تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الجاهلين

ابن النحاس، أحمد بن إبراهيم

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين نَحْمَدُكَ اللَّهم على سترك الجميل، ونَشْكُرُكَ على بِرِّكَ الجَزِيْل، ونعتَرِفُ لك بقبائح الذنوب، ونبؤ بما نقترف مِنْ فضائح العيوب، ونخْضع لعِزِّ كبريائِكَ بالذُّلِّ والصَّغَارِ، ونطمع في كَنْزِ عطائِكَ بالعَجْزِ والافتِقَارِ، ونمد إلى غنائِكَ أيدِي احتياجِنَا، ونسأَلُكَ هُدَاكَ لسوية اعوجاجنا، ونرفع إليك أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ والابتهالِ، رغبًا للتوفيق في الطَّاعَةِ وَإِصْلَاحِ الحَالِ، فَإِ نَّ المُهْدِيَّ مَنْ هَدَيْتَه سَوَاءَ السبيل، والضَّالَّ مَنْ أضللته فليس له دليل، وكل شيء بالتيسير منك وسبق التقدير، والقلوب بيدك تقلبها كيف شئت وإليك المصير. رب وأدم صلاتك الكاملة، وبركاتك الشاملة، وسلامك الأتم بالمعنى الأعم، على الراحة العامة، والنعمة التامة، ألطف مَنْ أَمَرَ ونهى، وأخوف من نهى فانتهى، وأشرف أولي الألباب والنُهى، سيد الخلق أجمعين، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي صحيح مسلم عن تميم الداريِّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أحبَّ ما تَعبَّدَ إليَّ عبدي النصح». وروى الطبرانيّ عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». [ومن لم يُصبح ويُمْس نَاصِحًا للهِ ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم]. وعن جرير بن عبد الله البجليّ - رضي الله عنه - قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعت فدعاني فقال لي: لا أقبل منك حتى تبايع على النصح لكل مسلم فبايعته». رواه الطبرانيّ في الصغير بإسناد حسن. وهو في الصحيح بغير هذا اللفظ. ولما رأيت ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد وَهَى جانبه، وكثر مُجَانِبَهُ، وَعَزَّت على الأكثَرِين مَطَالِبَهُ، فَعَزَّ طالِبَهُ، وتوعَّرتَ بعد السلوك مسالكه، فاستوحش سالكه، واندرست معالم السُّنَّةِ ورَسْمها، ولم يبق من حقائقها إلا اسمها، وتنوعت مقاصد الخلائق في الأذهان، فلم تخش الناس أحدًا في الإعلان، وألقى الشيطان في قلوب الجاهلين. أنه

لا يطالب أحد بغير عمله يوم الدين، وصار إنكار المنكر زَلَّةً عند العامة لا تُقَال، ومزلة لا يثبت عليها أرجل لرجال فمن أنكر قيل ما أكثر فضوله، ومن داهن قيل ما أحسن في العِشْرة معقوله، فعمت الخطوب والعظائم، إذ لم يبق من تأخذه في الله لومة لائم، وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ، وصار العالم الدَّالّ طريدًا، والجاهل الضَّال حبيبًا وديدًا، فعَنَّ لي أن أعلق أوراقًا في هذا الشأن، نصحًا لأمثالي من أهل العصيان، ومن حاله كحالي في الغفلة والنسيان، وبيانًا لجُمل ذلك من شمول الإيجاب، وتحذيرًا من ارتكاب ما هو جدير بسوء المآب، وسميته: «تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين». ورتبته على سبعة أبواب: الباب الأول: في «فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان أنه فرض كفاية، وشروط المنكِر والمُنْكَر» ويشتمل على فصولٍ ومسائل. الباب الثاني: في «كيفية الإنكار ودرجاته» ويشتمل على فصول ومسائل. الباب الثالث: في «الترهيب من ترك ما أوجب الله - تعالى - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وذكر بعض ما ورد من التغليظ في ذلك والتشديد، وذكر الأحوال التي يسقط فيها الوجوب، ويبقى الاستحباب ويشتمل على فصول ومسائل. الباب الرابع: في «إثم من أمر بمعروف ولم يفعله أو نهى عن منكر وهو يفعله». الباب الخامس: في «ذكر جمل من الكبائر والصغائر عصمنا الله منها». الباب السادس: في «ذكر أمور نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم». الباب السابع: في «ذكر جمل من المنكرات، والبدع المحدثات». وإلى الله تعالى أمدُّ كفَّ الضراعة والابتهال، أن لا يجعله حجة عليَّ يوم قيام الساعة وظهور الأهوال، فإن بضاعتي من العلم والدين مُزجاة، وإيماني أضعف

الإيمان لنقص اليقين وفقد الجاه، لكن اعترافي بالعجز والتقصير وسيلتي يوم يقوم الأشهاد، واغترافي من بحر جوده الغزير، ذخيرتي عند فقد الزاد، واستنادي في كل حالة إلى مَنْ لا يخيب مَنْ ركن إليه، واعتمادي في المآل على من هو كافي مَنْ توكل عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.

1 - الباب الأول في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وبيان أنه فرض كفاية، وشروط المنكر والمنكر

الباب الأول في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وبيان أنه فرض كفاية، وشروط المنكِر والمنكَر ويشتمل على فصول ومسائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] الآية. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: 113 - 114]. وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].

فبين – سبحانه – أن الناجي هو الناهي عن السوء، دون الواقع فيه، والمداهن عليه. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71]. قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي – رحمة الله تعالى – "فقد نعت الله المؤمنين بأنهم {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71]. فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين" انتهى. وقال القرطبي – رحمه الله – في تفسيره: جعل الله [تعالى] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدلّ على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. قلت: وفي ذكره – تعالى – "والمؤمنات" هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة والله أعلم. وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]. فبين سبحانه أنه أهلكهم إلا قليلاً منهم ممن كانوا ينهون عن الفساد. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ

فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41]. والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة. وفي صحيح مسلم/ وغيره عن أبي ذر – رضي الله عنه – أن أناساً قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة". الدثور: بضم الدال وبالثاء المثلثة هي الأموال. وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق المسلمين أو شوكة أو عظماً عن طريق المسلمين وأمر بالمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار». قال أبو توبة: وربما قال يمشي يعني بالشين المعجمة. وعن أبي ذر – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس من بن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس، قيل يا رسول الله: من أين لنا صدقة نتصدق بها، قال؛ إن أبواب

الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك». رواه ابن حبان في صحيحه. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وفيهما أيضاً عن جرير – رضي الله عنه – قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم". فانظر – رحمك الله – كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم النصح الذي هو عبارة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصلاة والزكاة يتبين لك عظم محلهما وتأكيد وجوبهما. وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام/ ابن آدم عليه لا له إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً لله تعالى».

رواه الترمذي، وقال: حديث غريب. وفي صحيح البخاري وجامع الترمذي عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا وأنجوهم جميعاً». فانظر كيف كان الأخذ على أيدي المفسدين والإنكار عليهم أو منعهم مما أرادوا سبباً لنجاتهم أجمعين. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله – تعالى – في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبخ فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». الحواريون: قال الأزهري وغيره: هم أصفياء الأنبياء، وقيل: هم أنصارهم، وقيل: هم أنصارهم، وقيل: هم المجاهدون، وقيل غير ذلك.

والخلوف بضم الخاء المعجمة جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشر، ومنه قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169]. والخلف بفتح اللام هو الخالف بخير، وهذا هو الأشهر، وقيل غير ذلك. فاختر يا هذا لنفسك إما أن تكون خلف الأنبياء والحواريين فتكون رفيقهم في دار القرار، أو خلف الفاسقين والأشقياء فترد معهم دار البوار، إذ الساكت عن المنكر مع إمكان الإنكار، شريك له في الإثم يرد مع شريكه النار، اللهم بصرنا بمهاوي الاغترار، واحشرنا مع عبادك الأبرار، فإنك ذو الفضل العظيم. وروي عن الحسن قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفة كتابه». ذكره القرطبي / في تفسيره. وعن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال: سألت أبا ذر – رضي الله عنه – قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تؤمن بالله واليوم الآخر». قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملاً؟ قال: «يرضخ مما رزقه الله». قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيراً، ألا يجد ما يرضخ؟ قال: «يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر». وذكر الحديث.

رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وروى ابن حبان والإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب – رضي الله عنهما – قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة. قال: «إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وآمر بالمعروف وأنه عن المنكر» الحديث. وفي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيد مروان فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وروى هذا الحديث النسائي أيضاً ولفظه: قال رسول الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده

فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان». قوله: فقد برئ، أي من الإثم بإنكاره. وفيه الدليل الواضح على أن من استطاع الإنكار فلم ينكر أنه غير بريء من الإثم، بل هو شريك فيه، كما سيأتي والله أعلم. وفيه التصريح الثاني بأن من أنكر بلسانه فلم يرجع إليه مع إمكان إنكاره باليد لا يسقط عنه الإثم، وإنما يسقط عنه الإثم إذا لم يستطع الإنكار باليد/. وفيه أنه لا يقتصر على الإنكار بالقلب إلا من ضعفه إيمانه سواء استطاع الإنكار باليد واللسان أو لم يستطع إلا عند عدم الاستطاعة ليسقط عنه الإثم وإن كان ضعيف الإيمان. وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب، والبيهقي وغيرهما عن درة بنت أبي لهب – رضي الله عنها – قالت: قلت يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: «أتقاهم للرب – عز وجل -، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر». وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليل رضي الله عنه بخصال من الخير، أوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان أمراً. وخرج البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له». ورواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك، فمن انتقص منهم شيئاً فهم سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره». فانظر أيها الأخ إلى هذا السهم من الدين، فقد تركه أكثر المسلمين وأصبحوا فيه مراهنين، لا يلفتون وجوههم إليه، ولا يعولون في دينهم عليه كأنهم عنه لا يسألون، إنا لله وإنا إليه راجعون. وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وخرج النسائي بإسناد صحيح إلى أبي عبد الله طارق بن شهاب، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز – أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر». وخرجه ابن ماجة بإسناد حسن إلى أبي أمامة – رضي الله عنه – قال:

عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى، فقال يا رسول الله: أي الجهاد أفضل؟ / فسكت عنه، فلما رمى الحجارة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائز». الغرز: بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء بعدهما زاي: هو ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب، وقيل لا يختص بهما. وفي هذه الأحاديث دليل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الجهاد المفترض على المسلمين. وأنه في الأئمة الجائرين، والأمراء الظالمين، أفضل أنواعه لأنه يعرض بنفسه للقتل، ويجود بها لله تعالى. ولهذا جاء في المستدرك عن جابر – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. وخرج البزار عن أبي عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – قال: قلت يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله عز وجل؟ قال: «رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله». قلت: وإنما كان أكرم الشهداء، لأن الشرط في الشهيد في سبيل الله – تعالى – أن يبذل نفسه لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا قد بذلها لذلك غير أن الأول قد شفى نفسه ببسط يده إلى العدو فقتل عزيزاً، وهذا قد تعرض

للقتل مع كف يده فقتل ذليلاً، فجزاه الله على ذله فيه بإكرامه له، وهذا ما يظهر لي، والله أعلم. وروي عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – حديث غريب، وهو أنه قال: يا رسول الله، هل من جهاد غير قتال المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم يا أبا بكر إن لله مجاهدين في الأرض أفضل من الشهداء أحياء يرزقون يمشون في الأرض يباهي الله بهم ملائكة السماء وتزين لهم الجنة» فقال أبو بكر: صفهم يا رسول الله، قال: «الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والمحبون في الله، والمبغضون في الله». ثم قال: والذي نفسي بيده، إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء، للغرفة منها ثلاثمائة باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل ليتزوج ثلاثمائة ألف حوراً قاصرات الطرف عين، كلما التفت إلى واحدة منهن ينظر إليها فتقول له: يوم كذا أمرت بالمعروف/ ونهيت عن المنكر، كلما التفت إلى واحدة منهن ذكرت له كل مقام أمر فيه بمعروف أو نهى فيه عن منكر». فدلت هذه الآيات والأخبار على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى علو محله وعلى الترغيب في القيام به، وشرف أهله، وأنه واجب على كل مسلم استطاع سواء كان رجلاً أو امرأة أو عبداً كما عليه إجماع الأمة. ودل قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] على أنه فرض على الكفاية، إذ لو كان فرض عين لقال: ولتكونوا، أو معنى ذلك. قال أبو زكريا النووي – رحمه الله – في شرح مسلم: وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – يعني يصير فرض عين كما

إذا كان في موضع لا يعلم به، إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف، انتهى. واعلم أن مقتضى فرض الكفاية أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى وسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالفرض فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر – والله أعلم – أنه لا يسقط عنه الحرج لأنه أقدم على ترك واجب عمداً، كما لو أقدم على الفطر في رمضان ظاناً أن النهار باق وكان ليلاً أو جامع ظاناً أن الفجر قد طلع وكان ليلاً فإنه يأثم بذلك. وكما لو وطئ امرأة ظاناً أنها أجنبية، وكانت زوجته أو أمته وهو لا يشعر فإنه يأثم بذلك. وقد نص الرافعي وغيره على أنه يفسق وترد شهادته، بل حكي أبو عمرو ابن الصلاح في فوائد رحلته وجهان: أنه يجب عليه الحد كما لو شرب خلا على تقدير أنه خمر، وما أشبه ذلك اعتماداً على اعتقاده التحريم في ذلك وإقدامه عليه. ويشترط أيضاً أن يسوى المخاطبون بالوجوب في رتبتي اليد واللسان فإن تفاوتوا فقام ذو اليد بيده وغيّر المنكر سقط الحرج عن الباقين وإن لم يتغير سقط الحرج عن ذي اللسان، إلا أن يكون رجوع المأمور إلى ذي اللسان أقرب من رجوعه إلى ذي اللسان، إلا أن يكون رجوع المأمور إلى ذي اللسان أقرب من رجوعه إلى ذي اليد وكلامه عند أعظم تأثيراً فإنه لا يسقط الوجوب عن ذي اللسان، كما لو كان ذو اللسان عالماً معظماً أو والداً أو سيداً ضعيفاً/ مثلاً وكان ممن يرجع المأمور إلى قوله في الظاهر والباطن، وذو اليد ممن يرجع إليه في الظاهر دون الباطن. وهذان الشرطان لم أر من تعرض لهما، ولا بد منهما والله أعلم. وأما الإنكار بالقلب: وهو كراهة تلك المعصية وبعضها، فلا يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنع منه. قال ابن مسعود رضي الله عنه:

بحسب امرئ إذا رأى منكراً لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله - تعالى - من قلبه أنه له كاره. وقد روى أبو داود وغيره عن عرس بن عميرة الكندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا علمت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهداها». ومعنى قوله: حضرها أي حضرها لضرورةٍ أو رآها اتفاقاً، لأن حضور العاجز موضعاً يرى فيه المنكر قصداً من غير ضرورة ممنوع ولا يسلم الحاضر من الإثم وإن كرهه بقلبه. فائدة: تقدم قريباً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد قال النووي - رحمه الله - في زوائد الروضة: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث أنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين. وقد قال إمام الحرمين - رحمه الله - في الغياث. والذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين لأنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو فعله اختص هو بسقوط الفرض، وفرض الكفاية ولو ترك أثم الجميع، ولو فعله سقوط الحرج عن الجميع، ففاعله ساع في صيانة الأمة عن الإثم، ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين، والله أعلم، انتهى.

وقد ذكر هذه المسألة الإسنائي في كتابه تمهيد الأصول، ثم قال: واقتصار النووي على النقل عن الإمام خصوصاً يوهم أن ذلك لا يعرف لغيره وليس كذلك فقد سبقه إلى هذه المقالة والده في المحيط، وكذلك الأستاذ أبو إسحاق، وقد نقله عنهما ابن الصلاح في فوائد رحلته، ولكن فرق / النقل في موضعين، ورأيته أيضاً في أول شرح التلخيص للشيخ أبي علي الشيخي مجزوماً به، وزاد على ذلك ونقله عن أهل التحقيق أن فرض الكفاية أهم من فرض العين، والاشتغال به أفضل من الاشتغال بأداء فرض العين. هذا لفظه، ثم ذكر ما سبق من التعليل.

1 - فصل يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإسلام، والتكليف، والاستطاعة. وهذه الشروط متفق عليها. واختلف في العدالة والإذن من الإمام علي ما سيأتي إن شاء الله. أما اشتراط الإسلام: فلأن القيام بالأمر والنهي يصير نصرة الدين، فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين. والأمر والنهي سلطنة واحتكام، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ويجب على العبد والمرأة حيث وجدا استطاعة. وأما اشتراط التكليف: فإنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب الأمر والنهي على مجنون ولا صبي، لأن القلم مرفوع عنهما. ولكن لو أنكر الصبي المميز جاز وأثيب على ذلك، ولم يكن لأحد منعه لأنها قربة، وهو من أهل أدائها لا من أهل وجوبها، قال الغزالي والرافعي والنووي وغيرهم: ولا أعلم في ذلك خلافاً أنه ليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمر وغيرها من المنكرات والله أعلم. أما اشتراط الاستطاعة: فقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فآتوا منه ما استطعتم».

فقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة عمن لا يستطيع. وقد يكون وجود الاستطاعة كعدمها، فيسقط الوجوب مع وجودها، كما إذا خاف على نفسه وماله، أو خاف مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 2 - فصل قال الرافعي والنووي وغيرهما: "لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين وواجب عليهم". قال إمام الحرمين: "والدليل عليه إجماع المسلمين بأن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة، وينهونهم مع تقرير المسلمين / إياهم على ذلك وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية" انتهى. قلت: في قوله صلى الله عليه وسلم للفقراء - الذين شكوا إليه سبق الأغنياء-: «أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون» وذكر من ذلك «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة كل يوم». وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده». وغير ذلك من الأحاديث المتقدمة والآتية التي لم يخصص فيها بعض الناس دون بعض أدل دليل على ذلك والله أعلم. قال الغزالي: قد شرط قوم أن يكون مأذوناً له من جهة الإمام وهذا

الاشتراط فاسد فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه فعصى أينما رآه وكيفما رآه على العموم بلا تخصيص فشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز العلم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهله ومقدم على المنكر يجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي وذلك يكفي فيه مجرد الدين فكذلك النهي. ولكن بعض رتب الأمر والنهي ما يكون في احتياجه إلى الإذن نظر كما سيأتي. 3 - فصل وذهب قوم إلى أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر يشترط أن يكون عدلاً، وأنه ليس لفاسق أن يأمر وينهي، وهذا من حيث الإطلاق فاسد. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء لا يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهي عنه بل عليه الأمر، وإن كان مخالفاً بما يأمر به، وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، بل عليه شيئاً أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر؟ انتهى. وكذا قال في الروضة تبعاً للرافعي. وقال القرطبي في تفسيره في أوائل سورة آل عمران: ليس من شرط الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر أن يكون عدلاً عند أهل السنة، خلافاً للمعتزلة حيث تقول لا يغيره إلا عدل وهذا ساقط فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف / والنهي عن المنكر عام في جميع الناس، انتهى.

وقال ابن عطية: قال حذاق أهل العلم ليس من شرط الناهي أن يكون سليماً عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً لأن قوله {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي، انتهى. وقد روي عن أنس قال: قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله، ولا ننهي عن المنكر حتى نجتنبه كله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله». رواه الطبراني: وقال الغزالي: وقد اعتبر العدالة قوم، وقالوا: ليس لفاسق أن يأمر وينهي، وربما استدلوا فيه بالتنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله، وربما استدلوا بأن هداية الغير فرع للاهتداء، وتقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح. قال: وكل ما ذكروه خيالات، وإنما الحق أن للفاسق أن يأمر وينهي. ثم ذكر من البراهين على ذلك ما فيه شفاء للصدور ولكنه لم يطلق عدم اشتراط العدالة كما أطلق النووي وغيره، بل قال: إن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ، وتارة بالقهر، ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولاً. ونحن نقول إن من علم أن قوله لا يقبل لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ إذ لا فائدة في وعظه، فالفسق يؤثر في فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب

كلامه لمن يعرف فسقه وإذا لم يكن عليه ذلك علم أنه يفضي إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول: ليس له ذلك. وأما إذا كان الفاسق قادراً على الإنكار باليد لزمه ذلك، وفسقه وارتكابه لذلك الفعل الذي ينهي عنه لا يخرج الفعل عن كونه حقاً، كما أن من ذب الظالم من آحاد المسلمين، وأهمل أباه وهو مظلوم معهم ينفر عنه الطبع، ولا يخرج فعله عن كونه حقاً، فلا تشترط العدالة في / الحسبة القهرية ولا حجر على الفاسق في إراقة الخمر وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر عليها والله أعلم. قلت: ومما يدل على أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر». 4 - فصل يشترط في الفعل الذي يجب إنكاره أن يكون منكراً سواء كان صغيرة أو كبيرة، إذ لا يختص وجوب الإنكار بالكبائر دون الصغائر. ولا يشترط في كونه منكراً أن يكون معصية فإنّ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق الخمر ويمنعه من شربه، وكذا من رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو بهيمة وجب عليه منعه، وإن كان في خلوة، وهذا لا يسمى في حق المجنون معصية. 5 - فصل ويشترط أيضاً أن يكون المنكر موجوداً، فمن غرب من شرب الخمر مثلاً لم يكن لآحاد الرعية الإنكار عليه بغير الوعظ إذا صحي من سكره، بل الأفضل

لمن رآه أو علم به أن يستر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة». رواه مسلم. وروى أو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن دخين كاتب عقبة بن عامر قال: قلت لعقبة بن عامر: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داعي الشرط ليأخذوهم، قال: لا تفعل وعظهم وهددهم، قال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داعي الشرط ليأخذوهم. فقال عقبة: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر عورة فكأنما استحي مؤودة في قبرها». الشرط بضم الشين وفتح الراء: هم أعوان الولاة والظلمة وأحدهم شرطي بإسكان الراء. والمؤودة: هي البنت التي تدفن حية كما كانوا يفعلون في الجاهلية. وقد روى أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه ماعز فأقرّ عنده بالزنا أربع مرات، وأمر برجمه قال لهزار: «لو سترته بثوبك كان خيراً لك».

وإنما قال ذلك لهزار لأنه هو الذي أمر ما عزاً أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقر عنده بالزنا، كذا جاء / في سنن أبي داود وغيرها. وخرج ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ستر عورة أخيه ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته». والأحاديث في فضل ستر المؤمن كثيرة جداً، ومحل الستر فيما إذا لم تصل الحدود إلى الحكام، فإذا وصلت إليهم بالطريق الشرعي لم يجز ستره وتحرم الشفاعة فيه. قال النووي في شرح مسلم: وإنما يندب الستر على من كان من ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيسحب أن لا يستر عليه بل يرفع قصته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات. فلو لم يستر على من يندب الستر عليه، بل رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بالإجماع ولكن هو خلاف الأولى. وأما المنكّر الذي يعلم بقرائن الحال أنه سيوجد فلا إنكار فيه إلا بالوعظ بشرط أن يكون صاحبه معترفاً بعزمه عليه، كمن علم من قرينة حاله أنه عازم على الشرب ليلاً أو ليأمر فلانة الزانية، فإن أنكر أنه عازم على ذلك، لم يجز

وعظة أيضاً فإن فيه إساءة الظن بالمسلم، وربما لا يقدم على ما عزم عليه. فإن قلت: ينبغي أن نقول مثل هذا في من خلا بأجنبية، أو وقف على باب حمام لينظر إلى النساء الأجنبيات وأمثال ذلك، لأنه ربما لا يقدم على الفسق. قلنا: إنما أنكرنا عليه من حيث أن الخلوة والوقوف معصية في نفسه لا من حيث أننا نتوقع به معصية قد لا يقدم عليها، والله أعلم. 6 - فصل ويشترط أيضاً أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس، فكل من ستر معاصيه في داره أو أغلق عليه بابه لا يجوز لأحد أن يتجسس عليه. وقد روي أن عمر رضي الله عنه تسور دار رجل فرآه على حالة مكروهة، فأنكر عليه فقال يا أمير المؤمنين: إن كنت عصيت الله من وجه فقد عصيته من ثلاثة أوجه فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وقد تجسست، وقال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وقد تسورت من السطح، وقال سبحانه: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وما سلمت، فتركه عمر، وشرط عليه التوبة. فإن ظهر لمن خارج الدار ما في الدار من المنكر كصوت المزامير والأوتار إذا ارتفعت وصوت المرأة وكلامها بالرفث والفحش عند العزب ونحو ذلك، فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وإخراج المرأة. وكذلك إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفات بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا أيضاً إظهار يوجب إنكار.

قلت: وهذا الذي ذكرته هو معنى كلام الغزالي، وإليه ذهب الفوراني وصاحب التهذيب والقاضي أبو المحاسن الروياني وغيرهم. وقد قال الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لا يظهر من المحرمات وإن غلب على الظن استرار قوم بها لإمارات وآثار ظهرت، وذلك ضربان: أحدهما: أن يكون في ذلك حرمة يفوت استدراكها، وذلك مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا ليقتله، أو امرأة ليزني بها فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذاراً من فوات ما لا يستدرك، وكذلك لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه فإن أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن، انتهى. وهذا مخالف لما قدمناه من أن له دخول الدار لكسر الملاهي، والله أعلم. ويحتمل أن يقال: إنما يمنع من هجوم الدار إذا كان يحصل مقصود الإنكار من خارج، فإن علم أن ذلك المنكر لا يزول إلا بدخوله، أو يفوت بعدم دخوله، / مثل أن يخرجوا الخمر والملاهي إلى مكان آخر ويتحولوا إلى دار حصينة لا يبالون به فيها، أو يشربون الخمر ولا يلتفتون إلى إنكاره من خارج فله المبادرة بالدخول، والله أعلم. قال الغزالي: فإن فاحت رائحة الخمر، واحتمل أن تكون محترمة فلا يجوز

قصدها بالإراقة، وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل والظاهر جواز الإنكار. وقد تستر أواني الخمر وظروفها في الكم وتحت الذيل، وكذلك الملاهي فإن رأى فاسقاً وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عليه ما لم يظهر بعلامة خاصة، فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمراً، إذ الفاسق يحتاج أيضاً إلى الخل وغيره، ولا يجوز أن يستدل بإخفائه على أن الذي معه خمراً، وإنه لو كان خلاً لما أخفاه لأن الأغراض في الإخفاء مما تكثر، وإن كانت الرائحة فائحة فهذا محل النظر، والظاهر أن له الإنكار لأن هذه علامة تفيد الظن، والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور. وكذلك العود ربما يعرف بشكله إذا كان الثوب الساتر له رقيقاً، فدلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل مكشوف، وقد أمرنا أن نستر ما ستره الله، وننكر على من أبدى لنا صفحته، والإبداء هو ما يدرك بحاسة السمع أو البصر أو الشم أو اللمس. إنما يجوز له أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر، وليس له أن يقول له أرني لأعلم ما فيه، فإن هذا تجسس ولا رخصة فيه أصلاً، انتهى ملخصاً. 7 - فصل ويشترط في المنكر أن يكون معلوماً بغير اجتهاد. قال النووي وغيره: إنما ينكر ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، والمصيب واحد، ولا نعلمه ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على أحد غيره، وإنما ينكرون

على من خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً، انتهى/. نعم لو أرى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ وينكح بلا ولي. قال الغزالي: الأظهر أن له الإنكار إذا لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز أن يعمل بموجب اجتهاد غيره، ولأن الذي أدى إليه اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء. له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده. بل على كل مقلد إتباع مقلده في كل تفصيل، فإذا مخالفته متفق على كونه منكراً بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة. إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه، وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي، أو صلى بعد أن لمس، إذ يقول له الفعل في نفسه حق، ولكن لا في حقك فأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي، ومخالفتك ما هو أصوب عندك معصية في حقك، وإن كان صواباً عند الله تعالى. وكذلك الشافعي ينكر عن الحنفي في نظائر ذلك، ثم ينجز هذا إلى أمور أخر في المحسوسات، وهي أن يجامع الأعمى والأصم مثلاً امرأة على قصد الزنا، ويعلم المنكر أن هذه امرأة الأعمى، زوجه إياها أبوه في صغره، ولكنه ليس يدري بذلك، وعجز عن تعريفه ذلك لصممه، أو لكونه غير عالم بلغته فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاصٍ، ومعاقب عليه في الدار الآخرة، فينبغي أن يمنعه منها مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث أنه حلال في علم الله تعالى، قريب من حيث أنه حرام عليه بحكم جهله. ولا شك أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلاً من مشيئة أو غضبه أو غيره، وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن، فإذا رآه يجامعها فعليه المنع أعني باللسان لأن ذلك زنا، إلا أن الزاني غير عالم به، والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثاً،

وبكونهما غير عاصيين لجهلهما بوجود الصفة / لا يخرج الفعل عن كونه منكراً. ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون، وقد بينا أنه يمنع منه، فإذا كان يمنع مما هو منكراً عند الله تعالى، وإنْ لم يكن منكراً عند الفاعل، ولا هو عاص به لعذر الجهل. فلزم من عكس هذا أن يقال ما ليس بمنكر عند الله تعالى، وإنما هو منكر عند الفاعل لجهله لا يمنع منه، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله. فيحصل من هذا أن الحنفي لا ينكر على الشافعي في النكاح بلا ولي، وأن الشافعي ينكر على الشافعي فيه لكون ذلك الفعل منكراً باتفاق المنكِر والمنكَر عليه. وهذه مسائل فقهية دقيقة، والاحتمالات فيها متعارضة وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال، ولسنا نقطع بخطأ المخالف فيها إن رأى أنه لا يجوز الإنكار إلا في معلوم على القطع. وقد ذهب إلى هذا ذاهبون وقالوا: لا إنكار إلا في معلوم على القطع مثل الخمر والخنزير، وما يقطع بكونه حراماً. ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد مؤثر في حق المجتهد إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة، ويعترف بظهور القِبلة عنده في جهة بالدلالة الظنية ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره إذ ربما يظن غيره أن الاستدبار هو الصواب. ورأي مَنْ رأى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به، ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلاً، فهذا مذاهب لا يثبت، وإنْ ثبت لا يعتد به، انتهى. فهذه الشروط المذكورة لابد منها في وجوب الإنكار وهي: أن يكون الفعل منكراً، أو أن يكون موجوداً، أو أن يكون ظاهراً، وأنْ يكون معلوماً بغير اجتهاد، والله ولي التوفيق.

2 - الباب الثاني في كيفية الإنكار ودرجاته

الباب الثاني في كيفية الإنكار ودرجاته قال الله تعالى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا تجسسوا، ولا تحسسوا». قال بعضهم التحسس بالحاء المهملة في الخير والتجسس في الشر. وعلى هذا فيكون [نهيه] صلى الله عليه وسلم عن التجسس بالحاء حسماً للمادة وسداً للذريعة. وقال بعضهم: التحسس بالحاء أن تستمع الأخبار بنفسك، وبالجيم أن تتفحص / عنها بغيرك. وقال الحربي: معنى الحرفين واحد، وهما التطلب لمعرفة الأخبار. وقال بعضهم: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، والتحسس الاستماع لحديث القوم. وقال الإمام العارف أبو عبد الله الترمذي الحكيم في كتاب "الفروق" له، وهو راجع إلى القول الأول: التحسس يعني بالحاء هو طلب أخباره والفتش عنه

شفقة ونصحاً واحتياطاً، فتطيب نفسه لطيب أخباره، وحسن حاله أو ليرفده إن كان في أمره خلل بنصح واحتياط ومعونة، والتجسس أن تفتش عن أخبار مغطية مكروهة أن تعلم بها فتستخرجها بفتشك لهتك الستور، والكشف عن العورات والمساوئ. قال: وبلغنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال لعلي والد سهيل بن علي: أراض أنت عن سهيل؟ فقال سهيل: أليس الله قد نهاك عن التجسس؟ فتصاغرت إلى عبد الله نفسه. وكل أمر إذا فتشت عنه ثقل على صاحبك مطالعتك إياه، وأساءه منك فذاك تجسس، انتهى. وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله». وروياه أيضاً عن معاوية – رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم». وروى أبو داود عن جماعة منهم أبو أمامة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم». اعلم أن التجسس حرام، فليس للإنسان أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع أصوات الملاهي، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما

في ثوب إنسان ليعرف هل الذي داخله منكراً أم لا؟ ولا أن يستخير من جيرانه ليخبروه في بيت جاره، فلو أخبره عدلان ابتداءً من غير استخبار بأن فلاناً يشرب في داره الخمر، أو عنده خمر أعدها للشرب ونحوها ذلك/. قال الغزالي: فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى رفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه. وإن لم يخبره ففي جواز الهجوم على داره بقول هؤلاء نظر واحتمال، والأولى أن يمنع لأنه له حق في أن لا يدخل إلى داره بغير إذنه، ولا يسقط حق المسلم عما ثبت له إلا بشاهدين فهذا أولى ما يجعل مراداً فيه، انتهى. وتقدم في كلام الماوردي أنه ليس له الهجوم إذا سمع أصوات الملاهي من خارج الدار، ويحتمل أن يفرق بين ذلك وبين ما إذا أخبره عدلان. 1 - فصل من أقدم على منكر جاهلاً أنه منكر، ولو علم أنه منكر رجع عنه يجب أن يعلم بلطف ورفق وسياسة، وإن علم أنه إذا سمع الكلام لغيره فهم ورجع عن فعله، فينبغي أن يخاطب ممن لا يشق عليه ويسمعه. فلو رأى رجلاً مسيئاً في صلاته لجهله، ويعلم من حاله أنه لو علم أن هذه الصلاة كعدمها لم يرض لنفسه ترك الصلاة. وكذلك إذا رآه يجمع الصلوات ليلاً، ومتى وجد الفراغ لشغله عنها، فينبغي أن يتلطف في موعظته وتعليمه مثل أن يقول له: أنا أعلم أنك مشتغل عن التعلم

وعن الطمأنينة، وإذا صلبت كل صلاة في وقتها بما أنت فيه من الشغل أو السعي على العائلة والخدمة، وأنت كالمعذور في صلاتك هذه إذ ترى كثيراً من الناس يصلون كصلاتك فتظن أن ذلك جائز، والذي ينصح الإنسان في دينه قليل ونحو هذه العبارات، ولكن يا أخي لا يعذر أحد في ترك تعلم أمور دينه فإن الله تعالى قال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وصلاة المسيء والمحسن وقتها متقارب، والصلاة مؤقتة، والعلماء كلهم متفقون على أن الإنسان لا يجوز له أن يخرج الصلاة عن وقتها عمداً، ولقد كنا مثلك ولكن العلماء أرشدونا وعلمونا، والمرء لا يولد عالماً، ونحو ذلك الكلام ليحصل المقصود من إرشاده وتعليمه من غير أن يحصل له أذى في باطنه، فإن إيذاء المسلم حرام إذا أمكن الوصول إلى إرشاده بدونه. وقد جاء في شعب الإيمان للبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف». وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يواجه أحداً بما يكره. وكان إذا بلغه / عن أحد من أصحابه شيء يكرهه يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وما بال رجال يفعلون كذا». ولا يعنيهم خشية أن يحصل لهم خجل واستحياء بالتعيين بين الناس ويكفهم ذلك في النهي. وانظر إلى قوله تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن أبي أمامة – رضي الله عنه- «أن غلاماً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فصاح الناس به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدن مني. فدنا حتى جلس بين يديه. قال أتحبه لأمك؟ قال: لا. جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا. جعلني الله فداك قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ وزاد ابن عوف أحد رواه الحديث أنه ذكر العمة والخالة – وهو يقول في ذلك كله: لا جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: كذلك الناس لا يحبونه. فوضع صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه وحصن فرجه. فلم يكن شيئاً أبغض إليه منه» يعني الزنا. وقال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم فقال: يا ابن أخي، إنّ لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك، قال: نعم وكرامة. فرفع إزاره، فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشده لقال: ولا كرامة وشتمكم. قال عبد الله بن زكريا العلائي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة وجذبها، فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه، فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي. ثم قال: إليّ يا ابن أخي فاستحى الغلام، فجاء إليه فضمّه إلى نفسه، ثم قال له: امض معي فمضى معه حتى سار إلى منزله وأدخله الدار، وقال لبعض غلمانه: بيّته عندك فإذا أفاق

من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق وذكر له ما جرى / استحي منه، وبكى وهمَّ بالانصراف، فقال الغلام: قد أمرنا أن تأتيه، فأدخله عليه فقال: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما ترى من ولدك؟ فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أنَّي لا أعود إلى شرب النبيذ، ولا لشيء كنت فيه، وأنا تائب. فقال: ادن مني فقبّل رأسه؛ وقال: أحسنت يا بني. وكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب الحديث ثم قال: الناس يأمرون بالمعروف فيكون معروفهم منكراً، عليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون. 2 - فصل فإذا كان الفاعل يقدم على الفعل مع علمه أنه منكر، أو بعد تعريفه أنه منكر كالذي يواظب على الغيبة، أو أكل المكس أو الربا أو الرشوة مع علمه أنه حرام، ولكن لا يعلم رتبة تحريمه ولا ما جاء فيه من المواعيد والتهديد، فهذا ينبغي أن يوعظ ويخوف بالأخبار الواردة في تلك المعصية، ويدرج الكلام معه تدريجياً بشفقة ولطف من غير تعنيف ولا غضب ولا ازدراء، ولكن ينظر إليه بعين الرحمة، ويرى أن القضاء والقدر قد قهره على هذا، ويلاحظ هو بباطنه لطف الله تعالى به إذ حفظه من مثل هذه المعصية، ولو شاء لكان الأمر بالعكس، وأنه لا يدري إلى ماذا يصير حاله إذ القلوب بيد الله تعالى والنفوس لها إقبال وإدبار، وما يدري هل يدوم له هذا الحفظ أو الفتن والعياذ بالله تعالى. فكم من تائب عابد رجع إلى المعاصي فقبض عليها، وكم من عاص مسرف تاب الله عليه فجبت توبته ما سلف قبلها، وقبض طاهراً من لوث معاصيه مغفوراً له ما سلف قبلها من إسرافه.

والمقصود من ملاحظته ذلك أن لا يرى عند التعريف والإنكار عزة نفسه بالعلم والتنزه عن مثل هذه المعصية، وذل ذلك المنكر عليه بالجهل والوقوع فيها فيكون قصده الباطن بكلامه إظهار رتبته بشرف العلم والعفة وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل ورذالة المعصية، فإن علم من نفسه أن هذا هو الباعث له / على الإنكار؟ . قال الغزالي: فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه. ومثال هذا المنكر مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية الجهل وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله تعالى عيوب نفسه، وفتح عين بصيرته بنور هدايته فإن في الاحتكام على الغير لذة النفس عظيمة من وجهين: أحدهما: من جهة دالة العلم. والآخر: من جهة دالة الاحتكام والسلطنة. وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية المتداعية إلى الشرك الخفي، وله محك ومعيار ينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، وهو أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه، أو بإنكار غيره أحب إليه من امتناعه بإنكاره، ويرى أن القيام بالإنكار يشق عليه، ويثقل على نفسه، ويود أن يكفى بغيره فليمض في ذلك، فإن هذه علامات تدل على أنه مخلص. وإن فقدت هذه العلامات ورأى من نفسه كراهية لرجوعه إلى غيره، أو رأى عنده مسابقة إلى الإنكار خشية أن يسبقه إليه غيره، أو يثقل عليه أن يرجع

هو عن هذا المنكر بنفسه، ونحو هذه العلامات، فليتق الله ولينكر على نفسه أولاً، وفي مثل هذا ينبغي أن يقال له ما جاء في الآثار إن الله تعالى أوحى عيسى ابن مريم عليه السلام «يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني». وقيل لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ فقال: أخاف عليه السوط. قيل إنه قيل إنه يقوى عليه يعني أنه وطن نفسه على احتماله إن وقع واحتسابه عند الله تعالى [فقال: أخاف عليه السيف. قيل إنه يقوى عليه. قال: أخاف عليه] الداء الدفين العجب. واعلم: أن هذا الكلام وهذا المحك المذكور في هذه الدرجة لا يختص بها، بل ينبغي أن يلاحظ ذلك في جميع درجات الإنكار، فإن المرء مطالب بالإخلاص في جميعها وأنه لا يحتضر أخاه المسلم، ولو كان على أي حال كان لجهله بالخاتمة، والله ولي التوفيق. مسألة: من لم يقدر / على الإنكار باللسان، وقدر على إظهار دلائل الإنكار مثل تعبيس الوجه، والنظر شذراً، والتجهم وإظهار الكراهة لفعله، والازدراء به، وهجره في الله تعالى لزمه ذلك، ولا يكفيه العدول إلى الإنكار بالقلب مع إمكان الإنكار الظاهرة، والله أعلم. 3 - فصل فإن لم يرجع بالوعظ والنصح والتذكير، وعلم منه الإصرار على المعصية، والاستهزاء، وقلة المبالاة، والتصريح بعدم الرجوع، فيغلظ له الكلام ويخشن عليه ويسبه من غير فحش، مثل أن يقول له: يا فاسق يا جاهل يا أحمق يا من

لا يخاف الله يا ظالم نفسه يا من ليس له مروءة، ونحو هذا من الكلام، ويراعي الصدق في ذلك، فإن مثل هذا الكلام ليس عليه فيه شيء إذ هو صدق في الحقيقة، وليحذر أن يسترسل به الغضب إلى الخروج إلى الكلام بما لا يجوز له مما هو كذب في نفس الأمر، أو باطل أو فاحش ونحو هذا. واعلم أن هنا دقيقة عظيمة مهمة – قل من ينتبه لها – وهو أنه يجب أن يكون قصده بتغليظ الكلام وتخشينه رجوع العاصي عن تلك المعصية لا الانتصار لنفسه، لكونه رد كلامه واستهزأ به، فإنه ربما يكون مخلصاً في ابتداء الإنكار، فإذا استهزأ به ثارت نفسه، وأغلظ في الكلام، وربما وقع في الفحش والكذب واللعن والضرب، ربما تعلق به واستعدى عليه إلى الحاكم، وكل ذلك في الحقيقة انتصار لنفسه لا غضب لله ولمحارمه، فخرج بهذا عن دائرة الإخلاص، ووقع في مهوات الغضب والحمق المنهي عنه، وصار ممن يجب الإنكار عليه بعد أن كان منكراً، ومثال هذا كمن يغسل الدم من ثوبه ببول الكلب فلينتبه المنكر لهذا فإنه قل من يسلم منه. فإن قلت: بم يفرق بين الغضب لله والانتصار للنفس؟ قلت: محك الاعتبار في هذا أن ينظر في نفسه لو حصل له سب وشتم واستهزاء مع زوال المنكر هل كانت نفسه ترضى بذلك وتسكن إليه؟ فإن وجدها راضيةً بذلك مطمئنة به صابرة على ما نالها من السب / والاستهزاء محتسبة له عند الله تعالى، علمنا بذلك أنه مخلص، وأنه ما كان قصده إلا وجه الله تعالى، وتغيير المنكر وقد حصل مقصده، فمثل هذا لا حرج عليه إذا سب أو غلظ الكلام إذا تبين أنه مخلص في جميع ذلك. وإن وجد نفسه لا ترضى بذلك، ولا تصبر عليه، بل كان يقابله بما تصل إليه الاستطاعة من السب والأذى، علمنا أن ثم دسيسة نفسية من حب الرئاسة

والاحتكام ونفاذ الكلام، فمثل هذا ينبغي أن يمسك من الكلام الغيظ إلى أن يتحقق من نفسه الإخلاص. اعتبار آخر: وهو أن ينظر لو رجع في أثناء الكلام الغليظ عن ذلك المنكر، هل كان يسكن غضبه ويمسك عن الكلام؟ فإن علم أنه يسكن غضبه، ويمسك عن الكلام متى زال المنكر، علمنا أنه مخلص، وأنه ما كان قصده إلا زوال المنكر، وقد زال فلم يبق للكلام الغليظ فائدة، وإن علم أنه لا يسكن غضبه، ويتم يسترسل في الكلام علمنا أن الحامل له على ذلك باعث نفساني، وغضب كمين لغير الله تعالى، بل مقابلة على الإساءة فيمسك عن الكلام، والله أعلم. اعتبار آخر: وهو أن يقدر أن المنكر عليه استهزأ به، وسبه وشتمه، وأنه هم باغلاظ الكلام له وتخشينه عليه فجاء إنسان، فقام مقامه في ذلك وأغلظ له القول فرجع إليه، وزال ذلك المنكر هل كان ذلك يسره أم لا؟ فإن كان ذلك يسره ويفرح به، ويرى لله تعالى المنة عليه فيه إذا صان لسانه عن الكلام السيء، وإيحاش قلب أخيه المسلم مع حصول المقصور من زوال المنكر، وأنه حصل له ثواب بينته، وأجر ما أصيب به في عرضه فهذا مخلص. وإن كان لا يرده عن الشرع في السب والتغليظ وجود غيره ويثقل عليه كون المنكر زال بكلام غيره من غير سب واستهزاء، ولم يزل بكلامه مع ما حصل له من السب والاستهزاء فهو غير مخلص، والله أعلم. 4 - فصل هذا الذي ذكرناه في الفصلين المتقدمين هو فيما لا يمكن تغييره باليد كالغيبة، والنميمة، وأكل المكس، والحرام ونحو ذلك، فإن كان مما يغير باليد / بادر

إلى تغييره بيده كإراقة خمره وكسر وعوده وآلات لهوه، وتجريده من خاتم الذهب، وثوب الحرير ومنعه من الجلوس على الحرير إن كان ممن يعتقد تحريم الجلوس عليه، وإخراجه من الدار المغصوبة، ومن المسجد إن كان جنباً، أو أكل بصلاً أو ثوماً أو فجلاً ونحو ذلك مما له رائحة كريهة يتأذى بها الإنسان. ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا وجد من الرجل في المسجد ريح البصل والثوم أمر به فأخرج إلى البقيع». وإن لم يخرج إلا بجره فليجره بيده، ونحوها دون ذقنه وشعر رأسه، فإن لم يطق خروجه بجره بيده فليجره برجله، وإن أمكنه أن لا يباشر شيئاً من ذلك بيده ويكفيه غيره فليفعل. تنبيه: ويتوقى في إراقة كسر أوانيها، فإن لم يقدر على إراقتها إلا بالكسر كسرها لأن الأواني صارت حائلة بينه وبين الوصول إلى الخمر الواجب إراقتها، وذلك كما إذا كان الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس، ولو اشتغل بإراقتها أطال الزمان وأدركه من يمنعه من ذلك فله كسرها، وكذلك إذا كان يضيع زمانه في إراقتها، ويتعطل عليه اشتغاله فله كسرها، وليس عليك أن يضيع منفعة نفسه وعرضه من اشتغالة لأجل ظروف الخمر، وسقطت قيمتها إذا كان لا يتوصل إلى إراقة ما فيها إلا بكسرها. وكما نقول لو ستر الخمر بيديه، أو غصب دراهم وأطبقت عليها يديه، فإنا نقصد يديه بالضرب لتصل إلى إراقة الخمر، وتخليص الدراهم فكسر الظروف أولى إذ لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه. لكن لو كانت الإراقة متيسرة لو وسع رأس الإناء، أو مبادرة الغير إلى إراقته، ونحو ذلك وكسر الظروف لزمه الضمان، اللهم أن لا يكون المنكر حاكماً قال الغزالي: فإن رأى الوالي أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمر زجراً لصاحبها فعل.

ويدل على ما ذهب إليه ما رواه الترمذي عن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال يا نبي الله اشتريت خمراً لأيتام في حجري قال النبي صلى الله عليه وسلم «أهرق الخمر واكسر الدنان». وإنما جاز ذلك للحاكم دون غيره لأن الرجز عما يستقبل، والعقوبة على ما مضى ليس لآحاد الرعية، وإنما هو / للوالي، وأما آحاد الرعية فليس لهم إلا الدفع في الحال لا غير. فإن قلت: هل له أن يكسر آلات اللهو كالبرابط والطنبور والعود ونحو ذلك، والصنم والصليب إذا أظهرهما النصراني، وأواني الخمر حيث جاز له كسرها كسر لا ينتفع بها بعده أم لا؟ وهل له أن يحرق ذلك ويلقيه في البحر ونحو ذلك؟ قلت: أما أواني الخمر حيث أبيح له كسرها للتوصل إلى إراقة ما فيها، فإذا كسرت في أول ضربة كسراً يحصل به المقصود من إراقة ما فيها فليس له أن يرضها بعد ذلك ولا أن يلقيها في البحر، فإن دافعه صاحبُها ومنعه من كسرها فله كسرها كيف ما قدر لإراقة ما فيها، ولو أن يلقي عليها حجراً فيرضها أو يدفعها برجله في البحر ونحو ذلك. وأما غير ذلك مما ذكرناه من آلات وغيرها فقال الرافعي والنووي وغيرهما في حد الكسر المشروع وجهان: أحدهما: أنها تكسر وترضض حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منه لا الأولى ولا غيرها. وأصحهما ألا تكسر الكسر الفاحش لكن تفصل وفي حد التفصيل وجهان: أحدهما: قدر لا تصلح معه الاستعمال المحرم حتى إذا رفع وجه الربط وبقي عليه صورة فظيعة كفى.

والثاني: قدر تفصل إلى حد لو فرض اتخاذ آلة محرمة من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في ابتداء الاتخاذ، وهذا بأن يبطل تأليف الأجزاء كلها حتى تعود كما كانت قبل التأليف، وهذا أقرب إلى كلام الشافعي وجماهير الأصحاب. هذا كلام النوويّ في الروضة، وجزم الغزاليّ في الإحياء بهذا الوجه ولم يذكر غيره. وعلى هذا لو جاوز الحد المشروع في الكسر لزمه التفاوت بين قيمتها مكسورة بالحد المشروع، وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أتي به. وهذا الذي ذكرناه إنما هو فيما إذا تمكن المنكر من كسرها على الحد المشروع، وأما إذا لم يتمكن لمدافعة من هي في يده، أو عدم آلة يفصلها بها، أو خوف آت بينه وبين ذلك فله أن يكسرها كيفما اتفق ولا ضمان عليه قطعاً. قال الغزالي في البسيط: وأجمعوا على أنه لا يجوز له إحراقها لأن رضاضها متمول، انتهى. / قلت: فإن دافعه كما تقدم ولم يجد سبيلاً إلى إزالة ذلك المكان إلا بإلقائها في النار أو البحر ونحو ذلك فله ذلك، والله أعلم. مسألة: الخمر إذا لم تكن محترمة فإنها تراق على المسلم وعلى الذمي أيضاً إذا أظهرها، أو أظهر شراءها أو بيعها أو هبتها ولو لذمي مثله، وكذلك الخنزير ولو غصب مسلم خمر الذمي ولم يظهره وجب ردها إليه، فإن أراقها المسلم فلا شيء عليه. 5 - فصل فإن لم يتمكن من إزالة المنكر إلا بضرب المنكر عليه فليضربه بيده ورجله ونحو ذلك، وليحذر ما يفعله كثير من الناس إذا وصل في الإنكار إلى هذه

الرتبة من الاسترسال في الضرب بعد زوال المنكر فإن ذلك لا يجوز لآحاد الرعية. قال الغزالي: فإن احتاج إلى شهر سلاح وكان يقدر على رفع المنكر بشهر السلاح فله أن يتعاطى ذلك، كما لو قبض فاسق على امرأة مثلاً، أو كان يضرب بمزمار معه وكان بينه وبين المنكر عليه نهر جار، أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول: خل عنها أو لأرمينك فإن لم يخل عنها فله أن يرميه، وينبغي ألا يقصد المقاتل بل الساق والفخذ وما اشبهه، ويراعي فيه التدريج، وكذلك سل السيف ويقول: اترك هذا المنكر أو لأضربنك، فكل ذلك رفع للمنكر، ورفعه واجب بكل ممكن ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله تعالى، وبين ما يتعلق بالآدميين، انتهى. وقال الرافعي: من أقدم على محرم من شرب خمر أو غيره هل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. نهياً عن المنكر ومنعاً عن المعصية. والثاني: لا. خوف من الفتن التي تتولد منه. ونسب الإمام هذا الثاني إلى الأصوليين، والأول إلى الفقهاء، وهو الذي يوجد للأصحاب في كتب المذهب حتى قال الغوراني وصاحب التهذيب والقاضي الروياني وغيرهم: من علم بخمر في بيت رجل أو طنبور، وعلم بشربه أو ضربه فله أن يهجم على صاحب البيت ويريق الخمر ويفصل الطنبور، ويمنع أهل الدار من الشرب والضرب، وإن لم ينتهوا فله أن يقاتله، وإن أتى القتال عليهم وهو مثاب على ذلك. وفي تعليقة إبراهيم المروزي "أن من رأى مكباً على معصية من زنا أو شرب خمر أو رآه / يشرخ رأس شاة، أو عبد فله دفعه، وإن أتى الدفع على نفسه، انتهى.

6 - فصل فإن لم يزل ذلك المنكر إلا بأعوان يشهرون السلاح، وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوان وسلاح، ويؤدي ذلك إلى المقاتلة ففي اشترط استئذان الإمام في هذه الدرجة خلاف. فذهب جماعة إلى أن ذلك إذا أدى إلى نصب قتال وشهر سلاح فلا بد من إذن السلطان، منهم إمام الحرمين في الغياث والقاض عياض في شرح مسلم والرافعي والنووي وغيرهم. وذهب آخرون إلى أن ذلك لا يحتاج إلى إذن وهو الأقيس عند الغزالي وعلله بأن قال: إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته يجر إلى ثوان وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون، فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف، ومنتهاه تجنيد الجنود في رضي الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الرعية الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فوق الكفار قمعاً لأهل الكفار، فكذلك قمع أهل الفساد جائز، لأن الكفار لا بأس بقتله والمسلم إذا قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله. والمنكر المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد، وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر فلا يغير به قانون القياس، بل يقال كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وسلاحه وبنفسه وأعوانه، والمسألة إذا محتملة كما ذكرنا، انتهى. تنبيه: هذا الذي ذكرناه في هذا الفصل والذي قبله إنما هو فيما إذا كان المنكر على غير السلطان فإذا كان السلطان فليس لأحد منعه بالقهر باليد، ولا أن يشهر

عليه سلاحاً، أو يجمع عليه أعواناً لأن ذلك تحريكاً للفتن، وتهييجاً للشر، وإذهاباً لهيبة السلطان من قلوب الرعية، وربما أدى إلى تجريهم على الخروج عليه وتخريب البلاد، وغير ذلك مما لا يخفى. وأما الإنكار على السلطان بالسب وتخشين الكلام، كقولك: يا ظالم يا جائر يا فاسق يا من لا يخاف الله، ونخو هذا / الكلام فينظر إن علم أن شر ذلك يتعدى إلى غير القائل لم يجز له الإقدام عليه كما في غير السلطان، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه، كان ذاك جائزاً بل مندوباً إليه لأن فيخ تحريضاً للشهادة. كما جاء في الأحاديث المتقدمة "إن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، وإن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وقال الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن": من رأى منكراً يرجو زواله، وخاف على نفسه من تغييره الضرب والقتل جاز له الاقتحام عند أكثر العلماء عند هذا الغرر وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه. قال: والذي عندي أن النية إذا حصلت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي، انتهى. وقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المنهج ولا ذهاب الأموال، متعرضين بذلك لأنواع المحن والعذاب، موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين ما نالهم من المصائب، صابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين له عند الله. قال الله تعالى حكاية عن وصية لقمان الحكيم لابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].

وأوصى بعض السلف بنيه فقال: إن أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر، وليثق بالثواب من الله تعالى، فمن وثق بالثواب من الله تعالى لم يجد مس الأذى، ولقد كان الله تعالى يحفظ أكثرهم من بأس الظالمين ببركة إخلاصهم، وحسن مقصدهم، وقوة توكلهم، وابتغائهم بكلامهم وجه الله تعالى. حكي: سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - قال: دخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت له: اتق الله قد ملأت الأرض ظلماً وجوراً. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه، وقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت: إنما / أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت: حج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال لخازنة: كم أنفقت؟ قال: بضعة وعشر درهماً، وأرى ها هنا أموالاً لا تطيقها الجبال. هذا كلام لأبي جعفر المنصور وقوله: ملأت الأرض ظلماً وجوراً، فكيف لو رأى زماننا وأهله؟ . ولقد اتفق لأبي جعفر هذا في حجته هذه قضية ينبغي ذكرها ليعلم بها قدر رتبته بالنسبة إلى أهل زماننا. ذكر القرطبي - رحمه الله - في تاريخه أنّ أبا جعفر لما حجّ استأجر جمّالاً مدة أربعين يوماً، فلما دخل المدينة أقام بها مدة فاستعدى عليه الجمال إلا قاض المدينة وقال: إنّ أمير المؤمنين استأجرني أربعين يوماً وإنّ له اليوم ستين يوماً، فكتب القاضي في ورقه: ليحضر أبا جعفر مجلس الشرع الشريف، وقال لرجل من جلسائه: اذهب إلى أبي جعفر فأعطه هذا الكتاب، وقل له: إن القاضي يطلبك إلى مجلس الشرع، فقال: أو يعفيني القاضي فقال: لا بد لك من ذلك،

فذهب بكتابه إلى أمير المؤمنين، ولم يتجرأ على الدخول إليه بالكتاب فوجد الربيع، فقال له: مالك؟ فذكر له القصة، فدخل على أمير المؤمنين وأخبره الخبر فقام في الحال وأمر منادياً ينادي في العسكر: إنّ أمير المؤمنين قد طلب في مجلس الشرع فلا يتحرك له أحد من مكان، ثم خرج يمشي هو والربيع إلى أن قرب من منزل القاضي فقال للربيع إن تحرك لي القاضي من مجلسه فهو معزول، فدخل عليه وكان متربعاً فاحتبى بثوبه، وأوقف أمير المؤمنين مع الجمال فادعى عليه قال: ما تقول؟ قال: قد أمرت له بما ادعى، فرضي الجمال وخرج، فلما خرج قام القاضي من مجلسه، وجلس / بين يدي أمير المؤمنين. ليت شعري! متى نرى من يعظم الشرع وينقاد له كما انقاد هذا الذي يقول له سفيان الثوري: قد ملأت الأرض ظلماً وجوراً؟ . اللهم أصلح أحوالنا، ووفق من وليته شيئاً من أمورنا، فإن نواهي الخلق بيدك، والهداية والتوفيق إليك، وأنت على كل شيء قدير. ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال: أيها الأمير قرأت في بعض الكتب من أحق من السلطان، ومن أجهل ممن عصاني، ومن أعز ممن اعتز بي، أيها الراعي السوء: دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً، فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاماً تتقعقع، قال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك قال: لا. قال: قلة الطمع إلينا وترك الإمساك لما في أيدينا. ولقد صدق هذا القائل فإنّ من لم يقطع أطماعه من الخلق، ولم ييأس مما بأيديهم، ولم يعول في نفع ولا ضر عليهم لا يمكنه أن يأمرهم ولا ينهاهم. - وقد روي عن بعضهم المشايخ أن كان له سنور - وهو القط - وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره، فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار أولاً، وأخرج السنور، ثم جاء وأنكر على القصاب، فقال له القصاب: لا أعطيك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما أنكرت عليك إلا بعد إخراج السنور، وقطع الطمع منك.

- ولما قدم سليمان بن عبد الملك المدينة - وهو يريد مكة - أرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، فقال: أي المؤمنين أكبس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله، ودعا الناس إليها، قال: فأي المؤمنين أخس؟ قال: رجل أخطأ قي هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني. قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليّ، قال: يا أمير المؤمنين: إن آباءك قهروا الناس بالسيف / وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين، ولا رضى منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم، فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت. قال أبو حازم: إن الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فقال: كيف لا نصلح هذا الفساد؟ فقال: أن تأخذ من حله فتضعه في حقه. فقال سليمان: ومن يقدر عليه؟ قال: من يطلب الجنة، ويخاف من النار. فقال: ادع لي. قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسر له خير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى. فقال سليمان: أوصني، قال: عظم ربك، ونزهه أن يراك حيث ينهاك، أو يفقدك حيث أمرك. - وعن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان، وهو جالس على سريره، وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجه في وقت خلافته، فلما نظر إليه قام إليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين: اتق الله في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حسن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله

فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك دونهم، فقال له: أفعل. ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حاجة لغيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج. فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك الشرف. - وحكي أن المهدي أمير المؤمنين لما قدم مكة لبث ما شاء الله، فلما أخذ في الطواف نحي الناس عن البيت، فوثب عبد الله بن مرزوق فلبّبه بردائه ثم هزّه، وقال له: انظر ما تصنع، مَنْ جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من البعد حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه، من جعل / لك هذا؟ فنظر في وجهه وكان يعرفه لأنه من مواليهم فقال: عبد الله بن مرزوق قال: نعم، فأخذ وجيء به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع عليه بها في العامة فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب، وضموا إليه فرساً عضوضاً سيء الخلق ليعقره الفرس فليّن الله - تعالى - له الفرس، ثم صيروه إلى بيت فأغلق عليه، فأخذ المهدي المفتاح عنده، فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل فأذن به المهدي فقال: من أخرجك؟ قال: الذي حبسني. قال: فمن حبسك؟ قال الذي أخرجني. قال: فضج المهدي، وصاح: ما أخلق بنا أن نقتلك فرفع إليه عبد الله رأسه - وهو يضحك - ويقول: لو كنت تملك حياتاً أو موتاً. قال: فما زال محبوساً حتى مات المهدي، ثم خلوا عنه ثم رجع إلى مكة، وكان قد جعل على نفسه نذراً إن خلصه الله - تعالى - من أيديهم أن ينحر مائة بدنة، فكان يعمل في ذلك حتى نحر مائة بدنة. - وروي عن عبد الجبار بن عبد الله قال تنزه هارون الرشيد بالدروق، ومعه سليمان بن أبي جعفر، فقال له هارون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها، فجاءت فغنت فلم تحسن الغناء. فقال لها: ما شأنك؟ قالت: ليس هذا عودي. فقال للخادم: جئها بعودها. فقال: فجاء بالعود، فوافق شيخاً يلقط النوى فقال: الطريق يا شيخ فرفع الشيخ رأسه فرأى العود، فأخذه فضرب به الأرض، فأخذ الخادم وذهب به إلى صاحب الربع، فقال: احتفظ بهذا فإنه

سيطلبه أمير المؤمنين، فقال له صاحب الربع: ليس ببغداد عبد من هذا فكيف يكون من طلبة أمير المؤمنين فقال له: اسمع ما أقول لك، ثم دخل على هارون فقال: إني مررتُ على شيخ يلتقط النوى، فقلت له: الطريق يا شيخ، فرفع رأسه فرأى العود فأخذه وضرب به الأرض، فاستشاط هارون غضباً، واحمرت عيناه، فقال له سليمان بن أبي جعفر: ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين؟ ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرمى به في دلجة فقال: لا / لكن نبعث إليه نناظره أولاً، فبعث إليه فجاءه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين قال: نعم قال: اركب. قال: لا فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر فقيل لهارون: قد جاء الشيخ. فقال للندماء: أي شيء ترون؟ نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر [فقالوا: نقوم إلى مجلس ليس فيه منكر أصلح بنا فقاموا صغرة "أي أذلاء" إلى مجلس ليس فيه منكر] ثم أمر بالشيخ فأدخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى فقال له الخادم: اخرج هذا وادخل على أمير المؤمنين فقال: من هذا عشائي الليلة. قال: نحن نعيشك. قال: لا حاجة لي في عشائك. فقال له هارون: أي شيء تريد منه. قال: في كمه نوى. فقلت له: اطرحه وادخل على أمير المؤمنين. فقال: دعه لا تطرحه. قال: فدخل وسلم وجلس فقال له هارون: يا شيخ ما حملك على ما صنعت؟ قال: وأي شيء صنعت؟ وجعل هارون بستحي أن يقول له: كسرت عودنا، فلما أكثر عليه قال: إني سمعت آباءك وأجدادك يقرؤون هذه الآية على المنبر {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] ورأيت منكراً فغيرته قال: فغيره، فوالله ما قال إلا هذا، فلما خرج أعطى رجلاً بدرة يعني عشرة آلاف درهم. فقال له: اتبع الشيخ فإن رأيته يقول قلت لأمير المؤمنين، وقال لي فلا تعطه شيئاً به فإن رأيته لا يكلم أحداً فأعطه البدرة، فلما خرج من القصر إذا هو بنواة قد غاصت في الأرض فجعل يعالجها ولم يكلم

أحداً، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذ هذه البدرة فقال قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها. فانظر - رحمك الله - كيف حفظه الله من سطوتهم، ورد عنه كيدهم ببركة الإخلاص والتقوى، ولو اتفق هذا لغيره من الحمقى لخرج يقول اتفق لي مع أمير المؤمنين كذا، وقلت لأمير المؤمنين كذا وقال لي أمير المؤمنين كذا، يتبجح به ولا يقنع بعلم الله تعالى واطلاعه، فليتنبه المتنبه لمثل هذا، فإنه دليل على ما في القلب من الداء الدفين من الرياء وطلب الجاه والمنزلة. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وأدق من هذا وأغمض / ما حكاه أحمد بن إبراهيم المقرئ قال: كان أبو الحسين النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيره، ولو كان فيه تلف، فنزل يوماً إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذا رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار لطف فقرأه وأنكره لأنه لم يعرف في التجارات ولا في اليبوع شيئاً يعبر عنه بلطف فقال للملاح: أي شيء في هذه الدنان؟ قال: وأي شيء عليك؟ أمض لشغلك: فلما سمع النوري من الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته، فقال: أحبُّ أن تخبرني أي شيء في هذه الدنان. فقال له الملاح: أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد يريد أن يتم به مجلسه. فقال النوري: هذا خمر؟ قال: نعم. قال: أحب أن تعطيني ذلك المدري فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه المدرى حتى انظر ما يصنع، فلما صار المدرى في يده صعد إلى الزورق فلم يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً، والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب العسس، وهو

يومئذ مؤنس بن مفلح، فقبض على النوريّ وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس أنه سيقتله، قال أبو الحسين: فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي من حديد، وبيده عمود حديد بقلبه، فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب. قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين. قال: فاطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قلت: شفقة مني عليك إذا بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت قال: فأطرق ساعة مفكراً في كلامي، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلص منك هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ قلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إني قدمت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه وتعالى بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالب فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى / أن صرت إلى هذا الدن فوجدت في نفس كبراً على أن قدمت على مثلك فمنعت، ولو أقدمت عليها بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دناناً لكسرتها ولم أبال. فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك على ما أحببت أن تغيره من المنكر. قال أبو الحسين: فقلت يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير لله وأنا اليوم أغير شرطياً فقال المعتضد: سل حاجتك. فقلت يا أمير المؤمنين: تأمر بإخراجي من بغداد سالماً. فأمر له بذلك فخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأل حاجة يسألها المعتضد، وأقام البصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد. فانظر - رحمك الله - إلى هذا العارف كيف أقدم على هذا الباب المخوف واستولى عليه شهود جلال الله وعظمته وكبريائه، فغاب بذلك عن شهود هيبة الخلق، وخوف سطوتهم وطغيانهم، ولم يشغله بما هو مهتم به عن ملاحظة الحق ومشاهدة الإخلاص، وتحقق حسن القصد في كل حركة من حركاته، فلما تنكرت له نفسه في أثناء الفعل وتغيرت عليه وتلوتن في قصدها، وعلم ما هجس

فيها من دسيسة الالتفات إلى رؤية ما فيها أمسك ولم يسترسل فيما هو فيه مع شيء يشوب الإخلاص، وانظر لما رأى الخلق كيف طلب الخروج من البلد لئلا يكون إنكاره المنكر وسيلة إلى التعرف بأمير المؤمنين أو إلى الشهرة بين الناس فمثل هذا ينبغي أن يتصدى للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وإلا فلا. (فما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الجنان جميل) فما أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها، وفي الألسن الذربة فقيدها، وفي أيدي السلطة فعقلها. وأما زماننا هذا فقد قيد الطمع ألسن العلماء، فسكنوا إذا لم تساعد أقوالهم أفعالهم، ولو صدقوا الله لكان خيراً له. فإذا نظرنا إلى فساد الرعية وجدنا سببه فساد الملوك، وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء / والصالحين، وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه. اللهم استر فضايحنا وتولى مصالحنا، وخذ بأزمة قلوبنا إليك، واستعملنا فيما يرضيك يا أرحم الراحمين. وأما من تعرض للأمراء والسلاطين لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأغلظ لهم القول فأكرمه الله بالشهادة وأعد له الحسنى وزيادة فكثير. وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]. قالوا: وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثني عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً في آخر النهار) وهو الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية في قوله تعالى {يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]. والقسط: العدل. قال القرطبي: دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمة. قال: وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف مع خوف القتل، انتهى. - وحكي أن حطيط الزيات جيء به إلى الحجاج قال له: أنت حطيط؟ قال: نعم. سل عما بدا لك فإني عاهدت الله تعالى على المقام على خصال ثلاث إن سُئلت لأصدقن، ولئن أبتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال فما تقول فيّ؟ قال: أقول إنك من أعداء الله تعالى في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: إنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب. / قال فانتهى به إلى العذاب إلى أن شقوا له القصب ثم جعلوه على لحمه ثم شدوه بالحبال ثم جعلوه يمدونه قصبة قصبة حتى انتجلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً.

قال: فقيل للحجاج: إنه في آخر رمق. قال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر: فأتيته أنا وصاحب لي فقلنا له: يا حطيط، ألك حاجة؟ . قال: شربة ماء. فأتوه بشربة ثم مات، وكان ابن ثمانية عشر سنة رحمه الله تعالى. - وروى أبو العباس الهاشمي عن الحارث المحاسبي قال: كنت ليلة قاعداً في محرابي وإذا أنا بفتي حسن الوجه طيب الرائحة، فسلم عليّ ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت؟ فقال: أنا واحد من السائحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك؟ قال: قلت له كتمان المصائب واستجلاب الفوائد قال: فصاح وقال: ما علمت أن أحداً بين جنبتي المشرق والمغرب هذه صفته. قال الحارث: فأردت أن أزيد عليه فقامت له: أما علمت أن أهل القلوب يحملون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله - عز وجل - كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم؟ قال: فصح صيحة غشي عليه فمكث عندي يومين لا يعقل ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه فعلمت زوال عقله فأخرجت له ثوباً جديداً وقلت له هذا كفني وقد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك قال: هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف في الثوب وخرج فقلت له: إلى أين تريد؟ فقال لي: قم فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون أمير المؤمنين فسلم عليه ثم قال له يا ظالم وأنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم استغفر الله من تقصيري فيك أما تتقي الله فيما قد ملكك الله، وتكلم بكلام ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال من أنت؟ قال: أنا رجل من السائحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظاً فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم قال: فأمر بضرب عنقه وأخرج وأنا قاعد على الباب ملفوف في ذلك الثوب ومناد ينادي من ولي هذا فليأخذه قال الحارث: / فانتبذت عنه فأخذه أقوام غرباً فدفنوه وكنت معهم لأعلمهم بحاله فأقمت في مسجد المقابر محزوناً على الفتى عيناي فنمت فإذا هو

بين وصايف لم آر أحسن منهن وهو يقول: يا حارث أتيت والله الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم فقلت: وما فعلوا؟ قال: الساعة يلقونك فنظرت إلى جماعة ركباناً فقلت: من أنتم؟ قال: حرك هذا كلامك له ولم يكن في قلبه مما وصفت شيئاً فخرج للأمر والنهي وإن الله عز وجل أنزله معنا وغضب لعبده. فإن قيل هذا وأمثاله قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة المنهي عنها وإلا فما معنى قوله تعالى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] قلت: هذه الآية جارية على ألسنة كثير من الناس في مثل هذا لما غلب عليهم من الجهل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استولى على قلوبهم من الركون إلى مداهنة الخلق وإيثار مودتهم وبقاء صحبتهم، وثقل كلمة الحق على ألسنتهم، وما يلقيه الشيطان في قلوبهم من الخوف والجبن وتقدير البعيد من الضرورة قريباً، واعتقاد السكوت على المنكر وجوباً، وما علموا أن التهلكة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن النجاة هي الأمر والنهي إذ قال صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا». وتقدم في حديث النعمان بن بشير "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً". فالهلاك حقيقة هو السكوت والمداهنة، والنجاة في الدنيا والآخرة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما سبب نزول الآية فخرج الترمذي وصححه عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخروا إلينا صفاً عظيماً من الروم فحمل رجل من المسلمين على

صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم لتؤولون هذا التأويل وإنما نزلت / هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر أنصاره فقال بعضنا لبعض سراً - دون رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله تعالى قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد به علينا فيما قلناه {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب - رضي الله عنه - شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في النفقات في سبيل الله تعالى. رواه الواحدي وغيره. وروى أيضاً عن الشعبي قال: نزلت في الأنصار أمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت هذه الآية. وقد روى مثل هذا التفسير عن ابن عباس وحذيفة والحسن وعطاء ومجاهد وجمهور أهل التفسير، وذهب إلى ذلك البخاري ولم يذكر في صحيحه غيره. وقال السدي: أنفق ولو عقالاً ولا تلق بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء. وقال البراء بن عازب - رضي الله عنهما - التهلكة هي أن يذنب الذنب ثم يقول لا يُتاب عليّ. أخرجه البيهقي في السنن. وقال الغزالي: لا خلاف في أن المسلم الواحد يجوز له أن يهجم على صفّ

الكفار يقاتل، وإن علم أنه يقتل، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز ذلك أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام ودخل تحت عموم آية التهلكة. - وإنما جاز الإقدام إذا علم أنه لا يقتل إلا أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقداهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله تعالى فتكسر بذلك شوكتهم. - فكذلك يجوز للمنكر بل يستحب أن يعرض نفسه للضرب أو القتل إذا كان لإنكاره تأثير في رفع المنكرات، أو كسر جاه الفاسق أو فيه تقوية قلوب أهل الدين. فأما إن رأى فاسقاً وحده وعنده سيف وبيده/ قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضربه بالسيف فهذا مما لا أرى فيه للإنكار وجهاً وهو عين الهلاك، فإن المقصود أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له في الدين، بل ينبغي أن يكون هذا حراماً، انتهى. فإن قلت: فهؤلاء الذين ذكرتهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك فهلكوا ولم يؤثر إنكارهم في الدين أثراً. فالجواب: أن هؤلاء إنما أقدموا على الإنكار بقصد أن يؤثروا أثراً في الدين وأن يصدعوا بما أمروا به من الإنكار على الظالمين، فإذا لم يحصل أثر كفاهم قصدهم حجة عند الله تعالى، ووقع أجرهم على من لا يضيع أجر المحسنين، كما إن المنغمس في الكفار لو حصل له حال انغماسه ضربة فمات قبل أن يقتل أحداً منهم أو يجرحه لم يؤاخذ بتغريره بنفسه، وكان شهيداً باعتبار قصده وإن لم يحصل. وجواب آخر: وهو أن في إقدامهم وفاء لما ندبهم إليه الشارع وإرهاباً

للفاسقين، وتقوية لقلوب المؤمنين، ومواساة للصابرين في دين الله تعالى، إذ لو فعل الناس كلهم كما فعلوا وأجمعوا على الإنكار على الظالم لما وسعه أن يتصدى وحده لقتل الرعية أجمعين. تنبيه: الداخل على الأمراء والسلطان لقصد الإنكار والموعظة يجب أن يكون قصده في ذلك خالصاً لله تعالى، فإن قد يقدم على هذا وإنما قصده أن يكون كلامه سبباً لتعرفه بالسلطان وطلب المنزلة عنده، أو يكون قصده طلب المحمدة من الناس وإطلاق ألسنتهم بالثناء عليه، والشكر لصنيعه وتعمير قلوبهم بتوقيره عندهم وتعظيمه، وأن يقال عنه إنه أغلظ للسلطان وأقدم عليه بالكلام ولم يبال فيصير معظماً عند الناس، ويخشاه أبناء جنسه إلى غير ذلك من المقاصد التي لا تنحصر لتنوع الأغراض، وهذه مزلة عظيمة يجب التفطن لها، والتنبه عليها، وتحقيق القصد قبل الوقوع فيها، وإلا فربما ناله مكروه في الدنيا وهو فيه غير مأجور، / بل آثم مأزور، وربما أفضى ذلك إلى قتله فقتل عاصياً، وهو يظن أنه أفضل الشهداء وإنما يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابراً صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً بعثك الله مرائياً مكاثرا». وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله تعالى -: سمعت بعض الخلفاء يقول كلاماً فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للناس فأقتل من غير إخلاص في الفعل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه - نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جوَّاد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار». فليحقق الإنسان قصده ويحرر نيته، ويحاسب نفسه قبل يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفي على الله منهم شيء {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 9 - 10]. وليعلم أن المحاسب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد روى أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم/ قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه». فإن قلت: فأي شيء يميز النية المصالحة الصالحة من المشوبة الفاسدة؟ ما العلامة في ذلك والمعيار في صحته؟

قلت: محك الاعتبار في ذلك أن يرى المنكر نفسه كالمكره على هذا الفعل كالمتكلف له والمتجشم المشقة فيه، ويود أن لو تصدى لهذا الفعل غيره وكفاه الله به ويحب أن لا يعلم به أحد من الناس اكتفاءً بعلم الله تعالى واطلاعه عليه، ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد، بل يود لو كلمه سراً ونصحه خفية من غير ثالث لهما، ويكره أن يقال عنه أو يحكى ما اتفق له وأن يشتهر بذلك بين العامة، بل لو أثر كلامه وغير المنكر بقوله ثم اشتهر عند الناس نسبة ذلك إلى غيره لما شق عليه ذلك، إذ في علم الله بحقيقة الحال كغاية وهو المجازي كل أحد يعمله، ويكون قصده زوال المنكر على أي وجه كان، ولو حصل له مع زواله ازدراء وسب وتغليظ كلام وذمّ بين الناس أو إعراض وهجر ممن عادته المودة له والإقبال عليه، وغير ذلك من الأحوال التي تكرهها النفوس وتنفر منها الطباع، وإن كان في إنكاره تعرض للقتل، فتراه لا يفرق بين أن يقتل سراً أو في ملأ بين الناس، إذ كان قصده وجه الله تعالى لا أن يُذكر بذلك. - فهذه كلها من علامات الإخلاص، وحسن القصد، وابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة. - وأما غير المخلص فبضد ذلك كله فيرى عند نفسه نشاطاً إلى هذا الفعل وإقبالاً عليه وسروراً به محب أن يكون جهراً في ملأ من الناس لا سراً، ويحب أن يحكى عنه ذلك وأن يشتهر به، وأن يُحمد عليه حتى لو نسب زوال المنكر إلى غيره لقامت قيامته، بل تراه ينقضي عمره وهو يحكي ما اتفق له وما قال وما قيل له متبجحاً بذلك بين أقرانه وأبناء جنسه، وربما زاد في القصة ونقص ولو سبقه غيره إلى ما كان هو عزم عليه/ من ذلك ورجع السلطان إلى قوله لثقل عليه ذلك، أو شق عليه وكان عنده بمنزلة الذبح وربما يقول لمن يطلع على نيته كنت عزمتُ على أن أدخل على السلطان فأقول له كذا وكذا ولكن سبقني فلان، ولكنه لم يتكلم كما ينبغي، ولو دخلت لقلت كذا ولفعلت كذا، وأيضاً فتراه يحب إقبال السلطان عليه وتعظيمه له ولو لم يأتمر بما أمره، ولم ينته عما

نهاه، ليخرج من عنده قائم الجاه، مسرور القلب، معظماً عند الرعية، ويشق عليه إعراض السلطان عنه، وحط منزلته عنده وعدم انصرافه في الكلام له، وذم الناس له على ما فعل ولو دفع زوال المنكر، فهذا كلها علامات تدل على سوء القصد وفساد النية، وعدم الإخلاص فتحبط الأجر وتوجب المقت من الله والإعراض يوم الجزاء، وترد صاحبها بالهوان والخسران يوم تشتد الحاجة إلى النقير والقطمير، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة 7 - 8]. فائدة: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو عليك فقل: الله أكبر، الله أعزّ من خلقه جميعاً، الله أعزّ مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك السموات السبع أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جاراً من شرهم، جل ثناؤك، وعزّ جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيره. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه ابن مردوية في كتاب الأدعية، وزاد بعد قوله: والإنس والجن اللهم إنا نعوذ بك أن يفطر علينا أحد منهم أو أن يطغى. - خرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تخوف أحدُكم السلطان فليقل اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم كن لي جاراً من شرّ فلان بن فلان - يعني الذي يريده - وشرّ الجن

والإنس وأتباعهم أن يفرط عليّ أحد منهم، عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، / ولا إله غيرك». - وخرج ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه عن أبي مجلز قال: من خلف من أمير ظلماً فقال: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن حكماً وإماماً نجاه الله تعالى منه. - وخرج أيضاً عن علقمة بن مرثد قال: إذا كان الرجل من خاصة الشعبي أخبره بهذا الدعاء "اللهم إله جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وإله إبراهيم وموسى وإسحاق عافني ولا تسلطن أحداً من خلقك لا بشيء لا طاقة لي به". وذكر أن رجلاً أتى أميراً فقالها فأرسله. - وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم". مسألة: من رأى بهائم استرسلت في زرع إنسان، ومالاً لمسلم قد أشرف على الضياع نظر إن كان لا يناله في إخراج البهائم وحفظ المال تعب في بدنه ولا خسران في ماله ولا نقصان في جاهه مثل أن ينبه صاحب الزرع في نومه، أو يعلم صاحب المال بحال ماله كان ذلك واجباً عليه، وإلا فمستحب وليس بواجب لأن للإنسان حقاً في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله. والفرق بين هذه المسألة ومسألة الغاصب الذي يجب رفعه بالدرجات

المذكورة في مراعاة المحذور، أنّ الغصب معصية يجب إنكارها لكونها معصية لكون المغصوب مال مسلم، وعلى المسلم أن يتعب نفسه في رب المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في تركها. مسألة: لو وجد إنساناً قطع طرف من أطرافه وكان لا يمتنع إلا بقتال، وربما يؤدي إلى قتله، فإننا نمنعه ونقاتله، لأن الغرض ليس هو حفظ نفسه وطرفه، وإنما الغرض حسم سبيل المعاصي والمنكرات، وقتله في الإنكار ليس بمعصية، وقطع طرف نفسه معصية، وكذلك دفع المسلم المقاتل على مال مسلم بما يأتي على نفسه فإنه جائز مال مسلم معصية وقتله / في الدفع عن المعصية ليس بمعصية، وإنما المقصود منع المعاصي. مسألة: قال الرافعي: منْ رأى إنساناً يتلف ملك نفسه، مثل أن يحرق كرسه ويفرق متاعه جاز له دفعه، فإن كان حيواناً بأن رآه يشدخ رأس حماره ففي وجوب الرفع لحرمة الحيوان وجهان المذكور منهما في التهذيب أنه يجب. مسألة: لو لم يقصد الفاسق من الأجنبية البضع، وقصد أن ينال ما دونه دُفع، وإن أتى الدفع عليه كان مهدراً. صرح به القاضي الروياني وغيره فقال: لو وجده ينال من جاريته دون الفرج فله دفعه، وإن أتى على نفسه قال: ويجوز للأجانب أن يدفعوه كذلك حسبة، والله أعلم. ونظائر هذه المسائل كثيرة مبسوطة في باب الجنايات من كتب الفقه، وفي هذا القدر كفاية، والله ولي التوفيق. مسألة رجل استعد المجلس وتزيينه وفرشه وجمع الرباحين لشرب الخمر

ولكن لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، وربما يعوق عنه عائق فليس لآحاد المسلمين الإنكار على هذا بطريق الوعظ والنصح، وأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز الآحاد الرعية بل ولا للسلطان إذا كانت تلك المعصية معلومة منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب الذي يفضي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس فيه انتظار ذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج، فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته، فينبغي إقامتهم عن الموضع ومنعهم من الوقوف بالتعنيف في نفسه، فإن كان يقصد العاصي ورآه كما أن الخلوة بالأجنبية معصية في نفسها لأنها مظنّة وقوع المعصية، وتحصيل مظنّة المعصية معصية، ويعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالباً ولهذا أمثلة كبيرة: كامرأة تزينت وخرجت من بيتها ليلاً وقد عهد منها الفسق. / ورجل أخذ سلاحه ووقف في الطريق وقد عرف بقطع الطريق. ورجل اشتغل بتعليم أمرد حسن وقد علم منه الميل إلى الأحداث. وإنسان عزم على دخول حمام فيه ناس وليس له مئزر. إلى غير ذلك من الأمثال. مسألة: قال الرافعي وغيره: إذا رؤى رجل واقفاً مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر. ويقول: إنْ كنت ذا محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله معها.

7 - فصل للولد أن يأمر الوالد وينهاه بالوعظ والنصح في الرفق والتلطف في الكلام، وليس له مقابلته بالتخويف والتهديد والضرب ولا بالسبّ والتعنيف وتخشين الكلام. وأما المنع بالقهر والمباشرة مثل أن يريق خمره ويكسر عوده، ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من مال مغصوب أو مسروق أو ما يأخذه من إدرار ورزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيناً، ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة ونحو ذلك. - قال الغزالي: فيه نظر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك، فإن فعله هذه الأمور ليس متعلقاً بذات الوالد بخلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه إلا أن فعل الولد حق، وسخط الوالد منشأه حب الباطل والحرام. قال: ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط، فإن كان المنكر فاحشاً وسخط عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه، فذلك ظاهر، وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت آنية من بلور أو زجاج على صورة حيوان وفي كسرها خسران مال كبير فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره. وهذا كله محل النظر، وإنما خصص الوالد بهذه التفاصيل مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد عاماً من غير تخصيص، لأن الأب قد ورد في حقه ما يوجب الاستثناء من العموم، لأنه ليس للجلاد أن يقتل أباه حداً في الزنا ولا أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل / أبيه الكافر بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته، فإذا لم يجز إيذاؤه بعقوبة

[هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة] هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى. وهذا الترتيب أيضاً ينبغي أن يجري في العبد مع سيده، والزوجة مع الزوج لأنهما قريبان من الوالد في لزوم الحق. - وقد سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على الوالد قال: يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه، وأما التلميذ مع شيخه فله أن يعامله بموجب علمه لأنه لا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه، انتهى.

3 - الباب الثالث في الترهيب من ترك ما أوجب الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الباب الثالث في الترهيب من ترك ما أوجب الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر بعض ما ورد في تلك من التغليظ والتشديد وذكر الأحوال التي يسقط فيها الوجوب ويبقى الاستحباب قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. وهذا غاية التشديد ونهاية التهديد لمن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إذ بين سبحانه أن السبب في لعنهم هو ترك التناهي عن المنكر، وبين أن ذلك عصيان منهم واعتداء، وأن ذلك بئس الفعل فاعتبروا يا أولي الباب. وقال الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وقد ذهب بعض أئمة التفسير إلى أن هذا التحذير يختص بالصحابة - رضي الله عنهم - والصحيح أن التحذير يعم الصحابة وغيرهم، وإن كان الخطاب معهم كذا قال الحافظ ابن كثير وغيره. وقال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه، فقد أعانه عليه بالتخلية بينه وبين ذلك المنكر وعدم الاعتراض عليه، وليس هذا من الدين في شيء. إذ لا يؤمن الرجل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وإنما الدين النصيحة، ومن رأى إنساناً يهوي في النار ولم ينصحه فإن إثمه عليه. وفي الصحيحين عن جرير – رضي الله عنه – قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني / فيما استطعت والنصح لكل مسلم. وقد جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول له: مالك إلي بيني وبينك معرفة؟ فيقول: كنت تراني على الخطأ وعلى المنكر ولا تنهاني. فإذا الواجب على كل مسلم أن ينصح أخاه المسلم، ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، لأن صديق الإنسان حقيقة من أرشد صديقه إلى عمارة آخرته، وإن كان فيها خراب دنياه، وعدوه من أرشده إلى تقصيره في آخرته وإن كان فيها زيادة دنياه. وقال تعالى {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]. ومعنى لولا ينهاهم: أفلا ينهاهم، والربانيون: هم علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود – قاله الحسن. وقيل: هما جميعاً علماء اليهود. وقال القرطبي: وبخ الله سبحانه وتعالى علماءهم في تركهم نهيهم فقال: لبئس ما كانوا يصنعون، كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله: لبئس ما كانوا يعملون.

قال: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انتهى. وتالله إنهم لأهل لكل توبيخ، ومحل كل تهديد، لأن علماء السوء سبب كل فساد ومنع كل شر وأوصل كل بلاء وفتنة. فأني يصلح الناس والعلماء فاسدون؟ أم كيف ينزجر الناس والعلماء مرتكبون؟ أم كيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين والعلماء بأفعالهم وأقوالهم يهونونها؟ أم كيف يرغبون في الطاعة والعلماء لا يأتونها؟ أم كيف يقفون عند الحدود والعلماء يتعدومها؟ أم كيف يتركون البدع والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟ أم كيف يتورعون عن الشبهات وهي أطيب طيبات العلماء التي يأكلونها؟ بل أنواع الحرام لا يأبونها، وأبواب الورع لا يأنونها. وما أحسن قول بعضهم: (يا معشر ويا ملح البلد ... ما يصلح إذا الملح فسد) / ضلوا تبعاً للعالم، كظل العود القائم إن استقام استقاموا، وإن مال مالوا في المآثم. ولهذا كان العالم الذي لم يعمل بعلمه أشد الناس عذاباً يوم القيامة لأنه ضل بعد علمه، وأضل الناس فكان شرهم مآباً. اللهم أصلح علماءنا لتصلح أحوالنا بصلاحهم، ووفقهم للعمل بما يعلمون ليفلح الناس بفلاحهم، وخذ بنواصيهم واهد بهم الخلق، ووفقهم للطاعة وبصرهم بالحق، فإن الهداية والغواية إليك، وأنت المسئول في كل خير، والاتكال عليك يا أرحم الراحمين. وقال تعالى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وفيه وجوب الهجر في الله وقطع المودة في ذات الله، وقد هجر ابن عمر ابناً له إلى أن مات. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين». وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار». ومقتضى هذا الحديث: أنّ من لم يؤثر رضي الله ورسوله على رضي الخلق أجمعين، ولم يحب في الله ويبغض في الله لا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه. فمن رأى ولده أو أخاه المسلم على معصية وجب لله عليه أن ينهاهما عنها وينكر عليهما بقدر استطاعته، فمن ترك الإنكار وأقدم على سخط الله سبحانه بترك ما أوجب عليه وأرضاهما بسكوته عنهما كيف يجد طعم الإيمان. - وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ بن أنس أنه سأل رسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال: "أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله".

وفيه أيضًا عن عمرو بن الجموح/ رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله تبارك وتعالى فقد استحق الولاية لله تعالى». وفي المسند وشعب الإيمان للبيهقي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أي عُري الإيمان أوثق؟ قالوا: الصلاة. قال حسنة والله وما هي به، قالوا: صيام رمضان. قال: حسن وما هو ربه، قالوا: الجهاد، قال: حسن وما هو به، قال: إن أوثق عري الإيمان أن تحبَّ في الله وتبغض في الله». والأحاديث في هذا كثيرة جدًا، والمقصود من هذه الأحاديث أن تعلم أن الحب في الله والبغض في الله مما لا يكمل إيمان المرء إلا به، بل هو أوثق عرى الإسلام وأحد دعائم الإيمان، وأنَّ المداهنة ليست من الدين في شيء بل المداهن يهلك نفسه ويهلك من داهنه. كما جاء في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسلفها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: قد تأذيتم بيِّ ولا بد لي من الماء فإن أخذوه على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم». وتقدم هذا الحديث بنحو هذا اللفظ وبهذا اللفظ ذكره البخاري في كتاب الشهادات.

وأعلم أنَّ في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جملة من الفوائد منها: - أنَّ المسلمين مشتركون في الدين الذي هو آلة النجاة في الآخرة، كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي آلة النجاة في الدنيا. - وكما أن سكوت شركاء السفينة عن الشريك الذي أراد فسادها سبب هلاكهم في الدنيا، كذلك سكوت المسلمين عن الفاسق وترك الإنكار عليه سبب هلاكهم في الآخرة بل وفي الدنيا، كما سيأتي في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى. - ومنها أن كما/ لا ينجي الشركاء من الهلاك قول المفسد إنما فسد فيما يخصني، كذلك لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة قول مرتكب المنكر إنما أجني على ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، ولي عملي ولكم عملكم، وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام مما يجري على ألسن الجاهلين، لأن شؤم فعله وسوء عاقبة فشاده يشملهم أجمعين. - ومنها أن أحد الشركاء في السفينة إذا منع المفسد من خرقها كان سببًا في نجاة أهل السفينة كلهم، كذلك من قام من المسلمين بإنكار المنكر كان قائمًا بفرض الكفاية عنهم، وكان سببًا لنجاة المسلمين جميعًا من الإثم وله عند الله الأجر الجزيل على ذلك. - ومنها أنه إذا أنكر منكر أهل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها فاعترض عليه معترض منهم نسب ذلك المعترض إلى الحمق وقلة العقل والجهل بعواقب هذا الفعل إذا المنكر ساع في نجاة المعترض وغيره، كذلك لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظُم حمقُه وقلَّ عقلُه وجهل عواقب المعصية وشؤمها، إذا المنكر قائم بإسقاط الفرض الواجب على المعترض وغيره وساع في نجاتهم وخلاصهم من الإثم والحرج. - ومنها أنَّ من سكت عن خرق الشريك السفينة مع استطاعته حتى غرق آثم -

فيما نزل به وعاص بقتل نفسه، كذلك الساكت عن إنكار المنكر آثم بسكوته عاص بإهلاك نفسه. - ومنها أنَّ شركاء السفينة إذا سكتوا عمن أراد خرقها كانوا هم وإياه في الهلاك سواء، ولم يتميز المفسد في الهلاك من غيره، ولا الصالح منهم من الطالح، كذلك إذا سكت الناس عن تغيير المنكر عمهم العذاب، ولم يميز بين مرتكب الإثم وغيره، ولا بين الصالح منهم وغيره كما سيأتي. - ومنها أنه لا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع، كذلك لا يقدم على المعصية إلا من استحسنها لنفسه، وجهل ما فيها من عظيم الإثم وأليم العاقبة/ إذا لو علم حق العلم أنه يفعل في دينه بمعصية من الفساد ما يفعله خارق السفينة لما أقدم على المعصية أبدًا. - ومنها أنه لا يقدم على خرق السفينة من أيقن بما في خرقها من إهلاكه إذ لا يقدم على إهلاك نفسه إلا من جهل أو شك فيه، كذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن بوعيد الله تعالى، وأليم عذابه على الزنا ولا يسرق السارق حيث يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وهذه قريبة من التي قبلها. وفوائد كلام من أوتي جوامع الكلم لا تنحصر أبدًا، والله أعلم. وفي الصحيحين عن زينب بنت جحش- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهلكُ وفينا الصَّالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخبث». - قلت: هذه سنة الله الماضية في خلقه أن العذاب إذا نزل يعم ولا يميز، -

ولهذا أمر الله سبحانه الأنبياء –عليهم السلام- بالخروج من بين قومهم قبل نزول العذاب مع صلاح القدرة لنجاتهم وإن قعدوا، ولكن لا تبديل لسنة الله. ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين». ثم قنَّع رأسه وأسرع السَّير حتى أجاز الوادي. وخرج الإمام أحمد والطبراني عن خرشه بن الحر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشهد أحدكم قتيلًا لعله أن يكون مظلومًا فتصيبه السخطة «. لفظ أحمد وقال الطبراني: «فعسى أن يكون مظلومًا فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم». وفي الصحيحين عن عائشة –رضي الله عنها- قال: قال صلى الله عليه وسلم «يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا بيداء من الأرض يخسفُ بأوَّلهم وآخرهم قال قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقُهُم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نيَّاتهم». فهذه الأحاديث/ تدلك على أن العذاب إذا نزل عمَّ الصالح والطالح. اللهم قنا عذابك، فإنه لا طاقة لنا به، وأنت أرحم الراحمين.

- وخرج البزار والطبراني عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قيل يا رسول الله: أتهلك القرية وفيها الصالحون؟ قال: نعم. قيل: بم يا رسول الله؟ قال بتهاونهم وسكوتهم عن معاصي الله تعالى. - وفي صحيح بن حبان عن عائشة –رضي الله عنها- قال: قلت يا رسول الله إن الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم فقال: «يا عائشة إن الله –تعالى- إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون فيصابون معهم ثم يبعثون على نياتهم». وخرج الإمام أحمد من حديث ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «غذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله تعالى بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون قال: بلى. قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان». وعن حذيفة –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعون فلا يستجيب لكم». رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

وخرج الإمام أحمد وغيره عن عدي بن عمير –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب العامة بذنوب الخاصة حتى يروا المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة». ورواه الطبراني من حديث العرس بن عميرة أخي عدي. وخرج أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن جرير بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا». - وعن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة: 105]. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعميهم الله بعقاب من عنده».

رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه. - وفي رواية لأبي داود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقررون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب». - وعند النسائي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب». قوله أوشك يوشك بمعنى: أسرع يسرع. ومعنى قوله تعالى {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة: 105] أي بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –قاله سعيد بن المسيب. وقد جاء عن أبي عبيد أنه قال: ليس في كتاب الله آية جمعت بين الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية. قال بعض أهل العلم الناسخ منها إذا اهتديتم، والهدى هنا: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن المبارك قوله تعالى {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [سورة المائدة: 105] هو خطاب لجميع المؤمنين أي عليكم أهل دينكم كقوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة النساء: 29]. فكأنه قال:

فليأمر بعضكم بعضًا ولينه بعضكم بعضًا، فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب. وقد روي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال جابر بن زيد معنى الآية يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم. قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار: سفهت آبائك وفعلت وفعلت فأنزل الله تعالى هذه الآية بسبب ذلك. وقال سعيد بن جبير: هي في أهل الكتاب. وقال مجاهد: هي في اليهود والنصارى، ومن كان مثلهم يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية. وقال المهدي: وهي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعفه/ ابن عطية. والأقوال في ذلك كثيرة ترجع إلى ما ذكرنا، ولا نعلم أحدًا من العلماء ذهب إلى أن معنى عليكم أنفسكم أنه لا يلزمكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر لأن ضلال غيركم لا يضركم، معاذ الله أن يذهب إلى هذا أحد غير الجهلة والعوام والهمج الرعاع أتباع كل ناعق، إذا أمرت أحدهم بمعروف أو نهيته عن منكر قال: قال الله تعالى {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة: 105] فيتأول الآية على غير تأويلها، كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويروق إثم المعصية بإثم تفسير القرآن برأيه وهو من الكبائر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وما علم المسكين أن شؤم المعاصي عقوبة في الدنيا والآخرة تعم المداهن الذي لم ينكر المنكر قطعًا.

وأما المنكر الذي أنكر بقدر استطاعته ولم يغير المنكر فالظاهر أن العذاب يعمه في الدنيا دون الآخرة لما تقدم في حديث عائشة (إن الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل نقمته، وفيهم الصالحون فيصابون معهم ثم يبعثون على نياتهم). ولا يسمى المرء صالحًا إلا إذا أنكر بحسب وسعه. وأما من داهن ولم ينكر مع استطاعته فإنه يصير من الفاسقين لا من الصالحين. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء. رواه مسلم. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الأربعة سواء في الإثم لأن الشاهد والكاتب اطلعا على هذا المنكر، ولم ينكراه بل ساعدا فيه، فكان إثمهم كإثم الآكل، وفسقهم كفسقه، فلا جرم أن يعمهم العذاب في الدارين، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. - وخرج الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم». إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلًا، وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم/ ثم عمهم بالبلاء. قلت: أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الناس أجمعين، وأمرهم أن يقدموا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يلتفت أحد منهم إلى ما يلقيه الشيطان عنده من الخوف والجزع وتقدير وقوع المحذور من الضرب والقتل، وأنه أيضًا

لا يلتفت إلى ما يوسوس له من قوله: إنك إذا اعترضت على هذا الظالم وأنكرت عليه قطع رزقك وعزلك عن منصبك وأخذ مالك، ونحو هذا فإن هذه التقديرات كلها في الحقيقة وساوس من الشيطان ليضله عن سبيل النجاة ويحشره يوم القيامة مع العصاة. فالواجب على المرء إذا وقع له شيء من ذلك أن يقابله بصريح الإيمان، سبق القضاء والقدر بكل حركة وسكون، وأن الرزق مقسوم كما أن الأجل محتوم. - وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». فإذا آمن بهذا وصدق به التصديق الحقيقي، ترك تقدير الحساب، وأقبل على ما أمر به رب الأرباب، فحاز من الله جزيل الثواب، وفاز عنده بحسن المآب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. - وقد خرج ابن ماجة بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال قال رسو الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرًا لله عليه فيه فقال ثم لا يقول فيه فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى». -

فينبغي لك أيها الأخ المسلم أن تقول الحق، ولا تخشى إلى الله، فعسى أن تكون من المهتدين، واحذر أن تخشى الناس فتكون كمن قال الله فيهم {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [سورة النساء: 7]. ورد الله تعالى عليهم بقوله/ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [سورة النساء: 77، 78]. فما فائدة الجبن والخوف بعد هذه الآية الشريفة، تالله إن الخوف لا يؤخر أجلًا، وإن الشجاعة لا تقدم أجلًا. وقد أحسن المتنبي في قوله: (وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانًا) ولا تأخذك أيها الأخ في الله لومة لائم، فعسى أن تكون من القوم الذين وعد الله بالإتيان بهم في قوله {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة: 54]. وقد قال عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، ولا نخاف من الله لائم). - وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر –رضي الله عنه- قال: (أوصاني -

خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن اقول الحق ولو كان مُرَّا). - وفي المستدرك عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم». وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. ومعنى هذا الحديث –والله أعلم- أنَّ الأمة إذا خلت عن قائم بكلمة الحق للظالم وغيره، فقد عطلوا فرضًا أوجبه الله عليهم، واشتركوا في الإثم فاستحقوا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتقدمة من عظيم العقاب وأليم العذاب في الدنيا والآخرة، ولا يدفع ذلك عنهم مجرد الإيمان باللسان. لما أخرجه الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها، قالوا: يا رسول الله: وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله فلا تنكر ولا تغير». فإن قلت: لم كان ترك الإنكار والتغيير/ استخفافًا بحق لا إله إلا الله؟ قلت: لأن سبب تركهما وإن اختلفت المقاصد فيه يرجع إلى خوف أو رجاء ومن تحقق أن لا إله إلا الله لم يرج أحدًا غير الله، ولم يخف سواه ولم يخش إلا إياه، لأنه لم يشهد فاعلًا في الكون غير مشيئته، ولا محركًا في الوجود غير يد قدرته، ولا فعلًا –وإن دق- خارجًا عن إرادته، فيتكلم بالحق أينما كان، ولم يخف في الله لومة لائم. ومن كان توحيده مشوبًا برؤية الأغيار وشهود أفعالهم في الوجود، وتأثير

إرادتهم من الكون ألقى الشيطان عنده أنواع الوسواس، وعظم في عينه أقل الناس، ورجاه من هو جدير في الدنيا والآخرة بالإفلاس، فترك التغيير وأعرض عن المنكر، وداهن في دين الله فأسلمه ذلك إلى سوء المصير، ولم يمنعه من عذاب الله لقلقلة لسانه بلا إله إلا الله لأنه استخف بحقها ومقتضاها، وأشرك في التصريف مع الله إلهًا، فوحد بلسانه وأشرك بقلبه، ولو أوفى الكلمة حقها لأنكر المنكر ولم يخف غير ربه. وتقدم حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم والصوم سهم وحج البيت سهم والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له». رواه الحاكم من حديث أبي هريرة، ولفظه قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسليمك على أهلك، فمن انتقض شيئًا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولي الإسلام ظهره». وخرج ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء فتوضأ وما كلم أحدًا، فلصقت بالحجرة أسمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس: إن الله يقول لكم (مروا بالمعروف، وانهوا عن

المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوا فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم، فما زاد عليهن حتى جلس». قوله/ حفزه شيء: أي أعجله، والاحتفاز الاستيفاذ. وخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر». وخرج أبو الشيخ ابن حبان من حديث جابر –رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بئس القوم، قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر». وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم، وتركتم جهادكم؟ قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ ، قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، يقول الله: إني حلفت لأبعثن عليهم فتنة يصير الحليم فيهم حيرانًا». وخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أبي هريرة باختصار.

وخرج أبو داود عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقي الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78 (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79 (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [سورة المائدة: 78: 80] إلى قوله {فَاسِقُونَ} ثم قال: كلا والله، ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرأ). ورواه أيضًا الترمذي وحسنه، ولفظه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب/ بعضهم ببعض ولعنهم على لسان دواد وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئًا فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا». قوله: تأطروهم بالهمز معناه تعطفوهم وتقهروهم، وتلزموهم بإتباع الحق. وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحي الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم، قال: يا رب: هؤلاء

الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، فكانوا يواكلونهم ويشاربونهم. قلت: وفي هذا الأثر، وحديث ابن مسعود الذي قبله دليل على أن من لم يستطع غير لسانه إذا أمر أحدًا بمعروف أو نهاه عن منكر ولم يرجع إليه وجب عليه أن يهجره في الله تعالى، ولا يواكله ولا يشاربه، فإذا فعل ذلك فقد وفى ما عليه، وبراء من الإثم. وأما من استطاع التغيير باليد فلا يخرج عن عهده الوجوب بالهجر، والله أعلم. وقال مالك بن دينار: أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، قال: يا رب: إن فيهم عبدك فلانًا، ولم يعصك طرفة عين، فقال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر ساعة في قط. وقد رواه الطبراني وغيره من حديث جابر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمحفوظ ما ذكرنا، كذا قاله البيهقي وغيره. وقوله: فإن وجهه لم يتمعر في: أي لم يتغير في طلب مرضاتي عند انتهاك محارمي وعصيان أمري. وفي هذا دليل لما تقدم من أن من لم يستطع الإنكار باللسان وأمكنه إظهار الإنكار بالتعبيس وتقطيب الوجه وجب عليه ذلك، والله أعلم. وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانًا ظالمًا، لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون ولا ينصرون، ويستغفرون، فلا يغفر لهم».

قلت: لما لم يجلوا معاصي الله عند انتهاكها واستخفوا بها، فلم يهتموا بإنكارها، ولم يرحموا من هلك بمواقعة الحدود فينقذوه من الهلاك/ ببذل النصيحة كان جزاؤهم أن سلط الله عليهم من لا يجل كبيرهم لكبره، ولا يرحم صغيرهم لصغره، والجزاء من جنس العمل. وسئل حذيفة –رضي الله عنه- عن ميت الأحياء فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده، ولا بلسانه ولا بقلبه. قلت: وإنما سمَّاه ميتًا لأنَّ هذه الأعضاء الثلاثة اليد واللسان والقلب إذا لم يصرف الإنسان قوتها في هذه الطاعة العظيمة التي فرضها الله عليه كانت كأنَّها معدومة، ومن عدمت منه هذه الأعضاء كان ميتًا، ومن هذا قوله تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف: 179]. وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [سورة الأنعام: 122]. وقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: «أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فإذا لم يعرف القلب المعروف، ولم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله». ويؤيد قول علي –رضي الله عنه- ما جاء في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب منه هواه».

قوله: «مجخيًا: هو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة، ثم خاء معجمة مكسورة يعني مائلًا، وقال بعض رواته يعني منكوسًا. وقوله: أشربها: بضم الهمزة: أي دخلت فيه دخولًا تامًا فخالطها وأمزح بها، ومنه قوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة: 93] أي: حب العجل بكفرهم، ومنه قولهم بياض مشرب بحمرة أي خالطته مخالطة لا انفكاك لها. وقوله نكتت فيه نكتة سوداء: أي نقط فيه نقطة سوداء. وقوله: وأنكروها: أي ردها ولم يقبلها. وقوله: مربادًا: أي لونه بين السواد والغبرة. وقال ابن دريد: هو/ اللون الأكدر. وقال الحربي: كلون النعام بعضه أسود وبعضه أبيض. ومعنى الحديث أن الفتن تعرض على القلوب واحدة واحدة كما تعرض أعواد الحصير على ناسجها عودًا عودًا. فمنها ما يقبله، ومنها ما يرده، فأي قلب أحبها وقبلها ولم ينكرها نقط فيه نقطة سوداء، إن كانت الفتنة كبيرة فكبيرة، وإن كانت صغيرة فصغيرة، وأي قلب ردَّها، ولم يقبلها، وقابلها بالإنكار نقط فيه نقطة بيضاء حتى تنقسم القلوب على قسمين:

قسم منها أبيض شديد في الدين كشدَّة الصفاء لا تأخذه في الله لومة لائم ولا تضره فتنة في دينه أبدًا ما دامت السماوات والأرض، إذا صار لشدة صفائه وإشراق نوره لا تؤثر فيه ظلم المعاصي، ولا كدرات المنكرات، وصار له فرقًا يفرق به عين الحق والباطل، فلا يلتبس عليه شيء إذا الفرقان نتيجة التقوى، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [سورة الأنفال: 29]. وأما القسم الآخر، فإنه يصير لكثرة النكت فيه أسود منكوسًا قد خرج منه نور الإيمان، كما يخرج الماء من الكوز المنكوس فلم يبق فيه شيء من نور الإيمان يفرق به بين المعروف والمنكر، كالأعمى الذي فقد نور بصره فليس له ما يميز به سوى ما تميل إليه نفسه، ويرجحه هواه. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه». وفي رواية حتى تغلف قلبه. فذلك الران الذي قال الله تعالى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين: 14]. رواه الترمذي وصححه ابن حبان وغيرهما. تنبيه: قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يخطر بباله أنها

منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصي لما أحدث تكرارها من تأليف القلب لها. ولقد حكى أبو طالب المكيّ عن بعضهم أنَّه مرَّ يومًا في السوق فرأى بدعة فبال الدم من شدة إنكاره لها بقلبه، وتغير مزاجه لرؤيتها، فلما كان اليوم الثاني مر فرآها، / فبال دمًا صافيًا، فلما كان اليوم الثالث مرَّ بها فرآها فبال بوله المعتاد. لأن حدة الإنكار التي أثرت في البدن ذلك الأثر ذهبت، فعاد المزاج إلى حالة الأولى، وصارت البدعة كأنه مألوفة عنده معروفة، وهذا أمر مستقر، لا يمكن جحوده، والله أعلم. ولهذا كان الإمام العارف أبو الحسن الزيات –رحمه الله- يقول: والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها، لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قلَّ أن تتأثر به. قال مالك بن دينار –رحمه الله-: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل، فرأى بعض بنيه يومًا وقد غمر بعض النساء فقال مهلًا يا بني، قال: فسقط من سريره وانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الحين، فأوحى الله إلى نبي زمانه أن أخبر فلانًا الحبر أني لا أخرج منن صلبك صدِّيقًا أبدًا ما كان غضبك لي إلا أن قلت مهلًا يا بني! فانظر –رحمك الله- كيف عوقب هذا الحبر في نفسه وأهله وبنيه، لأنه كان قادرًا على الإنكار باليد، وإظهار الغضب والغيرة لدين الله تعالى، فلما عدل عن ذلك إلى الإنكار باللين باللسان، عوقب بما تقدم، وتعجيل العقوبة بالذنب كان سنة الله في بني إسرائيل غالبًا.

1 - فصل وخرج الترمذي وحسنه، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه». وخرج البيهقي في الشعب بإسناد حسن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لامراء شهد به مقامًا فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله ولم يحرمه رزقًا هو له». قلت: وهذا الحديث فيه الحض على الإقدام والشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يعلم الإنسان يقينًا أن الأمر والنهي لن يقدما أجلًا أخره الله، ولن يمنعا رزقًا قدره الله، فلا يلتفت إلى ما يلقيه الشيطان من تخذيله، وقوله لا تتعرض لهذا يضربوك ويقتلوك، ونحو ذلك، فإن الضرر وإن قلَّ، والنفع وإن جلَّ مقدران، إذ لا يزيدان فتيلًا/ ولا ينقصان نقيرًا. وقد تقدم حديث «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله «وفيه الترغيب في الإقدام على القتل والعرض له، وهو أمر مندوب إليه، كما تقدم، لكنه إذا خاف شيئًا من ذلك وغلب على ظنه وقوعه سقط عنه الوجوب وبقى الاستحباب، وهي رتبة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، ولا ينالها إلا من جاد بنفسه لله الكريم». وقد اختار جماعة من السلف العزلة والانفراد خوفًا من عجزهم عن تغيير ما يشاهدونه من المنكرات في الخلطة.

وقد قال السيد الجليل الزاهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى- ما ساح السياح وخلوا ديارهم وأولادهم إلا لمثل ما نزل بنا حين رأوا الشرَّ قد ظهر والخير اندرس، ورأوا الفتن ولم يأمنوا أن تغيرهم، وأن ينزل العذاب بأولئك القوم، فلا يسلمون منه، فرأوا أنَّ مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم. ثم قرأ {فِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات: 50]. قال: ففرَّ قوم، فلولا ما جعل الله جلَّ ثناؤه في النبوة ما جعل لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء، فمما بلغنا أن الملائكة لتلقاهم وتصافحهم، والسحاب والسباع نمر بأحدهم فيناديهم فتجيبه، ويسألها أين أمرت؟ فتجيبه، وليس بنبي. وقال حذيفة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان لأن تكون فيه جيفة حما أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم. ووالله إن هذا الزمان الذي ذكره حذيفة، لأن من تصدى في هذا الزمان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثقل على القلوب وإن كان خفيفًا، وسمج في العيون وإن كان لطيفًا، ورمي بالكذب وساءت فيه الظنون، وقصد بالأذى، وكثر أعداؤه، وقلَّ أصدقاؤه، ورمي وألقي في مهاوي الردى، وأعملت الفكر في كيفية الخلاص منه، والراحة من مشاهدته، بل في قتله واستئصال شأفته. وقد خرج الترمذي من حديث علي –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله عمر: يقول الحق وإن كان مرَّاً، تركه الحق وما له من صديق». وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك من قومك؟ قال: حسنة. قال كعب: إن التوراة/ لتقول غير ذلك، قال: وما تقول؟ قال تقول:

إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم. وفي الحديث بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء. وقيل: ومن الغرباء؟ قال: (ناس قليل صالحون بين أناس كثير، من يبغضهم أكثر ممن يحبهم). وقال الثوري -رحمه الله-: إذا رأيتم العالم كثير الأصدقاء، فاعلموا أنه مخلط لأنه إذا نطق بالحق أبغضوه. وانظر إلى قوله تعالى: حكاية عن وصية لقمان لابنه {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [سورة لقمان: 17 ي تعلم أن الآمر والناهي لا بد وأن يجعل له من الصبر حصنًا حصينًا، ومن الاحتمال خلًّا أمينًا وأن يوطن نفسه على تجرع كؤوس المرارات، وتجنب حلاوة المداهنة والمرارة، وأن يمرن نفسه على هجر الخلق في جنب الله، ويقنع في كل أحواله بنظر الله، وألا يأسف على من قلاه لذلك، ولا يحزن على من فارقه وخذله في هذه المهالك، وليقطع أطماعه من الخلق، ويثق بكفالة الحق، ويتوكل على الله فهو حسب من توكل عليه، ويفوض إليه في جميع أحواله، فمرجع الأمور كلها إليه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 2 - فصل من علم أنه إذا أنكر المنكر بطل بإنكاره، ولكن يضرب ضربًا مؤلمًا كمن قدر على أن يرمي زجاجة الفاسق فيكسرها ويريق ما فيها من الخمر، ويطعن

الزق طعنة مختطفة فيهراق ما فيه ويبطل هذا المنكر، ولكنه يعلم أنه يرجع إليه فيضربه، فمثل هذا يسقط عنه الوجوب، ولكنه يستحب له أن يفعل ويحتسب ما نزل به عند الله، فإن الأجر على قدر النَّصب، وقد يعالجه قهر القضاء والقدر فيحول بين الفاسق وبين ما يريد، ويقع أجر المنكر على الله، والله لا يضيع أجر المحسنين. وكذلك إذا علم أنه تنهب داره أو يخرب بيته أو تسلب ثيابه، فإنه يسقط عنه وجوب الإنكار أيضًا، ويبقي الاستحباب، إذ لا بأس به بأن يفدي دينه بدنياه، ولكل واحد من الضرب والنهب حد في القلة، لا يلتفت/ إليه كالحبة من المال، والضربة الخفيف ألمها عند كثير من الناس، وحد في الكثرة يتيقن اعتباره مسقطاً ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتدين أن يجتهد فيه، ويسلك طريق الورع والآخذ بالأحوط ويرجع جانب الدين ما أمكن. 3 - فصل فإن علم انه لا يضرب ولا ينهب ماله، ولكن يوضع منديله أو عمامته في رقبته ويدار به في البلد أو يسود وجهه ويكشف رأسه ويطاف به حافيًا ونحو ذلك، فهذا أيضاَ مما يرخص في السكوت ويسقط الوجوب لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع، وهذا مؤلم للقلب عند أكثر الناس يزيد على ألم ضربات معدودة ودارهم يسيرة، فإن علم أن لا يعفل به ذلك ولكن يتكلف المشي راجلًا وعادته الركوب، أو منفرداً وعادته المشي في جماعته وغلمانه، أو في ثياب دون ثيابه التي يخرج بها إلي الناس ونحو ذلك، فلا ينبغي أن يكون مثل هذا عذراً في سقوط الوجوب. قال الغزالي: وكذلك لو خاف أن يتعرض له بالسب إما في حضرته بأن يقال له يا أحمق يا جاهل، يا مرائي، يا منافق ونحو ذلك، أو في غيبته بأنواع

الغيبة إذ ليس في مثل هذا إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة، ولا ينفك الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر غالبًا عن مثل هذا في غيبته أو حضوره، فلو اعتبرنا ذلك عذراً لانسد باب الوجوب، اللهم إلا أن يكون ذلك المنكر هو الغيبة. واعلم أنه إذا أنكر عليه إضافة إليه في الغيبة ولم يسكت فإذًا لا يجوز الإنكار، لأن إنكاره إذ ذاك يكون سببًا لزيادة الغيبة، فإن علم أنه يسكت عن غيبته ذاك، ويشرع في غيبة المنكر سقط عنه الوجوب، لأنه إبطال معصية بمعصية مثلها، ولكن يستحب له ذلك ليفدي عرض ذلك المغتاب بعرض نفسه. وقد دلت عموم الآيات والأخبار على تأكيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى عظم الخطر في السكوت عنهما، فلا يسقط ذلك إلا بفوات ما عظم في الدين خطره، والمال والنفس والمروءة، وقد ظهر في الشرع خطرها فأما مزايا الجاه والحشمة ودرجات التجميل وطلب ثناء الخلق، فكل ذلك لا خطر له ولا يسقط / به الوجوب، انتهى ملخصًا. تنبيه: إنما يستحب له الإقدام على ما يعلم أن فيه القتل والضرب وأخذ المال، إذا علم أن ذلك لا يتعدى إلى غيره، فإن علم أنه يضرب معه أحد من أصحابه الذين لا يحملهم على الإنكار معه إلا مجرد الطاعة له، أو الموافقة أو علم أنه يضرب معه أحد من أقاربه وجيرانه أو يؤخذ ماله، إذ ليس للمنكر مال يؤخذ منه، كالزاهد الذي له أقارب أغنياء، فإنه ليس له مال يخاف عليه إن أنكر على السلطان، ولا إن كسر شيئاً من الملاهي، أو أراق خمراً لظالم وهرب ولكن علم أنه يمسك قريبه الغني، فيغرم، ويؤخذ ماله، ويعرض للانتقام بسبب إنكاره. ففي هذه الصور كلها لا يجوز الإنكار، بل يحرم عليه، لأنه عجز عن دفع منكر إلا بأن يفضي إلي منكر آخر الثاني أن يكون مثل المنكر الأول وأعظم منه، فإن كان أقل منه وجب الإنكار، مثال ذلك لو رأى إنسانًا يريد ذبح دجاجة

لرجل، وعلم إنه إن منعه ذبح شاه له لم يجز الإنكار فإن كان الأمر بالعكس وجب الإنكار، وكذلك لو رأى مع إنسان شرابًا حلالًا متنجسًا وخمرًا وعلم أنه إن منعه من شرب الماء المتنجس شرب الخمر ولم يمكنه منعه منه فلا معنى لإراقة ذلك. قال الغزالي: ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون بذلك مبطلًا المنكر، وأما من شرب الخمر فهو الملوم فيه، والمنكر غير قادر على منعه، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون وليس ببعيد، انتهى. مسألة: من هذا النوع لو وجدنا رجلًا يرقب امرأة ليفسق بها إذا مرت، فرأى خمرًا فاشتغل بشربه، ولو منعناه منه لامتنع، ولكن يتنبه للمرأة ولا نقدر على دفعه عنها، فإنا لا نمنعه من شرب الخمر إذا كان شربه يشغله عن منكر أعظم منه، وفي عكس هذه المسألة نمنعه قطعًا. مسألة: منه لو رأى رجلًا على ساحل البحر بغصب دجاجة لرجل، ولو دفعه عنها لا ندفع، ولكن يعلم أنه يقطع البحر، إلى الساحل/ الآخر، ويأخذ شارة لرجل آخر. فهذه المسألة لم أقف الآن من مثلها على نقل. ولكن إن نظرنا إلى المعصية من حيث هي فإنا لا ندفعه عن الدجاجة، لأن دفعه عن هذه المعصية سبب لمعصية أعظم منها. وإن نظرنا إلى أن الإنكار منوط بالاستطاعة قلنا: ندفع عن الدجاجة وأما الشاة فليس في الاستطاعة الدفع عنها، وقد يحول القدر بينه وبينها. والأول أقرب إلى القواعد، والله أعلم.

وقد تكون الضرورة في الأقل أعظم من الأكثر كما لو وجد رجلًا يغصب في مفازة قربة ماء لرجل معه عدة قرب تزيد على حاجته ولو دفعه عنها لغصب كوزًا لرجل ليس معه غيره فيهلك بذلك عطشًا. ففي هذه المسألة يترجح بل يتعين عدم الدفع عن القربة، والله أعلم. وهذه كلها دقائق واقعة في محل اجتهاد المنكر فليتفطن لها، ولا يقدم على هذه الأحوال إلا من كان عالمًا بأحكامها، فإن العامي لا ينبغي له أن ينكر إلا الجليات المعلومات كشراب الخمر والزنا وترك الصلاة ونحو ذلك على الوجه المشروع، ومتى خاض في مثل هذه الدقائق كان ما يفسده أعظم مما يصلح. قال النووي –رحمه الله- في الروضة قال أصحابنا: وإنما يأمر وينهي من كان عالمًا بما يأمر به وينهي عنه، وذلك يختلف بحسب الأشياء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة فكل الناس عالمون بها، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال لم يتمكن الإنكار إلا للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمته العلماء بأن ذلك مجمع عليه، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع علي إنكاره وأما المختلف فيه في إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصًا أو إجماعًا أو قياسًا جليًا، انتهى. تنبيه: قال الغزالي: فإن قيل فالمكروه الذي يتوقع المنكر إصابته وإن لم يكن متيقنًا ولا معلومًا بغالب الظن، / ولكن كان مشكوكًا فيه وكان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه، ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند تيقن السلامة أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه ولم يجب الإنكار؟ لأن الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإن غلب على ظنه أنه لا

يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب، فإن ذلك ممكن في كل بحسبه، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر، فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعًا، وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه أو ظن أنه لا ضرر فيه عليه والأول أصح نظرًا إلى أقضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة، والجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريبًا، حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه والمتهور الشجاع يستبعد وقوع المكروه بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلام التعويل؟ قلنا: التعويل على اعتدال الطبع، وسلامة العقل والمزاج، فإن الجبن مرصد وهو ضعف في القلب بسبب قصوره في القوة، والتفريط والتهور في إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة، وكلاهما نقصان، وإنما الكمال في الاعتدال المعبر عنه بالشجاعة. فعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجب بإزالة علته وعلته جهلًا وضعفًا، فيزول الجهل بالتجربة، ويزول الضعف بارتكاب الفعل المخوف منه تكلفًا حتى يصير معتادًا. إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلًا قد يجبن عند طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف، بأن صار ذلك ضروريًا غير قابل للزوال فعذر ذلك الضعيف يتبع حالة فيعذر، كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات، والله أعلم. 4 - فصل ومن ترك الإنكار/ على من هو خاص به كأستاذة الذي يعلمه العلم خوفًا من أن يقبح حاله عند أستاذه فيمنع تعليمه، أو ترك الإنكار على طبيب يدخل

عليه لابس حرير خوفًا من أن يهجره فيمتنع بسبب هجره صحته المنتظرة، أو على السلطان المحسن إليه وأصحابه ومن يؤتيه من ماله خوفًا أن ينقطع عنه الإحسان والمواساة في المستقبل، أو على من يتوقع من نصرة وجاهًا في المستقبل خيفة أن لا يصل ذلك الجاه أو يقبح حاله عند سلطان يتوقع منه ولاية، ففي هذه الصورة الأربع يسقط عنه وجوب الإنكار فإن كل ما يفوته فيها بالإنكار زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضررًا مجازًا. قال الغزالي: ولا يستثنى من هذا إلا ما يكون في فواته محذور يزيد على محذور عدم الإنكار كما لو احتاج إلى الطبيب لمرض ناجز، والصحة منتظرة بمعالجته ويغلب على ظنه أن في امتناع الطبيب زيادة الضنى وطول المرض، فلا يبعد أن يكون هذا مرخصًا، وكما لو كان جاهلًا بمهمات دينه ولم يجد إلا معلمًا واحدًا وعلم أن إنكاره يكون سببًا لعدم وصوله إلى مطلبه، فإن تفاحش الجهل واشتدت الحاجة إلى ما يقصده من العلم كان ذلك مبيحًا للسكوت، وإلا فلا، وكما لو عجز عن الكسب والسؤال ولم يكن قوي التوكل، ولا ينفق عليه إلا شخص واحد، ولو أنكر عليه لقطع الإنفاق عنه فافتقر إلى تحصيله إلى إدرار حرام أو مات جوعًا فهذا إذا اشتد الأمر لم يبعد أن يرخص له في السكوت، وكما إذا كان شريرًا يؤذيه، ولا يجد سبيلًا إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان ولا يقدر إلى التوصل إلى السلطان إلا بواسطة شخص يلبس الحرير ويشرب الخمر، ولو أنكر عليه لم يكن له واسطة، وامتنع حصول الجاه ودام أذى الشرير له، فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها، ولكن الأمر فيها منوط/ باجتهاد المنكر حتى يستفتي فيها قلبه ويزن أحد المحذورين بالآخر، ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع، فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة، وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مداهنة، وهو أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق، ولكن الناقد بصير فحق على كل متدين

أن يراقب قلبه، ويعلم أن الله مطلع عليه ينظر إلى باعثه وصارفه هل هو الدين أو الهوى؟ [وستجد كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرًا وما الله بظلام للعبيد]، انتهى ملخصًا. قلت: ولعمري إنما تستثنى هذه الصور الأربع في حق من هو مثلنا ضعيف الإيمان والتوكل قوي التوهم كثير التعلل، وإلا فمن علم أن الله بيده كل حركة وسكون، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، وأن قلوب الخلق بين إصبعين من أصابع قدرته، يقلبها كيف يشاء إقبالًا وإدبارًا، وأن أحدًا لا يملك نفعًا ولا ضرًا، وأن الله تعالى قدر في الأزل أن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، لم يبال باحتمال نصب في الله ولا باشتمال مصيبة، وأغمض عينية عن ملاحظة غير الله من المخلوقات، وغاب بشهود وحدة تصريفه عن تجويز وجود الممكنات وتشعب صور المحتملات، وما يلقيه الشيطان عنده من الوساوس والخيالات، وفتح عين بصيرته في النظر إلى تقدير الحركات أزلًا والسكنات فأشرق من نور إيمانه ما أزاح ظلم التقديرات وطمس وجوه التصويرات فأقبل بالهمة الإبراهيمية على أصنام العلل الوهمية فجعلها جذاذًا كلها وتحمل من مشاق نفسه في الله كلها، فعادت نار كيدها عليه بردًا وسلامًا، وسكن من التسليم دارًا حسنت مستقرًا ومقامًا، وكان بأبيه إبراهيم في ذلك مؤتمًا وللمتقين إمامًا، فزاده الله بذلك إلى إيمانه إيمانًا، وقلب قلوب الخلق له إرغامًا لها وإذعانًا، فحمد عند صباح السلامة مسراه/ أولًا وأخرًا، ونصر دين الله فكان له وليًا وناصرًا، وأرضى الله فأرضى عنه الناس ولقي الخير وكان من البأس المتوقع اليأس. - وفي صحيح ابن حبان عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه -

الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». وفيه أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد سخط الله وأرضى الناس عاد حامده من الناس ذامًا». - وخرج الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزين قوله وعمله في عينه». وفي هذا المعنى جملة من الأحاديث وهي تدل على أن من خلصت نيته وصفت من شوائب الرياء طويته، يقلب الله له قلوب الخلق بالمودة ويزينه في أعينهم ليحبوه وإن كان قد أتى بما يكرهونه. ولقد شاهدنا مرارًا من عادى في الله وأبغض في الله، فأعقب المعاداة موالاة وانقلب البغض محبه ومصافاة، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين خلقه ولله عاقبة الأمور. 5 - فصل إذا علم أن كلامه لا ينفع ولا يفيد. - قال الغزالي: لا يجب عليه الإنكار لعدم الفائدة، ولكن يستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بالدين فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن -

يحتمل أنه يفيد وه مع ذلك لا يتوقع مكروهًا، فقد اختلفوا في وجوبه والأظهر وجوبه، إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقع، فإذا علم اليأس منه فلا فائدة فيه، وأما إذا لم يكن يائس فينبغي ألا يسقط، انتهى. - وقال النووي –رحمه الله- في الروضة وشرح مسلم: لا يسقط عنه المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه يعلم أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة/ أنه لا يؤثر كلامه، بل يجب عليه الأمر والنهي فإن الذكرى تنفع المؤمنين. انتهى. ومجمل كلامه مخالف لما فصله الغزالي في هذه المسألة وفي مسألة سقوط وجوب النهي باللسان عن الفاسق الذي يعلم الناس فسقه كما تقدم والله أعلم. مسألة: من علم أن بموضع من بلدة منكرًا لا يرجع إليه في إنكاره لزمه ألا يحضر ذلك الموضع ويعتزل في بيته حتى لا يشاهده، ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب لأن عجزه عن الإنكار ليس عذرًا في مشاهدته هذا المنكر من غير ضرورة. وكان عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- يأتي العمال ثم قعد عنهم، فقيل: لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم؟ فقال: أرهب إن تكلمت أن يرى أن الذي بي غير الذي لي، وإن سكت رهبت أن آثم. - وقد خرج الطبراني والبيهقي في الشعب بإسناد حسن عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقفن أحدكم موقفًا يقتل فيه رجلًا ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدافعوا عنه، [ولا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة

تنزل على من حضره حين لم يدافعوا عنه]». وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز دخول العاجز عن تغيير المنكر إلى أماكن الظلم والفسق ومواطن المعاصي والمنكرات من غير ضرورة، فلا يجوز له دخول دور الظلمة وأماكن المكوس والمصادرات والحمامات التي أهلها مكشوفوا العورات، والأماكن التي يعلم أن فيها نساء غير مستورات، ويحرم عليه حضور دعوة فيها منكر لا يستطيع تغييره، ولا يجوز للعاجز دخول أماكن التي قد يوجد فيها منكر لا يستطيع تغييره وقد لا يوجد. - لما أخرجه الإمام أحمد والطبراني من حديث خرشة بن الحر –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشهد أحدكم قتيلًا لعله أن يكون مظلومًا فتصيبه السخطة». لفظ أحمد. وقال الطبراني: (فعسى أن يقتل مظلومًا فتنزل السخطة عليهم فتصيبه معهم). - وقد سئل الإمام أحمد عن دخول الحمام، فقال: إن علمت أنهم كلهم بأزر فادخل وإلا فلا تدخل. وهذا التصريح منه بأنه إذا/ جهل حالهم لا يباه له الدخول، والله أعلم. مسألة: من علم أن بمكان في بلدة مناكر لا يقدر على إزالتها، لا يجب عليه مفارقة تلك البلد ولا الهجرة منها، اللهم إلا أن تكون إقامته توجب أن يكلف الفساد أو يكره على مساعدة السلاطين وإعانة الظلمة في الظلم في المنكرات فتلزمه الهجرة من ذلك البلد إن قدر عليها وتجب عليه، فإن الإكراه لا يكون عذرًا في حق من قدر على الهرب من الإكراه، هذا هو الذي جزم به الغزالي في الإحياء.

- وقد روى أئمة التفسير عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا عمل بالمعاصي في أرض فأخرج منها، وتلا قوله تعالى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} [سورة النساء: 97] وقال القرطبي: في هذه الآيه دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. - ثم حكى عن مالك –رحمه الله- أنه قال: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيه السلف ويحكم فيها لغير الحق. - وحكى القاضي أبو بكر العربي هذا عن مالك أيضًا ذكره في (أحكام القرآن). - ثم قال: وهذا صحيح، فإن المنكر إذا لم يقدر أن يغير المنكر يزول عنه، انتهى. وكلام مالك هذا يدل على وجوب الهجرة عند العجز عن التغيير. وذكر ابن العربي في أقسام الهجرة، الخروج أيضًا من أرض غلب عليها الحرام وعلله بأن طلب الحلال فريضة على كل مسلم. - وقال القرطبي –أيضًا- عند قول الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال: 25] قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم يغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا: لا نساكنكم. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم. - وروى وهب بن منبه عن مالك –رحمه الله- أنه قال: تهجر الأرض التي يعمل فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها.

واحتج بصنع أبي الدرداء –رضي الله عنه-/ في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها، خرجه في الصحيح انتهى، والله أعلم. مسألة: إذا كان الاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعه عن الكسب الذي هو طعمته. قال الغزالي: إن كان معه قدر كفايته لزمه الاشتغال بذلك، ولم يجز له تركه لطلب زيادة الدنيا، وإن كان يحتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والله سبحانه وتعالى أعلم.

4 - الباب الرابع في إثم من أمر بمعروف ولم يفعله أو نهى عن منكر وهو يفعله

الباب الرابع في إثم من أمر بمعروف ولم يفعله أو نهى عن منكر وهو يفعله قال الله تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة: 44]. وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف: 2 - 3]. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان: ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». قوله تندلق: أي تخرج.

والأقتاب: الأمعاء. - وخرج الطبراني عن الوليد بن عقبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسًا من أهل الجنة ينطلقون إلى ناس من أهل النار فيقولون بما دخلتم النار، فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل». - وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم , وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». اللفظ لا بن حبان. وفي رواية ابن أبي الدنيا. «مررت ليلة أسري بي على رجال تقرض شفاهم/ بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به». وخرج الطبراني عن جندب بن عبد الله –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه».

- وخرج البزار عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها». - وخرج الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل لا يكون مؤمنًا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء، ويكون لسانه مع قلبه سواء، ولا يخالف قوله عمله، ويأمن جاره بوائقه». - وخرج الطبراني عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنى لا أتخوف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا، أما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقًا عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون». - وخرج البزار عن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال: تعرضت أو تصديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فقلت: يا رسول الله: أي الناس شر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر، اسأل الخير ولا تسل، من الشر، شرار الناس شرار العلماء في الناس». - وخرج أحمد بإسناد جيد عن أبي ذر –رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: -

«لغير الدجال أخوفني على أمتي قالها ثلاثًا، قال قلت: يا رسول الله ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك قال: أئمة مضلون». - «لأنا من غير الدجال، أخوف عليكم من الدجال، فقيل وما ذاك؟ فقال: أئمة مضلون». - وروى الترمذي عن صهيب –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه «. - وخرج الطبراني وأبو نعيم عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الزبانية إلى فسقة القراء أسرع منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم». - وخرج الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة/ عالم لم ينفعه الله بعلمه». - وخرج الطبراني عن وائلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بنيان وبال على صاحبه إلا ما كان هكذا وأشار بكفه، وكل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به».

- وخرج الترمذي والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزولا قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفي ماذا أنفقه، وماذا عمل فيما علم». ورواه الترمذي أيضًا بنحوه من حديث أبي برزة، وقال: حديث صحيح. - وروى البيهقي عن لقمان –يعني ابن عامر- قال: كان أبو الدرداء يقول: إنما أخشى ربي أن يدعونني على رؤوس الخلائق فيقول: يا عومير فأقول لبيك ربي)، (وما عملت فيما علمت). - وخرج الإمام أحمد والبيهقي عن منصور عن زاذان قال: نبئت أن بعض من يلقى في الناس يتأذى أهل الناي بريحه فيقال له: ويحك، ما كنت تعمل، يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وبنتن ريحك فيقول: كنت عالمًا فلم انتفع بعلمي. وقد جاء أن الله تعالى أوحى إلى عيسى ابن مريم عليهما السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني. وقال الأوزاعي: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار، فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ويل لمن يعلم مرة، وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. وقال الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون لهم ما

أدخلكم النار؟ وإنما أدخلنا الله تعالى الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله. وتقدم بنحوه مرفوعًا. وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله تعالى {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [سورة الشعراء: 94] قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره. وقال حاتم الأصم: ليس في القيامة أشدة حسرة من رجل علم الناس علمًا، فعملوا به، ولم يعمل هو به وفازوا بسببه وهلك. وقيل لبعضهم: أي الناس أطوال ندامة؟ قال: أما في الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما/ عند الموت فعالم مفرط. وقال معاذ: احذروا زلة العالم لأن قدره عند الناس عظيم فيتبعوه على زلته. وقال كعب: في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، ويخوفون ولا يخافون، وينهون عند غشيان الولاة ويأتون، ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم، يقربون الأغنياء دون الفقراء، أولئك الجبارون أعداء الرحمن. وقال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية. وقال علي –رضي الله عنه-: قصم ظهري رجلان عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه. وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أوتيت علمًا فلا تطغين علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم. والأحاديث والآثار في ذم علماء السوء وتوبيخ من يعمل بعلمه، ومن خالف قوله عمله كثيرة جدًا، وهي ناطقة بأن من أمر بما لا يفعل أشر الناس منزلة

عند الله يوم القيامة، وأن العلماء الفجرة هم الأخسرون إذا ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأن حجتهم داحضة عن ربهم لما وهبهم من علمه نعمته منه عليهم فكفروا نعمته وخالفوا أمره. ولا يخفى عن ذي لب أن ملكًا من الملوك لو أرسل كتابة بأمر من الأمور إلى عبد من عبيده لا يعرف الكتابة وليس عنده من يعرفه بما فيه فخالف أمره لا يكون ذنبه عنده كمن أمكنه أن يقرأ أو يسأل من يقرأه، ليعرف ما فيه، فيمتثله، فترك ذلك وخالف ما فيه جاهلًا به، ولا يكون جزم هذا كجرم من قرأه وفهمه وكرر قراءته غير مرة ثم خالف ما أمره به سيده ومولاه، وعمل بعكسه، لا جرم كان هذا العبد عنده أحق العبيد بأليم عذابه، وأولاهم بعظيم سخطه، وأقربهم إلى إبعاده وطرده. ولهذا جعل الله المنافقين في الدرك الأسف من النار لأنهم جحدوا بعد العلم، وجعل الله اليهود شر من النصارى وخصهم بغضبه مع أنهم ما جعلوا لله ولدًا ولا قالوا: إنه ثالث ثلاثة، / ولكن أنكروا محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد المعرفة به وعلمهم بنبوته، إذا قال تعالى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [سورة البقرة: 146]. فالعلماء السوء أصل فساد الوجود، وسبب ضلال الخلق، والقاطعون طريق السلوك إلى الحق. وفي أخبار داود –عليه السلام- أن الله تعالى أوحى إليه: يا داود: إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود: لا تسأل عني عالمًا أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي). وحكى الأوزاعي عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله منه، وينظر إلى علماء الدنيا المتصنعين للخلق، المتشوفين إلى الرئاسة، فلا يمقته، هذا أحق بالمقت من ذلك الشرطي.

وقال صالح بن حسان البصري: أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة. وما أحسن حكاية حاتم الأصم وهو ما أخرجه أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى أبي عبد الله الخواصي- وكان من أصحاب حاتم الأصم- قال: دخلت مع حاتم الأصم الري ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلًا يريد الحج عليهم الصوف والزمانقات ليس معهم جراب ولا طعام، فدخلنا على رجل من التجار متنسك بحب المتقشفين فأضافنا تلك الليلة، فلما كان من الغد قال لحاتم: يا أبا عبد الرحمن، ألك حاجة؟ فإني أريد أن أعود فقيهًا لنا هو عليل فقال حاتم: إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة، وأنا أيضًا أجئ معكم، وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري قال: مر بنا يا أبا عبد الرحمن، فجاء إلى الباب مشرف حسن فبقى حاتم متفكرًا يقول: باب عالم على هذا الحال، ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار قوراء –يعني واسعة- وإذا بزة ومنعة وستور وجمع، فبقى حاتم متفكرًا، ثم دخلوا المجلس الذي هو فيه، فإذا يفرش وطيئة وإذا هو راقد عليها، وعند رأسه غلام بيده مذبة فقعد ابن مقاتل فساءله وحاتم قائم فأومأ إليه ابن مقاتل أن اقعد فقال: لا اقعد، فقال له ابن مقاتل: لعل لك حاجة، قال: نعم، قال: وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها، قال: فقم فاستو جالسًا حتى/ أسألك، فأمر غلمانه فأسندوه، فقال له حاتم: علمك هذا من أي جئت به، قال: الثقات حدثوني به، قال: عمن قال: قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن؟ قال: قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم من أين جاء به؟ قال: عن جبريل –عليه السلام- عن الله سبحانه وتعالى، قال حاتم: ففيما أداه جبريل عن الله وأداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وأداه أصحابه إلى الثقات، وأداه الثقات إليك، هل سمعت في العلم من كان في داره أمير، أو منعته أكثر كانت له المنزلة عند الله أكثر قال: لا

قال: فكيف سمعت، قال: من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة، وأحب المساكين وقدم لآخرته، ، كانت له عند الله المنزلة أكثر قال حاتم: فأنت بمن اقتديت؟ بالنبي وأصحابه الصالحين، أم بفرعون ونمرود أول من بني بالجص والآجر، يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل الطالب للدنيا الراغب فيها، فيقول العالم على هذه الحالة، أفلا أكون أنا أشر منه، وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضًا، فبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن: بقزوين أكثر شيء من هذا وأشاروا به إلى الطنافسي، قال: فصار إليه متعمدًا فدخل عليه فقال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدأ ديني، ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة؟ قال: نعم، وكرامة. يا غلام، هات إناء فيه ماء، فقعد الطنافسي وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: هكذا، فتوضأ، قال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك فيكون أؤكد لما أريد، وقام الطنافسي وقعد حاتم فتوضأ، ثم غسل الذراعين أربعًا قال الطنافسي له: يا هذا أسرفت. قال له حاتم: في ماذا؟ قال: غسلت ذراعك أربعًا، قال حاتم: يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت، وأنت في هذا الجمع كله لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك ولم يرد منه التعلم، فدخل البيت ولم يخرج/ إلى الناس أربعين يومًا. فالعالم إذا خالف علمه عمله، وكذب فعله قوله كان ممقوتًا في الأرض والسماء مضلة لمن رام به الاقتداء وإذا [أ] مر بغير ما يعمل مجت الأسماع كلامه، وقلت له في الأعين مهابته، وزالت من القلوب مكانته كما قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه تزل موعظته عن القلوب، كما يزل القطر من الصفا.

5 - الباب الخامس في ذكر جملة من الكبار والصغائر

الباب الخامس في ذكر جملة من الكبار والصغائر اعلم - وفقنا الله وإياك لاجتناب مناهيه واجتلاب مراضيه والوقوف مع حدود السنة الغراء والحفظ من ارتكاب البدع والأهواء-. أنه لا يجوز للمرء أن ينكر أن ينكر فعلًا حتى يعلم أنه منكر، ولا يشترط في المنكر أن يكون عالمًا بغيره من الأحكام. فرأيت من المتعين إفراد باب لذكر جمل من الكبائر والصغائر وأردفه بباب مختصر فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم نهيًا يقتضي التحريم والكراهية، ثم أردفها بباب فيه ذكر جمل من المنكرات المألوفات والبدع المحدثات، كل ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار، وربما أشير في بعضها إلى طرق من الأدلة النبوية ليكون عدة للمنكر بما اشتمل عليه من الزجر والترهيب. والله أسال الهداية وبه أستعين. اعلم: أن العلماء اختلفوا في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة. فجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن كل شئ نهي الله عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وحكى القاضي عياض هذا عن المحققين لأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى إجلال الله تعال كبيرة. وضعف الغزالي في الإحياء هذا القول.

وذهب جماهير العلماء إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر. وهو الصحيح لقوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [سورة النساء: 31]. ولقوله صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر» رواه مسلم. وفي معناه أحاديث كثيرة. ثم اختلف هؤلاء في ضبط الكبائر/ وحدها لتتميز عن الصغيرة: روى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب» رواه ابن أبي طلحة وأخرجه ابن جرير في تفسيره. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس معناه وقيل: إنَّه كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة والحَّد في الدنيا. رواه أبو صالح عن ابن عباس أيضًا. وبه قال الضحاك واختاره البغويّ وجماعة. وقيل: هو كل ذنب أوعد الله عليه النار. قاله الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. وفي رواية حكى القاضي حسين والحليمي قال: حد الكبيرة هو كل محرم بعينه منهيًا عنه لمعنى في نفسه فتعاطيه كبيرة وتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم ليكون فاحشة، والفاحشة أعظم من الزنا، ومثاله أن الزنا كبيرة فإذا زنا بحليلة جاره يكون فاحشة، ولهذا عدها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر. قال والصغيرة: حدها تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبة المنصوص عليه أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه ولا يستوفى معنى المنصوص عليه فيكون

صغيرة، فتعاطيه على وجه يجمع وجهين أو وجوهًا في التحريم يكون كبيرة. مثاله: القبلة واللمس والمفاخذة صغيرة، ولو كان مع حليلة جاره القريبة له يكون كبيرة. وقال الغزالي (في البسيط) الضابط الشامل في ضبط الكبيرة: أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ولا إحساس بندم، بل يرتكبها متهاونًا بها مستجرئًا عليها فهي كبيرة، وكل معصية حمله عليها غلبة نفسه وفترة مراقبته التقوى ولا ينفعك عن ندم ينغص عليه تلذذه بها فهذا ليس بكبيرة، هذا معنى كلامه. وقال الشيخ أبو محمد عز الدين بن عبد السلام -رحمه الله- في قواعده: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد/ الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر. فمن سبَّ الرب سبحانه وتعالى ورسوله أو استهان بالرسل أو كذب واحدًا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنها كبيرة. وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلمًا لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه يقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذبًا يؤخذ منه بسببه ثمرة فليس من الكبائر. فإن وقع في مال خطير فهو ظاهر، وإن وقع في حقير فيجوز أن يجعل من الكبائر فطامًا لهذه المفاسد. كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة.

قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور سبب والحاكم مباشر، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشر أولى. قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن، فعلى هذا علم أن كل ذنب مفسدة كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة. ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشبه أصغر الكبائر المنصوص عليها والله أعلم. وقال أبو عمرة بن الصلاح في فتاوية: الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيمًا على الإطلاق. قال: فهذا حد الكبيرة ثم لها أمارات تعرف بها. منها إيجاب الحد. ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسنة. ومنها: وصف فاعلها بالفسق نصًا. ومنها اللعن كقوله: لعن الله من غير منار الأرض. في أشباه لذلك لا نحصيها. وعند هذا نعلم أن عدد الكبائر غير محصور. انتهى. وقال الواحدي وغيره: حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من/ المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر.

قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة وساعة إجابة الدعاء بالليل واسم الله الأعظم ونحو ذلك مما خفي، والله أعلم. وقال القرطبيّ في تفسيره: كل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدَّده أو عظم ضرره في الوجود فهو كبيرة وما عداه صغيرة. وقال النووي في (الروضة): في حد الكبيرة أوجه: أحدها: أنها المعصية الموجبة للحد. الثاني: أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما وجد لهم وهم إلى ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوافق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. والثالث: كل فعل نصَّ الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره كترك فريضة تجب على الفور والكذب في الشهادة والرواية على ما ذكروه. انتهى. واعلم: أن الصغائر لا مطمع في حصرها. أما الكبائر فالخلاف في حصرها منتشر جدًا وهي على كبيرة وأكبر منها ولهذا جاء في الحديث إن من أكبر الكبائر كذا وإن من الكبائر كذا كما سيأتي. وقد روى سعيد بن جبير أن رجلًا سأل ابن عباس كم الكبائر أسبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. خرجه ابن جرير وابن أبي حاتم. ومعناه أن الصغيرة إذا أصر المرء عليها صارت كبيرة، وسيأتي الكلام في حد الإصرار إن شاء الله تعالى. وها أنا أذكر لك من الكبائر ما ذكره الرافعيّ والنوويّ وابن الرفعة وغيرهم.

فمنها الشرك بالله وهو أعظمها: قال الله تعالى {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة: 72]. ومنها قتل النفس التي حرم الله بغير حق: لقوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 93]. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يزال المرء في فسحة من دينه/ ما لم يصب دمًا حرامًا». وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم». وروى الترمذي وحسنه عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار». وروى الترمذي أيضًا وحسنه والطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:

«يأتي المقتول متعلقًا رأسه بإحدى يديه متلببًا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دمًا حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار». قلت: نص الشافعي-رحمه الله-في كتاب الشهادات من مختصر المزني على أنه: أكبر الكبائر بعد الشرك قتل النفس. ومنها الزنا: قال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله وسلم عليه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». وخرج أحمد والطبراني عن عثمان بن أبي العاص-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد هل من داع فيستجاب له هل من سائل فيعطى، مناد هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو الله-عز وجل-بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارًا». وفي رواية للطبراني «أن الله-تعالى-يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إلا لبغي بفرجها أو عشارًا».

وقال صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتاني رجلان-فذكر الحديث-إلى أن قال ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، وأسوأه منظرًا فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخًا، وأنتنه ريحًا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني». رواه ابن خزيمة وابن حيان في صحيحهما في حديث عن أبي إمامة. وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر-رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعته ستين سنة/فأمطرت الأرض فاخضرت، فأشرف الراهب من صومعته فقال: لو نزلت فذكرت الله تعالى فازددت خيرًا، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها حتى غشيها ثم نزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات، فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزنية، فرجحت الزنية بحسناته ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له». واعلم: أن زنا الشيخ أقبح وأفحش وأعظم عند الله من زنا الشاب، لما روى الطبراني عن عبد الله بن بسر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزناة تشتعل وجوهم نارًا».

وروى البيهقي عن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الزنا يورث الفقر». وخرج الخرائطي من حديث أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقيم على الزنا كعابد وثن». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر». وروى البزار عن بريدة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن السموات السبع والأرضين السبع لتلعن الشيخ الزاني، وإن فروج الزناة ليؤذي أهل النار نتن ريحها». وروى الطبراني عن نافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مسكين مستكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله». ومن أفحش أنواع الزنا وأقبحها زنا الرجل بزوجة جاره.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود-رضي الله عنه- قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه مسلم أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك». وروى أحمد عن المقداد بن الأسور-رضي الله عنه-مرفوعًا بإسناد جيد: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». ومن أفحش أنواعه أيضًا الزنا بزوجة المجاهد، لأنها على القاعد كأمه. وفي صحيح مسلم عن بريدة-رضي الله عنه/ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فما ظنكم». زاد النسائي في رواية «أترون يدع له من حسناته شيئًا». قال الشيخ شمس الدين ابن القيم رحمه الله: الزنا على مراتب بعضها أشر من بعض الزنا بالأجنبية التي لا زوج لها عظيم، وأعظم منه الزنا بالأجنبية التي لها بعل وأعظم منه الزنا بذوات المحارم، وزنا الثيب أقبح من زنا البكر، وزنا الشيخ أقبح من زنا الشاب، وزنا الحر أقبح من زنا العبد، وكذا العالم أقبح من زنا الأمي.

ومنها اللواط: وفي النسائي وصحيح ابن حبان عن ابن عباس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط». وخرج الطبراني من حديث جابر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه «وإذا كثر اللوطية رفع الله عز وجل يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا». وخرج الطبراني والحاكم وصحح إسناده من أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سمواته ورد اللعنة على واحد منهم ثلاثًا، ولعن الله كل واحد منهم لعنه تكفيه، قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من عق والديه، ملعون من جمع بين امرأة وبنتها، ملعون من غير حدود الأرض، ملعون من ادعى إلى غير مواليه». والأحاديث فيها كثيرة ليس هذا المختصر محل استيفائها. واعلم: أن الله سبحانه لم يجمع على امة من الأمم من أنواع العقوبات ما جمع على اللوطية، فإنه سبحانه طمس أبصارهم، وسود وجوههم، وأمر جبريل عليه السلام أن يقتلع قراهم من أصلها ثم يقبلها عليهم فجعل عليها سافلها ثم خسف

بهم، ثم أمطر عليهم حجارة من السماء، وهذه العقوبات/ لم يجمعها على امة غيرهم لشدة مفسدة هذا الذنب العظيم وفحشه وقبحه وشدة غضب الله على أهله ومقته لهم. وقد أجمع الصحابة على قتل فاعله، وإن تنوعت آراؤهم في كيفية قتله: فحرقه خالد بن الوليد بأمر أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال ابن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة. وقد رجم أبو الدرداء لوطيًا. وحرق ابن الزبير آخر كما فعل خالد بن الوليد. وقال مجاهد: لو أن اللوطي اغتسل بكل قطرة في الأرض وكل قطرة في السماء لم يزل نجسًا. وقد روي عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تعالى إليهم حتى يحشره معهم». قال بن القيم: وهذا المعنى صحيح وإن لم يصح الحديث. قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 22 - 23].الآية. قال عمر-رضي الله عنه-أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم. وقال تعالى {إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]. قال النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنهم-: هما الرجلان يعملان العمل الواحد يدخلان به الجنة ويدخلان به النار.

وقال يزيد بن هارون وقد سئل عن اللوطي فقال: الذي يأتي الغلام بين فخذيه هو اللوطي وعليه الحد والذي يأتيه في دبره فهو كافر. وعن مجاهد عن أبي هريرة قال: من أتى صبيًا فقد كفر. ومنها شرب الخمر ولو قطرة واحدة. وقد خرج ابن أبي حاتم في تفسيره بإسناده عن عمارة بن حزم أنه سمع عبد لله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهم-وهو في الحجر بمكة وسئل عن الخمر فقال: والله إن عظيمًا عند الله تعالى لشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فسأله ثم رجع، فقال: سألته عن الخمر. فقال: هي أكبر الكبائر وأم الفواحش، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته. وخرجه أيضًا الحافظ أبو بكر بن مردوديه بإسناد رجاله ثقات. وروي ابن أبي حاتم أيضًا عن ابن عباس-رضي الله عنه-أنه كان يعد الخمر أكبر الكبائر. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: «من شرب الخمر في الدنيا/ ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة». قال الخطابي-رحمه الله تعالى-: وهذا وعيد بأنه لا يدخل الجنة، لأن من دخل الجنة لا يحرم شربها. وفي المسند وصحيح ابن حبان وغيرهما عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله عز وجل من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات-يعني الزاني-يؤذي أهل النار ريح فروجهن». وخرج الحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها، مدمن الخمر، وآكل الربا وآكل مال اليتيم بغير حق والعاق لوالديه». وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عباس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن». وفي صحيح مسلم عن جابر-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وإن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار». وفي سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان عن أبي مالك الشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير».

وروى النسائي عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم يقبل منه صلاة سبعًا، وإن مات فيها مات كافرًا، فإن أذهب عقله عن شيء من الفرائض لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، وإن مات فيها مات كافرًا». وفي صحيح ابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما وأيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من شرب الخمر فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربه فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد/ الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار». وفي المسند بإسناد حسن عن أسماء بنت يزيد-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر لم يرض الله تعالى عنه أربعين ليلة، فإن مات مات كافرًا، فإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار». روى الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن عائشة-رضي الله عنها-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر سخط الله عليه أربعين صباحًا، فإن عاد فمثل ذلك، وما يدريه لعل منيته تكون في تلك الليالي، فإن عاد سخط الله عليه أربعين صباحًا، فهذه عشرون ومائة ليلة، فإن عاد فهو في ردغة الخبال، قيل: وما ردغة الخبال؟ قال: عرق أهل النار وصديدهم».

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا وفي هذا القدر كفاية. اللهم إنا نسألك العافية والحفظ من أسباب سخطتك وغضبك يا أرحم الراحمين: ومنها السرقة: وكفى بها إثمًا وعارًا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده». ومنها القذف: قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]. وقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. - وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». - وفيهما أيضًا عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال».

وعن طيسلة بن علي النهدي قال: «أتيت ابن عمر فقلت: أخبرني عن الكبائر. فقال/ هن تسع، قلت وما هن؟ قال: الإشراك بالله، وقذف المحصنة. قال: قلت: قتل النفس؟ قال: نعم. ورغمًا، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر، واكل الربا واكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا». رواه ابن جرير من طريقين موقوفًا، ورواه غيره مرفوعًا. قلت: مما يتساهل به كثير من الجهال من الرجال والنساء قول بعضهم لعبده: يا مخنث، ويعني به المعنى الفاحش، أو لجاريته: يا قحبة، يا زانية، وما أشبه ذلك. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقام عليه الحد يوم القيامة، لأنه ليس للعبد أن يطالب سيده بحق القذف في الدنيا. وكذلك قول بعضهم للصغير: يا ابن القحبة، أو يا ولد الزنا، وما أشبه ذلك، وهو من الذنوب العظام الكبائر التي توجب الحد في الدنيا والمقت من الله يوم القيامة. فروع تقع كثيرًا يجب الاحتراز من مثلها: لو قال له: لطت بك أو لاط بك فلان يحد لقذفهما. ولو قال: لطت بك فهو إقرار باللواط يحد للقذف أيضًا. ولو قال له: يا قواد، فكناية في قذف الزوجة. ولو رمى بحجر فقال من رماني بهذا فأمه زانية حد إن كان يعرف الرامي وإلا فلا. ولو قال فلان زنى وأنت أزنى منه فقد قذفهما.

ولو قال له يا زاني أو كلمة نحوها مما توجب الحد فقال له الآخر بل أنت الزاني حد كل منهما ولا يتقاصان. ولو قال لأجنبي يعرف أبوه: لست ابن فلان. حد. ولو قذف صغيرة لا يوطأ مثلها عزر. ولو قذف جماعة [بـ] كلمة واحدة حد لكل واحد حدًا على الجديد. ولو قذف واحدًا بكلمتين حد حدين. ولو قال: يا زاني، يا ابن الزانية، حد حدين لهما. ونظائر هذه المسائل كثيرة محلها في كتاب اللعان والقذف من كتب الفقه. والله أعلم. ومنها شهادة الزور: وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور أو قال شهادة الزور». وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن خريم بن فاتك أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم قرأ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31]». وفي المسند عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار».

وروى ابن ماجة والحاكم وصحح إسناده عن ابن عمر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار». والأحاديث في هذا كثيرة. ومنها غصب المال: وشرط بعض العلماء أن يكون ربع دينار فصاعدًا وإلا فهو صغيرة. والغصب نوع من الظلم والله لا يحب الظالمين. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا». وفيه أيضًا قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة». وروى الطبراني عن علي-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى «اشتد غضبي على من ظلم من لم يجد له ناصرًا غيري». وروى أبو الشيخ عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: «وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله

وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلومًا وقدر على أن ينصره فلم يفعل». وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ-رضي الله عنه- «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب». والأحاديث في هذا كثيرة جدًا. ومنها الفرار من الزحف: قال الله تعالى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]. وتقدم ذكره في السبع الموبقات. ومنها أكل الربا: قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279]. وفي صحيح مسلم «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء». وعن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاث وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه». رواه الحاكم/ قال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.

وروى البيهقي في الشعب عن أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعًا: «الربا سبعون بابًا أدناها كالذي يقع على أمه». وخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام». وخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن حنظلة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية». وخرج الطبراني عن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان الرجل أمه». وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبًا أيسرها أن ينكح الرجل أمه». وخرج أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق قال: فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا». وخرج الأصبهاني من حديث أبي سعيد-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء، نظر في سماء الدنيا، فإذا رجال بطونهم كأمثال

البيوت العظام قد مالت بهم بطونهم، وهم منضدون على سابلة آل فرعون، يوقفون على النار كل غداة وعشي يقولون: ربنا لا تقم الساعة أبدًا، قلت يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال أكلة الربا من أمتك، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. قوله: منضدون قال الأصبهاني: أي طرح بعضهم على بعض. والسابلة: المارة. أي يتوطأهم آل فرعون كل غداة وعشي. وخرج الطبراني عن عون بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والذنوب التي لا تغفر، فمن غل شيئًا أتي به يوم القيامة، وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة/ مجنونًا يتخبط، ثم قرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]». وخرج الحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها مدمن خمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه». والأحاديث فذ هذا الباب كثيرة جدًا وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته وتوفيقه.

ومنها أكل مال اليتيم بغير حق: خرج أبو يعلى وابن حبان في الصحيح عن أبي برزة-رضي الله عنه-أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الله يوم القيامة قومًا من قبورهم تأجج أفواهم نارًا، وقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الم تر أن الله يقول {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]». وتقدم أنه أحد السبع الموبقات. وفي صحيح ابن حبان عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن «وإن أكبر الكبائر عند الله الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار من الزحف في سبيل الله، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم». وذكر القرطبي في تفسيره عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: حدثت النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسرى به قال: «رأيت قومًا لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرًا من نار يخرج من أسفلهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا». ومنها عقوق الوالدين: وفي صحيح البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس». وتقدم الحديث قبله. وخرج النسائي والبزار والحاكم بأسانيد صحاح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه وثلاثة لا يدخلون الجنة-وفي رواية حرم الله عليهم الجنة-العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء». والديوث: وهو الذي يقر أهله على الزنا. والرجلة: المتشبهة بالرجال. / وخرج الطبراني عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينفع معهن عمل، الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف». وروى أحمد عن معاذ-رضي الله عنه-قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال: «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك» وذكر بقية الحديث.

وخرج الحاكم وصحح إسناده عن أبي بكر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا وخرج الأصبهاني عن العوام بن حوشب قال: نزلت مرة حيًا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج منها رجل رأسه رأس حمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزل شعرًا أو صوفًا فقالت امرأة ترى العجوز قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا، قلت: وما كان قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمه يا بني اتق الله إلى متى تشرب هذا الخمر؟ فيقول: إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار، قالت: فمات بعد العصر، فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر. تنبيه: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخالة بمنزلة الأم» فيجب برها ويحرم عقوقها. والعم بمنزلة الأب كذلك. ومنها قطع الرحم: قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم متعلقة بالعرش تقول «من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله». رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. وخرج أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم/ «إن الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب: إني قطعت يا رب إني أسئ إلي يا رب إني ظلمت يا رب، فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك». قوله شجنة: بكسر الشين المعجمة وضمها وبإسكان الجيم بعدهما نون قال أبو عبيد: يعني قرابة مشتبكة كاشتباك العروق. وخرج الترمذي والحاكم وصححاه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من ذنب أجدر أن يؤجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره الله له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم». وخرج أحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس فلا يقبل عمل قاطع رحم».

وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان: يعني قاطع رحم. وخرج أحمد ابن حبان في صحيحه والحاكم عن أبي موسى-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة، مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر». وروى الطبراني عن عبد الله بن أبي أوفى-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم». قال القرطبي في تفسيره في أوائل سورة النساء: اتفقت الأمة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطعها محرم. ومنها الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». وفيهما أيضًا عن علي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار». وروى الطبراني عن واثلة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل علي ما لم أقل». ومنها كتم الشهادة بلا عذر: قال الله تعالى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. وروى الطبراني عن أبي موسى-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم الشهادة إذا دعي إليها كان كمن شهد بالزور». ومنها اليمين الغموس: وفي الصحيحين عن ابن مسعود/ رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان، قال عبد الله ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]». الآية. وخرج الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن أنيس-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكبر الكبائر الإشراك بالله،

وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، والذي نفس بيده لا يحلف رجل على مثل جناح بعوضة إلا كانت في قلبه كية يوم القيامة». اليمين الغموس: هي الكاذبة التي يقطع بها مال مسلم بغير حق وسميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا وفي النار في الآخرة. وخرج الحاكم وصحح إسناده عن الحارث بن البرصاء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار ليبلغ شاهدكم غائبكم مرتين أو ثلاثًا». وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة الحارثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك». والأحاديث في هذا كثيرة. ومنها الفطر في رمضان بلا عذر: روى البخاري تعليقًا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه مسندًا عن أبي هريرة-رضي الله عنه-

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يومًا في رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه». ومنها الخيانة في كيل أو وزن أو ذرع: قال الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 1 - 2] الآيات. وروى ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر/ الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، لولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا». وروى مالك موقوفًا على ابن عباس قال: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، ولا فشا في قوم الزنا إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الدم ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو. وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. زاد مسلم في رواية «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم». ومنها تقديم الصلاة على وقتها أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر: قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وقال تعالى {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]. وروى جماعة عن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-أنهم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقد روى مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [وخرج الحاكم وصحح إسناده عن ابن عباس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ] «من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر». ورواه الترمذي أيضًا وابن أبي حاتم وفي كل طرقه حسين بن قيس الرحبي. وروى ابن أبي حاتم عن أبي قتادة-يعنى العدوى-قال: قرأ علينا كتاب عمر رضي الله عنه: من الكبائر جمع بين الصلاتين-يعني بغير عذر-والفرار من الزحف والنهبة.

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: إسناده صحيح. وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة سمعت إسحاق يقول صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم: أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. حكي القرطبي عن عمرو/ بن دينار قال: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت فكان يعودها فماتت فدفنها فكان هو الذي نزل في قبرها فسقط من كمه كيس فيه دنانير فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لأكشفن حتى انظر حال أختي فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارًا، فجاء إلى أمه فقال أخبريني ما كانت أختي تعمل؟ فقالت قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها، فلم يزل بها حتى قالت: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم فتجس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت أختي. ومنها ضرب المسلم بلا حق: وتقدم حديث «لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجلاً ظلمًا فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدافعوا عنه». وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان.

ومنها سب الصحابة رضي الله عنهم: وقد نقل غير واحد من الأئمة الإجماع على تكفير من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واختلف العلماء في تكفير من سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكذلك في من سب غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم. والأقوال في ذلك كثيرة جدًا، والحاصل منها أن الساب دائر بين ارتكاب كفر أو كبيرة من الكبائر. نسأل الله تعالى الحفظ من أسباب سخطه وموجبات عذابه. ومنها أخذ الرشوة في الحكم وإن كان بحق: وروى أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة في صحيحه والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الراشي والمرتشي». وخرج الطبراني بإسناد جيد عن ابن عمرو .. -رضي الله عنهما-أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الراشي والمرتشي في النار». وروى أحمد عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش-يعني الذي يمشي بينهما. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:

الرشوة في الحكم كفر وهي بين الناس سحت. / وروى الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا وبما كرهوا جئ به يوم القيامة مغلولة يده، فإن عدل ولم ترتشي ولم يحف فك الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشي وأبي فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمى به إلى جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام». قال الشافعي: وإذا أخذ القاضي رشوة على قضائه فقضاؤه مردود وإن قضى بحق والرشوة مردودة. ومنها الدياثة: وهي أن يقر أهله على الفساد، وقد تقدم في العقوق: ثلاث حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبت في أهله. وخرج الطبراني من حديث مالك بن يخامر ويقال ابن أخمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله من الصقور يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً. قال: قلنا يا رسول الله من الصقور؟ قال الذي يدخل على أهله الرجال». ومنها القيادة: وهي الجمع بين رجل وامرأة أجنبية سواء كان الجامع رجلاً أو امرأة. ومنها السعاية عند السلطان بمضرة مسلم: ومنها منع الزكاة: قال تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله

فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم}. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار». ثم ذكر مانع زكاة الإبل ومانع زكاة البقر والغنم. رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن-مسعود-رضي الله عنه-قال لا يكوي رجل يكنز فيمس درهم ولا ديناراً يوسع جلده حتى يوضع كل دينار على حده. / وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما أول ثلاثة لا يدخلون الجنة فأمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله من ماله وفقير فخور». وروى أحمد عن زياد بن نعيم الحضرمي: -رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربع فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاثة لم يغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهن جميعًا الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت».

وروى الطبراني عن أنس بن مالك-رضى الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار». والأحاديث في ذم مانع الزكاة وتغليظ عقوبته يوم القيامة كثيرة جدًا. ومنها نسيان القرآن بعد تعلمه: روى أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه عن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها». وروى أبو داود عن سعد بن عبادة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله تعالى وهو أجزم». قال ابن الأعرابي معناه يلقى الله تعالى خالي اليد عن الخير، كن باليد عما تحويه اليد. وقال آخر: معناه لا حجة له. ومنها إحراق الحيوان بالنار: قال بعض العلماء: ولو كان قملة أو برغوثًا أو غيرهما.

ومنها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة: قال الرافعي رحمه الله: والتوقف محال في بعض هذه الخصال كقطع الرحم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إطلاقهما ونسيان القرآن الكريم، وإحراق مطلق الحيوان بالنار. ومنها اليأس من رحمة الله: قال تعالى {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. ومنها الأمن من مكر الله: قال الله تعالى {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. وقد روى ابن خزيمة وابن جرير وابن المنذر في تفسيرهما بإسنادهما عن ابن مسعود-رضي الله عنه-أنه قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس/ من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله». قال الحافظ ابن كثير: إسناده صحيح بلا شك، وقد رواه البزار مرفوعًا بإسناد فيه نظر. انتهى. وروي ابن المنذر في تفسيره عن إياس بن عامر قال: لقيت عليًا-رضي الله عنه-في العمرة فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أكبر الكبائر؟ قال: الأمن من مكر الله تعالى، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله. ومنها الوقيعة في أهل العلم والقرآن: ومنها الظهار: ومنها أكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر: ومنها امتناع المرأة من فراش زوجها بلا عذر:

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا رجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح». رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة ى تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها، والسكران حتى يصحو». وروى النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي تستغني عنه». ومنها السحر: وقد تقدم أنه إحدى السبع الموبقات. وروى النسائي عن الحسين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه». وروى أحمد عن علي بن زيد عن الحسن بن عثمان بن أبي العاص قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان لنبي الله داود ساعة يوقظ فيها أهله يقول يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه الساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عاشر». وروى البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: / «ليس منا من تطير، أو تطير له، أو تكهن، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم». وخرج الطبراني عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء من مات لا يشرك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه». وفي صحيح ابن حبان عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم». وخرج ابن المنذر في تفسيره من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم، ولا كاهن، ولا منان». قال الرافعي والنووي وغيرهما: تعلم السحر وتعليمه حرام على الصحيح ودرجاته متفاوتة وهذا إن لم يحتج في تعليمه إلى اعتقاد هو كفر، وأما فعله فيحرم إجماعاً، ومن اعتقد إباحته كفر، ولا يظهر السحر إلا على فاسق،

وكذلك علم الطبائع والتكهن، وإتيان الكهان وتعلم الكهانة والتنجيم أو الضرب بالرمل والشعير والحصى والشعبذة وتعليم ذلك وأخذ العوض عليه حرام، والله أعلم. ومنها وطء امرأته في الحيض: وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدقه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم». ورواه أبو داود إلا أنه قال: «فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم». ومنها النميمة: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام». رواه البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه. وخرج أبو الشيخ في كتاب التوبيخ عن العلاء بن الحارث مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون للبراء العيب يحثرهم الله تعالى في وجوه الكلاب». / وفي الصحيحين عن ابن عباس-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان فقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنثر من بوله». الحديث.

وهذا لفظ البخاري. قال الغزالي: النميمة إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كقوله فلان يقول فيك كذا. وليست النميمة مخصوصة بذلك، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث وسواء كان الكشف بالقول أو الكناية أو الرمز وإلا بماء أو نحوهما، وسواء كان المنقول من الأقوال والأعمال وسواء كان عيبًا أو غيره. فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، وينبغي للإنسان أن يسكت عن ما رآه من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية. وإذا رآه يخفي حال نفسه فهو نميمة. قال: وكل من حملت إليه نميمة وقيل له قال فيك فلان كذا ألزمه ستة أمور: الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الخبر. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله. الثالث: أن يبغضه في الله فإنه بغيض عند الله. الرابع: أن لا يظن بالمنقول عنه السوء لقوله قلت، بل يكون الإخبار وعدمه سواء لا يؤثر عنده ظنًا فمتى ظن وجود ذلك أو أحس من نفسه بنفور عن المنقول عنه أو استقبال به فهو آثم، إذ ليس سالمًا من بعض تصديق النمام. الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس والبحث عن تحقيق ذلك. السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته. وقد روي أن رجلاً نم عند عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-فقال له: إن

شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]. وإن شئت عفونا عنك قال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود أبدًا. انتهى. 1 - فصل هذا جملة ما أعده الرافعي والنووي وابن الرافعة من الكبائر، وها أنا أذكر جملة منها ذاهبًا فيها إلى ما اختاره جماعة من العلماء أن: «كل ذنب قرن به وعيد شديد أو لعن فهو كبيرة». مع أن أكثر ما أذكره ما أرى أنه يتوقف فيه إلا من لم يقف على ما ورد فيه من الوعيد أو [لم] يعلم صحته، وقد ذكرت هذا الفصل إلى آخرة نسجًا على غير منوال لعدم وقوفي على مصنف مفرد في الكبائر، ثم لما أتممت الكتاب وقفت على مصنف الحافظ شمس الدين الذهبي، ومصنف الإمام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية-رضي الله تعالى-فوجدتهما أهملا كتير [اّ] مما ذكرته مع وضوح الدليل فيه، وذكرا أيضًا أشياء ما كنت ذكرتها فألحقها كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. والله أسأل المعونة والتوفيق. فمنها الغيبة: وهو الداء العضال والسم الذي هو أحلى في الألسن من الماء الزلال. وقد قال الله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله». فإذا اتفق الناس على أن غصب المال كبيرة، وقتل النفس كبيرة، فلما المانع أن يكون تناول العرض كبيرة، وقد جمعهم في الحرمة من أوتي جوامع الكلم. بل قال القرطبي-رحمه الله تعالى-في تفسيره: لا خلاف في أن الغيبة من الكبائر. وفي الصحيحين عن أبي بكرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت». وفي بعض نسخ أبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر استطالة الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق. ومن الكبائر السبتان بالسبة». وخرج أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح عن عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه «أتدرون ما أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم./ قال: فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

وروى أبو داود والترمذي وصححه عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني: أنها قصيرة.-فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته». قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: «ما أحب أني حكيت إنسانًا وإن لي كذا وكذا». وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أن الأسلمي لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله فقال: أين فلان وفلان؟ فقالوا: نحن ذا يا رسول الله. فقال كلا من جيفة هذا الحمار. فقالا: غفر الله لك. من يأكل من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفًا أشد من أكل هذه الجيفة». فانظر رحمك الله أي وعيد أعظم من هذا، إذ جعل اغتيابهما أشد من أكل الميتة المحرمة المعدودة من الكبائر. وروى أبو الشيخ في كتاب التوبيخ عن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: «لأن يأكل أحكم من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم». وخرج أحمد عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: نظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس.

وخرج أبو داود عن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوهم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم/ فارتفعت ريح منتنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين». وقد جاء في حديث مرفوع «الغيبة أشد من الزنا». خرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما. وخرج الإمام أحمد وغيره بإسناد رواته ثقات عن أبي بكرة قال بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد رجل عن يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى ... فأيكم يأتين بجريدة فاستبقنا فسبقته فأتيته بجريدة فكسرها بنصفين فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة قال: إنه ليهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول». وخرج ابن جرير الطبري وغيره من طريق علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد، فوقف على قبرين فقال: «أدفنتم فلانة أو فلانًا قالوا: نعم يا رسول الله قال: اقعد فلان الآن فضرب. قال: والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع

ولقد تطاير قلبه نارًا، ولقد صرخ سمعها الخلائق إلا الثقلين الإنس والجن، ولولا تريج في قلوبكم وتزييدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع، ثم قال: الآن يضرب هذا، والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع ولقد تطاير قلبه نارًا، ولقد صرخ صرخة سمعها الخلائق إلا الجن والإنس. قالوا: يا رسول الله وما ذنبهما قال: أما فلان فكان لا يستبرأ من البول، وأما فلانة فكان يأكل لحوم الناس». وروى الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» عن عثمان-رضي الله عنه-قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الغيبة والنميمة يجبان الإيمان كما يعضد الراعي الشجرة». وبالجملة فالأحاديث في الغيبة كثيرة جدًا ليس هذا محل استيفائها. وفي الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: / «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته». تنبيه اعلم أن الغيبة كما قال صلى الله عليه وسلم هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو سمعه وإجماع الأئمة على هذا. سواء ذكرت شيئًا في بدنه كقولك: أعمش، أحول، أقرع، قصير، طويل، أسود، أصفر-ونحو هذا. أو ذكرت شيئًا في نسبه كقولك: كان أبوه فاسقًا، أو مكاسًا، أو زبالاً، أو إسكافًا، أو حائكًا، أو صعلوكًا-ونحو ذلك.

أو ذكرت شيئًا في خلقه كقولك: إنه سيء الخلق، متكبر، أحمق، جبان، عاجز، ضعيف القلب، عجول، خليع، وعبوس، ليس في عينه من أحد شيئًا-ونحو هذا. أو ذكرت شيئًا من أفعاله كقولك: إنه خائن، سارق، كاذب، يشرب الخمر، كسلان، لا يعرف البيع والشراء، لا ينصح في شغله، متهاون في الصلاة: لا يحسن الركوع والسجود، لا يتحرز عن النجاسات، ليس بارًا بوالديه، يغتاب الناس، قليل الأدب، كثير الكلام، كثير الأكل، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه، لا يحسن الكتابة، لا يعرف علم كذا لا يبحث كما ينبغي، لا ينصف في المناظرة، لا يسلم إذا ظهر الحق، كثير الدعوى، ونحو هذا. أو ذكرت شيئًا في ملبسه كقولك: واسع الكم، طويل الذيل، كبير العمامة، وسخ الثياب، يلبس ما لا يليق به، ونحو هذا. فكل هذا وأشباهه وإن كنت صادقًا فأنت به مغتاب وعاص لربك وآكل لحم أخيك. كذلك إذا ذكرت شيئًا يكرهه في ولده كقولك: إنه قبيح، أو دلع، أو قليل الأدب، أو ليس فيه تربية ونحو هذا. أو ذكرت زوجته أنها تكثر الخروج من البيت، أو تحكم عليه، أو يحبها، أو هي عجوز، أو قبيحة، أو بذيئة اللسان، أو لا تعرف التقانة، أو لا تحسن الطبخ، أو قليلة النظافة في بيتها، ونحو هذا. أو ذكرت خادمه أو مملوكه بأنه: آبق، أو سارق، أو قبيح، أو قليل الأدب، ونحو هذا. وفي هذه الأنواع الثلاثة الغيبة غيبتان، غيبة من ذكرته، وغيبة من هو منسوب إليه من والد أو زوج أو سيد/ إذا كان يكره ذلك.

وكذلك إذا ذكرت دابته بأنها جموح مثلاً أو عاجزة، أو قطوفة أو لا تساوي كذا، أو ذكرت داره بأنها قليلة المرافق أو مظلمة ضيقة، أو ضيع ما صرف عليها ونحو ذلك. فكل ما تعلم أن أخاك يكرهه لو بلغه فهو غيبة محرمة فاجتنبه. واعلم: أن الغيبة باللسان إنما حرمت لأن فيها تفهم الغير نقصان الذي اغتبته. فكذلك إذا أفهمته بغير اللسان، فالتعريض فيه كالتصريح، والفعل فيه كالقول، وكذلك الإشارة والإيماء والغمز والرمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم منه المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. قال النووي-رحمه الله-: بلا خلاف وكذلك إذا حاكيته بأن تلبس لبسته أو تمشي مشيته أو تنظر نظره ونحو ذلك من حركاته. قال الغزالي: بل أشر من الغيبة لأنه أعظم في التفهم وأنكى للقلب. قال: وأخبث الغيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة، ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغيبة. وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلينا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء، نسأل الله أن يعصمنا وإنما قصده أن يفهم عيب الغير فيذكره بصيغة الدعاء. وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما نبتلي به كلنا فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره، وأن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم فيكون

مغتابًا ومرائيًا ومزكيًا لنفسه، ويجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغي/ إلى المغتاب ويُعلم ما يقوله فيذكر الله ويستعمل اسمه تعالى آلة في تحقيق خبثه، فهو يمن على الله سبحانه بجهله جهلاً منه واغترارًا وكذلك يقول لقد ساءني ما جرى على صديقنا فلان من الاستخفاف فنسأل الله تعالى أن يروح سره، ويكون كاذبًا في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء بل لو قصد الدعاء لأخفاه عقيب صلاته ولو كان يغتنم لاغتنم أيضًا بإظهار ما يكره. وكذلك يقول المسكين: قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه فهو في كل ذلك يظهر الدعاء، والله تعالى مطلع على خبث ضميره وخفي قصده وهو بجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما يتعرض له الجهال إذا جاهروا ومن ذلك الإصفاء إلى الغيبة على سبيل التعجب بأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب بالغيبة فيندفع فيها، فكأنه يستخرج المغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجبًا ما علمت أنه كذلك ما عرفته إلى الآن إلا بالخير وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله تعالى من بلائه، فإن ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة، بل الساكت شريك المغتاب ولا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه، فإن خاف بقلبه، فإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره لزمه، فإن لم يفعل عصى، وإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بذلك بقلبه فهو نفاق ولا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفيه أن يشير باليد أن أسكت أو يشير بحاجبه أو جبينه أو غير ذلك فإن ذلك استخفاف للمذكور بل ينبغي أن يعظمه فيذب عنه صريحًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذل عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق».

وقال صلى الله عليه وسلم: «من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقًا على الله أن يعتقه من النار». انتهى. قال النووي-رحمه الله-في «الأذكار»: ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك المجلس. / فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو كان من أهل الفضل والصلاح كان الاعتناء بما ذكرنا أكثر. وروينا في كتاب الترمذي عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». قال الترمذي: حديث حسن، انتهى. واعلم: أنه كما يحرم عليك أن تحدث غيرك بمساوئ الإنسان كذلك يحرم عليك أن تحدث نفسك بذلك وتسيء الظن به ولا تضر الخواطر وحديث النفس بذلك وإنما المحرم عقد الظن، وعلامته أن يتغير القلب كما كان عليه، وينفر عنه نفورًا لم يعهده وتستثقله وتنفر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاهتمام بشأنه، فهذه كلها من علامات عقد الظن وتحقيقه وهو حرام. قال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12].

وقال صلى الله عليه «إياكم والظن أكذب الحديث». ومنها البهت: وهو كما تقدم: ذكرك أخاك بما ليس فيه وربما يكون أشد من الغيبة، لأن بعض الناس قد لا يشق عليه ذكره بما فيه لوفور عقله ويشق عليه أن يفترى عليه الكذب. ففي الغيبة أذى بصدق، وفي البهت أذى بكذب. وقد روى الطبراني بإسناد جيد عن جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه». وفي رواية: «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا، فإن حقًا على الله تعالى أن يعذبه يوم القيامة حتى يأتي بنفاذ ما قاله». وقد جاء في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال». رواه أبو داود من حديث ابن عمر، والطبراني وزاد «وليس بخارج».

والحاكم وصحح إسناده. الردغة: هي الوحل الشديد. وقد جاء في الحديث أن ردغة الخبال هي عصارة أهل النار. ومعنى قوله: «وليس بخارج منها أنه لا يخرج حتى يثبت ما قال» ومحال أن ينقلب الكذب صدقًا، / فكأنه علق خروجه على ما يستحيل وجوده. كما قال تعالى «لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط». وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار من الزحف ويمين جائرة يقتطع بها مال بغير حق». وقد اتفق جمهور العلماء على أن الأربعة من الكبائر وإفراد البهت عنها تخصيص من غير مخصص. ومنها عدم الاستنزاه من البول: لما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مر بقبرين يعذبان فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى. إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله». وقد بوب البخاري-رحمه الله-في صحيحه باب «من الكبائر أن لايستتر من بوله». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثر عذاب القبر من البول».

رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولا علة له. وروى الطبراني عن أبي أمامة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر». ومنها تهاون القادر بالحج: إلى أن يموت كذا عدة بعضهم من الكبائر معتمدًا على حديث الحارث عن علي-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى حج بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا». وذلك أن الله تعالى يقول {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. رواه الترمذي والبيهقي. والحارث هذا هو الأعور لا تقوم به حجة. وقد رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة بنحوه ولا يصح أيضًا. ومنها التكذيب بالقدر: قال الله تعالى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

وفي سؤال جبرائيل قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره». وخرج ابن حبان والحاكم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال/ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة، المكذب بقدر الله، والزائد في كتاب الله، والمتسلط بالجبروت ليزل من أعز الله، والمستحل من عزتي ما حرم الله، والتارك لسنتي». وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة عاق، ولا مكذب بقدر، ولا مدمن خمر». رواه ... والأحاديث في هذا كثيرة. ومنها الهجر فوق ثلاثة أيام: إلا لبدعة في المهجور وتظاهر بفسق أو نحو ذلك. لما في الصحيحين عن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار».

رواه أبو داود والنسائي بإسناد على شرط البخاري ومسلم. وعن هشام بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث ليال فمن هجر فوق ثلاث ليال فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئًا يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم ولم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان، فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعًا أبدًا». رواه أحمد بإسناد صحيح والطبراني وابن حبان في صحيحه. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه ولفظه «لا يحل أن يصطرما فوق ثلاثة أيام، فإن اصطرما فوق ثلاث لم يجتمعا في الجنة أبدًا». رواه الطبراني والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن عباس بنحوه وقال في آخره «وإن ماتا وهما متهاجران لا يجتمعان في الجنة». وخرج الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن فضالة بن عبيد-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار إلا أن يتداركه الله برحمته».

وخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي خراش أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه». وخرج البراز بإسناد رجاله رجال الصحيح/ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رجلين دخلا في الإسلام فاهتجروا، لكان أحدهما خارجًا من الإسلام حتى يرجع». يعني الظلم منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرئ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يصطلحا». وفي صحيح ابن حبان عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع الله تعالى إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن». [رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو إلا أنه قال فيه «فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس]. وخرج ابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس-رضي الله

عنهما -عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً، رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان». لفظ ابن ماجة. وقال ابن حبان: «ثلاثة لا تقبل صلاتهم» فذكره. والأحاديث في هذا كثيرة مصرحة بما يقتضي أنه من الكبائر. وقد عده ابن القيم وغيره منها، والله أعلم. ومنها بيع الحر وأكل ثمنه: وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجرته». ومنها أن يستأجر أجيراً ويستوفى منه العمل ثم لا يوفيه أجرته. لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدم. وإن كان هذا داخلاً في مطلق الظلم، وهو نوع منه، ولكن قد ورد فيه وعيد خاص ليتبين رتبته من الظلم، وهو نوع منه، لأن الظلم وإن كان كبيرة من حيث الإطلاق، ولكن بعضه أكبر من بعض. وقد روى ابن ماجة بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه».

رواه أبو يعلى وغيره من حديث أبي هريرة والطبراني من حديث جابر. ومنها/ البغي: كذا عده الحافظ الذهبي من الكبائر، واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]. وبقوله (صلى الله عليه وسلم): «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم». ورواه ابن ماجة والترمذي وصححه. ومنها الغدر ونقص العهد: وفيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

وقد جاء في الصحاح وغيرهما من طرق عن جماعة من الصحابة «أن الله إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة ينصب لكل غادرٍ لواء عند إسته يقال: هذه غدرة فلان بن فلان». وفي صحيح مسلم عن علي -رضي الله عنه- حديث الصحيفة وفيها قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً». ومعنى قوله أخفر: أي غدر ونقض العهد. وفي صحيح ابن حبان عن عمرو بم حمق قال سمعت رسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «أيما رجل أمن رجلاً على ذمةٍ ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً». وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من قتل معاهداً في عهده لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».

ومنها عدم الوفاء بالبيعة لفوات غرض دنيوي: لما في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ بعد العصر فحلف بالله ليأخذها بكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا فإن/ أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف». وخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن علي -رضي الله عنه- قال: الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، والسحر، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة. ومنها إتيان الكهان والعرافين والمنجمين مع التصديق لهم فيما يقولون: وقد صرح القرطبي في تفسيره قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] بأن ذلك من الكبائر. وكذا عده الحافظ شمس الدين الذهبي، والشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابيهما من الكبائر. واستدلا عليه بما في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:

«من أتى عرافاً فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً». قال البغوي: العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور المقدمات، وأسباب يستدل بها على مواقعها، كالمسروق من الذي سرقه، ومعرفة مكان الضالة ونحو ذلك. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)». ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. والكاهن: هو الذي يخبر عن بعض المضمرات فيصيب بعضها ويخطئ أكثرها، ويزعم أن الجن تخبره. وقد روى البزار هذا الحديث عن جابر بإسناد صحيح. وخرج الطبراني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

«من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن أتاه غير مصدق لم تقبل له صلاة أربعين يوماً». وخرج أيضاً عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من أتى كاهناً فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدقه بما قال كفر». والأحاديث من هذا النوع كثيرة، والله ولي التوفيق. ومنها أن يقول الإنسان مطرنا بنوء كذا [أو بنجم كذا] معتقداً أن للنوء تأثيراً في ذلك: لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال هل تدرون ما قال ربكم؟ / قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته. فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا. فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب». وفي بعض طرق البخاري فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله. فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا وكذا. فهو مؤمن بالكوكب كافر بي.

قال الشافعي -رحمة الله-: من قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء نزل بالماء فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وقال في الروضة: إن اعتقد أن النوء هو الممطر الفاعل حقيقة كفر وصار مرتداً. وهو معنى كلام الشافعي وكذا قال ابن عبد البر، ثم قال: وإن اعتقد أن النوء ينزل الله به الماء [وأنه سبب الماء] على ما قدره [الله] وسبق في عمله فهذا. وإن كان وجهاً مباحاً فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله تعالى وجهلاً بلطف حكمته. ومنها تصوير ما في مثله روح في الثياب والحيطان ونحو ذلك: لما في الصحيحين أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها فقال له ادن مني فدنا ثم قال: ادن مني فدنا حتى وضع يده على رأسه أنبئك بما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «كل مصورٍ في النار يجعل الله له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم». قال ابن عباس: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له. وفيهما عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون». وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصر بهما وأذنان

يسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد والمصورين». قوله عنق من النار: أي طائفة وجانب منها. والأحاديث في هذا كثيرة في الصحاح وغيرهما. قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة حرام شديد التحريم، وهو أشد من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرهما. وأما تصوير صورة الشجر وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان/ فليس بحرام هذا الحكم نفس التصوير، وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقاً على حائط أو ثوب ملبوس أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهناً فهو حرام. وإن كان في بساط يداس أو في مخدة أو وسادة ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ الأظهر أنه عام في كل صورة وإن الملائكة يمتنعون من الجميع، لا طلاق الأحاديث يعني قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة». قال: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف إنما نهي عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها

ظل وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر (صلى الله عليه وسلم) الصورة فيه لا يشك أحد أنه مزموم وليس بصورته ظل مع ما في الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصور على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه سواء كانت رقماً في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملاً بظاهر الأحاديث وهذا مذهب قوي. وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد من لعب البنات الصغار والرخصة في ذلك لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لأبنته، وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن للبنات منسوخ بهذه الأحاديث والله أعلم. ومنها اتخاذ شيء فيه الروح غرضاً يرمى إليه: لما في الصحيحين أن ابن عمر مرَّ بفتيان قد نصبوا طيراً وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. ومنها قتال المسلم لغير سبب شرعي: لما في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وفيهما أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قال

«لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار». وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً، فقلنا أو قيل: يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه». ومنها/ لعن المسلم لغير سبب شرعي، ولعن من لا يستحق للعن: كذا عده الشيخ شمس الدين ابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهما. لقوله (صلى الله عليه وسلم): «لعن المؤمن كقتله في الإثم». وهذا هو الأظهر عند النووي، وقيل إن لاعن المؤمن يقطعه بلعنته عن نعم الآخرة كما يقطع القاتل المقتول عن منافع الدنيا، وفي هذا بعد، والله أعلم. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يكونون اللاعنون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة».

ومعناه أنهم لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ومعنى قوله ولا شهداء: أي لا يكونون شهداء على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم وهذا هو الأصح. وقيل لا يرزقوا الشهادة. وروى الترمذي وحسنه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يكون المؤمن لعاناً». وخرج الطبراني بإسناد جيد عن سلمة بن الأكوع قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى باباً من الكبائر. وروى [أبو داود] عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماءِ دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلاً لها، وإلا رجعت إلى قائلها». ومنها التسبب في لعن الوالدين: لقوله (صلى الله عليه وسلم): «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبّ أبا الرجل فيسب أباه ويسبّ أمه فيسب أمه». رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

ومنها السبتان بالسبة: لما رواه أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة». ومنها السباب مطلقاً: وتقدم في الصحيحين «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «المستبان ما قالا، فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم». وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «لا يرمى الرجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك». رواه البخاري في كتاب «الأدب» من صحيحه. وروى البزار بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو يرفعه قال: «سباب المسلم كالمشرف على الهلكة». ومنها تتبع عورات المسلمين: كذا عده ابن القيم في الكبائر. واستدل عليه بما رواه الترمذي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خطبهم يوماً بصوت رفيع

فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه/ لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته». ومنها قوله في يمينه وإلا كنت يهودياً أو نصرانياً أو كافراً أو نحو هذا الكلام وهو كاذب: وكذا عدة ابن القيم في الكبائر أيضاً. لما في الصحيحين عن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال». وعن بريدة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً». رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. وروى ابن ماجة عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم): رجلاً يقول أنا إذاً يهودياً فقال (صلى الله عليه وسلم): وجبت. وروى أبو يعلي والحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة -رضي الله

عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال هو يهودي فهو يهودي، وإن قال هو نصراني فهو نصراني، وإن قال هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم [قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى» قوله من جثي جهنم] أي من جماعات جهنم. وادعاء الجاهلية: قولهم يا آل فلان ويا آل فلان يا آل قيس ويا آل يمن، ونحو هذا كذا قال الهروي. وقال النووي -رحمة الله- تعالى- في «الأذكار» فيما إذا قال: هو يهودي أو نصراني ونحو ذلك إن قال ذلك وأراد حقيقة تعليق خروجه من الإسلام بذلك صار كافراً في الحال وجرت عليه أحكام المرتدين، وإن لم يرد ذلك لم يكفر لكن ارتكب محرماً فتجب عليه التوبة، وهي أن يقلع في الحال عن المعصية، ويندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إليه أبداً، ويستغفر الله ويتوب ويقول: لا إله إلا الله محمداً رسول الله. انتهى. ومنها التنابز بالألقاب المكروهة عند من لقب بها من غير ضرورة من تعريف ونحوه: قال الله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} إلى قوله {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. قال القرطبي -رحمة الله- في تفسير هذه الآية: من فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز واللمز فذلك فسوق وذلك لا يجوز.

وقال النووي -رحمة الله- في الأذكار: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه سواء كان صفة له كالأعمى والأعرج والأحول والأصفر، أو كان صفة لأبيه أو لأمه أو غير ذلك مما يكرهه. ومنها الحلف بغير الله تعالى: لما في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله -تعالى- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت». وعنه أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة/ فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». رواه الترمذي وحسنه وابن حيان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. وفي رواية للحاكم «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «كل يمين يحلف بها دون الله شرك». وخرج الطبراني بإسناد صحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره وأنا صادق.

وروى أبو داود وغيره عن بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من حلف بالأمانة فليس منا». ومنها أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه أو يتولى غير مواليه: لما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام». وفي صحيح البخاري عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه -يعني رجع إليه- ما قال». في الصحيحين أن في صحيفة علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله يوم القيامة منه صرفاً ولا عدلاً». وروى أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس

-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». وروى أحمد أيضاً وابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من قدر سبعين عاماً أو مسيرة سبعين عاماً». لفظ أحمد وقال ابن ماجة «وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام». وفي صحيح ابن حبان عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من تولى/ غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار». وروى أبو داود عن أنس قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة». والأحاديث من هذا النوع كثيرة جداً. ومنها الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع: وكذا عده الحافظ الذهبي والعلامة شمس الدين ابن القيم.

لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «اثنان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب والنياحة على الميت». وفي معنى الحديث أقوال. أصحهما: إن معناه: هما من أعمال الكفر وأخلاق الجاهلية. والثاني: أن يؤدي إلى الكفر. وقيل غير ذلك رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم إلا إنهما قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة هي من الكفر». ومنها النياحة: وتقدم الحديث قبله. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النائحة والمستمعة. وروى الترمذي وحسنه عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: إذا أنا مت فلا يؤذن علي أحد، فإني أخاف أن يكون نعياً، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهي عن النعي. وفي الصحيحين عن أبي بردة قال: وجع أبو موسى ورأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة، فلم يستطيع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا

بريء ممن برئ منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بريء من الحالقة والصالقة والشاقة. قولهم الصالقة: هي التي ترفع صوتها بالندب والنياحة. والحالقة: التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة: التي تشق ثوبها. وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لما افتتح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة رن إبليس رنة، فاجتمعت إليه جنوده فقال: أيئسوا أن ترد أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفتنوهم في دينهم وافشوا فيهم النوح. وروى البزار بإسناد رجاله ثقات عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، مزمار عند نعمة/ ورنة عند مصيبة». وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب».

رواه ابن ماجة إلا أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «النياحة من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله تعالى لها ثياباً من قطران ودرعاً من لهب النار». القطران: قال ابن عباس هو النحاس المذاب. وقيل غير ذلك وروى الطبراني وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم، صف عن يمينهم وصف عن يسارهم، فينبحن على أهل النار كما تنبح الكلاب». زاد غير الطبراني «في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة، ثم يأمر بهن إلى النار». وروى أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنَّة». والأحاديث في وعيد النائحة وعظيم عقابها وما ينالها في الآخرة من سخط الله وأليم عقابه كثيرة جداً. وقد روى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها فقيل يا أمير المؤمنين المرأة قد وقع خمارها فقال: إنها لا حرمة لها. رواه الثعلبي في تفسيره.

وقد عد النياحة واللطم من الكبائر جماعة منهم الذهبي وابن القيم رحمها الله تعالى. ومنها لطم الخدود وشق الجيوب في المصيبات ونشر الشعر: تقدم حديث أبي موسى قبله. وروى ابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور». وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية». الجيب: هو طوق القميص ونحوه. ودعوى الجاهلية، هو قولها يا ويلاه، ويا ثبوراه، واكاسياه، واناصراه، ونحو ذلك. وروى أبو داود عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) /: «أن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً ولا تنشر شعراً».

وقد صرح القرطبي في تفسير سورة الممتحنة بأن: النوح، وتخزيق الثياب، وجز الشعر، والخلوة بغير محرم، من الكبائر وأفعال الجاهلية. ومنها أن يقول لمسلم يا كافر، أو عدو الله: تقدم حديث أبي ذر وفيه من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه». وفيهما أيضاً عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله». وخرج البزار بإسناد رجاله ثقات عن عمر أن بن حصين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما أكفر رجل رجلاً إلا باء أحدهما بها إن كان كافراً وإلا كفر بتكفيره». فرع: لو دعا مسلم على مسلم فقال: اللهم اسلبه الإيمان عصى بذلك. وهل يكفر الداعي بمجرد هذا الدعاء؟ فيه وجهان حكاهما القاضي حسين في فتاويه أصحهما: لا يكفر، وفي معنى هذا قوله: لا ختم الله له بخير، ولا أماته الله على الإسلام، ونحو هذا.

ومنها الطيرة: كذا عدها الحافظ الذهبي ثم قال ويحتمل أن لا يكون إلا كبيرة ثم ذكر قوله (صلى الله عليه وسلم): «الطيرة شرك». رواه أحمد والترمذي وصححه وأبو داود وابن حبان في صحيحه. قلت: وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن قطن ابن قبيصة عن أبيه قال سمعت قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «العيافة والطيرة والطرق من الجبت». قال أبو داود الطرق: زجر الطير. والعيافة: الخط قلت: وروى البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ليس منا من تطير أو تُطير له». الحديث وقد تقدم بتمامه.

ومنها سب الدهر معتقداً أن له تأثيراً فيما نزل به: لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قال الله عز وجل: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار». وعنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر، فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره». رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يقول الله تعالى: «استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وادهراه وأنا الدهر». رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. قلت: فإن اعتقد أنه الفاعل لذلك حقيقة كفر وصار مرتداً كما تقدم. ومنها عصر العنب للخمر واعتصارها وكذلك حملها وبيعها وشراؤها وأكل ثمنها: لما روى أبو داود وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه».

لفظ أبي داود. وزاد ابن ماجة: «وآكل ثمنها». وعن أنس رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له». رواه ابن ماجة والترمذي بإسناد رجاله ثقات. وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستقاها». رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد. ومنها أن ينفق البائع سلعته بالحلف الكاذب: لما في صحيح مسلم وغيره عن أبي ذر في رضي الله عنه - عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».

يعني المسبل إزاره خيلاء، والمنان عطاؤه. وكذا جاء مفسراً عند ابن ماجة وغيره. وخرج الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم/ أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه». الأشميط: تصغير أشمط وهو من أختلط أبيض رأسه بأسوده. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وأخذها وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفّي له وإن لم يعطه لم يف.

وخرج النسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أربعة يبغضهم الله البياع العلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني والإمام الجائر». وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال مر أعرابي بشاة فقلت تبيعها بثلاثة دراهم فقال: لا والله ثم باعها فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «باع آخرته بدنياه». ومنها المماطلة بالزكاة بعد وجوبها: لقوله (صلى الله عليه وسلم): «مطل الغني ظلم». وروى مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: «آكل الربا ومؤكله وشاهداه إذا علما والواشمة والمستوشمة ولأوي الصدقة والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعون على لسان محمد (صلى الله عليه وسلم)». رواه أحمد وبن خزيمة في صحيحه واللفظ له وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه. لي الصدقة: هو المماطلة [بأدائها من وقت إلى وقت].

ومنها القمار: [كذا عده القرطبي والذهبي] وغيرهما من الكبائر. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وقال الله تعالى: {تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. قال مجاهد: الأزلام: هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: من الشطرنج وقيل غير ذلك. والاستقسام بها: طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال الباطل. وسواء المقامرة بنرد أو شطرنج أو حمام أو غير ذلك. ومنها إعطاء الربا: لأن النبي (صلى الله عليه وسلم): «لعن آكل الربا/ ومؤكله وتقدم في ذلك غير ما حديث». ومنها الشهادة بالربا: لأن النبي (صلى الله عليه وسلم): لعن شاهداه.

وتقدم في الربا في حديث ابن مسعود قريباً. ومنها الاستيلاء على الماء الذي لا يختص بأحد ومنعه ابن السبيل: وتقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل». وفي رواية نحوه قال فيه: «ورجل منع فضل ماء فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك». ومنها المن بالعطاء: وتقدم ذكره في [حديث أبي ذر في] الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعن أبي ذر أيضاً رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة -فذكر الحديث إلى أن قالت قلت: «فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: «المختال الفخور وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل {إِنَّ اللَّهَ لَا يحِبُّ كلَّ مُخْتَالٍ فَخورٍ} [لقمان: 18] والبخيل والمنان والتاجر أو البائع الحلاف». رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم. وخرج ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله

عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، عاق ومنان ومكذب بقدر». وروى أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يلج حائط القدس مدمن خمر ولا العاق ولا المنان عطاؤه». ومنها إسبال الإزار والقميص والعمامة والطيلسان بطراً وخيلاء وتعززاً: كذا عده الذهبي وغيره. وتقدم ذكره في الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة». وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «بينا رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما أمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». رواه أحمد والبزار بإسنادين رجال أحدهما/ رجال الصحيح.

وروى أبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». الخيلاء: هو الكبر والعجب والافتخار. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطراً». وروى ابن ماجة وابن حبان في صحيحيه عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخذ بحجزة سيفان بن أبي سهل فقال: يا سفيان لا تسبل إزارك فإن الله لا يحب المسبلين. وخرج أحمد بإسناد جيد وأبو يعلى والطبراني عن هبيب بن مغفل أنه رأى محمد القرشي قام فجر إزاره فقال هبيب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من وطئه في خيلاء وطئه في النار».

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار». والأحاديث في هذا كثيرة. ومنها جور الحكام من السلاطين والقضاة وغيرهم وحكمهم بغير ما أنزل الله: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى يوم القيامة وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر». [و] رواه الطبراني إلا أنه قال: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام جائر». وفي الصحيحين ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «عُرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون النار، أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه، وفقير فخور».

وروى أحمد وغيره بأسانيد جيدة عن أبي موسى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً». وقد روى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة بطرق كثيرة غالبها صحيح أو حسن. /وخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل». وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه فكّه عدله أو غله جوره». - وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، وإن غلب جوره عدله فله النار». - خرج الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن ابن

أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان». ورواه الحاكم وصحح إسناده إلا أنه قال: «فإذا جار تبرأ الله منه». ومنها غش الحكام لرعيتهم: لما في الصحيحين عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما من عبد يسترعيه الله -عز وجل- رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». وخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: أشهد لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما من إمام ولا والٍ بات ليلة سوداء غاشاً لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة». وفي رواية «ما من إمام يبيت غاشاً لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً».

ومنها احتجاب السلطان والقاضي وغيرهما من الحكام عن أولى الحاجات والمسكنة: لما روى أبو داود عن عمرو بن مرة الجهني أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة». فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس المسلمين. ورواه الحاكم بنحو هذا اللفظ وقال صحيح الإسناد. ورواه الترمذي إلا أنه قال فيه: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول «ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته». الخلة بفتح الخاء: /هي الحاجة. وخرج أحمد بإسناد جيد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة». وخرج أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن عن أبي السماح الأزدي عن ابن عم

له من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أتى معاوية فدخل عليه فقال: «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من ولي من أمر الناس شيئاً ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذوي الحاجة أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها». وخرج الطبراني عن أبي الدحداح أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «يا أيها الناس من ولي عليكم عملاً فحجب بابه عن ذوي حاجة من المسلمين حجبه الله أن يلج باب الجنة، ومن كانت همته الدنيا حرّم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها». ومنها أن يولى الإمام أو القاضي من لا يصلح محاباة لقربه منه أو محبته إياه وتركه من هو أهل الولاية. لما روى حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين». رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر ما أخاف عليكم بعد ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم».

رواه الحاكم من طريق بكر بن خنيس وقال: صحيح الإسناد. رواه أحمد باختصار، وفي إسناده رجل لم يسم. وهذه الأحاديث وإن كانت لا تسلم من مقال فهي مما يستأنس به مع النظر إلى عظيم المفسدة في هذا الفعل وكونه تعرض للفسق والغش بتولية من ليس أهلاً للولاية محاباة من غير ضرورة. وتقدم حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من التمس رضي الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضي الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». روان ابن حبان في صحيحه. ومنها/ الإحداث في الدين: لقوله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح: «لعن الله من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً». قال الشيخ شمس الدين بن القيم وهذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث أكبر كانت الكبيرة أعظم. وقد عدَّ الحافظ الذهبي في الكبائر «من دعا إلى ضلالة أو سن سنة بنيئة». وهذا معنى الإحداث في الدين، والله أعلم.

ومنها الارتشاء في الحكم: وتقدم أن أخذ الرشوة من الكبائر فكذلك دفعها لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لعن الراشي والمرتشي. وروى البزار عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الراشي والمرتشي في النار». قال الشيخ شمس الدين بن القيم: ويدخل في الرشوة هدايا العمل. قلت: ويدل على هذا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «هدايا العمال غلول». ومنها الكبر: قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]. وقال تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول الله عز وجل: «العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته». ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة وجده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قال الله عز وجل:

«الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار». وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ألا أخبركم بأهل النار، كل عتلٍ جواظ مستكبر». وعن سراقة بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «يا سراقة، ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ ! ». قلت: بلى يا رسول الله. قال: «أما أهل النار فكل جعظري جواظ مستكبر، وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون». رواه الطبراني بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وخرج أحمد عن حذيفة قال رضي الله عنه قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في جنازة فقال: ألا أخبركم بشرّ عباد الله. الفظ المستكبر، ألا أخبركم بخير عباد الله الضعيف المستضعف ذو الطمرين، لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر كبَّه الله لوجهه في النار». وفي رواية «لا يدخل الجنة إنسان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر». رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وعن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول «ما من رجل يموت وفي

قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تحل له الجنة أن يريح ريحها ولا يراها». رواه أحمد أيضاً. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس». بطر الحق: دفعه ورده. وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم. وكذا جاء مفسراً. وفي رواية الحاكم: فقال: «ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تعالى وهو عليه غضبان». رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

وروى الترمذي وحسنه، والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال». والأحاديث من هذا النوع كثيرة جداً. قلت: وأقبح الكبر وأفحشه كبر الفقراء. لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر». العائل: الفقير. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عنه أيضاً قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار، أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله فيه، وفقير فخور». وخرج الطبراني عن نافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:

«لا يدخل الجنة مسكين مستكبر، ولا شيخ زان ولا منان على الله بعلمه». ومنها: العجب: وقد صرح القرطبي وغيره أنه من الكبائر. ومنها أذية المسلمين وشتمهم: كذا/ عدَّه الحافظ الذهبي واستدل عليه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. قلت: وفي الطبراني من حديث أنس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال للذي يتخطى رقاب الناس، يوم الجمعة رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلماً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل. ومنها الاختيال في المشي إعجاباً وتكبراً: وإن كان يدخل في مطلق الكبر والعجب ولكن ورد فيه أحاديث تخصه بالوعيد. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]. وقد تقدم حديث ابن عمر «من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو عليه غضبان».

وفي صحيح ابن حبان عن خولة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا مشيت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض». رواه الترمذي وابن حبان أيضاً من حديث ابن عمرو. والمطيطاء: ممدود ويقصر وهو التبختر ومدّ اليدين في المشي عجباً. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة». وخرج أبو يعلى عن كريب قال: كنت أقود ابن عباس في زقاق أبي لهب فقال يا كريب، بلغنا مكان كذا وكذا. قلت: أنت عنده الآن. قال: حدثني العباس بن عبد المطلب قال بينا أنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الموضع إذ أقبل رجل يمشي يتبختر بين بردين وينظر إلى عطفيه أعجبته نفسه إذ خسف الله به الأرض في هذا الموطن فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور: 31].

قال: من فعل ذلك منهن تبرجاً وتعرضاً للرجال فهو حرام مذموم، وكذلك من ضرب بنعله من الرجال إن فعل ذلك عجباً حرم، فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجاً لم يجز انتهى. ومنها اعتياد الكذب من غير ضرورة: قال النووي رحمه الله: وإجماع الأمة/ منعقد على تحريمه. قال الله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، ومازال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً». [وفي لفظ لمسلم «إن الصدق برّ وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب صديقاً، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»]. وفي صحيح ابن حبان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

«عليكم بالصدق فإنه مع البرّ وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار». وخرج أحمد عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله: ما عمل أهل الجنة؟ قال: «الصدق؛ إذا صدق العبد برَّ وإذا برَّ آمن، وإذا آمن دخل الجنة». قالوا: يا رسول الله: ما عمل أهل النار؟ قال: «الكذب؛ إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر يعني دخل النار». وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يكذب الكذبة تحمل عنه تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة». ذكر هكذا مختصراً في الأدب. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «آية المنافق ثلاث، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر». وخرج البزار وأبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح عن سعد بن أبي

وقاص رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب». رواه أحمد من حديث أبي أمامة. وروى الإمام مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم قال: قيل يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً قال: «نعم، قيل له أيكون المؤمن بخيلاً، قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا». وروى الطبراني عن ابن حبان في صحيحه عن أبي برزة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ألا إن الكذب يسود الوجه، والنميمة عذاب القبر». وروى الترمذي وحسنه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلاً من نتن ما جاء به». وروى الإمام أحمد/ وابن حبان في صحيحه والحاكم صحح إسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان خلق أبغض إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما تزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة». لفظ ابن حبان

ولفظ الحاكم قالت: «ما كان خلق أبغض إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكذب وما جربه (صلى الله عليه وسلم) من أحد وإن قل فيخرج من نفسه حتى يجدد لله توبة». وخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد حديثاً قالت فيه: فقلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، أيعد ذلك كذباً؟ قال: «إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة». وخرج أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «من قال لصبي: تعالى، هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة». وروى أبو داود معنى هذا من حديث عبد الله بن عامر. وأعلم: أن من أقبح الكذب وأفحشه كذب الملوك، وتقدم في حديث أبي هريرة: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شيخ زانٍ وملك كذاب، وعائل مستكبر». وخرج البزار بإسناد جيد عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة لا يدخلون الجنة الشيخ الزاني، والإمام الكاذب، والعائل المراء». هو يعني الفقير المعجب المتكبر.

ومنها التحيل على إسقاط ما أوجب الله تعالى أو إباحة ما حرم الله تعالى: كذا عدّه الشيخ شمس الدين بن القيم قال: وقد مسخ الله اليهود قردة وخنازير على تحيلهم على استباحة ما حرم الله عليهم من صيد الحيتان يوم السبت. وقد عاب الله تعالى أصحاب الجنة التي عزموا على صرمها ليلاً ليسقطوا نصيب المساكين بأن أتلفها عليهم وجعلها كالصريم عقوبة لهم على تحيلهم على إسقاط الحق الذي أوجب الله عليهم. ولعن النبي (صلى الله عليه وسلم) اليهود على استباحة ما حرّم الله عليهم من الشحوم فقال في الحديث الصحيح «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها». وقال أيضاً: «لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. والمخادعة: هي الاحتيال والمراوغة بإظهار ما يجوز فعله وإبطان ما لا يجوز. /فمخادعة الله حرام والحيل على استباحة الله بما حرم الله وإسقاط ما فرض مخادعة، انتهى.

ومنها البخل الواجب شرعاً وربما يلتحق به البخل بالواجب عرفاً: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. والشح هو أشد البخل وقيل الشح هو الحرص على ما ليس عندك والبخل بما عندك. وقيل البخل بالمال خاصة والشح بالمال والمعروف وقيل غير ذلك. وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم». وروى النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبداً». هذا لفظ الحاكم. وخرج أبو يعلى والطبراني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

«ما محق الإسلام محق الشح شيء». خرج الطبراني عن نافع قال سمع ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً يقول الشحيح أغدر من الظالم فقال له ابن عمر كذبت، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «الشحيح لا يدخل الجنة». وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يدخل الجنة خباب، ولا منان، ولا بخيل». وروى الطبراني باسنادين أحدهما ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها فقال لها تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال وعزتي لا يجاورني فيك بخيل». وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق». وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله فذكر الحديث إلى أن قال: «ويبغض الشيخ الزاني، والبخيل المتكبر». وخرج الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:

"السخي قريب من الله/ قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل". ومنها كفر إحسان المحسن: كذا عدة الحافظ الذهبي شمس الدين والشيخ شمس الدين بن القيم. واستدلالا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». رواه أحمد وأبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: «من أعطى عطاء فوجد فليجد به ومن لم يجد فليثق به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره». رواه الترمذي وحسنه ابن حبان. وقال الذهبي وقال بعض السلف: كفر النعمة من الكبائر وشكرها بالمجازاة أو بالدعاء. قلت: في عد هذا ن الكبائر نظر. ومنها الحسد: وهو عبارة عن تمني زوال النعمة عن المحسود، وهو أول ذنب عصى الله تعالى به وهو ذنب إبليس الذي أوجب لعنته إلى يوم القيامة.

وقد وصف الله تعالى به اليهود فقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54]. وقد عده ابن القيم وغيره من الكبائر. وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع في جوف عبد غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد». وروى أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. أو قال العشب». وخرج الطبراني عن عبد الله بن بسر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس من ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه، ثم تلى رسول الله صلى الله علي وسلم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {[الأحزاب: 58]. وروى البزار بإسناد جيد إلى الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين». ومنها سوء الجوار: وقد عده الشيخ شمس الدين بن القيم أيضا وغيره من الكبائر. لما في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله/ واليوم الآخر فلا يؤذي جاره». وخرج البخاري عن أبي شريح رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل يا رسول الله لقد خاب وخسر، من هذا قال: من لا يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه؟ قال: شره». وخرج الطبراني عن كعب بن مالك قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني نزلت في محلة بني فلان وإن أشدهم لي أذى أقربهم لي جوارا فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يأتون المسجد فيقومون على بابه فيصيحون، ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه». وخرج البزار والطبراني عن أبي جحيفة – رضي الله عنه – قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، قال أطرح متاعك على الطريق، فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنون، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من

الناس، قال وما لقيت منهم، قال يلعنوني، قال لقد لعنك الله قبل الناس قال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارفع متاعك فقد كفيت». وخرج أبو الشيخ في كتاب التوبيخ عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل، ومن حارب جاره فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب الله عز وجل». وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رجل يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقاتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، وقال يا رسول الله: «إن فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال هي في الجنة». الأثوار: جمع ثور وهو القطعة من الأقط: شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي. وروى الطبراني والبزار بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم».

ورواه بنحوه الطبراني أيضا وأبو يعلى بإسناد جيد من حديث ابن عباس، والحاكم من حديث عائشة. ومنها: أنه يستمع حديث قوم يكرهون سماعه إياه: وقد عدّه الشيخ شمس الدين بن القيم في الكبائر أيضاً. وقال الذهبي: يحتمل أن لا يكون كبيرة. قلت: كونه من الكبائر أظهر والله أعلم. لما روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروس وليس بنافخ». الآنك: بمد الهمزة وضم النون: هو الرصاص المذاب. ومنها: الدخول على الظلمة بغير قصد صحيح بل إعانة لهم وتوقيرا ومحبه: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {[المائدة: 2]. وقال تعالى: } وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].

وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض». رواه أحمد والبار بإسناد رجاله رجال الصحيح، وابن حبان في صحيحه وهذا لفظه. وعن كعب بن عجرة – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعيذك بالله يا كعب من أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولن يرد على الحوض». رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه وقال: حديث حسن صحيح. وخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يكون أمراء يغشاهم غواش أو حواش من الناس يكذبون ويظلمون فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه».

ورواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحة إلا أنهما قالا: «فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأنا منه بريء وهو مني بريء». رواه الإمام أحمد أيضا بنحو هذا اللفظ من حديث النعمان بن بشير. تنبيه: قد/ يقول من اعتاد الدخول على الملوك الظلمة والقضاة الخونة: إنما قصدي بذلك نصر مظلوم أو مساعدة ضعيف أو دفع ظلمة أو التسبب في معروف ونحو ذلك. وهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يتناول من مآكلهم ومشاربهم ويشاركهم في مقاصدهم ومآربهم، ويقبل من أموالهم التي اكتسبوها من الجهات المحرمات ووجوه المظالم والمكوس والمصادرات ويداهنهم فيما يراه عندهم من المنكرات، فهذا لا يحتاج النظر في سوء حاله إلى دليل، إذ يشهد كل ذي بصيرة أنه ضال عن سواء السبيل، وأنه من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويزعمون أنهم مصلحون ألا إنهم هم المفسود ولكن لا يشعرون. ليت شعري كيف يمكن من يأكل من أموالهم أن ينكر قبيح أفعالهم، وأني يرجع الظالم منهم إليه وهو يرى منته في الصحبة وللقمة عليه، وكيف يقبل منه الكلام وباطنه قد امتلأ من ماله من الحرام. واختصار الكلام في مثل هذا أليق والسلام. وإن كان ممن يعف عن مآكلهم ومشاربهم ولا يقبل منهم إدراراً ولا صلة وينكره عليهم ما قد يراه عندهم من المنكر فهذا في محل الاشتباه، والحالة ميزان

يعلم به صحته من سقمه وهو أن يرى أنه كالمكره في دخوله عليهم وكلامه معهم ويود أن لو كفي بغيره ولو انتصر المظلوم بسواه، ولا يتبجح بصحبتهم ولا بالاجتماع عليهم ولا يجري في فلتات لسانه قلت للسلطان وقال لي السلطان وانتصر بي فلان فنصرته وطلب مني المساعدة فلان فساعدته ونح ذلك. ولو قدم السلطان عليه أحداً وقربه واعتقده وقام بما كان هو قائم به من المعروف لما شق عليه ذلك، بل يجد عنده انشراحاً بذلك وفرحاً به إذ كفاه الله التعرض إلى هذا الخطر العظيم بما لا يثق بصحة قصده، ولا يقطع بإخلاص نيته في القيام به وتقلده من تقلده وحصل هو على أجر نيته في ذلك. فهذه الأحوال كلها مما يدل على صحة قصده وإن كان بعكس هذه الأمور فهو فاسد النية إذا بانت هذه العلامات أن ما قصده إلا طلب المنزلة عندهم وقيام الجاه عند/ العامة، والتميز على الأقران ونحو ذلك من القاصد الفاسد التي لا تنحصر والله تعالى مقلب القلوب ولا يغرب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. ومنها أن يكون بين المتباغضين ذا وجهين ولسانين يأتي هؤلاء بوجه ولسان وهؤلاء بوجه ولسان: وهذه صفة المنافقين. وخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه عن عمار بن ياسر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار». وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" والطبراني عن أنس – رضي

الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان ذا لسانين جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار». وفي صحيح البخاري أن ناسا قالوا لعبد الله بن عمر: إنا ندخل على سلاطيننا فنقول خلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عندهم. فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون شر الناس ذي الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». ومنها أن يلازم الإنسان الشر والفحش حتى يترك الناس الاعتراض عليه ولينوا له الكلام ويخضعوا له اتقاء فحشه وشره: وفي الصحيحين عن عائشة – رشي الله عنها – أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله: حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه قال: «يا عائشة: متى عهدتن فحاشاً، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشة». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار»

رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي وقال: حديث صحيح. البذاءة: هو الفحش في الكلام. وخرج الترمذي وحسنه عن أبي إمامة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء والعي/ شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق. ورواه الطبراني إلا أنه قال فيه الحياء والعي من الإيمان وهما يقربان من النار ويباعدان من الجنة. وخرج الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء». وخرج الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً».

ومنها الغلول: وهو أن يأخذ أحد الغزاة لنفسه شيئاً من الغنيمة قليلاً كان أو كثيراً ولا يحضره إلى أمير الجيش ليقسمه بين الغزاة. قال القرطبي في تفسير قله تعالى {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]: قال العلماء: الغلول كبيرة من الكبائر بدليل هذه الآية، ثم ذكر أدلة أخرى على ذلك. وخرج ابن جرير في تفسيره عن القاسم عن أبي أمامة – رضي الله عنه – أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متوكأ فقالوا الشرك بالله وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وقذف المحصنة وعقوق الوالدين وقول الزور والغلول والسحر وأكل الربا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين تجعلون {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. قال الحافظ ابن كثير: في إسناده ضعف وهو حسن. وفي صحيح مسلم عن عمر – رضي الله عنه – قال لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة غلها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه سلم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهباً ولا ورساً، غنمنا المتاع والطعام

والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي – يعني وادي القرى – ومع النبي صلى الله عليه سلم عبد له وهبه له رجل من جزام فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه سلم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فقلنا/ هنيئا له الشهادة يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه سلم: كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلهب عليه ناراً، أخذها من المغانم، ولم تصبها المقاسم، قال ففع الناس فجاء رجل بشراك وشراكين فقال أصبت يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: شراك من نار أو شراكان من نار. ومنها إتيان الرجل زوجته في دبرها: لما خرج الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «لا ينظر الله عز وجل إل رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها». وخرج الإمام أحمد والبزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه سلم قال: «هي اللوطية الصغرى». يعني الرجل يأتي المرأة في دبرها. وخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر». وعنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها». رواه أحمد وأبو داود. وعنه أن النبي صلى الله عليه سلم قال: «من أتى حائضا أم امرأة في دبرها وكاهناً فصدقه فقد كفر بما انزل على محمد صلى الله عليه سلم». وعن علي بن طلق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: «لا تأتوا النساء في استاهن، فإن الله لا يستحي من الحق».

رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن حبان في صحيحه. ومنها المساحقة: وهي إتيان المرأة المرأة، كذا عده الشيخ شمس الدين بن القيم من الكبائر واستدل عليه بما روى عن واثلة بن الأسقع – رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه سلم: «السحاق زنا النساء بينهن». وبما روى أنه صلى الله عليه سلم قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم قول لا إله إلا الله الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة والإمام الجائر». وذكر غير ذلك من الأحاديث. ومنها أن يقتل الإنسان نفسه عمداً: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا» وفي رواية للبخاري «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار». قوله يتوجأ بها: أي يضرب بها نفسه. وفي الصحيحين عن جندب – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا ممكن كان قبلكم خرجت بوجهه قرحة فلما آذته نزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرق الدم حتى مات، قال ربكم: قد حرمت عليه الجنة». وفي رواية للبخاري «كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله تعالى: "بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» نكأها: بالهمز أي فجرها.

ومنها قتل الذمي بغير حق: لقوله صلى الله عليه وسلم «من قتل معاهدا بغير حق لم يرح رائحة الجنة وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاما». رواه البخاري. وقد روى من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة بأسانيد صحاح. ومنها أكل الحرام من غير ضرورة: قال ابن كثير في تفسيره: قال القرطبي: أجمع أهل السنة على أن من أكل ملاً حراماً ولو ما يصدق عليه اسم أكل أنه يفسق. وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة: لا يفسق إلا بأكل مائتي درهم فما زاد وقال ابن الجبائي: يفسق بأكل درهم فما فوقه لا بما دونه، انتهى. وقد روي الترمذي وابن حبان في صحيحه عن كعب بن عجرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبت على سحت، النار أولى به». الحديث. وروى أبو يعلى والبزار عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام». وروى الإمام أحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب به إلى الجبل فيحتطب فيأتي به فيحمله على ظهره فيأكل خيراً له من أن يسأل الناس، ولأن يأخذ تراباً فيجعله في فيه خيراً له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه». ومنها كسر الدراهم والدنانير: وقيل هو من الصغائر. وفي سنن أبي داود عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. وقد نقل المفسرون عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النحل: 48]. أنهم كانوا يكسرون الدراهم. قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة "من كسرها لم تقبل شهادته وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر وليس هذا موضع عذر". قال ابن العربي في إحكامه في قصة شعيب: أما قوله لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر.

وقال القرطبي قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم وغيرهما كسرها ذنب عظيم. ومنها غضب الأرض: وإن كان داخلاً في مطلق الغصب. ولكن قد ورد في غصب الأرض أحاديث خاصة ووعيد خاص. ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين». وخرج الإمام أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه عن يعلى بن مرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوق يوم القيامة حتى يقضي بين الناس». وفي رواية للطبراني: «من ظلم من الأرض شبراً كلف أن يحفره حفرة حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى الحشر». روى الإمام أحمد والطبراني عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من أخذ شيئاً من الأرض بغير حله طوقه يوم القيامة من سبع أرضين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً». وروى أحمد أيضاً بإسناد حسن عن ابن مسعود – رضي الله – قال: قلت يا سول الله أي الظلم أظلم فقال: «ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها». قلت: ولا فرق بين أن يغضب ذلك من حق مسلم معين أو مما هو مشترك بين الناس كالطرق ونحوها، والأحاديث المتقدمة تدل على ذلك. وخرج الطبراني عن الحاكم بن الحارث السلمي الصحتبي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء به يحمله من سبع أرضين». منها محاربة الناس في المصر أو المنازل والطرق لأخذ الأموال وقتل الأنفس والسعي بالفساد في الأرض: لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الآية.

ومنها الرياء بالعبادات: لما خرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصحح إسناده عن أبي بن كعب – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب». وفي الصحيحين عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به». وخرج الطبراني عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لعن في السماوات والأرض». وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال وادي في جهنم تعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة، قيل يا رسول الله من

يدخلها؟ قال: أعد للقراء المرائين بأعمالهم، وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء». وعن معاذ – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة». رواه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح ولا علة له. وروى الإمام أحمد/ بإسناد جيد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء يقول الله عز وجل: إذا جزى الناس بأعمالهم أذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء». وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار». وذكر مثل ذلك في المنفق والقارئ. رواه مسلم. وتقدم بتهامة. ومنها السخرية والاستهزاء بالمسلم: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] الآية.

وقد أجمعت العلماء على تحريم ذلك وفي كونه كبيرة مجال للنظر مع أنه قد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. قال الصغيرة: التبسم والكبيرة الضحك على حالة الاستهزاء. وهذا تصريح بأن ذلك من الكبائر. وقال الغزالي في قول ابن عباس هذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب. وأعلم: أن معنى السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء وقد يكون بالضحك كأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على بيان صنعته أو قبح صورته ونحو ذلك. وقد خرج البيهقي عن الحسن البصري – رحمه الله – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المستهزئين بالناس ليفتح لأحدهم باب الجنة فيقال هلم فيجيء بكربة وغمة فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم فيجيء بكربة وغمة فإذا جاء أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال هلم فلا يأتيه من اليأس». انتهى. وقال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] من لقب أخاه وسخر منه فهو فاسق، حكاه القرطبي.

ومنها معاداة أولياء الله بغير حقٍ: وتقدم حديث معاذ وفيه ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: «من عادى وليا فقد بارزني بالمحاربة». ومنها الجلوس وسط الحلقة: إن لم يكن للحديث تأويل: رواه أبو داود عن حذيفة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن من جلس وسط الحلقة». وروى البيهقي في سننه عن أبي مجلز أن رجلاً قعد وسط الحلقة فقال حذيفة: ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الذي يجلس وسط الحلقة. وقال الحافظ الذهبي: في "تهذيب السنن" يحتمل أن يكون قد عرف نفاقاً وإنه إنما فعل ذلك قصداً إلى ترك الحشمة وقلة المبالاة بأهل الحلقة. وهذا تأويل لا يقوم عليه دليل. وقد عد ابن القيم الجلوس وسط الحلقة من الكبائر، وذكر إن إسناد حديث حذيفة حسن، والله أعلم. ومنها تعلم العلم لغير وجه الله: كمن يتعلم للرئاسة أو للمال أو لتعظيم الناس. قال شمس الدين بن القيم وهذا من أكبر الكبائر.

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما ابتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة». يعني ريحها. رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. وروى ابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تتعلموا لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار». وروى ابن ماجة أيضاً عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار». وفي لفظ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – «أدخله الله جهنم». وروى الترمذي وابن ماجة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من تعلم علماً لغير وجه الله أو أراد به غير الله تعالى/ فليتبوأ مقعده من النار». وروى أبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً». ومنها أن يسأل عن علم شرعي فيكتمه مع تعين الجواب عليه: وقد عدة الذهبي والشيخ شمس الدين بن القيم من الكبائر من غير قيد والذي يظهر أنه لا يكون من الكبائر إلا إذا تعين الجواب عليه كما ذكرنا. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174] الآية. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». رواه أبو داود والترمذي وحسنه ابن ماجة وابن حبان في

صحيحه والحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. وعن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح ولا غبار عليه. وخرج أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ان عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، ومن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار». ومنها أن يفسر القرآن برأيه: وتقدم في الحديث قبله: «ومن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار». وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا – الحديث – علي إلا ما علمتم فمن كذب عليّ

متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأية] فليتبوأ مقعده من النار [». قال الترمذي: حديث حسن، انتهي. وتفسير القرآن بالرأي هو من أنواع قول الزور والإخبار عن الله بأنه أراد ما لا يتحقق إرادته إياه. ومنها المراء في القرآن: لما روى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المراء في القرآن كفر». وقد قال: بعضهم المراء بالباطل مطلقاً من الكبائر. وفيه حديث/ ضعيف رواه الطبراني عن أبي الدرداء وغيره. وروى الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تماري أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه». قال الترمذي: غريب. وعد الحافظ الذهبي في الكبائر الجدال والمري واللدد ووكلاء القضاة واستدل عليه بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204 - 260]. الآيات.

وبقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. وبقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 56] الآية. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصيم». ومنها الكلمة التي تعظم مفسدتها وينتشر ضررها ولا يلقى لها قائلها بالاً: قال الشيخ شمس الدين بن القيم وهي ما يسخط الله عز وجل لما في الصحيحين عن ابي هريرة – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب». وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة». قال بعض أهل العلم: وهذا كالكلام عند الملوك والولاة بما يحصل به خير عام أو شر عام. ومنه الكلمة التي تتضمن هدم سنة أو إقامة بدعة أو إبطال حق أو تحقيق باطل أو سفك دم مسلم أو استحلال فرج حرام أمال حرام أو انتهاك عرض

حرام أو إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين أو قطيعة رحم أو التفريق بين المرء وزوجته ونحو ذلك. ومنها تفويت صلاة العصر عمداً وإن كان داخلاً في تفويت الصلاة مطلقاً: ولكن ورد فيها وعيد خاص كما ورد فيها تأكيد خاص. روى البخاري عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله». وفي الصحيحين عن ابن عمر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله». قال مالك، وهو أحد رواته تفسيره ذهاب الوقت. رواه عن ابن خزيمة في الصحيح. ومنها أن يؤم قوما يكرهون إمامته لعيب فيه: لما روى أبو داود/ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل يأتي الصلاة دباراً والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته، ورجل اعتبد محرراً». وفي صحيح ابن خزيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة ولا تصعد إلى السماء ولا تجاوز رؤوسهم. رجل أمّ قوماً وهم له كارهون، ورجل صلى على جنازة ولم يؤمر وامرأة دعاها زوجها من الليل فأبت عليه».

وروى الترمذي وحسنه عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تتجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون». وروى ابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا إمام قوم وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان». قلت: قد عدّ بعض العلماء من الكبائر إمامة من يكرهونه لما ذكرنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمعه مع تفويت الصلاة واعتياد المحرر وإغضاب الزوج وكل ذلك من الكبائر. والله أعلم. ومنها رفع المأموم رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام: كذا عدّه ابن القيم في الكبائر. وصرح النووي في "الرياض" وغيره بتحريمه. لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار».

قال النووي: هذا كله بيان لفظ تحريم، انتهى. ورواه ابن حبان إلا أنها قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أنه يحول الله رأسه رأس كلب». وكذا رواه الطبراني بإسناد جيد. ومنا المرور بين يدي المصلي وسترته: كذا عدّه ابن القيم أيضا في الكبائر، وهو حرام على الصحيح إذا كان المصلي يصلي إلى شيء من جدار أو سارية أو عصى أو خط أو شيء يصلي إليه. لما في الصحيحين عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان». قال النووي قال أصحابنا: يرده إذا أراد المرور بينه وبين سترته بأسهل الوجوه فإن أبي فبأشدها وإن أدى إلى قتله فلا شيء عليه. وروى ابن ماجة بإسناد صحيح وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لو يعلم أحدكم في أن يمشي بين يدي أخيه معترضاً وهو يناجي ربه لكان أن يقف في ذلك المقام مائة عام أحب إليه من الخطوة التي خطاها». وفي الصحيحين «لو يعلم ذا المار بين يدي المصلي ماذا من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه». وروى أبو عمر بن عبد البر في التمهيد عن عبد الله بن عمرو موقوفاً قال: «لأن يكون الرجل رماداً يدري به خيراً من أن يمر بين يدي رجل متعمداً وهو يصلي». ومنها أن يستدين ديناً لا يريد وفاءه: إذ هو من أكل أموال الناس بالباطل. لما في صحيح البخاري «من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفها الله عليه». وروى النسائي والطبراني والحاكم وصحح إسناده عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قبل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال سبحان الله سبحان الله ما أنزل من التشديد ففرقنا وسكتنا حتى إذا كان الغد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: ما التشديد الذي نزل؟ قال: في الدين والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه ما دخل الجنة حتى يقضي دينه.

وروى النسائي والحاكم وصححه إسناده عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بالله من الكفر والدين، فقال رجل: يا رسول الله اتعدل الكفر بالدين؟ قال: نعم». وعن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فارقت روحه الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة، الغلول والدين والكفر». رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. ومنها أن يتزوج المرأة وليس في نفسه أن يوفيها الصداق: إذ هو من أنواع الغرر والظلم واستيفاء منافه الحر من غير عوض. وقد روى الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن ميمون الكردي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها: فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله تعالى يوم القيامة وهو زانٍ، وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله لقي الله وهو سارق».

ورواه البزار بنحوه من حديث أبي هريرة. وروى البيهقي في سننه عن رجل سمع صهيباً – رضي الله عنه – يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصدق امرأة صداقاً والله يعلم منه أنه لا يريد أداءه إليها فغرها بالله، واستحل فرجها بالباطل لقي الله تعالى يوم القيامة وهو زانٍ». وروى البيهقي أيضا عن ابن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوج امرأة، فلما قضى حاجته منها طلقها وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلاً فذهب بأجرته، وآخر يقتل دابته عبثاً». وفي سنده إرسال. ومنها: أن يحلل المرأة بغيره أو تحلل له: لقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلل والمحلل له». رواه الترمذي والحاكم وصححاه، النسائي في حديث بإسنادٍ صحيح.

وروى ابن ماجة بإسناد رجاله موثوقون عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتيس المستعار، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له». وصح عن عمر أنه قال: "لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما". رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما» وابن المنذر في الأوسط. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال: كلاهما زان. والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، وقد أطال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى – الكلام عليه وأفرد له مصنفاً ساه "بيان الدليل على إبطال التحليل". ومنها: إباق العبد من سيده: وقد تقدم ذكره في حديث أبي أمامه. وفي صحيح مسلم عن جرير – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أبق العبد لم يقبل الله له صلاة». وفي رواية: «فقد كفر حتى يرجع إليهم». وفي رواية: «أيما عبد أبق فقد برئت من الذمة».

وفي صحيح ابن حبان عن فضالة بن عبيد – رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يسأل عنهم، رجل فارق الجماعة وعصى إمامه، وعبد أبق من سيده فمات عاصياً، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فخانته بعده» الحديث. ورواه الحاكم وقال في حديثه: «وأمة أو عبد أبق من سيده». وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولا أعلم له عله. وخرج الطبراني عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما عبد مات في إباقته دخل النار وإن قتل في سبيل الله». ومنها تخطى رقاب الناس يوم الجمعة: كاذ عده الشيخ شمس الدين بن القيم من الكبائر واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد الطبراني عن الأرقم بن أبي الأرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كجار قصبة في النار». وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام. وروى عن معاذ بن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم».

رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم. وروى الطبراني عن أنس بن مالك –رضي الله عنه – قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء رجل يتخطى رقاب الناس حتى جلس قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ما منعك يا فلان أن تجمع هنا، قال يا رسول الله قد حرصت أن أضع نفسي بالمكان الذي ترى، قال: فقد رأيتك تتخطى رقاب الناس/ وتؤذيهم، من آذى مسلماً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل». قلت: في هذه الأحاديث أعظم دليل على أن تخطي الرقاب من الكبائر لو سلمت أسانيدها والله أعلم. فرع: قال الشافعي رحمه الله: إذا قعد إنسان في الجامع في موضع الإمام أو في طريق الناس أمر بالقيام انتهى. ومنها: ترك الجمعة بغير عذر ليصلي وحده: وقد عده الذهبي وغيره من الكبائر. لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وابن عمر – رضي الله عنهما – أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:

«لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين». قوله: عن ودعهم: أي عن تركهم. وعن أبي الجعد الضمري الصحابي – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه». رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: «من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق». وروى البيهقي في الشعب عن عمر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها ثم سمعه فلم يأتها [ثم سمعها فلم يأتها] طبع الله على قلبه وجعل قلبه قلب منافق».

وروى الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة فقال: هذا في النار. والأحاديث من هذا كثيرة جداً. ومنها: أخذ المكس والإعانة عليه: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة صاحب مكس». رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه عن عقبة بن عامر والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال يزيد بن هارون أحد رواته: يعني العشار. وقال البغوي في شرح السنة يريد صاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكساً باسم العشر. وخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان لداود ساعة يوقظ فيها أهله يقول: / يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار. ورواه الطبراني فقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إلا لبغي بفرجها أو عشار. وخرج الإمام أحمد عن أبي الخير قال: عرض مسلمة بن مخلد وكان أميراً على مصر على رويفع بن ثابت أن يوليه العشور فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن صاحب المكس في النار». وفي الصحيح أن رجلاً لعن المرأة التي رجمت لإقرارها بالزنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنها فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأمراء، ويل للعرفاء؛ ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وإنهم لم يعملوا عملاً. وروى أبو داود عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبيه ثم قال: أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً. وروى أبو داود أيضاً عن رجل لم يسم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العرافة حق ولابد للناس من عرافة ولكن العرفاء في النار».

ومنها: أن يقبل ما يهدى إليه بسبب الشفاعة إن صحّ الخبر: فقد روى أبو داود وغيره عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر». قلت: وقد نصّ جماعة من العلماء على تحريم أخذ العوض على الشفاعة. قال القرطبي وحكى أبو عبد الله بن ظفر في تفسيره عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة فأهدى إليه هدية فقبلها فذلك السحت. فقيل له: كنا نرى أن السحت الرشوة في القضاء، فقال: ذلك كفر: وتلا قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. قال: فكل ما يكتسبه ذو الوجاهة عند السلطان بجاهه/ من ذوي الحوائج إليه عند السلطان فهو عند مالك – رحمه الله – سحت، والقضاء فيه أن يرد إلى أصحابه، فإن لم يعلموا ردّه السلطان إلى بيت مال المسلمين انتهى. وقال في سورة المائدة قال ابن خويذ منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها.

ومنها: أن يمنع الإنسان مولاه وذا رحمه فضلاً هو عنده مع شدة حاجتهما إليه: لما روى أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسأل رجل مولاه من فضلٍ هو عنده فيمنعه إياه إلا عادله يوم القيامة [فضله الذي منعه] شجاعاً أقرع». الشجاع الأقرع: الحية العظيمة والأقرع: الذي ذهب شعر رأسه من السم وروى الطبراني بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه، فيبخل عليه إلا أخرج الله له من جهنم حية يقال لها شجاع يتلمظ فيطوقعه به». وروى الطبراني أيضاً عن ابن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أتاه ابن عمه يسأله من فضله فيمنعه منعه الله فضله يوم القيامة.

وروى الطبراني أيضاً عن عمر وأبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمة محمد – والذي بعثني بالحق – لا يقبل الله صدقة رجل وله قرابة يحتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده، لا ينظر الله إليه يوم القيامة». ومنها: إخافة أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وإرادتهم بسوء: لما رواه الطبراني بإسناد جيد عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً». ورواه النسائي بمثله عن السائب بن خلاد. وفي رواية الطبراني « من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلاً». وفي الصحيحين عن سعد – رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا إنماع كما ينماع الملح في الماء».

وفي رواية لمسلم «لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء». وروى الإمام أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن جابر – رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم/ يقول: «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي». ورواه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله». وروى الطبراني عن ابن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من آذى أهل المدينة آذاه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً». رواه البخاري ومسلم. قال القاضي عياض – رحمه الله -: استدلوا بهذا على أن ذلك من الكبائر لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة.

قال: ومعناه: أن من أتى فيها إثماً، أو آوى من آتاه وضمه إليه وحماه، انتهى. وقد عد ابن القيم وغيره استحلال حرم المدينة والإحداث فيها من الكبائر. ومنها: قطع شجرها وكلائها: على نظر فيهما. لما في الصحيحين من حديث أنس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المدينة حرام من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدثه، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». وفي رواية مسلم قال عاصم سألت أنساً أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين». ومعنى لا يختلى: لا يقطع، والخلا هو الرطب من الكلأ. فرع: من قطع شيئاً من شجر المدينة أو اصطاد صيداً ففي ضمانه قولان: القديم: يضمن، وفي ضمانه وجهان: أحدهما: أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر. والصحيح أنه كسلب المقتول من الكفار وإنه للسالب. لما روى مسلم عن سعد – رضي الله عنه – أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد

فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً؟ ؟ ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليهم. ورواه أبو داود وزاد في آخره: «فإن شئتم دفعت إليكم ثمنه». ومنها: إفشاء أحد الزوجين سر الآخر: لقوله صلى الله عليه وسلم: «من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه». وفي رواية: «إنه من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها». رواه مسلم: قال النووي: وفي هذا الحديث تحريم إفشاء السر فيما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل أو نحوه. فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم يكن فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة، انتهى. وقد عدّه ابن القيم – رحمه الله – وغيره من الكبائر.

وروى أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السباع حرام». قال ابن لهيعة: يعني به الذي يفتخر بالجماع. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلى فلما سلم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج يتحدث يقول فعلت بأهلي كذا وكذا فسكتوا، فأقبل على النساء فقال: منكن من تحدث فجلست فتاة على أحد ركبتيها وتطاولت ليراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامها فقالت: أي والله، إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك، مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون». ومنها: أن تدخل المرأة على قوم من ليس منهم بزنا أو وطئ بشبة ونحو ذلك أو ي نتفي الرجل من ولده: لما روى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

لما نزلت آية الملاعنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة دخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين». وقد عد ابن القيم انتفاء الإنسان من ولده ثم قال: وهو من أكبر الكبائر. ومنها: إفساد المرأة على زوجها والعبد على سيده: كذا عده ابن القيم – رحمه الله – وغيره في الكبائر. لما روى الإمام أحمد بإسناد وصحيح والبزار وابن حبان في صحيحه عن بريدة – رضي الله عنه – قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من حلف بالأمانة، وومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا». قوله خبب: معناه خدع وأفسد. وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خبب عبداً على أهله فليس منا، ومن أفسد امرأة/ على زوجها فليس منا».

ومنها: أن تسأل زوجها الطلاق من غير ما بأس نالها منه: لما روى أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن ثوبان – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». ورواه البيهقي في حديث قال فيه: «وإن المختلعات هن المنافقات، وما من امرأةٍ تسأل زوجها الطلاق من غير ما بأس فتجد رائحة الجنة». ومنها: أن تلبس المرأة الرقيق من الثياب الذي يصف البشرة وغير ذلك مما يذكر إن تعين حمل الحديث على ذلك: عن ابن عمر – رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سرج كأشباه الرجال وينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهم ملعونات». رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

وروى مسلم بن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». ومنها: أن يكمه أعمى عن السبيل: لما روى النسائي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غير تخوم الأرض، ولعن الله من كمه أعمى عن السبيل، ولعن الله من سبّ والديه، ولعن الله من تولى غير مواليه، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط، قالها: ثلاثاً. ومنها: أن يغير منار الأرض: وهو علامات الطريق التي يهتدي بها السائرون فإذا غيرها ضلّ الناس عن طريق قصدهم. كذا قال الذهبي وابن القيم وغيرهما. وقال ابن القيم: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من غير منار الأرض». قلت: وفي معنى هذا بل هو أشد، من غير حدود الأرض بحيث لا يميز أحد أرضه من أرض غيره، والله أعلم. ومنها: إتيان البهيمة: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن من أتى بهيمة»

رواه الطبراني وصحح إسناده وروى الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله. قلت: من هم يا رسول الله؟ / قال: المتشبهين بالرجال من النساء، والمتشبهات من النساء 165 بالرجال، والذي يأتي البهيمة والذي يأتي الرجال». ومنها: لبس الرجل الحرير: كذا عدّه الذهبي وابن القيم وغيرهما من الكبائر. لما في الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة». رواه النسائي وقال: قال ابن الزبير: «من لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة» قال الله تعالى: (ولباسهم فيها حرير)

وفي الصحيحين أيضاً عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة» واللفظ للبخاريّ. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة - رضي الله عنه – قال - قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله» وروى البزار والطبرانيّ بإسناد رجاله ثقات عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال «رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم جبة محببة بحرير فقال: طوق من نار يوم القيامة» وروى الإمام أحمد وغيره عن جويرية - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من لبس ثوب حرير ألبسه الله ثوباً من النار يوم القيامة». وفي رواية: «من لبس ثوب حرير في الدنيا، ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة من النار أو ثوباً من النار». فرع: الجلوس على الحرير والالتحاف به حرام على الرجال. وصحح الرافعي تحرم افتراشه على النساء

وخالفه النووي في ذلك. وحكى ابن الرفعة عن بعض العلماء أنه لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير واستبعد. فرع: حكم القز في التحريم كحكم الحرير على الأصح. فرع: إذا كان على صبي غير بالغ ثوب حرير. قال الغزال: إن ذلك منكر جب نزعه عنه إنْ كان مميزاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «هذان حرامان على ذكور أمتي». وكما يجب منع الصبي عن شرب الخمر لا لكونه مكلفاً ولكن لكونه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه، كذلك شهوة التزين بالحرير. وأما الصبي الذي لا ميز له فيضعف معنى التحريم في حقه، ولا يخلو عن احتمال والعلم فيه عند الله تعالى. هذا كلام الغزالي وصحيح النوويّ الجواز مطلقاً، والله أعلم. ومنها: أن يتحلى الرجل بالذهب: لما روى الإمام أحمد/ بإسناد رجاله ثقات عن ابن عمر - رضي الله 166 عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرّم الله عليه شربها في الآخرة، ومن مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة».

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنه – أن رسول الله صلي الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فانتزعه وطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلي جمرة من نار فيطرحها في يده» فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلي الله عليه وسلم خذ خاتمك وانتفع به، قال: لا والله، لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلي الله عليه وسلم. وروى النسائي عن أبي سعيد أن رجلاً قدم من نجران إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: «إنك جئتني وفي يدك جرة من نار» انتهى. ومنها: استعمال أواني الذهب والفضة للرجال والنساء في الأكل والشرب والإدهان والاكتحال: وكذا قال الشيخ شمس الدين بن القيم وغيره. وقد بين أن تكون الآنية كبيرة كالصحن والزبدية ونحوها أو صغيرة كالمكحلة والميل والإبرة ونحوها. لما في صحيح البخاري ومسلم عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» هذا لفظ مسلم.

وروى الحاكم وصحح إسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، [ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة] ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة، ثم قال: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة» فرع: كما يجرم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم اتخاذها لعير استعمال على الرجال والنساء ويحرم على الصانع عملها. فائدة: من قدم إليه طعام في آنية ذهب أو فضة ولم يستطع الإنكار فطريقه أن يأخذ الطعام من الآنية ويضعه في وعاء آخر أو على الخبز أو في يده الشمال ثم يأكل منه، لأنه إذ ذاك ليس بآكل فيها. وكذلك إذا أراد الاكتحال من مكحلة فضة أفرغ منه في شيء ثم اكتحل منه، والله أعلم. ومنها: أن يتشبه الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في لباس أو كلام أو هيئة من الهيئات. لما روى/ البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لعن رسول 167 صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. وفي رواية صحيحة له أو لغيره «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء».

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل». رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وروى النسائي والبزار والحاكم وصح إسناده عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة، العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء». وروى الطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن رسول الله لي الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا يا رسول الله: أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال» والأحاديث في مثل هذه كثيرة.

ومنها سوء الملكة: لما روى الإمام أحد وابن ماجه والترمذيّ وحسنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة سيئ الملكة». قوله سيئ الملكة: أي سيئ الصنعة إل من يملكه من الدقيق والبهائم. وقد ذكره الشيخ شمس الدين بين القيم في الكبائر وذكر أن هذا الحديث ثابت، والله أعلم. ومنها أن يخصي عبده أو يجدعه أو يعذبه ظلماً. قال الله تعالى مخبراً عن إبليس لعنه الله يقول: (ولأمرنهم فليغيرن خلق الله). قال بعض المفسرين: هو الخصي. وروى الحس عن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه ومنْ جدع عبده جدعناه». قال الذهبي هذا خبر صحيح، انتهى.

ومنها: كسر عظم الميت: لما رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظمه حياً» وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال: يعي في المأثم. ومنها: الكي في الوجه: لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم مرّ علي 168 حمار / وقد وسم في وجهه، فقال لعن الله الذي وسمه. وخرج الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه واللفظ له عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال مرّ حمار برسول الله صلي الله عليه وسلم قد كوي في وجهه تفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لعن الله من فعل هذا. ثم نهي عن الكي في الوجه والضرب في الوجه. وخرج الطبرانيّ عن جنادة بن جرادة قال أتيت النبي صلي الله عليه وسلم بإبل قد وسمتها في أنفها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا جنادة، فما وجدت عضواً [تسمه] إلا في الوجه، أما إنك أمامك القصاص، فقال أمرها إليك يا رسول الله.

والأحاديث في اللهي عن الوسم في الوجه ولعن فاعله كثيرة. ومنها: حبس الهرة حتى تموت عمداً جوعاً أو عطشاً: وفي معناه الطائر وغيره من الحيوان. وقد قال جماعة: من الكبائر تعذيب الحيوان بغير موجب ولم يقيده بموت وهو ظاهر والله أعلم. وفي الصحيحين أنه صلي الله عليه وسلم قال: «دخلت النار امرأة في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض» وفي رواية «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من حشاش الأرض». ورواه الإمام أحمد من حديث جابر وزاد في آخره «فوجبت لها النار بذلك». وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء فرأيت فيها ثلاثة يعذبون، امرأة من حمير طوالة ربطت هرة لم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض فهي تنهش قلبها ودبرها» الحديث. قال النووي في شرح مسلم: وفي هذا الحديث دليل على تحرم قتل الهرة وتحرم حبسها بغير طعام وشراب، وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة وأنها إنما دخلت النار بسبب الهرة.

وذكر القاضي: يجوز أنها كانت كافرة عذبت بكفرها وزيد في عذابها بسبب الهرة واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب كبائرها. هذا كلام القاضي والصواب ما قدمناه: أم ما كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث. وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار، انتهى. قلت: في قوله صلي الله عليه وسلم: «فوجبت لها النار بذلك» تصريح بأن دخولها النار إنما كان بسبب ذلا لا غير وأنها كانت مسلمة والله أعلم. ومنها: احتقار المسلم: لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا [التقوى هاهنا]- ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وفيه أيضاً عن ابن مسعود عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: الرجل يجب أن يكون ثوبه حسن وفعله حسن، فقال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحق وغَمطُ الناس وازدراؤهم». غَمطُ الناس: احتقارهم وفيه أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:

«إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم». قال مالك – رحمه الله -: يعني إذا قال ذلك معجباً بنفسه مزرياً بغيره فهو أشد هلاكاً منهم لأنه لا يدري سرائر الله تعالى في خلقه. وروى البيهقي في الشعب عن الحسن البصري - رحمه الله - قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب في الجنة فيقال له هلم هلم فيجئ بكربة وغمة فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال له هلم هلم فيجئ بكربة وغمة فإذا جاء أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال له هلم هلم فما يأتيه من الإياس» وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتآلي علي / أن لا 170 أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك». ومنها: وصل الشعر بشعر آدمي آخر زوراً: وهو حرام سواء كانت أيماً أو ذات زوج، فإن وصلته بطاهر غير شعر الآديم يأذن الزوج جاز علي الأصح، وإن لم يكن لها زوج حرم. وفي الصحيحين عن أسماء - رضي الله عنها - أن امرأة سألت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزَّقَ شعرها، وإني زوجتها أفأصل فيه فقال: «لعن الله الواصلة والموصولة». وفي رواية لهما عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة زوجة ابنتها فتمعط

شعر وأمها فجاءت إل النبي صلي الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها فقال لا إنه قد لعن الموصولات». قال القاضي عياض في شرح مسلم: وفي الحديث أن وصل الشعر من المعاصي الكبائر للعن فاعله وفيه أن المعين على الحرام مشارك فاعله في الإثم كما إن المعاون على الطاعة مشارك في ثوابها. قلت: وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - هذا دليل على أنه لا اعتبار بإذن الزوج في وصل الشعر وهو الوجه الثاني. قال النووي: قال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون، الوصل ممنوع بكل شيء سواء وصله بشعر أو صوف أو حذق لما رواه مسلم: أن النبي صلي الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً، انتهى. ومنها الوشم: لما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة». وفيهما أيضاً عن ابن مسعود قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فقالت له امرأة: في ذلك. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعال. قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

الواشمة: هي التي تغرز شيئاً من البدن بالإبر ثم تحشوه كحلاً أو مداداً المستوشمة: المعمول بها ذلك وهو حرام وموضعه نجس لا تصح الصلاة معه فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب إزالته وإن لم يمكن إلا بالجرح/ فإن خاف 171 منه التلف أي فوات عضو أو منفعة عضو أو شيئاً فاحشا في عضو ظاهر لم تجب إزالته، وإن لم يخف شيئاً من ذلك لزمته إزالته ويعصى بتأخيره وسواء في هذا كله الرجل والمرأة. فرع: لو جبر عظمه بنجس مع وجود طاهر. قال الأصفوني في مختصر الروضة: وجب نزعه إن لم يخف ضرراً ظاهراً. وقيل وإن خاف فإن أبى أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه ولا أثر لمجرد الألم. وكذا اكتسابه اللحم خلافاً للإمام، ولو داوى جرحه بنجس أو خيط بخيط نجس أو وشم يده فكا لجبر بعظم نجس قيل يعالج الوشم إن أمكن وإلا فلا يخرج، انتهى. ومنها النمص: وهو نتف شعر الوجه لحديث ابن مسعود. والنامصة: هي التي تنمص الحاجب حق ترقه أو تزيل الشعر من الوجه

وهو حرام إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب. والمتنمصة: المعمول بها ذلك. ومنها تفليج الأسنان بالمبرد ونحوه للتزين ويقال له الوشر: وهو حرام. قال النووي في الروضة: هو كالوصل بشعر طاهر، يعي أنه يجوز بإذن الزوج على الأصح. قال القرطبي - رحمه الله -: في تفسير قوله تعالى: } ولآمرنهم فليغيرن خلق الله { بعد أن ذكر الوشم والوشر والتنمص. قال وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وبأنها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي نهى من أجله: فقيل إنه من باب للتدليس. وقيل من باب تغيير خلق انه تعالى كما قال ابن مسعود وهذا أصح. وقال أبو جعفر الطبري: في حديث ابن مسعود دليل: أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله تعالى عليه بزيادة أو نقص التماس الحسن لزوج أو غيره سواء فلجت أسنانها أو وشرتها أو كان لها من زائد فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها. وكذلك لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها، لأن ذلك كله تغيير لخلق الله تعالى. قال القاضي عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بإصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه لأنه من تغيير خلق الله تعالى إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره، انتهى ..

وقد/ عد الشيخ شمس الدين بن القيم مع ما ذكرناه القشر: وهو جرد 172 الوجه بغمرة ونحوها واستدل عليه بقول عائشة كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعلن القاشرة والمقشورة والله أعلم. ومنها أن يحب قيام الناس له: لما رواه أبو داود بإسناد صحيح والترمذي وحسنه عن معاوية - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار». وروى أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً. ومنها الخصومة في الباطل والإعانة عليها: عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عز وجل، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه ردغة الخبال حتى مخرج مما قال» رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وفي رواية لأبي داود «ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله» ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء عن النبي صلي الله عليه وسلم وقال فيه: «وأيما رجل شد غضبا على ما في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلي يوم القيامة» ورواه الطبراني أيضاً من حديث أبي هريرة وقال فيه: «ومن أعان على خصومة لا يعلم حق أو باطل فهو في سخط الله حق ينزع، ومن مشى مع قوم يرائي أنه شاهد وليس بشاهد فهو كشاهد زور». قلت: أكثر وكلاء القاضي مخاصمون قبل معرفة الحق في أي جانب فهم داخلون فيمن أعان على خصومة لا يعلم حق هي أو باطل، وأكثرهم لا يرجع عن الخصومة وإن علم أن الحق في جانب خصمه، وهم عن لم يزل في سخط الله حتى يرجع. وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من أعان ظالماً بباطل ليدحض به حقاً فقد برئ من ذمة الله ورسوله».

ومنها سماع الأوتار والمعازف كذا عدة العراقيون من الكبائر. ومنها / اللعب بالنرد: وهو حرام على الصحيح. قال إمام الحرمين: والصحيح أنه من الكبائر. وكذا عده ابن القيم وغيره من الكبائر لما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «من لعب بنرد فقد عصى الله ورسوله» رواه مالك وأبو داود وأبي ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. فرع: اللعب بالشطرنج مكروه على الصحيح. وقال الحليمي إل تحريمه واختاره الروياني. قال الشافعي: وأكره اللعب بالجزة والقرف انتهى. الجزة: قطعة تحفر فيها حفر ويجعل في الحفر حصا، وأهل بلادنا يوف النقلة. وروى ابن وهب بإسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرَّ بغلمان

يلعبون بالجكة - هي حفر فيها حصى يلعبون بها - فأفسدها ابن عمر ونهاهم عنها. والقرف: أن يخط خط مربع ويجعل في ومطه خطان كالصليب ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار. وأهل بلادنا يسمونها أدربس. قال صاحب الشامل: اللعب بها كالنرد. وقال أبو حامد كالشطرنج والله أعلم. ومنها المضارة في الوصية: وهو أن يقصد حرمان الوارث أو تنقيصه بوصية أو إقرار ونحوهما لما عنده من بغض أو الحقد عليه. وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله صلي الله عليه وسلم ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار. ثم قرأ أبو هريرة} من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار {حتى بلغ} ذلك الفوز العظم { ورواه ابن ماجة إلا أنه قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له نجير عمل به فيدخل الجنة»

وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: الإضرار في الوصية من الكبائر ثم تلى: } تلك حدود الله { قال ابن أبي حاتم في تفسيره: الصحيح أنه موقوف. وقال البيهقي في سننه: صوابه موقوف. ثم روى عن ابن عباس قال: «الحيف في الوصية/ والإضرار فيها من الكبائر» وروى ابن ماجة عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من فر بميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة». ومنها زيارة النساء القبور: وفي تحريمها وكراهيتها وإباحتها ثلاثة أوجه في مذهب الشافعيّ لكن قد صرح الشيخ شمس الدين بن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" بأنها من الكبائر». وكذلك صرح بأن اتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج من الكبائر. وعلله بأن كل ما لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعله فهو من الكبائر. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان

في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أيضاً وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أبي صالح وهو باذان عن ابن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زائرات القبور من النساء، والمتحذين عليها المساجد والسرج. قلت: وأما زيارة الرجال القبور فمندوب إليها، وقد أمر النبي صلي الله عليه وسلم بها. ونقل النووي «في شرح المهذب» الإجماع علي استجابها. ومنها: اتخاذ المساجد على القبور وإيقاد المصابيح عليها والسرج. وقد صرح شمس الدين بن القيم أيضاً بأن ذلك من الكبائر، للعن النبي صلي الله عليه وسلم فاعل ذلك في حديث ابن عباس المتقدم. وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله صلي الله عليه وسلم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».

وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلي الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا أغتم كشفها فقال وهو كذلك: «لعنة الله علي اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقال الشيخ شمس الدين بن القيم رحمه الله تعالى: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً بالصلاة في تلك البقعة عين المحددة لله ورسوله، والمخالفة/ لدينه 175 وابتداع دين لم يأذن به الله. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلي الله عليه وسلم، أن الصلاة عند القبور منهي عنها، فمن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها. فقد تواترت النصوص عن النبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرع عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغيان تحمل الكراهة على التحريم إحساناً للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواترت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه، انتهى كلامه. وروى الإمام أحمد بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد».

وروى الإمام أحمد - أيضاً - وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله صلي الله عليه وسلم عنه قال - قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجداً إلا المقبرة والحمام» وقال الشيخ شمس الدين بعد كلام طويل: وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. وقال أبو محمد المقدسي رحمه الله: ولو أبيح أتحاذ السرج عليها لم يلعن فاعله، ولأن فيه تضييعاً للمال من غير فائدة. وقال الشيخ شمس الدين: إن المساجد المبنية على القبور حكم الإعلام فيها هدمها كلها حتى تسوى بالأرض، وهي أول بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها لأنها أسست على معصية رسول الله صلي الله عليه وسلم. لأنه رسول الله صلي الله عليه وسلم قد نهى عن البناء على القبور. فبناء أسس على معصية الرسول صلي الله عليه وسلم ومخالفته بناء غير محترم، وهو أول بالهدم من بناء الغاصب قطعاً. وقد أمر النبي صلي الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة. فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أول وأحرى؛ لأنه لعن متخذ

المساجد عليها ونهى عن البناء فتجب المبادرة والمسارعة إلي هدم ما لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعله ونهى عنه. وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر/ وطفيه فإن فاعل ذلك 176 ملعون ولا يصح هذا الوقف، ولا يحل إثباته وتنفيذه، انتهى والله أعلم. ومنها: بغض الأنصار: لما في الصحيحين عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله صلي الله عليه وسلم عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله صلي الله عليه وسلم واليوم الآخر». قال الشيخ شمس الدين ابن القيم – رحمه الله تعالى - والمراد بالأنصار من نصر الله ورسوله ودينه. وهؤلاء باقون إل يوم القيامة، فمعاداة هؤلاء وبغضهم من أكبر الكبائر، انتهى.

فصل في ذكر جملة من الصغائر أعلم أنه كما يجب اجتناب الكبائر الموبقات يجب اجتناب الصغائر المقرات لأن الصغيرة الواحدة متى أصر عليها العبد صارت من الكبائر. فالصغائر إذا اجتمعن أهلكن يوم تبلى السرائر. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» وروى أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «إياك ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعودٍ حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبه تهلكه». وروى أبو يعلى عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب، ولكنه سيرضي منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات». وروى الطبراني عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: لما فرغ رسول الله

صلي الله عليه وسلم من حنين نزلنا قفراً من الأرض ليس فيها شيء فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «إجمعوا، من وجد شيئاً فليأت به، ومن وجد عظماً أو سناً فليأت به». قال: فما كان إلا ساعة حق جعلناه ركاماً، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «أترون هذا ينضج؟ فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جعلي هذا، فليتق الله رجل فلا يصيب صغيرة [ولا كبيرة] فإنها محصاة / عليه محصاة/ عليه». وخرج النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً» وفي صحيح البخاري عن أنس قال: «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدّق في أعينكم من الشَّعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم من الموبقات» والأحاديث في مثل هذا كثيرة. والمقصود أن العاقل اللبيب الطالب نجاة نفسه يوم القيامة يجب أن يتفطن للصغائر من الذنوب؛ لأن أكثرها خفي لا يدركه كثير من الناس لكثرة وجودها وعدم إنكارها وغلبة الجهل بمحلها من الدين. فلنذكر جملاً من الصغائر المحرمة والأمور المنهي عنها على سبيل الإيجاز لينكرها مَنْ رآها ويحترز منها من رام النجاة والله ول التوفيق لا رب غيره. فمنها: النظر إلى الأجنبية شهوة وبغيرها: وسواء في ذلك وجهها وكفاها وسائر بدنها وإن أمن الفتنة علي الصحيح

لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] الآية. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه". فروع: تمس الحاجة إليها: اعلم أنه كما يحرم النظر إلى كل شيء من بدن الأجنبية، كذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه. قال النووي في شرح مسلم: سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها. وقال بعض أصحابنا: "لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة" وليس هذا القول بشيء انتهى. وروى أبو داود والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه"، فقلنا يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه". والأصح أن المراهق كالبالغ، فيجب على المرأة الاحتجاب منه. كما يجب عليها الاحتجاب من المجنون. ويلزم ولي الصبي منعه من نظرها كما يلزمه منع من الزنا.

ويجوز أن ينظر المسموح من المرأة ما ينظر المحرم منها عند الأكثرين. وعندهم أن المجبوب والخصي والعنين والشيخ الهرم كالفحل. والأصح جواز نظرة الرجل إلى صغيرة لا تشتهى دون فرجها. ويحرم النظر إلى الأمرد الحسن بشهوةٍ بالإجماع. قال النووي في "المنهاج" وكذا بغيرها في الأصح المنصوص. وقال في شرح مسلم: وسواء أمن الفتنة أم خافها هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء المحققين، ونص عليه الشافعي وحذاق أصحابه، انتهى. ويحرم النظر بالشهوة إلى غير الأمرد من الرجال والمحارم والشيوخ والعجائز. ويحرم على المرأة أن تنظر من المرأة ما بين سرتها وركبتيها. والأصح تحريم نظر الكافرة إلى بدن المسلمة. والأشبه أنها ترى منها ما يبدو في المهنة لا غير. ويحرم النظر إلى ما بين سرة الأمة وركبتيها على الأصح عند الرافعي، ويكره إلى ما سوى ذلك. والوجه الثاني: يحرم النظر إلى ما يبدو حال المهنة. والثالث: أنها كالحرة. قال النووي في "المنهاج": وهو الأصح عند المحققين. قال في "الروضة": وقد صرح به صاحب البيان وغيره وهو مقتضى إطلاق الأكثرين وهو أرجح دليلاً. فرع: قال في الروضة: ما لا يجوز النظر إليه متصلاً: كالذكر، وساعد الحرة، وشعر رأسها، وشعر عانة الرجل، وما أشبهها، يحرم النظر إليه بعد الانفصال على الأصح. وعلى الأصح يحرم النظر إلى قلامة رجل المرأة، ودون قلامة يديها.

فرع: يكره نظر الرجل والمرأة إلى فرج نفسه بلا حاجة. وفي نظر أحد الزوجين إلى فرج الآخر وجهان: أحدهما يحرم. وأصحهما يكره ولا يحرم. فرع: قال في الروضة: حيث حرم النظر حرم اللمس بطريق الأولى فيحرم على الرجل دلك فخذ رجلٍ بلا حائل، وكذا من فوق الإزار إن خاف الفتنة. ويحرم مس كل ما جاز النظر إليه من المحارم والإماء. بل لا يجوز للرجل مس بطن أمه ولا ظهرها، ولا أن يغمز ساقها، ولا رجلها، ولا أن يقبل وجهها، وكذا لا يجوز أن يأمر / ابنته أو أخته بغمز رجله. وعن القاضي حسين أنه كان يقول للعجائز اللاتي يكحلن الرجال يوم عاشوراء مرتكبات للحرام. فرع: لا يجوز أن يضاجع الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش. قلت: كذا قال في الروضة تبعاً للرافعي ومرادهما إذا كان متجردين لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواجد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد". رواه مسلم. وقد صرح بذلك القاضي حيث قال: "لا يجوز للرجلين أن يتجردا في ثوب واحد".

والخوارزمي أيضاً في الكافي حيث قال: لا يجوز مضاجعة الرجلين العاريين وإن كان أحدهما من جانب والآخر من جانب، وكذا في حق المرأتين. انتهى. وإذا بلغ الصبي أو الصبية عشر سنين وجب التفريق بينه وبين أبويه وأخويه في المضجع معاً. فرع: قال ابن الحاج المالكي في "المدخل": قال علماؤنا: لا يجوز أن يجتمع مكشوف العورة مع مستور العورة تحت سقف واحد". فرع: التستر حال الاغتسال في الخلوة أفضل، والتكشف جائز مدة الحاجة في الغسل والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصح، لأن ستر العورة في الخلوة واجب على الأصح، ذكره في شرح مسلم. ومنها: الإشراف على بيوت الناي بغير إذن: وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه". وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستئذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن ويسلم فلا إذن له وقد عصى". وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن ثوبان قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يحل لأحدٍ أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في ثغر بيت قبل أن يستأذن فإن فعل فقد دخل، ولا يصلي وهو حقن حتى يخفف". ومنها: استماع الغيبة والسكوت عن إنكارها مع الاستطاعة وذلك حرام وقد عده بعضهم من الكبائر وليس ببعيد، لأنه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة عليه. وقد جاء في الحديث أن المغتاب والمستمع شريكان. ومنها: ترك السنن الراتبة ودعاء الاستفتاح وتسبيحات الركوع والسجود: وقد عد ذلك القاضي حسين من الصغائر وتبعه صاحب التهذيب. ومنها: كثرة الخصومات وإن كان محقاً: كذا قال صاحب العدة وقال غيره إذا راعى حد الشرع لا يكون معصيةً، وصوَّبه النووي. وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". وروى الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بك إثماً أن لا تزال مخاصماً". ومنها: الجلوس مع الفساق إيناساً لهم. ومنها: الصلاة المنهي عنها في أوقات النهي. ومنها: البيع والشراء في المسجد: ورجح النووي أنه مكروه.

وقد روى الترمذي وصححه والنسائي وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أن يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: ردها الله عليك". ومنها: إدخال النجاسات إلى المسجد وكذا إدخال المجانين والصغار إن لم يؤمن تنجيسهم. ومنها: الكلام والإمام يخطب: وهو حرام في القديم. لما روى أبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى جنب أبي بن كعب فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يرد عليه، فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال [ابن مسعود]: يا أُبي ما منعك أن ترد علي حين سألتك؟ ، قال: إنك لم تحضر معنا الجمعة، قال: لم؟ قال: تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقام ابن مسعود فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أُبي، صدق أُبي، أطع أُبياً". وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه حديثاً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم

قال فيه: "ومن دنا من الإمام فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كفلان من الوزر ومن قال: صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له". رواه أبو داود إلا أنه قال فيه: "فإن جلس مجلساً لا يستمكن فيه من الاستماع والنظر فلغا ولم ينصت كان له كفلان من وزر، فإن جلس مجلساً يتمكن فيه من الاستماع والنظر ولغا ولم ينصت كان له كفل من وزر، ومن قال لصاحبه يوم الجمعة أنصت فقد لغا، ومن لغا فليس له من جمعته شيء". فرع: إذا قلنا بالقديم، فالداخل في أثناء الخطبة لا يسلم، فإن سلم حرمت إجابته باللفظ وتستحب الإشارة، وتشميت العاطش حرام على الصحيح المنصوص. ويحرم كلام الآدميين على البعيد كما يحرم على القريب، هذا كله تفريغ على القديم. ثم القولان إنما هما في الكلام الذي لا يتعلق به غرض. أما لو رأى إنساناً يقع في بئر أو عقرباً تدب إلى إنسان أو أمره بمعروف أو نهي عن منكر فكل ذلك لا يحرم. نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب والله أعلم. ومنها: البيع بعد الأذان الثاني يوم الجمعة: وهو حرام إذا تأخر بسببه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] الآية.

قال النووي وغيره: البيع من الصنائع والعقود في معنى البيع. ومنها: العبث في الصلاة: وقد قيل إنه حرام وصوب النووي أنه من المكروهات. ومنها: الضحك في الصلاة: ومذهب أبي حنيفة – رحمه الله – أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء. ومنها: عدم إتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب بينهما: ويترجح أن يكون ذلك من الكبائر، لأن الوعيد فيه شديد جداً. وقد عد من الكبائر أفعال لم يرد فيها نظير ما ورد في هذا الفعل. فيروي الإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصحح إسناده عن أبي قتادة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها". ورواه الطبراني وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة أيضاً. وروى أبو يعلى وابن خزيمة في صحيحه عن عمرو بن العاص وخالد

ابن الوليد وشرحبيل بن حسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لا يتم ركوعه وينقر سجوده وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتان لا يغنيان عنه شيئاً". وروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن بلال – رضي الله عنه – أنه أبصر رجلاً لا يتم الركوع ولا السجود فقال: لو مات هذا لمات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد بإسنادٍ جيد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى عبدٍ لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده". وفي الموطأ عن النعمان بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما ترون في الشارب، والزاني، والسارق؟ وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هن فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها. وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: "ما من مصلٍ إلا وملك آخذ عن يمينه وملك عن يساره، فإن أتمها عرج بها وإن لم يتمها ضرب بها وجهه". وروى الطبراني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصلاة لوقتها، وأصبغ لها وضوءها، وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها، خرجت وهي بيضاء مسفرة، تقول: حفظ الله كما حفظتني، ومن صلاها لغيرها وقتها، ولم يسبغ لها وضوءها، ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول، ضيعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله، لُفت كما يلف الثوب الخلق، ثم يضرب بها وجهه". وروى الأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليصلي ستين سنة، ولا تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع". وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن عمار بن ياسر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل لينصرف من صلاته، وما كتب له من صلاته إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها". والأحاديث في هذا كثيرة جداً. واعلم أن من رأى مسيئاً في صلاته وسكت عنه فهو شريكه، وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوب لا يراها، وانحراف عن القبلة ظلام أم عمى، فكل ذلك تجب الحسبة فيه.

قال الغزالي وغيره: وإذا كان المعتكف في المسجد يضيع به أكثر أوقاته في الأمر بالمعروف والنهي عما يراه من المنكرات في المسجد، ويشتغل به من التطوع والذكر فليشتغل فإن هذا أفضل من ذكره وتطوعه، لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها، فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها. ومنها قراءة القرآن بالألحان مع الإفراط في المد وإشباع الحركات بحيث يتولد من النصب [ألف] ومن الجر ياء، ومن الرفع واو، وذلك حرام على الصحيح: قال النووي: ويفسق به القارئ ويأثم المستمع. فرع: يجب النهي على من سمع قارئاً يُلحن في قراءته، ويجب أن يلقنه الصحيح. وكذا قال الغزالي ولم يفرق في الوجوب بين اللحن الذي يغير المعنى واللحن الذي لا يغير المعنى. ويحتمل أن يقال إن أفسد المعنى وجب النهي، إلا استحب. قال: والذي يكثر اللحن في القرآن، إن كان قادراً على التعلم فليمنع من القراءة حتى يتعلم فإنه عاص بها، وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرأه لحناً فليتركه وليجتهد في [تعلم الفاتحة وتصحيحها، وإن كان الأكثر صحيحاً وليس يقدر على التسوية فلا] بأس له أن يقرأ ولكن ينبغي أن يخفض صوته، ويمنعه سراً منه أيضاً وحذراً، ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى بها بأساً، انتهى.

ومنها: التغوط والبول مستقبل القبلة ومستدبرها في الصحراء: وذلك حرام عند الشافعي. وفي الصحيحين النهي عن ذلك. ومنها: التخلي على طريق المسلمين أو ظلهم أو مواردهم: وقد صرح الخطابي وغيره بتحريم ذلك. لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طرق الناس أو ظلهم". والمراد بقوله اللاعنين أي الأمرين الجالبين اللعن. وروى أبو داود وابن ماجة عن معاذ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". وروى الطبراني عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سل سخيمته على طريق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

والمراد بسخيمته: غائطه ونحوه. ومقتضى هذا الحديث أن يكون هذا الفعل كبيرة، ولكن سنده ضعيف، والله أعلم. وروى الطبراني بإسناد حسن عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طريقهم وجبت عليه لعنتهم". فرع: يحرم عليه أن يستجمر بجدار المسجد من خارج لأنه محترم كالداخل وكذلك جدار القبر. قال ابن الحاج المالكي في المدخل: ويحرم عليه أن يستجمر بحائط الوقف أو بإصبعه ويمسح ما أصابه في الحائط، وهذا النوع قد كثر وهو محرم، انتهى. ومنها: أن يتناجى اثنان على غائطهما ينظر كل منهما إلى عورة الآخر: وذلك حرام. لما روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان على غائطهما ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك". ورواه ابن ماجة ولفظه: "لا يتناجى اثنان على غائطهما ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك".

ومنها: القبلة للصائم الذي تحرك شهوته: قال النووي: وهو حرام على الأصح عند أصحابنا. ومنها: الوصال في الصوم لى الأصح: وفي الصحيحين النهي عنه. ومنها: الاستمناء بالكف وغيره. ومنها: مباشرة الأجنبية بغير جماع: وقد روى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". ومنها: وطء زوجته المظاهر منها قبل التكفير والرجعة. ومنها: الخلوة بالأجنبية: وفي الصحيحين وغيرهما النهي عنه. وقد صرح القرطبي في تفسير سورة الممتحنة بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر. ومنها: مسافرة المرأة بغير زوج أو محرم أو نسوة ثقات: وهو حرام.

ومنها: احتكار الأقوات: وهو حرام. لما في صحيح مسلم عن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاماً فهو خاطئ". وروى أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرء جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى". وروى ابن ماجة والحاكم عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون". قلت: ومقتضى هذين الحديثين أن يكون الاحتكار من الكبائر لو صح. وروى ابن ماجة عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله بالجذام والإفلاس".

وروى أحمد والطبراني والحاكم واللفظ له عن معقل بن يسار – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين يغلي عليه كان حقاً على الله أن يقذفه في جهنم رأسه أسلفه". واعلم أن من أقبح الاحتكار الاحتكار بمكة لشرف المكان وغلظ المعصية. وقد روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احتكار الطعام بمكة إلحاد". ومنها: النجش في البيع: وهو أن يزيد في سلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره، ويغره ليزيد في ثمنها ويشتريها. قال النووي: وهذا حرام بالإجماع. ومنها: التصرية: وهو أن يربط ضرع الناقة والبقرة والشاة والجارية والفرس اليومين والثلاث حتى يجتمع لبنها فيظن مشتريها أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها، وذلك حرام. ومنها: البيع على بيع أخيه: وهو مثل أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار: أفسخ هذا البيع وأنا

أبيعك مثلها بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه ونحو ذلك. وهو حرام وكذلك يحرم الشراء على شراء أخيه مثل أن يقول للبائع في مدة الخيار، افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. قال بعض العلماء: وفي هذا تنبيه على تحريم الزيادة عليه في الأجرة بعد العقد ليفسخ المؤجر عليه، فلا يحل ذلك ولا يصح الفسخ ولا العقد الثاني، انتهى. ومنها: السوم على سوم أخيه: وذلك مثل أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقداه، فيقول للبائع: أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس بحرام. ومنها: الخطبة على خطبة أخيه: قال النووي في شرح مسلم: وأجمعوا على تحريم الخطبة إذا كان قد صرح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك. ومنها: بيع الحاضر للبادي: وهو أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بلدي اتركه عندي لأبيعه على التدريج وذلك حرام بشرط علمه بالنهي. ومنها: تلقي الجلب: وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعاً إلى البلد فيشتريه قبل قدومه وقبل معرفتهم بالسعر وهو حرام عند مالك والشافعي والجمهور. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا لم يضر بالناس. وقال أصحابنا: وشرط التحريم أن يعلم النهي ولو لم يقصد التلقي بل خرج

لشغل فاشترى منهم، ففي تحريمه وجهان أصحهما التحريم أيضاً. ومنها: بيع المعيب من غير بيانه: وذلك حرام. وما أرى في تحريمه خلافاً لما روى عقبة بن عامر – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا أن يبينه". رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. وروى البخاري موقوفاً على عقبة بن عامر. فرع: من رأى شخصاً يبيع لشخصٍ كان عليه أن يبين للمشتري عيبه فإن لم يفعل كان شريكه في الإثم وكان راضياً بضياع مال أخيه المسلم، وهو حرام. ومنها: بيع العنب والرطب ونحوهما ممن يعلم أنه يتخذه مسكراً: وهو حرام على الأصح. وكذا بيع الأمرد ممن عرف بالفجور وكل تصرف يفضي إلى معصية. ومنها: إضاعة المال: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها. ومنها: اتخاذ الكلب لغير زرع أو ماشية أو صيد: لما في الصحيحين عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا حرث فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم". اللفظ لمسلم. وفي رواية للبخاري "من اقتنى كلباً ليس بكلب ماشية أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان". وفي صحيح مسلم أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة". ومنها: إمساك الخمر غير المحرّمة. ومنها: بيع العبد المسلم لكافر. ومنها: بيع المصحف له وسائل كتب العلم الشرعي. ومنها: استعمال النجاسة في البدن لغير حاجة. ومنها: كشف العورة في الحمام. وكذا في الخلوة لغير حاجة في الأصح. ومنها: تأخير الغسل لغير عذر: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ. وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن علي بن أبي

طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب". وروى أبو داود عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ". ومنها: الخروج من المسجد بعد الآذان قاصداً أن يصلي وحده: لما في صحيح مسلم أن أبا هريرة رضي الله عنه كان في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فاتبعه أبو هريرة يبصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". وروى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق". وروى ابن ماجة معناه من حديث عثمان. ومنها: البصاق في المسجد: لما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". واعلم أن أقبح ذلك وأغلظه البصاق إلى جهة القبلة في المسجد وغيره.

لما روى أبو داود وابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما عن حذيفة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه". ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة إلا أنه قال: "ومن تفل في قبلته ولم يوارها جاءت يوم القيامة أحمى ما تكون حتى تقع بين عينيه". وروى البزار وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه". وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن السائب بن خلاد أن رجلاً أَمَّ قوماً فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ: "لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: نعم وحسبت أنه قال إنك آذيت الله ورسوله.

ومنها: إتيان المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو ما له رائحة كريهة تؤذي الناس وإن كان خالياً: لما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". وفي رواية لمسلم: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". وفيهما من حديث ابن عمر "فلا يأتين المساجد". وروى الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل هذه الخضروات الثوم والبصل والكراث والفجل فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". فرع: قال القاضي عياض في شرح مسلم قال ابن المرابط: ويلحق به، أي بمن أكل الثوم ونحوه من به داء البخر أو به خراج له رائحة كريهة. قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المساجد، كمصلى العيد، والجنائز، ونحوها من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلتحق بها الأسواق" انتهى.

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]. قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أن يتأذى به ففي القياس أن كل ما يتأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفهاً عليهم وكان ذا رائحة [كريهة] قبيحة لسوء صناعته أو عاتة مؤذية كالجزام وشبه وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه، ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كانت الصلاة وغيرها، كمجالس العلم والولائم وما أشبهها من أكل الثوم، وما في معناه مما له رائحة كريهة. قال ابن عبد البر: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وأن لا يشاهد معهم الصلاة. فذاكرته يوماً أمره وطالبته بالدليل فاستدل بحديث الثوم وقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد. قلت: وفي الآثار المرسلة أن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك من نتن ريحه. فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول بالباطل فإن ذلك يؤذي. انتهى. ومنها: أن يسأل الناس تكثراً من غير حاجة: وذلك حرام. لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يسأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر".

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم". وروى البيهقي عن مسعود بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى برجل يصلي عليه فقال: كم ترك؟ قالوا: دينارين أو ثلاثة. قال: ترك كيتين أو ثلاث كيات. فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر، فذكرت له ذلك فقال: ذلك رجلاً كان يسأل الناس تكثراً. وروى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح وابن خزيمة في صحيحه حُبشى بن جنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يسأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر". اللفظ للطبراني. ورواه الترمذي أطول من هذا وقال في آخره: "من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة ورضفاً يأكله من جهنم، فمن شاء فيقل ومن شاء فليكثر". قوله: ليثري به ماله: أي ليزيد به ماله. وروى أبو داود عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار". زاد بعض رواته وما الغنى الذي لا ينبغي معه قال: قدر ما يغديه ويعشيه. ورواه ابن خزيمة في صحيحه باختصار إلا أنه قال فيه: قيل يا رسول الله: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال أن يكون معه شبع يوم أو ليلة ويوم؟ ورواه ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال فيه: "من سئل شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من [جمر] جهنم. قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: ما يغديه أو يعشيه؟ كذا قال أو يعشيه بألفٍ، ولعلها زيادة من بعض النساخ. وروى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: قال ما نقص مال [عبد] من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلى فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها". والأحاديث في هذا كثيرة جداً. فرع: قال النووي في شرح مسلم: اختلف أصحابنا في مسالة القادر على الكسب على وجهين أحصهما أنه حرام لظاهر الأحاديث.

والثاني حلال مع الكراهة بثلاثة شروط. أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤدي المسئول. فإن فقدت هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق. ومنها أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة: وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث: فروى الطبراني عن أبي موسي الأشعري – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرًا». ورجال إسناد هذا الحديث رجال الصحيح إلا شيخه يحيي بن عثمان بن صالح والأكثر على توثيقه. فإن بلغ هذا الإسناد وإسناد غيره مبلغًا يحتج به كان ذلك من الكبائر والله أعلم. وروى الطبراني – أيضًا – عن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله». وروى الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بشر الناس، رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي».

وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذي يسأل بالله ولا يعطي». وروى أبو داود عن جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسئل بوجه الله إلا الجنة». ومنها: أن يأخذ ما يعلم أن دافعه إنما يدفعه بغير طيب نفس بل حياء من الحاضرين عنده أو خوفًا من ذم المدفوع له أو نحو ذلك: وقد صرح الغزالي وغيره أن ذلك حرام. وفي صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج مسألته مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته». وروى ابن حبان في صحيحه عن جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه فينطلق وما يحمل في حضنه إلا النار». وروى أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: بينما / رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذهبًا إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله: أعطني فأعطاه، ثم قال: زدني. فزاده ثلاث مرات ثم ولى مدبرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتيني الرجل فيسألني

فأعطيه ثم يسألني فأعطيه ثلاث مرات ثم ولى مدبرًا وقد جعل في ثوبه نارًا إذا انقلب إلى أهله». ومنها: نسيان الرمي بعد تعلمه: وقد عده بعضهم من الكبائر. وقال النووي رحمه الله: هو مكروه كراهة شديدة. وروى مسلم عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى». ورواه ابن ماجه إلا أنه قال: «فقد عصاني». ورواه أبو داود أطول منه وقال في آخره: «ومن ترك الرمي بعد ما عمله رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها». ومنها: أن يسمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه: وقد أوجب قوم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر. قال القرطبي في تفسيره: وهو الاحتياط، انتهى. وقد عد قوم ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر من الكبائر، وليس ببعيد فإن الوعيد على ذلك شديد. وفي شرف النبي صلى الله عليه وسلم وتأكيد حقه على الأمة ما هو أعظم من ذلك. وروى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين.

قيل يا رسول الله: إنك صعدت المنبر فقلت: آمين. آمين. آمين. فقال: إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين. ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين. ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين. وقد روي هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة بأسانيد صحاح وبألفاظ متقاربة لولا خشية الإطالة لذكرت منها كثيرًا. وروى الترمذي وحسنه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يصل علي» الحديث. ومعنى قوله: رغم: أي لصق بالرغام وهو التراب ذلاً وهوانًا. وروى الطبراني عن الحسن بن علي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «/ من ذكرت عنده، فخطى بالصلاة علي خطى طريق الجنة». وروى ابن السني في عمل اليوم والليلة بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذكرت عنده فلم يصل علي فقد شقي».

وروى الترمذي وصححه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي». ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه عن الحسين بن علي رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ذات يوم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أخبركم بأبخل الناس. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من ذكرت عنده فلم يصل علي، فذلك أبخل الناس». ومنها: الحرص على المال والجاه: لما روى الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب».

ومنها: التفريق بين الجارية وولدها الصغير بالبيع ونحوه: وهو حرام. ويحتمل أن يكون من الكبائر. لما روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي أيوب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرق بين والدةٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة». وروى ابن ماجه والدارقطني عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن طليق ابن عمران عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين والدةٍ وولدها». فإن صح هذا السند كان هذا الفعل من الكبائر قطعًا، والله أعلم. فرع: أما أم الأم كالأم عند عدم الأم، وكذلك الأب في الأظهر، ولا أثر لرضى الأم بالتفريق على الصحيح. ويجوز في بهيمة وولدها بعد استغنائه عن اللبن على الصحيح. ومنها: قطع شيء من أشجار حرم مكة: قال النووي: واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا ينبتها / الآدميون في العادة، انتهى. وما ينبت بنفسه وما استنبت سواء على الأصح.

فرع: قال الرافعي وغيره: يحرم التعرض والقلع بالقطع لكل شجر رطب غير مؤذ حرمي فيخرج بقيد الرطب اليابس ولا شيء في قطعه، كما لو قد صيدًا ميتًا نصفين، ويخرج بقيد غير مؤذ عود العوسج وكل شجرة ذات شوك فإنها كالحيوان المؤذي لا يتعلق بقطعها ضمان على الصحيح. وفي وجه اختاره صاحب التتمة أنها مضمونة. وقال النووي في شرح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يعضد شوكها دلالة لمن يقول بحرم جميع نبات الحرم من الشجر والكلأ سواء الشوك المؤذي وغيره» وهو الذي اختاره المتولي. وقال جمهور أصحابنا: لا يحرم لأنه مؤذٍ، فأشبه الفواسق، ويخصون الحديث بالقياس، والصحيح ما قاله المتولي انتهى. ومنها: خبط شوكه وقطع نباته غير الإذخر: فرع: قال في الروضة: يجوز أخذ أوراق الأشجار، ولكن يخرطها بلا حبط، انتهى. ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم كلأ الحرم. وقال أحمد وأبو حنيفة لا يجوز. ومنها: تنفير صيده وهو إزعاجه عن مكانه وتنحيته عن موضعه: وذلك حرام، وفاعله عاصٍ، فإن نفر الصيد فتلف بتغيره عصى وضمنه والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم تحل القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاؤها.

وفي رواية: لا يخبط شوكها». رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله: ولا يختلي: أي لا يقطع. والخلأ: الرطب من الكلأ. ومعنى يخبط شوكها: أي يضرب بعصا ونحوه ليسقط ورقه. وقوله: ولا يلتقط لقطته إلا من يعرفها سنة، ثم يتملكها كما في غيرها من البلاد، بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبدًا ولا يتملكها وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: يجوز تملكها بعد السنة. فرع: صيد الحرام / حرام بالإجماع على الحال والمحرم. ولو دخل صيدًا من الحل إلى الحرام فله التصرف فيه بالذبح والأكل وغيره، وهو قول مالك. قال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز له ذبحه ولا التصرف فيه، بل يلزمه إرساله، فإن أدخله مذبوحًا جاز أكله. فرع: وما يصحبه الحاج معه من الكيزان والأكر ونحو ذلك على سبيل الهدية، إن كان معمولاً من تراب الحرم حرم إخراجه وجب رده إليه ولو طالت المسافة. وكذلك الكواويز التي يشترونها للشرب بها في الطريق، وسواء في ذلك تراب حرم مكة والمدينة، والله أعلم.

فرع: وج واد بصحراء الطائف صيده حرام على المذهب، والصحيح أنه لا ضمان فيه. ومنها: حمل السلاح بمكة من غير حاجة: لما روى مسلم عن جابر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة». ومنها: طلاق الحائض الحائل من غير رضاها: وقد أجمعت الأمة على تحريمه، وله فروع مذكورة في كتب الفقه. ومنها: إحداد المرأة على غير زوجها فوق ثلاث: وذلك حرام لما في الصحيحين عن زينب بنت أبي سلمة قالت: «دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت بطيبٍ فيه صفرة خلوقٌ أو غيره فدهنت منه جاريًة، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتٍ فوق ثلاث إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا». ومنها: مطل الغني: وهو حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم». رواه البخاري ومسلم.

ومعناه: أن يؤخر ما استحق أداؤه مع تمكنه من الأداء. قال النووي: قد اختلف أصحاب مالك وغيرهم في أن المماطل، هل يفسق وترد شهادته بمطلة مرة واحدة، أم لا ترد شهادته حتى يتكرر منه ويصير عادة ومقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، انتهى. ومقتضى هذا أن يكون كبيرة عند من فسقه بمطلة واحدة، والله أعلم. ومنها: أن يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ: وذلك حرام وقد عده الذهبي في الكبائر واستدل عليه بحديث عمرو بن شعيب هن أبيه / عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من منع فضل مائه أو فضل كلائه منعه الله فضله يوم القيامة». رواه أحمد. قلت: فإن صح هذا الحديث فينبغي أن يكون فعل ذلك مرة واحدة كبيرة، وإلا فبالإصرار تصير كبيرة، والله أعلم. ورأيت في تفسير الإمام أبي بكر بن المنذر حدثنا الحسن حدثنا يحيي بن بساط حدثنا عمرو بن علي المقدمي حدثنا صالح بن حيان قال سمعت عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضل الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجعل». رواه ابن أبي حاتم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الصحيحين.

ومعناه أن لا يكون للإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذا ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض، لأنه إذا منع بذله امتنع أرباب المواشي من رعي الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش، فيكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ. وأما منع الماء الذي لا يختص بأحد فهو من الكبائر، وقد تقدم ذكره فيها، والله أعلم. ومنها: حلوان الكاهن: وهو ما يعطاه على كهانته، وقد نقل البغوي والقاضي عياض إجماع المسلمين على تحريمه لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه. قال النووي: وكذا أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء، والنائحة للنوح. وقال الخطابي في (معالم السنن): وحلوان العراف أيضًا حرام. والفرق بين الكاهن والعراف، أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار. والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة ونحوها. وقال الماوردي: ويمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. ومنها: بيع الكلب: وهو حرام: لنهيه صلى الله عليه وسلم. وسواء كان معلمًا أو لا. وسواء كان مما يجوز اقتناؤه أو لا.

وهو مذهب الإمام أحمد، وجماهير العلماء. وعن مالك روايات. وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلب الذي فيه منفعته. ومنها: خضاب الرجل والمرأة شعرهما بالسواد: وهو حرام على الأصح المختار. لما في الصحيح / أنه أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد». قلت: وممن صرح بتحريمه الماوردي في الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة قال إلا أن يكون في الجهاد. وقال في آخر كتابه (الأحكام السلطانية) يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيبة بالسواد إلا المجاهد، انتهى. وقد ورد فيه وعيد شديد يقتضي أن يكون من الكبائر. وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصحح إسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون قومٌ يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة». وخرج الطبراني والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الخضاب بالسواد وقال: هو خضاب أهل النار». وفي رواية لهما «الخضاب بالسواد خضاب الكافر».

ومنها: خضاب الرجل يديه أو رجليه بالحناء من غير ضرورة: صرح بتحريمه النووي في شرح المهذب، ولم يحك في تحريمه خلافًا. واستدل على تحريمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن المتشبهين من الرجال بالنساء» وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال: ما بال هذا؟ فقيل يا رسول الله يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى البقيع، فقالوا يا رسول الله: ألا نقتله؟ فقال: إني نهيت عن قتل المصلين. ومنها: صوم المرأة تطوعًا وزوجها حاضر من غير أن تستأذنه: لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة أن تقوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه .. ومنها: التسمي بملك الأملاك وما في معناه: وذلك حرام؛ لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك، ولا مالك إلا الله». قال سفيان: مثل شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمر وعن أخنع فقال: أوضع. ومنها: أن يقيم إنسانًا من موضعه المباح الذي سبق إليه: وذلك حرام؛ لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقيمن أحدكم الرجل

من مجلسه، ثم يجلس فيه». وفي روايته: ولكن تفسحوا أو توسعوا». قلت: فمن سبق إلى موضع مباح من مسجد أو خان أو منزل مسافر فهو أحق به ويحرم / على غيره إقامته منه إلا إذا ألف المفتي مكانًا من المسجد يفتي فيه أو يقرأ فيه القرآن، أو يعلم شيئًا من العلوم الشرعية فهو أحق به، وإذا حضر لم يكن لأحد أن يقعد فيه. وفي معناه من سبق إلى موضع من الشوارع، ومقاعد الأسواق المعاملة. ومنها: أن يتناجى اثنان دون الثالث: وذلك حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد». وفي رواية «حتى يختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه». رواه مسلم. فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم، إلا أن يأذن، وكذلك يحرم عليهم أن يتحدثوا بلسان لا يفهمه ولا يعرفه مع قدرتهم على لسانه. قال النووي: ومذهب ابن عمر ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء: إنما النهي في السفر دون الحضر، لأن السفر مظنة الخوف. ومنها: أن يقول الإنسان رأيت في النوم كذا، ولم يره: وذلك حرام شديد التحريم، ويحتمل أن يكون كبيرة.

لما في صحيح البخاري عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعظم الفري أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه ما لم تر، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل». ومن ذكر الكذب في المنام مع الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الادعاء إلى غير الأب دليل على أن الكذب في المنام من الكبائر إذ جمع في الوصف مع كبيرتين، والله أعلم. ويدل عليه أيضًا ما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلم بحلمٍ لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل». وهذا شبيه قوله صلى الله عليه وسلم: «من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ». ومنها الخوض في الباطل: قال الغزالي: وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال الناس ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراتبهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن ذلك مما لا يحل الخوض فيه، وهو حرام. قال: ويدخل فيه أيضًا الخوض في حكايات البدع والمذاهب الفاسدة وحكاية ما جرى من قبل الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم وذلك باطل والحديث فيه خوض في باطل، انتهى.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثر الناس خطأ يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل»، انتهى. ومنها: ابتداء الكافر بالسلام: وقد صرح النووي في الرياض بتحريمه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في / الطريق فاضطروهم إلى أضيقها». رواه مسلم. ومنها: لعن الدابة وغيرها من الحيوانات: وهو حرام، صرح به أيضًا في الرياض وغيره. ولو قيل إنه كبيرة لرجوع اللعنة إلى قائلها لم يبعد. لما رواه أبو داود عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا لعن شيئًا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينًا وشمالاً فإذا لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي لعن إن كان كذلك وإلا رجعت إلى قائلها». ومنها سب الأموات لغير مصلحة: مثل أن يكون مبتدعًا فيسب ببدعته تحذيرًا منه لأن لا يقتدي به، وسب الميت حرام. لما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا». ومنها تعليق الجرس على البعير وغيره من الدواب: وصرح في (الرياض) بتجريمه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصحب الملائكة رفقة معها كلب ولا جرس». رواه مسلم. ومنها التقعير في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال غريب اللغة ودقائق الأعراض من غير ضرورة: وهو من الكبائر لما ورد فيه من الوعيد الشديد. وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون، قالها ثلاثًا». رواه مسلم. المتنطعون: هم المبالغون في الكلام وغيره. وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، كما تخلل البقرة». وروى الترمذي وحسنه عن جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن

أبغضكم إلي، وأبعدكم عني مجلسًا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون». الثرثار: هو كثير الكلام تكلفًا. المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء شدقه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه. والمتفيهق: أصله من الفهق / وهو الامتلاء وهو الذي يملأ فاه بالكلام ويتوسع به تكبرًا وارتفاعًا، وإظهارًا للفضيلة على غيره. وروى الطبراني بأسانيد أحدها صحيح عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: كنت في أصحاب الصفة، ولقد رأيتنا وما منا إنسان عليه ثوب تمام، وأخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار والوسخ، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بشر فقراء المهاجرين إذا أقبل رجل عليه شارة حسنة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه ولا يأتي بكلام يعلو على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال: «إن الله لا يحب هذا وضربه يلوون ألسنتهم للناس لي البقرة بلسانها المرعى، كذلك يلوي الله ألسنتهم ووجوههم في النار».

ومنها وطء القبر والجلوس عليه: وذلك حرام؛ لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ». وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي على جمرة أو سيفٍ وأخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم». فرع: يكره الاستناد إلى القبر، نقله في زوائد الروضة عن الأصحاب، وجزم به في أواخر كتاب الجنائز من شرح مسلم بتحريم جميع ذلك. ومنها لبس الرجل الثوب المزعفر: وهو حرام؛ لما في الصحيحين عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل. ولمسلم عن ابن عمرو – رضي الله عنه – قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال أمك أمرتك بهذا؟ قلت: لا. قلت" أغسلهما. قال: بل أحرقها.

وفي رواية «أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما». وتقدم حديث عمار: «ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن يتوضأ». قلت: المزعفر حرام كما تقدم. ونقل البيهقي في سننه عن الشافعي أنه أباح المعصفر. قال: والصواب إثبات نهي الرجل عن المعصفر، للأحاديث الصحيحة فيه. وبه قال الحليمي: قال: ولو بلغت أحاديثه الشافعي لقال بها، وقد أوصى بالعمل بالحديث الصحيح. ومنها كثرة الضحك بلا سبب: كذا عدها بعض العلماء من الصغائر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه». رواه أحمد والطبراني / وانب حبان في صحيحه في حديث طويل. ومنها: أن تتطيب المرأة عند خروجها من بيتها: لما روى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين تنظر إليها فهي زانية».

ورواه بنحوه أبو داود والترمذي وصححه. وروى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه عن موسى بن بشار قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد. قال: وتطيبت؟ قالت: نعم. قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله من امرأة خرجت وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل». قلت: قد ذكر بعض العلماء أنها إنما أمرت بالغسل لتذهب ريحها، وهو حسن. وقد فهم ابن خزيمة من هذا الحديث وجوب الغسل عليها، ونفي قبول الصلاة إن لم تفعل. وفي هذا نظر: لأنه أراد بنفي القبول عدم الرضا بصلاتها وهي في هذا الحال، فهو متجه، كما في قوله «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا». وإن أراد عدم سقوط الصلاة من ذمتها، فذلك بعيد والله أعلم. ومنها أن يخرج المزكي الزكاة من شر ماله: وذلك حرام، صرح بتحريمه البيهقي وغيره لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267].

وروى أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك – رضي الله عنه – قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عصى، فإذا أقناء معلقة، منها قنو حشف فطعن في ذلك القنو وقال: ما ضر صاحب هذه، لو تصدق بأطيب من هذه، إن صاحب هذه ليأكل الحشف يوم القيامة». ومنها أن يصوم يوم الشك: وهو اليوم الذي يتحدث برؤية الهلال فيه من لا يثبت بقولهم من نساء وعبيد وفسقه إذا غلب على ظنه صدقهم وإلا فليس بشك سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة. لقول عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري تعليقًا. ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. ومنها ترجيح إحدى الزوجتين على الأخرى: وهو حرام، لما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده / امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط».

ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. ومنها: تخصيص أحد الأولاد بعطية دون أخوته: وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم جورًا. ومنها أن ينام على سطح لا تحجير له: ويحتمل أن يكون كبيرة لأنه تعريض النفس للهلاك. وروى أبو داود عن علي بن شيبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة». وروى الطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رقد على سطح لا جدار عليه فمات، فدمه هدر». وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه. وفيها أن ينام الرجل على وجهه من غير ضرورة: لما رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل مضطجع على بطنه فغمزه برجله وقال: إن هذه ضجعة لا يحبها الله عز وجل.

وروى ابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع على بطني فركضني برجله وقال: يا جنيدب إنما هذه ضجعة أهل النار. وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه ضجعة يبغضها الله». انتهى. ومنها أن يركب البحر عند هيجانه: ويحتمل أن يكون كبيرة لأنه عرض نفسه للهلاك. وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات عن زهير بن عبد الله قال: حدثني رجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بات فوق إجار أو فوق سطح ليس حوله شيء يرد رجليه، فقد برئت منه الذمة ومن ركب البحر عند ارتجاجه، فقد برئت منه الذمة». ومنها أن يرجع فيما وهب لغير ولده: لما روى أبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن ماجه عن ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للرجل أن يعطي الرجل عطية أو يهب هبة، ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد من قيئه».

وفي الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يعود في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله». ولفظ أبي داود: «العائد من هبته كالعائد من قيئه». قال قتادة: ولا نعلم القيء إلا حرامًا. واعلم- حفظنا الله وإياك من مهاوي الهلاكات، وأخذ بنواصينا / فيما يرضاه من الطاعات أن الصغائر لا يمكن حصرها إلا باستيفاء ما نص العلماء على تحريمه وذلك أمر لا مطمع من حصره. وقد ذكرنا للآن من ذلك جملة صالحة بأدلتها الصريحة فيها. ويأتي من ذلك في الباب السادس جملة أخرى داخلة فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم والله ولي التوفيق. تنبيه: واعلم- حفظنا الله وإياك من اجتراح الصغائر والكبائر ووفقنا لإصلاح البواطن والظواهر، وجعلنا من الفائزين بالنجاة يوم تبلى السرائر – أن الصغيرة تكون كبيرة بأمور منها الإصرار. وقد روى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قوله: «لا صغيرة مع الإصرار». وإسناده جيد. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب (التوبة) عن ابن عباس قوله: «كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة».

وفي رواية «لا صغيرة مع الإصرار». وروى في ذلك عن ابن عمر وغيره. وقد اختلف العلماء في حد الإصرار. فقال الشيخ أبو محمد عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكررًا يشعر بقلة مبالاته بذنبه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا أجمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر. انتهى. وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: المصر من تلبس من أضداد التوبة باستمرار العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في خبر ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا عظيمًا وليس لزمن ذلك وعدده حصرًا، انتهى. واعلم: أن مثل الإصرار على الصغيرة بالمداومة كمثل قطرات من الماء تقع على حجر متوالية فتؤثر فيه أثرًا ظاهرًا. ولو جمع القطر وصب على الحجر دفعة واحدة لما أثر. وقد تقدم في أول الفصل عدة أحاديث في أن المحقرات من الذنوب إذا اجتمعت على المرء أهلكته. ومنها استصغار العبد لها: لأن الذنب كلما استعظمه العبد صغره عفو الله تبارك وتعالى، وكلما استصغره العبد عظمه جلال الله تعالى. لأن استعظام المعصية يشعر بشهود القلب شيئًا من عظمة الله تعالى وجلاله وكبريائه ويدل على ندم وكراهة في القلب، واستصغار المعصية / يدل على قلة المبالاة بمن عصاه وعدم الاكتراث بشهوده ومخالفته. ولهذا جاء في البخاري عن ابن مسعود موقوفًا أو مرفوعًا «أن المؤمن يرى

ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال بيده هكذا». قال ابن شهاب: بيده فوق أنفه. وقال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر، قول العبد ليت كل شيء عملته مثل هذا وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، وانظر إلى كبرياء من واجهته بها. واعلم: أن كل من تحقق بشهود جلال الله وعظمته وتفكر في سعة إحسانه وعظم منته، ولاحظ ما أسبغه عليه من نعمته من غير استحقاق لشيء من ذلك لم ير قط صغيرة، بل كل مخالفة فهي عنده كبيرة، بالإضافة إلى عز الربوبية، ووجوب انقياد العبد بلازم العبودية لما ساء وسر من تفاصيل أحكامها وبهذا تعظم زلة العالم وغفلة العارف، لأن من خالف أمر سيده مع معرفته به وشدة بطشه واستيلاء قهره وعظمة اقتداره لا يكون كمن خالف مع جهله وعدم معرفته بصفات جلاله. اللهم عرفنا بك ووفقنا للقيام بأوامرك على قدم العبودية، والوفاء بحقيقة الأدب في الحركات والسكنات، يا من بيده مقاليد كل خير وهو على كل شيء قدير. ومنها: السرور بالصغيرة والفرح بارتكابها والافتخار بها، وشهود تمكينه منها نعمة، والغفلة عن كونها نقمة وسببًا للشقاء: مثل أن يقول: ظفرت بفلانة البارحة بعد طول امتناعها، وتعزيزها فعانقتها وقبلتها على رغم أنف الحسود. وخاصمني فلان فأظهرت مساوئه وفضحته على رءوس الأشهاد. وجلس فلان في صدر الحلقة فأقمته منه وجلست مكانه. وأغضبتني فلانة فطلقتها ثلاثًا ولم ألتفت إلى حيضها.

وكان فلان يخطب فلانة فأجابوه فلما خطبتها أعرضوا عنه ورغبوا إلي. وخزنت في سنة كذا وكذا غلة وكان بالغلاء، فكسبت فيها كذا. ولاقيت الركب إلى الموضع الفلاني فاشتريت منه كذا أو بعته بكذا، ومثل هذا الكلام. فمثل هذا يصير الصغيرة كبيرة. / ومثل هذا جدير أن يكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. ومنه: أن يستر الله عليه ذنبًا فيصبح يذكره عند غيره: وذلك جناية على ستر الله الذي أسدل عليه، وتحريكًا لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه، أو أشهده فعله، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته تغلظت بهما، فإن انضاف إلى ذلك ترغيب السامع في تلك المعصية وتحسينها له ومدحها عنده صارت جناية رابعة وتفاحش الذنب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول؛ يا فلان: قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه»، انتهى. فمن ستر الله قبيحه وأظهر جميله ولم يهتك ستره فخالف ذلك وأظهر ما ستر الله عليه، فقد بدل نعمة الله كفرًا. ومنها: أن يكون المذنب عالمًا يقتدي به من نظره فإن عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة

كان عليه وزره، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا». رواه مسلم. وروى أحمد والحاكم وصحح إسناده عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سن خيرًا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه [غير منتقص من أجورهم شيئًا] ومن سن شرًا فاستن به كان عليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئًا». وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل». وقال ابن عباس: ويل للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق. وقال بعضهم: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق وتغرق أهلها. فقد استبان لك أيها الأخ كما تضاعف حسنة العالم تضاعف سيئته إذا اقتدى به. فكم من رجل كان يحسن صلاته مدة سنين / فرأى عالمًا يسيء صلاته، ويتهاون بالطمأنينة فيها والخشوع، فترك ما كان عليه واقتدى بالعالم في ذلك واتخذه عادة ظنًا منه أن هذه الصفة تجزئ، وأن مثل هذا العالم لا يفعل إلا ما يجوز والنفوس قد طبعت على الميل إلى الراحة وإيثار الرخص، وإتباع الأيسر

من الواجبات، والنفور عن العزائم والتشديدات، فلو قيل له لم تسيء صلاتك؟ لقال وما نسبتي إلى العالم فلان، وقد رأيته يصلي كذلك، فإن كنت منكرًا فأنكر عليه فما أنا بأعلم منه ولا أدين منه، ونحو هذا الكلام. وقس على هذا جميع ما يصدر من المتلبسين بالعلم، فتجد ذلك أعظم الأسباب في جراءة الجاهلين على الذنوب وارتكابهم المعاصي، وقلة مبالاتهم بالمخالفات. وأشد ما في ذلك على العالم أن العاصي ربما كان يأتي المعصية مع استشعار الخوف والندم وغير ذلك من الأسباب التي تصغر تلك المعصية وإن كانت كبيرة، فإذا رأى العالم يفعلها صغرت في عينيه وهانت في قلبه وأتاها بإقدام وجراءة، فإن كانت صغيرة صارت بذلك كبيرة، وإن كانت كبيرة كانت فاحشة غليظة موبقة، وبعدت عليه التوبة منها لأنه يأتيها بنوع تأويل باطل يرجع إلى تقليد العالم فيها والاقتداء به، وإنما أتاها لعلمه أن فيها رخصة لا يعلمها الجاهل، وإثم جميع ذلك على العالم الذي اقتدى به في الضلال، وإقامة مقام إبليس في الإضلال. ومثل هذا العالم يجب عليه فيما يرتكبه أمران: أحدهما: ترك الذنب. والآخر: إخفاءه عمن يقتدي به فيه. فكل هذه الأمور وأشباهها مما تعظم به الصغائر وتنتقل إلى رتب الكبائر. فيجب على مرتكبها إن لم يوفق للتوبة منها أن يحترز عما تنظم به، ولا يغفل عن عظمة من عصاه، ويشكر مولاه على ستر الجميل في مخالفته وحلمه عليه في عصيانه، ويتلبس أبدًا بالندم والانكسار ويتوقع التوبة والعفو بشهود الفاقة والافتقار، ويتطهر ما أمكنه عن الذنوب أجمع فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

6 - الباب السادس في ذكر أمور نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم

الباب السادس في ذكر أمور نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم في الكبائر والصغائر جملة مما نهى عنه صلى الله عليه وسلم. وها أنا أذكر / في هذا الباب جملة صالحة على سبيل الإيجاز. لأن كل فعل نهى عنه صلى الله عليه وسلم فهو دائر بين الكراهة والتحريم، وهو الأغلب وقد خص قوم الصغائر بالمحرمات، وهو أكثر مما تقدم لنا ذكره. والذي يسكن إليه القلب، أن كل من أتى فعلاً نهى عنه صلى الله عليه وسلم فقد أتى معصية لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فآتوا منه ما استطعتم». فإذا اقترن بنهيه لعن أو وعيد شديد فهو كبيرة، وإلا فهو صغيرة. وكما أن القسم الأول يشتمل على كبيرة وأكبر منها، كذلك القسم الثاني يشتمل على صغيرة وأصغر منها. هذا ما ظهر لي والله أعلم. فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من استيقظ من نومه من

غمس يده في الإناء قبل غسلها ثلاثًا. وعند الإمام أحمد ومن تابعه: أنه متى غسلها في ماء دون قلتين سلبه الطهورية. ولذلك فروع مذكورة في كتب الفقه. ونهى عن قضاء الحاجة تحت شجرة مثمرة. أو في جحر. أو مهب ريح. أو في ماء راكد. أو في المغتسل. أو في طريق الناس وظلهم ومواردهم ومتحدثهم وتقدم شيء من ذلك. ونهى أن يبول الرجل قائمًا. وفي فتاوى القاضي حسين: إذا اعتاد الرجل البول قائمًا والبول في الماء ترد شهادته. وهذا يدل على أن ذلك صغيرة محرمة، والله أعلم.

وأن يستقبل الشمس والقمر. وأن يمس ذكره بيمينه حال البول، وأن يستنجي بيمينه. أو بروث أو عظم. ونهى أن يمتشط الإنسان كل يوم. ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جارٍ. رواه أحمد من حديث ابن عمر. وأن يتطهر بفضل طهور المرأة. وعند الإمام أحمد ومن تابعه: أن المرأة إذا تطهرت من الماء خالية به لا يجوز للرجل أن يتطهر بفضلها، لأن خلوتها في استعمال الماء تسلبه الطهورية في حق الرجل وله فروع مذكورة في كتبهم. ونهى عن الإسراف في ماء الطهارة وإن كان على جنب نهر.

ونهى عن الاغتسال في الصحراء إلا أن لا يجد متورى فيخط خطًا كالدائرة ويغتسل فيها. ونهى عن الاغتسال وليس قربه إنسان يكلمه. كذا جاء النهي عنهما في مراسيل أبي داود. ونهى أن يؤذن الإنسان على غير وضوء. رواه الترمذي والبيهقي في السنن. وفي كراهته ذلك خلاف. ونهى أن يأتي / الإنسان الصلاة وهو يسعى بل يأتيها وعليه السكينة. ونهى أن يقوم الناس للصلاة قبل أن يروه صلى الله عليه وسلم. ويقاس على هذا الإمام: فإذا أقيمت الصلاة فلا يقوموا حتى يروه، فإن كان حاضرًا فلا يقوموا حتى تفرغ الإقامة هذا مذهب الشافعي. ونهى عن الالتفات في الصلاة في جملة من الأحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم لأنس: «يا بني، إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكه». رواه الترمذي وحسنه. وروى احمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه،

والحاكم وصحح إسناده. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه». وروى الطبراني عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قام في الصلاة فالتفت ردت عليه صلاته». والأحاديث في ذلك كثيرة. ونهى عن مسح مكان السجود في الصلاة. وروى ابن خزيمة في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة؟ فقال: واحدة، وإن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق». ونهى عن وضع اليد على الخاصرة في الصلاة، جاء ذلك في الصحيحين. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الاختصار في الصلاة راحة أهل النار». ونهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء. وقد جاء فيه وعيد شديد ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم. فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم». وروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم». ونهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة وفي قارعة الطريق وفي الحمام ومسلخه مثله على الأصح وعلى ظهر الكعبة، وفي عطن الإبل، وفي المقبرة. ونهى عن القراءة في الركوع والسجود. ونهى عن الإقعاء في الصلاة. قال أبو عبيد: هو أن يلصق إليته بالأرض / وينصب ساقه ويضع يديه بالأرض. ونهى عن اشتمال الصماء. وهو أن يلتف في ثوب ليس عليه سواه، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه، فربما يبدو فرجه. كذا فسره الفقهاء.

قال الأصمعي وغيره: هو أن يتجلل الرجل بثوبه، فلا يرفع منه جانبًا، وإنما قال صماء لأنه إذا اشتمل بها سد يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس لها خرق ولا صدع. ونهى عن الاحتباء في ثوب واحد. لأن فرجه يبقى مكشوفًا منه جهة السماء. ونهى عن أن يصلي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيئًا. ونهى عن السدل في الصلاة. قال أبو عبيد: والسدل في الصلاة إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بدل بسدل. وقال الغزالي: مذهب أهل الحديث هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخله فيركع ويسجد كذلك، وكان هذا فعل اليهود في صلاتهم، فنهوا عن التشبه بهم، والقميص في معناه، ولا ينبغي أن يركع ويسجد ويداه في بدن

القميص، وقيل معناه: أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه، والأول أقرب. انتهى. ونهى عن كفت الثوب والشعر في الصلاة: وهو كفهما. قال النووي: اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر أو كمه أو نحوه. أو رأسه معقوص ومردود [شعره] تحت عمامته. ونحو ذلك. وكل ذلك منهي عنه باتفاق العلماء وهو كراهة تنزيه. قال العلماء: والحكمة في النهي أن الشعر يسجد معه. ونهى أن يسبق المأموم الإمام بآمين. فقال يا بلال لا تسبقني بآمين. رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما. ونهى عن الصلب في الصلاة. وهو أن يضم يديه على خاصريه ويجافي بين عضديه في الصلاة. ونهى عن صلاة الحاقن!

فروى أبو داود وغيره. «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حاقن». وروى النهي عن صلاة الحازق: وهو صاحب الخف الضيق. والنهي عن تفقيع الأصابع في الصلاة. ونهى عن تشبيك الأصابع في الصلاة. ونهى عن التطبق في الركوع. وهو أن يلاقي بين أصابعه من الكفين ثم يجعلهما تحت ركبتيه إذا ركع. ونهى عن أن يغطي فاه في الصلاة لغير تثاؤب. وسواء كان بيده أو لثامه. ونهى عن التثاؤب في الصلاة. فإن غلب فليمسك بيده على فيه / لئلا يدخل الشيطان.

ونهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب وعند الاستواء. واستثنى الشافعي رحمه الله ما إذا كان للصلاة سبب أو كان بمكة ووقت الزوال يوم الجمعة ونهى أن يصل الإنسان الجمعة بصلاة بل يفصل بينهما بكلام ونحوه. ونهى أن يصلي ويقرأ وهو نعسان. ونهى من استيقظ من الليل وعزمه الصلاة أن يأكل أو يشرب قبل أن تفرغ نهمته من صلاته. ونهى أن يجلس الداخل في المسجد قبل أن يركع ركعتين. ونهى أن يصف بين سوار المسجد من أجل قطع الصف. ونهى المرأة إذا شهدت العشاء في المسجد أن تمس طيبًا. ونهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب لأنها تجلب النوم فيفوت سماع الخطبة. ونهى أن يصلي الوتر كالمغرب ثلاثًا من غير فصل:

رواه الدارقطني في سننه وصححه. ونهى أن يضع الإنسان يده اليسرى خلف ظهره ويتكئ على إلية يده. وروى أبو داود عن الشريد بن سويد قال: «مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا قد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على إلية يدي فقال: اتقعد قعدة المغضوب عليهم». ونهى أن يجلس بين الظل والشمس. فقيل لئلا يتأذى بالشمس. وقيل أراد العدل في الجسد. كما نهى عن المشي في نعل واحدة. عدلاً بين الرجلين. والذي يظهر أن ذلك يضر من حيث الطب، وأن النهي لذلك كما نهى عن الوضوء بالماء المشمس. وقد روى له علة أخرى ينبغي المصير إليها. وهو ما رواه أحمد بإسناد جيد عن أبي عياض عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يجلس الرجل بين الضح والشمس وقال: إنه مجلس الشيطان. قال ابن الأعرابي: الضح لون الشمس.

ونهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ونهى من عرض عليه طيب أو ريحان أن يرده. وفي معناهما كل ما يقصد من طيب ريحه. ونهى عن سب الريح. ونهى عن سب الديك. وقال: «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة». رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وغيرهم. وروى النهي عن سب البرغوث. رواه أبو يعلى والبزار والطبراني عن جماعة / من الصحابة.

ونهى أن يقدم الرجل على أرض فيها الوباء اختيارًا ويخرج منها فرارًا. ونهى عن سب الحمر. ونهى عن تجصيص القبر وأن يكتب عليه وأن يبنى عليه. ونهى عن الذبح عند القبر. رواه أبو داود بلفظ «لا عقر في الإسلام». قال عبد الرزاق في معناه، «كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة». ونهى عن الجذاذ والحصاد بالليل. رواه البيهقي في سننه. وقال جعفر – يعني ابن محمد – أراه من أجل المساكين. ونهى أن يتصدق بشيء ثم يشتريه. ونهى أن يتقدم الرجل شهر رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صومهما له عادة. ونهى عن إنشاء الصوم بعد النصف من شعبان «إلا أن يوافق عادة أو صومًا قبله».

ونهى عن إفراد الجمعة بالصوم وكذا السبت. ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. لأنه يضعف عن الدعاء. ونهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها. ونهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد. رواه أبو داود. ونهى عن ركوب الجلالة. ونهى عن إطالة الوقوف على الدابة من غير حاجة. رواه أبو داود. وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلوها». ذكره أبو عبيد في كتاب الخيل عن الوضين بن عطاءه معضلاً. ونهى أن يسافر الرجل وحده: وقال «الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب». رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، وابن خزيمة في صحيحه. وصرح بأن ما دون الثلاثة من المسافرين عصاة واستدل بهذا الحديث. وفي صحيح البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في

الوحدة ما سار راكب بليل وحده أبدًا». ونهى عن التعريس على جوار الطريق «والصلاة عليها» فإنها مأوى الحيات والسباع. رواه ابن ماجه بإسناد جيد. وروى مسلم معناه. ونهى أن يقد السير بين إصبعين. رواه أبو داود في كتاب الجهاد من سننه في باب النهي أن يتعاطى السيف مسلولاً. ونهى أن يقول من عثرت دابته تعس الشيطان. وروى النسائي وغيره عن أبي المليح عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعثر بعيرنا فقلت: «تعس الشيطان». فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت ويقول صرعته بقوتي ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذباب». ورواه احمد بإسناد صحيح والحاكم وصحح إسناده ولم يسم الصحابي. «ونهى أن يطرق المسافر أهله ليلاً حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة».

وجاء النهي عن التشبه باليهود والنصارى في السلام. فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى بالأكف. ورواه الترمذي. وجاء النهي أن يمشي في المساجد والأسواق بالقمص إلا وتحتها الأزر. رواه الطبراني. ونهى عن الغضب وأكد فيه النهي. وروى الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: «لا تغضب ولك الجنة». ونهى عن كثرة الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس إلى الله القلب القاسي. رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه وحسنه. وروى أبو الشيخ في (الثواب) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه». وروى الترمذي بإسناد رجاله ثقات عن أنس رضي الله عنه قال: «توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع أبشر بالجنة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو لا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه».

ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب (الصمت) وأبو يعلى. إلا أنهما قالا: قال أنس رضي الله عنه استشهد رجل منا يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئًا لك يا بني الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ما لا يضره».

1 - فصل ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. وفيه مسائل كثيرة: كبيع الآبق، والمجهول، والسمك في الماء، واللبن في الضرع، ونحو ذلك وهو مبسوط في كتب الفقه. ونهى عن بيع ما ليس عنده. فقيل: عنى به الغائب. وقيل: ما لا يملكه يشتريه فيسلمه. ونهى عن بيع اللحم بالحيوان. ونهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصاعان. ونهى عن بيع الصبرة لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر. ونهى عن شراء الغنائم حتى تقسم. ونهى عن شري الصدقات حتى تقبض.

ونهى عن بيع الكاليء بالكاليء. وهو بيع الدين المؤخر بالدين. ونهى عن بيع حبل / الحبلة: بأن يبيع بثمن إلى نتاج النتاج. وقيل: هو بيع نتاج النتاج، قاله أبو عبيد. ونهى عن بيع الملاقيح: وهو ما في بطون الأمهات من الأجنة. ونهى عن بيع المضامين: وهي ما في أصلاب الفحول. ونهى عن بيع الملامسة:

وهي أن يلمس ثوبًا مطويًا ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه. وقيل: هو أن يقول فهو مبيع لك وإذا لمسته انقطع الخيار. ونهى عن بيع المنابذة: وهو أن يجعل النبذ بيعًا. وفيه الخلاف في المعاطاة فإن المنابذة مع قرينة البيع هي نفس المعاطاة. ونهى عن بيع الحصاة. بأن يقول بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه هذه الحصاة أو من الأرض إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. أو يجعل الرمي بيعًا أو يجعل له الخيار إلى رميها. ونهى عن بيعتين في بيعة. بأن يقول بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بكذا أو تشتري مني داري بكذا. أو بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة فخذه بأيهما شئت أو شئت.

ونهى عن بيع الطعام المبيع قبل قبضه: ونقل الإجماع على بطلانه. ونهى عن بيع الصوف على الظهر أو السمن في اللبن: وهو من أنواع الغرر المتقدم. ونهى عن بيع الطلب وتقدم. ونهى عن بيع الهرة: فقيل: هي الوحشية إذ ليس فيها منفعة استئناس ولا غيره. ونص الشافعي رحمه الله على صحة بيع الأهلية. ونهى عن بيع المحاقلة: وهو بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية. ونهى عن بيع المذابنة: وهي أن يبيع رطب حائطة بتمر كيلاً، وعنبه بزبيب كيلاً سواء كان على الشجر أو مقطوعين. ونهى عن بيع المجر.

وهو ما في الرحم. ونهى عن بيع الولاء وهبته. ونهى عن بيع السنين: وهو بيع ثمرة النخل سنين أو بيعه سنة فإذا انقضت فلا بيع فترد إلى المبيع وأرد إليك الثمن. ونهى عن بيع العربان: ويقال العربون. وهو أن يدفع إليه دراهم على أنه إن أخذ السلعة فهي من الثمن وإلا فهي للمدفوع إليه أو يدفعها لمن يصنع له شيئًا فإن رضيه فهو من الثمن وإلا فهي للصانع. ونهى عن بيع العنب قبل أن يسود. والحب قبل أن يشتد. والثمار قبل أن يبدو إصلاحها وتنجو من العاهة.

ونهى عن بيع السلاح لأهل الحرب. ونهى عن بيع وشرط. فإن كان الشرط فاسدًا فسد العقد في الأصح. ومحل تفصيله هذا وفروعه كتب الفقه. واعلم أن البيع في جميع ما ذكرناه من أول / الفصل حرام والعقد فاسد وأنه إذا اشترى شيئًا شراء فاسدًا. إما بشرط فاسد أو بسبب آخر لا يملكه بالقبض ولا ينفذ تصرفه فيه ويلزمه الرد ومؤنته. وليس له حبسه لاسترداد الثمن، ولا يتقدم به على الغرماء على المذهب وعليه أجرة المثل للمدة التي كان في يده إلى غير ذلك من الفروع المذكورة في كتب الفقه. ولا اعتبار بتراخيهما على ذلك والله أعلم. وروى النهي أن تكسر الدراهم فتجعل فضة، أو الدنانير فتجعل ذهبًا إلا أن يكون بهما عيب. رواه أبو داود، وابن ماجه، وفي سنده ضعف، وتقدم في الكبائر. وجاء النهي عن قص نواصي الخيل ومعارفها وأذنابها. رواه أبو داود عن شيخ من بني سليم عن عقبة بن عبد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء النهي أن ينتعل الرجل وهو قائم. وقال إني أخاف أن يحدث به داء لا دواء له. ونهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة إذا حدث بالأخرى ما يمنع المشي فيها بل يخلعها جميعًا.

2 - فصل وقد ذكر الإمام العارف أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب جمعه في المناهي أشياء لم نذكرها فيما تقدم وبعضها غريب. فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع النخلة الحاملة. ونهى عن الخذف بالبندق. ونهى عن اللعب بالحمام. ونهى عن الجمع على الشراب. قال فلعله من أجل أن ذلك تشبه بأهل الفسق. ونهى عن نكاح ابنتي العم من أجل القطيعة. ونهى عن تعليق التمائم: قال: هو الذي يعلق خرزة كي لا تصيبه الآفة، وخرزة كي تذهب عنه الحمى، وخرزة لداء كذا، وإن العبد إذا اتكل على شيء، وكله الله إليه وخذله وأعطاه مناه استدراجًا. فقد كره العلماء كل شيء يعلق، وكل شيء يعقد مثل: الوتر والأعواد التي

تقطع فيمسكها الإنسان للقروح والحديد والفولاذ الذي يجعل في العضد كي لا تصيبه آفة الجن، فهذا وأشباهه غواية الشيطان. ومن اجل هذا كره العلماء كثيرًا التعويذات والعزائم، انتهى. قلت روى أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من علق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له». ورواه الحاكم أيضًا وصحح إسناده. وفي لفظ لأحمد: من علق فقد أشرك. ورواته ثقات. وروى أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة – أراه قال من صفر – فقال: ويحك ما هذه؟ قال من الواهنة. قال: «أما لأنها لا تزيدك إلا وهنًا انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا». والأحاديث في هذا كثيرة. وقالت عائشة: ليس التميمة ما تعلق بعد البلاء إنما التميمة ما تعلق قبل البلاء.

ونهى عن الجمع عند صاحب الميت. ونهى عن إتباع النساء الميت. قلت: هو في الصحيحين. ونهى أن يقعد الرجل في بيته للمصيبة ثم يؤتى فيعزى. قلت نص الشافعي رحمه الله وأصحابه على أنه يكره أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية بل ينبغي أن يتصرفوا في حوائجهم ولا فرق في كراهة ذلك بين الرجال والنساء. ونهى عن النظرة الثانية: قلت رواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث بريدة. ونهى عن الطيرة. قلت: وقال صلى الله عليه وسلم «الطيرة شرك». رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود.

ونهى عن حضور اللعب وحضور الباطل. ونهى عن إجابة الفاسقين ومجالستهم ومحادثتهم. ونهى عن مجالسة الدعي ومواكلته ومحادثته. قال وهو الذي يدعى إلى غير أبيه والمنتمي إلى غير مواليه. ونهى عن تعليم الصبيان الغناء وعن تعليم المغنيات وعن ثمن المغنية وعن أجرة المغنية. ونهى عن بيع العلم وثمنه. قال الله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} يعني الدنيا {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. ونهى عن لبس القسي: قال: والقسي ثياب حمر كالأرجوان. ونهى أن تخرج المرأة من بيت زوجها بغير إذنه. فإن خرجت بغير إذنه لعنها كل ملك في السماء وكل شيء تمر عليه إلا الإنس والجن.

قلت رواه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز. وخروجها من بيته بغير إذنه حرام عليها. ونهى عن أن تتزين المرأة لغير زوجها. فإن فعلت كان حقًا على الله تعالى أن يحرقها بالنار. ونهى أن تتكلم المرأة مع غير زوجها أو ذي رحم محرم إلا خمس كلمات فيما لابد منه. ونهى عن بيع القردة. ونهى عن بيع الشطرنج وعن اللعب به، وقال هو كأكل لحم الخنزير. قلت: قالت العلماء لا يثبت في الشطرنج / حديث. وتقدم حكمه والله أعلم. ونهى أن يضرب الرجل خده أو خد غيره. فإن الله تعالى أكرم الآدمي بصورته. ونهى أن ينتفع بعظام الفيل. ونهى أن يبال في الإناء الذي ينتفع به.

ونهى أن يجامع الرجل امرأته مستقبل القبلة. ونهى أن يجامع الرجل امرأته وقد خرج من الخلاء حتى يتوضأ. قال فهذا تأديب وخليق أن يكون الشيطان معه حين خرج من الخلاء فإذا توضأ تباعد منه ألا ترى أنه يؤمر أن يقول إذا دخل الخلاء أعوذ بالله من الشيطان الرجس النجس المخبث. ونهى أن يشاب لبن لبيع. ونهى أن يتعاطى السيف مسلولاً. وقال: ليغمده ثم يناوله. رواه أبو داود. ونهى أن يسل السيف في المسجد. ونهى أن يمر بالنبل في المسجد. ونهى أن يجامع الرجل المرأة وعنده أحد حتى الصبي في المهد. قال: وذكر الصبي في المهد حسم للباب وإلا فالصغير لا نعلم به بأسًا إذا لم يعقل. ونهى أن تحد الشفرة والشاة تنظر.

ثم روي عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الشفار وأن توارى عن البهائم. قلت: رواه من طريق ابن لهيعة ومنها خرجه ابن ماجه. وروى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل واضع رجله في صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلخط إليه ببصرها قال: أفلا قبل هذا أو تريد أن تميتها موتًا. رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري إلا أنه قال أتريد أن تميتها موتتان قبل أن تضجعها، هل أحددت شفرتك قبل أن تضجعها. ونهى أن يقال مات فلان فأشهدوه وأن ينعي في القبائل: قال: من أجل أن هذا فعل الجاهلية. ونهى عن الحجامة يوم الأربعاء ويوم السبت: وقال من فعل ذلك وأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه. قلت: رواه أبو داود عن معمر. مرسلاً. وقال قد أسند ولا يصح.

ونهى عن البزاق في البئر يشرب منه. انتهى ما ذكرته من مؤلف الترمذي رحمه الله تعالى. ونهى أن يتمنى الإنسان الموت لضر نزل به. رواه البخاري. ونهى أن يزاد على القبر يعني غير ترابه. رواه أبو داود. وجاء النهي عن أن يتخذ المسجد طريقًا أو يشهر فيه سلاح أو ينبض فيه بقوس أو ينثر فيه نبل أو يمر فيه بلحم نيء أو يضرب فيه حد أو يقتص فيه من أحد. وروى ذلك كله ابن ماجه من حديث ابن عمر. ونهى أن يقول الإنسان نسيت آية كذا وسورة كذا بل يقول: أنسيتها. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود. وجاء النهي عن / أن يتبع الإنسان بصره الكواكب إذا نقضت وعن أن يشار إلى البرق باليد. خرجه أبو موسى الأصبهاني في الصحابة، من حديث أبي عويمر الأسلمي. رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة عن ابن مسعود مرفوعًا. ونهى عن حني الظهر حال السلام.

ونهى أن يسمي الرجل غلامه يسارًا أو رباحًا أو نجاحًا أو أفلح. ونهى عن تسمية بركة. رواه أبو داود عن جابر مرفوعًا. وجاء النهي عن أن يسمي الإنسان أباه باسمه أو يجلس قبله أو يمشي أمامه. رواه ابن السني في كتابه. ونهى عن التكني بأبي القاسم. ومذهب الشافعي أن ذلك لا يحل. ومذهب مالك يجوز. وجعل النهي خاصًا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقع الاشتباه حال النداء ونحوه. ونهى أن يمازح الرجل أخاه. رواه الترمذي من حديث ابن مسعود. ونهى أن يظهر الإنسان الشماتة لأخيه. وقال لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك. رواه الترمذي من حديث واثلة، وحسنه. ونهى أن يقول الإنسان خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي. رواه البخاري.

قال الخطابي لقست وخبثت بمعنى واحد وإنما كره لقط الخبث وعلمهم الأدب في استعمال الحسن منه. ونهى أن يسمى العنب الكرم. رواه البخاري ومسلم. ونهى أن يقول الإنسان ما شاء الله وشاء فلان بل يقول ما شاء الله ثم شاء فلان. رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي معناه أنا مستجير بالله وبك، ومتوكل على الله وعليك، ولولا الله وفلان ما كان كذا، وتحو هذا الكلام. والكل مكروه. ونهى أن يقال للمنافق يا سيدي. وقال: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يكن سيدًا فقد أسخطتم ربكم». رواه أبو داود بإسناد صحيح والحاكم وصحح إسناده. إلا أنه قال إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه. قلت: وفي معنى المنافق الفاسق والظالم والمتهم في دينه. ونهى أن يقول الرجل عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي. رواه البخاري ومسلم.

مسالة: قال النووي رحمه الله: قال الإمام أبو جعفر النحاس في كتاب صناعة الكتاب: لا نعلم اختلافًا بين العلماء أنه لا ينبغي لأحد (أن يقول لأحد) من المخلوقين مولى. مسألة: وقال النحاس: يكره أن يقول اجلس على اسم الله، وليقل اجلس / باسم الله وحكي عن بعض السلف أنه يكره أن يقول الصائم وحق هذا الخاتم الذي على فمي واحتج له بأنه إنما يختم على أفواه الكفار. قال النووي: وإنما حجته أنه حلف بغير الله عز وجل، انتهى. ونهى أن تخبر امرأة زوجها بحسن بدن امرأة أخرى. فقال لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها. وجاء النهي أن يقال قوس قزح ولكن يقال قوس الله. ونهى أن تسمى العشاء العتمة. ونهى أن يسأل الرجل فيما ضرب امرأته. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمر. ونهى أن يدعو الإنسان على نفسه أو ولده أو خادمه أو ماله.

فقال لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعو على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقون من الله ساعة يسأل فيها عطاءٌ فيستجيب لكم. رواه مسلم وأبو داود. ونهى أن يقول الإنسان لو كان كذا ما كان كذا. فقال لا تقولوا لو فإن لو تفتح عمل الشيطان. ونهى عن القزع: وهو أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه. ونهى عن الإختصاء: وهو حرام شديد التحريم. وفي معناه ما تفعله الحيدرية المبتدعة، من خرق الذكر، وتعليق الحديد فيه. وهي بدعة شنيعة محرمة يجب على كل قادر المنع منها وإنكارها ما استطاع. وجاء النهي أن يتزوج المرأة لحبسها أو مالها. رواه ابن ماجه وغيره. والترغيب في ذات الدين ثابت في الصحيحين. وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزوجوا النساء على قرابتهن، فإنه يكون من ذلك القطيعة».

خرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث [عيسى بن] طلحة. ونهى أن يتزوج الرجل امرأة لا تلد. رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده من حديث معقل. ونهى أن تنكح الأمة على الحرة: رواه البيهقي عن الحسن مرسلاً. وجاء النهي عن ستر الجدران بالثياب. رواه البيهقي في سننه. ونهى عن طعام المتبارزين أن يؤكل. والمتبارزان هما المتحاربان المتفاخران. ونهى أن يؤكل من وسط القصعة فإن البركة تنزل في وسطها. رواه الترمذي وصححه. ونهى عن مسح اليد من الطعام حتى يلعقها أو يلعقها. رواه مسلم.

ونهى عن القران بين التمر في الأكل إلا أن يستأذن رفيقه. ونهى عن الشرب من في السقاء. وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، وإن رجلاً بعدما نهى النبي صلى الله عليه وسلم / عن ذلك قام من الليل إلى سقاء فاختنثه فخرجت منه حية. ومعنى اختنثه أي كسر فمه إلى خارج ثم شرب منه. وروى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء. وقال إنه ينتنه. ونهى عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب. رواه أبو داود وابن حبان. ونهى أن يتنفس في الإناء حال الشرب. فإن أبانه عن فيه ثم تنفس فلا بأس. ونهى عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال.

قال الشيخ شمس الدين ابن القيم والصحيح تحريم ذلك. ونهى عن الشرب قائمًا. وصح أن يشرب قائمًا. فقيل النهي منسوخ. وقيل إنما فعله بيان للجواز لئلا يعتقد تحريمه. وقيل إنما فعله للحاجة. قال ابن القيم: وهو أصح. ونهى عن التختم في الوسطى والسبابة. رواه مسلم. ونهى عن نتف الشيب. فقال: لا تنتفوا الشيب فإنه نور يوم القيامة من شاب شيبة كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة. رواه ابن حبان في صحيحه. وروى أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنتفوا الشيب «فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة».

ونهى من دخل عليه العشر وأراد التضحية أن يأخذ شيئًا من شعره وظفره. ونهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. ونهى عن تمني لقاء العدو. ونهى عن التداوي بالخمر. ونهى عن الكي. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كوى سعد بن معاذ وغيره؛ فقيل النهي على الكراهة. وقيل إنما نهى عن كي الصحيح خوف نزول الداء وأما فعله بعد وجود الداء فتركه أفضل لمن قوي توكله. وفعله جائز والله أعلم. ونهى عن قتل الضفدع. رواه أبو داود والنسائي. ونهى عن الجلوس إلى القبور والصلاة إليها. رواه مسلم. ونهى عن إكراه المرضى على الطعام والشراب.

وقال: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه. ونهى أن يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه. رواه البخاري ومسلم. ونهى عن التحريش بين البهائم. رواه أبو داود وغيره من حديث / ابن عباس رضي الله عنه. ورواه أبو يعلى من حديثه أيضًا إلا أنه قال: «لا تحرشوا بين البهائم فإنها أمة من الأمم هلكت في ذلك». قلت: وهو ما يفعله السفهاء من مناقرة الديكة، ومناطحة الكباش، والبقر، ونحو ذلك. ونهى أن يسأل الإنسان الإمارة. وفي معناه القضاء وغيره من المناصب. ونهى أن يقضي القاضي وهو غضبان. ونهى أن ينظر الإنسان إلى من فوقه في الدنيا لئلا يزدري نعمة الله عليه

وأمر أن ينظر إلى من هو دونه ليعرف نعمة الله عنده. ونهى عن وطئ السبايا حتى يلدن. صححه الحاكم وغيره من حديث العرباض. ونهى عن المثلة. ونهى عن قتل النساء والولدان في الجهاد. ونهى عن تفرق الجيش إذا نزلوا. ونهى عن بيع المغانم حتى تقسم. صححه الحاكم من حديث ابن عباس. ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية. ونهى أن يساكن المشركون أو يجامعوا. قال «من ساكنهم أو جامعهم فليس منا». رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري. ورواه الطبراني من حديث سمرة. إلا أنه قال:

فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم. ونهى عن التبتل: وهو ترك النكاح. ورواه الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ. لا صرورة في الإسلام. وقال: صحيح على شرط البخاري. ونهى عن تأخير الصلاة إذ أتت والجنازة إذا حضرت وعن تأخير الأيم إذا وجدت كفوًا. أخرجه الحاكم أيضًا. وصحح إسناده. ونهى عن الشغار. وهو أن يزوج الرجل ابنته الرجل على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. وهو باطل عند الشافعي وأحمد.

ونهى المقرض عن أن يقبل هداية المقترض. ونهى عن أخذ ضآلة الإبل. ونهى عن الشرب في الدباء والختم والنقير والمزفت. وقد اختلف العلماء في نسخه على قولين وهما روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل. ونهى عن رد السائل خائبًا. فقال لأم بجيد لما قالت له يا رسول الله إن المسكين ليقوم فما أجد له شيئًا أعطيه فقال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجدي إلا ظلفًا محرقًا فادفعيه إليه. رواه ابن حبان والترمذي وصححه وابن خزيمة. وزاد في رواية «لا تردي سائلك ولو بظلفك»، انتهى. والظلف للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس. وهذا من باب المبالغة والتأكيد. ونهى عن رد الوسائد: فقال لا تردوا الوسائد إذا أكرمتم بها.

رواه الترمذي من حديث ابن عمر. ونهى عن التلثم في سبيل الله من الغبار: / فقال: لا تلثموا في سبيل الله فإنما غبار سبيل الله نثار مسك الجنة. رواه أبو الشيخ في (الثواب) من حديث أبي الدرداء. وقد روى أبو داود في المراسيل معناه من حديث ربيع بن زياد. ونهى عن طاعة ولاة الأمور في معصية الله عز وجل: وقال إنما الطاعة في المعروف. ونهى عن أكل ما وجد غريقًا في الماء من الصيد. ونهى عن أكل صيد كلب خالط كلابًا غير كلب صائده. ونهى أن يدع الإنسان لقمته إذا سقطت وأمر بأكلها. وروى النهي عن النوم قبل طلوع الشمس وعن ذبح ذوات الدر. رواه أبو يعلى من حديث علي بن أبي طالب. وروى النهي عن سب الأرض. فقال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الأرض فإنها أمكم.

رواه صاحب الفردوس من حديث معاذ بن جبل. وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الأئمة فإنهم نقمة وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم صلاح لكم». رواه الطبراني من حديث أبي أمامة. وروى انه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن هو عليها تبلغه الجنة وبها ينجو من النار». أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه يعارض هذا». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا السلطان فإنه فيء الله في أرضه». ويروى «فإنه ظل الله في الأرض». خرجه أبو الشيخ في الثواب من حديث أبي عبيدة بن الجراح. وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن رد شربة العسل على من أتى بها. خرجه أبو منصور. وروى النهى عن رد الهدية.

رواه أبو يعلى من حديث ابن مسعود. وروى انه صلى الله عليه وسلم قال «لا تسبوا الضفدع فإن صوته الذي تسمعون التقديس والتسبيح إن البهائم استأذنت ربها في أن تطفئ النار عن إبراهيم فإذن للضفدع فتراكبت عليه فأبدلها الله بحر النار الماء». رواه صاحب الفردوس ولم يخرجه ابنه في مسنده. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الليل والنهار ولا تسبوا الشمس والريح، فإنها رحمة لقوم وعذاب لآخرين». رواه الطبراني من حديث جابر. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشموا الخبز كما تشمه السباع». رواه صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمشمشوا عظام الطير فإنه يورث السل». رواه صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده. وقال في مسنده: المشاش العظام اللينة يمكن مضغها ومسها. والسل مرض / ينقص لحم الإنسان بعد سعال ومرض. انتهى. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخللوا بالقصب فإنه يورث الآكلة فإن كنتم لابد فاعلين فاقشروا قشره الأعلى». رواه صاحب الفردوس أيضًا ولم يخرجه ولده.

بل طرح بسنده حديث قبيصة بن ذويب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخللوا بقصب يابس ولا قصب ريحان فإني أكره أن يحرك عروق الجذام». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات». رواه الطبراني من حديث أبي موسى. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغمضوا أعينكم في السجود فإنه من فعل اليهود». خرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتوضؤا في الكنيف الذي تبولون فيه فإن وضوء المؤمنين يوزن مع الحسنات». خرجه أبو منصور أيضًا من حديث أنس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستشيروا أهل العشق فليس لهم رأي وإن قلوبهم مخترقة وفكرهم متواصلة وعقولهم مسلوبة». خرجه أبو منصور أيضًا من حديث أنس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ولا تنقشوا خواتمكم عربيًا». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس.

ومعناه لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. ولا تنقشوا على خواتمكم عربيًا يعني محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ذلك الحسن البصري وقال: لقيتني ضرب السراج مثلاً للرأي في الحيرة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا المنديل الذي تمسحون به أيديكم من الغمر في بيتكم الذي تبيتون فيه ولا القمامة التي قمت من النهار فإنها مقعد الشيطان». ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده. والمراد بالغمر: ما يكون في اليد من ريح الطعام والزفر. والمراد بالقمامة: الكناسة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشعر الذي يكون في الأنف فإنه يورث الأكلة ولكن قصوه قصًا». خرجه أبو منصور في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن بسر. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسترضعوا أولادكم الحمقاء فإن اللبن يعدي». رواه الطبراني من حديث عائشة. والمراد بالحمقاء: الناقصة العقل. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسترضعوا أولادكم الرسح ولا العمش». ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده.

والمراد / بالرسحاء: التي لحم عجزها قليل، والعمشاء: السائلة الدمع مع ضعف العين. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تستخدموا رقائكم بالليل فإن الليل لهم والنهار لكم». خرجه أبو منصور في مسند الفردوس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحتجموا يوم الخميس فمن احتجم يوم الخميس فناله مكروه فلا يلومن إلا نفسه». قال محمد بن حمدون بن إسماعيل قال: «إني دخلت يوم الخميس على المعتصم وهو يحتجم فلما رأيته وقفت فقال: ما لك؟ لعلك ذكرت الحديث في الحجامة يوم الخميس قال قلت: نعم قال فإني ما ذكرت ذلك إلا بعد ما شرط الحجام ولو كنت ذكرت ذلك لامتنعت قال: فحم بعقب الحجامة ومات». أخرجه أبو منصور أيضًا. ونهى عن الجلوس والركوب على جلد النمر. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث معاوية. ونهى أن يشرب الإنسان واحدة كشرب البعير قال «ولكن اشربوا مثنى وثلاث فإذا شربتم فسموا وإذا فرغتم فاحمدوا». رواه الترمذي والطبراني من حديث ابن عباس.

ونهى عن الجمع بين الرطب والبسر وبين الزبيب والتمر بنبيذ. رواه مسلم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تركبوا الدابة فوق اثنين ولا تسموا آباءكم وإخوانكم الحكم وأبا الحكم». رواه الطبراني من حديث أبي سعيد. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكرهوا البنات فإني أبو البنات وإنهن الغاليات المؤنسات المجهزات». رواه أحمد والطبراني من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة ابن عامر وهو حديث غريب. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكرهوا الرمد فإنه يقطع عروق العمى ولا تكرهوا الزكام فإنه يقطع عروق الجذام ولا تكرهوا الدماميل فإنها تقطع عروق البرص ولا تكرهوا السعال فإنه يقطع عروق الفالج». خرجه أبو منصور في مسند الفردوس من حديث أنس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور». خرجه أبو منصور أيضًا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب». خرجه أيضًا.

والمراد بذل العلم لمن ليس له أهلاً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا». خرجه أبو منصور. وروي عن ابن عمر / قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تركعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد». رواه أحمد وابن ماجه وأبو يعلى. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تضربوا إماءكم على كسر أنائكم فإن لها أجالاً كآجالكم». خرجه أبو منصور الديلمي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تضربوا وجوه الدواب فإن كل شيء يسبح بحمده». رواه الطبراني من حديث أبي سعيد. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا مع كل عالم إلا عالمًا يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن العداوة إلى النصيحة ومن الكبر إلى التواضع ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الرهبة». خرجه أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث جابر.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنزلوا الكفور فإنها بمنزلة القبور ولا تضربوا طنبًا في بدو فإن البدو الجفاء ويد الله على الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من شذ». رواه الطبراني من حديث أبي سعيد. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنزلوا على أهل الشرك في كنائسهم في يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم». ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده. وروي النهي عن قتل الأبس: خرجه أبو منصور الديلمي. قال وقيل الأبس: السلحفاة. وروى النهي عن قتل الجراد فإنه من جند الله الأعظم. رواه الطبراني من حديث أبي زهير النميري. وهذا النهي إنما هو عند عدم الأذى. وأما إذا قتله لدافع أذاه أو للمآكلة فلا بأس بذلك. ونهى عن أكل الشريطة وقال فإنما هي ذبيحة الشيطان. رواه أحمد وأبو داود. وقيل المراد بها الذبيحة التي لا تغري أوداجها وكان أهل الجاهلية يقطعون شيئًا يسيرًا من حلقها فيكون ذلك ذكاة عندهم.

ونهى عن الأكل من رأس الثريد والكيل من رأس الأبدل فإن البركة تنحدر منها. رواه أحمد من حديث ابن عباس. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا بهاتين يعني الإبهام والمشيرة وكلوا بثلاث فإنها سنة ولا تأكلوا بخمس فإنها أكلة الأعراب». ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ولده. وروي النهي عن طرق الطير في أوكارها فإن الليل أمان لها. رواه الحارث أبي بن أسامة في مسنده والطبراني من حديث علي. ونهى أن تترك النار في البيوت إذا نام أهلها. رواه البخاري ومسلم. ونهى عن مجالسة أهل القدر ومفاتحتهم. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح. ونهى عن ترك ركعتي الفجر [فقال: لا تدعوا ركعتي الفجر] وإن طردتكم الخيل.

رواه أحمد وأبو داود. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجالسوا أولاد / الأغنياء فإن فتنتهم أشد من فتنة العذارى». رواه الطبراني وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة. وروى النهي عن دخول بيت أهل الذمة إلا بإذنهم. رواه الطبراني من حديث سهل بن سعد. وروى النهي عن دخول الماء إلا بمئزر فإن للماء عينين. خرجه أبو منصور الديلمي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجالسوا شربة الخمر ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم فإن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودًا وجهه مزرقة عينه مدلعًا لسانه على صدره يسير لعابه على بطنه يقذره كل من رآه». خرجه أبو منصور أيضًا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغالوا في أثمان السوف فإنها مأمورة». خرجه أبو منصور أيضًا. ونهى عن المغالاة في الكفن فإنه يسلب سلبًا سريعًا. رواه أبو داود.

ونهى عن إدامة النظر إلى المجذومين. رواه احمد والترمذي وأبو يعلى والطبراني من حديث ابن عباس. وقد روي عن الحسن بن علي ومعاذ. وقد روى النهي عن الأذن لمن لم يبدأ بالسلام. رواه أبو الشيخ ابن حبان وغيره. وروى انه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضب فلم يأكله «قالت عائشة فقلت ألا نطعمه المساكين فقال لا تطعموا المساكين مما لا تأكلون». رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلعوا في القبور فإنها أمانة ولا يدخل القبر إلا ذو أمانة فعسى أن يحل العقد فيتجلى له وجه أسود وعسى أن يحل العقد فيرى حية سوداء مطوقة في عنقه وعسى أن يسويه في الحدة فيسمع أصوات السلاسل وعسى أن يقلبه فيفور إليه دخان من تحته فإنها أمانة». خرجه أبو منصور الديلمي. «ونهى أن يكون الإنسان أول من يدخل السوق أو آخر من يخرج منها فإن فيها باض الشيطان وفرخ». رواه مسلم. وروى النهي عن الشرب من النحاس، فإنه يورث السهك. والسهك: صدأ الحديد. ونهى أن يبرز الإنسان فخذه، أو ينظر إلى فخذ حي أو ميت. رواه أبو داود، وابن ماجه. ونهى أن يجلس الإنسان بين رجلين إلا بإذنهما. رواه أبو داود والنسائي. ونهى عن الرفث والصخب والشتم في الصوم. ونهى أن يصاحب الإنسان إلا مؤمنًا، أو يأكل إلا طعام تقي.

رواه أحمد وأبو داود والترمذي. ونهى عن العود في الصدقة فقال: لا تعد في صدقتك ولا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم. رواه البخاري ومسلم. وروى النهي عن أن يقص الإنسان رؤيا إلا على عالم أو ناصح. رواه الطبراني من حديث أبي هريرة. وجاء النهي عن أن يؤذي الإنسان جاره بقتار قدره / أو يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه. رواه الخرائطي في (مكارم الأخلاق) من حديث عمرو بن شعيب، والطبراني من حديث معاوية بن حيدة، وأبو الشيخ من حديث معاذ كلهم رووا في حديث طويل. ونهى أن يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه. رواه أبو داود وابن ماجه.

وجاء النهي أن يصلي الإمام على شيء أنشز مما عليه أصحابه. خرجه أبو منصور الديلمي. ومعنى أنشز أي أرفع. وعن أن يصلي الإنسان وثوبه على أنفه فإن ذلك خطم الشيطان. رواه الطبراني من حديث ابن عمر. وعن أن يؤذن من يدغم الهاء. يعني أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله. يعني لا يبين الهاء في الله. ذكره صاحب الفردوس في مسند الفردوس. وعن أن يصوم صاحب البيت إلا بإذن الضيف. خرجه أبو منصور في مسند الفردوس. وعن أن يتبع الإنسان بصره لقمة أخيه. خرجه أبو منصور أيضًا: وعن أن يجامع الإنسان وبه حقن من خلاء فإن منه يكون البواسير ولا به حقن بول فإنه منه يكون النواسير. ذكره صاحب الفردوس. وعن أن يديم الإنسان نظره في الماء فإنه منه ذهاب العقل. ذكره أيضًا ولم يخرجهما ولده. وعن أن يغطي الإنسان لحيته في الصلاة فإن اللحية من الوجه. خرجه أبو منصور الديلمي.

ونهى عن التشديد على النفس. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم». رواه أبو داود من حديث أنس. ومن حديث سهل أيضًا والله أعلم.

7 - الباب السابع في ذكر جمل من المنكرات والبدع المحدثات

الباب السابع في ذكر جمل من المنكرات والبدع المحدثات ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وروى الترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمحدثات فإن كل محدثة ضلالة». وروى الإمام أحمد والبزار عن غضيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة».

رواه الطبراني: إلا أنه قال: «ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة». وروى ابن ماجه وابن أبي عاصم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال / رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته». رواه الطبراني. إلا أنه قال: إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة «حتى يدع بدعته». وروى ابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا بدعة صومًا ولا حجًا ولا عمرة ولا جهادًا ولا صرفًا ولا عدلاً يخرج من الإسلام كما يخرج الشعر من العجين». والأحاديث في مثل هذا كثيرة. قال الإمام المحقق أبو محمد عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى. البدع ثلاثة أضرب: أحدها ما كان مباحًا كالتوسع في المأكل والمشرب والملابس والمناكح فلا بأس بشيء من ذلك. الثاني ما كان حسنًا وهو مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها

كبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك من أنواع البدع التي لم تعهد في العصر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى وكذلك الاشتغال بالعربية فإنه مبتدع ولكن لا يتأتى تدبر القرآن وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك. فكان ابتداعه موافق للشريعة ولما أمرنا به من تدبر آيات القرآن وفهم معانيه. وكذلك تدوين الأحاديث وتقسيمها إلى الحسن والصحيح والموضوع والضعيف مبتدع حسن لما فيه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله ما ليس فيه وأن يخرج منه ما هو منه. وكذلك تأسيس قواعد الفقه وأصوله كل ذلك مبتدع حسن موافق لأصول الشرع غير مخالف لشيء منها. الثالث: ما كان مخالفًا للشرع أو ملتزمًا لمخالفة الشرع فمن ذلك صلاة الرغائب فإنها موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه. وقال غيره البدع خمسة أقسام: بدعة واجبة: وهي مثل كتب العلم وشكل المصحف ونقطه. ومستحبة: كبناء القناطر والجسور والمدارس وما أشبه ذلك. ومباحة: كالمنخل والأشنان وما أشبه ذلك. ومكروهة: مثل الأكل على الخوان وما أشبهه. ومحرمة: وهي أكثر من أن تحصر، انتهى. واعلم: أني أذكر في هذا الباب جملاً من القسم الخامس وهي البدع المحرمات وقليلاً من المكروهات ولا أتعرض لغيرها من الأقسام اهتمامًا بالمحظور وبيانه إذا كان صرف الوقت في الأهم متعينًا. مع أن البدع المحظورة لا مطمع في استيفائها لعدم إمكان حصرها واختلافها بحسب اختلاف البلاد وما ألقى الشيطان عند أهل كل ناحية وزين لأهل كل قطر. لكن أذكر أكثر البدع وقوعًا في / بلادنا ليستدل بما ذكرته على ما لم أذكره

ويكون كالأنموذج له ومن يتق الله يجعل له فرقانًا يستضيء به في غياهب الفتن. ويستدل به على الصواب فيما يحدث في كل زمن. واعلم أن كل ما كان مكروهًا فإنكاره مستحب لا واجب. والسكوت عنه مكروهًا. وما كان محرمًا فإنكاره واجب والسكوت عنه حرام. والله تعالى الهادي وبه نستعين.

فصل في ذكر بعض ما يشاهد في المساجد من البدع والمنكرات فمنها: البيوت المحددة في أسطحه الجوامع: كجامع عمرو بن العاص بمصر والجامع الأزهري والحاكم وغيرهما بالقاهرة والبيوت المحددة في مسجد بيت المقدس وفوق أروقته. وكل ذلك بدعة لا تجوز؛ لأن فيه تحجير على المسلمين وتخصيصًا لنفسه بما هو مشترك المنفعة وتثقيلاً لما يحمل السطح من الجذوع والقناطر ونحوهما. مع أن أكثر سكانها لا يعاملونها بما يعامل به المسجد من صلاة تحية المسجد كلها دخل. ومن توقى البصاق فيه وأكل الثوم والبصل وغيرهما مما له رائحة كريهة. وكذلك لا ينزهونه عن تعمد إخراج الريح فيه وكثرة اللغط. وبعض جهالهم لا يتوقى الجلوس فيه وهو جنب كأنه بيته. وبعض البيوت الذي فوق أروقة المسجد الأقصى بل غالبها يسكنها المزوجون بأهليهم وأولادهم الصغار في أسرتهم مع ما يحدث منهم من التنجيس وربما جامعوا فيها وكان في نسائهم الحائض والجنب إلى غير ذلك من المحرمات التي لا تحصى. وكل ذلك منكرات محرمة يجب على كل قادر إنكارها وهدمها وإخراج ترابها من المسجد ومنع من يحدث منها شيء. وقد كان ابن بنت الأعز لما تولى قضاء مصر جاء إلى سطح الجامع بمصر في جماعة وهدم ما فيه من البيوت عن آخرها ولم يسأل لمن هذا البيت ولا لمن هذا

البيت بل أخذ ما وجد فيها فرماه في صحن الجامع ومشى الأمر على ذلك مدة من الزمان ثم أحدثوها لعدم المنكر. مع أن مذهب الإمام مالك لا تصح الجمعة فيها كما لا تصح في بيت القناديل لاشتراكهما في التحجير على بعض الناس دون بعض. حكاه أبو عبد الله ابن الحاج المالكي في كتابه (المدخل). وكذلك بناءها في أرض المسجد ورحبته لا يجوز لما ذكرنا. قال ابن الحاج فيمن يقتطع من المسجد موضعًا يمنعه من غيره ويسكن فيه دائمًا وينام / فيه ويقوم وقد يجنب فلا يمكنه الخروج من المسجد فيجلس فيه وهو جنب. إن ذلك محرم وفاعله مصر على معصيته مقيم عليها ولو تاب بقلبه ولفظه حتى يفارقها فكيف يزار ويتبرك به مع هذه الحرمة. مع أنه غاصب لمواضع المصلين في كل وقت ما دام مقيمًا على ذلك حتى إن بعضهم إذا خرج من المقصورة أغلقها على متاعه كأنه بيت أبيه وجده، انتهى. وقال أيضًا: ينبغي أن يغير ما أحدثوه من التأزيز يفي جدر المسجد. يعني بالحصر وغيرها لأنها من باب الزخرفة أو لأنه لا يمكن إلا بمسامير أو ما يقوم مقامها. وذلك لا يجوز في الوقف إلا لضرورة شرعية، مثل أن يكون [في جدار] المسجد سباخ أو شيء ليلوث ثياب المصلين فيغتفر ذلك، ومنع دق المسمار. وما تقدم لا يختص بالمسجد بل هو حكم شائع في كل وقف سواء كان ساكنًا بكراء أو بغيره. لا يجوز له شيء من ذلك ولو أذن الناظر فيه ولو كان ملكًا لغيره لم يجز إلا بإذنه. وقال أيضًا ومنع ذلك مالك – رحمه الله – أن يؤتى الرجل في المسجد بوسادة يتكئ عليها أو بفروة يجلس عليها وأنكر ذلك. وقال تشبه المساجد بالبيوت، انتهى.

ومنها: زخرفة المحراب والمسجد: وهو بدعة، إذ هو من أشراط الساعة وقال ابن القاسم: سمعت مالك يذكر مسجد المدينة وما عمل فيه من التزويق في قبلته فقال كره الناس ذلك حين فعله لأنه يشغلهم بالنظر إليه. قال ابن الحاج وينبغي أن يغير ما أحدثوه من إلصاق القمر في جدار القبلة وفي الأعمدة. وكذلك يغير ما يعلقونه من خرق كسوة الكعبة في المحراب وغيره. فإن ذلك كله من البدع لأنه لم يكن من فعل من مضى. ومنها: ما يفعله كثير من العوام من التفلي في المسجد ورمي جلد القملة والبرغوث في المسجد. وذلك حرام لنجاسة جلدهما. وحكي ابن الحاج الإجماع على أن ذلك لا يحل ويكره قتلهما في المسجد في ثوبه لأن ذلك بمنزلة الحجامة والفصد في إناء المسجد. وكذلك لو عصر دمله أو بثرته في ثوبه أو أنامله ولم ينجس بذلك شيئًا من المسجد فإن حصل بذلك تنجيس حرم، ولو قتل القمل في ثيابه وتركه فيها ميتًا وصلى به لم تصح صلاته ولو قتله وجمعه في ثوبه حتى يخرج فيلقيه. لم يجز لأنه يحمل النجاسة في المسجد لغير ضرورة. ولا يجوز أن يلقي القملة حية / في المسجد ولا في غيره لأن فيه تعذيبًا لها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحسين القتلة. وكذلك لا يجوز أن يترك ثوبه في الشمس ليخرج القمل منه إذا أحس بحرارة الشمس؛ لأنه إما أن يموت جوعًا وإما أن يتعلق بأحد. وقد حكي عن سيدي حسن الزبيدي وكان من العلماء العارفين أنه خرج يومًا

مع أصحابه إلى بستانه فلما كان في أثناء الطريق رجع وأمر أصحابه أن يذهبوا إلى البستان فسألوه عن سبب رجوعه فقال كان علي قميص نسيته في البيت وفيه دواب فخفت أن يموتوا جوعًا فرجعت لأقتلهم أو ألبسه. ومنها: بناء المسجد بالآجر النجس: وقد نقل عن القاضي أبي الطيب تحريمه. والمذهب تجويزه مع الكراهة. قال الشافعي – رحمه الله – ولو بني مسجد بآجر نجس أو فرش به مسجدًا كرهت ذلك. ومنها: ما يؤبد في المسجد من كراسي الخشب للمصاحف والوعاظ: وذلك لا يجوز لأن فيه تضييقًا على المصلين. فإن كان يرفع في أوقات الصلاة فالظاهر جوازه. وكذلك ما أحدثوه في المسجد من الصناديق المؤبدة للنعال وغيرها وذلك غضب لموضع مصلى المسلمين. ومنها: جلوس بعض الناس في المسجد ليحفظ نعال المصلين بأجرة: وهذا مكروه كما يكره في حق البيع والشراء في المسجد ولأنه من الجرف الدنية في المسجد، فإن جلس على باب المسجد ولم يضيق على الداخلين لم يكره. ومنها: كتابة القرآن في جدار المسجد: ومذهبنا أنه مكروه لأنه تعريض له لوقوع الغبار عليه. وقد صرح الحليمي في منهاجه أن من تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينفض الغبار عن المصحف وكتب السنن وأن لا يوضع عليها شيء من متاع البيت. وكذلك يكره كتابته في جدار غير المسجد، فإن كان في جدار يصعد فوقه إلى غرفة ونحوها كانت الكراهة أشد وربما حرم؛ والله أعلم. ومنها: ما اعتاده المؤذنون اليوم من الأذان جماعة على نسق واحد:

وقد قال الغزالي: إن ذلك منكر مكروه يجب تغييره، انتهى. وقال ابن الحاج: لم يعرف عن واحد جوازه. قلت: ويحتمل أن يقال إن دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يكثر الناس أو يتسع العمران ولا يبلغهم صوت واحد. وإن اجتمعت الأصوات قطعت جرم الهواء أسرع وأبعد فلا بأس. وكذلك إذا كثر الناس يوم الجمعة والعيد / ولا يبلغ آخرهم أذان الواحد فلا بأس بالاجتماع بشرط أن لا يخل اجتماعهم باللفظ المشروع. والله أعلم. قال القرطبي في تفسيره: وحكم المؤذن أن يترسل في أذانه ولا يطرب به كما يفعله اليوم كثير من الجهال. بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب فيرجعون فيه الترجيعات فيكثرون فيه التقطيعات حتى لا يفهم ما يقول. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحًا وإلا فلا تؤذن». قال ابن الحاج: ثم انظر إلى البدعة إذا أحدثت فإن الشيطان لا يقتصر عليها وحدها بل يضم إليها بدعًا ومحرمات ألا ترى أنهم لما أحدثوا هذه الأذان تعدت بدعته إلى محرم وهو أنهم يسمعون المأمومين وهم في الصلاة بتلك الألحان وذلك كلام في الصلاة على سبيل العمد لا بعذر شرعي فتبطل صلاتهم بذلك، وإذا فسدت صلاتهم سرى ذلك إلى فساد صلاة من أئتم بتسمعيهم لأن المأموم لا يجوز له الإقتداء بالإمام إلا بأربعة أشياء فإن عدمت فلا ائتمام له؛ وهو أن يرى أفعال الإمام فإن تعذر فسماع أقواله، وهؤلاء ليسوا في صلاة لما تقدم

بخلاف التسميع جماعة بالألفاظ المفهومة. فإنه قد اختلف في صحة صلاة من صلى بتسميعهم بناء على الاختلاف في صلاتهم هل هي صحيحة أو فاسدة، انتهى. ومنها: ما يفعله بعض المتكبرين إذا صلى لا يصلي في صفة أحد، وإن صلى في صفة أحد فيبعد عنه بحيث يبقى بينه وبينه فرجة تسع جماعة: وهذه بدعة تخالف السنة. لأن السنة التراص في الصف فإن كان ذلك بأمره حرام عليه إذ ليس للمرء من المسجد إلا موضع قيامه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أقيموا صفوفكم وتراصوا». رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للبخاري: «فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه». وقال صلى الله عليه وسلم: «أقيموا صفوفكم وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله». رواه أحمد وأبو داود. ويكفي أن فاعل ذلك قاطع للصف وإن الله يقطعه. قال ابن حبيب: أدركت الناس / بالمدينة ورجال موكلون بالصلاة فإن رأوا واحدًا صلى في صف والصف الذي يليه إلى القبلة يحتمل أن يدخله ذهبوا به بعد الصلاة إلى الحبس.

ومنها: ما يفعله بعضهم من فرش بساط يسع جماعة ولا يصلي عليه غيره: وهذا لا يجوز أيضًا لما فيه من غضب المكان المشترك بين المسلمين سيما عند ضيق المسجد في الجمع والأعياد. ويخشى عليه أن يدخل بذلك تحت الوعيد المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من غصب شبرًا من الأرض طوقه من سبع أرضين». مع ما يضاف إلى ذلك من المحرمات الحاملة له على ذلك. مثل الكبر والخيلاء والإعجاب واحتقار الناس ونحو ذلك. ومنها: ما يفعله بعضهم إذا جاء إلى مكانه المعتاد الصلاة فيه أو إلى المكان الذي يميل إلى نفسه من المسجد ووجد فيه أحد قد سبقه فإما أن يقيمه هو أو يقيمه من معه من المماليك والخدم: وذلك حرام لا يجوز. لأنه قد استحق المكان الذي جلس فيه بسبقه. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مكانه ثم يجلس فيه. وكان ابن عمر- رضي الله عنه- إذا قام له رجل عن مكانه لا يجلس فيه. ومنها: بيع الماء في المسجد. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد وأمرنا أن نقول إذا رأينا من يبيع ويشتري فيه أن نقول لا ربح الله تجارتك. وربما استمر بيعهم الماء إلى ما بعد الأذان وجلوس الخطيب على المنبر وذلك حرام يجب إنكاره. مع ما فيه من بيع المعاطاة المختلف في صحته. ولو دخل السقاء إلى المسجد يسبل الماء الذي معه جاز. بشرط: أن لا يتخطى رقاب الناس.

وأن لا يلوث المسجد بقدمه لأنه في الغالب يكون حافيًا ورجله وسخة أومتنجسة. وأن لا يرشح شيء من مائة على ثياب الناس. وأن لا يرفع صوته بقوله الماء للسبيل. وأن لا يبل موقفه في المسجد بل لا يمنع الصلاة فيه. وأن لا يضرب بناقوسه في المسجد. فإن فقدت هذه الشروط منع. والله أعلم. ومنها: السؤال في المسجد: وهو مكروه. فإن كان يتخطى رقاب الناس ويتخطاهم من يجيء له بالفلوس لم يجز ذلك. وقد تقدم أن تخطي الرقاب حرام. فيجب على كل قادر إنكار ذلك ومنعهم منه. وقد يضم السؤال إلى ذلك القراءة إلى غير الصحة وذكر الأحاديث الموضوعة والآثار المكذوبة والقصص الباطلة. فيتأكد وجوب الإنكار ويعظم الإثم في السكوت، لأن في السكوت عنه مع هذا الفعل على رؤوس الأشهاد أيها ماله/ وللعوام أن ذلك جايز فيكون السكوت عنه سببًا لتجري غيره على مثل فعله وسببًا لعطاء العوام له وترغيبًا له في ذلك الفعل. وقد قال بعض الحنفية لو تصدق بأربعين فلسًا خارج المسجد لم يكن ذلك كفارة لذلك الغلس الذي أعطاه للسائل في المسجد. حكاه ظهر الدين في فتاويه. فإن كان المعطي ممن يقتدي به أو يتوهم الناس بعطاءه أن ذلك جائز عظم الإثم في عطائه بمساعدته له وترغيبه في فعله المنكر مع ما ترتب عليه من إثم السكوت عن الإنكار عليه، والله أعلم.

ومنها: عارية حصر المسجد وقناديله في الولائم والأفراح: وذلك لا يجوز بل لا يجوز أن يعاروا في مسجد آخر، فكيف وفي الغالب لا ترجع الحصر إلا وقد تقطع بعضها إن سلمت من التنجيس. حتى لقد أخبرني من أثق بهم أنهم يأخذون البسط الموقوفة في الصخرة والمسجد الأقصى فيفرشها النظار في بيوتهم ويتعاطون عليها ما لا يجوز ثم بعد تنجيسها يردونها إلى المسجد، أو الحاصل ويأخذون أحسن منها أو يردونها في الصيف ويأخذون غيرها في الشتاء حتى لا يكاد يسلم شيء من البسط من تنجيسهم له وامتهانهم إياه ويأتي المصلون فيصلون عليها ولا يشعرون بتنجيسها، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومنها: جلوس الناس في المسجد لحديث الدنيا: وهو بذعة؛ إذ المساجد إنما بنيت لذكر الله تعالى وللصلاة ولنشر العلم ونحو ذلك. وعلى هذا يجتمع السلف الصالح في المسجد لا في التحدث بما يتعلق بأحوال الدنيا. وقد ورد في بعض الأخبار أن الحديث في أمر الدنيا في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة». فرع: حكي أبو بكر الطرطوشي في كتابه أنه كره أن يتكلم بألسنة العجم في المسجد قال وهو لمن يحسن العربية أشد.

ومنها: تعليق قناديل الذهب والفضة في المسجد: وهو بدعة محرمة؛ لما تقدم من استعمال أواني الذهب والفضة التي بباب الكعبة وجهان أصحهما التحريم. ومنها: ما أحدث من كتب الحروز في آخر جمعة من شهر رمضان حال الخطبة: وذلك بدعة سيما وهو يترك بسببه ما وجب عليه من سماع الخطبة والإنصات إليها. وقد نهى عن العبث بالحصى في وقت الخطبة: لأنه يشغل عن سماعها. وقال صلى الله عليه وسلم: من مس الحصى فقد لغا. ومنها: ما أحدثوه من وقوف الدواب/ على أبواب المساجد سيما في الجمعة والأعياد. وهو بدعة ينبغي إنكارها؛ لأنهم يضيقون طريق المسلمين ويروثون ويبولون على باب المسجد. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبال بأبواب المساجد. ولأن الداخل إلى المسجد قد يتنجس قدمه أوثوبه فيشق عليه غسله إن تنبه له وإن لم يتنبه له صلى بنجاسة وقد يتنجس نعله فلا يجوز له أن يدخل به المسجد. وقد يحصل منها رفص أو كدم فيقع الضرر ويكون أصحابها السبب في ذلك. ومنها: ما ابتدعه بعض الخطباء: من الإشارة باليد.

والالتفات في الخطبة الثانية. والمبالغة في الإسراع فيها. والدق على درج المنبر في الصعود. والدعاء في انتهائه والمجازفة في أوصاف السلاطين. ويحرم وصفهم بغير ما هم عليه. ولا بأس بالدعاء لهم بالصلاح والرشد والتوفيق للعدل ونحو ذلك. ومنها: القيام عند ختم القرآن في رمضان بسجدات القرآن كلها في ركعة أو ركعات أو الآيات المشتملة على التهليل من أول القرآن إلى آخره: وهذا كله بدعة أحدثت فينبغي أن تغير وترد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو». ومنها: ما اعتاده كثير من الجهال إذا قال الخطيب الحمد لله سيما في الخطبة الثانية باسوا أيديهم ووضعوها على رؤوسهم حتى ربما يسمع صوت بوس أيديهم من خارج المسجد. وهذا سخافة عقل وبدعة شنيعة ليس لها أصل في الشرع ولم يفعلها أحد من السلف الصالح ولا ممن يرجع إليه. فينبغي إنكارها وتعريف أنها بدعة ليس لها أصل. ومنها: ما هو سبب إضلال كثير من الجهال وتجريئهم على المعاصي واحتقارهم المحرمات: وهم الوعاظ الذين يغلبون عند الناس جانب الرجاء ويذكرون لهم ما ورد من سعة رحمة الله وعفوه وعظيم تجاوزه. وربما ذكروا في معنى ذلك أحاديث باطلة وحكايات غير صحيحة وخرافات ليس لها أصل.

ولا يعرجون على ذكر الخوف ولا يذكرون لهم أحوال الخائفين من الأنبياء وغيرهم. ولا ما ورد من شدة عذاب الله وأليم عقابه وتحرير حسابه على من ناقشه ولا يعظمون الذنوب في قلوبهم ولا يقصون عليهم ذكر من هلك بما يحتقرونه من الأعمال. ومن دخل النار ببعض ما يرتكبونه من الخلال. لأنه يعلم أنه لو شدد عليهم وغلب عندهم جانب الخوف لنفر عنه أكثرهم وتركوا مجلسه وأمسكوا أيديهم عن إعطائه ومساعدته. ويعلم أنهم إنما يرغبون فيمن يرخص لهم وأتى بما يوافق هواهم ويلاءم طباعهم ويبسط/ آمالهم ويزيد إعجابهم بأعمالهم ويريهم أنهم أهل النجاة والفوز العظيم ولو أتوا بما أتوا. وفعل هؤلاء الوعاظ وأمثالهم منكر يجب منعه على كل قادر. لأن إفسادهم في الدين لا يعد له إفساد وهم خلفاء إبليس في الإغواء، وإخوان الدجال في الإضلال، وأعداء المؤمنين والغاشون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والداعون إلى سبيل الفتنة والهلاك بأفعالهم وأقوالهم. وهؤلاء من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق، آمين. ومنها: الحلق يوم الجمعة كطرقية الأطباء وأصحاب التعريدات. الذين يلبسون على الصبيان والجهال ليتوصلوا بتلبيسهم إلى بيع ما معهم. وفعلهم هذا حرام في المسجد وغيره. يجب إنكاره على كل قادر لأنه من أكل الأموال بالباطل والكذب. ومنها: جلوس الخياطين والحياكين والإزاريين والنساخ ونحوهم من أرباب

الصنائع النظيفة في المسجد على الدوام حرفة واكتسابًا: وهذه بدعة مكروهة ينبغي إنكارها. وقيل محرمة. فإن فعل ذلك في وقت دون وقت أو خاط ثوب نفسه أو نسخ لنفسه لم يكره. ومنها: ما يفعله بعض الجهال من قراءة بعض {آلم} السجدة في الأولى من صبح الجمعة. وبعض {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} في الثانية. أو يقرأ بعض السجدة في الأولى. ويتمها في الثانية. أو يقرأ سجدة من سجدات القرآن غيرها. وكل ذلك بدعة شنيعة قبيحة يجب إنكارها. وقد نبه عليها النووي في "الروضة"و"شرح المهذب"وفي "الأذكار" و"التبيان". وكان بعض العلماء الذين أدركناهم يفتي ببطلان يفتي ببطلان صلاة هؤلاء. إنما السنة أن يقرأ في الأولى {آلم} بتمامها وفي الثانية {هَلْ أَتَى} بتمامها. وليست قراءة {آلم} السجدة وإنما أتت السجدة فيها ضمنًا. والله أعلم. ومنها: ما يشاهد كثيرًا من قيام المسبوق حال شروع الإمام في التلفظ بـ السلام من غير نية مفارقة: ظنًا منه أن القدوة انقطعت بمجرد شروع الإمام في السلام.

وليس كذلك بل لا يجوز له القيام حتى يتم الإمام السلام الأول. فإن قام قبل تمامه عمدًا بطلب صلاته. ويسن ألا يقوم حتى يسلم الإمام التسليمتين. فيجب على كل من رأى من فعل ذلك أن ينكره وينبهه على بطلان صلاته. ومنها: أن بعضهم يدرك الإمام راكعًا فيكبر عجلاً تكبيرة واحدة ويركع معه: وهذه التكبيرة إن نوى بها تكبيرة/ الإحرام صحت. وإن نوى بها تكبيرة الركوع أو هما جميعًا ولم ينو بها شيئًا لم تنعقد صلاته. وبعضهم إذا أدرك الإمام هذا يكبر للإحرام ثم للركوع ويركع ولكن حال ركوعه رفع الإمام. وهذا أيضًا لا تصح صلاته لأنه لابد أن يطمئن في الركوع قبل رفع الإمام إلى أقل درجات الركوع. فإن رفع الإمام قبل ذلك لم تصح صلاة المأموم. وبعضهم إذا أدرك الإمام راكعًا شرع في تكبيرة الإحرام مع شروعه في الركوع معًا. وهذا أيضًا لا تنعقد صلاته. لأنه لابد أن يأتي بجميع تكبيرة الإحرام حال قيامه وانتصابه ثم يركع بعد ذلك. فيجب على من يراه أن يعرفه بطلان صلاته وسببه لئلا يعود إليه. وبعضهم لا يكبر تكبيرة الإحرام إلا وقد رفع الإمام فيركع هو وحده ثم يتابعه. وهذا أيضًا لا تصح صلاته.

ومنها: أن بعضهم يرفع يديه ولا يلفظ بتكبيرة الإحرام ظنًا منه أن الدخول في الصلاة إنما هو برفع اليدين. وهذا لا تصح صلاته لأنه ترك تكبيرة الإحرام وهي أحد أركان الصلاة. وقد شاهدت هذا كثيرًا. وكذلك ما يفعله بعضهم من تحويل وجهه حال السلام يمينًا وشمالاً ولا يتلفظ بالسلام. وهذا أيضًا قد ترك ركنًا من أركان الصلاة عمدًا فتبطل صلاته. ومنها: صلاة بعضهم في الثوب الرقيق الذي يدرك منه لون البشرة: وهذا لا تصح صلاته إلا أن يكون تحت الثوب ما يستر عورته وهي من السرة إلى الركبة. فيجب على كل من رآه مصليًا في ثوب هكذا أن يأمره بستر عورته. فإن كان قد شرع في الصلاة أمر بقطعها. وإن كان فرغ منها أمره بإعادتها. واعلم: أن محل استقصاء هذه الفروع كتب الفقه. وإنما ذكرت هذه المسائل لكثرة وقوعها ولأنبه بها على البحث عن غيرها والله ولي التوفيق لا رب غيره. ومنها: المرور بين يدي المصلي: تقدم أنه حرام. فيجب على الإنسان إذا رأى من يريد الدخول بين يدي المصلى أن يمنعه بالقول. فإن أبى فبالفعل. ويمنعه من ارتكاب هذا المحرم ما استطاع. ومنها: ما ابتدعه بعض المتنطعين:

وهو أنهم إذا دخلوا المسجد خلعوا نعالهم ولبسوا نعالاً من الحلفاء والخوص والجلد فمشوا بها على الحصر والبلاط مع جفافه ويعتقدون أنهم يفعلون ذلك تدينًا وتورعًا. وهذه بدعة مكروهة مخالفة للسنة ولأفعال السلف. فإنه لم يرو عن أحد منهم أنه فعل ذلك وهم أولى الناس بالورع/ والاحتياط في الدين. وقد كان الناس في عصر الصحابة والتابعين يأتون المساجد حفاة في الطين وغيره. وقال كميل بن زياد: رأيت عليًا يخوض طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه. وقال ابن المنذر في "الإشراف": وطئ ابن عمر رضي الله عنه بمنى وهو حافٍ في ماء وطين ثم صلى ولم يتوضأ. قال: وممن رأى ذلك علقمة والأسود وعبد الله بن مغفل وسعيد بن المسيب والشعبي وأحمد وأبو حنيفة ومالك. وهو أحد الوجهين للشافعية. قال وهو قول عامة أهل العلم، انتهى. وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك". رواه البخاري باختصار ذكر البول. فإذا كان المسجد على هذا الحال وكانوا يصلون فيه من غير حصير فكيف لغيرهم وهم القدوة- رضي الله عنهم- أن يحتاط بالابتداع. قال أبو الشعثاء: كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافيًا ثم

يدخل المسجد فيصلي فيه ولا يغسل قدميه. وقال عاصم الأحول: أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء فقال ما لكم. ألستم موضئين. قلنا: بلى. ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها. قال: هل وطئتم على شيء رطب يعلق بأرجلكم. قلنا: لا. قال: فكيف بأشد من هذه الأقذار تجف فتنسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه. وكذلك الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يصلون في نعالهم. ليت شعري أيما أطهر: النعل التي يمشي بها في الطريق أم حصر المسجد الطاهرات حقيقةً أو حكمًا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم المسجد فيقلب نعليه ثم ينظر فإن رأى خبثًا فليمسحه بالأرض ثم ليصلي فيهما. رواه أحمد. فمن العلماء من قال طهارة النعل مسحه سواء كان فيه رطبًا أو يابسًا. ومن من حمل ذلك على ما إذا وطئ به في نجس يابس فيكفي فيه المسح. كما هو مذهب الشافعي. وأما إذا وطئ به في النجاسة الرطبة فإنه لابد من الغسل. وقد قالت امرأة لأم سلمة: إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر. فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهر ما بعده. رواه أحمد وأبو داود.

وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور». وفي لفظ: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب». والكلام في مثل هذا يطول. والمقصود أن ليس ذلك بدعة لم تعهد من السلف وليس لها أصل يرجع إليه وهو تعمق في الدين من غير فائدة. فينبغي إنكار ذلك على من فعله من الجاهل بالسنة والحنفية السمحة، والله الموفق.

2 - فصل في ذكر ما يشاهد في الأسواق والشوارع من البدع والمنكرات قد تقدم ذكر البيع على بيع أخيه، والسوم على سوم أخيه، والبيوع الفاسدة والربا والغش وغير ذلك. وها أنا أذكر طرفًا مما ينبغي أن يذكر: فمنها: سمط الغنم والماعز: وذلك بدعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير بعينه سميطًا قط. وهو مباح لو سمط على الوجه الشرعي. ولكنهم يذبحون الشاة فيخرج الدم المسفوح وتتخبط فيه الذبيحة ثم يلقونها بنجاستها في الدست فينجس الماء بتحلل الدم فيه ثم يخرجون الذبيحة وهي متنجسة فيضعونها في ماء طاهر. فإن كان دون القلتين تنجس بها أو بأيديهم. وإن كان كثيرًا ولم يظهر فيه تتغير بالذبيحة الأولى فلابد وأن يتغير بالثانية أو الثالثة فيصير الماء أيضًا نجسًا ثم يخرجونه ويبيعونه ويطبخ في الأسواق من غير نكير في ذلك مع أنه لو غسل بعد السمط بماء طاهر لكان في حله وطهارته خلاف. فذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يطهر بالغسل.

وحكي الرافعي وغيره في ذلك وجهين. أحدهما: يغسل ثم يعصر كالبساط. والثاني: يشترط أن يغلى بماء طاهر. وقطع به القاضي حسين والمتولي. واختار الشامي الاكتفاء بالغسل. وهو المنصوص. فكيف وهو يباع من غير تطهير ويطبخ. كذلك عند الشرايجي وعند كثير من الناس. ويكون عند الجزار هو والسليخ جميعًا فيرفع يده والسكين المتنجسين منه ويضعهما في السليخ فينجسه. وكثير من الناس لا يغسل اللحم السليخ قبل طبخه سيما من قصد شيه أو دقه فإنه لا يبله البتة فيصير نجسًا لا يجوز أكله ويتنجس ما يوضع فيه من القدور والأوعية. ومن صلى عقب أكله قبل أن يغسل فمه منه لا تصح صلاته. وكذلك إذا أكل ثم صام قبل أن يغسل فمه منه فسد صومه لابتلاع ريقه المتنجس إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تخفى. فيجب على القادر إنكار ذلك ومنع من يسمط على هذا الوجه. فإن لم يستطع فيمنع الجزار أن يجمع بين السليخ والسميط. فإن لم يستطع فعليه بخويصة نفسه فلا يطبخ السليخ من عند من جمع بينهما حتى يغسله. ومنها: أنهم يعلقون الشواء في التنور/ ويطينون رأس التنور بالطين الذي غلب عليه الدم والفرث والنجاسة ويعجنونه أيضًا بالماء المتنجس من أيديهم وغيرها. فإذا حمى عرق وسقط عرقه على الشواء في قدر الأرز فينجس جميع ذلك. وكثيرًا ما يسقط فيه من الطين النجس المذكور ما هو مشاهد مرئي. وهذا لا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا أكله.

ويتعين على كل قادر الإنكار لذلك والاجتهاد في تغييره، والله ولي التوفيق. وفي حكم ذلك الرؤوس في سمطها بما فيه من الدم المسفوح في منحرها. وكذلك ما تفعله النساء في البيت من وضع الدجاج المذبوح في القدر ليسمطونه على ما في مذبحها من الدم وما يصيب ريشها حال اضطرابها منه. فيجب أن يغسلن مذبح الدجاجة وما تنجس من ريشها قبل وضعها في القدر وصب الماء الحار عليه أقرب للطهارة. وينبغي لذابحها أن لا يضعها من يده حتى يتصفى دمها وتبطل حركتها لئلا يتنجس ريشها باضطرابها، والله أعلم. ومنها: الخبز بالزبل: وهذا الزبل لا يخلو إما أن يكون زبل مأكول أو غيره. فإن كان مأكول اللحم فهو نجس عند الشافعي ومن تابعه. طاهر عند غيره. ففي الأمر متسع إذ لا يجب الإنكار ما أجمع عليه. وإن كان زبل غير مأكول أو مخلطًا كما هو الغالب لأنهم يجمعون زبل البغال والحمير والخيل وغير ذلك. فهذا نجس إجماعًا. لكن هل دخانه الذي يصيب الخبز طاهر أو نجس فيه خلاف. فمذهب الشافعي ومن تابعه أن دخان النجاسة نجس. ومذهب غيره طاهر. وكذلك رماده الذي لابد وأن يصيب العجين نجس عند الشافعي. طاهر عند بعض العلماء. فيسقط وجوب الإنكار بهذه الشبه كلها والاختلافات. وعلى الشافعي أن يحتاط لنفسه ويعمل بموجب مذهبه. فإن كان الخباز يمس العجين الرطب تارة والزبل المتنوع تارة ليلقيه في الفرن

وهو الغالب اليوم في بلاد مصر فهذا هو الداء العضال. وهذا الخبز نجس بالاتفاق إن كان يظهر أثر النجاسة في العجين لرطوبة أحدهما. ويترتب على أكله من فساد الصوم والصلاة وغير ذلك ما تقدم في اللحم السميط. ويجب على قادر إنكاره بقدر وسعه، فإن لم يستطع فيجب عليه أن لا يأكله ولا يطعمه أهله ولا يشتريه، والله أعلم. ومنها: ما يفعله بعض الخبازين مع كثير من الناس وهو أن يزن الخبز فيجده يشح على الوزن فيخرجه من كفة الميزان ويضع عليه كسرة إما أن تكون تمام حقه/ أو أقل أو أكثر ويدفعه إلى المشتري. وذلك لا يحل له. لأنه لا يعلم قدر وزن الخبز ولا قدر وزن الكسرة. اللهم إلا أن يعقد البيع بعد ذلك على المجتمع بيده من الخبز والكسرة جميعًا. فيقول له بعني هذا بكذا. فيقول له: بعتك. ويقول: اشتريت. وهذا ليس خاصًا بالخبز بل بجميع الموزونات والمكيلات فليتنبه الإنسان لهذا فإن المرء قد يكتسب حلالاً ويأكل حرامًا لعدم معرفته بالشرع في تصرفه. ويجب على من رأى من يفعل شيئًا من ذلك أن ينكر عليه ويعرفه فساد ذلك، والله أعلم. ومنها: أن يشتري السلعة بثمن معلوم ثم وقت الوفاء ينقصه منه: وهذا منكر لا يجوز. وربما يكون التنقيص وقت الوفاء عادة لهم يعرفونها ولكن ليس لقدرها عادة.

وهذا البيع لا يصح على مذهب من المذاهب لأن القدر الذي يقبض مجهول عند البائع والمشتري. والاعتبار يرضي البائع بما يدفعه إليه المشتري عند من أجاز المعاطاة ولا عند غيره. ومنها: بيع الأشياء بظروفها: كالدبس والزيت والعسل ونحو ذلك بظروفه. والفلفل والزنجبيل بخيشه. والنيل في مزوده ونحو ذلك. كل قنطار بكذا ويسقطون على الظرف أرطالاً تزيد على وزنه أو تنقص. وهذا البيع غير صحيح ولا يكاد اليوم يفعل غيره. فيجب على القادر إنكاره والمنع منه، فإن عجز على الإنكار لم يجز له أن يبيع كذلك ولا أن يشتري ولا أن يأكل مما علم أنه بيع كذلك. فإن كان لا يمكن بيع هذه الأشياء إلا بظروفها. فينبغي أن يتفق البائع والمشتري على قدر الثمن والمسقط. فإذا حسب ثمن ذلك بعد الإسقاط عقد البيع على ذلك القدر جزاء. فيقول: بعتك هذا الظرف بما فيه بكذا، أو بعت ما في هذا الظرف بكذا. ويقول الآخر: اشتريت. فعند ذلك يصح البيع، والله أعلم. ومنها: ما يفعله بعضهم من بيع تواقيع المسامحات بالمكس ونحو ذلك: مثل أن يحصل لمن هي باسمه عاقة عن السفر أو إفلاس ونحوه، فينظر تاجرًا آخر مسافرًا فيطلق الحمول باسمه ويأخذ منها أقل مما عليها من المكس. وهذا الفعل حرام يجب إنكاره على من فعله. وكذا بيع أصول الإسكندرية ونحوهما ممن يأخذ باسم الزكاة وغيره. ومنها: ما هو مشاهد كثيرًا وهو أن قدرة الشريجي إذا جاءت إلى البيت

أكل ما فيها/ ثم طرحت في الدهليز أو في صحن الدار من غير غطاء وفيها أثر الطعام فيأتي الكلب فيلحسها ثم يأتي صبي الشرايجي فيذهب بها ويطبخ فيها للناس. وهذا منكر قد عم وأثمه في عنق صاحب الدار، ويجب عليه تغطيتها والاحتراز عليها حتى ترجع إلى صاحبها. وإذا غفل حتى ولغ فيها الكلب وجب عليه غسلها وتتريبها، أو بيان ذلك للشرايجي ليغسلها ويتربها. فإن لم يفعل صاحب الدار أثم بما يترتب على نجاستها ولا تزال نجسة ولو طبخ فيها وغسلت ألف مرة وأكثر ما لم تترب، بل كل وعاء سكب فيه من طعامها في هذه المدة كلها وجب غسله وتتريبه إذا علم نجاستها، بل يتنجس بسببها كل وعاء عند الشرايجي لأنه يدخل المقفرة فيها لتحريك الطعام ثم يخرجها منها متنجسة فيضعها ثم يخرجها في قدر أخرى فينجسها وهلم جرا. فيجب على صاحب الدار الاحتراز على القدر من نجاسة الكلب وغيره والإنكار على أهله في عدم تغطيتها. فإن المفاسد في نجاستها عظيمة لا تنحصر. ونظير ما يفعله بعض الطباخين وأكثرهم من الغفلة عن المكان الذي يأكل فيه الناس حتى يدخل الكلب فيلحس بعض الشقق والأوعية التي هناك ولا يغسله ولا يتربه ويتنجس بسبب ذلك كل ما في الحانوت وكل وعاء وضع فيه شيء من ذلك الطعام. وهلم جرا بشرط العلم بالنجاسة. ويحرم أكل كل طعام وصل إليه شيء من تلك النجاسات. وهذه مفاسد عظيمة. فيجب على كل من رأى شيئًا من ذلك أن يأمر بغسله وتتريبه أو يباشر هو ذلك بنفسه. ومتى سكت كان ما يترتب على ذلك من المفاسد كنجاسة الأوعية والأطعمة وفساد الصلاة والصوم في عنقه.

ومنها: ما عمت به البلوى واستفاض بين الناس وعظم به الضرر في الدين من غير نكير. وهو أن سمسار القمح يكيل القمح ويفرقه على الطواحين من غير بيان سعره إلى وقت الجباية فيتصرف فيه الطحان تعديًا من غير عقد صحيح ولا معاطاة على مذهب من يراها ولا وجه يبيح ذلك. وكذلك يفعل الطحان غالبًا في تفرقة الطحين على الخبازين من غير بيان السعر إلى وقت الجباية، فيتصرف فيه الخباز أيضًا تعديًا بغير طريق. وهذا كله حرام ومنكر يجب على كل قادر إنكاره والمنع منه وبذل الجهد في ذلك، والسعي فيه عند من له يد واستطاعة. فإن هذا إثم عظيم وفساد بين، وكل من أكل من هذا الخبر/ أو استعمل من ذلك الطحين اختيارًا مع العلم بحكم الله فهه فهو متعمد لأكل الحرام مرتكب للإثم فيه. وهذا إذا كان القمح في أصله حلالاً، فما ظنك بما يطرحه الظلمة على الطحانين من فعلاتهم الخبيثة على هذه الصورة الفاسدة. وكذلك ما يفعله الطباخ من استجرار الأرز والشيرج وغير ذلك من غير بيان الثمن ولا عقد صحيح. وكذلك ما يفعله اللبان من استجرار اللبن. بل كذلك ما يفعله كثير من الناس من استجرار الطحين وحوائج الطعام من الشيرج والزيت والدهن واللحم وغير ذلك من غير عقد صحيح ولا معاطاة ولا بيان ثمن إلى وقت المحاسبة اعتمادًا على رضاهما عند المحاسبة. وقد يقع التنازع بينهما كثيرًا على اثمان بعض ذلك. نسأل الله التوبة من ذلك والمعونة عليها. ومنها: ما يفعله الطباخ واللبان وبياع الأرز باللبن وغيرهم في البلاد المصرية من استعمال الشقاف الجدد غالبًا من غير غسل:

وهي نجسة؛ لأنهم يوقدون عليها بالزبل المجمع وغيره. وبعضهم يجعل لها وعاءً واحدًا فيه ماء ويغسله فيه واحدة بعد أخرى، وهذا لا يطهرها لأن الماء بمجرد وضع الأولة فيه صار نجسًا، فلا يطهر شيئًا. وهذا منكر يجب إنكاره وتغييره فإن مفسدته في الدين عظيمة، لأن النجاسة الشقف تسري إلى الطعام لأنهم يغسلون القدر وأوعية الدكان غالبًا بالماء الذي يغسلون به الشقاف وتسري نجاسة الطعام إلى كل إناء وضع فيه. ومن أكل من ذلك الطعام وصلى قبل غسل فمه لم تصح صلاته. وكذلك إن صام قبل غسل فمه فسد صومه. ويترتب على ذلك مفاسد لا تحصر. نسأل الله عفوه الواسع في الدنيا والآخرة فهو أكرم الأكرمين. ومنها: بيع الفضة الحجر بالدراهم المغشوشة وبيع الدركات البندقي بالذهب المختوم باعتبار القيمة وبيع الذهب المكسور بالمختوم متفاضلاً أو الفضة المعمولة بالفضة كذلك. وكل ذلك ربا محرم يجب إنكاره والمنع منه ولا اعتبار برضى البائع والمشتري بذلك البتة. كما لا اعتبار برضاهما في استدانة المائة بمائة وعشرة مثلاً. ومنها: ما يفعله بعضهم مما هو أدق من ذلك وأغمض. وهو أن يصرف الدينار مثلاً بعشرين درهمًا فضة فيأخذ الصيرفي منه الدينار ويقول اذهب/ إلى الظهر أو العصر لأحصل لك الفضة أو يعطيه بعضها ويصبره بالباقي ولو كان ربع درهم. وكل ذلك ربا محرم لأن النسيئة في النقدين حرام. وإنما يجوز بشرط التقايض في المجلس، والعقود الفاسدة في الربوبات وغيرها لا تنحصر ومحل ذلك كتب الفقه والصور الموجودة منها في الأسواق وغيرها كثيرة يطول هذا المختصر باستيفاء بعضها.

ومن تصدى لشيء من ذلك افترض عليه العلم بالصحيح منه والفاسد وإلا ارتكب الحرام وهو لا يشعر والله ولي التوفيق. ومنها: عمل آنية الذهب والفضة: وقد تقدم أن اتخاذها حرام وإن كانوا لا يستعملونها. وكذلك طواقي الحرير وغيرها مما لا يلبسه إلا الرجال. فكل ذلك منكر يجب المنع من بيعه وعمله. ومنها: جلوس البياعين ببضائعهم في الطرق والشوارع وفي أبواب المساجد والجوامع: وذلك كله لا يجوز لما فيه من تضييق الطريق المشتركة بين المسلمين، وهم غاضبون للمكان الذي جلسوا فيه. ويجب على كل قادر منعهم من ذلك وإزعاجهم عن ذلك المكان، وكل من اشترى منهم فقد أعانهم على ظلمهم ورغبهم فيه وشاركهم في الإثم. إذ لو امتنع الناس من الشراء منهم لامتنعوا من فعلهم، وعلم كل أحدٍ أن ذلك لا يجوز. ومنها: ومنها ما يفعله بعض الطوافين كبياع الكتان واللبن والجماز والزيت الحار ونحوهم من أن يبيع المرأة بعد أن يدخل إليها إلى موضع لا يراهما فيه من يمر في الطريق أو يدخل إليها إلى دهليز البيت. وهذا منكر يجب منعهما منه لأن الخلوة بالأجنبية حرام بالإجماع عليه وعليها. وكذلك دخول السقاء والطحان والمزين والنجار ومن أشبههم. كل هؤلاء لا يجوز لأحد منهم الدخول على المرأة وهي وحدها. وقد يدخل العطار وبياع الكتان والزيت الحار ومن أشبههم إلى زقاق غير نافذ أو ربع ونحوه ويجتمع عليه النساء من غير احتجاب، وقد يكون على بعضهن الثوب الرقيق الذي يصف البشرة أو القصير وهي بغير سروال أو هي مشمرة الأكمام أو ثياب زينتها ونحو ذلك، فيبايعنه ويمزحن معه ويضحكن.

وكل هذا بدعة محرمة ومنكر شنيع يجب إنكاره والمنع منه على كل قادر من رجل أو امرأة. وربما يزعم أكثرهن أن ذلك جائز وأن هؤلاء لدناءة صنائعهم وكثرة مخالطتهم النساء لا يجب الاحتجاب منهم وإنما يجب الاحتجاب ممن له جلاله ومكانة [وفيه كفاءة لمثلهن، وربما يزعم كثير منهن أن الغريب لا يحتجب منه]. وقد شاهدنا ذلك كثيرًا بمكة شرفها الله تعالى/ وببلاد مصر. وكل ذلك ابتداع في الدين وافتراء على الله تعالى في تحليل ما لم يحل. وكثير منهن لا يحتجب من ضاع زوجها وأجرائه ولا من غلمانه، ويدخل عليها زوجها المغفل فيراها تحدث غلامه أو صانعه أو البياع وهي مكشوفة الوجه لا ينهاها، ولو قيل له في ذلك لقال: أنا لا أخاف عليها لأن لها معي سنين ما رأيت عليها شيئًا أكرهه. كأن الله تعالى ما حرم عليها في زعمه إلا الزنا لا غير. ومثل هذا ساقط المروة فاسق مردود الشهادة. وقد يدخل بيته فيجد السقاء في بيته يصب الماء والمرأة وحدها في البيت تقدم إليه الآنية. وربما رأى السقاء في الطريق فيقول له اذهب إلى البيت فصب لهم الماء مع علمه أنه ليس في البيت غير زوجته أو ابنته أو أخته. وكل ذلك حرام ومنكر يجب على كل قادر إنكاره، ويجب التوبة منه والإقلاع عنه. ولو كان السقاء لا يرى شكلها ولا يحدثها لكانت خلوته بها في بيت واحد حرامًا. فكيف والنساء في الغالب يباسطنه ويحادثنه ويسألنه عن أحواله.

فنسأل الله العافية ونعوذ به من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والمنكرات من هذا النوع كثيرة جدًا وفي هذه الصور كفاية. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ومنها: ما هو مشاهد من أحوال السقايين ببلاد مصر: وهم أنهم يدخلون بالجمال إلى الماء وعليها الروايا فتبول الجمال في حال اغتراف السقائين فيغترفون ولا يبالون بما في الماء من البول أو البعر، ثم يأتي المشتري فيدخل بالماء إلى بيته ويفرغه في أوانيه فيجد في بعضها البعرة أو البعرتين أو أكثر، أو يجده متغير الطعم أو الرائحة بما شابه من البول، فتتنجس الأوعية وما أصاب ذلك الماء من الثياب وغيرها. ولا تصح صلاة من توضأ بذلك الماء، أو لبس شيئًا من الثياب المغسولة به. وأصل ذلك كله تساهل السقايين في النجاسة أولاً. فيجب إنكار ذلك عليهم ومنعهم منه. بل ويجب على من فعل منهم شيئًا من ذلك أن يخرج بالماء من أوعية أو ثياب وغيرها ويضمن ما تنجس به من طعام وعجين وبقية ماء وغير ذلك. ويجب عليه الرجوع بثمنه إن كان قبضه ويؤدب من اعتاد ذلك منهم بما يليق به ولو أراقه المشتري لا يجب عليه قيمته لأن الماء المتنجس لا قيمة له، والله أعلم. /ومنها: استعمال السقايين القرب الجديدة التي يتغير بها وصف الماء ولا يبينون ذلك للمشتري. وهذا غش ومنكر يجب منع السقايين منه إلا أن يبينوا لأن ذلك الماء، لا يرتفع به حدث ولا يطهر نجسًا. ويحتمل أن يقال أنهم يمنعون مطلقًا، وأن يبنوا حال القربة وتغير الماء، لأن أكثر الناس لا يعلم هل تصح الطهارة من ذلك الماء أم لا.

وكذلك الحكم إذا كانت القربة عتيقة ودهنها بالقطران. فإن ماءها إذ ذاك لا تصح به الطهارة لتغيره. ومنها: بناء الدكك من خشب وغيره على أبواب الدور في الشوارع النافذة: وذلك حرام سواء أضر بالمارة أولم يضر على الصحيح. ويجب على كل قادر هدم ذلك والمنع منه. لأن الناس كلهم مشتركون في الطريق فليس لأحد منهم أن يختص دونهم بشيء. ولقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- أنه كان له صاحب يعزه ويكرمه ويجلسه إلى جانبه، فلما كان في بعض الأيام جاء إلى أحمد فأعرض عنه وتكرر هذا منه غير مرة، فسأله عن سبب ذلك يومًا، فقال بلغني أنك طينت جدارك من خارج فأخذت من طريق الناس قدر أنملة غصبًا. وقال الغزالي: ومن المنكر المعتاد في الشوارع وضع الأساطين وبناء الدكات متصلاً بالأبنية المملوكة وغرس الأشجار وإخراج الأجنحة وأحمال الحبوب والأطعمة وغيرها على الطرقات. فكل ذلك منكر إن كان يؤدي إلى تضييق الطريق واستضرار المارة. وإن لم يؤدي ضرر أصلاً لسعة الطريق لا يمنع منه. قلت: قد تقدم أنه يمنع من بناء الدكة وإن كان لا يضر على الصحيح، والله أعلم. نعم: يجوز وضع الخشب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت. فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه. وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث تضيق الطريق وتنجس المجتازين منه منكر، يجب المنع منه، إلا بقدر حاجة النزول والركوب.

وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة، وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة. والمراعى: هو الحاجة التي تراد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات/ ومنها: سوق الدواب وعليها الشوك بحيث تخرق ثياب الناس: وذلك منكر، إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق الثياب، أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع. وإلا فلا يمنع إذًا حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك. نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة نقلها. وكذلك: تحميل الدواب ما لا تطيقه من الأحمال. منكر، يجب منع الملاك عنه. وكذلك: ذبح القصاب على باب دكانه وتلويث الطريق بالدم: منكر، يجب المنع منه. بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحًا، فإن ذلك يضيق الطريق ويضر بالناس. وكذلك: طرح الكناسة على جوار الطريق وتبذير قشور البطيخ ورش الماء بحيث يخشى الزلق والسقوط. وكل ذلك من المنكرات. وكذلك: إرساء الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطريق الضيقة: فإن ذلك ينجس الثياب ويضيق الطريق، ولا يمنع منه في الطرق الواسعة، إذ العدل عنه ممكن. فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح. فذلك منكر، ولكن ليس يختص به شخص بعينه إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق من ميزاب معين، فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق.

فإن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس بالقيام بها وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط. وكذلك: إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس: فيجب منعه منه. وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه. وإن كان يضيق الطريق ببسط ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعودًا يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع، انتهى كلامه. ومنها: ما يفعل في المحمل وتولية السلطان أو غانيته وقدومه من الزينة ونحو ذلك: من ستر جدران الحوانيت بالحرير والمزركش وافتراش الرجال الحرير في حوانيتهم وتصوير الصور المحرمات مع ما يتفق فيها من الفساد، وخروج النساء ليلاً للتفرج والإسراف في وقيد القناديل والشمع من غير ضرورة إلى غير ذلك مما لا نطيل بذكره لمشاهدة ذلك ومعانيته. فكل ذلك منكر مبتدع محرم يجب إزالته والسعي في تغييره وإنكاره بقدر الاستطاعة والعزلة/ في زمن الزينة في البيوت حتى لا تشاهد. وقد أفتى ابن الرفعة بتحريم التفرج على ذلك والنظر إليه، والله أعلم. ومنها: ما يفعل من الزفات في ختم الصبي القرآن وفي الختان والعرس كركوب الصبي أو العروس على فرسٍ أو بغلة وإيقاد الشموع وقراءة المقرئين بين يديه، أو ذكر الفقراء الذكارين. وهذا كله بدعة شنيعة لم تعهد في السلف الصالح. فإن انضم إلى ذلك اجتماع النساء فيها ومشيهن مع الرجال والمردان والإسراف

في الوقيد وضرب الطبول والدفوف وتكليف المعارف المساعدة في ذلك. وانضم إلى ذلك المفاخرة والمباهات والرياء والسمعة بإضاعة المال وغير ذلك مما هو مشاهد لا ينكر حرمة ذلك وتأكد وجوب إنكاره على من يستطيع ذلك من المسلمين، وإن لم ينكر ذلك اشترك الكل في الإثم. فإن فعل ذلك من يقتدي به من القضاة والفقهاء كانت المصيبة العظمى والداهية الدهياء، وكان ذلك أبلغ في وهن الدين وإضلال الجاهلين وكذلك إن حضره أحد منهم. وينبغي على ما قال ابن الرفعة أن يحزم النظر إلى هذه البدعة والمساعدة عليها، وتكثير سواد أهلها. وقد يستر بعضهم المنبر الذي يخطب عليه الصبي وجدران المسجد بالذهب والحرير. وهذا كله بدعة محرمة على فاعلها وناظرها والمعين عليها والمساعدة عليها واجب إنكارها على كل قادر. ومنها: ما يشاهد على أبواب الحمامات أو داخلها من الصور: وهو بدعة منكرة يجب إزالتها على كل قادر. وقال الغزالي: فإن كان الموضع مرتفعًا لا تصل إليه اليد فلا يجوز الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجوهها، انتهى. ومنها: كشف المدلك في الحمام عن الفخذ وما تحت لتنحية الوسخ. وقال الغزالي: بل من جملة المنكرات إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها.

وأما الانبطاح بين يدي المدلك ليغمز الإعجاز والأفخاذ. فهو مكروه وإن كان مع حائل. فإن خيف من حركة الشهوة كان ذلك حرامًا. /ومنها: ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام. وهو منكر، ومن فعل ذلك وخروج وتركه في موضع لا يظهر أو يتعذر الاحتراز منه فزلق به إنسان. قال الغزالي: فالضمان بين الذي تركه وبين الحمامي إذ على الحمامي تنظيف نفس الحمام لوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول وعلى الحمامي في اليوم الثاني. إذ العادة تنظيفه كل يوم والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادة، انتهى. واعلم: أن دخول الحمام في هذا الزمان لا يجوز إلا أن يعلم أن كل من فيه مستور العورة متحفظ على سترها، أو يكون ذا قدرة على الإنكار. وقد ورد عدة أحاديث تدل على تحريم الحمام. وقال القرطبي في تفسيره قلت: أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي ميازرهم حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائمًا منتصبًا وسط الحمام وخارجه باديًا عن عورته ضامًا بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر الرجل فكيف النساء لاسيما بالديار المصرية. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

3 - فصل في بعض منكرات الحجاج فمنها: وهو أعظمها فتنة وأجلها في الدين مصيبة وأكثرها وجودًا وبلية .. وهو تضييع أكثرهم الصلاة في الحج. وكثير منهم لا يتركونها بل يضيعون أوقاتها ويجمعون على غير الوجه الشرعي. وذلك حرام بالإجماع. ومن تحقق أن ذلك يصيبه في حجه حرم عليه الحج رجلاً كان أو امرأة. قال ابن الحاج وقد قال علماؤنا في المكلف: إذا علم أنه تفوته صلاة واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط الحج عنه. وقد سئل مالك رحمه الله عن الذي يركب البحر إلى الحج ولا يجد موضعًا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه أيجوز له الحج؟ فقال رحمه الله: أيركب حيث لا يصلي؟ ويل لمن ترك الصلاة. قال: وقد اختلف علماؤنا في الحاج يأتي مراهق ليلة النحر فيريد أن يدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر ثم يذكر أنه لم يصل العشاء بعد، فإن [هو] اشتغل بصلاة العشاء فإنه وقت الوقوف وإن وقف خرج العشاء. على أربعة أقوال المشهور منها: أن يصلي ويفوته الحج، انتهى. قلت: وذكر القاضي حسين في فتاويه في هذه المسألة وجهين. أحدهما: يشتغل بالصلاة وإن فاتح الحج. والثاني: يشتغل بالوقوف.

قال البغوي: وكان رحمه الله يميل إلى هذا قال: والأول أصح في القياس، انتهى. وأما النساء فلا يمكن/ إحداهن الصلاة في وقتها المشروع أبدًا إلا في النادر الذي لا حكم له. وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحج وتهاونهم بالصلاة والإنكار وخوف المصلي من فوات الرفقة ومشقة اللحوق بهم. فالواجب على الأمراء أن يقفوا بالحاج في أوقات الصلوات إذا دخلت عليهم وهم مسافرون ويتفقدون من لم يصل من الجمالين وغيرهم ويشددون عليهم أمر الصلاة ويمنعون من يتقدم منهم قبل الصلاة. فإن لم يفعلوا كان إثم من ترك الصلاة لذلك في أعناقهم، ومن تركها تهاونًا وكسلاً ولم يعلموا به فإثمه في عنق نفسه، وحكمه مذكور في كتب الفقه. ومنها: ما أحدثه الناس من الركوب في المحامل: وذلك بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة. وإنما أحدثها الحجاج بن يوسف فركب الناس سنته، وكان العلماء في وقته ينكرونها ويكرهون الركوب فيها. قال أبو طالب المكي في كتاب القوت: وأخاف أن بعض ما يكون من تماوت الإبل يكون ذلك سببه لثقل ما تحمل ولعله عدل أربعة أنفس وزيادة مع طول المشقة وقلة الطعام. وقال مجاهد: كان ابن عمر إذا نظر إلى ما أحدث الحجاج من الزي والمحامل يقول الحجاج قليل والركب كثير، انتهى. ومنها: تزيين الجمل بالحلي من الذهب والفضة والقلائد والأساور وإلباسه الحرير وتزيين المشاعر بذلك: أيضًا.

يفعلون ذلك عند خروجهم من بلدهم ورجوعهم إليه، وعند دخولهم مكة والمدينة. وكل ذلك بدع محرمة ومنكرات شنيعة يجب إنكارها والمنع منها على كل قادر. وإنما يحملهم على ذلك المفاخرة والمباهات والرياء والسمعة وطلب الثناء والرفعة على الأقران. وهم آثمون في جميع ذلك ويشاركهم في الإثم من تطاول لرؤية ذلك واستحسنه أو سكت عنه. ومنها: ما يفعله بعض النسوة لقرابتهن أو لأصحابهن من رفع أصواتهن بالتحية والرجال يسمعون في الطرق وغيرها ولا ينكر أحد عليهن. وهذه بدعة يجب إنكارها. ومنها: ما يفعله بعض الجهال: وهو أن يأتي الحجر الأسود فيقبله أو يستلمه ثم يأخذ في الطواف أو يفعل هذا في آخر الطواف وينصرف. وهذا لا يصح طوافه لأن شرط الطائف أن يحاذي أولاً الحجر بجميع بدنه ثم يطوف. وشبهه القاضي أبو الطيب بتكبيرة الإحرام، والذي يواجهه لا يصح منه. ذلك، ولا يحسب له الشوط/ الأول. فعلى هذا يكون طوافه ستة أشواط، فإن كان ذلك طواف القدوم وجب عليه دم، وإن كان طواف الإفاضة بطل حجه. فيجب على من رأى من يفعل ذلك أن يبينه له، ويأمره أن يتأخر عن الحجر الأسود إلى جهة الركن اليماني قليلاً ثم يجعل البيت عن يساره ويأخذ في الطواف، وإذا كان آخر شوط تقدم إلى جهة الباب قليلاً أيضًا ثم خرج.

ومنها: أن كثيرًا من الناس يمس الجدار بيده في طوافه حال موازنته الشاذروان وهذا لا يصح طوافه، وإن كان ذلك في طواف الإفاضة فسد حجه كما تقدم. وهذا فعل يسير وخطره عظيم، فيجب التنبيه على مثل هذا. وكذلك الحكم فيمن مشى على الشاذروان أو وقف عليه أو وضع عليه رجله في حال الطواف. وكثير من الناس يقف على الشاذروان ويضع وجهه على جدار البيت، فليحذر الإنسان مثل هذا غاية الحذر لئلا يفسد حجه أو يقع في محظور، وإن رأى من يفعل ذلك أو الذي قبله فلينبهه عليه وليأمره أن يرجع خطوة أو خطوتين احتياطًا ثم يطوف على ما كان ليصح طوافه. ومنها: تقبيل بعضهم الحجر أو استلامه بيده. وهو محرم، وفي الحجر ما فيه من الطيب والمسك ونحو ذلك. فيقع فيما حرم عليه من الطيب وهو لا يشعر ويجب عليه دم. وما أظن في ذلك خلافًا، وهذا الفعل قل من يسلم منه. فيجب على من علم تحريم ذلك أن ينبه عليه غيره من إخوانه المسلمين نصحًا لهم وشفقة عليهم. ومنها: أن بعض الجهال والأعراب يطوف من داخل الحجر: وهو لا يصح طوافه، ويبطل حجه إن فعل ذلك في طواف الإفاضة ولم يتداركه. ويجب عليه إن فعل ذلك في طواف القدوم أو الوداع على الصحيح. ومنها: أنهم يتركون المبيت بمنى وهو سنة ويتوجهون إلى عرفة ليلاً فيوقدون الشموع والقناديل ويتفاخرون بذلك. وهذا كله من البدع المحدثة في الدين، ويتعين على من له اليد أن يمنعهم من ذلك ويزجرهم. ومنها: طوافهم بالقبة التي يسمونها قبة آدم عليه السلام:

وهي بدعة شنيعة يجب إنكارها والمنع منها. ومنها: أن بعضهم يأخذ في الرحيل بعد الزوال يوم عرفة ويأتون إلى العلمين أو قريب منهما ويقفون هناك: فإذا سقط بعض قرص الشمس أسرعوا الخروج/ من بين العلمين. وفاعل هذا يريق دمًا عند الشافعي استحبابًا. وقيل وجوبًا. وأما عند مالك ومن تابعه فالوقوف في جزء من الليل واجب لابد منه، وعلى من تركه إراقة دم. وفعل هؤلاء بدعة منكرة يجب على الأمير أن يمنع هؤلاء من فعلهم، وأن لا يمكن أحدًا من النفر حتى يتحقق دخول جزء من الليل. وينبغي له بل يجب عليه أن لا يترك بعض الحاج يخرجون من وراء العلمين، لأن العلمين إنما هما لبيان حد عرفة من غيرها، لا أن الدخول بينهما واجب كما يزعم بعض الجهال أن من لم ينفر بينهما لا يصح حجه. وهذه بدعة شنيعة يقع بسببها ما لا خير فيه من الزحمة العظيمة والشتم وكسر المحامل وسقوط الأحمال والضرر الكثير بالضعفاء، وغير ذلك مما هو مشاهد لا يخفى وسبب كل ذلك اعتقادهم أن الدخول من بينهما لابد منه. فإذا تفرقوا خفت الزحمة وقل الضرر وحصل الرفق. ومنها: أن كثير من الحاج لا يقف بالمزدلفة وإن وقف فلا يبيت: وهذا بدعة يجب على الأمير ومن قدر أن يمنع منها. لأن من ترك المبيت بمزدلفة وجب عليه إراقة دم في الأظهر. وذهب ابن خزيمة وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن فعلي هذا إذا تركه فسد حجه، ولا يجبر بدم ولا بغيره. وشرط المبيت أن يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل، ولو رحل قبله لم يسقط عنه الدم، ولو عاد إليها قبل الفجر سقط. ومنها: تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحارم.

وذلك بدعة أيضًا. ومنها: أن بعضهم يرجع يوم النحر إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ثم يشتغل بها إلى الليل ويبيت بها: والمبيت بمكة في ليالي منى بدعة. ومن بات بها أراق دمًا عند مالك ومن تابعه. وأظهر أقوال الشافعي أنه لا يريق دمًا بليلة واحدة. والأظهر عند النووي أن الدم بترك المبيت واجب، وهو مذهب مالك ومن تابعه. ومنها: إن بعض من يتأخر إلى اليوم الرابع من أيام منى يرحل قبل الزوال: وهذا يجب عليه دم عند مالك والشافعي لتركه الرمي، ولا اعتبار برميه قبل الزوال لأنه كالصلاة قبل دخول وقتها، فوجوده كعدمه سواء. فإن علم أنه لابد له من الرحيل قبل الزوال فينبغي له أن يرحل في اليوم الثالث/ بعد الزوال والرمي [فإن رجع ورمى بعد الزوال] سقط عنه الدم، ولا يقيم حتى تغرب عليه الشمس، لأنه متى غربت عليه الشمس بمنى وجب عليه المبيت بها والإقامة إلى الزوال حتى يرمي بعده. وبالجملة فمنكرات الحج وما ابتدع فيه كثير لا يمكن حصرها، وإنما ذكرنا هذه النبذة وأكثرها مما يتعلق بالفقه لكثرة وقوعه وعظم خطره. فليتنبه لأشباه ذلك من رام استقصاء أكثره، والله ولي التوفيق. ومنها: ما يفعله بعض الأتراك أومن له جاه، من سبقه إلى الماء ومنع الناس عنه بالضرب وغيره إلى أن يكتفي هو وجماله:

وهذه بدعة محرمة، واعتداء لا يجوز، ومنكر يحرم السكوت عن إنكاره، على كل قادر. وقد تقدم ذكره وأنه من الكبائر، ومن فعل شيئًا من ذلك فيجب عليه التوبة والإقلاع. فإن الناس كلهم مشتركون في ذلك الماء، وليس لأحد أن يختص بشيء منه أكثر من حاجته، ولا أن يدفع عنه محتاجًا إليه، ولا أن يتقدم على من سبقه إليه إلا بإذنه، والله أعلم.

4 - فصل في ذكر شيء مما يقع في النكاح، وبعده من البدع والمنكرات فما يفعل في العقد من استعمال الفوط الحرير لمسح الأيدي بماء الورد، وربما كان الورد في قمقم فضة والتبخير بمباخر الفضة وفرش الحرير من المقاعد وغيرها. وهذه بدعة محرمة يجب إنكارها على كل قادر، فإن كان عاجزًا عن التغيير حرم عليه الحضور وسقط عنه وجوب [إجابة] الدعوى عند من يرى وجوبها. ومنها: اجتماع النساء على السطح أو في الغرف للنظر إلى الرجال مهما كان وربما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منه. قال الغزالي: فكل ذلك منكر محظور يجب تغييره، ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة في الجلوس مع مشاهة المنكرات. ومنها: تعليق الستور وعليها الصور: وذلك بدعة محرمة يجب إنكارها والمبادرة إلى تغييرها. وكذلك قد تكون رؤوس المباخر وأغطية القماقم على صورة طائر. وذلك أيضًا حرام يجب كسر مقدار الصور منه، فإن كانت الصور على ما يمتهن كالبسط والوسائد فليس بمنكر. ومنها: أن يكون في الوليمة من يضحك الحاضرين بالفحش والكذب: قال الغزالي: فلا يجوز الحضور، وعند الحضور يجب/ الإنكار وإن كان

ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح، أعني ما يقل منه وأما اتخاذه صفة ومادة فليس بمباح، انتهى. ومنها: الإسراف في الطعام والبناء: وذلك منكر، قاله الغزالي. ومنها: ما يفعله الجهال من أهل ديار مصر ويسمونه الشطور: وهو بدعة، يشتمل على جمل من المنكرات، كفرش الحرير والتظليل به وستر الجدران به. وباستعمال أواني الذهب والفضة فيه غالبًا. وتفرج النساء على الرجال. وحضور المغاني بالآلات المحرمة. وإنفاق ما يصرف فيه رياء وسمعة ومفاخرة. واستعارة المستحسن من قماش الناس ليتكثروا به، وهو تشبع بما لم يعطوا. إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأمور المحرمة التي تغني شهرتها عن ذكرها. فيجب على كل قادر المنع من ذلك وتغييره، ويحرم حضوره والسكوت عنه، ويفسق بحضور من كان عدلاً. والله ولي التوفيق. ومنها: ما عم وعظمت به البلوى ولم يسلم منه إلا من عصمه الله: وهو جلاء المرأة على الرجل في أحسن ثيابه وأكمل حالاته في مجمع من النساء الأجنبيات منه. وهو بدعة محرمة إذ نظرهن إليه حرام بشهوة وغيرها على الأصح. مع أنه لا يحتجب منهن. إذ ذاك إلا النادر فترى الرجل ينظر إليهن غالبًا

وينظرن إليه ويحدقن بصرهن فيه ليتحققن ما فيه من المحاسن وغيرها. ثم إنهن يضفن إلى هذا المحرم محرمًا آخر أشد منه، وهو جلاء المرأة في ثياب الأتراك كالقباء والكلوثة وتأخذ في يدها سيفًا. وكل هذا حرام وهو من الكبائر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ونهى صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل لبسة المرأة وأن تلبس المرأة لبسة الرجل. وهذه بدعة محرمة لم يفعلها إلا من لا خلاق له، فيجب إنكارها والتحذير منها والمعصوم من عصمه الله. ومنها: ما يفعله من لا دين له ولا مروة عنده من جلاء المرأة على زوجها بحضور الرجال الأجانب وهم يتفرجون عليها بزينتها وحليها: وقد تحققنا ذلك عند طائفة من أهل دمياط والبرلس وغيرهما، وحكي ذلك عن بلاد كثير من بلاد مصر، حتى إنهم يعيبون من ستر زوجته من الرجال حال الجلاء، أو منع رؤيتها وربما خلعوا الباب/ ودخلوا قهرًا لما اعتادوه من إباحة ذلك. وهذا لا يحتاج في تحريمه إلى بيان إذ هو من أشنع البدع وأقبح المحرمات، ومن استحل ذلك من زوج أو متفرج فهو كافر يضرب عنقه على ما عرف في الشرع. فمن استحل المحرمات ومن ترك إنكار ذلك من الحكام وغيرهم من أقارب الزوجين والأجانب منها مع القدرة فهو آثم فاسق شريك لهم فيما ارتكبوه، شبيه لهم فيما انتهكوه غير ناصح لله ورسوله والمؤمنين. ومنها: ما يفعله كثير من الجهال ببلاد مصر والشام وغيرهما حال الجلاء من جلوس قرابة الرجل معه على المنصة كأخيه وابن عمه ونحوهما.

وهذا أيضًا حرام كالأول، إذ لا فرق بين الرجال الأجانب وأقارب الزوج إن لم يكونوا محارم المرأة وربما افتتن بعض هؤلاء بالمرأة لأنه يراها في أكمل حالاتها وأجمل أوقاتها، فيترتب على ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يخفى. ومنها: أن بعض الرجال يعتزل امرأته إذا حاضت وينام وحده: وهذه بدعة مكروهة مخالفة للسنة. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه. وفي رواية كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا طامث حائض فإن أصابه منه شيء غسل مكانه ولم يعده. رواهما أبو داود. وفي الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أم سلمة فاضطجعت معه في الخميلة وهي حائض». وفيهما: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معي وأنا حائض بيني وبينه ثوب. فاعتزال المرأة في حال الحيض بدعة مخالفة للسنة، وهي من عوائد اليهود. ومن تشبه بقوم فهو منهم. ومنها: كتابة الصداق في الحرير: وهي بدعة. وقد صرح النووي في فتاويه بأنه لا يجوز.

وكذا صرح به جماعة. وذهب آخرون إلى جوازه. ومنها: ما تفعله بعض القبائل: وهو أنها تلعق المولود مما يتعلق بأصابعها من النجاسات حال إلقاء الولد من بطن أمه، ويعتقدون أن ذلك ينفع المولود لكذا وكذا. وهذه بدعة لا تجوز وكذب منهن وافتراء. فينبغي التنبيه على ذلك ومنعهن منه. فإنما السنة التحنيك بالتمر ونحوه على ما هو معروف عند العلماء. ومنها: إذا تعسرت الولادة على المرأة أخذت لها لباب الخبز وجعلن في قلبه زبل الفأر وأطعمت/ ذلك من حيث لا تشعر به، ويعتقدون أن ذلك يسهل الولادة. وهذه بدعة محرمة يجب إنكارها؛ لأن أكل النجاسة حرام. ولهن من هذه البدع وما شابهها أشياء كثيرة لا يمكن استيفاؤها. ومنها: ما أحدثه بعضهن في ليلة السابع: وهو أن يضعن عند رأس المولود الختمة واللوح والدواة والقلم ورغيفًا من الخبز وقطعة سكر، وربما عمل بعضهم رغيفًا كبيرًا إلى النهاية وبلوح سكر وطبق فاكهة فإذا أصبحن فرقن ذلك على النساء وغيرهن، ويزعمن أنه بركة لمن أخذه وأنه ينفعه من الصداع. وكل ذلك كذب وافتراء وابتداع في الدين. ومنها: الدوران بالنفساء في البيت كله والقابلة أمامها حاملة المولود، وامرأة ألحرى أمام القابلة معها طبق فيه ملح وكمون تنثره في البيت يمينًا وشمالاً وفي الطبق شيء من البخور الذي يتخذنه برأيهن ويزعمن أنه ينفع من الأمراض والكسل والعين والجان.

وهذا كله بدع مكروهة وافتراء على الله ليس من الشرع في شيء فليحذر أبو الولد ذلك وينهاهن عنه. ومنها: تثقيب آذان الصبي: وذلك بدعة يجب إنكارها والمنع منها. وأما البنت فنص الإمام أحمد على جواز ثقب أذنها لحاجتها إلى الحلية. وقال الغزالي في الإحياء: لا أرى رخصة تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فإن ذلك جرح مؤلم، والتزين بالحلق غير مهم، وفي المخانق والأسورة كفاية عنه، وإن كان معتاد فهو حرام والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه حرام. إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة، ولم يبلغنا الآن فيه رخصة، انتهى.

5 - فصل ومن البدع التي أحدثت في العيادة أنه لا يعاد المريض يوم السبت، ومن عاده تطيروا به وشق ذلك عليهم. وهذه بدعة في الدين ومخالفة لسنة سيد المرسلين. إذ لم يوقت في العيادة يومًا دون يوم، ولا وقتًا دون وقت. وقد ذكر بعضهم أن أصل هذه البدعة أن يهوديًا كان طبيبًا لملك من الملوك فمرض الملك مرضًا شديدًا فكان اليهودي لا يفارقه فجاء يوم الجمعة فأراد اليهودي أن يمشي إلى سبته فمنعه الملك، فأقدر اليهودي أن يستحل سبته وخاف من سفك دمه، فقال اليهودي إن المريض لا يدخل عليه يوم/ السبت فتركه الملك ومضى لسبته. ثم شاعت هذه البدعة بعد ذلك، واتخذها كثير من الجهال سنة. ومنها: ترك العيادة بالليل وكراهة ذلك والتطير به. وهذا بدعة، وقد لا يصبح المريض فيفوت ثواب العبادة. وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على عيادة المريض ولم يمنع منها في ليلٍ ولا نهار، بل قال صلى الله عليه وسلم: : «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة» إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة.

رواه الترمذي عن علي، وقال حديث حسن، ورواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما، ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: : «ما من مسلم يعود مسلمًا إلا يبعث الله إليه سبعون ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار حتى يمسي، وفي أي ساعات الليل حتى يصبح». انظر كيف رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيادة ليلاً ونهارًا، فألقى الشيطان عندهم كراهيتها بالليل ويوم السبت ليؤخروها إلى النهار أو إلى الأحد عسى أن يكون التأخير سببًا لتفويتهم هذا الأجر الجزيل في العيادة، وربما شفي المريض أو مات أو حدث بالعائد ما يمنعه من العيادة في غد ونحو ذلك. ومنها: أنه لابد وأن العائد يأتي معه بشيء للمريض سواء كان غنيًا أو فقيرًا: فإن لم يفعل تكلم فيه وقدح بالبخل والنذالة وقلة المروءة ونحو ذلك. وهذه بدعة لم ترد بها السنة. وهذا المريض لا يخلو من حالين إما أن يكون فقيرًا محتاجًا فدفع احتياجه فرض كفاية على كل قادر من المسلمين لا يختص ذلك بوقت العيادة ولا غيرها. وإن كان غنيًا فلا وجه لزم عائده على ترك الهدية إليه في حال الضعف ولا في غيره لعدم الاحتياج. مع إن الغالب في مثل هذا إنما يكون على سبيل المعاوضة والمقارضة لا على سبيل الهدية والإعانة. وقد يكون العائد إذ ذاك ضيق اليد فيحتاج إلى كلفة في تحصيل ما يأتي به

إلى المريض ويترك العيادة خوفًا من الملامة ويعتذر عن ذلك بما أمكنه من كذب أو تعريض ونحو ذلك، وقد يؤدي ذلك إلى القطيعة بين الأخوان والأقارب، والمجازاة بترك العيادة عمدًا. ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد الدينية والدنيوية، مع أن المطلوب إنما هو نفس العيادة ليس إلا، فإن أتى معه بشيء على سبيل الهدية/ أو المساعدة لكون الضعيف قد حصل له ما يمنعه من الاكتساب أو شراء الحاجة ونحو هذا فلا بأس بذلك بشرط صحة القصد، والله أعلم.

6 - فصل في ذكر شيء من المنكرات الجنائز والمقابر فمنها: اللطم والنوح وشق الجيب وقطع الشعر: وقد تقدم ذكره. ومنها: قراءة المقرئين أمام الجنائز على ما يعهد من تمطيطهم وتلحينهم وزيادتهم في الحروف. وهذه بدعة محرمة يجب إنكارها على كل قادر. وقد استفتي النووي- رحمه الله- فقيل له هذه القراءة التي يقرؤنها الجهال على الجنائز بدمشق بالتمطيط الفاحش والتغني الزائد وإدخال حروف زائدة ونحو ذلك مما هو مشاهد منهم هل هو مذموم أم لا؟ فأجاب رحمه الله: بل هذا منكر مذموم فاحش وهو حرام بإجماع العلماء. وقد نقل الإجماع فيه الماوردي وغير واحد. وعلى ولي الأمر- وفقه الله- زجرهم عنه وتعزيرهم واستتابتهم، ويجب إنكاره على كل مكلف تمكن من إنكاره، انتهى. فإن كانت القراءة على وجهها من غير تمطيط ولا ألحان كان ذلك بدعة مكروهة. لأن ذلك لم يرد فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا عن أحد ممن يقتدي به من السلف. وكذلك الذكارين مع الجنازة بدعة مكروهة، والله أعلم.

ومنها: تغطية الرجل الميت باللحاف الحرير والفوط الحرير والمزركش وفرش ذلك تحته: وهذه أيضًا بدعة محرمة ويجب إنكارها على فاعلها بالميت. ولو كان هذا جائزًا لكان الأولى أن يقدم إلى الله تعالى في ثياب الذل والافتقار لا في ملابس التيه والافتخار. اللهم بصرنا يا أرحم الراحمين. ومنها: البناء في المقبرة المسبلة: وقد تقدم أن ذلك حرام يجب هدمها باتفاق العلماء، وأنه لا يمكن أحد من البناء فيها. قال ابن الحاج في المدخل: وقد قال لي من أثق به وأسكن إلى قوله، إن الملك الظاهر كان قد عزم على هدم كل ما في القرافة من البناء كيف ما كان، فوقفه الوزير عن ذلك، وفنده واحتال عليه بأن قال له: إن فيها مواضع الأمراء وأخاف أن تقع فتنة بسبب ذلك، وأشار عليه بأن يعمل فتاوى في ذلك فيستفتي فيها الفقهاء هل يجوز هدمها أو لا، فإن قالوا بالجواز فعل الملك ذلك مستندًا إلى فتاويهم فلا يقع تشويش على أحد، فاستحسن الملك ذلك وأمره أن يفعل ما أشار به. قال: فأخذ الفتاوى ودفعها إلي وأمرني أن أمشي بها على من في الوقت من العلماء فمشيت عليهم بها مثل/ الظهير التزمني وابن الحميزي ونظائرهما في الوقت فالكل كتبوا خطوطهم واتفقوا على لسان واحد في أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله ويجب عليه أن يكلف أصحابها رمي ترابها في الكيماني. ولم يختلف في ذلك واحد منهم. قال: فأعطيت الفتاوى للوزير فما أعرف ما صنع فيها وسكت على ذلك، وسافر الملك الظاهر إلى الشام في وقته فلم يرجع ومات بالشام، انتهى.

وأما البناء على القبر في غير المقبرة المسبلة فهو بدعة مكروهة. قال ابن بشير المالكي في كتابه: وليست القبور موضع زينة ولا مباهاة، ولهذا نهى عن بنائها على وجه يقتضي المباهاة. والظاهر أنه يحرم مع هذا القصد، ووقع لمحمد بن حكم فيمن أوصى أن يبنى على قبره أنه تبطل وصيته وينهى عنها ابتداء، انتهى. وفي صحيح مسلم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر أو يبنى عليه. وروى أبو داود والترمذي وصححه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطئ وأن يبنى عليها. ومنها: الكتابة على القبر: وهي بدعة مكروهة، لما تقدم من نهيه صلى الله عليه وسلم عنها. قال النووي في شرح المهذب: ولا فرق بين أن يكون المكتوب في لوح عند رأسه على العادة أم في غيره لإطلاق الحديث. ومنها: أن يموت الميت ويمكن دفنه في يوم موته فيؤخرونه ليجتمع الناس ويصلى عليه الجمعة، أو يحضر فلان ونحو ذلك. وقد يكون تأخيره سببًا لانفجاره، ثم إنهم يدخلون به إلى الجامع فيضعونه في الصف الأول أو قريبًا منه فيغضبون ذلك المكان الذي وضعوا فيه سريره، وربما خرج من الميت شيء في المسجد أو في طريق المسجد ودخل متنجسًا إلى المسجد. وهذا كله منكر لا يجوز، وإكرام الميت تعجيل دفنه، والدفن بالليل جائز من غير كراهة.

وقد نقل الشيخ أبو حامد وصاحب الحاوي والشيخ نصر وغيرهم الإجماع عليه فإن خيف عليه الفساد وجب تعجيل دفنه ليلاً كان أو نهارًا. ومنها: أن يدفن في قبر ميت قبل أن يبلى الأول ويذهب أثره من غير ضرورة: وهذه بدعة محرمة شائعة بين الناس من غير نكير، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميت الأول أباه أو أمه أو ابنه أو أجنبيًا منه. حتى إن بعضهم يوصي أن يدفن على أبيه أو ابنه أو قرابته. وذلك لا يجوز لأن نبش القبر والكشف عن الميت حرام وموضعه مختص به. لا يجوز لأحد أن يدفن معه فيه إلا أن يفنى أو لم يبق له أثر. فيجب على كل قادر إنكار ذلك والمنع منه، فإن كان عاجزًا فيجب عليه أن لا يحضر ذلك لأن حضور الدفن/ وإنكار هذا واجب وليس له أن يتعرض لترك واجب بارتكاب سنة. والله أعلم. فرع: لو حفر فوجد عظامه أعاد القبر ولم يتم الحفر. قال الشافعي: فإن فرغ من القبر فظهر شيء من العظام جاز أن يجعل من جانب القبر ويدفن الثاني معه، ذكره الرافعي. فرع: دفن الاثنين يكره إلا لضرورة: ولا يحرم على الصحيح. نعم لا يجمع بين الرجال والنساء إلا عند شدة الحاجة. صرح في شرح المهذب بأن ذلك حرام حتى في الأم وولدها. وأباح بعضهم من كان بينهما زوجية أو محرمية، والله أعلم.

ومنها: ما يفعله بعضهم من الفرش تحت الميت والمخدة تحت رأسه: وهذه بدعة شنيعة. وكذلك ما يفعله من لباس الميت أفخر ثيابه من الحرير والذهب ونحو ذلك مع الكفن. وهذا حرام؛ لأنه إضاعة المال من غير ضرورة، وللورثة مطالبة من فعل ذلك به، والله أعلم. ومنها: التبخير عند القبر. وهو بدعة مكروهة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: : «أن يتبع الميت بنار». وقد نقل ابن المنذر الإجماع على كراهة إتباع الجنائز بالنار كمبخرة ونحوها. ومنها: ما يفعلونه من سد أنف الميت وفمه بالقطن: وذلك بدعة وكذلك يدخلون القطن في دبره بعود أو نحوه. قال ابن الحاج: وهذا فعل شنيع قبيح. لأن ذلك حرام في حياته فكذلك بعد موته. ثم إنهم إذا جاءوا به القبر أخرجوا ذلك القطن من فمه فيبقى مفتوحًا لا يمكنه غلقه وربما أخرجوا ذلك القطن منه وقد تنجس بما خرج من حلقه وله رائحة كريهة فيرمونه معه في القبر فيؤذ الملائكة بذلك لأنهم يتأذون مما يتأذى به بنو آدم. وكل هذه أفعال شنيعة وبدع قبيحة يجب إنكارها على كل مستطيع. لأنه إنما يلجم بالقطن إلجامًا لا أنه يحش به، والله أعلم. ومنها: ما أحدثه الغسال من القراءة والأذكار على الميت عند كل عضو: وذلك بدعة لم ترد عن السلف.

مع أنك ترى الغاسل يقرأ القرآن بلسانه ويده تباشر إزالة النجاسة عن بدن الميت، وفي ذلك ما فيه. ومنها: ما يفعله بعضهم من حضور القراء على باب الميت أو قريبًا من داره ويبسط لهم الحصر والبسط المشتركة: وذلك بدعة. وهم غاصبون لطريق المسلمين التي جلسوا فيها من غير ضرورة شرعية. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات. فيجب إنكار ذلك على كل قادر. ومنها: ما ذكره ابن الحاج فقال: وليحذر من هذه البدعة التي/ اعتادها أكثرهم في هذا الزمان وهو أنهم يأخذون القطن الكثير فيجعلونه على وجه الميت حتى يعلو ثم يجعلون القطن الكثير على ركبته وتحت حنكه وتحت رقبته حتى يصير رأسه وكتفاه سواء. ثم يجعلون القطن كذلك عن ساقيه ومن هاهنا، ومن هاهنا حتى يصير بطنه ورأسه ورجلاه سواء. هذا الفعل قد جمع بين محرمين وبدعة: فالمحرم الأول إضاعة المال في كثرة القطن لغير ضرورة شرعية. والمحرم الثاني أخذ ثمن القطن من مال الورثة؛ لأن الميت ليس له من تركته إلا قدر ضرورته الشرعية، والزائد على ذلك غصب لحق الورثة سيما إذا كان الوارث صغيرًا، ولو فرض رضي الورثة لمنع من ذلك لأنه من باب إضاعة المال والإعانة على البدعة. وأما البدعة فكونهم اعتادوا أن يخرجوا من كفنه بالسواء عند الناظر. والسنة أن يكون في كفنه بحيث يعرف رأسه وكتفاه ورجلاه كما يعلم ذلك منه في حال الحياة وهو في ثيابه، انتهى.

ومنها: ما يفعله كثير من الجهال وهو يمشي مع الجنازة من الحديث في أمور الدنيا وما لا ينبغي وربما ارتفعت أصواتهم بالضحك والقهقهة أو تشاجرا وتسابا. وكل هذا بدع. إذ السنة أن يمشي الإنسان مع الجنازة ساكتاً مطرقاً متفكراً فيما يقال وما يجيب به. كذا كان السلف –رضي الله عنهم- حتى كان بعضُهم يريد أن يلقى صاحبه لضرورات له به فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام شيئاً. وكره جماعة من العلماء في قول المنادي مع الجنازة استغفروا له. قال ابن المنذر ونحن نكره ما كرهوه، انتهى. ولقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول في الجنازة جهراً استغفروا لأخيكم. فقال له: لا غفر الله لك. فإذا كان هذا قوله لمن لم يقل إلا خيراً، فما ظنك بما تقوله المدرا بالصوت العالي من التزكية والكذب الصراح ونحو ذلك. قال في شرح المهذب: والمختار بل الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما، بل يشتغل بالتفكر في الموت وما يتعلق به. ومنها: ما اعتاده أكثر الناس من إعطاء ما على الميت للغاسل: وهم قسمان: قسم: يخشى من هذه العادة حتى ربما لا يبقى عليه ما يستر عورته من قميص رفيع أو مهلهل ونحوه خشية أن يترك عليه ما له قيمة فيأخذه الغاسل. والقسم الثاني: يتركون ما عليه وربما زادوه من أفخر ثيابه/ ثم يعطون ذلك للغاسل رياء ومفاخرة.

وعلى كل التقديرين فإن كان في الورثة صغير أو غائب حرم على من يتولى ذلك أن يعطي الغاسل شيئاً من ذلك زائداً على قدر أجرته. وإن كان الورثة كباراً حاضرين بأجمعهم وطابت أنفسهم بإعطاء الغاسل ذلك من غير رياء ولا مفاخرة جاز، وهذه صورة نادرة ولا تكاد توجد. وكثير من الفساق يأخذ ذلك بيده من غير استئذان لاستحقاره أهل الميت أو توهمه أنهم لا يسمحون له إذا استأذنهم. وهذه كلها بدع محرمة يجب إنكارها على كل قادر رآها. ومنها: ما يفعله كثير من النساء الجاهلات الجاهليات وأخوات الشيطان وهو أنه إذا مات عندهن صغيرة أو عروس يجلسنها ويلبسنها أحسن ثيابها من الحرير والذهب ويزينن وجهها كما يفعل بالعروس ويزففنها بالمغاني أو غيرهم، وربما أخرنها عن الدفن يوماً أو يومين ليودعنها في زعمهن إلى أن تنتفخ ويتغير ريحها وتصير مثلة. وهذه بدعة عظيمة ومحرمات شديدة قبيحة يحرم على كل قادر السكوت عنها ويجب على كل أحد المساعدة في دفعها ومنعها بقدر الطاقة. ومن ترك إنكار ذلك من أهل الميت وغيرهم مع القدرة أو سكت عن رفع ذلك إلى قادر على إزالته فهو وهن سواء في الإثم ويفسق إن كان عدلاً وترد شهادته، مع ما له عند الله يوم القيامة من الخزي العظيم والعذاب الأليم. نسأل الله العافية والسلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ومنها: أن يدفن الميت في تابوت من غير ضرورة. وهو بدعة مكروهة لم يفعلها أحد من الصحابة. ولو أوصى الميت بذلك لا تنفذ وصيته إلا أن تكون الأرض رخوة أو ندية. كذا قال في الروضة، وبه أفتى القاضي حسين وغيره. ومنها: ما ابتدعه بعضهم وهو أنهم يحملون أمام الجنازة الخبز والزبيب والغنم على رؤوس الحمالين فإذا أتوا إلى القبر ذبحوا الغنم وفرقوا لحمها مع الخبز لمن

لا يستحقه وربما نهبوا ذلك قبل وصوله إلى القبر. والضعيف عن المزاحمة والضراب لا يصل إليه شيء. وهذا إن كان من مال التركة وفيها يتيم أو غائب فذلك حرام. وإن كان الميت قد أوصى بذلك أو تبرع به الورثة الجائز تبرعهم ففيه ما فيه من المفاخرة والرياء والسمعة والمباهاة. إذ لو كان القصد بهذه الصدقة وجه الله تعالى وإيصال الأجر إلى الميت لكانوا يصرفونها سراً أو جهلاً في غير الجنازة مع قصد/ المستحقين للصدقة. 261 وأما الذبح على القبر فإن سلم من المقاصد الفاسدة فهو بدعة مكروهة من أعمال الجاهلية. وقد روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في الإسلام». والمراد بالعقر ما كان الجاهلية يفعلونه من الذبح عند القبر. ومنها: ما يفعل عند القبر كالصندوق والدربزين: وذلك بدع مخالفة للسنة، وأكثر ما يفعلون ذلك في قبور الصالحين الذين هم أولى الناس بإتباع السنة. ومنها: المبيت عند القبر في المقبرة: وهو بدعة مكروهة. وكذلك الفرش عنده وتغطيته بثوب أو خيمة أو إيقاد الشمع والقناديل عنده. وكل ذلك بدع لم يفعلها أحد من السلف الذي يقتدى بهم.

وتقدم أنَّ إيقاد السرج على القبور من الكبائر التي لعن فاعلها. وكذلك بناء المساجد على القبور. ومنها: نقل الميت من بلد إلى بلد: وذلك بدعة محرمة يجب إنكارها. وممن نص على تحريمه القاضي حسين وأبو الفرج الدارميّ وصاحب التتمة وغيرهم. قال الرافعيّ: وهو أصح. قال القاضي وصاحب التتمة: ولو أوصى به لم تنفذ وصيته، انتهى. وقيل بل نقله مكروه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس يستحب نقله إليها. نص عليه الشافعيّ. وعلى هذا إنما يباح قبل الدفن بشرط أن يؤمن انفجاره وتغيره. فإن كان قد دفن حرم نبشه إلى مكة وغيرها، والله أعلم. ومنها: ما أحدثه بعضهم من التزام صحبة القبر وهو تبكيرهم إلى قبر الميت الذي دفنوه بالأمس، ومن غاب عنها وجدوا عليه وعتبوه لأنه ترك فرضاً لازماً أو فعلاً واجباً. وهذا بدعة، لأن زيارة الرجال القبور مستحبة بشرطها، ولا يختص بها وقت دون وقت ومن تركها لا يلام، والله أعلم. ومنها: ما يفعله أهل الميت من الأطعمة وغيرها ودعوة الناس إليها وقراءة الختمات. ومن لم يفعل ذلك كان كأنه قد ترك أمراً واجباً. وهذا إن كان من مال من يجوز تبرعه من الورثة. فهو بدعة مكروهة لم ترد عن السلف الصالح.

وإن كان من التركة التي فيها يتيم أو غائب ولم يوص الميت بذلك حرم الأكل منها وحضورها ووجب إنكارها ومنعها. وكذلك قراءتهم بالألحان والتمطيط المحرم يحرم حضورها إلا لقادر على الإنكار. وهذه بدعة قد صارت عند الجاهلين سنة، حتى أنهم ليقولون ما أبخله ما أشحه ما رضي يقرأ للميت/ ختمة ولا يتصدق عنه شيء ولا يلتفتون إلى أن 262 الصدقة هل تجوز من مال اليتيم والغائب أو لا. وكل هذا لغلبة الجهل وعدم المنكرين واستيلاء البدع والأهواء بتزيين اللعين ذلك. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ومنها: زيارة النساء القبور. وقد تقدم ذكرها من الكبائر. وللشافعية في جوازها ثلاثة وجوه. ومنها: رش القبر أو الميت حال إضجاعه في القبر بما الورد: وذلك بدعة مكروهة. قال ابن الملقن في شرح المنهاج لأنه إضاعة مال، قال ولو قيل بالتحريم لم يبعد، انتهى. ويندب أن يرش القبر بماء حفظاً للتراب وتفاؤلاً بتبريد المضجع. وقد نقل فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم. ومنها: ما ابتدعه النساء الجاهلات: وهو أنهن يبتن في الموضع الذي غسل فيه الميت كوز ماء ورغيفاً ويوقدون فيه شمعة أو سراجاً ويعتقدون أن روح الميت تعود إلى ذلك المكان فتأكل وتشرب وتستضيء.

وهذا اعتقاد فاسد يكذبه الحس وبدعة منكرة نشأت عن قلة عقول النساء وجهلهن بالشرع وإضاعة لما يوقد هناك. فيجب على الزوج أو من يقوم مقامه أن يمنعهن من ذلك، ويبين لهن أن ذلك بدعة لا تجوز ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين بل ولا أحد من العقلاء، وإنما هو من خرافات النساء الجاهلات، والله الموفق.

7 - فصل في ذكر بعض ما ابتدع في المواسم والأعياد فمنها: ما يفعله بعضهم في عيد الأضحى من الذبح ليلة العيد لمقاصد لهم في ذلك مختلفة: وهذا لا يخلو إما أن يكون قد عينها للأضحية أو لا. فإن كان قد عينها للأضحية أثم بذلك ولزمه التصدق بلحمها ولا يجوز له أكل شيء منها، ويلزمه ذبح مثلها في يوك النحر بدلاً عنها. وإن لم يكن عينها ولم ينو التضحية بغيرها في وقتها فقد أساء بارتكابه هذه البدعة وفوات ثواب هذه السنة العظمى عند الشافعيّ. وأثم بتركه الواجب عند مالك وأبي حنيفة مع القدرة عليه. ومنها: بيع جلد الأضحية: وهو حرام. وقد جاء في الحديث: «من باع جلد أضحية فلا ضحية له». رواه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال: صحيح الإسناد. وكذلك لا يجوز أن يعطى الجزار جلدها ولا شيئاً منها أجرة عمله. فإن حصل بسببه محاباة بأن كانت أجرته مثلاً خمسة دراهم وأعطاه أربعة وأعطاه معه قطعة لحم ليستحي من طلب الدرهم/ الآخر لم يجز. والله أعلم. 263

ومنها: ما يفعله بعضهم من طبخ الأضحية أو القدر الذي عينه منها للصدقة ويدعو الفقراء إليها ويفرقه عليهم مطبوخاً. وذلك لا يجوز، لأن حق الفقراء في تملك جزء الصدقة منها نيئاً. صرح بذلك الروياني وغيره. (2) ومنها: ما يفعله بعضهم من التصدق بها جميعاً ولا يأكل منها شيئاً: وذلك خلاف السنة. بل حكى الماورديّ في «الحاوي» عن أبي الطبيب بن سلمة أنه لا يجوز التصدق بجميعها، بل يجب أكل شيء منها. ومنها: ما زينه الشيطان لكثير منهم من المثابرة على زيارة أمواته بعد الصلاة. وإن كان ذلك من باب البر والتفجع على الأقارب والأهل الذين فقدهم وكانوا معه في مثل هذا العيد واعتقاد أن ذلك سنة في هذا اليوم. وهذا الاعتقاد بدعة وفيه مخالفة للسنة؛ إذ السنة أن يعجل الإنسان الرجوع إلى أهله لينقطع تشوفهم إليه واستشرافهم إلى شهود التضحية والأكل منها واجتماعهم عليها. فحسن لهم إبليس زيارة القبور ليؤخرهم عن المبادرة إلى السنة ويشوش على أهله وأولاده بتأخره عنهم. وربما يفعل هذا بعض النساء على ما عهد منهم من التبرج والتزين ولبس الفاخر من الثياب، وإظهار البخور والطيب ونحو ذلك. وفي هذا من المحرمات ما لا يخفى. ومنها: ما أحدثه النساء يوم عاشوراء من استعمال الحناء، ويرين أن ذلك سنة: وليس ذلك بصحيح بل هو بدعة. والحديث الذي ورد فيه موضوع قاله الحافظ.

وكذلك يعتقدون أنَّ مَنْ سرح فيه الكتان وغزله وبيضه ثم خيط به كفنه لا يأتيه في القبر منكر ونكير لبركة ذلك الخيط المصنوع في يوم عاشوراء. وهذا الاعتقاد بدعة عظيمة وافتراء على الله وتحكم في دين الله بالباطل، وكذلك اعتقادهم أن من اشترى فيه البخور وتبخر به أمن من العين والنظرة والسحر ونحو ذلك. وهذا كله ابتداع باطل واعتقاد فاسد ينبغي التوبة منه والرجوع عنه. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. ومنها: ما اصطلحوا عليه من اتخاذ أول خميس من رجب موسماً: يتخذون فيه أنواع الحلاوات رياء وسمعة ويجعلون منها الصور المحرمة التي يسمونها التعاليق. وقد تقدم الكلام في التصوير وما ورد فيه من الوعيد الشديد والنهي الأكيد. وهذه بدعة عظيمة ومكيدة من اللعين شديدة إذ زين لهم ما تنفر بسببه الملائكة عن بيوتهم ويحرمهم بركتهم وتنزلهم بالرحمة؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة. فقل أن تجد بيتاً إلا وفيه صورة أو صور، ولا يترك ذلك إلا من عجز عنه. وربما تكلف ذو العيال لعياله وأولاده من ذلك ما لا طاقة له به ويعتقد أن ذلك قربة وأنه مثاب بإدخاله السرور على أهله وأولاده لذلك وربما امتنع لعجزه فكان سبب الفتنة/ بينه وبين أهله. وقال أبو عبد الله ابن الحاج فمن اشتراها منهم فهو معين لهم على تصويرها، ومن أعانهم كان شريكاً لهم فيما توعدوا به. وكذا من اشترى منهم الحلاوة التي ليست بصورة لأنه فيه إعانة لهم على ما

ارتكبوه من بيع الصور المحرمة. ومثل ذلك من وقف ينظر إليها أو تعجبه مع العلم بالتحريم. وكل ذلك إعانة لهم على فعل ما لا يجوز. وكثيراً من يمر بهم فمن يعلم هذه المسألة وهو قادر على التغيير ويسمع كلامه ويرجع إليه، فلا يتكلم على ذلك ولا ينهى عنه، بل يقف بعضهم وينظر إلى ذلك كأنه أعجبه ما رأى. ومَنْ مَرَّ بها من العدول وله طريق غيرها وهو عالم بالتحريم يختار. ففي قبول شهادته نظر فعلى هذا لا ينعقد النكاح بشهادة هؤلاء حتى تقع منهم التوبة بشروطها. ومن أخذ منهم أجرة على الشهادة فهو متلبس بما ذكر قبل توبته أخذ حراماً ولا عذر له في بكاء ولده وسخط زوجته أو غيرهما. وبالجملة الحلاوة التي احتوت على الصور المحرمة شرعاً لا يجوز بيعها ولا شراؤها. انتهى كلامه. وفي بعضه نظر، والله أعلم. ومنها: ما أحدثوه من صلاتهم في تلك الليلة الصلاة المعروفة بالرغائب: وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين. وقد ذكرها الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه المسمى بالحوادث والبدع، وذكر أول حدوثها ومن أحدثها، فمن أراد ذلك فلينظر في كتابه. ومنها: ما أحدثوه في تلك الليلة وفي ليال بعدها من وقيد القناديل المصبغة الكثيرة في البيوت بدمشق ونواحيها: واتخاذ ذلك عادة وسنة لا بد منها، ويعلقون تلك القناديل غالباً في الطيقان. ويجلس النساء والأولاد يتفرجون عليها في بيوتهم.

فيراهم الناس من الطرق ويتفاخرون بذلك ويتكاثرون. وربما وقع فيه من التكليف لبعض الصعاليك ما لا يخفى. وكل ذلك بدعة في الدين ومخالفة لسنة سيد المرسلين. وفيه من المفاسد والإسراف ما لا يخفى على ذي لب حاذق شاهدة. وليس مرادنا التطويل بذكر تفاصيل ذلك بل يتبين أن هذه الأفعال بدع ومحدثات لا يسوغها الشرع ولا يرضاها العقل. ومنها: ما أحدثوه ليلة السابع والعشرين من رجب: وهي ليلة المعراج الذي شرف الله به هذه الأمة فابتدعوا في هذه الليلة وفي ليلة النصف من شعبان وهي الليلة الشريفة العظيمة كثرة وقود القناديل في المسجد الأقصى وفي غيره/ من الجوامع والمساجد واجتماع النساء فيها مع الرجال 265 والصغار اجتماعاً يؤدي إلى الفساد وتنجيس المسجد وكثرة اللعب فيه واللغط ودخول النساء إلى الجوامع متزينات متعطرات ويبتن في المسجد بأولادهن، فربما سبق الصغير الحدث، وربما اضطرت المرأة والصبي إلى قضاء الحاجة، فإن خرجا من المسجد لم تجد إلا طرق المسلمين في أبواب المساجد وإن لم يخرجا حرصاً على مكانهما أو حياءً من الناس ربما فعلا ذلك في إناء أو ثوب أو في زاوية من زوايا المسجد. كل ذلك حرام. مع أن الداخل في الغلس لصلاة الصبح قل أن يسلم من تلويث ذيله أو نعله بما فعلوه في باب المسجد ويدخل بنعله وما فيه من النجاسة إلى المسجد فينجسه وهو لا يشعر. إلى غير ذلك من المفاسد المشاهدة المعلومة، وكل ذلك بدع عظيمة في الدين ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد والتبذير وإضاعة المال. وبالجملة: فإن كان ذلك من مال الوقف لم يجز للناظر صرف ذلك ولا

التمكين منه، بل لو ذكره الواقف وشرطه. قال أبو عبد الله بن الحاج لم يعتبر ذلك الشرط شرعاً وإن لم يكن من مال الوقف بل تبرع به متبرع كان ذلك إضاعة للمال وتبذيراً. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. واعتقاد أن ذلك قربة من أعظم البدع وأقبح السيئات. بل لو كان في نفسه قربة وأدى إلى هذه المفاسد لكان إثماً عظيماً فينبغي للعاجز عن إنكار هذه المنكرات أن لا يحضر الجامع وأن يصلي في بيته تلك الليلة إن لم يجد مسجد سالماً من هذه البدع لأن الصلاة في الجامع مندوب إليها. وتكثير سواد أهل البدع منهي عنه وترك المنهى عنه واجب، وفعل الواجب متعين. هذا إن لم يكن مشهوراً بين الناس، فإن كان مشهوراً بينهم بعلم أو زهد وجب عليه أن لا يحضر الجامع ولا يشاهد هذه المنكرات، لأن في حضوره مع عدم الإنكار إيهاماً للعامة بأن هذه الأفعال مباحة أو مندوب إليها. وإذا فقد من المسجد وتأخر عن عادته في الصلاة جماعة وأنكر ذلك بقلبه لعجزه ربما يسلم من الإثم ولا يغتر به غيره، ويستشعر الناس من عدم حضوره أن هذه الأفعال غير مرضية، لأن حضور من يقتدي به في هذه الليلة هو الشبهة 266 العظمى في ظن الجهال والعوام أن ذلك/ مستحسن شرعاً. ولو اتفق العلماء والصلحاء على إنكار ذلك لزال، بل لو عجزوا عن الإنكار وتركوا الصلاة في الجامع المذكور لظهر للناس أنَّ ذلك بدعة لا يسوغها الشرع ولا يرضاها أهل الدين. فربما امتنع الناس عن ذلك أو بعضهم فحصل لهم الثواب بفعل ما يقدرون عليه من الإنكار بالقلب والامتناع عن الحضور إن كانوا عاجزين عن التغيير، وإن كانوا قادرين فيسقط عنهم بعض الإثم ويخفف عنهم الوزر والله ولي المتقين.

ومنها: ما أحدثوه من عمل المولد في شهر ربيع الأول: قال ابن الحاج ومن جملة ما أحدثوه من البدع، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات ما يفعلونه من المولد، وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات ثم ذكر منها استعمالهم المغاني بآلات الطرب وحضور المردان والشباب ورؤية النساء لهم وما في ذلك من المفاسد. ثم قال: فإن خلا المولد من السماع وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته: إذ أن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضيين وإتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نيته مخالفة لما كانوا عليه. قلت: وليته يسلم من المناظرة والمفاخرة والرياء والتكلف، ومهما علم بقرائن الأحوال أن الباعث على ذلك ما ذكرناه كره أكل ذلك الطعام. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل طعام المتبارزين. وقد يكون الباعث على ذلك التعرف بالكبار الذين يدعونهم من القضاة والأمراء والمشايخ ونحوهم. وقد يكون الباعث لبعض المشايخ طلب التوسعة على نفسه بما يفضل عن حاجته مما يحمل الناس إليه بسبب المولد على نوع المساعدة أو الهدية أو الحياء أو المناظرة لأقر أنه من مجيء الشيخ وأتباعه ونحو ذلك. وقد يكون من أهل الشر وممن يتقي لسانه ويخشى غضبه فيفعل المولد ليحمل إليه ضعفاء القلوب ومَن يخاف منه ما تصل قدرته إليه خوفاً من ذمه وطول لسانه في عرضه وتسببه في أذى يصل إليه ونحو ذلك. وقد يكون الباعث خلاف ذلك مما لا ينحصر لتنوع المقاصد الفاسدة واختلافها فهو يظهر أن قصده إكرام النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والسرور بمولده والتصدق بما يفعل على الفقراء وباطن قصده خلاف ذلك مما ذكر.

267/ وهذا نوع من النفاق. ولو كان ذلك الفعل قربة في نفسه لصار بذلك القصد الباطل من أسباب البعد يأثم به فاعله وحاضره والساكت عن إنكاره ما تحقق منه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. واعلم أن أقبح البدع وأشنعها موافقة المسلمين للنصارى في أعيادهم بالتشبه بهم في مأكلهم وأفعالهم والهدية إليهم وقبول ما يهدونه من مأكلهم في أعيادهم. وقد عانى هذه البدعة أهل بلاد مصر، وفي ذلك من الوهن في الدين وتكثير سواد النصارى والتشبه بهم ما لا يخفى. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كثر سواد قوم فهو منهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم». وقد تكون المهاداة في الأعياد سبباً للتأليف بينهم وبين ما يهدون إليه من المسلمين وتربيته للمودة والمحبة. وقد قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. مع ما في موافقتهم من الإيهام الشديد في تعظيم أعيادهم وتغبيطهم بدينهم .. وبما شرعوه. وقد منعهم الشرع من إظهار أعيادهم وألزمهم بإخفائها وندب العلماء إلى الإنكار عليهم في إظهارها. فلم يكتف المسلمون بسكوتهم عن الإنكار ومداهنتهم فيه حتى زادوا على ذلك بقبول هداياهم، بل الهدية إليهم فيما اعتادوا أكله في أعيادهم، بل بالغوا في المداهنة حتى تشبهوا بهم في مآكلهم وأفعالهم، ولم يتناهوا فيما بينهم عن التشبه بهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال ابن الحاج، وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي للنصرانيّ في عبده مكافأة له،

ورآه من تعظيم عبده وعوناً له على مصلحة كفره. ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً لمصلحة عيدهم لا لحماً ولا إداماً ولا ثواباً ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم، لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. وهو قول مالك وغيره لم أعلمه أختلف في ذلك، انتهى. وأفعالهم القبيحة في ذلك معلومة مشاهدة لا تخفى كاهتمام المسلمين في النيروز بأكل الهريسة والزلابية وغيرها من مآكلهم في النيروز. وبل بعضهم بعضاً بالماء وإلقائه في الماء وخروجهم إلى البساتين ورمي بعضهم بعضاً في بركة أو غيرها/ وفي البحر وغيره. 268 ومع ما يتعدى ضرر ذلك إلى الغرباء والمساكين من الرجال والنساء وأذاهم كمّا هو معلوم عند من رآه. وكذلك اهتمام النساء في خميس العدس باستعمال البخور لهن ولمن شابه عقله عقلهن من الرجال يتبخرون به ويتحنطون سبع مرات ثم يتفلون عليه ويزعمون أن ذلك يدفع عنهم العين والكسل والوعك من الجسد وكذلك يصبغون فيه البيض للصغار بل وللكبار وطاوعهم الرجال الجهال على ذلك، والعالمون بقبحه أيضاً استخفافاً بالدين واستهواناً بالبدعة وإعراضاً عما ينبغي عليهم من الإنكار، حتى إنك قل أن تجد سوقاً أو مكاناً إلا وفيه من بيع البيض المصبوغ، أو من يقامر به أو من يشتري ما يقامر به من غير نكير ولا ناهٍ ولا متصدي لتمعير وجهه في الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك ما يفعلون في سبت الظلام الذي يسمونه سبت النور. من جمعهم الأوراق من جميع الأشجار وتبيتها في الماء ليلة السبت واغتسالهم بذلك الماء يوم السبت ويزعمون أن ذلك يذهب عنهم الأمراض والأسقام ويدفع عنهم السحر والعين إلى غير ذلك.

وكذلك يزعمون أنه مَنْ اكتحل فيه بالشب والكحل يكتسب نوراً زائداً في بصره. وكذلك يشترون فيه الشبث ويزعمون أنه للبركة. وكذلك يزعمون أن شرب الدواء فيه له تأثيره لا يوجد في غيره. ويزعمون أن من كان به جرب أو حكة ودهن فيه بالكبريت وقعد في الشمس عرياً أو غير مستور شفي مما به، فترى النساء يفعلن ذلك ويجلسن في الشمس من غير مئزر ولا سراويل والرجال يرون كثيراً منهن في البر والبحر. وكذلك طبخهن طعام اللبن وأكله في الحمام يوم السبت وطلي الجسد به إلى غير ذلك مما يفعل فيه. وكل هذه بدع مستهجنة وعوائد مستقبحة وحوادث لا يرضاها الله ورسوله ولا أحد عنده غيرة على دينه. وفيها من تعظيم مواسم أهل الكتاب وتغبيطهم بدينهم الباطل والتشبه بهم في أفعالهم القبيحة شرعاً وعرفاً ما لا يحتاج في تقبيحه إلى دليل ولا يتوقف فيه إلا من ضلَّ عن سواء السبيل. وهو من أفحش البدع وأقبح المناكير. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33، الزمر: 23]. وكذلك م يفعلونه من التشبه بهم في مواسم الغطاس وهو اليوم الذي تزعم 269 النصارى أن مريم اغتسلت فيه/ من النفاس فتغتسل فيه النصارى تلك الليلة كبيرهم وصغيرهم واتخذوا ذلك سنة في دينهم فوافقهم بعض الجهال من رجال المسلمين ونسائهم في ذلك ويتخذونه موسماً يوسعون فيه النفقة على أهليهم. ولعل واحد منهم يقدر على الأضحية التي شرعها الله ورسوله في عيد المسلمين ورغب صلى الله عليه وسلم فيها وحضَّ عليها ولا يضحي ولا يخطر بباله، وينفق في

مثل هذه المواسم المبتدعة أكثر من ثمن الأضحية، وكل ذلك من تزيين اللعين إبليس وتحسين المستقبح شرعاً والصدَّ عما ندب إليه الشرع وحضَّ عليه ليفوتهم بذلك الأجر ويوقعهم في الوزر. وكل هذه النفقات في سبيل إبليس يأثم بها منفقها وإن كانت على أهله وأولاده، لأن في ذلك تشبهاً بأهل الكتاب. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم». فالواجب على كل قادر أن ينكر على أهل الذمة التظاهر بأعيادهم ومواسمهم ويمنعهم من إظهارها، ويمنع من أراد من المسلمين التشبه بهم في شيء من أفعالهم ومآكلهم وملابسهم ومخالطتهم فيها. {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. وهو على كل شيء قدير. وقد أحدث النساء من البدع ما لا يحصى كثرةً ولا يحصر عدداً. فمن ذلك أن بعضهن إذا حاضت في رمضان لا تفطر وذلك محرم عليها بلا خلاف سواء قضت ذلك أو لم تقضه. ومنهن من تفطر إذا جاءها الحيض ثلاثة أيام ثم تصوم وذلك حرام عليها حتى ترى البياض الخالص. ومنهن من تزعم أن الدم المانع من وطء الزوج إنما هو الثلاثة الأيام الأول حسب لا غير. وليس الأمر كذلك لأن الجماع حرام عليه وعليها ما لم ترى البياض الخالص. وحتى تغتسل عند الشافعيّ ومن وافقه. ومنها: ما يفعله كثير من النسوة من تأخير الغسل من الجماع ومن الحيض إذا طهرت بالليل حتى تطلع الشمس ثم تغتسل وتقضي الصبح:

وهذا حرام بالإجماع. والواجب عليها أن تبادر بالغسل وتصلي قبل طلوع الشمس إذ الصلاة لا يجوز إخراجها عن وقتها عمداً بالإجماع. وقد تقدم أن ذلك من الكبائر. وإذا علم الزوج وسكت عن إنكاره فهو شريكها في الإثم إن كانت عالمة بالتحريم، وإن كانت جاهلة فعليه إثم جهلها كما سيأتي وإثم معصيتها. والله أعلم. وكذلك يفعلن/ في الحيض إذا طهرت إحداهن وقد بقي من الوقت ما يمكنها أن تغتسل فيه وتصلي فتتهاون حتى يخرج الوقت. وذلك أيضاً حرام. بل الواجب عليها المبادرة لإدراك الوقت. ويجب على الزوج إنكار ذلك عليها وتعريفها وجوبه فإن لم يفعل كان شريكها في الإثم. ثم إن أكثرهن لا تقضي تلك الصلاة وقضاؤها واجب لا بد منه إذا أدركت من الوقت قدراً يسع تكبيرة على الأظهر. والأظهر وجوب الظهر بإدراك تكبيرة آخر وقت العصر والمغرب بآخر العشاء. [ومنها: أن أكثرهن إذا حاضت بعد دخول وقت العصر والمغرب بآخر العشاء]. ومنها: إن أكثرهن إذا حاضت بعد دخول وقت صلاة لا تقضي تلك الصلاة إذا طهرت. وهذه المسألة يجب الاعتناء بها وبيانها للناس لأنه لا يعلمها من الرجال إلا الآحاد فضلاً عن النساء لأن المرأة إذا حاضت بعد دخول الوقت ومضى قدر يسع تلك الصلاة وجب عليها القضاء إذا طهرت.

والمعتبر أخف ما يجزى من الصلاة حتى لو طولت صلاتها فحاضت وقد مضى من الوقت ما يسعها لو خففتها وجب القضاء. ومنها: ما يفعله بعض النسوة من ابتلاع لباب الخبز بالماء عند النوم بعد الشبع لأجل السمن: وهذه بدعة شنيعة والأكل بعد الشبع حرام عند جماعة من العلماء مكروهة كراهة شديدة عند الآخرين. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أصل كل داء البردة». يعني التخمة. ولا فرق بين أن يكون ذلك برضا زوجها أو بغير رضاه. فإن ذلك لا يجوز، بل يجب على الزوج أن يمنعها من ذلك، فإن سكت عن الإنكار كان شريكها في الإثم. وقد يبلغ بها السمن إلى أن يصل إلى قلبها فيطفئها فتموت أو يشوش على دماغها فيذهب عقلها أو يصل إلى عينها فتعمى، وتكون هي السبب في جميع ذلك.

بل كثير منهن تسمن حتى تعجز عن الصلاة قائمة وعن كثير من الطاعات وتقصر يدها عن الاستنجاء حتى تحتاج إلى من يفعل بها ذلك. وكل هذه الأحوال إذا تعاطت المرأة أسبابها كانت آثمة بها غير مأجورة على ما نالها من الألم بسببها. ومنها: أكلهن للطَّفْل والطين: وذلك حرام على المشهور من مذهب مالك والأصح من مذهب الشافعيّ. 271 وفيه من الضرر ما هو/ مذكور عند الأطباء كتصفير الوجه ونفخ البطن وغير ذلك. فيجب على الزوج والولي وكل من اطلع على ذلك أن يمنع المرأة من أكله، ولا يجوز للبائع أن يبيعه لمن يعلم أنها تأكله. والله أعلم. وفي فتاوى القاضي حسين إذا أكثر أكل التراب والطين حتى أضرَّ به وأصفر لونه يعصي الله تعالى وترد شهادته. ومنها: وصل الشعر والوشم والنمص وتفليج الأسنان: وكل ذلك من الكبائر وتقدم. ومنها: النقش والخضاب بالسواد: وهو حرام بالإجماع لما يلزم منه تفويت الصلاة عادةً وتلطيخ العضو بالنشادر وهو نجس. وفي صحة الصلاة بعد غسله منه خلاف. فيجب على الزوج والولي منع المرأة من ذلك فإن سكت مع قدرته فهو شريك فيما يترتب على ذلك من المأثم. وأما الخضاب بالسواد من غير تلطيخ العضو بالنشادر ولا تفويت صلاة وهو نادر. فيجوز بإذن الزوج على المذهب. وإن لم تكن ذات زوج أو سيد، أو فعلته بغير إذنهما فحرام.

وكذلك تحمير الوجه إن كان بإذنهما جاز. وإن كان بغير إذنهما فحرام. وكانت خلية عنهما حرم ووجب إنكار ذلك على كل قادر، والله أعلم. ومنها: ما أحدثته من لبس القمصان الواسعة الطويلة جداً حتى أنَّ بعضهن تخيط القميص من أربعين ذراعاً وطوله سبعة أذرع: وهذا كله حرام عليها وعلى مَنْ أعانها على ذلك من زوج أو ولي، لما فيه من الإسراف والخيلاء والتكبر على الضعفاء. وقد يعجز الزوج عن ذلك فيكون سبباً للفراق أو لفساد دينها إلى غير ذلك المفاسد التي لا تخفى. وأما إذا كان رقيقاً يصف البشرة وهو الغالب كالشاش اليمنيّ والبندقيّ والشعر ونحو ذلك فهو حرام في حرام، لأن لبس ذلك حرام. وإن كان على الهيئة التي أباحها الشرع لكونه يجلو البشرة، فإن لبست فوقه ما يستر كالقبا ونحوه جاز. وإن لم تلبس فوقه شيئاً وكان يجلو شيئاً من عورتها حرم. وإن كانت وحدها في بيتها، لأن كشف العورة في الخلوة من غير ضرورة حرام، والله أعلم. ومنها: أن كثيراً منهن إذا سافر من بيتها أحد تترك كنس المبيت يومين أو ثلاثة تشاؤماً بأنها إذا كنست البيت عقب سفره كانت كأنها كنست أثره من بيتها فلا يعود/ إليه. وهذا اعتقاد فاسد وإحداث في الدين وبدعة. فينبغي لمن رأى شيئاً من ذلك في بيته أو عند أحد من أهله أو غيرهم أن ينهاهم عنه ويعرفهم أن هذا بدعة في الدين، وأنه نوع من التطير المنهي عنه، وأنَّ الطريق المستقيم في إتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أنَّ المرأة إذا أوقدت السراج تسلم على الحاضرين: وهذا السلام بدعة، ليس له محل ولا شرعه الله ولا رسوله. لأن السلام المشروع إنما هو إذا غاب الإنسان عن صاحبه ولو غيبة يسيرة ثم لقيه فإن ذاك يشرع له السلام. وأما أنه يكون جالساً مع رفيقه فيوقد السراج أو الشمعة فيسلم فليس من الدين في شيء. ومنها: أن بعضهن إذا كنست البيت بعد المغرب تحرق طرف المكنسة ويعتقدون أن الكنس بالليل تفاؤلاً بكنس أهل البيت منه. وأنها إذا أحرقت رأس المكنسة دفع ذلك ووقعت المصيبة في المكنسة. وهذا بدعة واعتقاد فاسد ينبغي إنكاره وبيانه. ومنها: أن بعضهن لا تُخْرج من بيتها بعد المغرب ناراً ولا قدراً ولا منخلاً ولا خميرة ولا شيئاً من الماعون: ويعتقدون أن المرأة إذا فعلت ذلك خرج زوجها من البيت إما بموت أو غيره. وهذا اعتقاد فاسد وبدعة شنيعة محرمة ومكيدة من إبليس أوقعهن فيها. لأن منع الماعون لا يجوز، ولا يستعير الإنسان في هذا الوقت شيئاً إلا لشدة ضرورة فزين لهن منع الماعون في وقت شدة الاحتياج إليه ليوقعهن في الإثم ويمنعهن الثواب. ومنها: أنهن لا يدخلون الصابون ولا الأشنان: يوم السبت إلى السبت: ويعتقدون أن ذلك فرقة بين أهل البيت. وهذا اعتقاد فاسد ليس له أصل وتطير لا يجوز. ولهن من هذه الخرافات والبدع المستقبحات أشياء كثيرة يستقبح العاقل ذكرها فضلاً عن فعلها مع أنها لا تنحصر أبداً ولا يمكن استيفاؤها، ولو تتبعنا ذلك لطال هذا المختصر وملَّه السامع والقارئ، والله ولي التوفيق.

8 - فصل في جملة من المنكرات من أنواع مختلفة فمنها: ما عمت به البلوى في الدين من الكذب الجاري على ألسن كثير من المسلمين: وهو ما ابتدعوه من الألقاب/ كمحي الدين، ونور الدين، وعضد الدين، 273 وغياث الدين، ومعين الدين، وناصر الدين، ونحوها من الكذب الذي يتكرر على الألسن حال النداء وحال التعريف والحكاية وغير ذلك. وكل هذه بدعة في الدين ومنكر يخالف الشرع وسيما وأكثر مَنْ يسمي هذا إما فاسق أو ظالم أو جاهل لا يعرف الدين، بل لو كان ذلك حقيقة لكره لما فيه من التزكي، فكيف وهو بعيد من المجاز فضلاً عن الحقيقة. قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في كتاب «شرح أسماء الله الحسنى»: قد دلَّ الكتاب والسنة على منع تزكية الإنسان نفسه. ثم قال: قال علماؤنا ويجري هذا المجرى ما قد كثر في الديار المصرية وغيرهما من العراق والعجم من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية والثناء كذكي الدين ومحيي الدين وعلم الدين وشبه ذلك انتهى. وقد قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. فإذا قال محيي الدين أو ناصر الدين ونحو ذلك فلا بد وأن يسأل يوم القيامة هل هو صادق في وصفه أو كاذب.

ولو كان ذلك جائز لسبق إليه المتقدمون، فلقد كان في الصحابة من نصر الله به الدين حقاً وأعزَّ به الدين يقيناً، وأيَّد الله به الدين بشهادة الله ورسوله، وما لقبوا بهذه الألقاب ولا عدل بهم عن الأسماء والكنى. فكيف يلقب بهذا مَن هو متصف بأضداد ذلك. وقد حكى ابن الحاج عن النووي –رحمه الله- أنه كان يكره أن يلقب بمحيي الدين كراهة شديدة. قال: وقد وقع في بعض الكتب المنسوبة إليه أنه قال: إني لا أجعل أحداً في حلٍ ممن يسميني بمحيي الدين. قال: وقد رأيت بعض الفضلاء من الشافعية من أهل الخير والصلاح يقول: إذا حكى شيئاً عن النووي قال: قال يحي النووي، فسألته عن ذلك فقال: إنا نكره أن نسميه باسم كان يكرهه في حياته، انتهى. وكذلك ما ابتدعوه من تسمية البنت: ست الناس، وست العلماء، وست النساء، وست القضاة، وست الفقهاء، وست الكل، وما أشبه ذلك. وهذه أيضاً بدع قبيحة شنيعة، إذ يدخل تحت عموم ذلك اللفظ الأنبياء والعلماء والصالحون. وإن كان المسمى بذلك لا يعتقد دخول مَن ذكر فهو كذب محض من غير ضرورة، والكذب حرام مع ما في ذلك من الكبر والتفاخر والتزكية وغير ذلك. وفي الصحيحين أن زينب كان اسمها برة فقيل: تزكي نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب. وقد غيَّر/ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم مع صدقه في حقها لكراهة التزكية، فكيف بمن هو كذب صريح في حقها؟ اللهم تب علينا من البدع واعصمنا منها يا أرحم الراحمين.

ومنها: الأذان في البحر إذا حلو القلع مسافرين في غير وقت الأذان: وهذه بدعة في الدين. ولقد شاهدت منهم مَن أذن يوم غيم قبيل الغروب في المركب، وكان رمضان وغلب على ظني أن كثيراً ممن كان في البيوت ممن يسمع أذانه أفطر، ظناً منه أنه أذان المغرب، وربما يقع هذا كثيراً في الأوقات المقاربة لأوقات الصلاة، فينبغي إنكار ذلك والمنع منه، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد ممن يقتدى به. واعتقاد أنه أمان من الغرق اعتقاد فاسد ليس له أصل، وإنما الأصل الذي يستند إليه هو الأذان في الوقت لأنه جاء في الحديث أنه أمان من عذاب الله. فروى الطبرانيّ عن أنس مرفوعاً «إذا أذن في قرية أمنها الله عز وجل من عذابه ذلك اليوم». وفي لفظ له «أيما قوم نودي فيهم بالأذان صباحاً إلا كانوا في أمان حتى يمسوا، وأيما قوم نودي فيهم بالأذان مساءً إلا كانوا في أمان حتى يصبحوا». مع أن هذا إنما هو في الأذان للصلاة. وأما أنهم يؤذنون ولا يصلون كما هو الغالب فهؤلاء أحق بعذاب الله تعالى لا بأمانه. وأما الآذان في غير الوقت فبدعة لا أصل له.

وقد روى ابن السني والطبرانيّ وغيرهما عن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة أن يقولوا: باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ... إلى {يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. ومنها: ما يفعله كثير من الصيادين بدمياط والبرلس وغيرهما من الصيد بالخيال: وهو حرام لما اشتمل عليه من تعذيب الطير عمداً والتمثيل به فإنهم يأخذون الطائر فيسدون أذنه ويخيطون عينيه ويدعونه من غير أكل إلى اليوم الثاني، فإذا صادوا غيره ذبحوا الأول وفعلوا بالثاني كذلك ليصطادوا عليه، وإن لم يصيدوا غيره تركوه إلى أن يموت جوعاً. وهذا منكر يجب إنكاره على كل قادر والمنع منه بما تصل إليه القدرة وفي هذا الفعل من المثلة بالحيوان وعدم الشفقة عليه ما لا يخفى وقد قال صلى الله عليه وسلم: / «من لا يرحم لا يرحم». وروى الطبرانيّ بإسناد جيد عن جرير –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء». وروى أبو داود والترمذيّ وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي».

وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أرحم الشاة أن أذبحها، فقال إن رحمته رحمك الله». رواه الحاكم وصحح إسناده. وروى النسائي والحاكم وصحح إسناده عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من إنسان يقتل عصفوراً بغير حقه إلا سأله الله عنه يوم القيامة، قيل يا رسول الله وما حقه؟ قال: حقه، أن يذبحه فيأكله ولا يقطع رأسه فيرمي به. وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل عصفوراً عبساً عجَّ إليه يوم القيامة يقول يا رب إن فلاناً قتلني عبساً ولم يقتلني منفعة». رواه النسائيّ وابن حبان في صحيحه. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. وقد تقدم أنه من الكبائر، فلا يبعد أن يقاس عليه فعل هؤلاء إذ كل منهما تعذيب حيوان بغير عذر شرعيّ. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحد الشفار وأن توارى عن البهائم. وقال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته.

وإذا تأملت فعل هؤلاء وجدتهم من أقسى الخلق قلوباً وأكثرهم ذنوباً. ولو كان هذا الفعل في نفسه صغيراً لصار بالإصرار والملازمة كبيرة يفسق بها الفاعل على كل تقدير كما تقدم في حبس الهرة وأنه من الكبائر. ويجب على كل منهما أن يتوب من هذا الفعل ويرجع إلى الله تعالى وإلا فلا يأمن أن يجعل الله له عقوبته في الدنيا قبل الآخرة جزاء لتعذيب خلقه الضعيف وعدم شفقته عليه. وكذلك ما يفعله كلهم إلا النادر منهم وهو أنهم إذا اصطادوا طائراً بالشبكة وغيرهم طووا أجنحته ولووا رجليه لياً يسمونه الشرملة بحيث يكسرها فلا يقدر بعد ذلك على الحركة ويتم الطائر على هذا الحال وفي هذا العذاب إلى أن يتفرغ الصياد لذبحه. وكثير من جهلة الفقهاء وغيرهم يذهبون إليهم قصداً ليتفرجوا على صيد الطير ويرون الصيادين يفعلون هذه المعصية المحرمة والبدعة المنكرة فلا ينكرون عليهم والواجب على من رأى شيئاً من ذلك أن ينكره ويمنعهم منه ويأمرهم أنهم كلما أخذوا واحداً ذبحوا من غير تعذيب، وإلا لهو شريكهم في الإثم، فإن علم أنهم لا يرجعون إليه حرم عليه أن يحضر عندهم أو ينظر إليهم. 276 / ومنهم من يشرمله ويتركه اليومين والثلاثة من غير ذبح؛ لأنهم إذا ذبحوا ذلك وتركوه ربما تغير ونتن فيتركونه ليرمي ما في جوفه وتنظف مصرانه ثم يذبحونه فيبقى معهم أياماً من غير تغير لخول مصرانه من المرعى وهذا أشد تحريماً من الأول لما فيه من زيادة التعذيب، إذ يتركونه اليومين والثلاثة في هذا العذاب من غير أكل. ولا بد أن الحكم العادل يجازيهم يوم القيامة ويقتص منهم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7 - 8].

ومنها: إذا نزلوا في الماء للصيد نزلوا عراة غير مستورين ينظر بعضهم إلى عورة بعض كما يفعل النواتية في بحر النيل. وهؤلاء هم الأرذلون الذين تجردوا عن النخوة وباينوا المروءة وحرموا التوفيق وارتكبوا الفسق بما أصروا عليه من المعصية في كشف العورات التي حرم الله عليهم كشفها والنظر إليها. وهذا منكر محرم وبدعة شنيعة ومعصية بالإصرار كبيرة يجب منعها وإنكارها على كل قادر، وإلزامهم بالتستر حتى ولو كان الصياد وحده لما تقدم أن كشف العورة في الخلوة من غير ضرورة حرام، وما لهؤلاء عذر في كشف عوراتهم وهتك أستارهم والتجاهر بهذه المعصية والإصرار عليها، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ففعل هؤلاء وأشباههم محرم، والتفرج عليهم أيضاً محرم. سيما إن كان المتفرج ممن ينسب إلى علم أو صلاح ولم ينكر عليهم فإن الحرج يكون في حقه أكثر والإثم عليه أكبر فهو شريكهم في هذه المعصية. فإن عاود ذلك خرج عن دائرة العدالة وصار من الفاسقين، والله الموفق لا رب غيره. ومنها: تقبيل الخبز: وهو بدعة لا تجوز. وقد أفتى جماعة أنه يجوز دوسه ولا يجوز بوسه؛ لأن دوسه خلاف الأولى وربما كرهه بعضهم، وأما بوسه فهو بدعة، وارتكاب البدع لا يجوز. وانظر إلى قول عمر –رضي الله عنه- في الحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».رواه البخاريّ.

هذا وهو الحجر الأسود الذي هو من ياقوت الجنة وهو يمين الله في الأرض يصافح به خلقه. كذا روى ابن خزيمة في صحيحه. 277 فكيف يجوز تقبيل الخبز، لكن يستحب إكرامه/ ورفعه من تحت الأقدام من غير تقبيل. وقد ورد في إكرام الخبز أحاديث لا أعلم فيها شيئاً صحيحاً ولا حسناً، والله أعلم. ومنها: ما يفعله العامة إذا نزلت الشمس برج الحمل من قطع النبات المسمى بالكركبش وإدخاره عندهم ليمنع عنهم فقر تلك السنة: وهذه بدعة واعتقاد فاسد يجب التوبة منه، وفيه تشبه بالنصارى، وقد نهينا عن التشبه بهم مع أنه يشتمل على محرمات عديدة لا نطول بذكرها لأنها لا تخفى عمن شاهدها من أهل العلم، فيجب على كل قادر إنكارها والمنع منها، فإن عجز فيجب عليه أن لا يخرج إلى الأمكنة التي يجتمعون فيها لهذه البدعة. ومنها: ما ابتدعه كثير من المتعبدين والمتفقهين وهو الوسواس في الطهارة: وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم اعتداء. قال صلى الله عليه وسلم: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهارة والدعاء». رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه. فمنهم من ينتظر الحوض في الحمام حتى يفيض ثم يغتسل منه وحده ولا يمكن أحداً من استعماله حتى يفرغ. وهذا مبتدع مخالف للسنة.

قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: قال شيخنا: ويستحق التعزيز البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبد الله بالبدع، انتهى. وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وعائشة من قصعة بينهما فيها أثر العجين. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد. مع أن آنيتهم لم تكن قدر حوض الحمام ولا قريباً منه. بل صح أن الإناء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه هو وأهله قدر الفرق، وهو قريب من خمسة أرطال بالدمشقي. ولم تكن لآنيتهم مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفيه وبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. ذكر الخطابي: أن الحلاب: هو إناء يسع قدر حلبة ناقة. وفيهما أن عائشة رضي الله عنها لما سألت عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من

الجنابة فدعت بإناء قدر صاع فاغتسلت» الحديث. ومنهم من يتوضأ مرات ويغتسل مرات. وهذا أيضاً مبتدع مكروه، على الصحيح، وقيل حرام. وإليه ذهب جماعات من العلماء، واستدلوا فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً وقال: «من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم». 278 / وهو دليل ظاهر. وحكى أبو الفرج ابن الجوزى –رحمه الله- عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلاً قال له أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشكُّ هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: إذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة، المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ». ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصاب الماء أم لا فهو مجنون. قلت: ومحل الخلاف في الكراهية والتحريم إنما هو إذا فعل ذلك بما يملكه أو في نهره ونحوه. وأما إذا فعل ذلك في ماء الحمام فإن ذلك حرام قطعاً إذ يخرج وذمته مغمورة بمال الغير لاستعمال ما زاد على حاجته. وكذلك إذا توضأ من الحياض المسبلة التي يحمل إليها الماء للاستعمال وغيره

فإنه يحرم عليه أن يستعمل منها ما زاد على قدر حاجته. وكذلك الإسراف في كثرة ماء الغسل والوضوء وإن لم يزد على الثلاث قال الله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141، الأعراف: 31]. وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: لا تسرف. فقال يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جار. وروى الترمذيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء». وقال النخعيّ: إني لأتوضأ من كوز الحب مرتين. وقال سعيد بن المسيب: إني لأستحي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي. وفي رواية، إن لي ركوة أو قدحاً ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، أبول ثم أتوضأ منه وأفضل منه فضلاً. قال ابن القيم رحمه الله: لما ذكر حديث «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور»: إذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 191، المائدة: 87]. وعلمت أن الله يحب عبادته أنتج لك هذا أن وضوء المسوس ليس بعبادة. ومنها: الوسواس في نية الصلاة: وهو بدعة لم ترد عن أحد من السلف. قود قال أبو الفتوح العجليّ: تكره الصلاة خلف الموسوس لأنه يشك في أفعال نفسه، انتهي. وقال بعض العلماء: يجب على الناظر عزل الإمام الموسوس لأن الوسواس بدعة محرمة، انتهى. مع أن التلفظ بالنية وغيرها لا يجب، بل لا يسن عند أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. بل قد ذهب كثير من العلماء إلى أن ذلك بدعة لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين. 279 وقد سئل العلماء عن ذلك في زمن العلامة/ شمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى- فأجابوا بما ذكرنا وانتهى السؤال إليه، فأطال الجواب، فخرج مخرج التأليف المجرد في ذلك، وهو يتضمن أيضاً ما ذكرناه من أن التلفظ بالنية بدعة مكروهة لم ترد عن أحد ممن يقتدى به من السلف. وقال في كتابه «إغاثة اللهفان»: وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة، قد جعلها الشيطان معتركاً لأهل الوسواس يحبسهم عندها ويعذبهم بها ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها وليست من الصلاة في شيء، وإنما النية قصد فعل الشيء، فكل عازمٍ على فعل فهو ناويه ولا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها: فلا يمكن عدمها في حال وجودها، ومن قعد ليتوضئ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية.

قلت: هذا الكلام لا شك فيه وإنما دخل عليهم الوسواس من اشتراط مقارنة النية التكبير، والأدلة في اشتراطها عقلية لا نقلية، وإنما استحب المتأخرون التلفظ بالنية لأنه مظنة التذكار والحضور غالباً، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون إنما كان يعلم دخولهم في الصلاة بالتكبير حسب لا غير. قال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا واحد من الصحابة واحدة منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماماً أو مأموماً أربع ركعات مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، فلو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحد من شيئاً من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ولدلونا عليه، فإن كان هذا هدي فقد ضلوا عنه، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدي فماذا بعد الحق إلا الضلال. قال: ومن أضاف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات: أت أت التحي التحي، وفي السلام: أس أس/ ونحو ذلك، فهذا 280 الظاهر بطلان الصلاة، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله تعالى من الكبائر، وما لم يبطل الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريقه صلى الله عليه وسلم وهديه وما كان عليه أصحابه، انتهى. ومنها: أن بعضهم يغسل الصوف والجوخ وغيره مما ينسجه الكفار قبل لبسه ويعتقد أن هذا واجب. وليس كذلك واعتقاده ذلك بدعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الثوب التي ينسجها المشركون ويصلي فيها ولم يسمع عنه أنه غسل منها شيئاً قبل لبسه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له لم يفعله

رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، حتى إنه قال لقد هممت أن أنهي عن لبس هذه الثياب فإنه بلغني أنها تصبغ ببول العجائز، فقال له أبي مالك: إن تنهي عنها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبسها ولبست في زمانه، ولو علم الله تعالى أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: صدقت. ذكر ذلك ابن القيم –رحمه الله- ثم قال: وعلى قياس ذلك الجوخ، بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب فتنجسه من باب الوسواس. ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية استعار ثوباً من نصراني فلبسه حتى خاطوا له قميصه وغسلوه وتوضئ من جرة نصرانية، وصلى سليمان وأبو الدرداء في بين نصرانية فقال لها أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر نصلي فيه؟ فقالت: طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما. فقال له سلمان: خذها من غير فقيه، انتهى. ومنها: إيقادهم السرج عند الأشجار والأحجار والعيون والآبار ويقولون: إنها تقبل النذر: وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة يجب إزالتها ومحو أثرها فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتشفي المرضى، وترد الغائب إذا نذر لها. وهذا شرك ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. قال مجاهد وقتادة وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويعظمونها.

قالوا: وليست بأصنام، إنما الصنم ما يصور وينقش، وقيل غير ذلك. وقال الحافظ: أبو محمد بن أبي شامة في كتاب «البدع/ والحوادث» ومن 281 هذا القسم أيضاً ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى بها في منامه أحداً ممن يشهد لهم بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظن عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عين وشجر وحائط وحجر. وكان بعض أهل العلم ببلاد إفريقية إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان الناس قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق. فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال امضوا بنا إلى عين العافية. قال: فخرج إليها هذا العالم لما خشي الفتنة فهدمها في السحر وأذن للصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأساً قال: فما رفع لها رأساً إلى الآن، انتهى. وقد كان بدمشق كثير من هذا كالعمود المخلق وحجر كان في نهر قلوط عند مقابر النصارى تحت الطاحون على صورة صنم وحجر كان بمسجد «النارنج» وحجر كان عند الرحبة وأشياء غيرها. فتوجه إليها بعض العلماء في جماعة فكسرها وأذهب أثرها، وذلك في أوائل القرن الثامن، والله يقيم لنصرة دينه وسنة رسوله والذب عنهما من شاء من عباده. فالواجب على من رأى شيئاً من ذلك أن يذهب أثره ما قدر عليه ويطفئ ما وجد عليه من سرج وشع ونحو ذلك ويبين للناس أن هذا منكر وبدعة واعتقاد فاسد لا يحل وأنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى وحده.

ويجب على العلماء إذا اشتهر شيء من ذلك أن يبينوا للناس حكم الله فيه وينكروه بما تصل إليه قدرتهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ومنها: لبس الثياب الواسعة الطويلة والعمائم الكبار والطيالسة لغير حاجة. وذلك بدع مكروهة أو محرمة لما فيها من الإسراف وإضاعة المال. فإن لبست خيلاء وفخراً ومباهاة وتميزاً على الأقران كانت محرمة قطعاً من غير تردد. وقد تقدم ذكر ذلك في الكبائر وأن الله لا ينظر إلى صاحبها يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم. وإذا نظرت إلى سروال أحدهم وسعته وطوله عن الكعبين. وفي سعة كمية وطولهما، وأنه إذا وجدهما ضيقين قيراطاً ونحوه عد ذلك عيباً في الثوب، وإن 282 خاطها الخياط ضيقة كذلك غضب عليه/ وربما امتنع من لبسها. كذلك تحققت أنه لم يلبسها إلا للفخر والخيلاء. وقد صار أكثر الناس استعمالاً لها المتلبسون بالعلم حتى صار ذلك شعاراً لهم يتميزون به عن غيرهم، ثم اقتدى بهم فيها طوائف ليس عندهم شيء من العلم كغالب الشهود والكتاب وفقهاء المكاتب وغيرهم فيجيء الجاهل فيسأل أحدهم عن واقعة وقعت له لما يرى عليه من هيئة المتلبسين بالعلم كالشاش الكبير والطيلسان والفرجية بالأكمام الواسعة ونحو ذلك فيعلم هو أنما سأله لما ظن فيه من العلم والمعرفة فيأنف أن يكشف له عن جهله بقول لا أعلم فيفتيه بما حضر له مما يلقيه الشيطان على لسانه، وربما كان ذلك في مسائل الطلاق والنكاح وغيرها، فبضل ويضل، وسببها مخالفة السنة في لبسه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد ذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم –رحمه الله- في كتاب «الهدي»

وجماعة من العلماء غيرهم أن الطيلسان ليس من السنة. قال بعد كلام طويل: وفي جواز الطيلسان لغير البرد نظر، لأنه من سيما اليهود الذين يخرجون من أصبهان مع الدجال كما جاء في صحيح مسلم أنه يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة وقد منعنا الشرع عن التشبه باليهود والنصارى. هذا معنى كلامه. قلت: وإذا فتشت عن حقيقة القصد في لبسها وجدت غالبهم إنما يلبسها للخيلاء والعظمة والرياسة حتى إن كثيراً منهم يستحي أن يمشي في البلد بغير طيلسان شتاءً وصيفاً، ويرى أن ذلك نقص في رياسته وحط منصبه وأن الناس إذا رأوه بغير طيلسان تذهب عظمته من قلوبهم ويسقط من أعينهم. وكل هذه أدلة على سوء القصد في لبسه وفساد النية فيه ولو سألت الفقيه منهم عن التطليس للفخر والمباهاة والخيلاء لقال لك: ذلك حرام. ولو سألته عن طول الثياب عن الكعبين إلى الأرض لقال لك هو حرام وهو متلبس بجميع ذلك، ولكن لا يشعر وربما يشعر وكابر، والسنة أن يلبس الإنسان ما وجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وكذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وأما البذاذة في اللباس ولبس الأدون فهو سيما الزاهدين وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض في كساء ملبد وإزار غليظ. وكان على موسى صلى الله عليه وسلم/ يوم كساء صوف وجبة صوف وكمة 283 صوف وسراويل صوف، وكان نعلاه من جلد حمار غير ذكي. رواه الحاكم وصحح إسناده.

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرجل من شعر أسود. رواه مسلم. وروى البيهقيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرط نسائه، وكانت أكسية من صوف ما يشترى بالستة والسبعة. وفي الموطأ عن أنس قال: رأيت عمر –رضي الله عنه- وهو يومئذٍ أمير المؤمنين وقد رفع بين كتفيه رقاع ثلاث لبد بعضها على بعض. وخطب عثمان بن عفان –رضي الله عنه- على المنبر وعليه إزار عدني غليظ ثمن أربعة دراهم أو خمسة. رواه الطبرانيّ. فإن قال قائل هذا لبس الزاهدين ولسنا منهم. فنقول له: إن لم تكن زاهداً فكن متبعاً إن كنت مؤمناً. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». فإن كنت متبعاً للني صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله علينا إتباعه فألبس ما وجدت كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وعمر يلبس ما وجد، فقد كان يلبس العالي مرة والدون

مرة والواسع مرة والضيق مرة، والصوف مرة، والشعر مرة ولا يتوقف في شيء. وروى البيهقيّ عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللخ يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس». فهكذا فكن. وإن كان علمك لم يهدك إلى هذا القدر فتعوذ بالله من علم لا ينفع. وقد حكى عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام –رحمه الله تعالى- أنه كان يلبس ما وجد حتى ربما خرج وعلى رأسه كلوثة الجند وحضر الدرس وهي عليه، وربما لبس قباء ونحوه- مع أن هيبته في قلوب الأمراء والسلاطين مشهورة، وسطوته عليهم بالحق معلومة وخضوعهم لكلمته وانقيادهم لأمره لا ينكر. ولقد سأله سائل وهو في الطريق فقطع نصف عمامته ودفعها له ثم مرّ، وسأله آخر فأعطاه النصف الآخر. فقال له بعض من معه: خذ عمامتي، فأبى عليه. فقال له: يا سيدي تمشي هكذا بين الناس مكشوف الرأس؟ فلم يرد عليه جواباً، ومشى لسبيله وشق الطريق من باب زويلة إلى بين القصرين والناس يتزاحمون عليه ويتبركون به ويستفتونه. وفي فتاويه المنسوبة إليه أنه سئل فقيل له: هل في لبس هذه الثياب الواسعة الأردان والعمائم المكبرة بأس أو بدعة تستوجب توبيخاً في القيمة والمبالغة في تحسين الخياطة والزيق/ والتضريب يضر بأهل الورع أم لا؟ 284 فأجاب وقال: الأولى بالإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في اللباس.

وإفراط توسيع الأكمام والثياب بدعة وسرف وتضييع للمال. ولا تجوز الثياب الأعقاب، فما زاد على الأعقاب ففي النار. ولا بأس بلبس شعار العلماء من أهل الدين ليعرفوا بذلك فيسألوا. فإني كنت محرماً فأنكرت على جماعة من المحرمين لا يعرفونني ما أخلوا به من آداب الطواف، فلم يقبلوا. فلما لبست ثياب الفقهاء وأنكرت على الطائفين ما أخلوا به سمعوا وأطاعوا. فإذا لبس شعار الفقهاء لمثل هذا الغرض كان فيه أجر لأنه سبب إلى امتثال أمر الله والانتهاء عما نهى الله عنه. ولا تظن أيها الأخ أن توسعة الأكمام وطول الثياب وكبر الشاشات والطيالسة مع رفعها ونفاستها وسعة السراويل والبندقي وغيره من شعار العلماء من أهل الدين –معاذ الله- بل من شعار العلماء من أهل الدين ما وافق السنة، وإلا فمن خالفها فليس من أهل الدين، بل هو من أهل البدعة والسرف وتضييع المال كما ذكر الشيخ في صدر جوابه. ولا تغتر بما قال الشيخ –رحمه الله-: «ولا بأس بلبس شعار العلماء» وتغفل عن تقييده بأهل الدين. فقد اغتر بذلك غيره ولبسوا ما تراه وقالوا: هذا شعار العلماء وقصدنا بذلك توقير العلماء وأهله ونحن مثابون على ذلك. وتالله إنهم لغالطون، إذ حقيقة أمرهم الفخر والمباهاة والتميز على الأقران. وهم في جميع ذلك مأزورون لا مأجورون، ومعاقبون عليه لا مثابون. ولو كان قصدهم بهذه الهيئة، من سعة الثياب وكبر العمائم التلبس بشعار العلماء ليتميزوا عن الجهال للبسوا ذلك في مظان السؤال والإفتاء دون غيره، كما فعله الشيخ –رحمه الله- لرجوع العامة إليه.

بل لو كان قصدهم بذلك وجه الله عز وجل والتلبس بشعار العلماء لم يقصدوا الثياب النفيسة والصوف الرفيع ويأنفوا من لبس القماش الوسط وإن كان على الهيئة المطلوبة من السعة والطول، حتى لو كلفت أحدهم أن يلبس الكتان الخالص مكان المحرر والصوف المربع، وكلفته أن يلبس الشاشات البلدية مكان الشمسية لكان عنده بمنزلة الذبح وإن كان في السعة والطول سواء. ولو كلفت أحدهم أن يتخذ فرجتين من لون واحد وقماش واحد لأبى إلا أن يغاير بينهما ليعلم أن له ثنيتين. وما فائدة سعة السراويل ورفعه وطوله مع أن العالم لا يتميز به ولا ينظر السائل ذا السروال فيقصده بالسؤال دون من لا سروال له. وما فائدة سعة السراويل ورفعه وطوله مع أن العالم لا يتميز به ولا ينظر السائل ذا السروال فيقصده بالسؤال دون من لا سروال له. وما فائدة الطيلسان ورفعه وجره/ من وراء ظهره وهو مم يقتضي إقدام 285 كثير من العوام على صاحبه بالسؤال. والله ما ذاك كله إلا لما ذكرنا من المقاصد الفاسدة. مع أن أكثر اليوم من يلبس هذه اللبسة الجهال كغيرهم من أرباب الصنائع، والتميز بهذه الهيئة مفقود. وفيه ما تقدم من المفسدة العظمى في قصد صاحب هذه الهيئة بالسؤال وإقدامه على الجواب بجهله، إذ صار ذلك شعار الشهود والكتاب والمؤذنين وكثير من التجار وغيرهم من الطلبة الذين ليسوا أهلاً لأن يسألوا، بل صار أهل الذمة من اليهود والنصارى والسامرة يلبسون لبسة المتفقهة لا يتميزون عنهم إلا بألوان عمائمهم حسب لا غير. فمن كان من أهل العلم فليتبع العلماء ويقتدي بالسلف ويعبدوا الله بالسنة، وإلا فكل عللهم في لبستهم معلومة، وكل أدلتهم فيها مدخولة، والمعصوم من عصمه الله.

وقد حكي عن الإمام الحافظ –أبي عبد الله القرطبيّ- رحمه الله- أنه كان على السنة يلبس ما وجد حتى أنه كان يوماً في بيته يغسل له ثوبه ولم يجد شيئاً يلبسه فلبس ثوب زوجته وجلس يشغل ولده الصغير عن أمه حتى تفرغ من غسلها فخمر العجين، واحتاج إلى الخبز فأخذ الطبق على يده والصغير على ذراعه الآخر وخرج إلى الفرن. وإذا بعجوز قد لقيته فطلبت منه أداء شهادة عند الحاكم فذهب معها في الوقت وهو على تلك الحال- العجين على يده وولده على ذراعه وهو لابس قميص زوجته حتى جاء إلى القاضي وجماعة الشهود عنده فأدى الشهادة فقال له القاضي: ما حملك على أن تأتي على هذه الحالة؟ فقال: غسلت ثوبي ولم أجد شيئاً ألبسه غير قميص الزوجة، وكنت أشغل الولد عن أمه، ثم احتجت إلى الخبز فخرجت فلقيتني هذه المرأة وطلبت مني أداء الشهادة وهي واجبة علي، فخفت أن لا يطول العمر، فبادرت إلى خلاص الذمة وبعدها أدرك قضاء حاجتي. فرد القاضي إلى العدول فقال: أفيكم من يقدر أن يفعل مثل هذا؟ فقالوا: لا. فقال: وأين العدالة! ! ومثل هذه الحكاية عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم كثير لا ينحصر. بل كان الغالب على علمائهم التقشف والبذاذة وليس الدون من الثياب كما قال الإمام العارف أبو طالب المكي: قد كان السلف ثوب أحدهم من سبعة دراهم إلى عشرة دراهم وكانوا لا يجاوزون هذا الثمن إلا نادراً. 286 / قال: ومما أحدثوه من البدع لبس الثياب الكثيرة الأثمان، انتهى. وإن عجزت أن تجاهد نفسك في لبس الدون منها، فلا بد وأن تجاهدها في ترك الإسراف فيها والوقوف عند القدر المباح من وسعها وطولها.

وانظر ما قدمناه في الكبائر في لبس الطويل من الثياب وفيمن جره خيلاء يتضح لك ما في هذه الثياب من الوزر وما على صاحبها من الإثم، والله ولي التوفيق لا رب سواه.

9 - فصل قال حجة الإسلام أبو حامد الغزاليّ رحمه الله: إعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف بالقرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمان وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلاد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية. وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينيه وترغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى كل من يجاوره من أهل السواد ومن الأعراب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستحصب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها يكون شبهة فإن قدم بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين، وإلَّا عمَّ الحرج الكافة أجمعين. أما العالم فلتقصيره في الخروج، وأما الجاهل فلتقصيره في طلب العلم. وكل عاميّ عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم. ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم وكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو إحياء بضاعتهم ببضاعتهم أليق، لأن المتحرفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق.

وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العلماء ورثة الأنبياء، وليس للإنسان منهم أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. وكذلك كل من يتقن أنه في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالتفرد في البيت، بل يلزمه الخروج. فإن كان لا يقدر على تغيير البعض/ لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان 287 لأجل تغييره ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر على تغييره، وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهله وأقاربه ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده، ثم إلى السواد المكتف لبلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم. فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرّج به كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً. ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه. وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن توجيه الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات، ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه والله أعلم، انتهى. وعلم أيها الأخ الحريص على خلاص نفسه أن الله تعالى فرض عليك أن تستقيم وأن تتعلم العلم بكيفية الاستقامة في كل حالة أقامك فيها وفرض عليك أن تتعلم ما افترض على أهلك لتعلمهم إياه أو تمكنهم من التعلم حيث لا مانع، فإن لم تفعل كان كل ما فرطوا فيه من الواجبات في عنقك.

قال الواحديّ –رحمه الله- في تفسيره، قال الحسن: «علموا أولادكم وأهليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه حتى يؤمنوا بهم ويصدقوهم بما جاءوا به». وقالت العلماء: لا يكون الرجل مؤمناً حتى يؤمن بسائر الأنبياء السابقين وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. فيجب على الإنسان أن يعلم صبيانه ونساءه أسماء الأنبياء عليهم السلام ويأمرهم بالإيمان بجميعهم، إذ لا يبعد أن يظنوا أنهم كلفوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقط، فيلقنوا قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا .. } إلى آخر الآية انتهى. قلت: فإذا كان تعلم أسماء الأنبياء للنساء والصبيان واجب فما ظنك بأحكام الطهارة والصلاة والحج والصيام ونحو هذا. وهذا أمر قد أضرب عنه أكثر العلماء في أهليهم وخدمهم فضلاً عن الجهلاء. فترى العالم لا يلتفت إلى من عنده من العبيد والإماء بأمر واجب ولا نهي 288 عن محظور، بل لا يأمر زوجته ولا ينهاها ولا يعترض عليها/ في ترك صلاة ولا زكاة ولا غسل، ولا يعلمها ما أوجب الله عليها من الفرائض. ولعل العبد والجارية يقيمان في ملكه السنين الكثيرة لا يصليان صلاة ولا يغتسلان من جنابة ولا حيض إلا إن دخلا الحمام تبعاً ويراهما السيد مرتكبين أموراً من المنكرات فلا ينهاهم ويتغافل عنهم، والجاهل يظن أن إثمهما على أنفسهما دونه.

وتالله إنه لمؤاخذ بما يصدر منهم ومسئولاً عنه ومطالب به يوم القيامة ومعاقب عليه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته». رواه البخاري ومسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه حفظ أم ضيع». رواه ابن حبان في صحيحه. فمن علم أن الله سائله يوم القيامة عن رعيته وأهله وخدمه، كيف تقر عينه بإهمالهم وتركهم كالبهائم المرسلة لا يزمهم بزمام الشرع، ولا يقيدهم بقيد السنة، ولا يعلمهم ولا يأمرهم بالتعلم، بل لو اشتغل أحدهم بأداء صلاة وفوته درهماً أو أخر حاجته قليلاً لاشتغاله بالصلاة وأداء الواجب لقامت قيامته وقابله بما أمكنه وليس هذا من الدين في شيء. فلينظر كل امرئ لنفسه، فرب هالكٍ بإهماله ذنوب غيره وهو لا يشعر فينبغي للإنسان أن يأمر زوجته وولده وخادمه بأداء الواجبات وترك المحرمات بالرفق، فإن أبوا أغلظ عليهم الكلام، فإن أبوا ضربهم، فإن لم ينتهوا فارق الزوجة وباع الخادم هجر الولد حيث يجوز الهجر، وقد تقدم أن ابن عمر هجر ولداً له إلى أن مات. فإذا فعل ذلك فقد خلص نفسه، وقام بما يجب عليه من الإنكار، وخرج من العهدة منهم وبريء من الإثم، والله ولي التوفيق. وهذا آخر ما يسَّره الله –تعالى- مع ضيق الوقت، وكثرة الاشتغال، وترادف القواطع، وتتابع الموانع، وعدم الكتب التي ينبغي أن تراجع في مثل هذا

الشأن، فرحم الله امرأ رأى فيه عيباً فستره، أو زللاً فغفره، أو وهماً فحلم عن صاحبه وعذره. وإني أبرأ إلى الله مما زل به البنان، أو أخلَّ به العيان، أو حل به الخطأ وحل فيه النسيان. 289 اللهم إليك نمد أكف الفاقة والافتقار، أن تمحو من صحائفنا/ ما سطرته أيد الأوزار، فإنا في كثير مما تقدم واقعون، ولنواهيك بجرائمنا مرتكبون، ونحن إليك تائبون، رب فتقبل توباتنا واغسل صوباتنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتولنا بحفظك ولا تخزنا يوم الدين، واجعلنا من خوف الطرد والقطيعة آمنين، رب ولا تجعل حظنا منك الحرمان، ولا تبعدنا عن بابك بالعصيان ولا تجعل ما علمتنا سبباً لهواننا يوم يقوم الأشهاد، وآتنا ما وعدتنا على رسلك إنك لا تخلف الميعاد. اللهم واجعل أفضل صلواتك، على أفضل مخلوقاتك، محمد، وعلى آله، وأصحابه، وأزواجه، وذرياته أجمعين، دائماً بدوام ملكك يا رب العالمين، وأنلنا شفاعته واحشرنا في زمرته، يا أرحم الراحمين. تم الكتاب، والحمد لمستحقه، وصلواته وسلامه على أشرف خلقه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. قال مؤلفه رحمه الله: فرغ مؤلفه من تأليفه في العشر الأوسط من صفر، سنة إحدى عشرة وثمانمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلواته وسلامه على خير خلقه، ومظهر دينه وحقه، سيدنا محمد خاتم

الأنبياء والمرسلين، والكل وأصحابهم والتابعين، وتابع التابعي لهم بإحسان إلى يوم الدين. وفرغ منه كاتبه الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ومغفرته وإحسانه محمد بن عبد المحسن بن دغفق، غفر الله له، ولوالديه، وإخوانه في الله، ولجميع المسلمين والمسلمات، يوم الأربعاء خامس من شهر رجب سنة 1333، والحمد لله رب العالمين. (إن تجد عيباً فسد الخلا ... جل من لا عيب فيه وعلا) بلغ مقابلة على أصله بحسب الطاقة والإمكان.

§1/1