والتقى ... وعَلى قدر والهم يجْرِي بِمِقْدَار) (أَلَسْت دَلِيل الركب إِن هم تحيروا ... وعصمة من أَمْسَى على جرف هار) قَالَ الْفَتْح بن شحرف: فَلَمَّا ثقل قلت لَهُ: كَيفَ تجدك؟ فَقَالَ: (وَمَا لي سوى الإطراق والصمت حِيلَة ... ووضعي على خدي يَدي عِنْد تذكاري) (وَإِن طرقتني عِبْرَة بعد عِبْرَة تجرعتها ... حَتَّى إِذا عيل تصباري) (أفضت دموعا جمة مستهلة أطفي ... بهَا حرا تضمن أسراري) (فيا مُنْتَهى سؤل المحبين كلهم ... أبحني مَحل الْأنس مَعَ كل زوار) (وَلست أُبَالِي فائتا بعد فَائت ... إِذا كنت فِي الدَّاريْنِ يَا واحدي جَار) قَالَ المُصَنّف: أسْند ذُو النُّون أَحَادِيث كَثِيرَة عَن مَالك وَاللَّيْث بن

سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة والفضيل بن عِيَاض وَغَيرهم وَتُوفِّي بالجيزة، وَحمل فِي مركب إِلَى الْفسْطَاط خوفًا من زحمة النَّاس على الجسر، وَدفن فِي مَقَابِر أهل المعافر فِي ذِي الْقعدَة من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. (أَبُو الْخَيْر التيناتي) سكن التينات وَهِي قَرْيَة من قرى أنطاكية، وَيُقَال لَهُ: (الأقطع لِأَنَّهُ كَانَ مَقْطُوع الْيَد، وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه كَانَ فِي جبال أنطاكية يطْلب الْمُبَاح وينام فِي الْجبَال، وَأَنه عَاهَدَ اللَّهِ أَن لَا يَأْكُل من ثَمَر الْجبَال شَيْئا، إِلَّا مَا طرحته الرّيح، فَبَقيَ أَيَّامًا لم تطرح الرّيح إِلَيْهِ شَيْئا، فَرَأى يَوْمًا شَجَرَة كمثرى، فاشتهى مِنْهَا، فَلم يفعل، فأمالتها الرّيح إِلَيْهِ، فَأخذ وَاحِدَة وَاتفقَ أَن لصوصا قطعُوا هُنَالك الطَّرِيق، وجلسوا يقتسمون، فَوَقع عَلَيْهِم السُّلْطَان فَأَخذهُم وَأخذ مَعَهم فَقطعت أَيْديهم وأرجلهم، وَقطعت يَده فَلَمَّا هموا بِقطع رجله عرفه رجل فَقَالَ للأمير: أهلكت نَفسك، هَذَا أَبُو الْخَيْر، فَبكى الْأَمِير، وَسَأَلَهُ أَن يَجعله فِي حل فَفعل، وَقَالَ: أَنا أعرف ذَنبي. [117] أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا أَبُو بكر بن خلف قَالَ أنبأ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: سَمِعت مَنْصُور بن عبد اللَّهِ يَقُول: قَالَ أَبُو الْخَيْر:

الدَّعْوَى رعونة لَا يحْتَمل الْقلب إِِمْسَاكهَا فليلقها إِلَى اللِّسَان، فَتَنْطِق بهَا أَلْسِنَة الحمقى. قَالَ: وسمعته يَقُول: دخلت مَدِينَة الرَّسُول [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] وَأَنا بفاقة فأقمت خَمْسَة أَيَّام مَا ذقت ذواقا، فتقدمت إِلَى الْقَبْر، فَسلمت على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعَلى أبي بكر وَعمر، وَقلت: أَنا ضيفك اللَّيْلَة يَا رَسُول اللَّهِ، وتنحيت فَنمت خلف الْمِنْبَر، فَرَأَيْت فِي الْمَنَام النَّبِي وَأَبُو بكر عَن يَمِينه وَعمر عَن شِمَاله، وَعلي بن أبي طَالب بَين يَدَيْهِ، فحركني عَليّ، وَقَالَ: قُم، قد جَاءَ رَسُول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] فَقُمْت إِلَيْهِ وَقبلت بَين عَيْنَيْهِ، فَدفع إِلَيّ رغيفان فَأكلت نصفه، وانتبهت، وَإِذا فِي يَدي نصف رغيف. [118] أخبرنَا أَبُو بكر العامري قَالَ أنبأ ابْن أبي صَادِق قَالَ ثَنَا ابْن باكويه قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المراغي يَقُول: سَمِعت أَبَا الْخَيْر التيناتي يَقُول: بقيت بِمَكَّة سنة فَأَصَابَنِي ضرّ وفاقة فَكلما أردْت أَن أخرج إِلَى الْمَسْأَلَة هتف بِي هَاتِف يَقُول: الْوَجْه الَّذِي تسْجد لي بِهِ تبذله لغيري؟ [119] أخبرنَا المحمدان ابْن نَاصِر وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا أنبأ أَحْمد بن الْحسن بن خيرون قَالَ: قَرَأت على أبي الْحُسَيْن عَليّ بن مَحْمُود الصُّوفِي أخْبركُم عَليّ بن الْمثنى قَالَ: سَمِعت أَبَا الْخَيْر يَقُول:

مَا بلغ أحد إِلَى حَالَة شريفة إِلَّا بملازمة الْمُوَافقَة، ومعانقة الْأَدَب وَأَدَاء الْفَرَائِض، وصحبة الصَّالِحين، وخدمة الْفُقَرَاء الصَّالِحين [120] أخبرنَا ابْن حبيب قَالَ أنبأ ابْن أبي صَادِق قَالَ أنبأ أَبُو عبد الله الشِّيرَازِيّ قَالَ: سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن الْفضل يَقُول: خرجت من أنطاكية، وَدخلت تينات، وَدخلت على أبي الْخَيْر الأقطع على غَفلَة مِنْهُ بِغَيْر إِذن، فَإِذا هُوَ ينسج ربيلا بيدَيْهِ، فتعجبت، فَنظر إِلَيّ وَقَالَ: يَا عَدو نَفسه، مَا الَّذِي حملك على هَذَا؟ فَقلت: هيجان الوجد لما بِي من الشوق إِلَيْك، فَضَحِك، ثمَّ قَالَ لي: اقعد، لَا تعد فِي شَيْء من هَذَا بعد الْيَوْم، ثمَّ قَالَ: اسْتُرْ عَليّ فِي حَياتِي. فَفعلت. قَالَ الشِّيرَازِيّ: وَسمعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد السباك يَقُول: كُنَّا نطلع على أبي الْخَيْر التيناتي من الخوخة وَهُوَ يشق الخوص بِيَدِهِ فَإِذا خرج رَأَيْنَاهُ أقطع. [121] أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْجريرِي قَالَ أنبأ أَبُو طَالب العشاري قَالَ ثَنَا مبادر بن عبد اللَّهِ الرقي قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر الْمصْرِيّ يَقُول: سَمِعت فَقِيرا من أَصْحَابنَا يعرف بِالْأَنْصَارِيِّ يَقُول: دخلت على أبي الْخَيْر فناولني تفاحتين فجعلتها فِي جيبي، وَقلت: لَا أتناولهما وأتبرك بهما لموْضِع الشَّيْخ عِنْدِي، فَكَانَت تجْرِي

عَليّ فاقات لَا أتناولهما، فأجهدتني الْفَاقَة، فأخرجت وَاحِدَة فَأَكَلتهَا، وأدخلت يَدي لأخرج الثَّانِيَة، فَإِذا التفحاحتان مكانهما فَمَا زلت آكل مِنْهُمَا حَتَّى دخلت الْموصل، فجزت على خراب، فَإِذا بعليل يُنَادي من الخراب: يَا نَاس، أشتهي تفاحة، وَلم يكن وَقت التفاح، فأخرجت التفاحتين، فناولتهما إِيَّاه فَأكل، وَخرجت روحه، فَعلمت أَن الشَّيْخ أَعْطَانِي من أجل ذَلِك العليل [122] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبأ عبد الْعَزِيز بن عَليّ قَالَ أَنا ابْن جَهْضَم قَالَ: ثَنَا بكير بن مُحَمَّد قَالَ: كنت عِنْد أبي الْخَيْر فِي جمَاعَة فتذاكروا الكرامات، فَقَالَ: كم تَقولُونَ فلَان مَشى إِلَى مَكَّة فِي لَيْلَة، أَنا أعرف عبدا حَبَشِيًّا كَانَ جَالِسا فِي جَامع أطرابلس وَرَأسه فِي جنب مرقعته فخطر لَهُ ظَبْيَة الْحرم، فَقَالَ فِي سره: يَا لَيْتَني كنت بِالْحرم، ثمَّ أمسك، فتغامز الْجَمَاعَة، وَأَجْمعُوا على أَنه ذَلِك الرجل. توفّي أَبُو الْخَيْر بعد الْأَرْبَعين وثلاثمائة. (مقبل الْأسود) [123] أَنبأَنَا يحيى بن الْحسن بن الْبَنَّا قَالَ أَنبأَنَا القَاضِي أَبُو يعلى

مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: حكى لنا أَبُو بكر أَحْمد بن إِسْحَاق بن سكينَة الْأَزجيّ عَن أبي الْحسن بن خيرون صَاحب أبي بكر عبد الْعَزِيز قَالَ: قَالَ لي أَبُو بكر عبد الْعَزِيز: كنت مَعَ أستاذي يَعْنِي أَبَا بكر الْخلال وَأَنا غُلَام مشتد فَاجْتمع جمَاعَة يتذاكرون بعد عشَاء الْآخِرَة، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أَلَيْسَ مقبل - يعنون رجلا أسود كَانَ ناظورا بِبَاب حَرْب - لنا مُدَّة مَا رَأَيْنَاهُ؟ فَقَامُوا يقصدونه، وَقَالَ لي أستاذي - يَعْنِي الْخلال -: لَا تَبْرَح، احفظ الْبَاب. فتركتهم حَتَّى مضوا وأغلقت الْبَاب وتبعتهم. فَلَمَّا بلغنَا بعض الطَّرِيق، قَالَ: هُوَ ذَا أرى وَرَاءَنَا شخصا، فوقفوا، فَقَالُوا لي: من أَنْت؟ فَأَمْسَكت فَزعًا من أستاذي، فَقَالَ أحدهم لأستاذي: بِاللَّه عَلَيْك إِلَّا تركته فتركني ومضيت مَعَهم، فَدَخَلْنَا إِلَى قراح فِيهِ باذنجان، وَالْأسود قَائِم يُصَلِّي، فَسَلمُوا وجلسوا إِلَى أَن سلم، وَأخرج كيسا فِيهِ كسر يابسة وملح جريش، وَقَالَ: كلوا، فَأَكَلُوا وتحدثوا وَأخذُوا يذكرُونَ كرامات الْأَوْلِيَاء وَهُوَ سَاكِت، فَقَالَ وَاحِد من الْجَمَاعَة: يَا مقبل، قد زرناك فَمَا حَدَّثتنَا بِشَيْء فَقَالَ: أَي شَيْء أَنا، وَأي شَيْء عِنْدِي أحَدثك، أَنا أعرف رجلا لَو سَأَلَ اللَّهِ تَعَالَى أَن يَجْعَل هَذَا القراح الباذنجان ذَهَبا لفعل، فوَاللَّه مَا استتم الْكَلَام حَتَّى رَأَيْت القراح يتقد ذَهَبا، فَقَالَ لَهُ أستاذي - يَعْنِي الْخلال -: يَا مقبل: هَل لأحد سَبِيل أَن يَأْخُذ من هَذَا القراح أصلا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: خُذ، وَكَانَ القراح مستنبتا، فَأخذ أستاذي الأَصْل فقلعه بعروقه وَجَمِيع مَا فِيهِ ذهب فَوَقَعت من الأَصْل باذنجانة صَغِيرَة وَشَيْء من الْوَرق فَأَخَذته، وبقاياه معي إِلَى يومي. قَالَ: ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ وَسَأَلَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَاد القراح

كَمَا كَانَ، وَعَاد مَكَانَهُ ذَلِك الأَصْل أصل باذنجان آخر. (حَامِد الْأسود) كَانَ زوج أُخْت إِبْرَاهِيم الْخَواص، وَكَانَ صَالحا، وَكَانَ سَافر مَعَ الْخَواص على التَّوَكُّل. (أَبُو حَمَّاد الْأسود) [124] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أَبُو حَمَّاد الْأسود وَيعرف بالزنجي من أستاذي أبي الْحُسَيْن الرُّوذَبَارِي ذكر عَنهُ عَليّ بن مُحَمَّد المزين أَنه جلس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بحذاء الْكَعْبَة ثَلَاثِينَ سنة لَا يخرج إِلَّا لطهارة الصَّلَاة وَمَا رُؤِيَ أكل وَلَا شرب. وَقَالَ أَبُو الْحسن المزين: كَانَ أَبُو حَمَّاد إِذا تُوجد يبيض، وَإِذا ذهب، وَجهه يسود. (صُهَيْب الْأسود) [125] أَنبأَنَا عَليّ بن عبيد اللَّهِ عَن أبي الْحُسَيْن بن الْمُهْتَدي عَن أبي حَفْص ابْن شاهين قَالَ: نَا عمر بن الْحسن قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن سيف قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ حَدثنِي ابْن أبي بكر الْمقدمِي قَالَ نَا جَعْفَر الضبعِي عتن مَالك بن دِينَار قَالَ: كَانَ بِمَكَّة عبد أسود يُقَال لَهُ صُهَيْب فَكَانَت مولاته تَقول

لَهُ: يَا صُهَيْب قد أفسدت نَفسك عَليّ؛ أما النَّهَار فصائم، وَأما اللَّيْل فَأَنت قَائِم. قَالَ: يَقُول: يَا مولاتي إِذا ذكرت النَّار طَار نومي، وَإِذا ذكرت الْجنَّة اشْتَدَّ شوقي.

(فصل) (فَأَما من لم نَعْرِف اسْمه من عباد الْقَوْم وزهادهم فَمنهمْ: عَابِد من أهل الْمَدِينَة) [126] أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم هبة اللَّهِ بن أَحْمد الحريري قَالَ أَنبأَنَا أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ العشاري قَالَ أَنبأَنَا يُوسُف بن عمر القواس إجَازَة قَالَ أنبأ أَبُو الْفضل الْخُرَاسَانِي قَالَ نَا سعيد بن عُثْمَان قَالَ نَا مُحَمَّد بن يحيى الْكِنْدِيّ قَالَ نَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَن أبي عبد ربه عَن مُوسَى بن جَابَان عَن أنس ابْن مَالك قَالَ: شهِدت عمر بن الْخطاب وجاءه مَمْلُوك أسود فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَلَيْسَ اللَّهِ عز وَجل يَقُول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} ، قَالَ: بلَى. قَالَ: فَإِنِّي أَخُوك، فَقُمْ معي لحَاجَة لتعينني عَلَيْهَا، فَوَثَبَ عمر فَوضع يَده فِي يَد الْأسود، فَانْطَلق بِهِ إِلَى خص لَهُ بِالبَقِيعِ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما خشيت اللَّهِ عز وَجل أَن تأوي إِلَى ظلّ، وَأَنا فِي سملة بالية قذرة أتزر بِبَعْضِهَا وأفترش بَعْضهَا، وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَا أحللتك حَتَّى أتعلق بك يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ لي مِنْك الْحق بِمَا أغفلتني فَصَرَخَ عمر، وَوضع التُّرَاب على رَأسه، وَجعل يَقُول: واعمراه، ثكلت عمر أمه، يَا أسود الْعَفو. فَبكى الْأسود وَقَالَ: قد غفرت لَك فَأمر لَهُ عمر بكسوة وَنَفَقَة، فَقَالَ: أما الْكسْوَة فأقبلها مِنْك، وَأما النَّفَقَة فَلَا حَاجَة لي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عمر: وَلم؟ قَالَ: أَخَاف

إِن أَمْسَكت الدَّرَاهِم أَن أفتتن بحبها، فودعه عمر، ثمَّ جهد بعد ذَلِك فِي طلبه وَسَأَلَ عَنهُ، فَلم يدر أَيْن سلك. (عَابِد آخر مدنِي) [127] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر الْحَافِظ قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد بن السراج قَالَ أنبأ أَبُو الْقَاسِم عبيد اللَّهِ بن عمر بن شاهين قَالَ نَا أبي قَالَ ثَنَا أَحْمد بن سعد بن إِبْرَاهِيم الزُّهْرِيّ قَالَ نَا عبيد اللَّهِ بن عمر قَالَ نَا صَالح بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: كَانَت لي سَارِيَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ جِئْت فتساندت إِلَى ساريتي فجَاء رجل أسود تعلوه صفرَة متزر بكساء وعَلى رقبته كسَاء أَصْغَر مِنْهُ، فَتقدم إِلَى السارية الَّتِي بَين يَدي. فَكنت خَلفه، فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ جلس فَقَالَ: أَي رب خرج أهل حرم بَيْتك يستسقون فَلم تسقهم، فَأَنا أقسم عَلَيْك لما سقيتهم. قَالَ ابْن الْمُنْكَدر: فَمَا وضع يَده حَتَّى سَمِعت الرَّعْد، ثمَّ جَاءَت السَّمَاء بِشَيْء من الْمَطَر أهمني الرُّجُوع إِلَى أَهلِي، فَلَمَّا سمع الْمَطَر حمد اللَّهِ محامدا لم أسمع بِمِثْلِهَا قطّ. قَالَ: ثمَّ قَالَ: وَمن أَنا؟ وَمَا أَنا حَيْثُ اسْتُجِيبَ لي، وَلَكِن عذت بحَمْدك وعذت بطولك، ثمَّ قَامَ فتوشح بكسائه الَّذِي كَانَ متزرا بِهِ، وَألقى الكساء الآخر الَّذِي كَانَ على ظَهره فِي رجلَيْهِ، ثمَّ قَامَ فَلم يزل قَائِما يُصَلِّي حَتَّى إِذا أحس الصُّبْح سجد وأوتر، وَصلى رَكْعَتي الصُّبْح، ثمَّ أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح، فَدخل مَعَ النَّاس فِي الصَّلَاة وَدخلت مَعَه، فَلَمَّا سلم الإِمَام قَامَ فَخرج، وَخرجت خَلفه حَتَّى انْتهى إِلَى بَاب الْمَسْجِد، فَخرج يرفع ثَوْبه يَخُوض المَاء، فَخرجت خَلفه رَافعا ثوبي أخوض

المَاء، فَلم أدر أَيْن ذهب، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الثَّانِيَة صليت الْعشَاء فِي مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجئْت إِلَى ساريتي فتوسدت إِلَيْهَا، وَجَاء فَقَامَ فتوشح بكسائه وَألقى الكساء الآخر الَّذِي كَانَ على ظَهره فِي رجلَيْهِ وَقَامَ يُصَلِّي، فَلم يزل قَائِما حَتَّى إِذا خشِي الصُّبْح، سجد، ثمَّ أوتر، ثمَّ صلى رَكْعَتي الْفجْر، وأقيمت الصَّلَاة، فَدخل مَعَ النَّاس فِي الصَّلَاة فَدخلت مَعَه، فَلَمَّا سلم الإِمَام خرج من الْمَسْجِد، وَخرجت خَلفه، فَجعل يمشي، وَأتبعهُ حَتَّى دخل دَارا قد عرفتها من دور الْمَدِينَة، وَرجعت إِلَى الْمَسْجِد، فَلَمَّا طلعت الشَّمْس وَصليت خرجت حَتَّى أتيت الدَّار فَإِذا أَنا بِهِ قَاعد يخرز، وَإِذا هُوَ أسكاف، فَلَمَّا رَآنِي عرفني وَقَالَ: أَبَا عبد اللَّهِ، مرْحَبًا، لَك حَاجَة؟ تُرِيدُ أَن أَن أعمل لَك خفا؟ فَجَلَست فَقلت: أَلَسْت صَاحِبي بارحة الأولى؟ فاسود وَجهه وَصَاح وَقَالَ: يَا ابْن الْمُنْكَدر، مَا أَنْت وَذَاكَ، وَغَضب فَفَزِعت وَالله مِنْهُ، وَقلت: أخرج من عِنْده الْآن. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة صليت الْعشَاء الْآخِرَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ أتيت ساريتي فتساندت إِلَيْهَا فَلم يَجِيء. قَالَ: قلت: إِنَّا لله، مَا صنعت؟ فَقَالَ: فَلَمَّا أَصبَحت جَلَست فِي الْمَسْجِد حَتَّى طلعت الشَّمْس، ثمَّ خرجت حَتَّى أتيت الدَّار الَّتِي كَانَ فِيهَا فَإِذا بَاب الدَّار مَفْتُوح وَإِذا لَيْسَ فِي الْبَيْت شَيْء، فَقَالَ لي أهل الدَّار: يَا أَبَا عبد اللَّهِ، مَا كَانَ بَيْنك وَبَين هَذَا أمس؟ قلت: مَا لَهُ؟ قَالُوا: لما خرجت من عِنْده أمس بسط كساءه فِي وسط الْبَيْت، ثمَّ لم يدع فِي بَيته جلدا وَلَا قالبا إِلَّا وَضعه فِي كسائه، ثمَّ حمله، فَلم ندر أَيْن ذهب؟ قَالَ ابْن الْمُنْكَدر: فَمَا تركت فِي الْمَدِينَة دَارا أعلمها إِلَّا وَقد طلبته فِيهَا فَلم أَجِدهُ.

(عَابِد آخر) [128] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبأ أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف الْوَاعِظ قَالَ أنبأ أَبُو الْحسن عبد السَّلَام بن عبد الْملك بن حبيب قَالَ ثَنَا جَعْفَر بن أَحْمد بن سِنَان قَالَ نَاصِر بن عَليّ قَالَ حَدثنِي الْأَصْمَعِي عَن أبي مودود عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: أَبْطَأَ الْمَطَر سنة فَجئْت إِلَى الْمَسْجِد فَإِذا رجل أسود عِنْد الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ اسقنا السَّاعَة، فَرعدَت وأبرقت، فَقَالَ: يَا رب لَيْسَ هَذَا أُرِيد، ثمَّ مطرَت، فَقَامَ: واتبعته حَتَّى أَتَى دَار آل حزم، فَأَتَيْته فعرضت عَلَيْهِ دَرَاهِم فأبي، فَقلت: هَذَا أَوَان الْحَج فَتخرج معي؟ فَقَالَ: هَذَا من الْخَيْر، وَلَك فِيهِ أجر، فَخرج معي. (عَابِد أسود من أهل مَكَّة) [129] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ ثَنَا جَعْفَر بن أَحْمد بن السراج قَالَ أنبأ عبد الْعَزِيز بن الْحسن بن إِسْمَاعِيل الضراب قَالَ ثَنَا أبي قَالَ ثَنَا أَحْمد ابْن مَرْوَان الْمَالِكِي قَالَ نَا سُلَيْمَان بن الْحسن قَالَ ثَنَا أبي قَالَ: قَالَ ابْن الْمُبَارك: قدمت مَكَّة فَإِذا النَّاس قد قحطوا من الْمَطَر وهم يستسقون فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فَكنت فِي النَّاس مِمَّا يَلِي بَاب بني شيبَة، إِذْ أقبل غُلَام أسود

عَلَيْهِ قطعتا خيش قد ائتزر بِإِحْدَاهُمَا، وَألقى الْأُخْرَى على عَاتِقه، فَصَارَ فِي مَوضِع خَفِي إِلَى جَانِبي فَسَمعته يَقُول: إلهي، أخلقت الْوُجُوه كَثْرَة الذُّنُوب ومساوئ الْأَعْمَال، وَقد منتعنا غيث السَّمَاء لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يَا حَلِيمًا ذَا أَنَاة، يَا من لَا يعرف عباده مِنْهُ إِلَّا الْجَمِيل، اِسْقِهِمْ السَّاعَة السَّاعَة. قَالَ: فَلم يزل يَقُول: السَّاعَة السَّاعَة حَتَّى اسْتَوَت بالغمام وَأَقْبل الْمَطَر من كل مَكَان، وَجلسَ مَكَانَهُ يسبح، وَأخذت أبْكِي، فَقَامَ فتبعته حَتَّى عرفت مَوْضِعه فَجئْت إِلَى الفضيل بن عِيَاض فَقَالَ لي: مَا لي أَرَاك باكيا؟ فَقلت: سبقنَا إِلَيْهِ غَيرنَا، فتولاه دُوننَا. قَالَ: وَمَا ذَاك؟ فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، فصاح وَسقط، وَقَالَ: وَيحك يَا ابْن الْمُبَارك، خذني إِلَيْهِ. قلت: قد ضَاقَ الْوَقْت وسأبحث عَن شَأْنه. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد صليت الْغَدَاة، وَخرجت أُرِيد الْموضع فَإِذا شيخ على الْبَاب قد بسط لَهُ وَهُوَ جَالس فَلَمَّا رَآنِي عرفني، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، حَاجَتك. فَقلت لَهُ: احتجت إِلَى غُلَام أسود، فَقَالَ: نعم، عِنْدِي عدَّة فاختر أَيهمْ شِئْت، فصاح: يَا غُلَام. فَخرج غُلَام جلد، فَقَالَ: هَذَا مَحْمُود الْعَاقِبَة أرضاه لَك. فَقلت: لَيْسَ هَذَا حَاجَتي، فَمَا زَالَ يخرج وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى أخرج إِلَيّ الْغُلَام، فَلَمَّا بصرت بِهِ بدرت عَيْنَايَ، فَقَالَ: هَذَا؟ قلت: نعم، فَقَالَ: لَيْسَ إِلَيّ بَيْعه سَبِيل،

قلت: وَلم؟ قَالَ: قد تبركت بموضعه فِي الدَّار، وَذَلِكَ أَنه لَا يرزؤني شَيْئا، قلت: وَمن أَيْن طَعَامه؟ قَالَ: يكْسب من فتل الشريط نصف دانق وَأَقل وَأكْثر فَهُوَ قوته، فَإِن بَاعه فِي يَوْمه وَإِلَّا طوى ذَلِك الْيَوْم. وَأَخْبرنِي الغلمان عَنهُ: أَنه لَا ينَام هَذَا اللَّيْل الطَّوِيل، وَلَا يخْتَلط بِأحد مِنْهُم، مهتم بِنَفسِهِ، وَقد أحبه قلبِي، فَقلت لَهُ: انْصَرف إِلَى سُفْيَان الثَّوْريّ والفضيل بَين عِيَاض بِغَيْر قَضَاء حَاجَة؟ فَقَالَ: إِن ممشاك عِنْدِي كَبِير، خُذْهُ بِمَا شِئْت. قَالَ: فاشتريته، فَأَخَذته نَحْو دَار الفضيل بن عِيَاض، فمشيت سَاعَة فَقَالَ لي: يَا مولَايَ، قلت: لبيْك. قَالَ: لَا تقل لي لبيْك، فَإِنَّهُ العَبْد أولى بِأَن يُلَبِّي من الْمولى. قلت: حَاجَتك يَا حَبِيبِي؟ قَالَ: أَنا ضَعِيف الْبدن لَا أُطِيق الْخدمَة، وَقد كَانَ لَك فِي غَيْرِي سَعَة، قد أخرج إِلَيْك من هُوَ أجلد مني. فَقلت: لَا يراني اللَّهِ وَأَنا استخدمك، وَلَكِن أَشْتَرِي لَك منزلا وأزوجك وأخدمك أَنا بنفسي. قَالَ: فَبكى. فَقلت لَهُ: مَا يبكيك؟ قَالَ: أَنْت لم تفعل بِي هَذَا إِلَّا وَقد رَأَيْت بعض متصلاتي بِاللَّه عز وَجل، وَإِلَّا فَلم اخترتني من بَين أُولَئِكَ الغلمان؟ فَقلت لَهُ: لَيْسَ بك حَاجَة إِلَى هَذَا. فَقَالَ: سَأَلتك بِاللَّه إِلَّا اخترتني فَقلت: بإجابة دعوتك. فَقَالَ: إِنِّي أحسبك

إِن شَاءَ اللَّهِ [تَعَالَى] رجلا صَالحا. إِن لله عز وَجل خيرة من خلقه لَا يكْشف شَأْنهمْ إِلَّا لمن أحب من عباده، وَلَا يظْهر عَلَيْهِم إِلَّا من ارتضى، ثمَّ قَالَ لي: ترى أَن تقف عَليّ قَلِيلا، فَإِنَّهُ قد بقيت عَليّ رَكْعَات من البارحة. قلت: هَذَا منزل الفضيل قريب. قَالَ: لَا، هَاهُنَا أحب إِلَيّ، أَمر اللَّهِ [عز وَجل] لَا يُؤَخر. فَدخل من بَاب الباعة إِلَى الْمَسْجِد فَمَا زَالَ يُصَلِّي حَتَّى إِذا أَتَى عَليّ مَا أَرَادَ الْتفت إِلَيّ وَقَالَ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، هَل من حَاجَة؟ قلت: وَلم؟ قَالَ: لِأَنِّي أُرِيد الإنصراف. قلت إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى الْآخِرَة. قلت: لَا تفعل، دَعْنِي أسر بك. فَقَالَ لي: إِنَّمَا كَانَت تطيب الْحَيَاة حَيْثُ كَانَت الْمُعَامَلَة بيني وَبَينه تَعَالَى، فَأَما إِذا اطَّلَعت عَلَيْهَا أَنْت فسيطلع عَلَيْهَا غَيْرك فَلَا حَاجَة لي فِي ذَلِك. ثمَّ خر لوجهه فَجعل يَقُول: إلهي، اقبضني السَّاعَة السَّاعَة. فدنوت مِنْهُ فَإِذا هُوَ قد مَاتَ. فوَاللَّه مَا ذكرته [قطّ] إِلَّا طَال حزني [عَلَيْهِ] ، وصغرت الدُّنْيَا فِي عَيْني. (عَابِد أسود بغدادي) [130] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور الْحَافِظ قَالَ أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد قَالَ أَنبأَنَا أَبُو عبد اللَّهِ بن بطة العكبري قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن

الْحُسَيْن قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الطشي قَالَ: حَدثنِي أَبُو جَعْفَر السقا قَالَ: خرجت يَوْمًا من بَيْتِي فِي وَقت مطير فَإِذا أسود مطروح على مزبلة مَرِيض فجررته فأدخلته إِلَى بَيْتِي، فَلَمَّا أمسينا دَعَاني، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَر، لَا تفْسد مَا صنعت، اقعد عِنْدِي، وفاح الْبَيْت برِيح الْمسك وَصَارَ ريح جبتي وكسائي وجرتي وكوزي وكل شَيْء فِي الْبَيْت ريح الْمسك. قَالَ: فَقَالَ: اقعد عِنْدِي، ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ: هَكَذَا لَا تضيق عَليّ جلسائي. قَالَ: فَسَمعته يَقُول: أيدك اللَّهِ أيدك اللَّهِ ارْفُقْ بِي يَا مولَايَ قَالَ: ثمَّ خرجت نَفسه. قَالَ: قلت: أبيع كسائي، أبيع جبتي، وأشتري لَهُ كفنا. قَالَ: فطرق بَابي قريب من سبعين إنْسَانا كل يَقُول: يَا أَبَا جَعْفَر: مَاتَ عنْدك إِنْسَان يحْتَاج إِلَى كفن. (عَابِد أسود بَصرِي) [131] أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ أنبأ حمد بن أَحْمد قَالَ أنبأ أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد اللَّهِ قَالَ أَنا أَبُو الْأَزْهَر ضَمرَة بن حَمْزَة الْمَقْدِسِي فِي كِتَابه. وحَدثني عَنهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: ثَنَا عبد الله بن سعيد الْهَاشِمِي قَالَ نَا أبي قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن إِدْرِيس عَن مَالك بن دِينَار قَالَ: احْتبسَ علينا الْمَطَر بِالْبَصْرَةِ فخرجنا يَوْمًا بعد يَوْم نستسقي فَلم نر أثر الْإِجَابَة،

فَخرجت أَنا وَعَطَاء السّلمِيّ وثابت الْبنانِيّ وَمُحَمّد بن وَاسع وحبِيب الْفَارِسِي وَصَالح المري فِي آخَرين حَتَّى صرنا إِلَى الْمصلى بِالْبَصْرَةِ فاستسقينا، فَلم نر أثر الْإِجَابَة، وَانْصَرف النَّاس، وَبقيت أَنا وثابت [الْبنانِيّ] فِي الْمصلى، فَلَمَّا أظلم اللَّيْل بِالسَّوَادِ إِذا أَنا بأسود دَقِيق السَّاقَيْن، عَظِيم الْبَطن عَلَيْهِ مئزران من صوف، فجَاء إِلَى مَاء، فتمسح ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ خفيفتين، ثمَّ رفع طرفه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: سَيِّدي، إِلَيّ كم تردد عِبَادك فِيمَا لَا ينْقصك، أنفد مَا عنْدك؟ أَقْسَمت عَلَيْك بحبك لي إِلَّا مَا سقيتهم غيثك السَّاعَة السَّاعَة. فَمَا أتم الْكَلَام حَتَّى تغيمت السَّمَاء، وأخذتنا كأفواه الْقرب، فَمَا خرجنَا حَتَّى خضنا المَاء، فتعجبنا من الْأسود فتعرضت لَهُ فَقلت: أما تَسْتَحي مِمَّا قلت؟ قَالَ: وَمَا قلت؟ فَقلت: قَوْلك بحبك لي، وَمَا يدْريك أَنه يحبك. فَقَالَ: تَنَح عَن همتي يَا من اشْتغل عَنهُ بِنَفسِهِ، أَيْن كنت أَنا حِين خصني بتوحيده ومعرفته؟ أَتَرَى خصني بذلك إِلَّا لمحبته. ثمَّ بَادر يسْعَى، فَقلت: ارْفُقْ بِنَا فَقَالَ: أَنا مَمْلُوك عَليّ فرض من من طَاعَة مالكي الصَّغِير فَدخل دَار نخاس، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أتيت على النخاس فَقلت لَهُ: عنْدك غُلَام تبيعنيه للْخدمَة؟ قَالَ: نعم، عِنْدِي مائَة غُلَام، فَجعل يخرج إِلَيّ وَاحِدًا بعد وَاحِد،

وَأَنا أَقُول: غير هَذَا. إِلَى أَن قَالَ: مَا بَقِي عِنْدِي أحد فَلَمَّا خرجنَا إِذا بالأسود قَائِم فِي حجرَة خربة فَقلت: بِعني هَذَا. فَقَالَ: هَذَا غُلَام مُشَوه لَا همة لَهُ إِلَّا الْبكاء. فَقلت: وَذَلِكَ أريده، فَدَعَاهُ وَقَالَ لي: خُذْهُ بِمَا شِئْت بعد أَن تبرئني من عيوبه. فاشتريته بِعشْرين دِينَارا، فَلَمَّا خرجنَا قَالَ: يَا مولَايَ، لم اشتريتني؟ قلت: لنخدمك نَحن. قَالَ: وَلم ذَاك؟ قلت: أَلَيْسَ أَنْت صاحبنا البارحة فِي الْمصلى؟ قَالَ: وَقد اطَّلَعت على ذَلِك؟ فَجعل يمشي حَتَّى دخل مَسْجِدا فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: إلهي وسيدي سر كَانَ بيني وَبَيْنك أظهرته للمخلوقين، أَقْسَمت عَلَيْك إِلَّا قبضت روحي السَّاعَة. فَإِذا هُوَ ميت، فبقبره نستسقي ونطلب الْحَوَائِج إِلَى يَوْمنَا هَذَا. (عَابِد آخر أسود بَصرِي) [132] أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ أنبأ أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفَتْح قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الدقاق قَالَ نَا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ نَا أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ حَدثنَا جدي أَبُو السكن الطَّائِي قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن هَارُون بن مُسلم. قَالَ: وحَدثني عبد الْوَاحِد

ابْن زيد قَالَ: خرجت إِلَى نَاحيَة الخريبة فَإِذا إِنْسَان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة لَهُ بالجذام وَعمي وأقعد، وَإِذا صبيان يرمونه بِالْحِجَارَةِ قد دموا وَجهه، فرأيته يُحَرك شفتين، فدنوت مِنْهُ لأسْمع مَا يَقُول: فَإِذا هُوَ يَقُول: يَا سَيِّدي، إِنَّك لتعلم أَنَّك إِن قرضت لحمي بِالْمَقَارِيضِ ونشرت عِظَامِي بالمناشير مَا ازددت لَك إِلَّا حبا، فَاصْنَعْ بِي مَا شِئْت. (عَابِد أسود من عبادان) [133] أخبرنَا أَبُو بكر بن حبيب قَالَ أنبأ أَبُو سعد بن أبي صَادِق قَالَ أَنا ابْن باكويه قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو عبد اللَّهِ الشِّيرَازِيّ قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْخيرَات الْمَعْرُوف بالعسقلاني قَالَ: كَانَ بعبادان رجل زنجي مفلفل الشّعْر يأوي الخرابات، فَحملت معي شَيْئا وطلبته، فَلَمَّا وَقع بَصَره عَليّ تَبَسم، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض، فَرَأَيْت حوالي إِلَى حَيْثُ أرى دَرَاهِم ودنانير تلمع، ثمَّ قَالَ لي: هَات مَا مَعَك. فناولته، وهربت وهالني أمره.

(عَابِد آخر لَقِي بطرِيق مَكَّة) [134] أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز قَالَ أنبأ أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن أَحْمد بن رزق قَالَ أنبأ أَحْمد بن سلمَان الْفَقِيه قَالَ ثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا قَالَ حَدثنِي مشرف بن أبان قَالَ: سَمِعت صَالح بن عبد الْكَرِيم قَالَ: رَأَيْت غُلَاما أسود فِي طَرِيق مَكَّة عِنْد ميل يُصَلِّي، فَقلت لَهُ: عبد أَنْت؟ قَالَ: نعم. قلت: فَعَلَيْك ضريبة؟ قَالَ: نعم. قلت: أَفلا أكلم مَوْلَاك أَن يضع عَنْك. قَالَ: وَمَا الدُّنْيَا كلهَا فأجزع من ذلها. قَالَ: فاشتريته فأعتقته فَقعدَ يبكي، وَقَالَ لي: أعتقتني؟ قلت: نعم. قَالَ: أعتقك الله يَوْم الْقِيَامَة، وَقعد يبكي وَيَقُول: اشْتَدَّ عَليّ الْأَمر، فناولته دَنَانِير فَأبى أَن يَأْخُذهَا، قَالَ: فحججت بعد ذَلِك بِأَرْبَع سِنِين. فَسَأَلت عَنهُ، فَقَالُوا: غَابَ عَنَّا، فمذ غَابَ قحطنا، وَصَارَ إِلَى جدة. (عَابِد آخر) [135] أخبرنَا أَحْمد بن أَحْمد المتوكلي قَالَ أنبأ أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ أنبأ عَليّ بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَزَّاز قَالَ أنبأ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمصْرِيّ قَالَ نَا أَحْمد بن مُحَمَّد الطوسي قَالَ نَا دَاوُد بن رشيد قَالَ: حَدثنِي

الصبيح والمليح شابان كَانَا يتعبدان بِالشَّام سميا: الصبيح والمليح لحسن عبادتهما - قَالَ: جعنا يَوْمًا فَقلت لصاحبي أَو قَالَ لي: اخْرُج بِنَا إِلَى الصَّحرَاء الْعليا نرى رجلا نعلمهُ بعض دينه لَعَلَّ اللَّهِ أَن ينفعنا بِهِ، فَلَمَّا ضجرنا استقبلنا أسود على رَأسه حزمة حطب، فَدَنَوْنَا مِنْهُ، فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، من رَبك؟ فَرمى بالحزمة عَن رَأسه وَجلسَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: لَا تقولا لي من رَبك؟ - وَلَكِن قولا لي: أَيْن مَحل الْإِيمَان من قَلْبك؟ فَنَظَرت إِلَى صَاحِبي وَنظر إِلَيّ صَاحِبي، ثمَّ قَالَ: سلا، سلا؛ فَإِن المريد لَا تَنْقَطِع مسَائِله. فَلَمَّا رآنا لَا نجيز جَوَابا قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن لَك عبادا كلما سألوك أَعطيتهم فحول حزمتي هَذِه ذَهَبا. فرأيناها قضبان ذهب يلتمع، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن لَك عبادا الخمول أحب إِلَيْهِم من الشُّهْرَة فَردهَا حطبا. فَرَجَعت وَالله حطبا. ثمَّ حملهَا على رَأسه وَمضى، فَلم نجسر أَن نمنعه. (عَابِد آخر) [136] أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك قَالَ أنبأ أَبُو الْحسن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ الْخياط قَالَ نَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ أنبا ابْن صَفْوَان قَالَ: ثَنَا أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ:

حَدثنِي رجل من آل أبي بكرَة عَن مَيْمُون بن سياه قَالَ: كنت أَنا وخَالِد الربعِي وَنَفر من أَصْحَابنَا نذْكر اللَّهِ [عز وَجل] ، فَوقف علينا رجل أسود فَقَالَ: هَل ذكرْتُمْ الْمَوْت فِيمَا كُنْتُم فِيهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: إِنَّا لنذكره كثيرا، وَمَا ذَكرْنَاهُ يَوْمنَا هَذَا. قَالَ: فَبكى، وَقَالَ: لقد غفلتم مَا لَا يغفلكم، ونسيتم مَا يحصي عَلَيْكُم الأنفاس لقدومه عَلَيْكُم. قَالَ: ثمَّ مَال ليسقط، وسانده رجل من الْقَوْم فَخرجت نَفسه، وَأَنا أنظر إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَظَرْنَا فَلم نجد أحدا نعرفه، فغسلناه وحنطناه وكفناه ودفناه. (عَابِد من عباد السواحل) [137] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ نَا عبد الْعَزِيز بن الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الضراب قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ نَا أَحْمد ابْن مَرْوَان الْمَالِكِي قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن مَحْبُوب يَقُول: حَدثنِي جدي قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم بن أدهم يَقُول: دخلت حصنا من حصون السَّاحِل وَأَنا مجتاز، وَقد أخذتني السَّمَاء فَدخلت

إِلَى أتون وَقلت: أقعد سَاعَة حَتَّى يهدأ الْمَطَر فَإِذا أسود يُوقد فِيهِ فَسلمت وَقلت لَهُ: تَأذن لي إِلَى أَن يسكن الْمَطَر؟ فَأَوْمأ إِلَيّ أَن ادخل، فَدخلت فَجَلَست حذاءه، فَجعلت أنظر إِلَيْهِ وَلَا ُأكَلِّمهُ، وَهُوَ يُوقد وَلَا يكلمني، ويحرك شَفَتَيْه ويلتفت يَمِينا وَشمَالًا لَا يفتر، فَلَمَّا أصبح أقبل عَليّ فَقَالَ: لَا تلمني إِن لم أحسن ضيافتك وَأَقْبل عَلَيْك؛ إِنِّي عبد مَمْلُوك، وَقد وكلت بِمَا ترى، فَكرِهت أَن أشتغل عَن مَا وكلت بِهِ. قلت: فَمَا كَانَ التفاتك يَمِينا وَشمَالًا لَا تفتر؟ قَالَ: خوفًا من الْمَوْت، وَقد علمت أَنه نَازل بِي، وَلَكِن لم أعلم من أَيْن يأتيني؟ وَلَا مَتى يأتيني؟ فَقلت: فَمَا تحرّك شفتيك؟ قَالَ: أَحْمد اللَّهِ وأهلله وأسبحه لِأَنَّهُ بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ لبَعض أَصْحَابه: اعْمَلْ، لَا يَأْتِيك الْمَوْت إِلَّا وَلِسَانك رطب من ذكر اللَّهِ عز وَجل. قَالَ إِبْرَاهِيم: فَبَكَيْت وَصحت صَيْحَة، وَقلت: برز عَلَيْك الْأسود يَا إِبْرَاهِيم.

(الباب الثالث والعشرون)

(الْبَاب الثَّالِث وَالْعشْرُونَ) (فِي ذكر المتعبدات من السوداوات فَمن المعروفات الْأَسْمَاء) (مَيْمُونَة السَّوْدَاء) [138] أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد قَالَ نَا حمد بن أَحْمد الْحداد قَالَ نَا أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْحَافِظ قَالَ نَا عُثْمَان بن مُحَمَّد العثماني قَالَ نَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد قَالَ ثَنَا عمر بن مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ: سَمِعت أَبَا جَعْفَر الصفار يَقُول: سَمِعت الْفَيْض بن إِسْحَاق الرقي يَقُول: سَمِعت الفضيل بن عِيَاض يَقُول: قَالَ عبد الْوَاحِد بن زيد: سَأَلت اللَّهِ عز وَجل ثَلَاث لَيَال أَن يريني رفيقي فِي الْجنَّة، فَرَأَيْت كَأَن قَائِلا يَقُول: يَا عبد الْوَاحِد رفيقك فِي الْجنَّة مَيْمُونَة السَّوْدَاء، فَقلت: وَأَيْنَ هِيَ؟ فَقَالَ: فِي آل بني فلَان بِالْكُوفَةِ قَالَ: فَخرجت إِلَى الْكُوفَة، وَسَأَلت عَنْهَا، فَقيل: هِيَ مجنوعة بَين ظهرانينا ترعى غنيمات لنا - فَقلت: أُرِيد أَن أَرَاهَا. قَالُوا: خرجت إِلَى الجبان. فَخرجت فَإِذا بهَا قَائِمَة تصلي، وَإِذا بَين يَديهَا عكاز لَهَا، وَعَلَيْهَا جُبَّة من صوف عَلَيْهَا مَكْتُوب: لَا تبَاع وَلَا تشترى، وَإِذا الْغنم مَعَ الذئاب.، فَلَا الذئاب

تَأْكُل الْغنم، وَلَا الْغنم تخَاف الذئاب، فَلَمَّا رأتني أوجزت فِي صلَاتهَا، ثمَّ قَالَت: ارْجع يَا ابْن زيد، لَيْسَ الْموعد هَاهُنَا، إِنَّمَا الْموعد ثمَّ. فَقلت: رَحِمك اللَّهِ، وَمن أعلمك أَنِّي ابْن زيد؟ فَقَالَت: أما علمت أَن الْأَرْوَاح جنود مجندة، فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف، وَمَا تناكرمنها اخْتلف. فَقلت لَهَا: عظيني؟ فَقَالَت: وَاعجَبا لواعظ يوعظ! ثمَّ قَالَت: يَا ابْن زيد، إِنَّك لَو وضعت معايير الْقسْط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مَكْنُون مَا فِيهَا، يَا ابْن زيد، إِنَّه بَلغنِي أَنه مَا من عبد أعطي من الدُّنْيَا شَيْئا فابتغي إِلَيْهِ ثَانِيًا إِلَّا سلبه اللَّهِ [تَعَالَى] حب الْخلْوَة مَعَه، وبدله بعد الْقرب الْبعد، وَبعد الْأنس الوحشة، ثمَّ أنشأت تَقول: (يَا واعظا قَامَ لاحتساب ... يزْجر قوما عَن الذُّنُوب) (تنْهى وَأَنت السقيم حَقًا ... هَذَا من الْمُنكر العجيب) (لَو كنت أصلحت قبل هَذَا ... عيبك أوتبت من قريب) (كَانَ لما قلت يَا حَبِيبِي ... موقع صدق من الْقُلُوب) (تنْهى عَن الغي والتمادي ... وَأَنت فِي النَّهْي كالمريب) فَقلت لَهَا: إِنِّي أرى هَذِه الذئاب مَعَ الْغنم، فَلَا الْغنم تفزع من الذئاب وَلَا تَأْكُل الذئاب الْغنم، فَأَي شَيْء هَذَا؟ فَقَالَت: إِلَيْك، فَإِنِّي

أصلحت مَا بيني وَبَينه، فَأصْلح مَا بَين الذئاب وَالْغنم. (شعوانة من أهل الأبلة) [139] أخبرنَا المحمدان ابْن نَاصِر وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا أَنبأَنَا جَعْفَر ابْن أَحْمد قَالَ أنبأ أَحْمد بن عَليّ النوري قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الدقاق قَالَ نَا أَبُو عَليّ بن صَفْوَان قَالَ نَا أَبُو بكر بن عبيد قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن قَالَ: نَا معَاذ بن الْفضل قَالَ: بَكت شعوانة حَتَّى خفنا عَلَيْهَا الْعَمى، فَقُلْنَا لَهَا فِي ذَلِك، فَقَالَت: أعمى وَالله فِي الدُّنْيَا من الْبكاء، أحب إِلَيّ من أَن أعمى فِي الْآخِرَة من النَّار. قَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: وحَدثني مَالك بن ضيغم قَالَ: كَانَ رجل من أهل الأبلة يَأْتِي أبي كثيرا وَيذكر لَهُ شعوانة وَكَثْرَة بكائها فَقَالَ لَهُ أبي يَوْمًا: صف بكاءها. فَقَالَ: مَا أصف لَك! هِيَ وَالله تبْكي اللَّيْل وَالنَّهَار لَا تكَاد تفتر. قَالَ مَالك: وَقَالَ لي أبي: انْطلق حَتَّى تَأتي هَذِه الْمَرْأَة الصَّالِحَة فتنظر إِلَيْهَا، فَانْطَلَقت مَعَ رجل فَقَالَ لَهَا: هَذَا ابْن أَخِيك ضيغم، فرحبت بِي، وَقَالَت: مرْحَبًا يَا ابْن من لم نره، وَنحن نحبه، أما وَالله يَا بني إِنِّي لمشتاقة إِلَى

أَبِيك، وَمَا يَمْنعنِي من إِتْيَانه، إِلَّا أَنِّي أَخَاف أَن أشغله عَن خدمَة سَيّده، وخدمة سَيّده، أولى من محادثة شعوانة، ثمَّ قَالَت: وَمن شعوانة؟ وَمَا شعوانة؟ أمة سَوْدَاء عاصية. قَالَ: ثمَّ أخذت فِي الْبكاء، فَلم تزل تبْكي حَتَّى خرجنَا وتركناها. قَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: وحَدثني يحيى بن بسطَام قَالَ: استأذنا على شعوانة فَأَذنت، فَإِذا منزل رث الْهَيْئَة، أثر الخرب عَلَيْهِ بَين، فَقَالَ لَهَا صَاحب لي: لَو رفقت بِنَفْسِك فقصرت من هَذَا الْبكاء شَيْئا كَانَ أقوى لَك على مَا تريدين. ثمَّ قَالَت: وَالله لَوَدِدْت أَنِّي أبْكِي حَتَّى تنفد دموعي، ثمَّ أبْكِي الدِّمَاء حَتَّى لَا تبقى فِي جَسَدِي جارحة فِيهَا قَطْرَة من دم، وأنى لي بالبكاء. قَالَ مُحَمَّد: وحَدثني روح بن سَلمَة قَالَ: قَالَ لي مُضر: مَا رَأَيْت أحدا أقوى على كَثْرَة الْبكاء من شعوانة، وَلَا سَمِعت صَوتا قطّ أحرق لقلوب الْخَائِفِينَ من صَوتهَا إِذا هِيَ نشجت، ثمَّ تَقول: يَا موتى وَبني الْمَوْتَى وإخوة الْمَوْتَى. قَالَ مُحَمَّد: وَقلت لأبي عمر الضَّرِير: أتيت شعوانة؟ قَالَ: قد شهِدت مجلسها مرَارًا، مَا كنت أفهم مَا تَقول من كَثْرَة بكائها. وَسمعتهَا تَقول: من

اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يبكي فليبك، وَإِلَّا فَارْحَمْ الباكي، فَإِن الباكي إِنَّمَا يبكي لمعرفته بِمَا أَتَى إِلَى نَفسه. [140] قَالَ أَبُو بكر الْقرشِي: وحَدثني الْحَارِث بن مُحَمَّد التَّمِيمِي قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن سُهَيْل عَن الْحَارِث بن الْمُغيرَة قَالَ: كَانَت شعوانة تنوح بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: (يؤمل دنيا لتبقى لَهُ ... فَوَافى الْمنية قبل الأمل) (حينا يروي أصُول الفسيل ... فَعَاشَ الفسيل وَمَات الرجل) [141] أخبرتنا شهدة بنت أَحْمد قَالَت أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أنبأ أَحْمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ نَا مُحَمَّد بن عبيد اللَّهِ الْقطيعِي قَالَ نَا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْقرظِيّ قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك قَالَ: قدمت شعوانة وَزوجهَا مَكَّة فَجعلَا يطوفان ويصليان، فَإِذا كل وأعيا جلس وَجَلَست خَلفه، فَيَقُول هُوَ فِي جُلُوسه: أَنا العطشان من حبك لَا أروى، وَهِي تَقول بِالْفَارِسِيَّةِ: أنبت لكل دَاء دَوَاء فِي الْجبَال، ودواء المحبين فِي الْجبَال لم ينْبت. (تَحِيَّة النوبية) [142] أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ أَنبأَنَا رزق اللَّهِ بن

عبد الْوَهَّاب عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: سَمِعت الْمَالِينِي الصُّوفِي يَقُول: دخلت [على] تَحِيَّة زَائِرًا فسمعتها من دَاخل الْبَيْت تَقول فِي مناجاتها: يَا من يحبني وأحبه. فَقلت: يَا تَحِيَّة، من أَيْن تعلمين أَنه يحبك؟ فَقَالَت: كنت فِي بلد النّوبَة، وأبواي كَانَا نَصْرَانِيين، وَكَانَت أُمِّي تحملنِي إِلَى الْكَنِيسَة وتجيء بِي إِلَى الصَّلِيب، وَتقول: قبلي الصَّلِيب فَإِذا هَمَمْت بذلك أرى كفا تخرج فَترد وَجْهي حَتَّى لَا أقبله، فَعلمت أَن عنايته بِي قديمَة.

(فصل) فَأَما المجهولات الْأَسْمَاء من متعبداتهن فمنهن (أم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة) كَانَت جَارِيَة سندية سَوْدَاء من سبي الْيَمَامَة، فَصَارَت إِلَى عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ. [143] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أَنبأَنَا أَبُو عمر بن حيويه قَالَ ثَنَا مُحَمَّد بن خلف قَالَ أنبأ أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عمر قَالَ أنبأ عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر قَالَت: رَأَيْت أم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سندية سَوْدَاء، وَكَانَت أمة لبني حنفية، وَلم تكن مِنْهُم، فَإِنَّمَا صَالحهمْ خَالِد بن الْوَلِيد على الرَّقِيق، وَلم يصالحهم على أنفسهم. (عابدة مَكِّيَّة) [144] أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن حبيب قَالَ أنبأ أَبُو سعد

ابْن أبي صَادِق قَالَ نَا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن باكويه قَالَ نَا بشر بن أَحْمد قَالَ نَا جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ أنبأ إِسْحَاق بن بشر الرَّازِيّ قَالَ: نَا الصَّباح بن محَارب قَالَ نَا الْمثنى بن الصَّباح قَالَ: كَانَ عَطاء وَمُجاهد يَخْتَلِفَانِ إِلَى جَارِيَة سَوْدَاء إِلَى نَاحيَة مَكَّة تبكيهما، ثمَّ يرجعان. (عابدة كوفية) [145] أخبرنَا المحمدان ابْن أبي مَنْصُور وَابْن عبد الْبَاقِي قَالَا أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ أنبأ أَبُو التوزي قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الدقاق قَالَ أنبأ الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن [مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن مُوسَى الصايغ قَالَ حَدثنَا عبد اللَّهِ بن نَافِع قَالَ: أُتِي الرّبيع بن خثيم فِي مَنَامه فَقيل لَهُ: إِن فُلَانَة السَّوْدَاء زَوجتك فِي الْجنَّة، فَلَمَّا أصبح سَأَلَ عَنْهَا فَدلَّ عَلَيْهَا، فَإِذا هِيَ ترعى أَعْنُزًا، فَقَالَ: لأقيمن عِنْدهَا فَأنْظر مَا عَملهَا؟ فَأَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا لَا يَرَاهَا تزيد على الْفَرِيضَة، فَإِذا أمست جَاءَت إِلَى عنز لَهَا فحلبت ثمَّ شربت ثمَّ حلبت فسقته، فَقَالَ هلا فِي الْيَوْم الثَّالِث: يَا هَذِه، أَلا تَسْقِنِي من هَذِه العنز. قَالَت: يَا عبد اللَّهِ، إِنَّهَا لَيست لي قَالَ: فَلم تَسْقِنِي من هَذِه؟ قَالَت: إِن هَذِه منحتها أشْرب من لَبنهَا، وأسقي من

شِئْت، فَقَالَ: يَا هَذِه، فَلَيْسَ لَك من الْعَمَل أَكثر مِمَّا أرى؟ قَالَت لَهُ: لَا إِلَّا أَنِّي مَا أَصبَحت على حَال قطّ فتمنيت أَنِّي على حَال سواهَا، وَلَا أمسيت على حَال قطّ فتمنيت أَنِّي على حَال سواهَا رِضَاء بِمَا قسمه اللَّهِ [عز وَجل] لي، فَقَالَ: يَا هَذِه، علمت أَنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام أَنَّك زَوْجَتي فِي الْجنَّة؟ قَالَت لَهُ: فَأَنت الرّبيع بن خَيْثَم. فَقلت لعبد الله بن نَافِع: كَيفَ علمت هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهَا أَن تكون رَأَتْ فِي منامها مثل مَا رأى. (عابدة بصرية) [146] وَبِالْإِسْنَادِ قَالَ الْقرشِي: وحَدثني أَبُو عبد اللَّهِ أَحْمد بن بجير عَن صَالح بن عبد الْكَرِيم قَالَ: رَأَيْت امْرَأَة سَوْدَاء بِالْبَصْرَةِ، وَالنَّاس مجتمعون عَلَيْهَا، ثمَّ قَامَت فَدخلت دَارا فَدَخَلُوا مَعهَا وَأَحْدَقُوا بهَا، فدنوت مِنْهَا فَقلت: يَا هَذِه، أما تَخَافِينَ الْعجب؟ فَرفعت رَأسهَا وَنظرت [لي ثمَّ قَالَت: كَيفَ يعجب بِعَمَلِهِ من لَا يدْرِي لَعَلَّه قد رد عَلَيْهِ؟ ! (عابدة لقِيت فِي [تيه] بني إِسْرَائِيل) [147] أخبرنَا أَبُو بكر بن حبيب قَالَ أنبأ أَبُو سعد بن أبي صَادِق

قَالَ نَا أَبُو عبد الله بن باكويه قَالَ ثَنَا عَليّ بن حَفْص قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن زَنْجوَيْه قَالَ نَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن هَارُون الصُّوفِي قَالَ نَا مُحَمَّد بن الْحسن الْمصْرِيّ قَالَ: سَمِعت ذَا النُّون الْمصْرِيّ يَقُول: بَيْنَمَا أَنا أَسِير فِي تيه بني إِسْرَائِيل إِذا أَنا بِجَارِيَة سَوْدَاء قد استلبها الوله من حب الرَّحْمَن شاخصة ببصرها نَحْو السَّمَاء، فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا أختاه، فَقَالَت: وَعَلَيْكُم السَّلَام يَا ذَا النُّون، فَقلت لَهَا: من أَيْن عَرفتنِي يَا جَارِيَة؟ فَقَالَت: إِن اللَّهِ عز وَجل خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بألفي عَام، ثمَّ أدارها حول الْعَرْش فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف، وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف، فَعرفت روحي روحك فِي ذَلِك الجولان. قلت: إِنِّي لأرَاك حكيمة، علميني شَيْئا مِمَّا علمك اللَّهِ. فَقَالَت: يَا أَبَا الْفَيْض، ضع على جوارحك ميزَان الْقسْط حَتَّى يذوب كل مَا كَانَ لغير اللَّهِ [عز وَجل] ، وَيبقى الْقلب مصفى لَيْسَ فِيهِ غير الرب جلّ وَعز فَعِنْدَ ذَلِك يقيمك على الْبَاب ويوليك ولَايَة جَدِيدَة، وَيَأْمُر الْخيرَات لَك [بِالطَّاعَةِ، فَقلت: يَا أختاه زيديني] فَقَالَت: يَا أَبَا الْفَيْض خُذ من نَفسك لنَفسك، وأطع رَبك إِذا خلوت، يجيبك إِذا دَعَوْت.

(عابدة أُخْرَى) [148] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن عبد الْملك بن بَشرَان قَالَ أَنا أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ بن عَطِيَّة قَالَ ثَنَا عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد قَالَ نَا عبد اللَّهِ بن جَعْفَر بن فَارس قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ نَا إِبْرَاهِيم بن الْجُنَيْد قَالَ نَا أَحْمد بن المؤمل قَالَ: نَا زَكَرِيَّا بن يحيى الطَّائِي قَالَ: أرِي إِبْرَاهِيم فِي مَنَامه كَأَنَّهُ يُقَال لَهُ: زَوجتك فِي الْجنَّة فُلَانَة السَّوْدَاء جَارِيَة بني فلَان من الْموصل راعية معزاهم فَمضى إِبْرَاهِيم نَحْو الْموصل، فَسَأَلَ عَن الْقَوْم فَدلَّ عَلَيْهِم، فَسَأَلَهُمْ عَن الْجَارِيَة، فَقَالُوا: هِيَ فِي المعزى ترعاها، فَخرج إِلَيْهَا فِي الصَّحرَاء وَإِذا حبشية ولهى، فَقَالَ لَهَا: السَّلَام عَلَيْك يَا هَذِه، فَقَالَت: وَعَلَيْك السَّلَام [وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاته] من أَنْت؟ قَالَ لَهَا: زَوجك فِي الْجنَّة، قَالَت: إِن كنت صَادِقا، فَأَنت إِبْرَاهِيم بن أدهم.

(الباب الرابع والعشرون)

(الْبَاب الرَّابِع وَالْعشْرُونَ) (فِي ذكر من كَانَ يُؤثر الْجَوَارِي السود على الْبيض وَمن كَانَ يعشقهن وَمن مَاتَ من عشقهن) [149] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أنبأ عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد قَالَ أَنا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أَنا أَبُو عمر بن حيويه قَالَ أنبأ أَبُو بكر مُحَمَّد بن خلف الْمَرْزُبَان [قَالَ] ثَنَا عبد اللَّهِ بن عَمْرو الْبَلْخِي قَالَ نَا الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي عمي مُصعب بن عبد اللَّهِ قَالَ: كَانَ عبد اللَّهِ بن أبي بكر الصّديق [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] يحب جَارِيَة لَهُ سَوْدَاء، وَكَانَت قد شغلت قلبه فَنَهَاهُ أَبُو بكر [رَضِي اللَّهِ عَنهُ] عَنْهَا فتجافي لَهَا، فِي قلبه مِنْهَا شَيْء وَقَالَ: (أحب لحبها السودَان حَتَّى ... أحب لحبها سود الْكلاب) [150] [قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن حبيب قَالَ: أَخْبرنِي هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يعْزل عَن جَارِيَة لَهُ سَوْدَاء] . قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي أَحْمد بن زُهَيْر قَالَ: أَخْبرنِي مُصعب بن عبد اللَّهِ الزبيرِي قَالَ: أَخْبرنِي عبد اللَّهِ بن رَبَاح الْعجْلَاني قَالَ: إِنِّي لفي مَسْجِد

منى إِذْ أَبْصرت بِأبي الجليد الْفَزارِيّ وَاقِفًا على جَارِيَة سَوْدَاء كَأَنَّهَا صنم، فملت إِلَيْهِ، فَقلت: مَا لي أَرَاك هَاهُنَا. قَالَ: أصوب بَصرِي وأصاعده فِي هَذِه الْجَارِيَة وأتمناها على اللَّهِ [عز وَجل] وَأَنْشَأَ يَقُول: (أَلا يُصِبْنِي أَجلي فأحترم ... أشتر من مَالِي ضناكا كالصنم) (عريضة المعطس خشناء الْقدَم ... تكون أم وَلَدي وتختدم) قَالَ مُصعب: وَكَانَ أَبُو الجليد أَعْرَابِيًا بدويا عَلامَة، فَرَأَيْت الضَّحَّاك بن عُثْمَان يروي مِنْهُ وَيَأْخُذ عَنهُ. [151] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي عبد اللَّهِ بن شبيب قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْجَعْفَرِي قَالَ حَدثنِي حَكِيم بن طَلْحَة الْفَزارِيّ قَالَ حَدثنِي سيار بن نجيح قَالَ: طلبت ابْن ميادة فَقيل لي: خرج أمس فَعرفت أَنه ذهب فِي اتِّبَاع أمة بني سهل، فغبت فِي بغائه، فَوَقَعت عَلَيْهِ فِي قرارة بَيْضَاء قد حفت بحرة سَوْدَاء، وَإِذا غنم، وَإِذا حمَار ابْن ميادة مُقَيّد، وَهُوَ مَعهَا تَحت سَمُرَة وَكَانَت الْأمة سَوْدَاء فَسلمت وَجَلَست، فَأقبل ابْن ميادة على الْأمة فَقَالَ لَهَا: أنشديهم مَا قلت فِيك فأنشدتنا: (تمنونني مِنْك اللِّقَاء وإنني لأعْلم ... لَا أَلْقَاك من دون بابل)

(إِلَى ذَاك مَا جَاءَت أُمُور وَمَا انْقَضتْ ... غيابة حبيك أنجاد المخايل) (وحالت شهور الْحَج بيني وَبَينهَا ... وَرفع الأعادي كل حق وباطل) (أَقُول لعذالي لما تقابلا عَليّ ... بلوم مثل طعن المعايل) (فَلَا تكثرن فِيهَا الهجا فَإِنَّهَا ... مصلصلة من بعض تِلْكَ الصلاصل) (من الصفر لأورها سمح دلالها ... وَلَيْسَت من الْبيض الْقصار الحوائل) (وَلكنهَا رَيْحَانَة طَابَ نشرها ... بأجرح تندي بالضحى والأصايل) قَالَ سيار: فَقلت: مَالك لَا تشتربها؟ فَقَالَ: إِذا يقتل حبها. [152] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وحَدثني إِسْحَاق بن أبان قَالَ، حَدثنِي مُحَمَّد بن سَلام قَالَ: عرض إِنْسَان أسود لامْرَأَة كَانَ لَهَا ابْن عَم يعشقها فأجابت الْأسود، فَقَالَ ابْن عَمها: (شابت أعالي قروني وانجلى بَصرِي ... فَمَا أحدث عَن قمرية الْوَادي) (نبئت أَن غرابا ظلّ محتضا قمرية ... فَوق أَغْصَان وأعواد) قَالَ: وأنشدني بَعضهم: (قَالُوا تعشقها سمراء قلت لَهُم ... لون الغوالي ولون الْمسك وَالْعود)

(إِنِّي امْرُؤ لَيْسَ شَأْن الْبيض مرتفعا ... عِنْدِي وَلَو خلت الدُّنْيَا من السود) قَالَ: وأنشدت لأبي الشيص فِي جَارِيَة كَانَت لَهُ سَوْدَاء وَكَانَ اسْمهَا تبر: (لم تنصفي يَا سميَّة الذَّهَب ... تتْلف نَفسِي وَأَنت فِي لعب) (يَا بنت عَم الْمسك الذكي ... وَمن لولاه لم يجتني وَلم يطب) (ناسبك الْمسك فِي السوَاد ... وَفِي الرّيح فَأكْرم بِذَاكَ من نسب) قَالَ: وأنشدني أَبُو مُحَمَّد العباسي لبَعْضهِم: (أَقُول لمن عَابَ السوَاد سفاهة ... وللسود قوم عائبون وحسد) (وعيب سَواد اللَّوْن إِن قيل حالك ... وَهَذَا سَواد الْمسك وَالْعود أسود) (وَهَذَا سَواد الرُّكْن يشفى بلسمه ... ويهوى إِلَيْهِ بِالرُّكُوعِ وَيسْجد) (وَلَوْلَا سَواد الْعين لم يكن طرفها ... صَحِيحا وذمت طرفها حِين ترقد) (وَلَو علم الْمهْدي لونا يفوق ... لألوى بِهِ راياته حِين تعقد) [153] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن بن الْعَبَّاس بن أبي حَاتِم قَالَ قَالَ لي أبي: كَانَ عندنَا بِالْبَصْرَةِ رجل من المهالبة يعشق زنجية كَانَت لبَعض جيراننا، فَلم يزل يدس إِلَى مولاتها حَتَّى اشْتَرَاهَا، وَكَانَت قد شغلت قلبه عَن أَهله فَعَاتَبَهُ فِي أمرهَا جمَاعَة من أَهله وإخوانه فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْلهم.

[154] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي إِسْحَاق بن أبان عَن الْعُتْبِي أَنه قَالَ فِي جَارِيَة سَوْدَاء كَانَت لَهُ: (ثكلتها أَن لم يكن وَجههَا ... أحسن عِنْدِي من رُجُوع الشَّبَاب) قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأنْشد لأبي عَليّ الْبَصِير: (أسكرتني سكرا بِغَيْر شراب ... وَأَتَتْ إِذْ أَتَت بِأَمْر عُجاب) (لم ترجع بِآيَة من كتاب اللَّهِ ... حَتَّى نسيت أم الْكتاب) (لم يعبها اسْتِحَالَة اللَّوْن عِنْدِي ... إِنَّهَا صبغة كلون الشَّبَاب) قَالَ: وأنشدني بعض أهل الْأَدَب: (أَهْدَت لقلبك صبوة وَفَسَادًا ... ولجفن عَيْنك عِبْرَة وسهادا) (من كَانَ يرغب فِي الْبيَاض ... لحسنه فَأَنا الْمعَارض بالبياض سوادا) (لَا ينفذ القرطاس فِي حاجاته ... حَتَّى تنمق ساحتيه مدادا) (نَفسِي الْفِدَاء لَك خود طفلة ... سَوْدَاء أقربت الْفُؤَاد بعادا) [155] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي الْحَارِث قَالَ: قَالَ الْمَدَائِنِي: اتخذ الفرزدق على النوار جَارِيَة زنجية فأحبها فَولدت لَهُ جَارِيَة، وَكَانَ يُحِبهَا

ويمدح الزنج. [156] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وحَدثني مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ حَدثنِي بعض الشاميين عَن أبي زيد الدِّمَشْقِي قَالَ: حَدثنِي جَعْفَر بن زِيَاد الشَّامي قَالَ: هوى رجل منا جَارِيَة سَوْدَاء فلامه أَهله على ذَلِك، وَقَالُوا: عشقت سَوْدَاء! فَأَنْشَأَ يَقُول: (يكون الْخَال فِي خد قَبِيح ... فيكسره الملاحة والجمالا) (فَكيف يلام إِنْسَان على من يرَاهُ ... كُله فِي الْعين خالا) [157] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وأنشدني أَحْمد بن حبيب [لأبي حَفْص] الشطرنجي فِي دَنَانِير جَارِيَة يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَكَانَت سَوْدَاء: (أشبهك الْمسك وأشبهته ... قَائِما فِي لَونه قَاعِدَة) (لاشك إِذْ لونكما وَاحِد ... أنكما من طِينَة وَاحِدَة) [158] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَحدثنَا مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن أبي الْحسن الْمَدِينِيّ قَالَ: كَانَ ليزِيد بن مُعَاوِيَة جَارِيَة سَوْدَاء وَكَانَ يُحِبهَا، فَخَلا بهَا يَوْمًا وَعلمت امْرَأَته، فَأَتَت الْموضع فَمَال إِلَيْهَا وَترك السَّوْدَاء واستحى مِنْهَا.

قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَسمعت بعض أهل الْأَدَب يَقُول: بَلغنِي أَن رجلا عوتب فِي سَوْدَاء كَانَ يُحِبهَا فَقَالَ: وَالله مَا صلحت إِلَّا أَن تقطع خيلانا فِي خدود القيان. [159] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأخْبرنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي عَن أَبِيه قَالَ: اعْترض الْفضل بن الرّبيع جواري، وَكَانَ فِيهِنَّ جَارِيَة سَوْدَاء، وَكَانَ لَهَا لِسَان وبنان وحلاوة وشكل، فَوَقَعت بِقَلْبِه فكلمها، فَرَأى سرعَة جوابها، فَزَاد إعجابا، فاشتراها. قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وأنشدني أَحْمد بن جَعْفَر الْكَاتِب لبَعْضهِم: (أحب الْجَوَارِي الْأدم من أجل تكْتم ... وَمن أجلهَا أَحْبَبْت من كَانَ أسودا) (فجئني بِمثل الْمسك أطيب رَاحَة ... وجئني بِمثل اللَّيْل أطيب مرقدا) قَالَ: وأنشدني أَبُو عبد الله الأسباطي: (ألم تَرَ أَن الْمسك مِنْهُ حصية بِمَال ... وَأَن الْملح وقر بدرهم) (وَأَن سَواد الْعين فِي الْعين نورها ... وَمَا لبياض الْعين نور فيفهم) قَالَ: وأنشدت لإسماعيل بن أبي هَاشم مولى آل الزبير: (جَارِيَة مجدولة من الْحَبَش ... فِي وَجههَا آثَار كي ونمش) (كَأَنَّهَا غُصْن تثنى يَوْم طش ... )

وَله أَيْضا: (نوبية طيبَة الأردان ... تخطر فِي حلَّة أرجوان) (كَأَنَّهَا غُصْن من الأغصان ... ) قَالَ: وأنشدت لِابْنِ الجهم حب أَدَم النِّسَاء من سنة الظّرْف على أَنه جمال الْقُلُوب: (كَيفَ يهوى الْفَتى الظريف ... وصال الْبيض شُبُهَات المشيب) (وأصل الْأدم مشبهات سَواد الْعين ... والمسك فِي نعيم وَطيب) (مشبهات السوَاد والمسك تفديكن ... نَفسِي من نائبات الخطوب) [160] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: كَانَ لمُحَمد بن عبد الْملك الْأَسدي جَارِيَة سَوْدَاء فأحبها وَولدت لَهُ. قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو الْفضل الأيادي قَالَ: وحَدثني الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْعَتكِي قَالَ أنبأ الصَّقْر بن عبد اللَّهِ الْمَكِّيّ قَالَ: كَانَ عندنَا بِمَكَّة رجل يُقَال لَهُ: الحسام بن قدامَة مشتهرا بحب السود، وَكَانَ إخوانه يلومونه على ذَلِك وَلَا يرجع، وَكَانَت لَهُ فِيهِنَّ أشعار كَثِيرَة فَمِنْهَا: (لَا تلوما فلات حِين ملامة ... أزهق الْحبّ نَفسه والمستهامة) (فتنته بشكلهن الْجَوَارِي ... والجواري فِي شكلهن غَرَامَة)

(يَا جواري حَدثنِي بحياتي ... هَل عليكن فِي هلاكي قسَامَة) (صَاح إِن القيان غير امتراء ... سَوف يقتلنني وَرب الْقِيَامَة) (فَإِذا مت فاجمعوا الحرميات ... وصفراء مولدات الْيَمَامَة) (والثقال الحقائب الْمَدَنِيَّات ... ذَوَات المضاحك البسامة) (ثمَّ قومُوا على الْحجُون فصيحوا ... يَا قَتِيل القيان يَا بن قدامَة) [161] قَالَ ابْن الْمَرْزُبَان: وَأَخْبرنِي أَبُو الْفضل الأيادي عَن أبي دَاوُد المصاحفي قَالَ: كَانَت للنضر بن شُمَيْل جَارِيَة سَوْدَاء قد أدبها وخرجها وفرحها، وَكَانَت فصيحة، وَكَانَ يمِيل إِلَيْهَا ويحبها، قَالَ: فَقَالَت لي يَوْمًا - وَقد ذاكرتها بالشعر -: الغ عَن هَذَا، فَإِنَّهُ حرفه كُله، وَالله مَا زَالَ بيتنا قفرا مَا كَانَ فِيهِ: (عفت الديار محلهَا فمقامها ... وآذنتنا بَينهَا أَسمَاء) وأشباههما حَتَّى أبدلنا اللَّهِ [عز وَجل] بذلك فخصبت رحلنا وَأمن بيتنا فَجعلت أعجب من تَخْلِيصهَا وجودة تمييزها. [162] أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ

أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ أنبأ ابْن حيويه قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن خلف قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن بكير عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: كَانَ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج يتَمَثَّل بِهَذَا الْبَيْت: (فَمن يَك معجبا ببنات كسْرَى ... فَإِنِّي معجب ببنات حام) قَالَ مُحَمَّد بن خلف: وَأَخْبرنِي بعض أهل الْأَدَب قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيل بن جَامع قد تزوج بالحجاز جَارِيَة سَوْدَاء مولاة لقوم يُقَال لَهَا مَرْيَم، فَلَمَّا صَار من الرشيد بالموضع الَّذِي صَار بِهِ اشتاق إِلَى السَّوْدَاء، فَقَالَ يذكرهَا، وَيذكر الْموضع الَّذِي كَانَ يألفها بِهِ، ويجتمعان فِيهِ -: (هَل لَيْلَتي بفضاء الحصحاص عايدة ... فِي قبَّة ذَات أشراج وأزرار) (تسمو مجامرهما بالمندلي كَمَا ... تسمو بجنابه أَفْوَاج إعصار) (الْمسك يَبْدُو إِلَيْنَا من غلائلها ... والعنبر الْورْد تذكيه على النَّار) (وَمَرْيَم بَين أتراب منعمة طورا ... وطورا تغنيني بأوتار) فَقَالَ لَهُ الرشيد - وَقد سمع شعره -: وَيلك، من مريمك هَذِه الَّتِي قد وصفتها صفة الْحور الْعين؟ قَالَ: زَوْجَتي، فوصفها كلَاما أَضْعَاف مَا وصفهَا شعرًا. فَأرْسل الرشيد إِلَى الْحجاز فَإِذا هِيَ سَوْدَاء طمطانية ذَات مشافر فَقَالَ لَهُ: وَيلك، هَذِه مَرْيَم الَّتِي مَلَأت الدُّنْيَا بذكرها؟ قَالَ: يَا

سَيِّدي، إِن عمر بن عبد اللَّهِ ابْن أبي ربيعَة يَقُول: (فتضاحكن وَقد قُلْنَ لَهَا ... حسن فِي كل عين من تود) [163] أَنبأَنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ أنبأ أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أَنبأَنَا الْحسن بن عَليّ قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن الْعَبَّاس قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن خلف قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق بن مُحَمَّد الْكُوفِي قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي قَالَ: قَالَ أَبُو السَّائِب الْمدنِي: كَانَت بِالْمَدِينَةِ قينة، وَكَانَت من أَجود النَّاس غناء، فاشتراها رجل من بني هَاشم، وَكَانَت تهوى غُلَاما أسود من أهل الْمَدِينَة، فَقَالَ لَهَا مَوْلَاهَا يَوْمًا: غَنِي، فأنشأت تَقول: (إِذا شَاب الغرب نسيت ليلِي ... وهيهات المشيب من الْغُرَاب) (أحب لحبها السودَان حَتَّى ... أحب لحبها سود الْكلاب) فَقَالَ الْمولى: وَالله مَا أَنا بأسود، فَمن عنيت؟ قَالَت: فلَانا قَالَ: أتحبيه؟ فَقَالَت: إِي وَالله، قَالَ: فَلَا عذر فِي حَبسك عَنهُ، وهيئت أحسن تهيئة، ثمَّ بعث بهَا إِلَيْهِ. [164] قَالَ ابْن خلف: وَأخْبرنَا أَبُو حَاتِم السجسْتانِي قَالَ أنبأ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى قَالَ: كَانَ ابْن الدمينة يتتبع أمة سَوْدَاء لبَعض الْحَيّ، فعذله أَهله وعشيرته على ذَلِك، فَأَبت نَفسه إِلَّا اتباعها فشكوا ذَلِك مِنْهُ إِلَى

أَمِير الْمُؤمنِينَ فحبسه، فَأَقَامَ فِي الْحَبْس شهرا. [165] قَالَ ابْن خلف: وأنشدني أَبُو عبد اللَّهِ بن أبي مُحَمَّد لبَعض شعراء أهل الْبَصْرَة. (قَالُوا الْبيَاض على علاته حسن ... كَمَا السوَاد على علاته سمج) (هَل تُوصَف الْعين فِي تغير لحظتها ... إِن لم تحسنها الأجفان والدعج) (أَو يشرق الدّرّ فِي الأجياد مبسما ... حَتَّى يكون مدَار اللبة السبج) (يَا نفس صبرا على حر الْهوى أبدا ... مَا بعد ذَا الْحبّ إِلَّا الْمَوْت والفرج) [166] قَالَ ابْن خلف: وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن بن بشير قَالَ: أنبأ مُحَمَّد بن إِسْحَاق المسيني قَالَ نَا الْفَروِي عَن الْمَاجشون قَالَ: كَانَت جليدة السَّوْدَاء صَبِيحَة مُتَقَدّمَة فِي الصباحة حلوة فرآها مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن عَمْرو بن عُثْمَان فَوَقَعت فِي نَفسه، فَأرْسل يخطبها سرا، فَأَبت إِلَّا النِّكَاح الظَّاهِر، وَقَالَت: لَا أكون إِلَّا عارا على السودَان. فتسلى عَنْهَا. [167] قَالَ ابْن خلف: وَأَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن مُوسَى قَالَ: دخلت على مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْمهْدي - وَقد قعد مَعَ جواريه فاحتشمت، فَقَالَ لي: لَا

تحتشم، ثمَّ قَالَ لي: بِاللَّه من ترى أعشق من هَؤُلَاءِ؟ فَنَظَرت إِلَى سَوْدَاء كَانَت فِيهِنَّ فَقلت: هَذِه. فَتقدم فَقعدَ إِلَى جنبها. فوَاللَّه مَا بَرحت حَتَّى بَكَى من عَشِقَهَا. [168] أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنا أَبُو الْحسن بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن الْعَبَّاس قَالَ أنبأ مُحَمَّد بن خلف قَالَ: ذكر بعض الروَاة عَن الْعمريّ قَالَ: كَانَ أَبُو عبد اللَّهِ الحبشاني يعشق صفراء العلاقمية - وَكَانَت سَوْدَاء - فاشتكى من حبها وضني حَتَّى صَار إِلَى حد الْمَوْت، فَقَالَ بعض أَهلهَا لمولاتها: لَو وجهت صفراء إِلَى أبي عبد اللَّهِ الحبشاني، فَلَعَلَّهُ أَن يعقل إِذا رَآهَا، فَفعلت، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَت: كَيفَ أَصبَحت يَا أَبَا عبد اللَّهِ؟ قَالَ: بِخَير مالم تبرحي. قَالَت: مَا تشْتَهي؟ قَالَ: قربك. قَالَت: فَمَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: حبك، قَالَت: فتوصي بِشَيْء؟ قَالَ: أوصِي بك إِن قبلوا مني فَقَالَت: إِنِّي أُرِيد الِانْصِرَاف. قَالَ: فتعجلي ثَوَاب الصَّلَاة عَليّ. فَقَامَتْ فَانْصَرَفت، فَلَمَّا رَآهَا مولية تنفس الصعداء، وَمَات من سَاعَته.

(الباب الخامس والعشرون)

(الْبَاب الْخَامِس وَالْعشْرُونَ) (فِي ذكر أَبنَاء الحبشيات من قُرَيْش) نَضْلَة بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي، نفَيْل بن عبد الْعُزَّى الْعَدوي، عَمْرو بن ربيعَة بن حبيب، الْخطاب بن نفَيْل الْعَدوي، الْحَارِث بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، عُثْمَان بن الْحُوَيْرِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، صَفْوَان بن أُميَّة بن خلف الجُمَحِي، هِشَام بن عقبَة بن أبي معيط، مَالك بن عبد اللَّهِ بن جدعَان، عبيد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن أبي ملكية، المُهَاجر بن قنفذ بن عَمْرو، مسافع بن عِيَاض بن صَخْر التَّيْمِيّ، عَمْرو بن الْعَاصِ بن وَائِل [السَّهْمِي] قرظة بن عبد عَمْرو بن نَوْفَل بن عبد منَاف، مَالك بن حسل بن عَامر بن لؤَي، عبد اللَّهِ بن قيس بن عبد اللَّهِ بن الزبير، سَمُرَة بن حبيب بن عبد شمس، عبد اللَّهِ بن زَمعَة من بني عَامر بن لؤَي، عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي، يعلى بن الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط، عبد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن عَامر بن كريز، مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، جَعْفَر بن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى بن جَعْفَر، عبيد اللَّهِ بن حَمْزَة بن مُوسَى بن جَعْفَر، مُحَمَّد وجعفر ابْنا إِبْرَاهِيم بن حسن بن حسن وأبوهما سُلَيْمَان بن حسن من بني عقيل بن أبي طَالب، مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُحَمَّد من

بني الْحسن بن عَليّ، أَحْمد بن عبد الْملك من ولد عُثْمَان بن عَفَّان، أَحْمد بن مُحَمَّد بن صَالح المَخْزُومِي، الْعَبَّاس بن المعتصم، هبة اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن إِسْحَاق الْمهْدي، عِيسَى وجعفر ابْنا أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس، عبد الْوَهَّاب بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد. (وَمن أَبنَاء السنديات) مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَسَعِيد بن هِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان.

(وَمن أَوْلَاد الْجَوَارِي الصفر) (شهريار) [169] أَنبأَنَا ابْن نَاصِر قَالَ أنبأ الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ أنبأ الْجَوْهَرِي قَالَ حَدثنِي ابْن حيوية قَالَ: ثَنَا ابْن خلف قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن الْهَيْثَم ابْن فراس عَن عمرَان الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَت مُلُوك الْأَعَاجِم إِنَّمَا تحجمهم النِّسَاء، فَأَرَادَ كسْرَى أَن يحتجم فَأَتَتْهُ الْحجامَة، وَكَانَت صفراء طَوِيلَة ضخمة جميلَة، فَأَلْقَت ثِيَابهَا - وَكَذَا كَانُوا يصنعون - ثمَّ أدخلت كسْرَى بَين فخذيها فاشتهاها كسْرَى فَوَقَعت بِقَلْبِه، فَوَقع عَلَيْهَا فَولدت شهريار.

(الباب السادس والعشرون)

(الْبَاب السَّادِس وَالْعشْرُونَ) (فِي مواعظ ووصايا) قَالَ المُصَنّف: لما سطرت فِيمَا وضعت لَهُ هَذَا الْكتاب مَا يَكْفِي من ذكر أكَابِر هَذَا الْجِنْس آثرت أَن أختمه بمواعظ ووصايا وأذكار وأدعية ينظر فِيهَا من وضعت هَذَا الْكتاب لأَجله. أما المواعظ والوصايا المنقولة فقد سَمِعت، وَمن الْعَادة حب المستطرف وَاخْتِيَار المتجدد، فقد جعلت هَذَا الْبَاب مُشْتَمِلًا على كَلَامي وَحده. (فصل) إِن المواعظ قد أفصحت وأعربت، غير أَن الزخارف للاحظ قد أدهشت وأعجبت، وَإِنَّمَا تقطع مراحل الْجد بالعزم وَالصَّبْر، وَنظر اللبيب الْمجد إِلَى آخر الْأَمر. (يَا من سينأى عَنهُ بنيه ... كَمَا نأى عَنهُ أَبوهُ) (مثل لنَفسك قَوْلهم ... جَاءَ الْيَقِين فوجهوه) (وتحللوا من ظلمه ... قبل الْمَمَات وحللوه)

يَا مجموعا سيبدد عَن قريب، لَا تبدد الْأَوَامِر، فتندم يَوْم جمع مبددك. جبال الدُّنْيَا خيال يغر الغر، المتمسك بهَا يلْعَب بلعاب الشَّمْس. (وَالله لَو كَانَت الدُّنْيَا بأجمعها ... تبقى علينا وَيَأْتِي رزقها غَدا) (مَا كَانَ من حق حر أَن يذل لَهَا ... فَكيف وَهِي مَتَاع يضمحل غَدا) يَا هَذَا، حَاكم نَفسك عِنْد حَاكم عقلك، لَا عِنْد قَاضِي هَوَاك، فحاكم الْعقل دين، وقاضي الْهوى يجور. من قبل مشورة الْعقل لم يتجرع: لَو، وليت. (فصل) وَمِمَّا أوصِي بِهِ أَن أَقُول: يَنْبَغِي لمن رزق الذِّهْن أَن لَا يتْرك الْفِكر فِيمَا بَين يَدَيْهِ، وَفِيمَا خلق لَهُ، وليعلم أَنه فِي مجَاز إِلَى دَار مجازاة، وَفِي كل لَحْظَة للمنايا رَسُول، وبقرب الرحيل نَذِير، وَكم بَغت مطمئن، ومهاد الْحَسْرَة فِي الْقَبْر مستخشن رعب للغب، فِيمَا يحلو

عواقبه مستحسن، فَيَنْبَغِي للْعَبد المتيقظ أَن لَا يخلي نفسا من أنفاسه عَن فعل خير، فَإِن كل نفس خزانَة، وليعد لكل عمل جَوَابا، فَإِن السُّؤَال عَنهُ لَا بُد مِنْهُ، وليتأهب للرحلة الَّتِي لَا يدْرِي مَتى تقع، وليراقب من يرَاهُ سرا وَعَلَانِيَة، فَإِنَّهُ إِن تكلم سمع، وَإِن نظر رأى، وَإِن تفكر علم، وَالْجنَّة الْيَوْم فِي السَّمَاء تزخرف، وَالنَّار تَحت الأَرْض توقد، والقبر عَن قَلِيل يحْفر، والملكان عَن يَمِين وشمال، والصحائف تملأ بِالْخَيرِ أَو الشَّرّ، فاغتنم يَا هَذَا صحتك فِي هَذَا الزَّمن قبل وجود الزَّمن، واعمر دَار الْبَقَاء بإنقاص من دَار الفناء، وَإِيَّاك أَن تغفل عَن نَفسك، فَإِن الْمُؤمن أَسِير فِي الدُّنْيَا يسْعَى فِي فكاك رقبته، وَلَا تذْهب لَحْظَة إِلَّا فِي فعل خير، وَأَقل مَرَاتِب الْأَفْعَال الْإِبَاحَة، واستوثق من قفل الْبَصَر وغلق اللِّسَان، فَإِنَّهُ إِن فتحهما الْهوى نهب مَا فِي الْقلب من الْخَيْر. وزاحم الْفُضَلَاء فِي أَعْمَالهم، وَقد أجمع الْحُكَمَاء أَنه لَا تنَال رَاحَة براحة، وَمثل لنَفسك عَاقِبَة الطَّاعَة ومغبة الْمعْصِيَة، فَكَأَنَّهُ مَا شبع من شبع، وَلَا التذ من عصى، وَلَا تألم من صَبر، وَأَيْنَ لَذَّة [لقْمَة] آدم؟ وَأَيْنَ مشقة صَبر يُوسُف؟ وَاحْذَرْ من مُخَالطَة أهل هَذَا الزَّمَان، فَإِن الطَّبْع يسرق عادات المعاشرين، ولتكن مخالطتك للسلف بالاطلاع على أَحْوَالهم. وحادث الْقُرْآن بالفكر فِيهِ فِي الخلوات، وتصفح جهاز الرحيل قبل أَن تفاجأ بَغْتَة، فَلَا ترى عنْدك غير النَّدَم.

(الباب السابع والعشرون)

(الْبَاب السَّابِع وَالْعشْرُونَ) (فِيهِ أذكار وتسبيحات) قَالَ المُصَنّف: كثير النَّاس قد أولعوا بأذكار وتسبيحات لَا تثبت عَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا لَهَا أصل، فآثرت أَن أذكر من الصِّحَاح مَا يكون عَلَيْهِ الِاعْتِمَاد. أفضل الْأَذْكَار تِلَاوَة الْقُرْآن: [170] فقد روى عبد اللَّهِ بن عَمْرو عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " يُقَال لصَاحب الْقُرْآن اقْرَأ وارق، ورتل كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا، فَإِن منزلتك عِنْد آخر آيَة تقرؤها ". وَأما غَيره من الْأَذْكَار: [171] فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " كلمتان خفيفتان على اللِّسَان، ثقيلتان فِي الْمِيزَان، حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيم ".

[172] وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْم مائَة مرّة حطت خطاياه وَإِن كَانَت مثل زبد الْبَحْر ". [173] وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله أَي الْكَلَام أفضل؟ فَقَالَ: " سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ " [174] وَفِي أَفْرَاده من حَدِيث جوَيْرِية قَالَت: أَتَى عَليّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غدْوَة وَأَنا أسبح، ثمَّ انْطلق لِحَاجَتِهِ، ثمَّ رَجَعَ قَرِيبا من نصف النَّهَار، فَقَالَ: أما زلت قَاعِدَة؟ قلت: نعم فَقَالَ: أَلا أعلمك كَلِمَات لَو عدلن بِهن عدلتهن، أَو وزن بِهن وزنتهن - يَعْنِي جَمِيع مَا سبحت -: سُبْحَانَ اللَّهِ عدد خلقه (ثَلَاث مَرَّات) سُبْحَانَ اللَّهِ زنة عَرْشه (ثَلَاث مَرَّات) ، سُبْحَانَ اللَّهِ رضَا نَفسه (ثَلَاث مَرَّات) ، سُبْحَانَ اللَّهِ مداد كَلِمَاته (ثَلَاث مَرَّات) .

(الباب الثامن والعشرون)

(الْبَاب الثَّامِن وَالْعشْرُونَ) (فِي الْأَدْعِيَة) [قَالَ المُصَنّف] : كثير من النَّاس يدعونَ من كتب لَا يوثق بهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَن يتَخَيَّر إِلَّا الصَّحِيح. فَأَما أَوْقَات الدُّعَاء: [175] فروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد؛ فَأَكْثرُوا الدُّعَاء ". وَمن أَوْقَات الدُّعَاء: عِنْد الْأَذَان، وَالْإِقَامَة، ونزول الْغَيْث، وَعند الْفَرَاغ من الختمة، وَإِذا وجد الْإِنْسَان خشوعا. قَالَت أم الدَّرْدَاء: إِذا وجدت قشعريرة من الوجل فَادع؛ فَإِن الدُّعَاء يُسْتَجَاب عِنْد ذَلِك. (فصل) فَأَما مَا يَبْتَدِئ بِهِ قبل الدُّعَاء، فقد قَالَ عمر: الدُّعَاء مَوْقُوف لَا يصعد

مِنْهُ شَيْء حَتَّى تصلي على نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَمن آدَاب الدُّعَاء: تَقْدِيم التَّوْبَة، والتنزه من أكل الْحَرَام: [176] فَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه ذكر الرجل يُطِيل السّفر أَشْعَث أغبر ثمَّ يمد يَده إِلَى السَّمَاء: يَا رب، مطعمه حرَام ومشربه حرَام وملبسه حرَام وغذي بالحرام فَأنى يُسْتَجَاب لذَلِك. وَمن آدابه: حسن الظَّن بالإجابة. [177] فقد جَاءَ فِي الحَدِيث: " ادعوا اللَّهِ وَأَنْتُم موقنون بالإجابة ". وَمن آدابه: حُضُور الْقلب: [178] فقد قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقبل اللَّهِ الدُّعَاء من قلب غافل لاه.

(ذكر الدُّعَاء [عِنْد الكرب] ) [179] فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ يَقُول عِنْد الكرب: " لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ الْعَظِيم الْحَلِيم، لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ رب الْعَرْش الْعَظِيم، لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض رب الْعَرْش الْكَرِيم ". ذكر الدُّعَاء عِنْد الْهم والحزن. [180] روى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " مَا أصَاب أحد هم قطّ وَلَا حزن فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك وَابْن عَبدك وَابْن أمتك، ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك، عدل فِي قضاؤك، أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك سميت بِهِ نَفسك، أَو عَلمته أحدا من خلقك، أَو أنزلته فِي كتابك، أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همي، إِلَّا أذهب اللَّهِ عز وَجل همه وحزنه، وأبدل مَكَانَهُ فَرحا " ذكر الدُّعَاء عِنْد الْخَوْف من السُّلْطَان.

[181] قَالَ ابْن مَسْعُود: " إِذا كَانَ على أحدكُم سُلْطَان يخافه فَلْيقل: اللَّهِ رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم كن لي جارا من فلَان بن فلَان وأحزابه من خلقك أَن يفرط عَليّ أحد مِنْهُم أَو أَن يطغى، عز جَارك وَجل ثناؤك، وَلَا إِلَه إِلَّا أَنْت ". أدعية مأثورة. [182] روى البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة [رَضِي اللَّهِ عَنْهَا] أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْعُو بهؤلاء الدَّعْوَات: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من فتْنَة النَّار وَعَذَاب النَّار وفتنة الْقَبْر وَعَذَاب الْقَبْر وَمن شَرّ فتْنَة الْغنى وَمن شَرّ فتْنَة الْفقر وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال. اللَّهُمَّ اغسل خطاياي بِمَاء الثَّلج وَالْبرد، ونق قلبِي من الْخَطَايَا كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، وباعد بيني وَبَين خطاياي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ". [183] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء:

" اللَّهُمَّ اغْفِر لي جدي، وهزلي وخطأي، وعمدي، وكل ذَلِك عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت، وَمَا أخرت، وَمَا أسررت، وَمَا أعلنت، وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني، أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر، وَأَنت على كل شَيْء قدير ". [184] وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث زيد بن أَرقم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ يَقُول: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْعَجز والكسل والجبن وَالْبخل والهرم وَعَذَاب الْقَبْر، اللَّهُمَّ آتٍ نَفسِي تقواها، وزكها أَنْت خير من زكاها، أَنْت وَليهَا ومولاها، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من علم لَا ينفع وَمن قلب لَا يخشع وَمن دَعْوَة لَا يُسْتَجَاب لَهَا. [185] وَفِي أَفْرَاده من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " اللَّهُمَّ أصلح لي ديني الَّذِي هُوَ عصمَة أَمْرِي، وَأصْلح لي دنياي الَّتِي فِيهَا معاشي، وَأصْلح لي آخرتي الَّتِي فِيهَا معادي، وَاجعَل الْحَيَاة زِيَادَة لي فِي كل خير وَاجعَل الْمَوْت رَاحَة لي من كل شَرّ ". [186] وَفِي أَفْرَاده من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

يَدْعُو يَقُول: " رب عني وَلَا تعن عَليّ، وَانْصُرْنِي على من بغى عَليّ، رب اجْعَلنِي لَك شكارا، لَك ذكارا، لَك رهابا، لَك مطواعا، لَك مخبتا، إِلَيْك أواها منيبا، رب تقبل تَوْبَتِي، واغسل حوبتي، وأجب دَعْوَتِي، وَثَبت حجتي، وسدد لساني، وأهد قلبِي، واسلل سخيمة صَدْرِي ". [187] وروى بُرَيْدَة قَالَ: سمع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِأَنِّي أشهد أَنَّك اللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت الْأَحَد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد فَقَالَ: " قد سَأَلَ باسم اللَّهِ الْأَعْظَم الَّذِي إِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى، وَإِذا دعِي بِهِ أجَاب ". [188] وروى شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا أَكثر النَّاس الذَّهَب وَالْفِضَّة، فَأَكْثرُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الثَّبَات فِي الْأَمر والعزيمة على الرشد، وَأَسْأَلك شكر نِعْمَتك، وَأَسْأَلك حسن عبادتك، وَأَسْأَلك قلبا سليما، وَأَسْأَلك لِسَانا صَادِقا، وَأَسْأَلك من خير مَا تعلم، وَأَعُوذ بك من شَرّ مَا تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إِنَّك أَنْت علام الغيوب ".

[189] وروى الْبَراء عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " إِذا أَرَادَ اللَّهِ بِعَبْد خيرا علمه هَؤُلَاءِ الكمات ثمَّ لم ينسهن " اللَّهم إِنِّي ضَعِيف فقوني فِي رضاك، وَخذ إِلَى الْخَيْر بناصيتي، وَاجعَل الْإِسْلَام مُنْتَهى رضاي، اللَّهُمَّ إِنِّي ضَعِيف فقوني وَإِنِّي ذليل فأعزني، وَإِنِّي فَقير فأغنني ". نجز الْكتاب بِحَمْد اللَّهِ وعونه. وَالْحَمْد لله أَولا وآخرا وَصلَاته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه.

§1/1