تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل

ابن تيمية

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله العليمِ القديرِ الخالق اللطيفِ الخبيرِ الرازق السميع البصير الحكيم الصَادق العلىِّ الكبير الفاتق الراتق الذي يَسُنُّ المناهجَ والشرائعَ ويُبيِّنُ الطرائقَ ويَنْصِبُ الأعلامَ الطوالعَ لكشف الحقائق ويُنَزِّل الآياتِ والدلائلَ لبيان الجوامع والفوارق ويَقذِفُ بالحقِّ على الباطل فَيدْمَغُه فإذا هو زاهق أحمدُه ثناءً عليه بأسمائه الحُسنَى وصفاتِه العُلَى وشكرًا له على نِعَمِهِ البَواسِق وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ المغاربِ والمشارقِ وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ بالمعجزات الخوارقِ الموضحُ لسبيل الحق في الجلائل والدقائق صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم صلاةً وتسليمًا باقيَيْنِ ما بَقِيَتِ الخلائقُ أما بعدُ فإن الله سبحانَه عَلِمَ ما عليه بَنُو آدمَ من كثرةِ الاختلاف والافتراقِ وتبايُن العقولِ والأخلاق حيث خُلِقُوا من طبائعَ ذاتِ تَنافُرٍ وابتُلُوا بتشَعُّبِ الأفكار والخواطر فبعثَ اللهُ الرسُلَ مُبشِّرين ومُنذِرين ومُبيِّنينَ للإنسانِ ما يُضِلُّه ويَهْديه وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليَحْكُمَ بينَ الناسِ فيما اختَلَفوا فيه وأمرهم بالاعتصام به حَذَرًا من الافتراقِ في الدين وحَضَّهم عند التنازع على الردِّ إليه وإلى رسولِه المُبِين وعَذَرَهم بعد ذلك فيما يتنازعون فيه من دقائقِ الفروع العَمليَّةِ لِخَفاءِ مَدْرَكِها وخِفَّةِ مَسْلَكِها وعَدَم إفضائِها إلى بَلِيَّةٍ وحَضَّهم على المناظرة والمشاورة لاستخراج الصوابِ في الدنيا والآخرة حيثُ يقول لِمَن رَضِيَ دِينَهم وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى 38] كما أمرَهم

بالمجادلةِ والمُقاتَلةِ لمن عَدَلَ عن السبيلِ العادلة حيث يقولُ آمرًا وناهيًا لنبيه والمؤمنين لبيان ما يَرضاه منه ومنهم وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 125] وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت 46] فكان أئمةُ الإسلامِ مُتثلينَ لأمرِ المليكِ العلاَّم يُجادِلون أهلَ الأهواءِ المُضِلَّة حتى يَرُدُّوهُم إلى سَواءِ المِلَّة كَمُجَادلةِ ابنِ عباسٍ- رضي الله عنهما- للخوارج المارِقينَ حتى رجعَ كثيرٌ منهم إلى ما خرجَ عنه من الدين وكمناظرةِ كثير من السلف الأولين لِصُنوفِ المُبتدعةِ الماضين ومَن في قلبِه رَيْبٌ يُخالِفُ اليقينَ حتى هَدَى اللهُ مَن شاءَ من البشَر وعَلَنَ الحَقُّ وظَهَر ودَرَسَ ما أحدثَه المبتدعون وانْدَثَر وكانوا يَتناظرون في الأحكام ومسائلِ الحلال والحرام بالأدلَّة المَرْضِيَّة والحُجَجِ القويَّة حتى كان قَلَّ مجلسٌ يجتمعون فيه إلاّ ظهَرَ الصواب ورَجَعَ راجعون إليه لاستدلال المستدلِّ بالصحيح من الدلائل وعِلْمِ المُنازع أن الزجوعَ إلى الحقّ خيرٌ من التَّمادِيْ في الباطل كمُجادلةِ الصِّدِّيَقِ لمن نَازَعَه في قتالِ مانِعِي الزكاةِ حتى رَجَعوا إليه ومُناظرتِهم في جَمْعِ المُصحفِ حتى اجتمعوا عليه وتَناظُرِهم في حَدِّ الشارب وجَاحِدِ التحريم حتى هُدُوا إلى الصراط المستقيم وهذا وأمثالُه يَجِلُّ عن العَدِّ والإحصاءِ فإنه أكثرُ من نُجومِ السماء ثم صارَ المتأخرون بعد ذلك قد يَتناظرونَ من أنواع التأويلِ والقياس بما يُؤَثِّر في ظنِّ بعضِ الناس وإن كان عند التحقيقِ

يؤُولُ إلى الإفلاس لكنهم لم يكونوا يَقْبَلُون من المُناظِرِ إلاّ ما يُقيَّد ولو كانَ ظَنًّا ضعيفًا للناظرِ واصطلحُوا على شريعةٍ من الجَدَلِ للتعاونِِ على إظهارِ صوابِ القولِ والعمل ضَبَطُوا بها قوانينَ الاستدلالِ لتَسْلَمَ عن الانتشارِ والانحلالِ فطَرائِقُهم وإن كانت بالنسبة إلى أدلَّة الأوّلين غيرُ وافيةٍ بمقصودِ الدين لكنها غيرَ خارجةٍ عنها بالكلِّية ولا مشتملةٌ على ما لا يُؤَثِّرُ في القَضيَّة ورُبَّما كَسَوها من جَودةِ العبارة وتقريبِ الإشارة وحُسنِ الصِّياغةِ وصُنوفِ البلاغة ما يُحَلِّيْها عند الناظرين ويُنْفِقُها عند المتناظرين مع ما اشتملتْ عليه من الأدلة السمعية والمعاني الشرعية وبنائِها على الأصول الفقهية والقواعد المَرْضِيَّة والتَّحاكُمِ فيها إلى حاكمِ الشرع الذي لا يُعْزَل وشاهدِ العقلِ المُزَكَّى المُعَدَّلِ وبالجملة لا يَكَادُ يشتملُ على باطلٍ مَحْضٍ ونُكْرٍ صِرْفٍ بل لابُدَّ فيها من مخيلٍ للحقّ ومشتملٍ على عُرْف ثم إنَّ بعضَ طلبةِ العلوم من أبناءِ فارسَ والروم صاروا مُولَعِينَ بنوعٍ من جَدَلِ المُمَوِّهِينَ اسْتَحْدثَه طائفة من المشرِقيِِّيْن وألحقُوه بأصول الفقه في الدين رَاغُوا فيه مُراوَغَةَ الثَّعالِب وحَادُوا فيه عن المسلكِ اللاَّحِب وزَخرفُوه بعباراتٍ موجودةٍ في كلامِ العلماءِ قد نَطَقُوا بها غيرَ أنهم وَضَعُوها في غيرِ مَواضِعها المُستَحقَّةِ لها وألَّفُوا الأدلةَ تأليفاً غيرَ مستقيم وعَدَلُوا عن التركيبِ الناتِجِ إلى العَقيم غيرَ أنهم بإطالةِ العبارةِ وإبْعادِ الإشارةِ واستعمالِ الألفاظِ المشتركةِ والمجازيةِ في المقدِّمَاتِ ووَضْع الظَّنَّياتِ موضعَ القَطْعِيَّاتِ

والاستدلالِ بالأدلَّة العامّةِ حيثُ لها دلالةٌ على وجهٍ يَستلزمُ الجمعَ بينَ النقيضَينِ مع الإحَالةِ والإطالةِ وذلك من فِعْلِ غالطٍ أو مغالطٍ للمُجادِل وقد نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أُغْلُوطَاتِ المسائلِ نَفَقَ ذلك على الأَغْتَام الطَّمَاطِم ورَاج رَوَاجَ البَهْرَج على الغِرِّ العَادِم واغْتَرَّ به بعضُ الأَغْمار الأعاجم حتى ظَنُّوا أَنه من العلم بمنزلةِ الملوم من اللازم ولم يَعَلموا أنه والعِلْم المُقَرَّب مُتَعانِدانِ مُتَنافِيان كما أنه والجهل المركَّب مُتصَاحِبان مُتَآخِيانِ فلمَّا استبانَ لبعضِهم أنه كلامٌ ليسَ له حَاصِلٌ ولا يقومُ بإحقاقِ حقٍّ ولا إبطالِ باطلِ أخذَ يَطلُبُ كَشْفَ مُشْكِلِه وفَتْحَ مُقْفَلِهِ ثمَّ إبَانَةَ عِلَلِه وإيضاحَ زَلَلِه وتحقيقَ خَطَئِه وخَلَلِه حتى يَتبيَّنَ أنَّ سَالِكَه يَسلُكُ في الجَدَلِ مَسْلَكَ اللَّدَدِ ويَنْأَى عن مَسَالِكِ الهُِدَى والرَّشَدِ ويَتعلَّقُ من الأصولِ بأذْيالٍ لا تُوصِلُ إلى حقيقةٍ ويَأخُذُ من الجَدلِ الصحيح رُسُومًا يُمَوِّهُ بها على أهلِ الطريقةِ ومع ذلك فلا بُدَّ أن يَدْخُلَ في كلامِهم قَواعِدُ صحيحة ونُكَتٌ من أصولِ الفِقْهِ مَلِيحة لكنْ إنما أخذوا ألفاظَها ومَبَانِيها دون حقائِقِها ومَعَانِيها بمنزلةِ ما في الدرهمِ الزائفِ من العَيْنِ ولَولا ذلك لما نَفَقَ على مَن له عَيْنٌ فلذلك آخُذُ في تمييزِ حقِّه من باطلِه وحَالِيْهِ من عَاطِلِه بكلام مختصرٍ مُرتَجَلٍ كتيَه كاتبُه على عَجَلٍ والله الموفِّقُ لما يُحِبُّهُ ويَرضَاهُ ولا حَولَ ولا قوةَ إلاّ بالله

فصل في التلازم

فصل في التلازم فيه وأكثر هؤلاء المغالطين في الجدل إنما يستغفلون الخصمَ أن يُسلِّم قبل وجوب تسليم ما يذكرونه من العبارات التي لا حاصلَ لها وقد يقدح في نتيجة التلازم بعد تسليم التلازم وهذا يظهر إن شاء الله بالكلام الآتي قال المجادل واعتبر ما ذكرناه في المناظرة متى قلت لو وجبت الزكاةُ على المديون لَوجَبَتْ على الفقير إمّا بالنصّ أو بالقياس أو بغيرهما من الدلائل فإنه يلزم من الوجوب هنا الوجوبُ ثَمَّهْ ومن العدم ثَمَّهْ العدمُ هنا فإنّ عدمَ الملزوم من لوازم عدمِ اللازم قلت اعلم أن العلماء اختلفوا في مَن ملكَ نصابًا زكويًّا وحالَ عليه الحولُ وعليه دَيْنٌ حالٌّ لآدمي لا يتبقى معه بعد قضائه نصاب فأكثر العلماء لا يُوجبون عليه الزكاة في الموال الباطنة وهي النقدين

وعروض التجارة والشافعي في الجديد من قوله أوجبها عليه واختلف الأولون في الأموال الظاهرة وهي الحرث والماشية فعن احمد فيها روايتان إحداهما لا زكاة عليه فيها كالباطنة وهي المنصورة عند أصحابه والثانية عليه فيها زكاة وهي قول مالك وقال أبو حنيفة لا يجب عليه زكاة الماشية ويجب عليه عُشُرُ الخارجِ من الأرض بناءً على أصلهِ في أنه ليس بزكاةٍ وإنما هو حقّ الأرض ولهذا أوجبَه في مال الصبي والمجنون والقليل والكثير وجميع ما ترك من الخارجات ولم يجمع بينه وبين الخراج والكلام العلمي في هذا معروف في موضعه واعلم أن المصنف يستعمل لفظ المدْيُون وهي لغة قليلة والصحيح أن يقال المَدِيْن وكذلك كل اسم مفعولٍ صِيْغَ من فعلٍ عينُه ياءٌ مثل مَبِيْع ومَسِيْل وَمعِيْن من عَانَه يَعِيْنُه ومَعِيْب وإن كان العينُ واوًا مثل مَصُوْن فإن التصحيح فيه أضعف وكذلك يستعمل ثَمَّة وهذه الهاء هاء السكت وهي تدخل على كل حركةٍ غير إعرابية لكن إنما تُستَعمل عند إرادة الوقوف والسكوت فأما إذا أريد وَصْلُ الكلام فلا حاجةَ إليها لظهور الحركة من بعدها وربّما حرَّكَها الناسُ وهو لحنٌ فإذا قال المستدل وجوب الزكاةُ على المدين يستلزم وجوبها

على الفقير فعليه بيانُ الملازمة فإن أقامَ دليل الملازمةَ والمعارضة لم يَرِدْ عليه سؤال صحيح إلاّ المعارضة بما يدل على نفي الزكاة ومن عادة أصحاب هذا الجدل واستدلوا بما استدلال بعضهم من النصّ بقوله صلى الله عليه وسلم أدُّوا زكاةَ أموالكم فإذا نُوزِعوا في شمولِه للفقير إذْ لا مالَ له قالوا المراد به مضن ملك دون النصاب أو مالاً غير زكوي وهذا الحديث بهذا اللفظ لا أصلَ له ولا يُعرف في شيء من كتبِ الحديثِ والفقهِ المعتبرة وبتقديرِ صحتِه فقد انعقد الإجماعُ على أن الفقير غيرُ مرادٍ منه فلا يصحُّ الاستدلالُ به على الوجوب على الفقير وقد انعقد الإجماعُ على أن المرادَ به الأموالُ الزكويّةُ قدرًا ونوعًا دون ما سِوى ذلك فلا يكون من ليس كذلك داخلاً فيه فإن قيل هو مرادٌ على هذا التقدير وهو تقدير الوجوب على المدين لأنه جائز الإرادة على هذا التقدير لأنَّ ما يسوِّ بين المدين والفقير يقول إن النصَّ الموجبَ للزكاة في أحدهما موجبٌ للزكاة في الآخر فلو كان الموجبُ على المدين مرادًا لكان الوجوب على الفقير مرادًا قيل كون الشيء مرادًا معناه أن الشارعَ أرادَه بكلامه وهذا أمرٌ قد استقرَّ وثبتَ فلا يُمكن انقلاب مرادِه غيرَ مُرادٍ له ولا ما ليس بمرادٍ

له مرادًا له ونحن قد علمنا قطعًا أن الفقيرَ ليس بمرادٍ فلا يُمكِن الاستدلال على وقوع الإرادة بعدَ ذلك بكونِه جائزَ الإرادة أو بكون اللفظِ عامًّا له؟ أو بغير ذلك من الأدلة لأن ما ليسَ بواقعٍ لا يقوم دليلٌ صحيح على وقوعِه نعم الذي يمكن أن يُقالَ لو وجبَتْ على المدينِ لوجبَ كونُ الفقير مرادًا من هذا النصَّ إذا بين أن النافي للإرادة يزول على هذا التقدير فيعمل مقتضى الإرادة عمله فيحتاج أن يبيَّن أن النافي لإرادة الفقير يزول على هذا التقدير وحينئذٍ يحتاج إلى الخوض في فقه المسألة ولا تُغنيه الأدلة العامةُ لأنّا قد علمنا أن الفقير ليس بمرادٍ من النصّ فدعوى إرادته على تقديرٍ يحتاجُ إلى دليلٍ يَنشأُ من ذلك التقدير فلو قال هو جائز الإرادة على ذلك التقدير فلا نسلِّم أنه جائز الإرادة على ذلك التقدير ولئن سلَّمنا جواز الإرادة فلا نُسلم أنه يقتضي الإرادة كما سيأتي إن شاء الله ولو سلَّمنا له أنّ جواز الإرادة يقتضي الإرادة فإنما تقتضيه إذا كان الجواز ثابتًا في نفس الأمر أما إذا كان جائز الإرادة على تقدير غير واقع لم يلزم أن يكون مرادًا وهنا وجوب الزكاة على المدين ليس واقعًا عند المستدل وإنما يجوز كون الفقير مرادًا بتقدير الوجوب على المدين بإذنٍ هو جائز الإرادة بتقدير غير واقع عنده ومعلومٌ أن ما هو كذلك لا يكون

مرادًا لأن ذلك الجواز منتفٍ في نفس الأمر لانتفاء تقديره في نفس الأمر وإذا كان الجواز منتفيًا كان غيرَ واقع فلا يكون جائز الإرادة في نفس الأمر فلا يصحّ الاستدلالُ به على الإرادة لأن ذلك الدليل إنما يدلُّ على الواقع لا على غير الواقع أو يقال ليس جائز الإرادة على هذا التقدير بالإجماع أما عند المستدل فلانتفاءِ التقدير وأما عند المعترض فلأنه غير جائز الإرادة عنده على هذا التقدير وأيضًا فلابُدَّ أن يقول المقتضي للإرادة وهو شمولُ اللفظ أو صلاحيته مثلاً قائمٌ وإنما تُرِك العملُ به للمعنى المشترك بين الفقير والمدين أو لمعنًى هو في المدين أو بالمنع لو وجبت على المدين لزال هذا المانعُ ولو زال لوجبَ أن يكون مرادًا من هذا النصّ فلا يتمُّ كلامُه حتى يبيّن أن الوجوب على المدين يقتضي الوجوب على الفقير من جهة المعنى وحينئذٍ فلا يكون مثبتًا للتلازم بالنصّ فعلمت أن النصّ بنفسه يمتنع أن يَدُلًَّ على الوجوب مع العلم بأنه في نفس الأمر غيرُ دالٍّ حتى يتبيَّن قيامُ مقتضٍ للوجوب أو زوالُ مانعٍ له وهذا إذا وُجِد كان استدلالاً صحيحًا ولسنا نطعنُ فيه واعلم أنه يُمكِن إبطال من كل نصّ يدعى بما يختصه فإن عدم الإرادة بالإجماع دليلٌ عام وذلك أنه يمتنع أن تدل النصوص

دلالةً مسلَّمةً على ما يخالف الإجماع مثلَ أن يقال على هذا الحديث: لو كان له أصلٌ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرَ بأداءِ زكاة المال والفقير ليس له مالٌ تكون له زكاةٌ أوله مالٌ لكن لا زكاةَ له أو يقال لا نُسلِّم أنّ للفقير زكاةَ مالٍ حتى يُؤمرَ بأدائها فإنّ الأمر بأدائها فرعُ تحقُّقِها فلو أثبت تحققها بالأمر بأدائها لزمَ الدورُ فإن قال يجوز أن يكون مرادًا قلنا لا نسلِّم فإن زكاةِ المال لا يُعرف لغةً وإنما يعرف شرعًا فإن لم يثبت من جهة الشرع أنَّ لهذا المال زكاةً امتنع أن يُراد أداء زكاةٍ فيه من هذا الخطاب واعلم أن اللفظ لو كان في أموالكم زكاة ونحو ذلك احتجنا إلى جواب آخر وإنما أمر بأداء زكاة الأموال والإضافة إلى المعرفة تقتضى التعريف فلابُدَّ أن تكون زكاةُ الأموال معروفة حتى ينصرفَ الخطابُ إليها وسواءٌ أُريدَ الزكاة المعتادة أو جنس الزكاة فالاستدلال به موقوف على ثبوت هذا الاسم في حقّ الفقير ولا سبيل إلى ذلك واعلم أنه يمكن إثباتُ التلازم بالقياس الصحيح كما سنذكره إن شاء الله تعالى وهو الذي يعتمد عليه في هذا الباب وعادةً هؤلاء يُثبِتونه بقياسٍ عام كما أثبتوه بنصٍّ عام وربَّما أثبتوه بالنصّ والقياس جميعًا وبعضهم يقول لا يُستدلُّ به مع وجودِ النصِّ وهذا ليس بشيء فإنه لو فرض وجود قياس يوافق مقتضى النص لم يمتنع الاستدلال به فإن توارد الأدلة القوية والضعيفة على مدلولٍ واحدٍ ليس بممتنع إنما القياس الباطل ما خالف مقتضى النصّ لا ما وافقه

وربّما قال بعضهم يجب الزكاة على هذا التقدير وإلاّ يلزم تركُ العمل بالنصوص المعمول بها في إحدى الصورتين والأنيسة المخصوصة بالصورتين فإنه على هذا التقدير قد عمل بالنصوص في المدين بينه وبين الفقير جامعٌ يوجب اشتراكهما في الحكم وهذا أيضًا ليس بشيء فإن هذه النصوص متروكة في هذه الصورة بالإجماع ومتروكة في صورة النزاع عند المستدل فهو تارك للعمل بها في الموضعين فكيف يفرُّ من ترك العمل بشيء في صورةٍ وقد ترك العمل به في صورتين وأما السائل فقد ترك العمل بها في أخرى لأن ترك العمل بالدليل على خلاف الأصل فكثرته على خلاف الأصل والنكتة فيه أن يقال إذا تركنا العمل بنصّ قد عملنا به في صورةٍ أيّ محذورٍ في هذا فإن قال لأن فيه مخالفة بالنصّ قيل له هذه المخالفة ثابتة في نفس الأمر بالاتفاق منا ومنك وما هو ثابت في نفس الأمر لا يضرُّني التزامُه على تقدير صحة مذهبي بل هو أدلُّ على صحة المذهب منه على فساده فيحتاج حينئذٍ إلى أن يبيّن أن العمل به في إحداهما يقتضي العمل به في الأخرى بمعنى فقهيّ وهذا مقبول إذا أبداه وأما القياس فإن قاس بوصف مجهول ونحو ذلك من الأقيسة العامة فسيأتي إفساده فإن ذكر قياسًا فقهيًّا فهو

مقبولٌ ومتى وقع التحقيق في هذا المقام تعذَّر على المستدل إثبات اللازم بنص عام أو بقياس عام وربما يثبتونه بغير النص والقياس مثل تلازم آخر أو ترديد أو دوران أو غير ذلك فما أفاد منها معنًى فقهيًّا فهو مقبول وإلاّ فهو مردود مثل قول بعضهم لو لم تجب الزكاة على الفقير على تقدير وجوبها على المدين لم يَخْلُ إما أن يكون العدم لازمًا للوجوب في الجملة أو لا يكون لازمًا والتقديران باطلانِ فيبطل الملزوم وهو عدم الوجوب فيثبت الوجوب على الفقير على ذلك التقدير بيان الأول أنه لا يخلو إما أن يكون الوجوب في الجملة مستلزمًا للعدم أم لا بيان الثاني أنه لو استلزم الوجوبُ في الجملة العدمَ لكان الوجوب على الفقير مستلزمًا عدمَ الوجوب على المدين وهو باطلٌ قطعًا فإنه من المحال أن تجب على الفقير غيرَ مستلزم للوجوب على المدين وهو باطلٌ أيضًا إذ التقدير وجوبها على المدين دون الفقير وهذا الكلام ركيك فإن كلا المتقدمتين باطلة أما الأولى فلا نسلّم لزومَ أحد الأمرين على هذا التقدير وذلك أن قوله العدم إما أن يعني به عدم الوجود فيهما أو في أحدهما بعينه أو في أحدهما بغير عينه أو مطلق العدم فإن عُني به الأول كان التقدير إما أن يكون عدم الوجوب في الصورتين من لوازم

الوجوب في الجملة أم لا وهذا مع رِكّته ظاهر فإن جوابه أن يقال ليس من لوازمه فإن عدم الوجوب في الموضعين يمتنع أن يكون من لوازم الوجوب في أحد الموضعين فإنه يلزم منه أن يكون الوجوب في صورة ملزومًا لعدم الوجوب في كل صورةٍ وذلك جمعٌ بين النقيضين وإذا لم يكن العدم فيهما من لوازم الوجوب بطلت الملازمة الثانية وهو قوله لو يستلزم العدم الوجوب لكان عدم الوجوب على الفقير غير مستلزم للوجوب على المدين فإن العدم إنما هو عدم الوجوب فيهما لا عدمه على الفقير خاصّة ولاشك أن عدمه عليهما غير مستلزم للوجوب على المدين وأيضًا فلو كان عدم الوجوب على الفقير غير مستلزم للوجوب على المدين لم يلزم عدم الوجوب على المدين بل قد تكون واجبةً على المدين لا من جهة التلازم بل من جهة أخرى فإن نَفْيَ الدليل المخصوص لا يلزمُ منه نَهْيُ الحكم فيجوز أن يكون التقدير وجوبها على المدين دون الفقير ولا يكون وجوبها على المدين من لوازم العدم على الفقير بل ثابت بنفسه واجتماعهما أمرٌ اتفاقي كجميع الأمور التي هي ثابتة وليس بعضها من لوازم البعض وإن عُنِي عدم الوجوب في أحدهما بعينه فإن أراد الفقير وهو مقتضى كلامه كان التقدير إما أن يكون عدمُ الوجوب على الفقير لازمًا للوجوب في الجملة أو غيرَ لازمٍ وحينئذٍ فإن قيل هو لازم لم يصحّ قوله الوجوب على الفقير يستلزم العدم على المدين لأن التقدير العدم على الفقير وإن قيل ليس بلازم فقد تقدم أنه لا يلزم

عدم الوجوب عدم المدين وإن أراد المدين بطل التلازم الثاني من وجهين وإن أراد أحدهما لا بعينه أو أراد مسمًّى قيل لا يخلو في نفس الأمر إما أن يدّعي عدمَهما أو عدمَ كل منهما أو عدم أحدهما بعينه أو عدم أيهما كان وعلى التقديرات كلَّها فالتلازمُ المدَّعَى باطلٌ وإنما جاء هذا التلبيس من كون لفظ العدم فيه إبهامٌ وإطلاقٌ واشتراكٌ واللبيب لا يخفى عليه هذا وإن شئت قلت لا نُسلِّم لزومَ أحدهما بل يمكن أن لا يكون العدم على التعيين لازمًا وأنت لم تُثبِت لزومَ أحدهما بعينه وقد تقدم منعُ التلازم في المقدمة الثانية ومثل قول بعضهم الوجوب على الفقير من لوازم لزوم ما هو مستلزم له على ذلك التقدير فيكون لازمًا إذ المستلزم لا يفارق الشرط في اللزوم وهو ما يناقض العدمَ فيهما وذلك لأن عدمَ اللزوم لا يخلو من أن يكون شاملاً لهما أو لا يكون فإن كان شاملاً فظاهرٌ وإن لم يكن فكذلك لأن من اللوازم ما يكون مستلزمًا له على تقدير عدم الشمول وإلاّ لكان الشمول من لوازم اللزوم في الجملة وإنه محال وهذا الكلام على تعقيده وقٌبْح التعبير به لما فيه من الألفاظ المشتركة الخالية عن قرينة التمييز ولما فيه من حَشْو كلماتٍ لا حاجةَ

إليها فهو مع خُلُوِّه عما يُحتاج إليه في البيان واشتماله على ما لا يُحتاج إليه خالٍ عن الفائدة وذلك يظهر بتفسيره وذلك أنه يقول الوجوب على الفقير لازم من لوازم لزوم الشيء الذي يستلزم الوجوب أي من لوازم كونه لازمًا في نفس الأمر وثابتا ولا شك أن الوجوب على الفقير إذا كان من لوازم شيء هو لازمٌ في نفس المر كان لازمًا وذلك أن المستلزمَ للوجوب لا يفارق شرط ما يكون لازمًا به بل هو لازمٌ له وشرط اللزوم ما يُناقض العدمَ فيهما والذي يناقضه هو الوجوب فيهما ومعلومٌ أن المستلزم للوجوب على الفقير لازمٌ للوجوب عليهما فيكون لازمًا في نفس الأمر وذلك أنه إما أن يكون عدم اللزوم في نفس الأمر شاملاً لهما أي للمستلزم للوجوب ولما يناقض العدم أو لا يكون شاملاً وإن كان شاملاً فظاهرٌ لأنه قد ثبت أنه لا يفارقه وإن لم يكن العدم شاملاً لهما فظاهرٌ أيضًا لأن من الأمور اللازمة في نفس الأمر ما يكون مستلزمًا للوجوب على تقدير عدم شمول العدم وإذا كان من الأمور اللازمة ما يكون مستلزمًا للوجوب على هذا التقدير ثبتَ لزوم المستلزم وذلك لأنه لو لم يكن من اللوازم ما يكون مستلزمًا له على تقدير عدم الشمول لكان شمولُ العدم من لوازم اللزوم في الجملة وهو محال وذلك لأنه إذا فُرِض عدمُ شمولِ الهدم فلابدَّ أن يتحقَّق وجودُهما أو وجودُ أحدهما أعني وجود المستلزم للوجوب أو وجود الشرط في اللزوم وهو ما يناقض العدمَ فيهما إذْ لولا وجودهما أو وجودُ

أحدهما لشمِلَهما العدمُ ومتَى وُجِدوا أو أحدُهما لزمَ ما يستلزم الوجوب ولو لم يلزم ما يستلزم الوجوب لعُدِم ما يستلزم الوجوب وعُدِم ما يناقض العدم أيضًا فإنه لا يفارقه وإذا عُدِما كان شمولُ العدم لهما من لوازم لزوم ما يناقض العدم وهو محال فإن ما عدمهما لا يلزم ما يناقض عدمهما وهذا تفسير كلامه وترجمته أن يقول الوجوب على الفقير من لوازم لزوم المستلزم للوجوب فإنه لا يفارق الوجوب فيهما فيعود حاصلُه إلى أن يقول الوجوب على الفقير من لوازم الوجوب عليه وعلى المدين أو من لوازم ما يناقض عدمَ الوجوب فيهما ثم قرّر هذا التلازم بأن قال العدم للمستلزم والوجوب إن كان شاملاً فقد ثبت أنه لا يفارقُه وإن لم يكن شاملاً فقد ثبت إمّا المستلزم أو الوجوب وأيهما حصلَ ثبتَ المدَّعَى وإفسادُ هذا الكلام له وجوهٌ لكن نُنبِّه على نكتة التغليظ فنقول قوله المستلزم لا يفارق الشرط في اللزوم وهو ما يناقض العدَم فيهما يعني به ما يُناقِض العدم في كلِّ منهما أو ما يُناقِض العدمَ في مجموعهما والذي يناقضه في مجموعهما الوجوبُ فيهما أو في أحدهما فإن قال أريد به ما يناقض العدم في كل منهما كان معنى كلامه أن الشرط في لزوم المستلزم للوجوب على الفقير الوجوبُ على المدين والوجوب على الفقير فيقال له نحن نسلِّم أن الوجوب عليهما شرط للزوم المستلزم

للوجوب على الفقير لكن لِمَ قلتَ إن هذا الشرط متحققٌ ولازمٌ في نفس الأمر حتى يكون لازمُه متحققًا فإن التلازم لا يقتضي وجودَ اللازم ولا وجودَ الملزوم فتسليم اللازم لا يُفيد إن لم يثبت تحققُ الملزوم وقوله بعد ذلك إن كان العدم شاملاً فظاهرٌ قلنا لا نُسلِّم أنه ظاهر وذلك لأن شمول العدم معناه أنه عدم المستلزم للوجوب على الفقير وعدم الوجوب على الفقير والمدين الذي هو مناقض عدم الوجوب ومعلومٌ أن هذين إذا عُدِما لم يُفِدْ ذلك تحقُّقَ الملزوم أكثر ما يفيد تلازمهما ونحن قد سلمناه وقوله وإن لم يكن العدم شاملاً لهما فكذلك هو ظاهر قلنا لا نُسلِّم أنه ظاهر لأنّ العدم إذا لم يشملهما جاز وجود أحدهما فإن كان الموجودُ وإن قال أراد به ما يناقض العدم في مجموعهما كان معناه أن المستلزم للوجوب على الفقير لا يفارق الوجوب عليهما أو على أحدهما بل لابدَّ أن يكون لازمًا للوجوب على أحد التقديرات الثلاث فيقال له هذا عينُ محلِّ النزاع فلا نُسلِّم أن المستلزم للوجوب على الفقير لازم للوجوب على المدين فإن هذا أول الدليل فإن أثبته بهذا الدليل كان دورًا وإن ذكر دليلاً آخر كان ذلك كافيًا في تحقيق التلازم وما سواه ضياعًا وحشوًا

وقوله في تقدير ذلك إن شملَهما العدمُ فظاهرٌ قلنا لا نُسلِّم لأنه إذا عدم المستلزم للوجوب على الفقير والوجوب عليهما وعلى أحدهما لم يدلَّ ذلك على لزوم أحدهما للآخر لأن الأشياء التي لا تلازمَ بينهما لأن الأشياء المتضادة المتنافية قد تشترك في عدم جميعها فبتقدير عَدَمِها لا يثبتُ تلازمها وإن قال فظاهر أردتُ به ثبوتَ المدَّعَى وهو عدم الوجوب على المدين قيل أنتَ في تقرير التلازم وبيان أن الوجوب على المدين يستلزم الوجوب على الفقير فإذا أثبتَّ عدمَ الوجوب على المدين لم يثبت التلازمُ لأن صحةَ المدعَى لا يستلزم صحةَ الدليل المعيَّن لجواز أن يكون القول حقًّا وما يُستدَلُّ به باطل لثبوته بدليل آخر فلابدَّ لك من تصحيح الدليل الذي زعمتَ أنه يُفيد ثبوتَ المدعى وإلاّ فنحن قد نُسَلِّم لك الحكمَ ونُنازِعُك في الدليل وقوله إن لم يكن العدم شاملاً فظاهرٌ أيضًا قلنا ليس كذلك لأنه إذا لم يشملهما العدمُ فلابدَّ من ثبوت أحدهما فإن كان الثابت هو الوجوب على المدين خاصةً الذي يناقض عدم مجموع الوجوبين لم نُسلِّم أن ذلك موجب للوجوب على الفقير إذ هذا أول الدليل وقوله لأن من اللوازم ما يكون مستلزمًا له على تقدير عدم الشمول

قلنا لا نُسلِّم قوله وإلاّ لكان الشمولُ من لوازم اللزوم في الجملة قلنا لا نُسلِّم أيضًا فإن شمولَ العدمِ إنما يكون من لوازم اللزوم إذا كان المراد باللزوم لزوم ما يناقض عدم كلّ منهما وهو الوجوب فيهما فإنه على هذا التفسير يثبت المستلزم للوجوب على الفقير لأنه إما أن يكون موجودًا وأيّهما كان فقد لزم المستلزم للوجوب على الفقير فلا يكون عدم الشمول لازمًا لهذا اللزوم أما إذا كان المراد باللزوم لزوم ما يناقض عدمَ مجموعهما وهو مطلق الوجوب سواء جعل فيهما أو في أحدهما الذي نتكلم نحن على تقديره فإن العدم إذا لم يكن شاملاً له وللمستلزم فلابدَّ من وجود أحدهما فيجوز أن يكون هو الموجود وإذا كان الموجود مطلقَ الوجوب ولو على المدين كان التقدير أنّ مطلق الوجوب ولو على المدين مستلزمٌُ للوجوب على الفقير وهذا أول الدليل وهو عينُ المقدمة الممنوعة في الدليل فيقال لا نسلِّم ذلك ومعلومٌ أنه إذا لم يلزم ذلك لا يكون شمول العدم من لوازم لزوم المستلزم للوجوب لأن ذلك أيضًا هو نفس هذه المقدمة فلا يلزم من عدم الشيء وجودُه فقد تبيَّن أن مدارَ النكتة على الدعوى المحضة وجَعْلِ المطلوبِ مقدمةً في إثباتِ نفسِه وهو من المصادرات القبيحة المردودة بإجماع

العقلاء ومن ذلك قول بعضهم الوجوب على الفقير على ذلك التقدير من لوازم المساواة بينهما في اللزوم وأنه أخصُّ بالنسبة إلى الوجوب عليه أي على الفقير فلا يكون مَدارًا له وجودًا وعدمًا وحينئذٍ يلزم الوجوب عليه إذ الوجوب لازم على تقدير تحقق المساواة بالضرورة فلو لم يكن لازمًا على تقدير العدم في الجملة لكان المساواة مدارًا له وجودًا وعدمًا والتقدير بخلافه وحاصله أنه يقول الوجوب على الفقير من لوازم تساويهما في اللزوم فإنهما لو تساويا في اللزوم للزمَ الوجوب وهذا التساوي أخصُّ من الوجوب على الفقير فلا يكون مدارًا له وجودًا وعدمًا لأن المدار هو ما يُجد الدائرُ بوجودِه ويُعدَم بعَدَمِه فالأخصُّ قد يُعدَم ولا يُعدَمُ الأعمُّ فلا يكون مدارًا له عدمًا وإذا لم يكن مدارًا له في الحالين لَزِمَ تحقُّقُ الوجوب في صورةِ وجود التساوي ضرورة تساويهما في اللزوم وفي صورة عدمه إذ لو لم يتحقق الوجوبُ لعُدِمَ عند عدمِ التساوي فكان مدارًا له والتقدير خلافه وهذا الكلام أيضًا من أبطل الباطل وجوابُه أن يقال قولك إنّ لزوم المساواة أخصُّ من الوجوب على الفقير ممنوعٌ وذلك لأن المساواة بينهما في اللزوم إذا وُجدتْ وُجِدَ الوجوبُ على الفقير لأنه إذا عُدِمَت المساواةُ بينهما في اللزوم ثبتَ عدمُ المساواة وإذا ثبتَ عدمُ المساواة في اللزوم والتقديرُ تقدير الوجوب على المدين ثبتَ بالضرورة عدمُ الوجوب على الفقير وإلاّ لاستويا في اللزوم

فعُلِمَ أن المساواة مدارٌ للوجوب على ذلك التقدير وجودًا وعدمًا لمطابقتهما له في العموم والخصوص نعَمْ المساواةُ بينهما في اللزوم على الإطلاق أخصُّ من الوجوب على الفقير لأن الوجوب على الفقير يُوجَد مع وجود المساواة ويجوز وجودُه مع عدم المساواة في اللزوم بتقديرِ أن يجبَ على الفقير دون المدين فإنه من التقديرات العقلية في الجملة كما يجوز وجود الوجوب على المدين مع عدم المساواة وعلى هذه الأغلوطةِ بَنى المموِّهُ كلامَه وجوابُه من وجهين أحدهما أنّا إنما نتكلم على تقدير الوجوب على المدين كما تقدم وعلى هذا التقدير فليست المساواة في اللزوم بأخصِّ من الوجوب على الفقير كما تقدم الثاني أنّا لا نُسلِّم أنها أخصُّ مطلقًا فإن المساواة إذا وُجِدتْ وُجِدَ الوجوبُ وإذا عُدِمتْ عُدِمَ الوجوب على الفقير أيضًا لأنها إذا عُدِمَتْ امتَنع رجحانُ الفقير على المدين لأنه خلافُ الإجماع فيتعيَّنُ رجحانُ المدين على الفقير وإذا ثبتَ رجحانُه عليه مع عدم تساويهما في اللزوم لزمَ بالضرورةِ عدمُ الوجوبِ على الفقير لأنهما إذا لم يتساويا في اللزوم فإمّا أن يتساويَا في عدمِه أو يلزم أحدهما فيكون هو الوجوب على المدين خاصَّةً لأنّ الآخر خلاف الإجماع ومَتى عُدِمَ اللزوم فيهما أو في الفقير فقد لزم عَدَمُ الوجوب على الفقير عند عدم المساواة في اللزوم فلا تكون المساواة أخصَّ من الوجوب على الفقير لأنّ الأخصَّ عبارةٌ عما قد يُعدَمُ مع وجودِ الأعمِّ وهنا حيثُ

عُدِمت المساواة في اللزوم عُدِمَ الوجوبُ على الفقير واعلم أنّي إنّما نبَّهتُ على فسادِ هذه النكت لأنّها مما اعتمدَ عليه بعضُ هؤلاءِ المموِّهين المغالطين من الجدليين فإنه بها وبأمثالِها من الكلام الذي لا حاصلَ له يَزعمون أنهم يُثبِتُون ما شاءوا من الدعاوِي وهو كما تراه فإن هذه النظوم الثلاثة يمكن أن يقال في أيّ تلازمٍ ادَّعاهُ المدَّعى أمّا إذا ادَّعى لزوم وجوب ونحوه من الأحكام الثبوتية فظاهر وأما إن ادَّعَى لزومَ عدمٍ أمكنَه تغييرُ العبارة ولولا أنه ليس هذا موضعَ الاستقصاءِ في إفسادِ خصائصِ النكت المموِّهة وإنما الكلام في عمومِ هذه الصناعة التمويهية لوَسَّعْنا القولَ في ذلك والضابطُ في ذلك تحريرُ كلام اللَّبْسِ وإخراجُ اللفظ المشترك عن الاشتراك إلى الإفراد والتعبيرُ عنه بعبارةٍ ليس فيها اشتراكٌ ولا حَشْوٌ وحينئذٍ يتبيَّنُ موضعُ المنع الذي لا يمكنه الجوابُ عنه إلاّ بالرجوع إلى الأدلة العلمية وهو في كلّ مادةٍ بحسب ما يليق بها أمّا دليلٌ عامٌّ يثبتُ به كلّ تلازمٍ فقد عَلِمَ كلُّ عاقلٍ بالاضطرار أنّ هذا باطلٌ وهو مع بُطلانِه عن الفائدةِ عاطلٌ وهو مع خُلوِّه عن الفائدة متعارضٌ متقابلٌ فإنّ عامَّة هذه الأدلة العامَّة التي يُثبِتونَ بها التلازمَ يُمكِن الاعتراضُ بها بعينها على بطلان التلازم بأن يُجعَل نقيضُ اللازم لازمًا لغير الملزوم أو عينُ اللازم لازمًا لنقيضِ الملزوم وهو قلبٌ للدليل أو لازمُ اللازمِ لازمًا للازِم نقيضِ الملزوم أو

الملزومُ ملزومًا لملزومِ نقيضِ اللازم أو ملزومُ اللازم ملزومًا لنقيض الملزوم أو لازمُ الملزوم لازمًا لنقيضِ اللازم إلى غير ذلك من التراكيب التي تُناقِضُ صحةَ التلازم ولولا الإطالةُ لذكرنا من ذلك شيئًا كثيرًا وأمّا الدليل الخاصّ العلمي فهو أن يقول مثلاً مالُ المدين مشغولٌ بإعدادِه لقضاءِ الدَّين وقضاءُ الدين من الحوائج الأصلية بمنزلةِ احتياجه إلى الطعام والكسوة ولذلك لم يَجِبْ عليه الحجُّ ولم يجب عليه نفقةُ الأقارب وجازَ له أخذُ الزكاة لقضاءِ دَينه كيف وكثيرٌ من العلماء يُقدِّمون دينَه على حاجتِه إلى الطعام والكسوة في المستقبل حتى يُجرِّدونَه من ماله إلاّ ثيابَ البِذْلة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مّا أُحِبُّ أنَّ عندي مثلَ أٌحدٍ ذَهَبًا يَمضي عليَّ ثالثةٌ وعندي منه درهمٌ إلاّ درهمًا أَرصُدُه لقضاءِ دَيْن وقال نَفْسُ المؤمنِ مُعلَّقةٌ بدَينِه حَتَّى يُقضَى فإذا كانت الحاجةُ إلى قضاءِ الدَّين أَوْكَدَ من الحاجةِ إلى كثير من ثيابِ البِذْلة وعَبِيْدِ الخدمة ثم ثبتَ أن الزكاة لا تجب فيما هو مُعَدٌّ لطعامِه وكسوتِه وخدمتِه ومسكنِه فما هو مُعَدٌّ لقضاءِ دَيْنِه أولَى وتحريرُ هذا الكلام في كتب الفقه

وعلى المعترضِ حينئذٍ أن يَقدحَ في الملازمة ويُبيِّنَ أنَّ وجوبَها على الدينِ ليسَ بمستلزمٍ وجوبَها على الفقير إمَّا بذكرِ الفوارق وإمّا بتفريقِ النصوص فيقول مثلاً الفقيرُ ليسَ بيده مالٌ زكوَيٌّ لأنه إن لم يكن مالكًا لمالٍ فمُحالٌ إيجابُ الزكاةِ في غيرِ مالٍ وإن كان مالكًا لعقارٍ أو عَبِيدٍ أو خَيلٍ أو بِغالٍ أو حَميرٍ فهذا جنسٌ غيرُ زكويّ ولهذا لا يجبُ فيه الزكاةُ وإن كان فيه فضلٌ عن الحوائج الأصلية لأن الزكاة إنما تَجِبُ في الأموالِ النَّامية بنفسِها أو بتصريفِها والعقارُ وذواتُ الحافر ليستْ كذلك فلم يَصِحَّ تعليلُ امتناعِ الزكاةِ فيها بحاجةِ المالك وإن كان مالكًا لمالٍ زكَوِيّ وجبتِ الزكاة وأما المدين فهو مالكٌ لمالٍ زكَويّ فقد انعقدَ سببُ الوجوبِ في حقِّه والمستدلُّ يَدَّعي أنَّ الدَّينَ مانعٌ من تمامِ السبب أو مانعٌ من حُكمِ السبب فعليه بيانُ ذلك فيقول المستدلُّ إنّ الله تعالى أوجَب الزكاة على الأغنياء بقوله صلى الله عليه وسلم أُمِرْتُ أن آخُذَ الصدقةَ من أغنيائِكم فأَرُدَّها في فقرائِكم فكلُّ من وَجَبتْ عليه الزكاةُ فهو غَنِيٌّ الغِنَى الموُجِبَ للزكاةِ ومَن لا تجبُ عليه فليس بغَنِيٍّ الغِنَى الموجِبَ لها ومالكُ العَقارِ وذواتِ الحافرِ وعَبِيدِ الخدمة وثيابِ البِذْلة ليس بغنىٍّ عن ذلك لأنه يحتاج إلى العقار إمّا لِسُكْناه أو لِكِرائِه ويحتاج إلى ذواتِ الحافرِ إمّا لِرُكُوبها أو لِكِرائِها وكذلك العبيد فلو وَجَبت الزكاةُ في ذلك لاخْتَلَّت مصلحتُه

والزكاةُ لا تَجِبُ على وجهٍ يَضُرُّ بالمالك نَعَمْ إن مَلَكَ مِن أَكْرِيَتِها أو نَمائِها مَا تَجِبُ فيه الزكاةُ وَجَبَتْ بشُروطِها إمَّا عندَ تَجدُّدِ المِلكِ كقولِ ابن عباس أو عندَ انقضاءِ الحَوْلِ كقولِ عامَّةِ العلماء بخلافِ السائمةِ فإنَّ لها نَسْلاً يَسُدُّ مَسَدَّ ما يُخْرَجُ منها وكذلك عُرُوضُ التجارة وكذلك النَقْدان هما في الأصل خُلِقَا للتجارة فهما قابلانِ للنَّماءِ فكَنْزُهما صَرْفٌ لهما عن الحكمة التي خُلِقَا لها فلا يَبْطُل حقُّ الله تعالى ويَتفاضَلان في هذا الكلامِ وغيرِه حتى يَظْهرَ حُجَّةُ أحدِهما إمّا بشهادةِ النصوص أو الأصول لرجحانِ اعتبارِه أو لاعتضادِه بأقوالِ الصحابة وهو خطبة عثمان المشهورة وغير ذلك وهما جاريانِ في الاستدلالِ سُؤالاً وجوابًا على شروطِ الجدلِ المستقيم المبني على أصولِ الفقه الصحيحة فأمَّا بعد تسليم التلازمُ فإنه يلزم من الوجوب على المدينِ الوجوبُ على الفقير واللازمُ منتفٍ فيَنتفِي الملزومُ وهو المدَّعَى كما قال لأنَّ عدمَ الملزوم من لوازِم عدمِ اللازم بمعنى أنه إذا عُدِمَ اللازمُ لَزِمَ عَدَمُ أشياءَ منها عَدَمُ الملزوم كما مَرَّ تقريرُه وعَدَمُ اللازمِ متحققٌ وهو عَدَمُ الوجوبِ على الفقير وهذا المعدومُ ملزوم لعدم اللازم

الأول وهو الوجوب على الفقير فإذا تحقق العدم الملزوم تحقَّق العدمُ اللازم فهذا التلازم الثاني جارٍ في كل ملازم وهو نوعُ تطويلٍ وتكريرٍ لأنه قد تقدم أنّ وجود اللازم وعدمَ اللازم إذا تحقَّق تحقَّق عدمُ الملزوم فوجودُ هذا ملزومٌ لوجودِ الآخر وعدمُ الآخر ملزومٌ لعدمِ هذا وعلى ما ذكرناه لا يُقبَل بعدَ تسليم التلازم سؤالٌ يقدحُ في التلازم لكنْ هؤلاء المجادلون لا يثبتون التلازم بما ينشأ من تقدير الوجوب على المدين وهو قيامُ مُقتضِي الوجوب أو عدم مانعٍ من الوجوب على هذا التقدير فإنّ ذلك إذا صحَّ كان كلامًا علميًّا وانقطعَ بابُ المراوغة الذي فَتَحوه وإنما يُثبِتون الوجوبَ على الفقير على هذا التقدير بأدلةٍ لا تأثيرَ لهذا التقدير فيها وهو النصوص العامَّة أو الأقيسة العامَّة أو غيرهما من الدورانات والتقسيمات والملازمات العامَّة وقد قال البصير بالجدل كلُّ تقديرٍ لا ينشأ منه قيامُ مقتضٍ ولا نفيُ معارضٍ فإنه غير مفيد كمن يقول لو طلعت الشمسُ لكانت السماءُ فوقَنا والأرضُ تحتَنا أو يقول إن كانت الشمسُ طالعةً فالعباداتُ غير واجبة بالباقي ويسلك هذه الطريقة فإذا استدلَّ على التلازم بدليلٍ لا يختص بذلك التقدير المفروض فالوجهُ أن يُبَيَّنَ بطلان دلالتِه حتى تنتفي الملازمة ويُعارَضَ بمثلِه من الكلام حتى ينقطع المستدلّ ويتبين عجزه عن إتمام هذا التلازم الفاسد أما الممانعة فلم يذكر دليلاً يدلُّ على التلازم حتى يتكلم على عينه لم يبق إلا المعارضة التي سَلكَها

لكن يُقال لا نُسلِّم انتفاءَ ثبوتِ النصِّ أو القياس أو غيرِهما من الدلائل للوجوب لأنها لو اقتضتِ الوجوبَ والوجوبُ منتفٍ لَزِمَ تركُ العملِ بالمقتضي وهو خلافُ الأصل أو لو اقتضتِ الوجوبَ على الفقير والمانعُ متحققٌ بالأصل لَزِمَ التعارضُ وهو خلافُ الأصل وإذا تُرِكَ العملُ بالمقتضي للوجوب على ذلك التقديرِ لم يكن تركًا للعمل به في نفس الأمر لأن أحد الأمرين لازم وهو إمّا عدمُ المقتضي في نفس الأمر أو وجودُ مدلولِه لأن الحال لا يخلو عن وجودِه أو عدمِه وهذا مثل ما ردَّ به المستدلّ كلام المعترض فإنه يقال هنا فيبطل كلام المستدلّ قبل أن يَصِلَ إلى إبطالِ أسوِلةِ المعترض ويمكن معارضة المستدلّ بما ينفي التلازم على وجوهٍ كثيرة مثل أن يقال لو وجبت الزكاةُ على المدين لما وجَبَتْ على الفقير بالنصّ أو بالقياس أو بغيرهما من الدلائل أما النصّ فقوله صلى الله عليه وسلم لا صدقةَ إلاّ عن ظهر غنًى أما القياس فلأنه لو وجبتْ للزم إضافة الوجوب إلى المشترك ولا تجوز إضافته إلى المشترك لما فيه من إلغاء المناسبة التي اختص بها المدين وهو مِلْكُ نصابٍ زكويّ حولاً تامًّا فإنه مقتضٍ لوجوب بدليل المناسبة والاقتران أو يقال لو وجبت الزكاةُ على الفقير على ذلك التقدير للزمَ تَرْكُ العمل بالنصوص المستعملة في نفس الأمر والأقيسة الموجبة للتفريق بينهما وهو اختصاص صورةِ المدين بما يقتضي الوجوب أو اختصاص صورة الفقير بما يُجب العدمَ

أو يقال لو وجبت الزكاة على الفقير على ذلك التقدير فإما أن يكون العدمُ لازمًا للوجوب في الجملة إلى آخرِ ما ذكرناه في النكت الثلاث ومثل أن يقول لو لم تجب الزكاة على المدين لوجبت على الفقير يقرره بنفس ما ذكره المستدلُّ من النصّ والقياس وغيرهما أو يقول لو لم تجب الزكاة لوجبت على المدين بعين ما نذكره في الدلالة على الوجوب على الفقير أو يقول لو وجبت على الفقير لما وجبت على المدين بالنصّ المانع من الوجوب وبالقياس وبغيرهما من الدلائل وقد انتفى اللازم وهو الوجوب على الفقير فينتفي ملزومُه وهو عدم الوجوب على المدين فيثبت الوجوب على المدين إلى غير ذلك من التلازمات المناقضة للزوم المدعى وتقريرها بمادة كلام المستدلّ وهو مُفسِدٌ لكلامِه من وجهين أحدهما أنه يُنتج النقيضين فيُعلم أنه باطل الثاني أنه إما أن يكون صحيحًا أو باطلاً فإنه إن كان صحيحًا لزمَ ثبوتُ المناقض لتلازمه فيبطل تلازمُه وإن كان باطلاً بَطَلَ الدليلُ على تلازمِه فتبقى دعوى محضة فينقطع واعلم أصلحك الله أن إبطالَ هذا التلازم الذي قد استُدِلَّ عليه بالجدل المموّه له مقامات أحدها منعُ مقدمات دليلِ التلازم إمَّا منعًا مدلولاً عليه أو غيرَ

مدلولٍ عليه وجميع النكت العامة لابدَّ فيها من منعٍ صحيح فعليك بتأمّل موضع المنع فمتى منعَ منعًا صحيحًا تعذَّر عليه جوابُ المنع إلاّ بكلام علمي وليس في عامة هذه النكت أدلةٌ علميةٌ لكونها باطلةً في نفسها وإن كان التلازم نفسُه قد يكون صحيحًا ومتَى عجزَ عن تمشيةِ ما أثبتَ به التلازم ظهرَ فسادُ كلامِه وبُطلانُ مَرامِه ووَضَحَ أن الذي قالَه من نوع الهذيان والمُنُوع قد تتعدَّدُ وقد تتحد وقد يتوجهُ المنعُ على مقدمةٍ على أحدِ التقديرين وعلى الأخرى على التقدير الآخر الثاني المعارضة ببيان أن تلك الأدلةَ تدلُّ على نقيض المدعى حسب دلالتها على المدعى وذلك لقلب التلازم والاستدلال بها عليه كما تقدم وهنا يمكن المعارضةُ بملازماتٍ كثيرة الثالث المعارضة بما ينفي التلازم أو بما يناقضه من جنس النكت التي استدل به على ثبوته والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن تلك معارضةٌ بعين النكتة وهنا معارضةٌ بجنسها الرابع المعارضة بدليلٍ صحيح يدلُّ على عدم التلازم وهو دليلٌ مستقلٌّ في نفسه وفي كلّ مقامٍ من هذه المقامات قد تتوجَّهُ أسوِلةُ كثيرة لا تنضبط إلاّ بحسب الموادّ ومع هذا فالمعترض في مقام منع مقدمة التلازم والمعارضة فيها فإذا انتقل إلى المعارضة في نفس الحكم المتنازَع فيه بما يدلُّ على نفيه فله حينئذٍ أن يذكر من جنس أدلة المستدلّ ومن غير جنسها ما شاءَ فالأول إبطالٌ للدليل وهذا إبطالٌ لحكم

الدليل ومت عرفتَ هذا تبيَّنَ لك فسادُ جميع هذا الباب وأمكنكَ إبطالُ نكتِ هؤلاء المتلبسينَ بأدنى شيء وعلمتَ أن العاقلَ لا يَرضاهَا البتَّةَ ولا يستحسنُ ولا يستحلُّ الكلام بمثلها وقد فتَح المصنِّف بابَ الأسوِلةِ على طريقتِه وأخذ يجيب عنها ونحن نذكرُ كلامَه ووجهَ التغليطِ في ذلك قال صاحب الجدل ولئن قال يعني السائل لا تجبُ الزكاة على الفقير بالمانع على تقدير الوجوب على المديون فنقول لا نسلِّم بأن المانعَ متحققٌ على ما ذكرنا من التقدير ولئن قال المانع المستمرّ واقعٌ في الواقع وإلاّ لوجبت الزكاة على الفقير في الواقع بالمقتضي السالم عن المعارض وهو المانع المستمرّ ولم تجبْ فيوجد المانع فنقول ما ذكرتم من الدليل وإن دلَّ على وجود المانع على ما ذكر من التقدير إلاّ أن عندنا ما ينفيه فإن

المانع إذا كان متحققًا على ذلك التقدير والمقتضِي متحقق فيقع التعارض بينهما والتعارض على خلاف الأصل لاستلزامِه التركَ بأحدِ الدليلين وهو إما المقتضي أو المانع وما تُرِك على ذلك التقدير فذلك غير متروكٍ في نفس الأمر لأنّ أحد الأمرين لازم وهو إمّا عدمُ ذلك الدليل أو وجود مدلوله لقيام الدليل على أحدهما فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمه قلت اعلم أن هذا الكلام أولاً خروجٌ عن كلام العرب الفصيح فإن حرف الشرط إذا وُكِّدَ باللام كانت هذه اللامُ اللامَ الموطِّئةَ للقسم ويصير الكلامُ يطلبُ شيئين جوابَ الشرط وجوابَ القسم فيأتون بجواب القسم وهو يَسُدُّ مَسَدَّ جواب الشرط كقوله وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ [الإسراء 86] وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ [العنكبوت 10] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ إلى قوله لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب 60] والمصنِّف كثيرًا في كلامه ما يقول ولئن قال فحقُّه أن يقول لَنقولنَّ كذا تقديره واللهِ إن قالوا لنقولنَّ فهو يأتي بالفاءِ وليس موضع فاء ويذكر الفعل المضارع خاليًا عن نون التوكيد وذلك يدلُّ على نفي الفعل لا على إثبات كقوله قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف 85] فيكون المعنى ولئن قال كذا لا نقول له كذا كأنه اعتقد أن هذا موضع جوابِ الشرط وأنه يَسُدُّ مَسَدَّ جواب القسم

وقد ذكر بعضُ الناسِ لغة أنّ جوابَ الشرط يَسُدُّ مَسَدَّ جوابِ القسم واستشهدَ عليه بما لا شهادة له واعلم أن هذا الكلام من باب منع مقدمة الدليل وهو التلازم ومعارضة الدليل الدال عليها كأنه سِلَّم له دلالة الدليل على التلازم الذي هو مقدمة الدليل ثم عارضه بما يدلُّ على انتفاء التلازم حتى يحتاج المستدل إلى ترجيح دليلِ ثبوتِ التلازم على دليلِ عدَمِه فقال السائل ما ذكرتَه من الدليل وإن دلًَّ على وجوبِ الزكاة على الفقير إن وجبتْ على المدين فإنَّ معي ما يدلُّ على أنها لا تجب على الفقير وإن وجبت على المدين وهي الأدلة النافية لوجوبها على الفقير كقوله صلى الله عليه وسلم ليسَ فيما دونَ خمسة أَوْسُقٍ صدقةٌ - وأُمِرْتُ أن آخذَ الصدقة من أغنيائِكم فأردَّها في فقرائِكم - وليسَ على المسلم في عبدِه ولا فرسِه صدقةٌ – ولا صَدَقةَ إلاّ عن ظهر غِنًى وإذا كانت هذه الأدلة تَنفِي الوجوب على الفقير فقد عارضت ما يدلُّ على وجوبها على الفقير بتقدير وجوبها على الغنىّ المدين وتسميةُ هذا الدليل نافيًا أحسن من تسميته مانعًا لأن المنع يقتضي قيامَ المقتضي ولا مقتضِيَ لوجوبها على الفقير إلاّ أن بعض

الناس يقول المانعُ قد يكون مانعًا للسبب وقد يكون مانعًا للحكم فربَّما يجعلون الفقر مانعًا للسبب وهو المال وليس بجيّدٍ أيضًا من جهة أن عدمَ المال لا يحتاجُ إلى مانعٍ من وجودِه بل يكفي في عدمِه عدمُ سببِ وجودِه فعدمُ المال يُضافُ إلى هدمِ سببِ وجودِه لا إلى وجودِ مانعِ وجودِه وإن فُرِضَ صورةٌ قد انعقدَ فيها سببُ الملكِ فمَنَعَ من الملكِ الذي هو سببُ الزكاةِ مانعٌ هناك يَصحُّ أن يقال قامَ المانعُ لسببِ الزكاة لكن امتناع وجوب الزكاة على الفقير أعمُّ من هذه الصورة ثمّ الذي يدلُّ على عدمِ الزكاةِ عليه النصوصُ والإجماع وهذه الأدلة لا تكادُ نُسمَّى إلاَّ نَوافِيَ لوجوب الزكاة وبالجملة فهذه مشاحة لفظية وهذا الكلام من المعترض إذا لم يثبت التلازم بطريق مفصل كلام صحيح وذلك أنه لا يقول لا يخلو إمّا أن يكون المقتضي لوجوبها على الفقير تقدير الوجوب على المدين واقعًا أو غير واقع فإن لم يكن واقِعًا انتفى الوجوب وإن كان واقعًا والنافي للوجوب أيضًا واقعٌ لزِمَ التعارضُ بين المقتضِي والمانع وهو خلاف الأصل فإن قال المانعُ ليس بمتحقق على هذا التقدير قيل له والمقتضي ليس بمتحقق على هذا التقدير فإن ما لزم من أحدِهما لزمَ من الأخر فليس نَفْيُ تحقُّق أحدِهما حذَرًا من المعارضةِ بينه وبين الآخر أولَى من العكس وهذا الكلام يمكن تقريرُه من وجوهٍ كثيرة قال المستدل هذه الأدلة تَنفي الوجوب على الإطلاق وهذا مسلَّم ولكن لِمَ قلت إنها تنفيه بتقدير وجوبها على المدين ثم تارةً

يُمكِنُه منعُ وجودِ ما يَنفِي الحكم مطلقًا على ذلك التقدير وهذا يتوجَّه إذا ادعى السائل مانعًا من قياسٍ أو تلازمٍ ونحو ذلك تارةً يقول لا أسلِّم دلالتَه مثل أن يكون النافي للوجوب نصًّا ونحوه فلا يمكن منعُ وجودِ النصّ لكن مَنْعُ دلالتِه على الوجوب إما بمنعِ كونه مرادًا من النصّ أو بمنع كون اللفظ مفيدًا له في الجملة أو نحو ذلك من دلالات الألفاظ وإنما توجَّه مَنْعُ النافي على ذلك التقدير لأن تقدير وجوبها على المدين جاز أن يكون واقعًا في الواقع وجاز أن لا يكونَ واقعًا والدالُّ على الحكم دالٌّ على ثبوته على كل تقدير لا ينافيه أما على كل تقديرٍ سواءٌ كان واقعًا أو غيرَ واقعٍ وسواءٌ كان جائزًا أو ممتنعًا فليس بصحيح لأنه ما من دليل على الحكم إلاّ ويمكن أن يُفرَضَ معه وجودُ ما ينفيه ثم يقال هذا الدليل دالٌّ على كلّ تقدير وهذا من جملة التقديرات وذلك التقدير يمنع وجودَ الحكم فيلزم الجمعُ بين النقيضين وتعارضُ الأدلة اليقينية وذلك محالٌ وإنما لزم هذا حين فرضنا ثبوتَ الحكم على كلّ تقديرٍ عُلِمَ أنه واقعٌ أو لم يُعلَم أنه واقع فيكون هذا الفرض مُفضِيًا إلى محالٍ فيكون محالاً وأمثلةُ هذا الكلام المزّيف الذي لا يقوله عاقل كثيرة حتى يتمكنَ من تقوُّلِه مَن استباحَ القضايا المتناقضة من التراكيب الفاسدةِ مثل أن يقول الصلاة والزكاة والصيام والحج واجبةٌ بالأدلة الموجبة وهي مُوجبةٌ لها على كلّ تقدير ومن التقديرات عدمُ بعثة رسولٍ

وعدمُ نزول القرآن فيجب ثبوتُها على تقدير عدم الرسول أو يقول لا يجب شيءٌ من العبادات للأدلة الدالة على براءةِ الذمَّة وخُلوّها من الوجوب وهذا الدليل ثابت على كل تقدير فيجب العمل به أو يقول لا يجب القصاصُ على الجاني ولا الحدُّ على المجرم لأنّ القَودَ والحدَّ ضررٌ فيكون منتفيًا بالأدلة النافية للضرر فإنها ثابتة على كل تقدير وهذا أهونُ مما قبله لأنّ تقدير القتل العمد والإجرام ليس مقتضيًا بنفسه لثبوتِ العقوبة بخلاف اقتضاءِ الوجوبِ وجودَ الرسول وكون النافي للوجوب مشروطًا بعدم الموجب ومثل هذا أن يقال السموات والأرض لا تَفسُد أبدًا لأن المقتضِيَ لصلاحِها موجودٌ وذلك ثابتٌ على كلّ تقدير حتى على تقدير وجود آلهةٍ أخرى وكذلك كلُّ محالٍ فُرِضَ واستُدِلَّ بفرضه على استحالةٍ لازمة فإن امتناع الملزوم يُوجِب امتناعَ اللازم يَرِدُ عليه هذا السؤال الفاسد فيقال لا يستحيل اللازم على تقدير وجود الملزوم لأن المقتضيَ لصحة اللازم وجوازه قائم وذلك مقتضٍ له على كلّ تقدير وفرضُ وجودِ الملزوم أحد التقديرات

وهذا كلام لا يخفى على أحدٍ بطلانُه ووجهُ التغليط فيه أنه جعلَ الأدلة الموجبةَ أو النافية دالةً على تقدير فيقال له لا نُسلِّم دلالتَها على كل تقدير لكن على كل تقديرٍ واقع أو على كل تقدير لا ينفي الدليلَ الدالَّ أو لا ينفي مدلولَه أو الشيء الثابتَ أو يُقال المنتفي ثابتٌ أو منتفي على كل تقديرٍ لا يُنافي ثبوته أو انتفاءَه أو على كلّ تقديرٍ جائزٍ في نفس الأمر على ما سيأتي تحريرُ المغالطِ هنا في استصحاب الواقع ثم نقول أثبِتْ أن هذا التقدير واقعٌ أو جائزٌ في نفس الأمر أو أنه غير مُنافِي للمستصحب ولا يَقدِرُ أن يُثبِتَ دلالةَ الأدلةِ على كل تقديرٍ ولا على هذه التقديرات النافعة فهذا موضع المنع الذي ينقطع فيه المغالطُ بل يقدِر المستدلُّ أن يُثبِت أن الأدلةَ إنما تدلُّ على بعض التقديرات دون بعض من وجوه لا تُعدُّ ولا تُحصَى من نحو ما ذكرناه وإذا كانت إنما تدلُّ على بعض التقادير فلِمَ قلتَ إنّ تقديرَ وجود الملزوم من التقادير التي يدلُّ الدليل النافي للازم معها ولا تقدر على ذلك إلاّ بأن تُثبِت أن الأدلةَ تدلُّ مع جملة الأمور الواقعة في الواقع وإذا استدلَّ على وقوع الملزوم كما هو مذهبه كان غصبًا لمنصب الاستدلال وهو غير مقبول كما تقدم بل هو أردأ منه لأنه في مقام المعارضة لا في مقام الممانعة ولم يكن إتمام معارضته إلاّ بإبطال مذهب المستدلّ فكأنه قال إن صحَّ

مذهبك فَسَدَتْ معارضتي وإن فَسَدَ مذهبُك صَحَّتْ معارضتي فأنا أُبطِلُ مذهبَك لتصحيح معارضتي فيقول له المستدلّ لو أفسدتَ مذهبي لكنتَ غنيًّا عن المعارضة وإذا كانت المعارضة لا تتمُّ إلاّ بإبطالِ مذهبي وإبطالُ مذهبي لا يتم إلاّ بدليل وذلك الدليل معارضة مستقلة بنفسها كانَ ذِكْرُ المعارضةِ كلامًا ضائعًا لأنّ ما لا يدلُّ على الحكم إلاّ بمقدمةٍ تدلُّ على الحكم بنفسها لا يكون دليلاً على الحكم فتكون قد عارضتَ بغير دليل ولا شبهة وهذا من أقبح المعارضات ثمّ إنك جعلتَ الدليلَ على صحةِ المعارضةِ بطلانَ قولي وجعلتَ المعارضة دليلاً على بطلانِ قولي فجعلتَ كلَّ واحدٍ منهما دليلاً على الآخر والعلم بالمدلول يتوقف على العلم بالدليل فيكون العلم بكلٍّ منهما موقوفًا على العلم بالآخر فلا يَحصُل العلمُ بواحدٍ منهما ثُمَّ إنك جعلتَ مطلوبَك وهو إبطال مذهبي مقدمةً في الدلالة على بطلانِه وجَعْلُ المطلوبِ مقدمةً في الدليل هو المصادرةُ على المطلوب وهو من أفسد أنواع الشَّغَبِ والجدل الباطل لأنّ المصادرات هي المبادئ التي تَصْدُر في العلوم فتكون إمّا بديهيَّةً أو مسلَّمةً أو مدلولاً عليها في علمٍ آخر فإذا جعلتَ المطلوبَ مصدرًا في إثبات نفسِه وكُنتَ قد جعلتَ الدليلَ نفسَ المدلول والمعلومَ نفسَ المجهول والموجِبَ نفسَ المُوجَبِ وفي هذا ما فيه أو بأن يُثبِتَ أن تقدير الملزوم لا يُنافي قيام المانع للوجوب على

الفقير وهذا إذا بيَّنَه بطريقة كان كلامًا صحيحًا في الجملة وهو مقبول وإن قال تقدير الملزوم جائزٌ لوقوع الخلاف فيه والدليلُ دالٌّ على كلّ تقدير جائزٍ قيل لا نُسلِّم أنّ الدليل يدلُّ على كل تقديرٍ جائزٍ بل على كلِّ تقديرٍ لا يُنافِيه ولو سلَّمنا أنه يدلُّ على تقدير جائز لكن لا نُسلِّم أنه جائز لأن الجواز لفظٌ مشتركٌ وهذا عندنا غيرُ جائزٍ بأحدِ المعاني وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في هذا في الاستصحاب وهذا الذي ذكرناه قد تضمنَ بيان قولِ المستدلّ لا نُسلِّم أن المانعَ يتحقق على ما ذكرنا من التقدير وهو منعٌ صحيح وله أن يُوَجِّهه ولا اعتراضَ عليه إلاّ أن يُبيِّنَ أن نفس تلك الأدلة توجب الزكاة على ذلك التقدير وهذا لا سبيلَ إليه إلاّ ببيان تصريحها بذلك التقدير لعدم المنافاة بين عدمِ الوجوب على الفقير وبين الوجوب على المدين وهذا إذا فعله يكون قد دخلَ في فقه المسألةِ أو ببيان وقوع ذلك التقدير وذلك غير مقبول لكن كلام المستدلّ إنما يصحّ إذا كان قد بيَّن التلازمَ بطريقٍ صحيح وهو أن يبيّن أن الوجوب على المدين يُنافِيه قيامُ موجِبٍ لها على الفقير أو عدمُ مانعٍ من وجوبها على الفقير أمّا إذا استدلَّ على وجوبها على الفقير على ذلك التقدير بدليلٍ ليس بينَه وبين ذلك التقدير مناسبةٌ بل يدلُّ على الوجوب مطلقًا فهو كلامٌ فاسدٌ غير مقبولٍ كما قدمناه وحينئذٍ يكون كلام المعترض سديدًا فإنّ

له أن يُمانِعَه ويُعارضَ كلامَه بجنسِ كلامِه فإن النظم الواحد إذا تبيَّن أنه باطل قال السائل المانع المستمرّ واقعٌ في الواقع وإلاّ لوجبت الزكاةُ على الفقير في الواقع بالمقتضي السالم عن المعارض وهو المانع المستمرّ ولم تجبْ فيُوجَد المانع قلتُ اعلم أن المصنف قَبِلَ هذا السؤال وتفسيرُه أن قال المانعُ لوجوب الزكاةِ واقعٌ في الواقع فليس لك أن تمنع وقوعَه على تقديرٍ تَفرِضُه أنت لأنه إمّا أن يكون المانعُ واقعًا أو غيرَ واقع فإن كان واقعًا فهو المدعى وإن كان واقعًا كان مانعًا على تقدير وجوب الزكاة على المدين لأن وجوب الزكاة على المدين لا يرفع الأمورَ الواقعة وإن كان غيرَ واقعٍ فلا مانعَ من وجوب الزكاة على الفقير والمقتضي لوجوبها موجود وهو الأدلة الدالة على وجوبها أو الحِكَمُ المناسبة من وجوبها أو الأسباب المتضمنة لحكمة وجوبها فيجب العمل بالمقتضي لوجوبها السالم عمّا يُعارِضه وهو المانع المستمر في الواقع فتجب الزكاة على الفقير لو كان المانع غيرَ واقع لكن الزكاة غير واجبة عليه فالمانع واقعٌ في الواقع فهو واقع على ذلك التقدير فيكون موجودًا هذا تقرير هذا السؤال وقد قَبِلُه المصنَّف وأجاب عنه وهو مبني على استصحاب الواقع كما سيأتي بأن يقال كان فيستمر على

التقدير لأن هذا التقدير ممكن لأنه لا يخالف الإجماع وهذا السؤال إذا ثبت التلازم بطريقه الصحيح فإنه باطل من وجوهٍ فلا يُقبل ولا يحتاج إلى المعارضة بينه وبين غيره إلاّ أن يبيّن حصول المانع على ذلك التقدير وأما بمجرد استصحاب الواقع فلا أحدها قوله المانع المستمر واقع في الواقع قلنا هذا مسلَّم ولكن لِمَ قلتَ إنه واقع على تقدير وجوب الزكاة على المدين وذلك أنه إنما يثبت أنه مانعٌ على هذا التقدير إذا كان التقدير من جملة الأمور الواقعة ولا يُمكنه بيانُ ذلك إلاّ بغَصْب منصب الاستدلال فلا يلزم من كونه واقعًا في الواقع كونُه واقعًا على تقدير ليس من الأمور الواقعة الثاني أن هذا التقدير تقدير غير واقع لأنه قد ثبت بالملازمة المتقدمة التي سَلَّمَ المعترضُ دلالتَها أنه لو وجبَ على المدين لوجبَ على الفقير ولم يجب على الفقير فلا يجب على المدين فلا يكون الوجوب على المدين واقعًا بل يكون محالاً لاستلزامه المحالَ وإذا كان تقديرًا ممتنعًا غيرَ واقعٍ لم يلزم من كون المانع مانعًا في الواقع أن يكون مانعًا على تقدير غير واقع وذلك لأن التقدير المحال يجوز أن يلزمه اللازم المحال كقوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء 22] وتقدير وجوبها على المدين محالٌ

لما مرَّ فيلزم منه أن لا يكون المانع واقعًا في الواقع وهذا محال وإنما لزمَ ذلك حين فرضنا وجوبَها على المدين وهو محال لما بيَّنه المستدل فتَفطَّنْ لهذا فإن به تَنحلُّ مثلُ هذه الأغاليط وبيان ذلك أن وجوبها على الفقير فيستلزم وجوبها على الفقير يستلزم رفعَ الأمر الواقع وهو المانع من وجوبها عليه وهذا محال فذاك محال وبهذا يتبيَّن أن المانع ليس بمانع على تقدير وجوبها على المدين وأنه إن كان واقعًا في الواقع لا يمتنع أن يُفرَض عدمُ وقوعِه على تقدير غير واقع بل محال باطل فإن قال لا نُسلِّم أن هذا التقدير غير واقع أو أنا أقيم الدليل على أن هذه التقدير واقعٌ قلنا قد مرَّ التلازم الدالُّ على عدم وقوع هذا التقدير فلا يُسمع منك إقامة الدليل في ضمن الممانعة على خلافه لأنه غَصْبٌ أو أردأ من الغَصْب فإن قيل لا يمكن المستدلّ أن يمنع الوجوب في نفس الأمر بالمانع في نفس الأمر كما ذكرتم مع منعِه كونَ المانع مانعًا على ذلك التقدير لأنه يجوز أن يكون المانع على ذلك التقدير إنما انتفى لانتفاءِ المانع في الواقع وذلك بأن يكون انتفاء المانع المستمر على التقدير منافيًا للمانع الواقع ومضادًّا له فلا يَصحُّ الجمع بين انتفاء المانع

المستمر وبين المانع الواقع قلنا هذا الجائزُ معارَضٌ بمثله فإنه يمكن أن لا يكون المانع الواقع منافيًا لعدم المانع المستمر بل يكون المانع الواقع مانعًا في نفس الأمر وليس هناك مانعٌ مستمرٌّ على التقدير وإذا كان كل واحدٍ من الأمرين جائزًا احتاج المعترضُ أن يبين ثبوتَ أحد الأمرين وإن كان المانع مانعًا على ذلك التقدير وأنه مستمر وحينئذٍ فلا بدَّ له إذا استصحب الواقع أن يبيِّن أن هذا التقدير لا ينافي قيامَ المانع من الوجوب على الفقير فيبيِّن أن ما يمنع الوجوب على الفقير لا يمنع الوجوبَ على المدين كما بيَّن المستدلُّ أن ما يُوجب على المدين يوجب على الفقير وإذا بيَّن ذلك بطريقه الفقهي كان كلامًا مسموعًا وأمّا بمجرد استصحاب الواقع مع جواز منافاة التقدير وعدم منافاته ففيه نظرٌ وتمامُ الكلام في هذا يأتي إن شاء الله في الاستصحاب الثالث لا نسلِّم أن المانع المستمر واقعٌ في الواقع قوله لو لم يكن واقعًا لوجبت الزكاة على الفقير عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض قلنا لا نُسلِّم أن ههنا ما يقتضي وجوب الزكاة على الفقير ولم يذكر دليلاً على ذلك وإنما أخذه مسلَّما وهو غيرُ مسلَّم وذلك لأنّ انتفاء الزكاة عن الفقير لعدم المقتضي وهو مِلك النصاب الزكويّ لا لوجود مانعٍ من الوجوب وقد تقدم بيان ذلك

ثم نقول ما يعني بالمقتضي لوجوب الزكاة إمّا أن يعني به النصّ فالنصوص كقوله خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [التوبة 103] وقوله أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة 267] وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة 34] والأحاديث النبوية في الزكاة لا يتناولُ شيءٌ منها الفقيرَ بالإجماع وإن عَنَى به الإجماعَ فلا إجماعَ وإن عَنَى به المناسبةَ فلا مناسبة في إيجاب الزكاة على الفقير إذ الزكاة وجبت شكرًا لنعمةِ المال ومواساةً للمحاويج فمن لا شيء لديه كيف يجب عليه شيء وإن عَنَى من مَلَكَ نصابًا غيرَ زكويّ فلا نُسلِّم أن المقتضيَ موجودٌ في حقّه إذ المقتضي هو ملكُ المال الزكوىّ الذي بينَّه الشارع جنسًا وقدرًا بشهادة النصّ والإجماع والقياس لو كان ذلك مقتضيًا يعمل عمله فإنه لا مانع من الوجوب وإنما انتفاء الوجوب لانتفاء مقتضيه لا لوجود مانعه وقد ظهر بهذا التقدير سِرُّ تلك المناقشة في لفظ المانع فإنه مشترك بين ما يدلُّ على عدم الحكم وبين ما يمنع ثبوت الحكم الذي انعقد بسببه وأخذه بالاشتراك حتى راج له هنا اعتقاد الخصم ليس عليه أن المقتضي لوجوب الزكاة قائم عي حق الفقير وإنما امتنع

لوجود المانع فإذا قدر عدمُ المانع عَمِلَ المقتضي عملَه وهذا ممنوع كله فلو قيل ليس المانع لوجود الزكاة موجودًا على هذا التقدير وهذا التقدير واقع لم يكن بيده ما يوجب الزكاة وأما إن أثبتَ التلازم بدليلٍ عام فإن هذا السؤال صحيح كما تقدم وكما أبطلنا به السؤال ينعكس على المستدل فإنه إنما قرَّر كلامه بمثل هذا فلذلك قَبِلَ الجدليُّ هذا السؤالَ وسلَّم وصحةَ المعارضة وذلك لأن المستدلَّ لما أثبتَ الوجود على التقدير بما يدلُّ عليه مطلقًا كان للمعترض أن ينفيه على التقدير بما ينفيه مطلقًا بل كلامُه أظهرُ لأنه منتفٍ في نفس الأمر فقال صاحب الجدل فنقول ما ذكرتم من الدليل وإن دلَّ على وجود المانع على ما ذكر من التقدير لكن عندنا ما ينفيه فإن المانع لو كان متحققًا على ذلك التقدير والمقتضِي متحقق فيقع التعارضُ بينهما والتعارض على خلاف الأصل لاستلزامِه التركَ بأحد الدليلين وهو إما المقتضي أو المانع وما تُرِك على ذلك التقدير فذلك غير متروك في نفس الأمر لأن أحد الأمرين

لازم وهو إمّا عدمُ ذلك الدليل أو وجود مدلوله لقيام الدليل على أحدهما فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمِه فيقال هذا الذي ذكرتَه من الدليل على وجود المانع من إيجاب الزكاة على الفقير على تقدير إيجابها على المدين مُعارَضٌ بما يدلُّ على نقيضِه فإنه إذا كان المانع موجودًا والمقتضي موجودٌ على ما ذكره المستدل من النصّ والقياس أو غيرهما فقد تعارض في حقّ الفقير المقتضِي لإيجاب الزكاة والمانعُ لها وتعارضُ الأدلةِ على خلاف الأصل لأنه يلزمُ ترك العمل بأحد الدليلين وتركُ مدلولِ الأدلةِ على خلاف الأصل لأنّ الدليلَ حقُّه أن يَطَّرِدَ في اقتضاء مدلولِه فيُعلَم المدلولُ منه حيث وُجِد والأصل إعمالُه لا إهمالُه فإذا تخلف عنه مدلوله المعارض فقد خالف الأصل وأيضًا فوقوع التعارض بين الأدلة الشرعية قد يُوهم التناقض وقد يُفضي إلى الجهل أو الخطأ لأن من سمعَ الدليلين لم يترجح عنده أحدهما على صاحبه تَوهَّم تناقضهما ومن سمع أحدهما دون الآخر اعتقد مضمونَه وعمل به وربما كان هو المرجوح فيُفضِي إلى الجهل والخطاء وإذا لم يتعارض تزول هذه المفسدة والأصل عدمُ ما يقتضي وقوعَ مفسدةٍ في الأدلة الشرعية وأيضًا فإنّ أقلَّ درجات الدليل أن يكون بحيث يُفيد النظر فيه غلبةَ

الظنّ المدلول عليه والأغلب عليه وقوع مدلوله فإذا تعارض الدليلان لَزِمَ تركُ أحدهما فيلزم مخالفة الأعم الأغلب إلى الأشد الأندر وإخلاف الظن الغالب وهذا على خلاف الأصل وإنما قلنا إن التعارض يُوجِب تركَ العمل بأحدهما لأنه إذا تعارض المقتضي للوجوب والمانعُ منه فإما أن يكون الوجوب ثابتًا فقد ترك الهمل بالمقتضي ولأنهما إذا تعارضَا فلابدَّ من ترجيح أحدِهما على الآخر ضرورةَ امتناع تكافؤ الأدلة وحينئذٍ فقد ترك العمل بكل منهما لأن مقتضي كلٍّ منهما العمل بمدلوله عينًا فإذا خُيِّر بينه وبين غيره فهو ترك العمل بكلٍّ منهما ويمكن أن يقال في جواب هذه الأشياء إن شرط كون الظنّي دليلاً انعدامُ ما يساويه أو يترجح عليه فإذا وُجِد الراجح فقد بَطَل شرطُ كونه دليلاً فلا يكون دليلاً ولا نكون قد تركنا العمل بدليل وفي هذا بحوثٌ دقيقة ليس هذا موضعها لكن قرَّرنا ما ذكره المصنّف فلو كان المانع ثابتًا له في ذلك التقدير لزم مخالفة الأصل من الوجوه المذكورة وإذا عُورِضَ من المعترض في دليله توقفت دلالتُه فيسلم دليل المستدل الأول ثمَّ أجاب عن سؤالٍ مقدَّرٍ وهو أنه إذا لزم من التعارض تركُ العمل بأحد الدليلين وهو المقتضي لوجوب الزكاة على الفقير

والمانع منها فقد بَطَلَ أصلُ الاستدلال لأنه إذا تُرِكَ العملُ بالمقتضي لوجوب الزكاة على الفقير تُرِكَ العمل به في وجوبها على المدين بطريق الأولى فلا يصحّ حينئذٍ قوله لو وجبت الزكاة على المدين لوجبت على الفقير لترك العمل بما أوجبه عليهما وإن ترك العمل بالمانع للزكاة على الفقير لم يصحّ قولُه ولم تجب على الفقير لأنه حينئذٍ قد قام المقتضي لوجوبها عليه من غير مانعٍ فتجبُ عليه فإذا ترك العمل بأحد الدليلين لزمَ إبطالُ إحدى مقدمتُي الدليل وذلك مُبطِلٌ للدليل فهذا سؤالٌ على لزوم التعارض بقولٍ هو لازمٌ للمستدِلّ كما هو لازمٌ للمعترض وقد يقول المعترض لا نسلِّم أنه إذا انتفَى تركُ العمل بأحد الدليلين يَنتفِي تركُ العمل بهما لجواز كونه متروكًا في نفس الأمر وأجاب عن هذا السؤال بأنا وإن تركنا العمل بأحدهما على تقدير وجوبهما على المدين فلا يكون تركًا للعمل به في نفس الأمر والمستدلّ إنما التزم العملَ بما هو دليلٌ في نفس الأمر ولم يلتزمه على تقدير وجوبها على المدين فإن هذا التقدير غير واقع عنده بخلاف المعترض فإنه يلزمه العملُ بما هو دليل على هذا التقدير وهو غير ممكن فيلزم مخالفة الأصل وهذا معنى قوله وما ترك على ذلك التقدير فذلك غيرُ متروك في نفس الأمر أي وما ترك على تقدير وجوبها على المدين أو ما تُرِك على تقدير تعارض الدليلين الناشئ من تقدير الوجوب على المدين غيرُ متروكٍ في نفس الأمر لأن ذلك الدليل المانع من وجوبها إما أن

يكون موجودًا في نفس الأمر أو معدومًا فإن كان معدومًا لَزِمَ عدمُ مدلولِه وحينئذٍ لا يكونُ ثَمَّ دليلٌ فلا يكون قد ترك العمل بدليل وإن كان موجودًا في نفس الأمر لزمَ وجود مدلولِه لازمًا هو ثابت في نفس الأمر لابدّ من وقوعِه وإذا كان مدلولُه موجودًا لم يكن قد ترك العمل لكن موجود مدلوله في نفس الأمر موجودٌ مع الأمور الواقعة في نفس الأمر والواقع في نفس الأمر عدمُ الوجوب على المدين فلا يكون المستدلُّ قد ترك العملَ بشيء من الأدلة وهذا معنى قوله لأن أحد الأمرين لازم وهو إما عدم ذلك الدليل أي الدليل النافي للوجوب أو يعني به مطلق الدليل سواء كان موجبًا أو نافيًا أو وجودُ مدلولِه لقيام الدليل على أحدهما فإن الحال لا يخلو عن وجود ذلك الدليل في الواقع أو عدمه وهذا كما بيّناه فإنه لابدَّ من أحد الأمرين في الواقع وجود الدليل فيلزم وجود مدلوله وهو أحد الأمرين أو عدم الدليل وهو الأمر الثاني وعلى التقديرين فلا تركَ للدليل والله أعلم وربّما قرروا هذا على وجه آخر وهو أن السائل يقول لا أسلِّم أنكم إذا احترزتم عن ترك العمل بأحدهما على هذا التقدير فقد انتفَى المحذورُ اللازمُ من تركهما فإنه لابدَّ من تركِ أحدهما في نفس الأمر ضرورةَ امتناع اجتماع مقتضاهما فيقال له بل هو غير متروك في نفس الأمر لأن أحد الأمرين لازم وهما عدمُ ذلك الدليل المتروك على هذا التقدير أو وجود مدلوله لأن الضرورة وذلك الدليل يوجب لزومَ أحدهما وذلك لأنه إما أن يكون موجودًا أو لا يكون وهذا معلومٌ بالضرورة فإن لم يكن

موجودًا لم يكن قد ترك الدليل في نفس الأمر بالضرورة وهو أحد الأمرين وإن كان موجودًا فهو يقتضي ثبوتَ مدلولِه وهو الأمر الآخر فثبتَ أن الدليل يقتضي ثبوتَ أحدهما ولينا ندَّعي تحققَ أحدهما وإنما ندَّعي قيامَ الدليل على أحدهما فإن قال المعترض التركُ لازم على ذلك التقدير ولا يلزم من انتفائِه في نفس الأمر انتفاؤه على ذلك التقدير فانا لا أسلِّم انتفاءَه على ذلك التقدير إن لم يثبت عدمُ التقدير وأنتم تدَّعون انتفاءَه على ذلك التقدير قيل له هذا منعٌ على تقديرٍ لا يَضُرُّنا منعُه وذلك لأنّ اللازمَ على ذلك التقدير لازمٌ في نفس الأمر إن كان التقدير واقعًا في نفس الأمر بالضرورة وهو غير لازم في نفس الأمر إن كان التقدير غير واقع في نفس الأمر بالضرورة وحينئذٍ فإما أن يكون التقدير ثابتًا أو منتفيًا فإن كان منتفيًا لزمَ المدَّعَى وهو عدمُ الوجوب على المدين وإن كان ثابتًا لزمَ التعارضُ وهو منتفٍ بما ذكرناه فالمدَّعَى وهو عدمُ المانع على ذلك التقدير ثابتٌ على التقديرين تقدير ثبوتِ التقدير وتقديرِ انتفائه فليس يضرُّنا بعد ذلك منعُ ثبوتِ التقدير في نفس الأمر وربما أجابُوا عن هذا بأن ما ذكرنا من الدلائل يدلُّ على انتفاءِ اللازم على تقدير الوجوب على المدين فإذا انتفى اللازم لزمَ انتفاء ذلك التقدير الذي هو الملزوم واعلم أن التلازم إن ثبتَ بطريق صحيحٍ لم يَرِدْ هذا الكلامُ وأما إن ادعاه وأثبتَه بالأدلة العامة فكلامُ المعترض صحيح وهذا الجواب

فاسد وذلك أنه يقول ما ذكرت من الدليل وإن دلَّ على عدم المانع لكن عندنا ما يدلُّ على وجودِه فإنه لو لم يكن موجودًا على ذلك التقدير لكان ذلك التقدير مانعًا من الأمور الواقعة في الواقع فيكون باطلاً أو يقول المانع إما أن يكون واقعًا على ذلك التقدير أو ليس بواقع فإن كان واقعًا ثبتَ انتفاءُ الوجوب وإن لم يكن واقعًا على ذلك التقدير فذلك التقدير إما أن يكون واقعًا أو لا يكون لكنه لا يجوز أن يكون واقعًا لاستلزام وقوعِه رَفْعَ الأمور الواقعة وما استلزمَ رفعَ الواقع فهو غير واقع فيلزم أن لا يكون واقعًا وهو المطلوب أو يقول أحد الأمرين لازم إمّا ثبوت مانعيَّةِ المانع على ذلك التقدير أو انتفاءُ ذلك التقدير وأيُّهما كان حصلَ المطلوبُ وذلك لأن ثبوت المانعيَّة واقعٌ في الواقع فإن كان واقعًا على ذلك التقدير كان ذلك التقدير غير واقع لأن وقوعَه ملزومُ عدم الأمور الواقعة واللازم منتفٍ بالملزومُ مثلُه فثبتَ أن ذلك التقدير غير واقع على تقدير عدم وقوع مانعية المانع وهو الأمر الثاني وله أن يُعارضَه بنحوٍ آخر فيقول ما ذكرته من المقتضي للوجوب على ذلك التقدير وإن دلَّ على الوجوب لكن مَعَنا ما يَنفِيه وذلك أنه لو كان المقتضي واقعًا على ذلك التقدير لَزِمَ المعارضةُ بينَه وبين النافي المستمرّ في الواقع وتعارضُ الأدلةِ على خلاف الأصل

وله أن يأتي بنحوٍ آخر فيقول وقوعُ هذا التقدير إمّا أن يثبتَ معه التعارض بين المقتضي والمانع أو لا يثبت فإن ثبتَ بَطَلَ كلامُه وإن لم يثبت كان ذلك التقدير رافعًا للتعارض الواقع في نفس الأمر فإن التعارضُ واقعٌ في نفس الأمر لأن المانع واقعٌ في نفس الأمر بما ذكرت وأما المقتضي فإن كان ثابتًا في نفس الأمر فقد صبتَ الأمرُ وإن لم يكن ثابتًا في نفس الأمر فإنما يكون مقتضيًا للوجوب على ذلك التقدير وحينئذٍ فهو تقدير ينشأُ منه قيامُ مقتضٍ أو نَفْيُ مُعارضٍ ونحن إنما نتكلم على تقديرٍ يستدلّ معه بالأدلة العامة وله أن يقول الموجب والمانع ثابتان في نفس الأمر فلا يَضُرُّ التزامه على هذا التقدير لأنّ الأصل الباقي للتعارض إنما يُعمل به عند عدم تحقق التعارض أما مع تحقُّقِه فلا أو يقول لأن هذا التقدير لا يرفع الأمور الواقعة لأنه لو رفعها كان باطلاً فهو المطلوب أو يقول إن كان باطلاً بَطَلَ المدَّعَى وإن ادعى ثبوتَه فهو يستلزم لنَ ... فْي التعارض الواقع وما لزمَ منه إبطالُ الأمور الواقعة فهو باطلٌ فثبوتُ التقدير باطلٌ وإذا فهمتَ حقيقةَ الأمر فلكَ أن تُركِّبَ تركيباتٍ كثيرةَ من جنس تركيب المستدل يُعلمَ بها أن الجميع باطلٌ واعلم أنه يمكن إبطالُ كلام المستدلّ من وجوهٍ كثيرة منها أن يقال تعارضُ الدليلين أكثر ما فيه ترك العمل بأحدهما

على ذلك التقدير وهو تقدير وجوبها على المدين فليس لك أن تَفِرَّ من هذا الترك بقولك المانع لا يكون مانعًا على هذا التقدير لأن هذا تصريحٌ لترك العمل بالدليل الظني على هذا التقدير فكيف تترك العمل بالدليل حَذَرًا من تركِ العمل بالدليل فأنت في هذا كالمستجيرِ من الرَّمْضَاءِ بالنارِ إذْ ليس نَفْيُ التعارضِ حذَرًا من تركِ أحدِهما بأولى من إثباته حذرًا من ترك أحدهما فإذا كان تركُ أحدِهما لازمًا على تقدير ثبوتِ التعارض وعلى تقدير نَفْيِه كان لازمًا على التقديرين فلا يمكن الاحتراز عنه وإذا لم يمكن الاحتراز فلا يجوز إبطالُ شيء من الأدلة لأجل الاحتراز منه لأن ذلك إبطالٌ للحق بالباطل وإبطالٌ للممكن حذرًا من وقوعِ الواقع ووجود الموجود وصار قولك لا يكون تعارضٌ لئلاَّ يلزم ترك الدليل معارضًا بل يكون تعارضٌ لئلاّ يلزمَ تركُ الدليل ومنها أن يقال لا يكون التعارض واقعًا على ذلك التقدير لأنه خلاف الأصل لاستلزامه التركَ وإذا لم يكن واقعًا لزمَ وقوعُ التنافي لخلوِّه عن المعارض فإذا كان المانع ثابتًا على ذلك التقدير لم يكن الوجوبُ حاصلاً على ذلك التقدير ومنها أن يقال ما ذكرت من الدليل وإن دلَّ على أنه لو وجبَ لَوَجَبَ بالمقتضي لكن معناه أنه لو وجبَ للَزِمَ التعارضُ بين الموجِب والنافي فلا يكون الوجوب حاصلاً

فإذا قال ليس المانع حاصلاً على ذلك التقدير قيل له بل لا يكون المقتضي حاصلاً على ذلك أو أحدهما منتفٍ على ذلك إمّا المقتضي أو المانع فليس تعيينُ نَفْي المانع بأولَى من تعيين نَفْي المقتضي قال المصنف ولئن قال المانع متحقق على ذلك التقدير وإلاّ لوَقَع التعارض بين المقتضي السالم عن المانع المستمرّ وبين المانع الواقع في الواقع فنقول المانع غير متحقق على ذلك التقدير وإلاّ لتحقَّق المانعُ المستمرّ في الواقع فيقتضي التعارض بينه وبين المقتضي الواقع في الواقع قلت حاصلُ هذا أن السائل أرادَ المعارضةَ بين المقتضي والمانع على طريقة المستدلّ كما عارضَ المستدلُّ بينهما على طريقة المعترض لتبيينِ حصولِ المعارضةِ على كلّ تقدير فقال إن كان المانع متحققًا على ذلك التقدير فهو المطلوب وإن لم يكن ثابتًا على ذلك التقدير فهو واقع في الواقع فتقع المعارضة بينه وبين المقتضي على تقدير عدم تحققه على ذلك التقدير فقال له المستدل هذا لزام مشترك وهو في جانبك أظهر لأنه لو كان متحققًا على ذلك التقدير لكان المانع المستمر واقعًا في الواقع فيقع المعارضة بينهما ومقصودُ ذلك أنه يقول المعترض يجب أن يكون المانع متحققًا على

ذلك التقدير لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن المانع مستمرًا والمانع المستمر هو ما ينفي على التقدير فإذا لم يكن المانع المستمر واقعًا فقد سلّم المقتضي للوجوب وحينئذٍ يتعارض المقتضي السالم عن معارضة المانع المستمر والمانعُ الوقع في الواقع فلما ألزمَ المستدلُّ التعارضَ بين المانع في الواقع وبين المقتضي على ذلك التقدير السالم ألزمه المستدل مثلَ ذلك فقال المانع لا يتحقق لأنه لو تحققَ لتعارض َ المانعُ المستمر في الواقع والمقتضِي الواقع في الواقع إذ المقتضي واقعٌ في الواقع وهو ما تقدم من النصوص وغيرها والتعارض على ذلك التقدير المانع مطلقًا والمقتضي كما تقدم فيلزم التعارضُ في نفس الأمر وعلى ذلك التقدير وهو خلاف الأصل قال المصنّف ولئن قال لا نُسلّم بان المانع المستمر متحقق في الواقع وإنما يكون كذلك أن لو كان المانع على ذلك التقدير هو المانع الواقع في الواقع فنقول هذا المنع لا يضُرّنا فإن المانع على ذلك التقدير لا يخلو إمّا أن كان واقعًا في الواقع أو لم يكن فإن كان واقعًا يتمّ ما ذكرنا وإن لم يكن واقعًا ينتفي ذلك التقدير لانتفاء لازمِه

قلت حاصلُ هذا أن المستدل لما ادَّعَى أنه لو كان مانعًا على ذلك التقدير لكان مانعًا في الواقع قال له السائل لا أسلِّم أنه على هذا التقدير يكون الواقع المستمر واقعًا في الواقع لأن ذلك إنما يلزم أن لو كان المانع على ذلك التقدير هو الواقع في الواقع وهذا يتحقق كما قررناه أولاً أما إذا كان المانع مختصًّا بذلك التقدير وهو ما ينفي زيادة ترك العمل بالمانع مثلاً فلا يتحقق وذلك لأن المانع إذا كان قائمًا على ذلك التقدير فلو كان هذا القائم في نفس الأمر لكان قد ترك العمل به على خلاف الأصل فيكون معمولاً به فلا يكون واقعًا في الواقع فأتى المستدل بجواب سديد فقال لا يخلو إمّا أن يكون المانع على هذا التقدير واقعًا في الواقع أو غير واقع فإن كان واقعًا صحت هذه المعارضة وبه يتمُّ الدليل وإن كان المانع على هذا التقدير غير واقع في الواقع وهذا اللازم باطل لأن نقيضه حقٌّ وهو وقوع ما هو الواقع في الواقع وإذا كان اللازم منتفيًا انتفى ملزومه وهو ذلك التقدير وإذا انتفى ذلك التقدير فهو المدَّعَى لأنا إنما ادَّعَينا أن نقيض المدعى وهو الوجوب على المدين مستلزم لما هو غير واقع في الواقع وبيان ذلك أيضًا أن المانع إذا لم يكن على هذا التقدير واقعًا في نفس الأمر لم يكن مانعًا لازمًا ليس بواقع لا حقيقةَ له وإذا لم يكن مانعًا على تقدير الوجوب على المدين بَطَلَ أولُ الاعتراض وهو قوله

لا تجب الزكاة على الفقير بالمانع على تقدير الوجوب على المدين واعلم أن هذا الكلام مشروطٌ إذا ثبت اللازم أولاً بوجهٍ صحيح وأما إن كان بدليل لا يختص التقدير فهذا الكلامُ فاسدٌ وطريق إفسادِه ما قدَّمناه وهو كلامٌ باطل من جهتَي المعترض والمستدل أما المعترض فقوله المانع متحقق على ذلك التقدير وإلاّ لوقعَ التعارضُ بين المقتضي السالم عن المانع المستمرّ وبين المانع الواقع في الواقع يقال له لا نُسلِّم أنه لو لم يكن واقعًا على ذلك التقدير لوقعَ التعرضُ كما ذكرته ولم يذكر على ذلك دليلاً وبيان عدم الكلام أنه إذا لم يكن المانع واقعًا على ذلك التقدير فهو واقع في الواقع وحينئذٍ فلا نُسلِّم أن المقتضي واقع لأنا إنما ادعينا قيامَ المقتضي على التقدير وادَّعينا قيامَ المانع في الواقع ولا معارضةَ بينهما أو يقال المانعُ إن لم يكن واقعًا في نفس الأمر فلا يُعارض وإن كان واقعًا في نفس الأمر فقد وقعَ التعارضُ في نفس الأمر بين المقتضي والمعارض وهذا ليس من مقتضياتِ مذهبي فلا يلزمني الجوابُ عنه أو يقال هذا لازمٌ لي ولك لأن ما هو في نفس الأمر لا يختصُّ أحدَ الجانبين أو يقال ما هو في نفس الأمر حقٌّ والحقُّ لا يضرُّ لزومُه

أو يقال ما هو واقعٌ يَجِبُ التزامُه وإن كان فيه تعارضٌ وتركٌ للدليل لأن تركَ الدليل لا يجوز ورفعُ الأمور الواقعة لا يجوز أو يقال تركُ الدليل تركٌ للظنّي ورفعُ الواقع تركٌ للقطعيّ وإذا دارَ الأمرُ بين تركِ الظنيّ وتركِ القطعيّ كان تَركُ الظنّي واجبًا بل يعلم أنه باطلٌ لاستلزامه مخالفة القاطع وأما من جهة المستدلّ فإنه قابلَ الدعوى بالدعوى ويَرِدُ عليه من الممانعة وبيانِ عدم الملازمة والتزامِ التعارض وغيرِ ذلك ما وردَ على المعترض وهو أضعفُ من جهةِ أنه لا يلزمُ من كونه متحققًا على ذلك التقدير تحققُه في الواقع لا سيّما وعند المستدلّ أن ذلك التقدير غير واقع فلا يلزمُ من كونه واقعًا على ذلك التقدير وقوعُه في الواقع عنده وإن كان المعترض يلزم هذا الاستدلال ومن جهة أن المقتضي على ذلك التقدير إن كان واقعًا في نفس الأمر فهذه المعارضة هي المعارضة المتقدمة بعينها وهو قوله لو كان متحققًا على ذلك التقدير والمقتضي يتحقق فيقع التعارض بينهما فيكون تكريرًا وإن لم يكن المقتضي على ذلك مقتضيًا في الواقع فقد بَطَلَ أصلُ الكلام لأنّا نتكلم على ما استدلّ على وقوع اللازم بدليلٍ لا يختصّ الملزومَ ويلزم عليه وأما المعارضة الثانية من المعترض ففاسدة وذلك أنه كيف

يتوجه أن يمنعَ أن المانع المستمر متحقق في الواقع وقد سلَّمه في ثاني معارضة عارض بها والمنعُ بعد التسليم غير مقبول وأما المستدل وإن كان قد ادعى أن هذا المنع لا يضرُّه كما بيَّناه فإنما ذاك لكونِ السائلِ قرَّر الأسوِلةَ على هذا الوجه أما إذا قرَّرها على الوجوه التي ذكرناها لم يَلزمْه هذا قال المصنّف ولئن قال لا تجب الزكاة ثمة على ما ذكرتم من التقدير لأن أحد الأمرين لازم وهو إمّا وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الوقوع أو وقوع ما هو الواقع في الواقع على التقدير من الحكم في تلك الصورة أو عدم الحكم فيها فنقول نحن لا ندَّعي الوجوبَ ثَمَّة على التعيين بل ندَّعي أحد الأمرين وهو إما الملازمة بين الوجوبين أو الوجوب ثَمَّة وبهذا ين\فع ما ذكرتم فإنه لا يمكن أن يقال لا وجودَ لهذا ولا لذلك في نفس الأمر كما يمكن في الوجوب على الفقير قلتُ حاصل هذا أن المعترض قد عارضَ بهذه المعارضة المطلقة فقال لا تجب الزكاةُ على الفقير على تقدير الوجوب على المدين لأن أحد الأمرين لازمٌ إما وقوعُ ما هو واقعٌ على ذلك التقدير في الواقع بمعنى أنّ ما وقع على التقدير فإنه واقعٌ في الواقع أو وقوع ما هو الواقع في الواقع على تقدير الحكمِ في صورة الفقير

وعدمِ الحكم فيها بمعنى أن ما وقعَ في نفس الأمر فإنه واقعٌ على تقدير الحكم في فصل الفقير وعدم الحكم فيه وإنما قلنا إن أحد الأمرين لازمٌ لأنّ الأدلةَ قد دلَّت على ذلك من النصوص والأقيسة وغيرها فإنها تدلُّ على وقوع ما هو الواقع على التقدير في الواقع من الحكام ثبوتيَّةً كانت أو عدميَّةً فإنّ ما دلَّ على وقوع تلك الأحكام على التقدير فإنه دالٌّ على وقوعها مطلقًا وكذلك يدلّ على وقوع ما هو الواقع في الواقع على تقدير الحكم في فصل الفقير وجودًا وعدمًا فإن ما دلَّ على وقوع تلك الأمور الواقعة دلَّ على وقوعها على تقدير الأحكام الثابتة في نفس الأمر في فصل الفقير فإنه دلَّ على وقوعها على كل تقديرٍ واقع وما هو الثابت في فصل الفقير هو الواقع في نفس الأمر وإنْ أحد الأمرين لزمَ لم يثبت الوجوب على الفقير على ذلك التقدير أما إذا لزمَ الأولُ وهو وقوعُ ما وقعَ على التقدير في الواقع فإنه لو وقعَ الوجوبُ على التقدير لتحقَّقَ في الواقع وهو لم يتحقق في الواقع فلم يتحقق على التقدير وإن لزمَ الثاني وهو وقوع ما هو الواقع فيلزم وقوعه على التقدير واعلم أن المعترض إنما ادَّعى أحدَ الأمرين وبيَّنَ حصولَ غرضِه على كلٍّ منهما لأن المستدلَّ إنما يمكنُه أن يُعارضَه بمثل كلامِه فيقول مثلاً لا يتحقق أحدهما أصلاً لتحققِ أحد الأمرين الآخرين وهو عدمُ وقوعِ ما هو الواقع على التقدير في الواقع أو عدمُ وقوع ما هو الواقع في الواقع على التقدير لأنّ الدليل الدالَّ على أنّ التقدير غير واقعٍ يدلُّ على ذلك

وهذا الكلام لا ينفع المستدل لأن أحد هذين الأمرين إذا تحقق أحد هذين الأمرين الآخرين لم يتحقق أحد الأمرين الأولين جاز أن يتحقق الأمر الآخر وهو تحصيل مقصود السائل وكذلك أيضًا لو قال الوجوب على الفقير متحقق على ذلك التقدير ضرورة تحقق أحد الأمرين إما عدم الواقع في الواقع على التقدير أو عدم وقوع الواقع على التقدير في الواقع فإنه إن لم يرد بالعدم عدم الجميع فإن عدم وقوع البعضِ كافٍ وذلك لا ينفعه لجواز أن يكون غير عدمِ الوجوب على الفقير وإن أراد به عدم جميع الواقع فمع أنه بعيدٌ لا ينفَعه أيضًا لأنّ عدمَ الجميع ينتفي بثبوتِ بعضِ الأفراد فأيُّ فردٍ من أفراد الواقع فُرِضَ وجودُه وانتفَي عدمُ الواقع ثمّ إذا ذُكِرَ فردٌ آخر لم يتكرر العدمُ ولم يتعدَّدْ واعلم أنَّ الذي دعاهم إلى هذا التكلف أنهم إنما يُثبِتون الدعاوي بأدلةٍ متكافئةٍ من الجانبين وليست في نفس الأمر أدلةً فالمعترض إذا ادَّعى ثبوتَ أحدِ الأمرينِ فإنما يقابلُه المستدلُّ بنفي أحد الأمرين وذلك غير مفيد ولو قابلَه بنفي مجموع الأمرين لاحتاجَ إلى ما يدلُّ على نَفْيهما جميعًا ولا شكَّ أن إثباتَ واحدٍ من اثنين أو ثلاثةٍ أسهلُ من نَفْي الاثنين والثلاثة فصارَ مطلوبُ المعترض أسهلَ فإذا كان جنس الدليلين واحدًا ووجود ما يريدُه المعترض أسهل كان الرجحانُ معه لأن الظنَّ بحصولِ مرادِه أقوى من الظنّ بحصولِ مرادِ المستدلّ

ولعَمْري إن هذا ترجيحُ من يستدلُّ بغير دليل فإنه يرجّح بالأشياء البعيدة عن المقصود وكثيرًا ما يَسلُك هؤلاء المموِّهون هذا المسلكَ يَدَّعونَ عدة أشياءَ كلٌ منها يُحصِّل المقصود ويكون الدليل على وجودِها كلِّها ووجود بعضها واحدًَا حتى يحتاج القادح أن يَنفِيَ كلَّ واحدٍ من تلك الأشياء إذ نَفْيُ بعضِها غيرُ كافٍ فإذا نفاها جميعًا كان مدَّعيًا عدةَ دعاوٍ ويحتاج فيها إلى عدة أدلَّة بخلاف المثبت فإنه إنما ادَّعَى واحدًا من جملة عددٍ والتحقيق في هذا أنه إذا كان إنما يَثبُتُ أحدُ تلك الأشياء بما يَثبُتُ به الآخر كانَ في الحقيقة مستندًا إلى دليلٍ واحدٍ وحينئذٍ فللقاحِ أن ينفيها كلَّها بدليلٍ واحدٍ أيضًا إذْ لا فرقَ في الدليل بين أن ينفي أشياء أو يثبت واحدًا من أشياء ولا عبرةَ بكثرةِ الدعاوي وتعدُّدِها وإنما العبرةُ بقوة الأدلة وتعدُّدِها فمن ادَّعى بأنه حكم بدليلٍ واحدٍ كان بمنزلة من ادعَى حكمًا واحدًا بدليلٍ واحدٍ وأيضًا فإنهم يُعدِّدون الدعاوى وربّما كانت متحدة في المعنى وبتقدير تغايرها فإنها تكون متلازمة بحيث يلزم من صحة بعضها صحةُ جميعها ومن فسادِ بعضها فسادُ جميعها أو يكون بعضُها لازمًا للبعض من غير عكسِ مثلِ هذه الصورة التي يتكلم فيها وحينئذٍ فدعوى أحدهما بمنزلةِ دعواهما جميعًا ونفْيُهما جميعًا بمنزلة نَفْي أحدِهما فإنّ من ادعى ثبوتَ الشيء فقد ادعَى ثبوتَ لوازِمه ولوازمِ لوازمِه وهَلُمَّ جرًّا ضرورة عدم الانفكاك ومن ادَّعى انتفاءَه فقد ادَّعَى انتفاءَه وانتفاءَ ملزوماتِه وملزوماتِ ملزوماتِه وهَلُمَّ جرًّا ضرورة

عدم الانفكاك فلا تغفلنَّ عن هذا فإن طائفةً من كلام هؤلاء المموِّهين تدور على مثلِ هذا الكلام حتّى إنّ من ادَّعى شيئًا معينًا قد لا يتمُّ عندهم ومن ادَّعاه مبهمًا يتمُّ له ثمَّ إنه إن ما يُثبِته مبهمًا عين ما أثبته معينًا وثبوتُه مبهمًا يقتضي ثبوت تلك الأشياء التي أبهم فيها لكن لكون الخصم لا يمكنه المقابلة بمثل تلك العبارة يفلُج عليه ومعلومٌ أن هذه طريقةٌ فاسدةٌ إذ العبرةُ بتقابل الدعويَيْنِ في المعنى لا في اللفظ وهذا فصلٌ منتظرٌ ذكرنا هناك تفصيل هذا فالجواب المحقق عن سؤال المعترض أن يقال لا نُسلِّمُ قيامَ الأدلَّةِ على واحدٍ منهما فإن ذلك دعوى محضة ثم إن ذلك مُعارَضٌ بدعوى عدمهما جميعًا بالأدلة الدالة على ذلك وهو معارضة صحيحة كما تقدم ومعارَضٌ بدعوى عدمِ أحدهما لأنه يستلزم العدم الآخر فإنه إذا عُدِم وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الواقع فقد عُدِمَ وقوعُ ما هو الواقع في الواقع على التقدير لأنه لو لم يثبت العدمُ لثبتَ نقيضُه وهو وقوع شيء هو واقعٌ في الواقع على التقدير ولو كان ما هو واقعٌ في الواقع واقعًا على

التقدير لكان هذا الواقع على التقدير واقعًا في الواقع ضرورةً وحينئذٍ فيلزمُ وقوعُ ما هو الواقع على التقدير في الواقع والتقدير عدمُ الوقوع هذا خلفٌ وإنما لزمَ الجمعُ بين النقيضين لأنّا فرضنا العدمَ الأول دون الثاني فنقيضُه حقٌّ وهو تلازم العدمين وهو المدَّعَى وهذا يستأصل كلامَهم وأيضًا فإن المعترض قد ادعى أحد الأمرين وهما متلازمان فدعواه في الحقيقة واحدةٌ تنقض هذا البرهان فلو فرضنا أن المستدلّ إنما عارضه في أحدهما فقد لزم معارضتُه في الأمرين نعم لو أثبتَ المستدلُّ أحدَ الأمرين بدليلٍ صحيح لم يحتَجْ إلى هذا التكلُّف وكفاه أن يذكر دليلاً صحيحًا على عدم الوجوب على الفقير على ذلك التقدير وحينئذِ قد يقع الترجيح بينه وبين دليل المستدلّ وأما المصنّف فإنه قال في الجواب نحن لا ندَّعي الوجوبَ ثَمَّ على التعيين بل ندَّعي أحد الأمرين وهو إما الملازمة بين الوجوبين وجوبها على المدين والفقير أو الوجوب على الفقير عينًا قال وبهذا يندفع ما ذكرتم فإنه لا يمكن أن يقال لا وجودَ للملازمة ولا للوجوب على المدين والفقير في نفس الأمر كما لا يمكن أن يقال لا وجود للوجوب على الفقير

قلت اعلم أن هؤلاء لمّا جوزوا للمعترض أن يمنع الثبوت على ذلك التقدير لمجرّدِ انتفائه في نفس الأمر وجوَّزوا له أن يدَّعيَ أحدَ الأمرين المتلازمين ولم يقبلوا في الجواب نفيَ أحدهما احتاجوا إلى التحيُّلِ للخلاص من عُهدةِ السؤال فغيَّروا الدعوى المذكورة في صدر التلازم وقالوا نحن ندَّعي أحد الأمرين اللذين أحدهما منتفٍ في نفس الأمر حتى لا يتمكن السائل من دعوى انتفائهما جميعًا في نفس الأمر كما ادَّعى السائل أحد الأمرين وظنّوا أنهم بإبهام المدَّعَى ينفصلون عن السؤال الوارد ولهم في ذلك عدة عبارات أحدها أنا ندَّعي أحد الأمرين إمّا الوجوب على الفقير عينًا وإما الملازمة بين الوجوبين لم يكن كما ذكر المصنف والثاني ندَّعي أحد الأمرين إمّا غلبة المشترك بين الوجوبين أو غلبة المشترك بين الصورتين للوجوب على الفقير على تقدير الوجوب على المدين أو الوجوب على الفقير والثالث ندّعي استلزام المشترك بين الصورتين للوجوب أو الوجوب على الفقير والرابع ندَّعي قيامَ المقتضي للوجوب على الفقير السالم عن المعارض على ذلك التقدير أو الوجوب على الفقير والخامس ندَّعي اقتضاء الوجوبِ على المدين الوجوبَ على الفقير أو الوجوب على الفقير

السادس ندَّعي عدمَ الفرق بين الصورتين أو الوجوب على الفقير السابع ندَّعي استلزامَ عدمِ الوجوب على الفقير عدمَ الوجوب على المدين أو الوجوب على الفقير إلى غير ذلك من العبارات التي مقصودها واحد قالوا وبهذا يندفع ما أورده السائل فإنه لا يمكنه نَفْي كلِّ واحدٍ من الأمرين في نفس الأمر كما أمكنه نفي الوجوب على الفقير عينًا فإن أحد المرين هنا ممكن لانتفاء الخلاف فيه وهو الملازمة بين الصورتين أو غلبة المشترك بخلاف الوجوب على الفقير عينًا فلا يمكن السائلَ أن يقول لا يتحقق أحد الأمرين لأجل تحقق أحد الأمرين اللذين ذكرناهما فإنه إما أن يستدل بالأمر الأول وهو وقوع ما هو الواقع على التقدير في الواقع فيحتاج أن يقول لا يتحقق أحدهما على ذلك التقدير أصلاً إذ لو تحقق أحدهما على التقدير لتحقق في نفس الأمر ولم يتحقق في الواقع واحدٌٌ منهما لا الملازمة ولا الوجوب على الفقير فيقول له المستدل لا نسلّم أنه لا تحقق لأحدهما فإن الملازمة بين الوجوبين من الأمور الواقعة في نفس الأمر عندنا وإما أن يستدلَّ بالأثر الثاني وهو وقوع ما هو واقع في الواقع هذا كلامُهم واعلم أن هذا الكلام ليس بسديد لوجوه

أحدها أنّ هذا المدَّعَى لا يمكنه إثباتُه فإن الوجوب على الفقير لا يمكن إثباته فإنه على خلاف الإجماع وهو غير واقع والملازمة إن أثبتَها بما يدلُّ على الوجوب على الفقير مطلقًا فهو الأولى وإن أثبتَها بما يدلُّ عليه على هذا التقدير فقط فهو صحيح لكن ليس الكلام فيه ولأن ذلك لو صحَّ ادّعى أحدَ الأمرين معينًا وهو الملازمة ولم يدَّعِ أحدَ الأمرين الثاني أنه قد ادَّعَى أولاً الوجوب على تقدير الوجوب وذلك دعوى الملازمة والوجوب عينًا على تقدير الملازمة ولذلك أثبت الوجوب بأدلته وإذا كان قد ادَّعى الأمرين لم يصحَّ قولُه بعد ذلك يدعي أحد الأمرين الثالث أن يقال له قد ادعيتَ أولاً أنه لو وجبتْ على المدين لوجبتْ على الفقير فلا يخلو بعد ذلك إما أن تدَّعي أنها وجبتْ على المدين فتجب على الفقير أو لم تجب على الفقير فلا تجب على المدين فإن ادعيتَ الأول فهو رأس المسلم ثم اللازم خلاف الإجماع وإذا انتفى اللازم بالإجماع لم يصح إثباتُه بالملازمة بل يكون انتفاؤه دليلاً إمّا على بطلان الملازمة أو عللا انتفاء الملزوم فيبطلُ الاستدلال وأما أن تدَّعي أنها لم تجب على الفقير فلا تجب على المدين فإذا ادعيتَ سببين لا يتم دليلك إلا بهما الملازمة وانتفاء الوجوب على الفقير فإذا قلتَ بعد هذا يدعي أحد الأمرين إما الملازمة أو الوجوب على الفقير على التعيين قيل لك قد ادعيتَ أحدَ أمرينِ أحدُهما إحدى المقدمتين والآخرُ نقيض المقدمة

الأخرى فإن كان الثابت نقيض المقدمة بطلَ الدليلُ وإن كان الثابت هو المقدمة الأخرى فقد ادعيتَ مقدمةً واحدةً وتلك لا تفيد إلاّ بانضمام الأخرى إليها فكيف إذا ادعيتَ مفردةً عن الثانية ثم هذه المقدمة وهي الملازمة لابدَّ أن يدعى عينًا مع نقيض الأمر الذي وقع التردد بينها وبينه فإذا كنتَ مضطرًّا إلى دعوى أحدهما على التعيين مع نقيض الآخر فكيف تدعي أحد الأمرين إما هذه المقدمة وإما نقيض الثانية الرابع أن هذه الدعوى مُعارَضَةٌ بمثلها فيقال نحن لا ندعي الوجوب على المدين عينا بل ندعي أحد الأمرين وهو إما الوجوب عليه عينًا أو الملازمة بين الوجوب عليه وعدم الوجوب على الفقير أو نفي الوجوب على الفقير عينًا ولا يمكن أن يقال لا وجود لأحد هذين في نفس الأمر وإذا عورضت هذه المعارضة بمثلها بقيت الأولى سالمة ودليل ذلك هو الأدلة الدالة على الوجوب التي استدل بها على الوجوب على الفقير من طريق الأولى ويقال له أيضًا هذه الأدلة الدالة على الوجوب على الفقير إما أن تكون دالة أو لا تكون فإن لم تكن دالةً بطلَ التلازمُ فبطلَ الدليل وإن كانت دالةً فهي دالّةٌ على الوجوب على المدين أيضًا وهذا سؤالٌ جيّد يمكن إيرادُه من الابتداء وبه ينقطع المستدلُّ إذا استدلَّ بالأدلة العامة بأن يقال ما ذكرتَه من الدليل وإن دل على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين فهو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير عدم الوجوب على الفقير لأنه دالٌّ مع

جملة الأمور الواقعة وعدم الوجوب على الفقير من الأمور الواقعة أو يقال هو دالٌّ على الوجوب على المدين على كل تقدير واقع وتقدير عدم الوجوب على الفقير من التقديراتِ الواقعة أو يقال هو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير الوجوب على الفقير وبتقدير عدم الوجوب عليه أو يقال هو دالٌّ على الوجوب على المدين بتقدير الوجوب على الفقير كما هو دالٌّ على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين أولى فإنه دالٌّ على الوجوب على المدين والفقير فإما أن يكون مدلولُه ثابتًا أو متروكًا فإن كان متروكًا بطلَ الاستدلالُ به على الوجوب عليهما فيبطلُ التلازم وإن كان مدلولُه ثابتًا لَزِمَ الوجوبُ عليهما وهو خلاف الإجماع أما ثبوتُ دلالته على الوجوب على تقدير الوجوب على المدين وانتفاءُ دلالتِه على تقدير عدم الوجوب عليه فهو ترجمة المذهب ونفس الدعوى فلابدَّ من دليلٍ يدلُّ عليه سوى هذا الدليل المشترك الدلالة فإن هذا الدليل يدلُّ على الثبوت مطلقًا أو لا يكون دليلاً فيلزمُ الانتفاء مطلقًا فأما كونُه دليلاً على تقديرٍ دون تقديرٍ فليس في نفس الدليل ما يقتضي ذلك فدعواه تحتاج إلى دليلٍ ثانٍ وهو الدليل الصحيح على الملازمة دون الأدلة العامّة الخامس أن يقال هَبْ أنك تدعي أحدَ الأمرين لكن لا نُسلّم أحدَ الأمرين ولم تذكر دليلاً يدلُّ على أحد الأمرين وإنما ذكرتَ دليلاً يدلُّ على الوجوب عينًا فقط وهذه المعارضة التي ذكرناها تنفي موجب هذا الدليل ولا يجوز أن تدُّعي أحد أمرين أحدهما أقمتَ

الدليلَ على ثبوته والآخر لم تُقِم دليلاً على ثبوتِه بل لابدَّ أن تذكر دليلاً يدلُّ على ثبوت أحدهما ولم تتعرض لذلك وهذا يَكشِف سِتْرَ هذا التزوير السادس أن يقال لا وجودَ لأحدهما في الواقع أما الوجوب عينًا فبالإجماع وأما الملازمة فلأنها لو كانت ثابتةً لَزِمَ نفيُ الوجوب على المدين لكن الوجوب على المدين ثابتٌ بعين الأدلة التي دلَّت على الوجوب على الفقير وإذا كان الوجوب على المدين ثابتًا فلو لزمَ منه الوجوبُ على الفقير لَزِمَ أن يكون الوجوب على الفقير ثابتًا وهو خلاف الإجماع وإنما لزمَ هذا من الملازمة المدَّعاةِ فيكون باطلاً وليس هذا بغَضْبٍ لوجهين أحدهما أنه استدلالٌ على تقيض الدعوى بعد فراغ المستدلّ من دليله الثاني أن هذه مشاركة في الدليل ببيان أن الدليل الذي استدللتَ به إحدى مقدمتَي دليلك هو بعينه دليلٌ على نقيض الدعوى وإذا كان الدليل يلزمُ من صحتِه النقصانُ عُلِمَ أنه باطل السابع أن يقال أن يدعي أحد أمرين إمّا عدمُ الملازمة أو الوجوب على المدين وأيُّهما كان حَصَلَ الغرضُ وبيان لزوم أحد الأمرين أنه إن لم يكن في الأدلة ما يَدُلُّ على الوجوب على الفقير فقد لزمَ عدمُ الوجوب عليه ضرورة انتفاء الوجوب لانتفاء الأدلة الشرعية على الوجوب وحينئذٍ يبطل الدليل المذكور على الملازمة فتبطل الملازمة وإن كان فيها ما يدلّ على الوجوب عليه فهو يدلّ على

الوجوب على المدين بطريق الأولى والعلم به ضروري وحينئذٍ فيثبتُ الوجوب ُ على المدين وهو نقيض المدَّعى الثامن أن هذه الدعوى إما أن تُغايِرَ الأولى أو لا تُغاير الأولى فإن كانت هي الأولى في المعنى فلا تَغايُرَ وإن كانت مغايرةً لها فإمّا أن تدَّعي الأولى مع الثانية أو لا تدَّعيها فإن ادعيتَ الأولى أيضًا فالمحذور قائم وإن كنت إنما تدعي الثانية دون الأولى فقد رجعتَ عن المدَّعى أولاً وذلك انقطاع التاسع أنك إذا ادَّعيتَ أحدَ الأمرين إمّا الوجوب على الفقير على ذلك التقدير أو الملازمة فقد ادعيتَ أحد أمرين متلازمينِ لأن الوجوب على الفقير على ذلك التقدير يقتضي الملازمة والملازمة تقتضي الوجوب على الفقير على ذلك التقدير ودعوى الملزوم دعوى اللازم فيكون المدَّعى كلَّ واحد من المرين لا أحدَ الأمرين وهو يُبطِل الجواب العاشر أن الخصم إما أن يتمكن من نفي أحد الأمرين أو لا يتمكن فإن لم يتمكن فلا حاجةَ إلى تعيين الدعوى وإبهامها وإن تمكَّن من نفي أحدهما فإن نفي اللازم نفي الملزوم وذلك يوجب تمكُّنَه من نفيهما فتعود الحالُ الأولى جزعة الحادي عشر أنا لا نُسلَّم أنّ هذه الدعوى تُغايِرُ الأولى بمعنى أن هذه الدعوى إما أن تكون هي الأولى أو تستلزم الأولى فإن قيل الدليلُ على المغايرة أن الوجوب على الفقير من لوازم

الملازمة بين الصورتين على ذلك التقدير واللازم يغاير الملزوم فإنه يمكن أن يُوجَد اللازم بدون الملزوم من حيث هو لازم وكذلك يقال على التقدير الثاني الوجوبُ على الفقير على ذلك التقدير من لوازم استلزام الوجوبِ على المدين الوجوبَ على الفقير وهذا الاستلزام لا يستلزم وقوعَ اللازم دون الملزوم فاللازم وهو الوجوب غير ما هو اللازم قيل له الوجوب على الفقير على ذلك التقدير معناه تحقق الوجوب عليه عند تحقق الوجوب على المدين وهذا بعينه هو الملازمة وكونه من لوازم الملازمة لا يُفرّه من تحقق اللازم عند تحقق الملزوم ومن لوازم الملازمة وأيضًا فلو ساوتْها في دعوى الملازمة ودعوى استلزام هذا ذاك يستلزم دعوى الوجوب على الفقير على التقدير ودعوى الملزوم دعوى اللازم معه وليس ذلك بمغايرة في الحقيقة وأيضًا فلا نسلِّم أن الوجوب على الفقير على التقدير من لوازم الملازمة والملزومية بل هو تفسير الملازمة والملزومية عند التأمل والله أعلم قال المصنّف ولئن قال لا وجودَ لأحدهما أصلاً على ما ذكرتم من التقدير إذ لو تحققَ أحدُهما تحققَ الوجوب على الفقير

لا مَحالةَ ولا يتحقق هذا على ذلك التقدير لما قررنا فنقول يتحقق أحدُهما لما مرَّ آنفًا هذه دعوى محضة بمثلها قَصْدُ المعترض منها نفيُ هذين الأمرين اللذين ادعى المستدلّ أحدهما لما ينفي أحدَهما وهو الوجوب على الفقير وهو في الأصل كلام صحيح فإن المستدل يقول لا وجودَ للوجوب على الفقير ولا للملازمة لأن أحدهما إذا وُجِد فلابدَّ أن يوجَد الوجوبُ على الفقيرِ بتقدير الوجوب على المدين لأنه إن وُجِد الوجوبُ على الفقير فظاهرٌ وإن وُجِدت الملازمةُ وُجِد الوجوبُ على الفقير على ذلك التقدير لتحقق الملزوم وهو الوجوب على المدين إذ التقدير ذلك لكن لا يجب على الفقير على هذا التقدير لما تقدم من الأمرين فلا يكون أحدهما موجودًا فقال له المستدل يتحقق أحدهما لما مرَّ آنفًا من دعوى أحد الأمرين إما الملازمة أو الوجوب على الفقير وما ذكرتُه من الأمرين لا يدلُّ على نفيهما بل يدلُّ على نفي أحدهما مبهمًا لأن الوجوب على الفقير من لوازم أحدهما فإذا انتفَى انتفَى أحدهما ولا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء كلّ واحدٍ منهما في الأول والثاني وقد أجاب المعترض عن هذا بأن قال أعني بأحدهما ما يناقض شمولَ العدمِ لها بحيث إذا تحققَ أحدُهما تحقّقَ انتفاءُ عدمِ كلٍّ منهما فيكون الوجوب على الفقير من لوازم النقيض لشمول العدم

وهو منتفٍ لانتفاءِ لازمه فيكون شمولُ العدم لهما فيلزم انتفاءَهما فقال المستدل بل يتحقق أحدهما لما تقدم من الأدلة الدالة على الوجوب ابتداءً من النصّ والقياس وغيرهما من الدلائل فإن الدالَّ على المعيَّن دالٌّ على أحدهما بالضرورة فإن قال المعترض لا أسلِّم أن هذا الدليل يُغايِرُ الأول قيل له يَعني به دليلاً يدلُّ على الوجوب غير الأول وعلى هذا فكلما ذكر المعترض ما ينفيهما ذكر المستدل ما يُثبِت أحدهما من بعد أخرى حتى يعجز السائل عن المعارضة فيتحقق أحدهما ويلزم منه الوجوب على الفقير على ذلك التقدير وهو المطلوب لما ذكره من الدليل السالم عن المعارضات فإن المعارضات قد عورضت بمثلها وبقي الأول سليمًا عن المعارضة وللسائل الكلام الأول الذي قد تقدم ويجيب عن كلام المستدل بما ذكر ولا يزالانِ في معارضة دعوى بدعوى ويُمكن السائلَ أن يقول هنا لا وجودَ لأحدهما أصلاً أما الوجوب على الفقير فبالإجماع وبالنصوص المانعة من الوجوب عليه وأما الملازمة فإن الدليل الدالَّ على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوب على المدين لم يخصّ الوجوب بهذا التقدير بل هو مطلق عام وحينئذٍ فلا يخلو إمّا أن يكون دالاًّ أو غيرَ دالٍّ فإن كان غيرَ دالٍّ بَطلتِ الملازمة وإن كان دالاٍّ لزِمَ الوجوبُ على الفقير والمدين جميعًا وهو خلافُ الإجماع وخلافُ المدَّعَى لأن المدَّعَى نفي الوجوب عليهما جميعًا وقد مرَّ التنبيهُ على هذا

فإن قال هو دالٌّ على ذلك التقدير وليس بِدَالٍّ على عدمِه قيل له إما أن يكون هذا التفصيل معلومًا من هذا التفصيل أو من غيرِه ولا يجوز أن يكون معلومًا من غيرِه فذاك دليل يدلُّ بخصوصِه على الملازمة وهذا إذا صح فلا شك في ثبوت كلام المستدل فاختم به كلامه فإن قيل فَمَن الذي صحَّ كلامه المستدلّ أو المعترض قلنا إن كان المستدلُّ أثبتَ الملازمةَ بدليلٍ يَدُلُّ على خصوصِ التلازم بأن أثبتَ أنه بتقدير الوجوب على المدين يزول المانع عن الوجوب على الفقير ولم يَعترضْ عليه السائلُ إلاّ بما يمنع الوجوب على الفقير في نفس الأمر فكرن المستدلِّ صحيح وكلامُ المعترض باطلٌ وإن كان المعترضُ قَدَحَ فيما يدَّعيه المستدلُّ من قيامِ مقتضٍ أو وجودِ معارضٍ بما يوجب قيامَ النافي على ذلك التقدير فحينئذٍ يتعارضُ كلامهُما ويَبقى الرجحان لمن قَوِيَ دليلُه بحسب موادِّ المسائل والأدلة الدالة على صحةِ التلازم وفسادِه ولكل مسألةٍ نظرٌ خاص فمحالٌ أن يُحكَم في جميع المسائل برجحان أحد الطرفين للمحتج بالملازمة أو للمانع منها وإن كان المستدلُّ إنما أثبت الملازمة بما يدلُّ على ثبوت اللازم في الجملة من الأدلة العامة التي لا يختصُّ ثبوتُه على تقدم ثبوت الملزوم فكلامُه باطلٌ وكلامُ المعترض هو الحق لأنه احتجَّ بالباطل

واستدلّ بدليلٍ علم أنه باطل وخصَّه وليس في تلك الأدلة ما يخصُّ ذلك التقدير ولا في ثبوت ذلك التقدير ما يقتضي ثبوتَ مدلولِ تلك الأدلة وهو نظير قول من يقول لو وجبتْ على الغني لوجبتْ على الفقير بالأدلة الموجبة أو لو كانت السماء موجودةً والشمسُ طالعةً والماءُ مائعًا والترابُ حارًّا وجبت الزكاة على الفقير بالأدلة الموجبة ويذكر من الأدلة ما يقتضي الوجوب من غير تعرضٍ لذلك التقدير ثم يدَّعي أن اللازم منتفٍ فينتفي الملزوم ولقد صدقَ في قوله إن اللازم منتفٍ لكن لم ينتف بما ينفي ذلك التقديرَ بل انتفى بما يُوجِب انتفاءَه سواءٌ فُرِضَ وجودُ ذلك التقدير أو عدمُه فلا يلزم من انتفائه انتفاءُ ما ليس وجودُه متعلقًا بوجودِه ولا عدمُه متعلقًا بعدمِه وسلوكُ مثل هذه الملازمة فاسدٌ في الأصل من وجهين أحدهما أنه ادّعَى الملازمةَ ولم يُقِمْ عليه دليلاً الثاني أنه ذكر أن الدليل يدلُّ على ثبوت اللازم على ذلك التقدير واللازم في هذه الملازمات مثل المثال المذكور لابدَّ أن يكون منتفيًا في نفس الأمر كالوجوب على الفقير وحينئذٍ فلا يكون عليه دليلٌّ يدلُّ على الوجوب وعلى ثبوت اللازم وإن ذكر عمومًا أو قياسًا مطلقًا أو غير ذلك من الأدلة فقد عُلِمَ قطعًا أنه غيرُ دالٍّ على ثبوت

اللازم وأنه متروكٌ في تلك الصورة أو هو غير دليل وهذا الوجه الثاني يُفارقه فيه من أمكنَه إثباتُ اللازم بأن يكون ثابتًا في نفس الأمر لكن ليس في ثبوته ما يدلُّ على التلازم وقد يكون منتفيًا على تقدير محال فرض ذلك التقدير ليستدلّ على عدمِه بعدمِ اللازم كقوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء 22] ونحو ذلك من التلازم الصحيح فلو كان يبطل لو كان فيهما آلهة إلا الله لصلحتا بالمقتضي لصلاحَيْهما فإنهما صالحتان لعلم أن هذا الكلام باطلٌ لأن المقتضي لصلاحَيْهما يفوت عند فرض آلهةٍ أخرى أو يوجد هناك ما يمنع الصلاح وهذا نظير قول من يحتج على وجود لازمٍ على تقدير مُدَّعيه بشيء يذكره وقد عُلِمَ أن ذلك اللازم منتفٍ وإنما يذكره لاختصاصٍ له بذلك التقدير فإن هذا اللازم قد عُلِمَ بطلانُه فكيف يجوز أن يقوم دليلٌ هامٌّ على صحته واللازمُ في الأصل فائتٌ وعليه دليل يُبطِلُ دلالتَه عند ذلك التلازم فقد اشتركا في أن كلاًّ منهما احتجَّ على ثبوت التلازم بدليل عام لا يَدُلُّ على التلازم والله سبحانه أعلم

فصل في الدوران

فصل في الدوران اعلم أن الدورانَ في الأصل مصدرُ الشيءُ يدورُ دَورًا وَدَوَرَانًا لكن فَعَلاَن في المصادر يُؤذِنُ بقوةِ الفعلِ وشدة الحركة مثل الغَلَيان والنَّزَوان والشَّنَآن فإذا دارَ الحكمُ مع الوصف وجودًا وعدمًا فهل يدلُّ ذلك على كونه عِلَّةً في الجملة فالذي عليه أكثر فقهاء الطوائف من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأكثر أهل الأصول والجدل أنه يفيد عِلِّيةَ الوصف وذهب طوائف من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه لا دلالة له على ذلك وزعموا أن المواضع التي استفيدت منها العِلِّيّة إنما كان للمناسبة أو للسبر والتقسيم أو نحو ذلك قالوا لأن الطّردَ المحضَ لا يُفيدُ العلية والعكس ليس بشرطٍ في العلل الشرعية فانضمامُ ما لا يُفيد لا يُفيد بخلاف انضمام المخبر الواحد إلى المخبر فإن خبر كلِّ واحدٍ من المخبرين يُفيد قدرًا من الظنّ فإذا اجتمعت الظنونُ جاز أن يَبلُغَ العلم أما الطرد المحض فلا أثرَ له وكذلك العكس قالوا ولأنا قد وجدنا كثيرُا من الدوران لا يُفيد العلّية فإن الحكم يدور مع أجزاء العلة وأوصافها واحد المعلولين مع الآخر وكلّ واحدٍ من المتضايفَيْنِ مع الآخر ودوران الحدّ مع المحدود

والاسم مع المسمَّى وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك لكن الذي عليه أكثر الناس أن الدورانَ في الجملة يُفيد العليّةَ ويُسمِّيه الفقهاء العراقيون الطرد والعكس ويُسمّيه بعضهم السلب والوجود ثم منهم من قال يُفيد العلةَ قطعًا ومنهم من قال يُفيدها ظنًّا وأما تفسيرُه فهو وجودُ الحكم عند وجودِ وصفٍ وعدمُه عندَ عدمِه أو وجودُ أمرٍ عند أمرٍ يمكن أن يكون علةً له وعدمُه عند عدمِه فهو مركّبٌ من الوجود والعدم وهو يُفيد علّيّةَ الوصف للحكم ما لم يزاحِمه مدارٌ آخر ومنهم من قال يفيد علّية الوصف ما لم يُعلَم خلافُ ذلك فالدائر هو الحكم والمدارُ هو الوصف سُمِّي مدارًا لأن المدارَ في الأصل موضع الدوران والحكم قائم بمحلّ الوصف فكأنه قائمٌ بالوصف تقديرًا فإن العصير إذا اشتدَّ حصلّ فيه التحريمُ فكان الشدَّةُ محلاًّ للتحريم فإذا صارتْ خَلاًّ زالتِ الشدَّةُ فزالَ التحريمُ ثمّ وجودُ الوصف وعدمُه تارةً يكون في محلٍّ واحد كوجود الشدَّة في الشراب وزوالِها منه وتارةً في محلَّينِ كوجود النصاب الزكَويّ مقترنًا بالزكاة في محلٍّ وعدمِه في محلٍّ آخر والأول أقوى من الثاني قال صاحب الجدل هو ترتُّب الأثر على الشيء الذي له صلاح العِلِّيّة مرةً بعد أخرى

وهذا الكلام فيه نظرٌ من وجوهٍ أحدها أن قوله ترتُّب الأثر على الشيء معناه وقوع الأثر عن الشيء وصدورُه عنه ونحن لو علمنا انه مرتب عليه علمنا علّيتَه قبل الدوران الثاني أن قوله له صلاح العلّية يعني أن يكون المدار مناسبًا للأثر أو يعني به أن لا يُعلَم بطلانُ إضافة ذلك الأثر إلى ذلك الشيء أو يعني به شيئًا ثالثًا فإن عَنَى به الأول فالمناسبة وحدها لا تصلح في الدلالة على العلّية فكيف بمن يجعل الدوران قسمًا آخر وإن عَنَى به الإمكان والجواز لجاز لأصحاب الأقيسة الطردية المحضة أن يدَّعوا فيها الدوران لا سيما في التعبديات فإن الأوصاف التي يجعلونها عللاً يمكن إضافة الحكم إليها في الجملة فإن الشرع لو وردَ بذلك لم يكن محالاً لا سيما عند من يجعل العللَ علاماتٍ ودلالاتٍ لا يشترط فيها الاقتضاء والتأثير الثالث أن ترتُّبَه عليه مرةً بعد أخرى معناه اقترانُه به مرةً بعد مَرَّةٍ وذلك عبارة عن وجود الأثر مع وجود الشيء وهذا أحد وصفَي الدوران والوصف الآخر عدمُه عند عدم ذلك الشيء ولم يذكر ذلك وقد ذكر في أثناء كلامه أنه لا يُشترط في الدوران المقارنةُ في الوجود والعدم وهذا خلاف ما عليه أكثر أهل الصول والجدل وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وربما كان قال بعضهم هو ترتب الأثر على الشيء في الوجود مرةً بعد أخرى

قوله واعلم أن الدوران غير الدائر والمدار ولا يتوقف وجوده عليهما كلام ظاهر فإن الدائر هو الحكم والأثر مثلاً والمدار الوصف والدوران اقتران أحدهما بالآخر بحيث يوجد بوجوده ويُعدَم بعدمِه ووجود الدوران لا يتوقف على وجود المدار ولا على وجود الدائر لجواز كونهما عدميين كما تقدم مثل ذلك في التلازم وإن كان الكلام هناك أظهر فإن الدوران فيه علة ومعلول وهذا لا يكون الماهيات المحضة وإنما يفعل غالبًا في الموجودات أو الاعدامات ونحو ذلك وعلى ذلك فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام لأنهما إما أن يكونا وجوديَّين كالسُّكر والتحريم وطلوع الشمس والنهار أو عدميَّين كعدم هذين مع عدم علتهما أو المدار وجوديًّا والدائر عدميًّا كالأحكام المعلَّلة بوجود المانع أو بالعكس وفيه خلافٌ مبنيٌّ على جواز تعليل الأحكام بالأمور العدمية والصحيحُ جوازُه في الجملة إذا كان العدم مستلزمًا لأمرٍ وجوديّ ونحو ذلك قال المصنف ثم المدار قد يكون مدارًا وجودًا وعدمًا كالزنا الصادر من المحصن لوجوب الرجم عليه فإنه لو وُجِد يجب الرجم ولولاه لا يجب وقد يكون وجودًا لا عدمًا كالهبة لثبوت الملك فإن الملك يثبت عند وجود الهبة ولا ينعدم عند عدمِها قطعًا لاحتمال أن يكون ثابتًا بالإرث أو بغيره وقد يكون عدمًا لا وجودًا كالطهارة

لجواز الصلاة فإن الجواز يُعدَم عند عدم الطهارة ولا يوجد عند وجودها لجواز أن لا يتحقق شرطٌ من الشرائط كاستقبال القبلة وغيره واعلم أن معنى هذا الكلام ظاهر وإن كان في بعض تركيبه خروجٌ عن لسان العرب واللحنُ بما يُشوِّهُ وجهَ المعاني إذ الألفاظ قوالبُ قلوبها الأجساد أرواحها وهي مغايرها ومظاهرها وكسوتها فإن لم يستقم حدّ الاستقامة فلا بدّ أن يتضعضع المعنى وحاصلُه أن الشيء قد يكون مدارًا لغيره وجودًا وعدمًا وهو اللازم المساوي كوجوب العبادات والحدود مع شروطها المعتبرة وحصول التحريم في العصير عند الشدة وحصول حِلّ الوطءِ مع مِلكِ النكاح أو اليمين وقد يكون مدارًا له عند وجودِه فقط حيث يوجد الحكم إذا وُجِد الوصف ولا يجب أن يُعدَم بعدمه كالأسباب الموجبة للملك من البيع والهبة والوصية والإرث والاغتنام والاصطياد والاحتشاش والاحتطاب والأسباب المبيحة للدم من الردّة والقتل العمد المعتبر والقتل في المحاربة والأسباب الناقضة للوضوء من التغوط والبول واللمسين والنوم ونحو ذلك وقد يكون مدارًا له عند عدمٍ بحيث يُعدَم الحكم عند عدم الوصف ولا يجب أن يوجد بوجوده كدوران عدم الأحكام عند عدم شروطها فإنه إذا عُدِم شيءٌ

من شروط صحة الصلاة أو الحج أو الصوم عُدِمت صحةُ العبادة ولا توجد بوجود ذلك الشرط وحده وكذلك الإحصان في وجوب حد الزنا والحول في وجوب الزكاة وهذا كلام أصحاب هذا النوع من الجدل وهو طريقة أصحاب الطرد الذين يجعلون مجرَّد اقتران الحكم بالوصف وسلامته عن النقض دليلاً على العلية وهو قول جماعة من الشافعية والحنفية والحنبلية لكن لابدّ أن ينضم إليه صلاح الوصف للتعليل في الجملة لا سيما إذا تكرر الحكم معه احترازًا عن الطرد الركيك كقولهم طويل مشقوق فلا ينتقض الوضوء بمسّه كالبُوق وقولهم مائع لا يبني القناطر لا موتها يحصل والعجب أن أكثر القدماء الخراسانيين خصوصًا أهل ما وراءَ النهر كانوا لا يَرضَون بالطرد والعكس دليلاً على العلة وعابوا من يسلك ذلك مثل أبي زيد الدَّبُوْسي ودونه فأصبحوا يكتفون بمجرّد الطرد وحجة هؤلاء أنا قد رأينا الاقتران على الوجه الذي ذكرناه يُفيد ظنّ العلّية والظن الراجح إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه يجب اتباعُه احترازًا من اتباعِ المرجوح أو الجمعِ بين الضدَّين أو تعطيل الحادثة عن الحكم

والذي عليه عامة الفقهاء وأهل الأصول والجدل أن الدوران هو القسم الأول فقط وهو دوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا وما لم يكن كذلك لا يسمونه دورانًا وما في الفَعَلاَن من المبالغة يُساعِدهم على ذلك وأما اقترانه وجودًا فقط أو عدمًا فقط فلا يَدُلُّ بمجرَّده على العلّية إلاّ بدليل منفصل وهؤلاء لا يكتفون بمجرد الاطراد دليلاً على العلية حتى يكون معه دليلٌ على ذلك من مناسبةٍ أو انعكاسٍ يُقوِّي الطردَ أو تأثيرٍ أو شهادةِ الأصول أو غيرِ ذلك من الطرق التي يُعلَم بها كونُ الوصفِ مناطًا للحكم وأكثر من رأيناه يَستدلُّ بالطرد المحض لا يُسمّيه دورانًا وإنما جعلَه من قسم الدوران طائفة من المتأخرين والأمر في ذلك يؤول إلى الاصطلاح فأما كونه دليلاً على كون الوصف علةً فهو أمرٌ علميٌّ وما لم يُشَمَّ منه رائحةُ الاقتضاء والتأثير ففي تعليق الحكم الشرعي به ورَبْطِه به نظرٌ والذي عليه جماهير المحققين إنكارُ ذلك ثم مع ذلك فاستعمال الفقهاء المتأخرين في مصنفاتهم له أكثر من أن تُحصَى وتحقيق القول فيه يحتاج إلى تأصيل وتفصيل ليس هذا موضعه وأجمع المعتبرون على أن ما عُلِم استقلالُ غيرِه بالحكم لم يُلتفت إليه إنما التردد عند انحسام مسالك أقيسة المعاني فقد يكون الطرد منّا متوجهًا لا سيما عند من يقر به من الشبه والغالب عليه أنه لا حاصل فيه وما كان مدارًا وجودًا وعدمًا فإنه لا يتعدد أما ما كان

مدارًا وجودًا فقط أو عدمًا فقط فإنه يجوز تعدُّده قال المصنّف وقد يقال بأن المدار إذا لم يكن معينًا لا يتم كما إذا قال في مسألة الأكل والشرب شيء هو متحقق هنا مُوجِبٌ لوجوب الكفارة فإن الوجوب دار معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي فصل الوقاع أول مرة وأما عدمًا ففي الإفطار بالحصاة والنواة وغيرهما لأن الخصم يقول شيء هو متحقق هنا موجب للعدم فإن العدم دار معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي فصل الأكل والشرب مرةً ثانية وأما عدمًا ففي فصل الوقاع أول مرة هذا كلام قريب فإن من ادعى إضافة الحكم إلى وصف مبهم وادَّعى دورانَ الحكم معه وجودًا وعدمًا لم يُسلَّم له ذلك أولاً بل يمكن أن يقال لا يُسَلَّم أنه دائرٌ معه وجودًا وعدمًا لأن دورانه معه وجودًا أن يكون ذلك الوصف بحيث يوجد الحكم عند وجوده ودورانه معه عدمًا أن يكون بحيث يُعدَم الحكم عند عدمِه ولا يكفي وجودُه معه في صورةٍ دون أخرى ولا عدمُه في صورةٍ دونَ أخرى فما لم يتعيَّن ذلك الشيء لم يُسَلَّم له ثبوتُه في جميع صور الوجود وانتفاؤُه في جميع صور العدم إذ الحكم على الشيء فرعُ تصوُّرِه وأيضًا فإنه يمكن معارضتُه بمثله كما ذكر فإنه قال في مسألة وجوب الكفارة بالأكل والشرب شيء هو متحقق هنا موجب

لوجوب الكفارة ويعني به شيئًا من الأشياء الموجودة هنا وفي صورة الوقاع كإفساد الصوم بأحد الأفعال الثلاثة أو بمتبوع جنسه أو تعمد الإفساد بما يشتهي ونحو ذلك فإن وجوب الكفارة دار معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي صورة الوقاع وأما عدمًا ففي صورة الحصاة والنواة والأكل ثاني مرة عند من يُسَلِّم ذلك أو في كلّ صورة عدم الفطر بالكلية ويعني به عدم ما هو منتفٍ في الصورتين فإن الخصم يُمكِنه أن يُعارضَ هذا الكلام بمثله فيقول شيء هو متحقق هنا موجب لعدم وجوب الكفارة فإن العدم دار معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي الصور التي لا تجب فيها الكفارة وأما عدمًا ففي صورة الوقاع وإن منع وجود الموجب هنا قال أعني به ما هو موجود فيها وإن منع عدمه قال مثل ذلك وإذا أمكن المعترضَ مثلُ ذلك لم يتم استدلال المستدل يجعل المدار شيئًا منكَّرًا فإن كان المدار منكَّرًا مخصوصًا وهو المبهم مثل أن يدّعي مدارِيَّةَ أحدِ شيئين أو أشياءَ فإن هذا قد يتم إذا لم يُمكِن المعترضَ أن يعارضَه بمثله وذلك بأن يكون الحكم مختلفًا هما يقال في مقابلته فلا يتم دون المعترض قال المصنّف أما إذا كان المدارُ معيناً فإنه يتم كما إذا قال في هذه المسألة بأن الهتْكَ وهو إفساد صوم رمضان بأحد الأفعال الثلاثة عن تعمُّد أول مرة موجبٌ لوجوب الكفارة فإن الوجوبَ دار معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي فصل الوقاع أول مرة وأما عدمًا

فظاهر ودورانُ الأثر مع الشيء وجودًا وعدمًا آيةُ كونِ المدارِ علةً للدائر كما في النظائر أما المدار المعيّن المعلوم فالاستدلال به جائز في الجملة وهذا المثال الذي ذكره قد تعيَّن مدارُه وإن تنوَّع الإفساد لأن القدر المشترك بين الجميع وهو الإفساد بواحدٍ منها متعين وهذا بخلاف المدار المبهم أو المنكّر فإنه غير متعين واعلم أنا نرتضي أن الدوران يفيد كونَ المدار علةً للدائر بشرطِ أن لا يُزاحمه مدارٌ آخر فإن دارَ مع أشياءَ لم يجز الحكم بجعل أحد تلك المدارات علةً دون الآخر ولا بأن يُجعل الأعمّ هو العلة دون الأخصّ إلاّ بدليل مفصّل إذ الحكم قد يقترنُ به صفات كثيرة لا تتميز العلة عن غيرِها إلاّ بدليل فلو جاز أن يقتطع الإنسان ما شاء من تلك الصفات ويجعلها علةً ومدارًا لم يَعجِزْ عن ذلك أحدٌ وذلك يوجب وَضْعَ الشرع بالرأي من غير دليل وأيضًا فإنا نعلم اضطرارًا إذا كان هناك أمورٌ قد دارَ الحكم معها وهي صالحة لإضافته إليها فإنه ليس دعوى أن المدار هذا بأولى من دعوى أن المدار هو الآخر وإذا ادَّعَى مُدَّعٍ أن بعضها صالح للتعليل وبعضها غير صالح فلابدّ من التأثير لما يدَّعى صلاحه حتى يفصل الحاكم بين الخصمين

إذا تبيَّن هذا فهذا المثال الذي ذكره صاحبُ الجدل غيرُ مستقيم أن يحتج فيه بالدوران وذلك أن العلماء اتفقوا على أن الجماع الذي أفسد به صوم رمضان متعمدًا أول مرة يُوجب الكفارة العظمى مستندين في هذا الإجماع إلى حديث الأعرابي المشهور ثم اختلفوا في ضابط ما يوجب الكفارة فقال مالك مُطْلَقُ الإفطار عمدًا مُوجبٌ حتى بالحصاة والنَّواة وسواء كان وردَ على صوم أو منعَ انعقادَ الصوم وقال أبو حنيفة الموجب هو الإفطارُ عمدًا بمتبوع جنسه أو بأحدث الثلاث كما ذكره المصنف وقال الشافعي الموجب هو الوقاع المانع من الصوم الواجب في نهار رمضان عمدًا وقال أحمد هو الوقاع في نهار رمضان ممن وجبَ عليه الإمساك وربما قال هو المباشرة الموجبة للغسل وأوجبَه على من طلعَ عليه الفجرُ ولم يَنْزِع وأوجبه على من أكلَ أو شربَ أو لم يَنوِ أو جامعَ ثم كفر وتفصيل مآخذهم له موضع آخر

وإذا قال المستدل المدار هو هَتْكُ صوم رمضان بالأفعال الثلاثة إلى آخره قيل له وجوه أحدها لا نسلِّم أن الحكم دارَ مع هذا الوصف وجودًا لأنه دورانَه مع وجودُه في جميع مواضع وجودِه أو وجدودِه في صورٍ كثيرة من صورِ وجودِه فلا يُغنيك بيانُ وجودِه في صورة واحدة من صور وجود المدار فإن ادعيتَ في إثباتِ نفسِه فذلك غير جائز وإن أثبتَّ بالدليل وجودَه في جميع صور المدار المدَّعَى كان ذلك مُغنِيًا لك عن دعوى أن هذا المدار علةٌ للدائر فإن مقصودك بإثبات هذا الدوران إثباتُ الحكم في صورةِ النزاع فإذا لم يكن بيان الدوران إلاّ ببيان ثبوت الحكم في جميع صور النزاع كان ثبوت كلٍّ منهما متوقفًا على ثبوت الآخر وذلك دورٌ باطل وهذا قَدْحٌ بيِّنٌ فينبغي أن يتفطَّن له فإن هؤلاء المغالطين بالدورانات الفاسدة يُثبِتون دورانَ الحكم مع الوصف وجودًا بثبوتِه صورةٍ من صور وجودِه دون سائرِ صور وجودِه وليس هذا معنى الدوران الثاني لا نُسلِّم أنه دار معه عدمًا وقوله فظاهر ليس بظاهرٍ لأن انتفاء الكفارة فيما عدا هذه الصورة إمّا أن ثبتَ بنصٍّ أو إجماع أو

قياس وليس في المسألة نصٌّ ولا إجماع فإن مالكًا يوجبها في كل إفطارٍ والإفطار بغير الثلاث من جملة صور العدم وأحمد يوجبها بالوقاع المحرَّم في نهار رمضان وإن لم يكن إفسادًا فيوجبها بكلّ هَتْكٍ لحرمة الزمان الذي وجب صومه عليه سواءً صامَه أو لم يَصُمه والثلاثة يوجبونها على من جامعَ قبل طلوع الفجر واستدامَ بعد طلوعِه وليس هناك إفساد صوم فكيف يصح مع هذا الخلاف أن يقال عدم الكفارة عند عدم ظاهر ولم يذكر على ذلك دليلاً قياسيًا الثالث أن يقال كما دارَ مع ما ذكرتَ من الضابط فقد دار مع الوقاع الهاتكِ حرمةَ رمضانَ وقد دارَ مع الإفطار الهاتك وقد دارَ مع الوقاع الهاتك لحرمة الصيام فَلِمَ عَيَّنْتَ إحدى المداراتِ بالعِلِّيّة دون الآخر الرابع قوله دوران الأثر مع الشيء آية كون المدار علةً للدائر قلنا لا نُسلِّم ذلك في شيء من المواضع ولم يذكر على ذلك دليلاً والنظائر التي أحالَ عليها لم يُثبتها وكلُّ موضعٍ يُثبت إضافةَ الحكم إلى وصفٍ لم يُسَلِّم أن ذلك يُعرَف بالدوران فإن لم يَقُم الدليل على أن ذلك عُرِفَ بالدوران وإلاّ لم يتم وهذا سؤالُ من يقول إن الدوران لا يفيد العِلِّيّة وهو مذهب مشهور الخامس سلَّمنا أن الدوران يُفيد العِلّيّة لكن إذا لم يُزاحِم

المدَّعى مدارٌ آخر وعلى الإطلاق فلا بدّ من دليل يدل عليه وإن ادّعاه إلاّ عند المزاحمة فالتزاحم هنا لموجود وإن قال الشرط كون المدار صالحًا للعِلّيّة قلنا هذه المدارات كلُّها صالحة للعلّية فلمَ عينتَ أحدَها دونَ الآخر وهذه أسوِلةٌ صحيحةٌ ليس عنها جواب سديدٌ وهي تَهْتِكُ س~رَّ هذه التلبيسات فإن قيل أما السؤال الأول والثاني فبناؤهما على أن الدوران لابدّ فيه من وجدِ الدائر في كل صورة من صور انتفائه وهذا لا يصحّ لأن مقصودَ الدوران الاستدلال على علة الحكم في المحل المعلوم لتعلُّقِه بها في محلٍّ آخر فإن كان العلم بالعلّية موقوفًا على العلم بجميع صور وجود العلة وعدمها مع العلم بوجود الحكم وانتفائه لكُنّا قد علمنا جميع موارد الحكم وجودًا وعدمًا وذلك يُغنِينا عن إثبات الحكم بالعلة المعلولة بالدوران قلنا أولاً قد تكون فائدة الدوران إضافة الحكم إلى المشترك في صور الوجود لا أصل ثبوت الحكم وثانيًا أنه قد يقال لابدَّ من الدوران في جميع الصور التي

وُجِدتْ ليُستَدلَّ به على الحكم في الصور التي لم توجَد بعدُ أو يقال لابدّ من الدوران في جميع الصورِ الثابتِ حكمُها بالنصّ أو الإجماع ليُستدَلَّ به على مواضع السكوت أو النزاع وثالثًا لابدَّ إذا قلنا دارَ الحكمُ معه وجودُا أن يثبت بالدليل أنه وجد معه في الصور التي علمنا وجودَه وانتفَى معه في الصور التي علمنا انتفاءَه فأما إذا وُجِد معه في صورة واختلفا في انتفائِه معه في صورة أخرى فما لم يقم الدليل على الوجود والعدم لم يثبت الدوران وأما السؤال الرابع فجوابه من وجوه أحدها الدورانُ يُغلِّب على الظنّ عِلِّيةَ المدار كما يشهد به العُرْف فإن الناسَ إذا رأوا أنواعَ الأدوية دارتْ معها أنواعُ الأشفية غَلَبَ على ظنِّهم أن ذلك الدواء شببٌ لذلك الشفاء وإن كان جاز أن يكون أصلُ ذلك عُلِمَ بوحي وكذلك من رأوه يغضب أو يفرح أو تتغيَّر أحواله النفسانية وأعراضه الجسمانية عند سبب ويزول ذلك الأثر عند زوالِه قَضَوا بإضافة ذلك الحكم إلى السبب وإذا كان يُفيد غلبةَ الظنّ عند تجريد النظر إليه وجبَ اتباعُه ما لم يُعارِضْه مثلُه أو أقوى منه لأن هذا مقتضى جميع الأدلة الثاني أن ذلك الحكم لابدَّ له من سبب والأصلُ عدمُ ما سِوَى

المدار فتعيَّن المدار الثالث أن دورانه معه ليس اتفاقيًّا لأن الاتفاقي لا يكثُر ولا يدوم فلابدّ أن يكون لزوميًّا والشيء لا يلازمُ الشيءَ إلاّ أن يكون علةً أو معلولَ علةٍ واحدةٍ وإلاّ فلو فُرِض عدمُ الاقتضاء بينهما كان اتفاقيًّا فدوران أحدهما مع الآخر يقتضي أن يكون المدارُ شيئًا يستلزم المدار عليه للآخر وذلك يفيد في الجملة أن المدار وما هو ملازمٌ له هو العلة ثم التمييز بينهما يكون بصلاح أحدهما للعلة دون الثاني قال الجدلي ولئن قال وجوب الكفارة كما دارَ وجودًا وعدمًا مع الهتك فكذلك دارَ مع الوِقاع وجودًا وعدمًا ومتى كان الوقاع مدارًا لا يمكن أن يكون الهتكُ مدارًا وجودًا وعدمًا وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين وهو الوجوب مع العدم فيما ذكرتم من الصورة اعلم أن هذا سؤالٌ صحيح فإن الجماع إن كان هو المدار لزم عدمُ الكفارة عند عدم الجماع وإن كان المدار إفساد الصوم على الوجه المذكور لزم إثبات الكفارة مع عدم الوقاع وذلك جمعٌ بين النقيضين ولم يُجَبْ عنه جوابٌ صحيح قال فنقول نحن لا ندّعي المداريَّة وجودًا في

فصل الوقاع على التعيين بل ندّعي في كلّ صورة من صور الوجوب أولاً والدورانُ على هذا التفسير لا يدلُّ إلاّ على مداريَّةِ الهتك وجودًا وعدمًا اعلم أن المستدلّ إنما أجاب بهذا لأنه إذا ادَّعَى مداريَّة الإفساد في كل صورة من صور وجوب الكفارة من غير تعيين فصل الوقاع فإن الهتك موجود فيها كلها والوجوب معه لأن تلك الصور إما صور الوقاع أولاً أو الأكل والهتكُ متحقق فيها والمعترض لا يمكنه أن يدّعي مداريَّةَ الوقاع في كل صورةٍ من صور الوجوب لأنه يحتاج أن يقول تلك الصور هي صور الوقاع وهذا دعوى لأن المستدلّ يقول لا أسلِّم الخطأ والوجوب في صور الوقاع بخلاف المستدل فإنه لم يدَّعِ أن صور الأكل من صور الوجوب وإنما قال لا يخلو إما أن يكون أو لا يكون وبكلّ حالٍ فالهتكُ والإفساد موجودٌ فيها ولهذا أمكنَ المستدلَّ دعوى مدارَّيتِه وصفه في صور الوجوب ولم يُمكنِ المعترضَ ذلك هذا تقرير كلامِهم وهو باطلٌ من وجوهٍ أحدها لا نُسلِّم تحقُّقَ مدارِه في صور الوجوب وقوله تلك الصور إما صور الوقاع والأكل والشرب غير مسلَّم فإن مطلق الإفطار من صور الوجوب عند مالك والجماع المانع من صور الوجوب عند

أكثرهم والجماع الثاني جماع الناسي من صور الوجوب عند أحمد فدعوى الخصم غير مقبول كما لم يقبله من المعترض لما ادّعاه في صور الوقاع الثاني أن يقال هَبْ أنك ادعيتَ المدارَّيةَ في جميع صور الوجوب لا في صورة الوقاع على التعيين لكن لم تأتِ على هذه الدعوى ببينة فلا تكون مقبولةً بل هذه الدعوى هي حكاية المذهب ونَقْل المذهب لا يكون حجةً على صحته فأنتَ بين أمرين إمّا أن تدَّعي المداريَّةَ في الوقاع بعينه فيُعارَض بمدارية الوقاع المفطر وبمدارية الوقاع الهاتك وبمدارية الإفطار المطلق وإمّا أن تدَّعي المدار في جميع الصور التي تدَّعي الوجوب فيها فيُطَالب بالدليل على صحة الدوران وهو وجود الواجب مع المدار وعدمه مع عدمه ولا يقدر على ذلك إلاّ بإقامة الدليل على صحة الدعوى وذلك مصادرةٌ على المطلوب وتطويلٌ للكلام واستدلالٌ بكل واحدٍ من الأمرين على الآخر الثالث أنه إن عَنَى بصور الوجوب ما يثبت الوجوب فيها بنصّ أو إجماعٍ فليس إلا صور الوقاع وإن عَنَى به ما يدّعي أنه من صور الوجوب فالدوران فيها موقوف على ثبوت الوجوب فلو أثبت الوجوب فيها بالدوران لزمَ الدَّور الرابع أن المعترض يمكنه دعوى مداره في صور الوجوب أي الصور التي ثبتت فيها الوجوب وأما ما يدَّعي الخصم أنه من صور

الوجوب فلا يجب على المستدلّ بيانُ تحقيق الدوران فيه بالإجماع لأن الدوران فيها مجرَّد مذهب الخصم فلا يكون حجةً له ولا حجةً على غيره ولو صحَّ ما أمكنَ أحدًا أن يثبت المدار في صورٍ حتى يُسلِّم لخصمه ما يدَّعيه من صور الوجوب أو يكون دعواه أوسعَ من دعوى خصمه ومعلومٌ أن هذا فاسدٌ بالضرورة لأنه يعود إلى إثباتِ المذهب بالمذهب أو إلزام الخصم نفسَ المذهب الخامس أنه قد يمكن الخصمَ دعوى مدار في صور الوجوب إذا أثبت الوجوب في صورةٍ لم يثبتها المستدلُّ كما في هذا الموضع وحينئذٍ ينقطع المستدلّ فافطَنْ له قال الجدلي ولئن قال دارَ معَ ما يكون مختصًّا بتلك الصورة فنقول دارَ مع ما يكون مشتركًا بينها وبين صورة النزاع يعني أنه قد دارَ مع ما يختصّ بصورة الوقاع وهو مدارٌ آخر وإذا كان المختصُّ مدارًا لم يجب في صورة النزاع أو إنه وإن دار في كل صورةٍ من صور الوجوب فيجوز أن يكون المدار في كلّ صورةٍ خصوص تلك الصورة فلا يكون المدار المدَّعَى مدارًا وأجاب بأنه دار مع القدر المشترك بين صورة النزاع وتلك الصورة وبينها وبين سائر الصور وإضافةُ الحكم إلى ما يشمل الصورَ

أولَى من إضافته إلى ما يختصُّ بكل صورةٍ صورةٍ على انفرادها لأن الأصلُ اتحادُ العلة لا تعدُّدُه ولأن خصوص كلِّ صورة لم ينتفِ الحكمُ مع عدمها إلا عنها والمشترك قد انتفى الحكم مع عدمِه عن جميع المواضع فتكون المداريّة به أولى وهذا خير لو كان السائل قصدَ المدارية مع خصوص كلّ صورة وأما إذا قصدَ المدارية مع ما يختصُّ بصور الوجوب الذي يثبت بالنص أو بالإجماع فإنه سؤالٌ جيد وحاصلُه أن المستدلّ كلّما ادّعى مدارًا يثبت به الحكم في صورة النزاع عارضَه السائل بمدارٍ ينتفي به الحكم في صورة النزاع فأيُّهما كان عددُ مَداراتِه أكثر قَضَوا له بالفَلْج لأن تلك المدارات من الجانبين اجتمعت في الأصل فجاز أن يكون في كلٌّ منهما هو المدار المعتبر فإذا ترجح أحد الجانبين بزيادة مدارٍ سلم له عن المعارضة وجاز أن يكون هذا المدار من غير معارض فوجب تعليقُ الحكم به وهذا أيضًا من قواعدهم الفاسدة التي يبنون عليها كثيرًا من كلامهم فيُرجّحون أحدَ الخصمين بكثرة دعاويه كما يرجحونه بإبهام دعواه ولا يخفى على عاقلٍ أنّ هذا باطل فإن نفس تلك الأمور التي هي مداراتٌ ليست أدلةً بانفرادها حتى يترجَّح أحد الجانبين بكثرة العدد وإنما الدليل دورانُ الحكم معه وجودًا وعدمًا كما تقدم فإذا

دار معه أكثر من واحدٍ لم يكن اعتقادُ أن العلة أحدهما أولى من العكس وإذا كان في الأصل عدة صفات يثبت الحكم في الفرع بتقدير علّية أكثرها ولا يثبت علّيته بتقدير علِّية بعضها وليس مع البعض الأكثر ما يقتضي أنه هو العلة لم يجز اعتقادُ أنه علة بمجرد ذلك لجواز أن يكون العلة هو ذلك الواحد لاسيما إن لم يكن المدار إلاّ واحدًا وحاصلُه أن المدار لا يثبت أنه علة إلاّ بشرط انتفاء المزاحم وواحد من ألف مزاحم وأيضًا فإنه إذا اجتمع في الأصل عدة صفاتٍ كلٌّ منها صالحٌ للتعليل فإضافة الحكم إلى جميعها أولى من إضافته إلى البعض وحينئذٍ يترجّح كلامُ السائل في هذه المسألة ولعلَّنا نعود إلى الكلام في هذا الأصل إن شاء الله ولما كان هذا أصلهم فلابدّ أن يكون المدار الثاني خيرًا من الأول وكان قد ادَّعَى أولاً أنّ الهتكَ مدارٌ ثم ادّعَى ثانيًا أن المشترك مدارٌ فنقول المشترك يجوز أن يكون الهَتْك ويجوز أن يكون غيره وإن كان الهتك مشتركًا وهذا ضعيف فإن دعوى المغايرة غير تجويز المغايرة ثم إن المشترك مستلزمٌ للهتك لكن هذا الجواب من جنس السؤال قال الجدلي ولئن قال دارَ مع المختصّ وإلاّ لما ثبت

فنقول دارَ مع المشترك وإلاّ لا يجب ثمة هذا سؤالٌ من نمط الذي قبله يقول دار مع المختص تلك الصورة إذ لو لم يَدُرْ معه لما ثبتَ وجوبُ الكفارة للأصل الباقي للوجوب السالم عن المعارض القطعي وهو مداريَّةُ المختصّ وجوابه أنه قد دار مع المشترك إذ لو لم يَدُرْ معه لما وجبت الزكاة للباقي السالم عن معارضة القطعي وهو مدارية المشترك بين تلك الصورة وصورة النزاع ولم يعارض السائل بما يدلّ على مداريَّة المشترك إلاّ ذكر المشترك وسلَّم له ما ادَّعاه أولاً وهو علّية المدار في صورة الوجوب وقد تقدم الكلام على ذلك وبيَّنّا أنه لا يمكنه تحقيقُ الدوران على الوجه الذي ذكره قال الجدلي ولئن قال سلَّمنا أنّ الدوران متحقق ولكن لِمَ قلتم بأنه يفيد علِّيّةَ المدار بل لا يفيد وإلاّ لكان مفيدًا في الأمور الاتفاقية فإن الآثار حادثة في الأمكنة والأزمنة فلا يكون المدار علةً للدائر فنقول الكلام فيما إذا كان المدار صالحًا للعلِّيّة فلو كان

المدارُ فيما إذا ذكرتم صالحًا فلا نسلِّم بأنه لا يكون علّة وإن لم يكن فلا يتّجه نقضًا هذا الكلام مع ما فيه من العجمة وهو جواب لو بـ لا والفاء مما قد تكرَّر ذلك منه فإنّ حقَّه أن يقول لَم نُسلِّم إلى آخره وقد ادَّعى الجدلي أن كل موضع يدور الأثر مع ما يصلح للعلِّية فلابدّ أن يكون المدار علّة للدائر وإن كان لا ينتقض وجعل ذلك جوابًا عن النقض بتخلُّفِ علّية المدار عن بعض الدائرات وهذا الكلام فيه نظرٌ من وجوهٍ أحدها أن يقال ما تَعنِيْ بصلاحيته للعلِّية أتَعنِي به أن يكون مناسبًا للحكم أو تَعنِي إمكانَ ترتُّبِ الحكم عليه وهو أن يكون بحالٍ لا يُعلَم انه ليس بعلةٍ أو تَعنِي به شيئًا آخر كما تقدم تقريره فإن عنيتَ به المناسبة فليست شرطًا في المدارات بل هي طريق آخر ثم إذا لم يمكن تقريرُ علِّيّةِ المدار إلاّ بعد إثبات المناسبة فلا حاجةَ إلى الدوران لأنّ المناسبة إذا تمَّت كَفَتْ وإن عنيتَ مطلق الإمكان فهذا موجودٌ في صورٍ لا تُحصَى مع أن علّيّةَ المدارِ غيرُ حاصلةٍ لا سيما على تفسيره الدوران واكتفائِه بالدوران وجودًا أو عدمًا

وإن عَنَى به شيئًا ثالثًا فلابُدَّ من بيانِه الثاني أن نقول من رأيناه أعطى إنسانًا عالمًا فقيرًا قريبًا منه مرةً بعد مرة فقد دار الإعطاء مع هذه المدارات الصالحة للعلّية فإن أضفتَ الإعطاء إلى المجموع أو إلى أحدٍ بعينه قبل الدليل كنتَ مخطئًا لأنك قد تسألُ الرجلَ المعطيَ فيقول إنما أعطيتُه لقرابتِه مني أو لفقرِه أو لعلمِه ولم ألتفتْ إلى الوصف الآخر ولم أشعُرْ به وكذلك من تجسَّسَ أو سَبَّ السلطانَ وانتهكَ حُرمتَه مراتٍ متعددةً وهو يُعاقِبُه قد يجوز أن يقول إنما عاقبتُه لكذا دونَ كذا وهو كثير فقوله لو كان المدار فيما ذكرتم صالحًا لم نُسلِّم أنه لا يكون علةً منعٌ للواقع المعلوم بالضرورةِ الثالث أن تخلُّف العلّيةِ مع وجود الدوران كثيرٌ لا يُحصَى لا سيما عند من يكتفي بالدوران وجودًا أو عدمًا في صورةٍ بعد صورة فإن العلم الضروري حاصلٌ بأن ما تتخلَّف عنه العلّيةُ من هذا الجنس أكثر مما تقترن به وقد ذكر المصنّف ما يقترن بالآثار الحادثة من الأمكنة والأزمنة من الحركات الاختيارية والطبيعية والقَسْرِيّة مع أن شيئًا منها لا يفيد العلّية وكذلك دوران العلية مع المعلول والمتضايفانِ كلٌّ منهما مع الآخر وحينئذٍ فإما أن يقول الدوران يُفيد العلّية لكن تَخلَّفَ في الصور الكثيرة لمانعٍ أو يقول لا يفيد وإنما حصلَ العلمُ بالعلّية في بعض الصور لأمرٍ آخر غيرِ الدوران

لكن الثاني أولى لأن الأول أعظم منافاةً للأصل فيكون مرجوحًا واعلم أنّ للناس عن هذه المواضع عدة أجوبة أحدها أن الدوران يفيد العلّية ما لم يُزاحِمْه مدارٌ آخر وهذا الجواب مطّردٌ وهو لا ينقض القاعدة لأنه إذا تزاحمَ مدارانِ لم يمكن ترجيح أحدهما إلاّ بأمرٍ خارجٍ عن الدوران والثاني أن يقال الدوران يفيد العلّية إلاّ أن يَدُلَّ دليلٌ على عدمِ علّيته فمجموعُ الأمرين الدوران وعدم العلم بالمانع يفيد العلّية الثالث أن يُقال الدوران يُفيد علّيةَ المدار حيثُ لا يتعين للعلّية وهذا من نمط الذي قبله الرابع أن يقال الدوران يدلُّ على علّية المدار ويفيد ذلك وهذا مطّردٌ لكن تخلَّفُ مدلولِ الدليل عنه مقرونًا بمانعٍ لا يُبطِل دلالتَه وعدمُ العلّية لا ينافي كونَه مفيدًا للعلّية فإن الشيء قد يكون مفيدًا ولا تظهر إفادتُه لوجود المانع الراجح الخامس أن يقال الدوران يفيد علّية المدار إذا كان صالحًا للتعليل فإن كان المدار صالحًا لم يُسلَّم انتقاضُه وإن انتقضَ لم يُسلَّم صلاحُه للعلة وهذا جواب المصنف لكن هذا جوابٌ غيرُ مفسَّرٍ كما تقدم فيقال معنى الصلاحية صحةُ التعليل به وإمكانه ومعلومٌ بالاضطرار تخلُّف العلّية عن مداراتٍ صالحة كما تقدم

فصل في القياس

فصل في القياس اعلم أن القياس هو جماع الأدلة النظرية وهو ينبوعُ الاستنباط في الأحكام الشرعية وعامةُ ما ذكره من الأدلة من التلازم والتنافي والدوران يُحتاج فيه غالبًا إلى القياس والدوران قياسٌ محضٌ لأنه يُثبِت الحكمَ في صورة النزاع للقدر المشترك بينها وبين مواقع الإجماع مدَّعيًا أن القدر المشترك هو العلة وأنه عُلِمَ ذلك بالدوران نعم لما امتنع فقهاء العراق أعني أهلَ الرأي من إجراءِ القياس في الحدود استعملوا ضربًا آخر سمَّوه الاستدلال وعَنَوا بتجريدَ مناطِ الحكم وتنقيحَه عما اقترنَ به وهو الذي تكلم عليه صاحبُ هذا الجدل في الدوران جَرْيًا على أسلوب أشياخه وتكلَّم في القياس على نوعٍ واحدٍ منه وهو ما يثبتُ علّيتُه بالمناسبة ومعناه في اللغة تقدير الشيء بالشيء واعتبارُه به يُقال قِسْتُ الجُرْحَ بالمِيْل وقِسْتُ الأرض والثوبَ بالذراع كما قيل يُقاسُ المرءُ بالمرءِ إذا مَا هُوَ مَا شَاهُ وقال الشاعر

إذا قَاسَها الآسِيْ النِّطَاسِيُّ أَدْبَرتْ يعني إذا قاسَ الطبيبُ غَوْرَ الجراحةِ بالميل فالأصل بمنزلة القياس الذي يُعتَبرُ به حكمُ الفرع وهكذا شأنُ جميع المقاييس فإنك تعتبر ما لا يُعلَم وصفُه بما قد عُلِمَ وصفُه كاعتبار المكيل بالمكيال والموزونات بالصنجة والميزان والممسوحات بالذراع واعتبار أوزانِ الشعر بعَروضه واعتبار عربية الكلام بالنحو وجماعُ ذلك كلّه التسويةُ والتعديلُ وإعطاءُ الشيء حكمَ مثلِه وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض وإليه الإشارة بقولِه أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى 17] وهو اسمٌ جامعٌ لكلّ دليلٍ عقلي فإن العقلَ من شأنِه أن يعتبر الأشياءَ بأمثالِها وأضدادِها وخلافاتِها وقد زعمَ بعضُ أهل النظر أن تسمية التداخل والتلازم والتقابل قياسًا لا يجوز إذ القياس يعتمد التشبيه والتمثيل ولا تشبيهَ ولا تمثيل في ذلك وليس كما قال لأن تسمية هذه الأدلة العقلية قياسًا لأنك تقدر العلوم بها وتعتبرها بها وتَزِنُها بها والقياس تقدير الشيء بالشيء وهذا محض التمثيل والتشبيه لها باعتبار قدرٍ مشتركٍ بينها وليس القياس إلا ذلك فعُلِم أن فيها قياسَ تمثيل وقياس تعليل والكلام في ذلك واسع

والذي يليق بهذا الموضوع هو القياس الفرعي وللناس في تعريفه عباراتٌ كثيرة ليس هذا موضع ذكرها أشهرها عند الجدليين ردُّ فرعٍ إلى أصلٍ بعلةٍ جامعةٍ بينهما أو إثبات حكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في على الإثبات أو اعتبار الشيء بغيره في إثباتِ حكمه فيه أو نفيه عنه ليعمّ قياس الطرد والعكس قال المصنّف القياس تعدية الحكم المتحد من الأصل إلى الفرع بعلةٍ متحدة فيهما قوله الحكم المتحد أراد به أن يكون حكم الفرع والأصل واحدًا لأنه لو كان حكم الأصلِ تحليلاً والفرعِ إيجابًا لم يصحّ القياس وكذلك العلة لابدّ أن تكون واحدةً في الأصل والفرع إذ لو ثبت الحكم في الأصل بعلةٍ وفي الفرعِ بعلةٍ أخرى لم يصحّ القياس أيضًا وذلك لأن القياس إثباتُ مثلِ حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم فلو لم يتحد الحكم والجامع لن يتحقق هذا الحدّ وهذا ظاهر في الجملة ويخرج قياس العكس عن أن يكون قياسًا وفيه بحوثٌ دقيقة ليس هذا موضعها قال المصنف وسبيلُه أن يقال الوجوب ثابتٌ في المضروب بالإجماع فكذا في صورة النزاع بالقياس عليه لأن الوجوب في

المضروب إنما كان تحصيلاً للمصالح المتعلقة بالوجوب كتطهير المزكي وغيره بشهادة المناسبة ونعني بالمناسبة مباشرة الفعل الصالح لحصول المطلوب والمناسبة على هذا التفسير ثابتةٌ في تلك الصورة فإن المصلحة المتعلقة بالوجوب أمرٌ مطلوب والوجوب طريق صالح لحصول ذلك المطلوب لأنه لو وُجِد يوجد ذلك المطلوب ولولاه لا يوجد ولا نَعنِي بكونه طريقًا صالحًا سوى هذا والشرعُ قد حكم بالوجوب في تلك الصورة فتوجد المناسبة فيها والمناسبة تُوجِب إضافةَ الفعل الصالح لحصول المطلوب إلى ذلك المطلوب لأن الظنّ بالإضافة دَار مع المناسبة على ما ذكرنا من التفسير وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي أداء الفرائض مثلاً فإن تغليبَ الوصول إلى المَثُوبات وتخليص النفس عن العقوبات لمَّا كان مطلوبًا وأداءُ الفرائض والواجبات طريقٌ صالح لحصول ذلك المطلوب فلو شاهدنا الإقامة من العاقل يغلب على الظن أنه إنما اشتغل بأداء الفرائض والواجبات لحصولِ ذلك المطلوب وأمّا عدمًا ففي فصل الترك والاشتغال بالمعاصي والدوران يدلُّ على كونِ المدارِ علّةً للدائر قلت اعلم أن المناسبة في الجملة معتبرة في الأحكام الشرعية ومَن تأمَّلَ العباداتِ وما فيها من محاسن الأقوال والأفعال الموجبة

للتقرب إلى ذي الجلالة وتخفيفها عند الأشغال وتحصيلها للمصالح الجلية في الدنيا والآخرة وما في المعاملات من القوانين المضبوطة المانعة من الوقوع في الشرور والآفات وكذلك ما في المناكح من حفظِ المياه والأنساب والجمع بين الرجال والنساء لاستيفاء النوع على أكمل حال ثم ما في العقوبات من المصالح العاصمة للدماء في أُهُبِها وإقرار الرؤوس على كواهلها وحفظ الموال عن السُّرَّاق والقُّطَّاع وحفظ الأديان والعقول عن الانحلال والاختلال وما في الكفّارات من جَبْرِ النقائض ومَحْو السيئات إلى غير ذلك من المحاسن والمصالح التي تفوق العدد وتخاف الإحصاء عَلِمَ بالاضطرارِ أن ذلك تنزيلٌ من حكيم حميد متلقًّى من لَدُنْ حكيم خبير وأن الذي أحاط بكل شيء علمًا ووسعَ كلَّ شيء رحمةً وحلمًا أنزلَ الأحكام متضمنةً مصالح العباد في الدنيا والآخرة ولهذا يأمر الله في القرآن دائمًا بالصلاح ويُثنِي على الذين يعملون الصالحات وينهى عن الفساد ويذكُّ المفسدين ولا خلافَ بين الفقهاء من الأولين والآخرين في اشتمال الشريعة على مصالح المكلفين نعم زاغَ أهلُ الأهواء من القدرية حيثُ اعتقدوا وجوبَ رعاية الصلاح أو الأصلح على الله وجوبًا عقليًّا يَلزمُ بتركِه ذمٌّ وحيثُ اعتقدوا أن لا معنى للأحكام إلاّ صفات للأفعال تارةً تُدرَك

بنور العقلِ وتارةً تُدرِك ببيان الشرع وحيث جعلوا الأفعال أفعال الخالق والمخلوق نوعًا واحدًا سَوَّوْا بينها في التحسين والتقبيح حتى صاروا مشبِّهة الأفعال وحيثُ اعتقدوا أن المصلحةَ ما أَبدَوْه من أمورٍ لا تَثبتُ على محكِّ السَّبْر إلى أشياءَ خرجوا بها عن الحقّ وإلاَ في مخافتهم كثيرٌ من متكلّمي أهل الإثبات حتى جوَّزوا أن لا تكون في الحكام الشرعية الواقعة مصلحةٌ للمكلَّفين البتَّةَ أن لا معنى للحكم إلاّ مجردُ القول وأنّ الفعل لم يكتسب بالحكم إلاّ صفةً إضافيةً وأنّ شيئًا من الأفعال ليس على صفةٍ تقتضي الحكم وان العلل الشرعية ليست إلاّ محضَ علاماتٍ وحتى أحالَ بعضُهم التعليلَ بالمصالح والمفاسد واقتصدَ الفقهاءُ والحكماءُ من أهل البصر بالأصول والفتوى والحديث فعَلِموا أن الله لا يَجب عليه شيءٌ كما يجب على خلقِه بل هو سبحانه كتبَ على نفسه الرحمة وحرَّم على نفسِه الظلمَ فهو أرحمُ بخلقِه من الوالدةِ بولدها فأمرَ العبادَ بما أمرَهم لا لحاجته بل لما فيه من صلاحهم ونهاهم عما نهاهم لا بُخلاً به بل لما فيه من مفاسدهم تفضلاً منه وإحسانًا وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد والحكم اسمٌ يُقالُ على خطابِ الله وكلامِه المنزّل وهو الإيجاب كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة 183] وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] أوالتحريم كقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ

[المائدة 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء 23] ويُقال على الوجوب والحركة القائمين بالأفعال ويُقال على التعليق الذي بين الخطاب وبين الأفعال فإذا عُنِي به الإيجابُ أو التعليقُ كان صفةً إضافيةً للفعل وإن عُنِي به الوجوبُ كان صفةً ثبوتية للفعل والفعل الذي هو محلّ الحكم ومتعلَّقه قد يكون على صفةٍ بل نزول الشرع يقتضي ذلك الحكم فشَرعَ الشارعُ الحكمَ باعتبار تلك الصفة كالسُّكْر في الخمر قد يكون حدثَتْ له صفةٌ بعد الشرع اقتضَتْ ذلك الحكم كجهاد الكفّار وبعضهم قال موجبه التكذيب وهو متجدد بعد الشرع وقد يكون الفعل في نفسِه ليس على صفةٍ لكن الله لمّا حكمَ فيه بما حَكَم جَعَلَ له صفةً تَقتضي الحكم كتخصيص بعض الأمكنة أو الأزمنة أو الأشخاص أو الهيئات وقد يكون الفعل عاريًا عن جميع الصفات المقتضية للحكم وإنما الحكمة ناشئة من نفس الحكم كما سنذكره كذبح إبراهيمَ ولدَه وامتناع قوم طالوتَ من شُرب الماء وبيان ذلك أن العبد إذا أُمِر بشيء فلابُدَّ أن يكون له في امتثالِ هذا الأمر مصلحةٌ وفائدةٌ وأهلُ السنة إن قالوا يجوز أن يأمر الله المكلف بما لا مصلحةَ له فيه كما أمرَ إبليسَ بالسجود لآدم ومرَ أبا جهلٍ وفرعونَ بالإيمان فمعنى ذلك أنه يجوز أن يعلم أن العبد يَعصِي بترك

الامتثال ويأمره ولا يُوفِّقه للطاعة ولا يخلقها له فيكون المفسد في المعصية لا في نفس الفعل المأمور به والذي أردناه أولاً أنه لابدَّ أن يكون في المر مصلحةٌ بتقدير الامتثال وبين حكم الأمر بتقدير الامتثال وحكمِه بتقدير المخالفةِ فرقٌ بيِّنٌ ثم إن المصلحة التي في موافقة الأمر لها ثلاث جهاتٍ إحداها أن تنشأ من الأمر فقط فتكون المصلحة اعتقاد الوجوب والعزم على سبيل الامتثال وما يترتب على ذلك فقط وإن لم يُوجَد الفعل المأمور به كأمرِ إبراهيم بذبح ابنه وكأمر من علم أنه يموت قبل وقت الأمر ويحال بينه وبينه وأحالت القدريةُ هذا الوجه وينبني على ذلك فسخُ حكم الفعل قبل التمكن ومسائلُ كثيرة الثانية أن تنشأ من ذاتِ الفعل المأمور به من حيث هو هو حتى لو حصل بدون الأمر فكانت تلك المصلحة حاصلةً ككتاب الدَّين والإشهاد عليه والاحتراز من العدوّ وأكل ما يقيم الصلب ولباس ما يَقي الحرَّ والبأسَ والاستعفاف بالنكاح وصلاح ذات البين ونحو ذلك من الأمور التي فيها مصالح ظاهرة في الدنيا إذا فُعِلتْ حصلتْ تلك المصالح وكذلك في المنهيات مثل النهي عن أكلِ السُّموم وقتل النفس ونحو ذلك وكثيرٌ من الأفعال المأمور بها أو أكثرُها كذلك لكن مصالحها غير معلومةٍ لأكثر الناس بل ولا لجميعهم

وربما علموا بعضَ مصالحها دون بعض وفي هذا القسم يتسع مجال المناسبة وقد أنكرَ هذا القسم من أَبَى التعليلَ من غُلاةِ المجبِّرة الثالثة أن تنشأ من الفعل المأمور به من حيث هو مأمورٌ به لما فيه من الطاعة والانقياد والعبادة لله حتى لو فعل بدون الأمر كان عبثًا ومن ذلك أكثر أفعال الحج والتيمم وترك الشرب من النهر ونحو ذلك وهذا الذي يُسمَّى تعبدًا في الغالب ثم اعلم أن أكثر الأفعال تجتمع فيها الجهات الثلاث كالصلاة والصوم وبرّ الوالدين وصلة الأرحام وصِدْق الحديث وأداء الأمانة والكفّ عن الفواحش والسيئات فإن الله لمّا أمر بالزكاة والصوم فسمعَ ذلك المؤمنون فآمنوا وقالوا سمعنا وأطعنا واعتقدوا وجوبَ ذلك حصلَتْ لهو مصلحةٌ عظيمةٌ من الخضوع لله ثم في ضمن الزكاة والصوم من الفوائد والمصالح ما لا يكاد يُحصيه إلاّ الله حتى لو صام وتصدَّق رجلٌ لم يُؤمَرْ بذلك حصلَ له بعضُ تلك الفوائد فإن قيل كيف يجوز تعليلُ أحكامِ الله بالمصالح والله سبحانه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا باعثٍ لأن الأغراض عليه محالٌ لتعاليه عن لُحوقِ المنافع والمضارّ ولأن من فعل لغرضٍ كان ناقصًا قبلَ وجودِه مستكملاً بوجودِه ثم المصالح التي في الأفعال حادثةٌ وحكمُ الله قديم والعلّة يجبُ أن تتقدَّم المعلول قيل ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك لكن نقول هو سبحانَه يعلم ما في الفعل من المصلحة فيحكم بوجوبه لعلمه بذلك

فعلمُه بصفة الفعل هو الموجب لذلك الحكم لأنه عليم حكيم فالعلة والحكم بهذا التفسير قديمان وكذلك إرادتُه ومشيئتُه قديمةٌ فهو يَعلم ما في المصنوعات من الحكمة فيريد ما علمه وليس هذا الاقتضاء والإيجاب من جنس إيجاب العلل الحادثة معلولاً بها وإنما هو كما يقال الذاتُ مقتضيةٌ للصفات من العلم والقدرة والصفات مقتضيةٌ للأحكام والأحوال من كونه عالمًا قادرًا أو العلم والقدرة مشروطة بالحياة والشرط قبل المشروط فإن ذلك كلَّه على نحو آخر معاني على عقول البشر والله أكبر كبيرًا لكن لابدَّ من تقريبٍ إلى العقول يحتاج إلى التوسع في التعبير لإزاحةِ ما يُتَوهَّم من الشبهات والتحقيق على هذا أن يقال حَرَّم الخمر لعلمه بأنها مُسكِرة وأمرَ بالمعروف لأنه مصلحة فإذا قيل حرّم الخمر لأنها مسكرة فذاك لأنه قد عُلِمَ أنّ الله عليمٌ بكلّ شيء وقد عُلِمَ إذا قيل فلانٌ أمرَ بكذا لأنه مصلحة له أو للناس أنَّما فعلَه لعلمه بصلاحه امتنع أن يأمر به كذلك وسبب ذلك أن العلم في الحقيقة تابعٌ للمعلوم لا يُكسِبُه صفةً ولا يكتسب عنه صفة وإنما نشأت الحكمة من نفس المعلوم فلما كان كونُه مصلحةً والعلمُ بأنه مصلحةٌ أمرانِ متلازمانِ مطلوبيَّةُ أحدهما باعتبار الآخر لم يقدح إضافته إلى الآخر وإذا قيل حُرِّمت الخمر لأنها مسكرة فهذا تعليلٌ للحكم الحادث وهو الحرمة القائمة بها

بالصفة الحادثة وهي الشدّة المُطرِبة ومعنى قولنا إنه يفعل لا لغرضٍ ولا لداعٍ ولا لباعثٍ أنه لا يَبعثُه على الفعل باعثٌ من خارجٍ كما هو صفة المخلوق فإن كمال المخلوق عن أفعالِه وبأفعالِه كَمُل والله سبحانه فِعلُه عن كمالِه وأفعالُه صدرتْ عن كمالِه ولسنا نعني به أن أفعاله لا تتضمنُ مصلحةً للخلق ورحمةً وحكمةً فإن هذا مع أنه خلاف الكتاب والسنة والإجماع خلافُ الواقع ثم هو سبحانَه لا تعود المنفعةُ إليه وإنما تعود إلى خلقِه فإنه غني حميد وإضافةُ الفعلِ إلى مشيئته وإضافةُ مشيئته إلى علمِه كإضافة حكمِ الفعل إلى أمرِه وأمرِه إلى علمه وهنا نكتةٌ لابدّ من معرفتها فإن الفعل أو الحكم إذا كانت فيه مصلحة فتلك المصلحة إنما تُوجد بعد وجود ذلك الفعل والحكم وهي المقصودة بذلك الفعل والحكم فهي متقدمةٌ في العلم والإرادة متأخرةٌ عن الحصول والوجود كما يقال أوّلُ الفكرِ آخر العمل وأوّلُ البغية آخر الدرك والفعل علةٌ فاعلةٌ لتلك المصلحة وتلك المصلحة علةٌ غاييَّة لذلك الفعل وفي الحقيقة فالعلةُ العلمُ بتلك المصلحة والإرادةُ لها أو الطالب كما تقدم إذ العلةُ لا تتأخر عن المعلول إذا عُلِم هذا فمعنى المناسبة كونُ الحكم الشرعي بينه وبين السبب الذي رتّب عليه نسبٌ حتى صار ذلك السبب مقتضيًا لذلك الحكم

وموجبًا له مثل الوالد كما يولد الوالد ولده فيصير بينهما مناسبة ولابدّ لكل مناسبة من حكمةٍ تَحصُل من الحِكَم باعتبارها يصيرٌ الحكمُ ثابتًا كالتقوى التي هي حكمة الصوم وسَدُّ الفاقات التي هي من حكمة الزكاة وحَقْن الدماء التي هي من حكمة القصاص وحفظ الأنساب والعقول والأديان والأموال والأعراض التي هي حكمة الحدود فيسمُّون المصلحة الحاصلة بالحكم أو بالفعل الذي هو محلّ الحكم حكمةً ويُسمَّى نفس ذلك الفعل حكمة كما يقال الصَّمتُ حكمٌ وقليلٌ فاعلُه ويقال إيجابُ القصاص حكمةٌ عظيمة ويُسمَّى العلم بما في ذلك الفعل أو الحكم من المصلحة والتكلم بذلك حكمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحِكمةً وقال الحكمةُ ضالّةُ المؤمن فالحكيم هو الذي يعلم الصواب ويتبعه فإن عَلِمَه ولم يتبعْه أو عَلِمَه ولم يعلم حقيقته فقد أُوتِيَ شَطْرَ الحكمة وقد غَلَب في اصطلاح أهل الجدل من الفقهاء إطلاقُ الحكمة في الأحكام الشرعية على المعنى الأول من المعاني الثلاثة وهو ما في الفعل أو الحكم من تحصيل مصلحةٍ ودفعِ مفسدةٍ والمصالح والمفاسد بعد البحث التام تعود إلى ما ينفع الناسَ في الدنيا والآخرة

وما يَضرُّهم والمنفعة تؤولُ إلى اللذة التامة التي لا ألمَ فيها في ذاتِ الحيوان مع أن أنواع تلك اللذات ومقاديرها مما لم يَخْطُر على قلب بشر لكن كلَّما كانَ أقربَ إلى حصول ذلك المطلوب كان أبلغ وباعتبار انقسام المنافع والمضارّ إلى دنيوية وأخروية انقسم الحكماءُ إلى حكماءِ دنيا وحكماءِ آخرة والأحكام الشرعية مشتملة على زيادة الحكمة وتفاوتها ولهذا قال العلماء الحكمة هي علم الشريعة والفقه فيها والعمل بذلك كما نطق به قولُه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران 164] وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب 34] وإذا كانت المناسبة لا تتمّ إلا بالحكمة الحاصلة من الفعل أو الحكم فأنواع الحِكَم ومقاديرها مما لا يحيط به علمًا إلاّ الله تعالى ومازال الناس يبحثون عن أسرار الشريعة ويطلعون في كل وقتٍ على أنواع من الحِكَم وكم من شيء يعتقد كثيرٌ من الناس أنه حكمةٌ ومصلحةٌ يجب تحصيلُها أو انه يَفَهٌ ومفسدةٌ يجب دفعُها وليس كذلك في نظر الشارع لأن حقائقَ ما يَنفع الناسَ وما يَضُرُّهم في أمر المعاد بل في أمر الدنيا أيضًا لا تُعلَم إلا بالوحي المنزل من عند الله فلهذا كان إثبات علِّية الوصفِ بالمناسبة خطرًا وقد يَغلَط فيه كثيرٌ من الناس أو أكثرهم ثم اعلم أنّ كثيرًا من الأحكام أو أكثرها أو كلّها لابدَّ لها من أسبابٍ تناسبُ الحكم ومعنى السبب هنا هو ما يَنشأُ منه كون الفعل أو حكمه محصِّلاً للمصلحة والحكمة ولولا ذلك السبب لم يكن ذلك الفعل أو

الحكم موجبًا لتلك الحكمة وإن شئتَ قلتَ هو الوصف الذي لأجله صارت تلك المصلحة مطلوبةً من الحُكْم مثل الزنا فإنه إذا وُجِد أوجبَ كونَ الرجم أو وجوبَ الرجم محصّلاً لمصلحة الانزجار عن الزنا والانزجارُ مصلحة وحكمةٌ تحفظُ المياهَ والأنساب وتلك حكمةٌ تتقي بها الأمة على الوجه المضبوط وكذلك القتل العمد والعدوان بشروطه سببٌ يُوجب كونَ القَوَد أو إيجاب القَوَدِ محصّلاً لحكمة حَقْنِ الدماء وكذلك الزنا والسَّرقة وشرب الخمر وكذلك أسباب الكفارات والعبادات فإن مِلْكَ النِّصاب سببٌ أوجبَ كون إيتاء الزكاة أو وجوب إيتاء الزكاة محصِّلاً لمصلحةِ سَدِّ الفاقات وشُكرِ النعمة وسخاء النفس وإزالةِ الشُّحّ إذا عرفتَ هذا فاعلم أن تعليق الحكام بالأسباب المقتضيةِ حصولَ المصالح من الأحكام أمرٌ مضبوطٌ فأما الحِكَمُ والمصالح فإن تعليق الأحكام بها عسيرٌ لكونها قد تكون خفية وقد تكون غير مضبوطة ثم اعلم أن النظر في المصالح أولاً ثم تُطلَب حكمتُه وما فيه من المصلحة الثاني أن يعتقد أن للشيء الفلانيّ مصلحةً وحكمةً ثم يُنظَر هَلْ شُرِعَ حُكمٌ يحصِّل تلك المصلحة والحكمة

فإن وجدنا حُكمًا يشهد لتلك المصلحة بالاعتبار سميناه مصلحة معتبرة في نظر الشرع كمصلحة حفظ الأصول الستة وإن وجدنا حكمًا يشهد لذلك الأمر الذي اعتقدناه مصلحةً بالإلغاء والإهدار سمَّيناها مصلحةً مُهْدَرةً وفي حقيقة الأمر لا تكون مصلحةً بل إما أن تكون مَفسدةً خالصةً أو مفسدةً راجحةً على مصلحةٍ إذ لو كانت مصلحةً خالصةً أو راجحةً لاعتبرها الشرع فإنه حكيمٌ لا يُهمِل المصالح لكن الناظر لقصور نظرِه وإدراكِه يَعتقد أنها مصلحةٌ وهذا مثل السياسات الجَوْرِية التي أحدَثها الملوك وحسبوا أنها تحصِّل مصلحة انتظار الأمور ومثل الأعمال المبتدعة التي استحدثَها بعض المتعبدين وحسبوا أنها مصلحة لرضوانِ الله وقُربِهِ وثوابِه مثل العقائد والكلمات المبتدعة التي أحدثَها بعضُ المتكلمين وحسبوا أنها مصلحةٌ لتحقيق الأمور وإدراك الحقائق أو أنها هي الحقُّ في نفس الأمر وإن لم نَجِدْ شيئًا يَشهد لتلك المصلحة سمينَاها مصلحةً مرسلةً ومناسبةً مطلقةً إن شَهِدَ لها أصلٌ كلّي من أصولِ الشرع ولم يُغيِّر شيئًا من التفاصيل المشروعة بَنَينا الحكام عليها وإلاّ توقفنا عن الحكم واعلم أن المناسبة لها ثلاثة أركان أحدها اقتران بالوصف المناسب وشهادة الشرع له بالاعتبار حتى لا يكون مناسبةً مرسلةً

والثاني أن يُعلَم أن الشيء حكمته ومصلحته في نفس الأمر وفي نظر الشرع لأن اعتقاد كون الشيء حكمةً ومصلحة بمنزلة اعتقاد كون الفعل حلالاً وحرامًا وواجبًا إذ لا فرقَ بين هذا الفعل حرامٌ إذا فعله الفاعل تعرَّض للعقاب وحَسَنٌ إذا فعلَه حصَل له ثواب وبين قولنا هذا الأمر مصلحة ومنفعة للخلق في دنياهم وآخرتهم أو هذا الأمر مفسدةٌ ومضرةٌ على الخلق في دنياهم وآخرتهم وإلاّ فكم من يعتقد المصالح مفاسدَ والمضارَّ منافع ويسمون هذا المعنى التأثير فيقولون هذا المعنى فيه الوصف الذي أوجبَ اشتمالَ الحكم على تلك المصلحة وهذا أمر مهمٌّ لابدّ من الاعتناء به بل الاعتناء به أوكد من الأول فإن الشيء إذا عُلِم أن جنسَه مصلحة بالشرع فلا تضرُّ شهادةُ أصل معين له بالاعتبار أما حكمٌ جاءَ به الشرعُ فقلنا إنه إنما حكم به لكَيْتَ وكيتَ لاعتقادنا أن ذلك الأمر مصلحة وانه لا مصلحةَ فيه إلاّ ذلك فهذا خطرٌ عظيم وهو الصَّفا الزلاَّل ومن جرأةِ كثير من الجدليين أنهم يقولون هذا حكمة ومصلحة في نظر العقلاء أو في عُرف الناس ويكتفون بذلك في تقرير مناسبة الوصف وهم يعلمون أن أكثر الحكام الشرعية مما تقصر العقولُ الكاملة عن درك حِكَمِها ومصالحِها وان أكثر الناس أو كلّ الناس لا يعلمون ما هو الحكمة والمصلحة والمنفعة لهم في أمر الدنيا والآخرة فكيف يُستشهد على حكم أحكم الحاكمين لمجرد قول بعض الناس

وهذا لعمري تشبيهٌ في الأحكام قريبٌ من تشبيه القدرية في الأفعال الثالث أن يُعلم أن ذلك الحكم إنما شُرِع لأجل تلك الحكمة وإلاّ فقد تكون هناك حكمة غيرها يُشرَعُ الحكم لأجلها فإذا تبيّنَ هذه الأركان فالمناسبةُ باعتبار ذلك أقسامٌ أقعدُها أن يثبت الحكم محصِّلاً لأمر قد دلَّ الشرع على أنه حكمة ومصلحة وان تلك الحكمة مطلوبةٌ من ذلك الحكم كشَرْع العقوبات محصِّلةً للزجر عن الفواحش والقبائح وهذا يوجب المناسبة وهذا لا يختلف فيه أحدٌ من أهل العلم ويسمونه التأثير ثم ينقسم إلى ما يُؤثِّر عينُه في عين الحكم كتأثير الشدِّة المُطرِبة في التحريم تحصيلاً لمصلحة حفظ العقل التي تحصُلُ به المحافظةُ على ذكر الله وعلى الصلاة والانكفاف عن العداوة والبغضاء وكتأثير نقص العقل بالصِّغَر أو الجنون أو السَّفَه في ثبوت الولاية تحصيلاً لمصلحة حفظ أموالهم وكتأثير القتل العمد في إيجاب القصاص تحصيلاً لمصلحة الحَقْن والأوّل دلّ عليه قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [المائدة 91] فعُلِم أن هذه مفسدةٌ أبطلها الشرعُ بتحريم الخمر ومنشأ هذه المفسدة هو

الشدَّة المطربة والثاني دلّ عليه قوله فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء 6] دلّ على أن تسليم المال مع عدم الرشد مفسدةٌ أبطلها الشرعُ بالمنع من التسليم قبل إيناس الرشد الثالث دلَّ عليه قوله وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة 179] دلَّ على أن الحياة مصلحة إنما جعلها الشرع لنا بإيجاب القصاص بأن يسلم القاتل فلا يتعدَّى القتل إلى غيره من الأقارب والجيران كما كان أهل الجاهلية يفعلون مما أشعَرَ به لفظ القصاص وبأن يَعلمَ من يُرِيد القتلَ أنه لا يُعَاد لأولياء المقتول ويُمكَّنون منه فزجره ذلك عن فعل ما يَهُمُّ به وربَّما صارَ وازعًا لهم أيضًا وإلى ما يُؤثِّر عينُه في نوعِ الحكم كتأثير بعض الفعل في جنس الولاية أعني ولاية المال والنكاح والبدن وكترجيح قرابة الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الميراث عينًا وفي الحقوق نوعًا حتى يلحق به الغسل والدفن والصلاة الثاني أن يثبت الحكم محصّلاً لحكمةٍ ومصلحةٍ في نظر الشرع لا يدلّ النصُّ ولا الإجماعُ على أنه شُرِع ذلك الحكم لتلك المصلحة فهذا أقوى المناسبات التي تثبت الاستنباط لأن مناسبة الحكم لتلك الحكمة في الأولى ثبتتْ بنصّ أو إجماع وينقسم هذا إلى

مؤثّرٍ وملائمٍ الثالث أن يشرِع الحكم محصِّلاً لأمرٍ فهو حكمة أو مصلحة في نظر الناس ولم يُعلم أنه مطلوب في نظر الشرع ويسمى المناسب الغريب ويلزم من ذلك أن لا يكون الشرع قد دلَّ على أنه شرع الحكم لأجله وما دلَّ الشرع على إضافة الحكم إليه ولم يُعلم أن فيه مصلحةً لا يُعدُّ مناسبًا مثل أن يقال القاتل إنما حُرِمَ الإرثَ معاقبةً له بنقيضِ قصدٍ لأنه استعجلَ ما أحلَّه الله فمعاقبتُه بالحرمان إذا قَتَل قد يراها الناسُ مصلحةً وحكمةً وهذا دونَ الذي قبله لأنه يحتاج إلى شيئين إلى بيانِ أن هذا الأمر حكمةٌ وبيانِ أن الشرع إنما حَكَم لأجله وكلاهما إنما علمه بالاستنباط والنظر الرابع أن يعلم بالشرع أن الأمر حكمة ومصلحة ولا يشهد الشرع لاعتباره في ذلك السبب المعيَّن وهي المصلحة المرسلة التي شَهِدَ لها أصلٌ كلّيّ بالاعتبار وهذا كان السلف يعتبرونه كثيرًا وهو كثير في كلام الفقهاء أهلِ الفتوى وأما أهل الأصول فقد اختلفوا فيه الخامس أن يعتقدوا أن الأمر حكمةٌ ومصلحة ولم يشهد الشرعُ بأنه كذلك ولا اعتبرَه في سبب من الأسباب كعقوبات الناس بالمصادرات أو بأنواع من العذاب فهذا لا يكاد يلتفت إليه إلاّ شذوذٌ من الناس السادس أن يُعتقَد أن الأمر حكمة وقد اعتبره الشارع وحكم بخلافه فهذا باطلٌ باتفاق الناس وهو كاعتقادِ إبليسَ أنّ المخلوقَ من نارٍ لا يَسجُد للمخلوق من طينٍ لأن سجوده له خضوعُ الأعلى للأدنى

في نظر إبليس والحكمة ترفع الأعلى على الأدنى وكاعتقاد الكفار أن الربا لا مفسدةَ فيه بل هو كالبيع الذي يُبتَغى به الربح ففيه مصلحة وحكمة وكاعتقاد بعض الكفار أن شرب قليل الخمر فيه حكمة ومصلحة من غير مضرة لأنها تُصلِح المزاجَ ولا تُفسِد العقلَ وكأنواع هذه العقائد التي فيها مُشَاقَّةُ الرسولِ واتباعُ غيرِ سبيل المؤمنين وفي مثل هذه الأشياء قيل أولُ من قاسَ إبليس وإنما عُبِدَتِ الشمسُ والقمرُ بالمقاييس ولا خلافَ بينَ المسلمين أن ما عارضَ النصوصَ من القياس لم يُلتَفتْ إليه لكن قد يقع التعارضُ بين بعض دلالات النصوص وبين القياس فيَقوى ظنُّ بعضِ الناس بصحة القياس فيعتقد أن الشارع لم يُهدِر تلك المصلحة ويَقوَى ظنُّ آخرَ بدلالة لفظ الشارع فيُقدِّمه على ظنِّه ويُحكِّمه على عقله وهذا مقامٌ فيه للرجال مجالٌ رحب إذا تقرَّر هذا فاعلم أن كلامَ أكثر الجدليين إنما يَقعُ في القسم الثاني والثالث لأن الوصف الذي قد عُلِم إضافةُ الحكم إليه أو الحكمة التي قد عُلِمَ أن الحكم شُرِعَ لأجلها بالنص والإجماع لا يحتاج إلى مناسبته باستنباط المناسبة والمناسبة التي لم يشهد لها أصل معيَّن فلا يكادون يُدخِلونها في كلامهم إمّا لاعتقادهم عَدَمَ الاستدلال بها أو لانتشار

الأمر فيها على القياسيين فإنّ النظر فيها أسهل من المناظرة فيها أما القسم الأول فهو أقرب إلى الصحة وقد اشتهر الكلام فيه وأكثر الأصوليين يقولون به في الجملة ويُعبِّر عنه الخراسانيون أن مباشرة الحكم طريقَ الفعل الصالح لحصولِ المطلوب تُوجِب إضافةَ تلك المباشرة إلى ذلك المطلوب مثل مَن علمنا انه جائعٌ أو عارٍ ورأيناه يَسعَى في تحصيل ما يأكل ويلبس فإنا نقول إنما أخذَ هذا الطعامَ ليأكلَه وهذا الثوبَ ليلبسَه وإن جاز أن يكون أخذه ليُؤثِرَ غيرَه وكذلك من رأيناه أعطَ فقيرًا أو أكرمَ عالمًا أو زارَ قريبًا نقول إنه فعل ذلك لأجل الفقر والعلم والقرابة وكذلك من رأيناه يُؤدِّي الفرائضَ ويَجتنبُ المحارمَ نقول إنه إنما فعل ذلك لطلب الثواب والنجاةِ من العقاب ومثاله في الأحكام الشرعية أنَّ إعطاءَ المحاوِيج وسَدَّ المَفَقِر لما كان أمرًا مطلوبًا في نظر الشرع وهو حكمةٌ ومصلحةٌ قد علمنا ذلك بنصوصٍ كثيرة وكذلك البراءةُ من حبِّ المال وشكرُ اللهِ عليه ثم رأيناه قد أوجبَ الزكاةَ المفضي من وجوهٍ إلى إعطاءِ المحاويج والبراءةِ من الشُّحِّ وشُكرِ النعمة نقول فرض الزكاة لذلك وحِفْظُ العقلِ لما كان حكمةً في نظر الشرع حتى حرَّم المسكرات فإذا أَمَر بالحدِّ لذلك نقول إنما أمر بالعقوبة على ذلك ليَحفظًَ العقول وأمثلة ذلك كثيرة والدليل على ذلك وجوه

أحدها أن هذا الحكم لابُدَّ له من حكمةٍ ومصلحةٍ لأن الحكم العاري عن المصلحة عَبَثٌ والحكمة إمّا هذا الأمر أو غيره لكن غيره معدوم بالنافي المستمر فيتعيَّن هذا الأمر ولهذا نقول إذا رأينا أمرًا حادثًا يفتقر إلى سببٍ ورأينا هناك سببًا صالحًا أضفناه إليه كما يضيف الزهوق إلى الجرحِ المتقدم فيوجب جزاء الصيد بذلك على المُحرِم ويوجب القصاص على الفعل ويُبيح الصَّيدَ للرامي الثاني أنّا إذا تأملنا أكثر الصُّوَر وجدنا الحكم فيها مضافًا إلى تلك الحكمة المعلومة الظاهرة فيُلحَق الفردُ بالأعم الأغلب كما إذا علمنا أن الغالب على أهل بلدةٍ صفة ثم رأينا واحدًا منهم سَحَبْنَا عليه ذلك الغالب ولذلك جاز قتلُ مَن دار الحرب ومَن في صَفِّ الكفّار مع تجويز أن يكون مسلمًا ولولا أن دِيْلَ الغالبُ على الأفراد وإلاّ لما قيل بالأصل المحرّم لقتل المعصوم الثالث أنّا نجد الناس إذا رأوا فعلاً ورأوا له سببًا مناسبًا أضافوه إليه كما لو رأوا الأمير قد قتل جاسوسًا أو مرتدًّا أو قاطعَ طريقٍ قالوا قتلَه لذلك الوصف المناسب مع تجويز أن يكون هناك سببٌ آخر ولولا أن علمهم بأن مباشرة الفعل الصالح لحصول المطلوب تَقتضي إضافة ذلك الفعل إلى ذلك المطلوب لما استجازوا تلك الإضافة وإذا كان هذا من عُرفِ الناس يَرونَه حسنًا وَجَبَ اتباعُهم لقوله

تعالى الرابع إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا في مثل هذه الأشياء وجدنا ظنًّا غالبًا على قلوبنا بإضافة الحكم إلى ذلك السبب كما نجد العلومَ الضرورية عند وجود أسبابها والعمل بالظنّ الغالب إذا لم يعارضه ما هو مثلُه أو أقوى منه واجبٌ لأنّا إن اتبعنا الراجح والمرجوح كان جمعًا بين الضدّين وإن تركناهما جميعًا خَلَتِ الحادثةُ عن حكمِ وفي ذلك ضررٌ في الدين والدنيا وإن عَمِلْنا بالمرجوح لم يَجُز بالضرورة فتعيَّن اتباعُ الراجح وليس بعده إلاّ التوقُف ولهذا قال الإمام أحمد ليس القياس على كلّ أحدٍ وإنما هو على الأمير والحاكم يَنزِل به الأمرُ فيجمعُ له الناسَ ويقيس ويشبّه كما كتب عمر إلى شريح اعْرِفِ الأشباهَ والمثالَ وقِسِ الأمورَ برأيِك فخَيَّر من لا يجب عليه الحكم بين القياس لوجود الرجحان وبين التوقف لجواز أن لا يكون حقًّا بخلاف من يجب عليه الحكم فإن عليه إنفاذ الحكم ولا يمكنه إلاّ بما ذكرناه الخامس أن نقول قد دار إضافة الفعل الصالح لحصول المطلوب على حصول المطلوب مع الفعل الصالح في صور كثيرة

تفوق العدَّ والإحصاء بحيث تُوجَد هذه الإضافة إذا وُجِد الفعل الصالح وتُعدَم إذا عدم وذلك يوجب كون المدار علةً للدائر فعُلِم أن علة الإضافة إلى المطلوب وجود الفعل الصالح لحصول المطلوب والفعل الصالح حاصلٌ في هذه الصورة فتوجد الإضافة وهو المقصود والاحتجاج بالدوران على صحة المناسبة هكذا أجود لما سنذكره إن شاء الله وإن شئتَ أن تقول كون السبب المناسب علةً للحكم قد دار مع المناسبة وجودًا وعدمًا في مواضعَ تفوقُ العدَّ والإحصاء والدوران يُوجب كونَ المدار علةً للدائر فثبت أن المناسبة توجب كونَ المناسب علةً للحكم وأما كلام المصنف فقوله الوجوب ثابتٌ في المضروب بالإجماع فكذا في صورة النزاع بالقياس عليه لأن الوجوب في المضروب إنما كان تحصيلاً للمصالح المتعلقة بالوجوب كتطهير المزكي وغيره بشهادة المناسبة واعلم أن هذا المثال لا يَحسُن أن يمانع في كون الوجوب إنما كان تحصيلاً للمصالح المتعلقة بالوجوب من تطهير المزكي من الذنوب والأدناس وتزكية نفسه وعمله كما أشار إليه قوله خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة 103] وقوله وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) [الليل 17 - 18] وقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) [الأعلى 14 - 15] وقوله أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة 104] وقوله صلى الله عليه وسلم الصدقةُ تُطفِئ الخطيئة كما تُطفِئ الماءُ النار وما فيها من دفع البلايا أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه مثلُ البخيلِ والمتصدّق مثل رجلين عليهما جُبّتان أو جُنَّتانِ من لَدُنْ ثُدِيِّهما إلى تَراقِيْهما فأما المنفِق فلا يُنفِق إلاّ سَبَغَتْ أو وَفَرتْ على جلده حتى تُخْفِيَ بَنَانَه وتَعفُو أثرَه وأما البخيل فكلما أراد أن يتصدق فلَصِقَتْ وأخذتْ كلُّ حَلْقةٍ مكانَها فهو يُوسّعها فلا تَتسع أخرجاه وقوله صلى الله عليه وسلم الصدقة وفيها من شكر النعمة ومواساة المحاويج وغير ذلك من المصالح المطلوبة لكن يقال سلَّمنا أنها وجبت في المضروب لمصالح متعلقة بالوجوب أو لهذه المصالح المعينة لكن لِمَ قلتَ إن هذه المصالح موجودة في الفرع أو لِمَ قلتَ إن في إيجابها في الحُلِيَّ مصالح فضلاً عن هذه المصالح إيجاب الزكاة في المضروب يُضاف إلى القدر المشترك وأن المصالح متعلقةٌ بها وهلاّ جاز أن يُضافَ إلى المختص بالأصل أو الوجوب مضافٌ إلى مطلق المصلحة إلى نوعٍ منها أو إلى قدرٍ منها أو إلى نوعٍ وقدرٍ منها الأوّل ممنوع والبواقي

وإن سلَّمتْ فيم قلتَ إن صورة النزاع تشارك الأصل في نوع المصلحة أو قدرها وتوجيه المنع من وجوه أحدها أن المصالح المتعلقة بالوجوب في المضروب إنما تكون ثابتة في الحُليّ إذا ثبت أن الحُليَّ مثل المضروب في تلك المصالح وهذا لم يدلّ عليه الثاني أن المصالح إنما تكون مصالح إذا تجردت عن المفاسد أو ترجحتْ عليها وإيجابُها في الحليّ ليس كذلك لأن إيجابها في الحليّ يُفضِي إلى كسرِه وتنقيصِ الحليّ ومنعِ المتحلِّية من التحلِّي بحلي مباح وما أفضَى إلى منع المباح يكون مفسدةً فلا تكون مصلحةُ إيجابِه في الحلي خاليةً عن مفسدةٍ وإيجابُه في المضروب خالٍ عن المفسدة لأن المضروب إنما اتُّخِذ للإنفاق وليس في إخراج الزكاة منه منعٌ من شيء مباح أو نقول إن كان فيه مفسدة فهي مرجوحة بدليل إيجاب الزكاة فيه والمفسدة التي في الحلي لم يثبت أنها مرجوحة إذ لو ثبت ذلك بإيجاب الزكاة فيه كان دوران ثبت بغيره فهو دليلٌ مستقل يغني عن المناسبة الثالث أن يقال إن المصالح المتعلقة بالوجوب لفظٌ مبهم يحتمل مصالح متعلقة بوجوب الزكاة في كلّ مال فإن ذلك فيه تَطْهيرٌ وتثميرٌ وتكفيرٌ ويحتمل تعلُّقها بوجوب الزكاة في الأموال الزكوية في كلّ مقدار ويحتمل تعلُّقها بالوجوب في الأموال الزكوية في قدر مخصوص ويحتمل تعلُّق المصالح بالوجوب في الأموال الزكوية إذا

بلغت مقدارًا مخصوصًا وكانت على صفةٍ مخصوصةٍ فإن ادَّعى الأقسام الأول لَزِمَه أحدُ أمرين إمّا أن يتخلف المعلولُ عن علّته أو مخالفة الإجماع وكلاهما محذورٌ وإن ادَّعى الثاني فعليه أن يُبيِّن أن المصوغ على صفةٍ تجب فيه الزكاة ولا يكفي في ذلك ما ادعاه من المناسبة إذ لا دلالةَ فيها على قدرٍ أو نوعٍ أو صفةٍ الرابع هَبْ أنّ ما ادعاه من المصالح المتعلقة بالوجوب مقتضٍ لوجوب الزكاةِ فهو مقتضٍ على كل تقديرٍ وجودَ سائرِ الشروط وهي الحول والنصاب والنوع وأن يكون المال ناميًا أو مما يُعدُّ للنَّماءِ فإن ادَّعى الأول فهو باطلٌ بالإجماع وإن قال التخلُّف لمانعٍ لَزِمَه تركُ الدليل المقتضي وهو خلاف الأصل وإن ادَّعى الثاني فعليه بيانُ حصولِه في الفرع وحينئذٍ يحتاج إلى فقه المسألة فلا تنفعه الصناعة الجدلية وإن قال أحد الأمرين لازم وهو إما بطلانُ ما ذكرته من المقتضي أو تركُ العمل به في صورة النقض لمانعٍ من خارجٍ لكن بطلان ما ذكرنا يلزمُ منه تركُ العمل به فيما عدا صور النقض المانع وإذا دارَ الأمرُ بين تركِ العمل بالدليل لغير مانعٍ من خارج وبين تركِ العمل به لمانعٍ من خارج كان تركُ العمل به لمانعٍ من خارج أولى لأن هذا ليس إبطالاً له بالكلية بخلاف ترك العمل به لا لمانع ولأنه بتقدير المانع لا يكون الدليل موقعًا في الجهل والضلال كما إذا كان متروكًا لا يعارض

قلنا لا نُسلِّم أن ما ذكرته يدلُّ على صحة ما ادعيتهَ من المناسبة على الإطلاق حتى يكون تركُه في بعض الصور تركًا للدليل وهذا لأنك إنما رأيتَ الحكيم قد أوجبَ الزكاة في بعض الصور في بعض الأموال وفي بعض الأنواع على بعض الوجوه للمصالح المتعلقة بالوجوب فينبغي لك أن تعتقد المناسبةَ للأمور التي لها تأثير في الإيجاب وما جاز أن يكون مقتضيًا للوجوب وجاز أن لا يكون مقتضيًا لا يثبت إلا بدليل وهذا كرجلٍ غنيّ كثيرِ المال سألَه فقير قريب عالمٌ فأعطاه مئةَ درهم فقد دلَّت المناسبة على أنه إنما أعطاه لما في الإعطاء على هذه الوجه من المصالح فلو سأله رجلٌ آخر ليس بفقير أو ليس بقريب وقد قلَّ مالُ الرجل وصارَ له عيالٌ ولم يَتركوا له عفوًا وقد سأله ألف درهم فإنا لا نعلم أنه يُعطيه لما في الإعطاء من المصلحة وذلك لأن المصلحة في الإعطاء الأول كان تحصيلُها متيسِّرًا فجاز أن يكون تيسُّرها أحد الأسباب المقتضية لحصولها فإنه وصفٌ له تأثيرٌ في الحكم بخلاف الإعطاء في المرة الثانية فإذا وجبت الزكاة في مالٍ على وجهٍ فيه تيسيرٌ فلماذا يلزم أن يجبَ على وجهٍ فيه تعسيرٌ وإن ادعى أن لا تعسير فيه خاض في فقه المسألة والغرض أن نبين فساد الطريقة الجدلية وأنه لابدَّ عند التحقيق من الرجوع إلى المعاني الفقهية والتأثيرات الحكمية وإذا لم يتبين أن المناسبة المذكورة مقتضيةٌ الزكاةَ على الإطلاق ولا في كل مال لم يكن عدمُ إيجابها في بعض الصور تركًا لدليلٍ أصلاً بل تكون دعوى ما

يوجبَ ترك العمل بالدليل من غير دليلٍ على الموجبة وهذا لا يجوز الخامس أن يقال قد ترك العمل بما ذكرته من الدليل في بعض المواضع وهو ثياب البِذْلة وعبيد الخدمة وإبل الكراء فتُخصّ منه صورة النزاع بالقياس على تلك الصورة بجامع ما يشتركانِ فيه من الحاجة إلى عين المال والإخلال ببعض المصالح المباحة إيجاب الزكاة فيه ويعود الكلام إلى فقه المسالة وقياس التخصيص من أقوى الأقيسة عند أصحاب هذا الجدل السادس أن ما ذكرتَه من المناسبة المقتضية للوجوب المطلق يُعارَض بالمناسبة النافية للوجوب وذلك أن الوجوب منتفٍ عن ثياب البِذْلة وعبيد الخدمة مع قيام المقتضي وهو ما ذكرته من المناسبة وما ذاك إلاّ لمانعٍ فيها وهو الاحتياج إليها في المنفعة المباحة بشهادة المناسبة والدوران فإن المانع لو كان للضرورة أو الحاجة الأصلية لوجبتْ فيما زاد على الحاجة من العبيد والثياب والدوابّ وهذا المانع يتحقق في صورة النزاع لأنّ إيجاب الزكاة يَمنَعُ الانتفاع المباح فيتحقق المنع لأن ما ذكرته من المانع قد ثبتَ مقتضاه عند معارضته ما ذكرته من المقتضي وثبوتُ دليلِ مدلول أحد الدليلين عند التعارض يُوجب رجحانَه ولأن ما ذكرته من المانع معتضَدٌ بالأصل الثاني للوجوب

والدليلانِ أقوى من دليل ولأن ما ذكرته من المانع لم يتخلَّف عنه مقتضاه وما ذكرته من المقتضي قد تخلَّف عنه مقتضاه لمانعٍ والدليل الذي لم يُترَك العمل به راجحٌ على ما تُرِك العمل به ولأن ما ذكرته من المناسبة يثبتُ فيها استواؤهما في المصلحة المقتضية للوجوب لأن الجامع في الأصل والفرع هو المقتضي للحكم فإذا تميَّزَ قدرًا أو نوعًا كان القائسُ به محيطًا بمأخذ الحكم بخلاف الجامع المبهم الذي لم يتميَّز عن غيرِه فإنّ صاحبه لم يُحِط علمًا بمأخذ الحكم ومناطِه ولأنك جمعتَ المعنى الأعم وإنما جمعت بالمعنى الأخصَّ وإذا كانت إحدى العلَّتين أشدَّ تقريبًا بين الأصل والفرع كانت أولى من التي لا يَشتدُّ تقريبُها ولا شكَّ أن المعنى الأخصّ يُقرِّب الفرعَ من الأصل أكثر وإذا كان مدار القياس على التشبيه والتمثيل فحيثُ ما كان القدرُ المشترك أخصَّ كانت المشابهة والمماثلةُ أتمَّ فتكون حقيقةُ القياس أقوى فتكون أولى ولآنّ ما ذكرتَه يَقتضى مصلحةَ في الوجوب وما ذكرته يَقتضي مفسدة واحترازُ الحكيم عن المفسدة أشدُّ من طلبِهِ المصلحة ولهذا قال ابن عباس لا أَعدِلُ بالسلامة شيئًا فإن النجاة رأس المال

وذلك أنه إذا لم يحصل الإيجاب بقي الأمرُ كما كان أمّا إيجابٌ يتضمن مفسدةً ففيه تغييرٌ للأمر بالإفساد والاحتراز عنه متعينٌ بما أمكن واعلم أن هذه المناسبات المطلقة من غير بحثٍ عن خصوص فقه المسائل لا تُحِقُّ حقًّا ولا تُبطِلُ باطلاً بل يمكن ردُّها كلها بما ذكرناه وبغيره من الطرق وهي من جنس إثبات التلازمات العامَّة والدورانات العامّة فإن الجمع بين الأصل والفرع بالقدر المشترك بينهما كائنًا ما كان من غيرِ دلالةٍ على صحة الإضافة إلى خصوصه كإثبات اللازم على تقدير وجود الملزوم بما يدلُّ على وجودِه مطلقًا من غير اختصاصٍ بذلك التقدير وكتعيين بعض الصفات مدارًا من غير مختصٍّ يُرجِّحه على سائر الصفات المدارية هذا كلُّه مبنيٌّ على محض التحكُّم والترجيح بلا مرجّح وعليه مبنى عامة كلام الجدليين المموِّهين وأما بقية كلامه في قوله ونَعنِي بالمناسبة مباشرةَ الفعل الصالح لحصول المطلوب إلى آخره فكلامٌ قريبٌ وهو قولُ من يأخذ بالمناسبات المستنبطة وهم أكثر الأصوليين ولهذه المناسبة ثلاثة أركان أن يُباشرَ فعلاَ صالحًا لحصولِ مطلوب ونَعنِي بصلاحية الفعل أن يكون موجبًا له أو مغلِّبًا له بحيث يكون وجودُه معه أكثر أو أن يكونَ مدارًا له بحيث يُوجَد بوجودِه ويُعدَم بعدمه

وقولهم مباشرة الحكُمْ أو مباشرة الفعل جيّد في حقّ العباد وأما في حقّ الله فلا يَصحُّ هذا اللفظ لأنه لا يوصف بمباشرة الحكم وليست الأحكامُ إلاّ كلامَه أو مُوجَب كلامه وتلك لا يُباشِر ها وأيضًا فإن الأحكام ليست فعلاً بل قولاً من الله وعليه سؤالٌ آخر وهو أن المباشرة ليست هي المناسبة بل المباشرة المذكورة دليل على أنها إنما وقعت لأجل تحصيل المطلوب فهي دليلٌ على أنها علةٌ فاعلةٌ للمطلوب وأنّ المطلوب علةٌ غاييَّةٌ لها والاستدلال بالفعل على بعض صفاته أمرٌ واقعٌ كثيرًا يُبيِّنُ ذلك أن المناسبة مصدرُ ناسبَ الشيءُ الشيء يُناسِبُه إذا وافقَه ولاَءَمَه أو كان بينه وبينه ما يُوجِب نسبةَ أحدِهما إلى الآخر كنسبة الولد إلى والدِه والحكمِ إلى الوصف وهذه الخاصَّةُ التي تُوجِبُ انتسابَ أحدهما إلى الآخر لابُدَّ أن تكون ثابتةً لهما بأنفسهما أو بما يجري مَجرى أنفسهما بحيث يَحسُن في العقلِ إذا أدرك الأمرينِ أن يقول هذا منسوب إلى هذا ومضافٌ إليه ومصدرُ المفاعَلةِ ليس قائمًا بأحد المتفاعلين دون الآخر فإذّنْ المناسبةُ صفة إضافية بين الوصف والحكم وبينه وبين الفعل وبين الحكم والحكمة وبين الفعل والحكمة والمباشرة المذكورة هي الوصف المناسب أو محلُّ

الوصف المناسب فكيف يكون هو المناسبة وهذا كرجلٍ رأيناه يُعطِي فقيرًا فإن مباشرة الإعطاء الصالح لحصول المطلوب من إغناءِ الفقير يَدُلُّ على أنّ مباشرة الإعطاء إنما كان للفقر فالإعطاء يناسبُ الفقر وليس هو مناسبة الفقر وتصحيح كلامهم أن يكونوا عَنَوا بالمناسبة نفسَ الشيء المناسب تسميةَ الفاعلِ بالمصدر كالعدل والصوم وعُذْرهم عن إطلاق المباشرة والفعل أنهم أرادوا المخلوق ثم إذا ثبتَ الحكم فيه فهم المعنى ومنهم من قال يُعنَى بالمباشرة إرادة الفعل وإثباته مطلقًا قوله والوجوب طريق صالح لحصول ذلك المطلوب كلام صحيح قوله لو وُجِد يُوجَدُ ذلك المطلوب ولولاه لا يوجد مع ما فيه من رِكَّةِ التركيب ليس بجيّد لأنه لا يلزم من وجود الوجوب وجودُ المصلحةِ المتعلقةِ من تطهُّرِ المزكِّي إلا إذا فعلَ المكلَّفُ الواجبَ والمكلَّفُ قد يعصى ويترك الواجب كثيرًا فكيف يكون مجرَّد الإيجاب موجبًا لحصولِ المطلوب فإن المصلحة المتعلقة بالوجوب من تطهير المزكِّي وتمييز المال وتكفير السيئات ومواساة المحتاج وشكر النعمة وغير ذلك من الأمور تَحصُل كثيرًا بدون الوجوب إمّا بفعلِ الناس على وجه الندب أو بأسبابٍ أُخَر أو بفعلِ الله وإنما الصواب أن يقال لأن الوجوبَ مُغلِّبٌ لوجودِ تلك المصالح وعدمُ الوجوب مُقلِّلٌ لها لأنه إذا وجبَ انبعثَ الداعي إلى الفعل خوفَ العقاب على الترك فيكثُر الوجود وإذا لم يجبْ فَترتِ الهِممُ عن العمل إلاّ

نفوسًا تطلبُ الفضائل وهي قليلةٌ فيكون حصولُ المطلوب بتقدير الوجوب أكثر وذلك يُوجبُ اعتقادَ المناسبة فإن الحكيم كما يسلك طريقًا لا يحصل مطلوبه إلا بها فيسلك الطريق التي هي أقرب إلى حصولِ مطلوبه هذا على ما قرَّره وإلاّ فيمكن تقرير المناسبة على وجه الإيجاب بأن يقال الوجوبُ محصِّلٌ لهذه المصالح وهدم الوجوب نَحصُل معه مفاسد وهو ضررُ المحاويج والحرصُ على حبّ المال وغير ذلك ولا تندفع هذه المفاسد إلاّ بالوجوب فيكون في الوجوب تحصيلُ المصالح ودَرْءُ المفاسد ويمكن تقريرُه على وجهٍ آخر وهو أن المصالح الحاصلة بالوجوب لا يجوز حصولُها بدونه إذ لو جاز ذلك لكان فيه تعريضُ العباد للعقوبة من غير مصلحةٍ وحكمةٍ والله أرحمُ بعبادِه من الوالدة بولدها ولأن مصلحة الوجوب لو سَاوَتْ مصلحة عدم الوجوب لكان الوجوبُ زيادةً عبثًا من غير فائدة وحكمُ الله لا يجوز خُلوُّه عن فائدة قال في تقرير موجبية المناسبة لأن الظنّ بالإضافة دار مع المناسبة إلى آخره وقد تقدم هذا كلامٌ مستدركٌ من وجوهٍ أحدها أن ظنّ الإضافة إلى المطلوب إذا حَصَلَ في صور وجود المباشرة كان ذلك وحدَه دليلاً على صحة إثبات العلة بالمناسبة وإذا

لم يحصل فقد انتقض ركنُ الدوران فإن قلتَ نحن ندَّعي دورانَ كلِّ ظنٍّ مع المناسبة المعتبرة لدوران الظنّ معها في صورٍ كثيرةٍ وجودًا وعدمًا قلتُ فالظن الحاصل في تلك الصور لابدَّ أن يكون حصولُه ضروريًّا وإلاّ فلو منعَ الخصمُ حصولَ الظنِّ لم يُدفَع إلاّ بأنه مكابرٌ للحقائق وإذا كان لابدَّ من دعوى حصول الظن في بعض صور المناسبات ضرورةً أو في جميعها فإن وحصول ظن الإضافة إلى الوصف المناسب عند حصول المناسبة المعتبرة أمر ضروري لا يُمكن العاقلَ أن يدفعه عن نفسِه وذلك أتمُّ من الدوران الثاني أن عدم الدائر مع عدم المدار هنا غير بَيِّن وذلك لأن الدائر هو ظنُّ إضافة الفعل إلى الأمر المطلوب والمدار هو مباشرة الفعل المذكور فإذا عُدِمَ مباشرة الفعل الصالح فقد عُدِمَ محلُّ الدائر لأن ظنّ إضافة الفعل لا يكون إلاّ بعد وجود فعل الدوران المعروف أن يبقى محلَّ الدائر حتى يكون انتفاء الدائر عنه تبعًا للمدار دليلاً على أن المدار علة كما إذا قيل شرب الدواءَ فأطلَقَه ثم تَركَه فاحتبَسَ فإذا عُدِمَ الدواء عُدِم الإطلاقُ والبطنُ موجود الثالث أن المناسبة تارةً تُفيد اليقين وتارةً تُفيد الظنَّ كالدوران فإنّا إذا رأينا رجلاً قد أضجعَ رجلاً وبيده مُدْيَةٌ حادَّةٌ فقطعَ

بها رقبتَه فعُلِمَ قطعًا أن مباشرتَه للفعل الصالح للزُّهوقِ كان دليلاً على أنه قَصَدَ الزُّهوق يعني نحكم بأن ذلك عمدًا والعمديَّةُ من صفات القلب ونقتله بذلك وأمثلتُه كثيرةٌ فكان ينبغي أن يذكر القدر المشترك بين العلم والظن وهو الاعتقاد الرابع أن الذي توجبه المناسبةُ قطعًا أو ظاهرًا أو تستلزِمُه عِلِّيّةُ الأمر المناسب وإضافة الفعل إليه بمعنى أن الفعل قصده وهذه العليِّة والإضافة أمرٌ ثابت في نفسه سواء كان هناك من يظنُّ أو لم يكن من يظنُّ كما أنّ الأكل في نفسِه يستلزم قصد الآكلِ السبعَ أو التلذذ ونحو ذلك وكذلك سائر الأمور الدالة هي في أنفسها على صفاتٍ تُوجِب مدلولاتها قطعًا أو ظاهرًا وإنما ظنُّ الإنسان تابعٌ للدليل عليه في نفسه هذا مذهب المحققين بخلاف من اعتقدَ أن الظنون أمورٌ اتفاقية لا مُوجِب لها ولا تقديم فيها ولا تأخير وبَنى على ذلك أن لا حكمَ للهِ في الظنيات إلاّ ما أوجبته هذه الظنون فإنا نعلم بالاضطرار أن إخبار العدلِ على صفةٍ توجب لمن كان خاليًا عن العقائد اعتقادَ رجحانِ صدقه على كذبه وهو ظانٌ لذلك فإن العلم بأن الشيء راجحٌ على نفسه شيءٌ واعتقاد مُوجِب هذا الرجحان ومقتضاه شيء آخر وإذا كان كذلك فالواجب أن يُجعل المدار علةً للأثر القريب وهو العلّية والإضافة ثم يجعل ذلك موجبًا للظن الخامس أنه إنما أثبت بذلك أن المناسبة تُفيد ظنَّ الإضافة

وهذا الظنُّ حاصلٌ بنفس معرفة المناسبة قبلَ العلم بدوران الظنّ مع المناسبة فيكون ذكر الدوران ضائعًا بل ليس الظن الحاصل بهذا الدوران أقوى من المناسبة وقد يكون بالعكس والذي دلَّ عليه أكثر الناس أنّ إثباتَ العلّة بالمناسبة أقوى من إثباتها بالدوران حتى إذا تعارضت علتانِ من هذبن النوعين رجحت المناسبة على الدورانية فإذا كانت المناسبة أقوى كان إثباتها بالدوران يوجب نقصها عن الدوران موجبه في الجملة وعلى صحة دورانها من غير معارض وجَعْلُها بحيث تضعفُ عن الدوران غير جائز قال المصنف الجدلي ولئن قال الحكم في الأصل لا يُضاف إلى المشترك فإن الأصل راجح على الفرع وإلاّ لما ثبت الحكم فيه بالنافي أو بالقياس على النقض السالم عن معارضة كونه راجحًا والحكم ثابت فيه متحقق الرجحان والرجحانُ مانعٌ من الإضافة أو ملزوم لعدم الإضافة وإلاّ لكان الحكم في الأصل مضافًا إلى المشترك بينه وبين النقض بالمناسبة السالمة عن معارضة كون الرجحان مانعًا أو ملزومًا ولا يضاف بالاتفاق هذا اعتراض مجمل من جنس تقرير مناسبة الوصف لكنه اعتراضٌ جيّد يَقدح في المناسبات العامة وحاصله أن السائل يقول الموجِب للحكم في الأصل وهو المضروب مثلاً إما أن يكون هو

المشترك بينه وبين الفرع الذي هو المصوغ وهو ما يشتركان فيه من حصولِ المصلحة بالوجوب وإما أن يكون حق الموجب أو شرط الموجب ما يختص بالأصل فإن كان ما يختص به الأصل داخلاً في الموجب بأن يكون في الأصل من أسباب الوجوب المقتضية له ما ليس في الفرع امتنع إلحاق الفرع فيه لعدم تلك الخصيصة فيه وإن ادَّعى أن الموجب هو القدر المشترك فهذا باطلٌ لأن موجبية القدر المشترك يُعارضُه ما ينفي الوجوب وتخلف الحكم عنه في صورة النقض وهي ثياب البِذْلة وعبيد الخدمة مثلاً فإن المشترك موجود فيه مع تخلف الحكم ولا يلزم ثبوت الحكم في الأصل لأن ما اختصّ به من الرجحان جاز أن يكون مانعًا عن العمل بالنافي أو بالمعارض في صورة النقض وذلك المرجح ليس هو موجودًا في الفرع والتزامه مخالفة للأصل لدليل قويّ لا يلزم منها مخالفته لما هو أضعف منه فيرجع حاصلُه إلى المعارضة بأن النافي أو المعارض للوجوب في الأصل والفرع قائمٌ فيجب أن ينفي الوجوب مطلقًا ترك العمل بنفي الأصل فيجب أن يكون لمعنًى يختصّ الأصل فلا يجوز ترك العمل به في الفرع وإنما قلنا إنه لمعنى يختصّ الأصل لأن ترك العمل به على مخالفة الأصل وما ثبت على خلاف الأصل فكثرته أيضًا على خلاف الأصل فلا يلزم من التزام مخالفة الأصل في موضعٍ التزام مخالفته في بقية المواضع لما فيه من تكثير المحذورات وهذا معنى قوله لا

يضاف الحكم إلى المشترك لأن الأصل راجح على الفرع إذ لولا رجحانه عليه لما ثبت الحكم فيه قياسًا له على صورة النقض وهو عبيد الخدمة مثلاً وهو قياسٌ سالمٌ عن معارضة الرجحان الثابت فيه وعملاً بالنافي المانع من الوجوب وهو استصحاب براءة الذمّة والنافي للضرر الناشئ من الوجوب بتقدير الفعل أو الترك وهذا النافي والقياس مانعان من ثبوت الحكم بكل حال فلو لم يكن الرجحان معارضًا لهما لزمَ العمل بالنفي السالم عن معارض وطرده عند السائل الفرع فإنه لما لم يكن هذا الرجحانُ ثابتًا فيه عَمِلَ النافي للوجوب عملَه فالسائل يقول القياس على صورة النقض واستصحاب براءة الذمة والنفي للضرر يمنع الوجوب مطلقًا لكن إنما ترك العمل به عند معارضة ما في الأصل من المعنى الراجح وذلك المعنى مفقود في الفرع قال ولولا الرجحان لزم العمل بهذه الأدلة فيمتنع الوجوب والوجوب ثابت فعُلِمَ وجودُ الرجحان وإذا كان الرجحان ثابتًا في الأصل امتنعت الإضافة إلى القدر المشترك بين الأصل والفرع فيكون الرجحان مانعًا من الإضافة أو مستلزمًا لعدم الإضافة إذ لو لم يكن مانعًا لوجب إضافة الحكم إلى القدر المشترك بين الأصل وبين صورة النقض لاشتراكهما في المناسبة النافية للوجوب على هذا التقدير إذ ليس في الأصل رجحانٌ يقتضي الوجوب على تقدير عدم الرجحان فلو جازت الإضافة إلى المشترك بين الأصل وبين صورة النقض لزم انتفاءُ الحكم عن الأصل وهو باطلٌ بالاتفاق

وتقرير السائل لمناسبة المشترك بين الأصل وصورة النقض على وجهٍ جملي كتقرير المستدلِّ المشترك بين الأصل وبين الفرع على وجهٍ جمليّ فقد عارض السائل القياس المقتضي للوجوب بقياسٍ يقتضي المنع وبالنافي للوجوب وبنى الكلام على مقدمتين إحداهما أن الأصل راجحٍ على الفرع والثانية أنه إذا كان راجحًا على الغير فرعًا ونقضًا فإن ذلك يمنع الإضافة إلى المشترك إذ لولا ذلك لأضيف المشترك بينه وبين صورة النقض بالمناسبة السالمة عن معارضة كون الأصل راجحًا أو ملزومًا والإجماع بخلافه فإنهم أجمعوا على افتراقهما في الحكم والإضافة بلزومه لعدم افتراقه فإن قال المستدل لا أسلّم أن الإضافة إلى المشترك مستلزمة لعدم الافتراق فإنه إنما يضاف إلى المشترك بين الأصل والفرع أو يجوز أن تكون صورة النقض اختصَّت بمانعٍ قيل له هذا السؤال يَقدح في استدلالك فإنك إنما أصبتَّ الإضافة إلى المشترك بين الأصل والفرع بمثل ما أثبتَّ به الإضافة إلى الأصل وصورة النقض وجواز اختصاص صورة النقض بمانعٍ كجواز اختصاص الفرع بمانع قال الجدلي فنقول لا نسلِّم بأن الأصل إذا لم يكن راجحًا

لما ثبتَ الحكم فيه بل يثبت بالمقتضي أو بالقياس على الوجوب في أحدهما أعني الأصل والفرع هذا معارضة لما ينفي الوجوب على تقدير عدم الرجحان بما يثبت الوجوب فتندفع معارضة السائل بهذه المعارضة ويبقى الدليل الأول سالمًا عن المعارضة وحاصله أن هذا المستدل مع المقدمة الأولى وهي قوله إن الأصل راجحٌ على الفرعِ يقول لا نُسلِّم عدمَ ثبوت الحكم في الأصل على تقدير عدم الرجحان بل يثبت الحكم فيه بالمقتضي للحكم وهو قوله سبحانه وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] فإن منع دلالة النصّ على هذا الحكم لم يقبلوا ذلك منه وبالقياس على الوجوب في أحدهما أعني الأصل والفرع أي يقيس على أحدهما بغير عينه لأن الحكمَ ثابتٌ في أحدهما ضرورة أما عنده فلأنه ثابت في كليهما وأما عند المعترض فلأنه ثابتٌ في أحدهما وهذا من أفسد القياس لأنه يريد إثبات الحكم في الأصل على تقدير عدم رجحان الأصل فقد قاس الشيء على نفسه فإن قاسَه عليه على تقدير وجود الرجحان فقد قاسه مع تصريحه بالفارق وأما قياسٌه على الفرع فأبعد وأبعد فإن الحكم في الفرع ليس بمنصوصٍ ولا مجمع عليه ولا مدلول عليه لأنه إلى الساعة لم يتم الدلالة عليه ولأنه إنما يتكلم في إثبات حكم الفرع فكيف يجعلُ حُكْمه مقدمةً في

إثبات نفسه هذه مصادرة على المطلوب وليس له أن يقول قد ثبت الحكم في الفرع بما ذكرناه من القياس لأن ذلك القياس إنما يجب تسليمُ مدلولِه بعدَ الجواب عن المعارضة وإنما يحصلُ الجواب عن المعارضة بثبوت الحكم في الفرع وإن قال أقيس على أحدهما غير معين قيل له لا يصحُّ القياس على واحدٍ منهما لا بعينه ولا بغير عينه لما بيَّناه لأنه إذا بطل القياس على كل واحدٍ واحدٍ فبطلانُه على أحدهما منهما أظهر وأيضًا فإن السائل منع الحكم على التقدير كما سيأتي قال المصنّف ولئن منع الحكم في أحدهما على التقدير فنقول الحكم متحققٌ في أحدهما إمّا في الواقع أو على ذلك التقدير فيتحقق في الأصل على ذلك التقدير بالقياس السالم عن المعارض القطعي وهو العدم فيهما هذا الكلام حاصله أن السائل قد منعَ الحكم في أحدهما على تقدير عدم الرجحان أما في الفرع الظاهر وأما في الأصل فلأنه يعتقد أنه إنما يثبت فيه رجحانه على الفرع إذا انتفى انتفى الحكم وهذا منعٌ

متوجه فأجابه المستدل بأن الحكم في أحدهما ثابتٌ إمّا في الواقع أو على تقدير عدم الرجحان للإجماع على حصول أحدهما فأنا أقيس الحكم في الأصل على ذلك التقدير على الحكم الثابت في أحد الواقعين من الوجوب في أحدى الصور في أحدى الصورتين قياسًا سالمًا عن المعارض القطعي وهو العدم فيهما جميعًا يعني في الواقع وعلى التقدير واعلم أنّ هذا القياس فيه نظر وليس بجيّد لو كان القياس على حكم يسلم في الجملة لأن المعترض إذا منع الحكم في المقيس عليه على تقدير عدم رجحان الأصل على الفرع فإذا قال له المجيب هو ثابت في الواقع فيتحقق في الأصل على ذلك التقدير بالقياس السالم عن المعارض القطعي قال له السائل لا يكفي سلامة القياس عن المعارض القطعي بل لابدَّ أن يسلم عن المعارض القطعي والظني المساوي أو الراجح لأنه متى عارضَه ما هو راجح منه بطَلَ وإن عارضَه ما يساويه وقف وهذا القياس كذلك لأن ثبوته على ذلك التقدير يعارضه ما تقدم من النافي له على ذلك التقدير فإن قال إنما ذكرت المعارض القطعي لأنه إذا ثبت أنه واقع في الواقع ثبت جوازُه على كل تقدير ممكنٍ وجائزٍ فإذا عارضَه قطعي ثبت أن ذلك التقدير غير جائز لأن معارض القطعي باطل أما إذا

عارضه غير قطعي فيجوز رجحانُه عليه فيكون رجحانُه عليه من التقديرات الجائزة الممكنة فإذا كان واقعًا في الواقع قِستُ عليه ثبوتَه على ذلك التقدير السالم عن معارضة القطعي قيل هذا أكثر ما يفيدك جواز وقوعه أما ثبوت الوقوع فلا يكون حتى يثبت أن ذلك التقدير واقع في الواقع أما مجرد جوازه فلا إلاّ أن المستدلّ يقول إنما فصدتُ معارضةَ ذلك النافي ليسلم أصل الدليل وقد حصل بنفي أن يقال ثبوته في الواقع ثبوته مع جملة الأمور الواقعة في الواقع ومن جملة الأمور الواقعة في الواقع عدمُ ذلك التقدير وهو رجحان الأصل على الفرع على ما ادَّعاه المستدلّ وإذا كان ثبوته في الواقع ينفي ثبوته على ذلك التقدير لم يصحّ أن يحكم بثبوتِه في حال الحكم بعدم ثبوته إلا أن المستدل يقول هذا هو التقدير الذي لا يضرّ منعه كما تقدم في التلازم لأنه إن كان هذا التقدير منتفيًا في نفس الأمر فقد صحَّ القياس وبطلت المعارضة لأن ذلك التقدير هو تقدير رجحان الأصل على الفرع فإذا لم يكن ثابتًا فقد استويا وإن كان هذا التقدير ثابتًا في نفس الأمر فهو من جملة الأمور الواقعة فثبت الحكم على ذلك التقدير فيتم ما ذكرناه لنفي أن يقال هَبْ أن المعارضة تبطل على هذا التقدير لكن يبطل معها الدليل الأول وهو مُبطل الاستدلال فيقول المستدل هذا التقدير يلزم المعترضَ لأن أحد الأمرين لازم وهو صحة دليلي أو بطلان معارضته أو بطلان دليلي وإذا كان

أحد الأمرين لازمًا لم يتعيّن أحدهما والتحقيق أن هذا إفحامٌ للمعترض وإلزامٌ له وليس بتصحيحٍ للدليل فينفع في المناظرة ولا ينفع المناظر لأنه إذن ثبت أحد الأمرين إما صحة دليله أو بطلان معارضته لكن هذا في هذا الموضع لا ينفع المستدل فإن قول المستدل فيتحقق في الأصل على ذلك التقدير بالقياس السالم عن المعارض القطعي وهو العدم فيهما يرجع حاصلُه إلى أنه قاس الحكم على ذلك التقدير على الحكم في الواقع فإنه لا يُسلَّم له إلاّ الحكم في الأصل في الواقع وما سوى ذلك فهو غير مسلّم ولا مدلول عليه فيكون أثبت الحكم على ذلك التقدير لثبوته في نفس الأمر ويَرِدُ عليه من الأسولة الصحيحة ما تقدم في التلازم وهو أن ذلك التقدير عند المعترض تقدير غير واقع لأنه تقدير عدم الرجحان وقد بيّن أن الرجحان واقع فلا يكون تقدير عدمه واقعًا فلا يصحُّ قياسُ الحكم على تقدير غير واقعٍ على الحكم على تقدير واقع وإن قال المستدل بل هو تقدير واقع قيل له إنما يتبيّن أنه واقع إذا تمّ دليلك وإنما يتم إذا أجيب عن معارضته وإنما يتمّ الجواب عن المعارضة بمقدمةٍ من مقدمات دليلك الأول كنت قد عارضت دليل المستدل الأول ولكن

ليس لك بهذا انفصالٌ عن معارضته بل يُوجب انقطاعك نعم لو كانت هذه المعارضة من السائل كَفَتْ لأن غرض السائلِ وقف الدلالة وذلك يحصل بمجرد المعارضة ثم إنه إذا قاس على الواقع فالواقع إمّا الرجحان أو عدمُه فإن كان الأول فقد قاس مع وجود الفارق المانع وإن كان الثاني فقد قاس الشيء على نفسه والقياس كلُّه يدور على هذه النكتة وإن كان في ظاهر الأمر إنما يريد به أن الحكم في أحدهما هو ثابت إمّا في نفس الأمر أو على ذلك التقدير وأيهما كان فأنا أقيسُ الحكمَ في الأصل إذا لم يكن راجحًا على الحكم في أحدهما سواء كان ثابتًا في نفس الأمر أو على ذلك التقدير وهذا القياس سالم عن معارضة القطعي وهو عدم الحكم فيهما لأن عدم الحكم عن الفرع عليه وعن الأصل في الواقع وعلى ذلك التقدير ليس قطعيًّا فهذا أيضًا ليس بجيد لأنه إذا ثبت الحكم إما في نفس الأمر أو على ذلك التقدير وقاس عليه فإما أن يقيس على أحدهما مبهمًا أو على كلٍّ منهما بعينه أو عليهما مجتمعين فإن قاس على كلٍّ منهما بعينه عادت الحال الأولى جذعةً لأن المعترض يمنع الحكم على التقدير فلا يكون القياس على كل منهما بل على أحدهما وهو القياس على الحكم المتحقق في الواقع وذلك لا ينفعه كما تقدم لأن المعترض يقول هو واقع في الواقع وليس

واقعًا على تقدير عدمِ الرجحان وإن قاس عليهما مجتمعَيْنِ فهو أبعدُ عن الصحة كذلك وإن قاس على أحدهما لا بعينه وهو مقصوده فإن قال الحكم ثابت في نفس الأمر أو ثابتٌ على ذلك التقدير وأيهما كان فأنا أقيس عليه قيل له إنما ينفعك القياسُ على أيهما كان إذا كان القياس يفيدك على كل واحدٍ من التقديرين أعني تحققَ الحكم في نفس الأمر وتحقُّقه على ذلك التقدير لأنه لو كان متحققًا على ذلك التقدير ولم يكن متحققًا في نفس الأمر أو كان متحققًا في نفس الأمر ولم يكن متحققًا على التقدير لم ينفعْك القياس على أحدهما غير معيََّن لأنه حينئذٍ يجوز أن يكون الحكم متحققًا ويجوز أن يكونَ غير متحقق والقياسُ على حكم متردّدٍ بين التحقق وعدمِه غيرُ جائز لأن العلم بثبوت حكم الأصل المقيس عليه أول شروط صحة القياس وإذا اشترط في القياس على أحدهما تحققُه للحكم على التقديرين فالخصم المعترض قد منعه الحكم على التقدير وإن كان مسلِّمًا له الحكم في نفس الأمر لم يدلّ على ثبوته على ذلك التقدير إلاّ بالدليل الأول الذي قد عارضه المعترض وأخذ هو يعارض المعترض بما لا يتم إلاّ بالدليل الأول وذلك غير جائز كما تقدم مثلُ ذلك وهذا اعتراض قادح ليس عنه جواب محقَّقٌ لأن غاية ما يقول

الحكم ثابت في نفس الأمر أو على التقدير فأقيسُ حكم الأصل عليه فيقال له لا نسلِّم أنه ثابت على التقدير وثبوته في نفس الأمر لا ينفعك إذا منعتُك ثبوتَه على التقدير الذي قِسْتَ عليه وأنا قد بينتُ أنه تقدير غير واقع فتكون قد قستَ على تقدير غير واقع فلا يكون الحكم ثابتًا على تقدير غير واقع فلا ينفعك ثبوته في نفس الأمر حينئذٍ فتبيَّن بهذا أن أصل التقدير وإن كان غيرَ واقعٍ مقبولٌ على ما بيَّناه لكن إذا قُبِل فالسؤال الوارد عليه من جنسه جيّد والتفصِّي عنه غير مستقيم بل السؤال يَقدح في ذلك التقدير قال المصنف على أن الأصل لا يكون راجحًا إذ لو كان راجحًا لكان الرجحان مختصًّا بالأصل على معنى أنه يكون راجحًا على الغير فرعًا ونقضًا بخلافِ كلّ واحدٍ منهما ولا يكون الرجحان مختصًّا بالأصل لأن الغير راجح أو هو غير راجح لقيام الدليل على أحدهما وهو المناسبة مثلاً هذا جوابٌ ثانٍ من المستدل للمعترض عما قرَّره من أن الحكم في الأصل لا يُضاف إلى المشترك لما فيه من الرجحان على الفرع ومعناه أنه لو كان الأصلُ راجحًا لكان الرجحانُ مختصًّا به بمعنى أنه راجحٌ على صورة الفرع وراجحٌ على صورة النقض وهو

الحُلِّي وثياب البِذْلة مثلاً أما رجحانُه على صورة النقض فبالاتفاق وأما رجحانه على الفرع فلأن التقدير ذلك هو تقدير رجحانِه على الفرع فعُِلمَ أنه لو كان راجحًا على الغير الذي هو الفرع والذي هو صورة النقض بخلاف كلّ واحدٍ منهما فإنه غير راجح فإن الفرع على هذا التقدير لا يكون راجحًا على الأصل ولا على صورة النقض لمساواة صورة النقض في العدم وكذلك موضع النقض لا يكون راجحًا على الأصل بالضرورة ولا على الفرع لاستوائهما في عدم الحكم فثبتَ أنه هو الراجح دون كلّ منهما ولا معنى للاختصاص إلاّ الانفراد بالشيء وانقطاع الشركة وقول المصنف فرعًا ونقضًا ليس بجيّد في العربية لأن النقض ليس هو الحكم ولا محل الحكم وإنما هو التخلف وذلك معنى لا يترجح عليه بخلاف الفرع وإنما حقه أن يقول راجح على الغير فرعًا وصورةَ نقيضٍ على أن النصب في فرع ونقض ليس في فصيح الكلام وإنما يثبت بنوع تكلف ولو كان المصنف ممن يجري في كلامه على سنن العربية لتكلَّفنا له وجهًا وإنما ألحقناه بنظائره ثم قال واللازم منتفٍ فإن الرجحان ليس بمختصّ بالأصل لأن الغير راجح والأصل غير راجح وإذا كان الغير راجحًا والأصل غير راجح على الأصل لم يكن الرجحان مختصًّا به وإنما قلت الغير راجح والأصل غير راجح لقيام الدليل على أحدهما وهو المناسبة مثلاً واعلم أن المستدلّ متى أقام دليلاً صحيحًا على رجحان الغير الذي هو الفرع أو الذي هو أحد الأمرين إمّا الفرع أو صورة النقض أو

على رجحان صورة النقض على الأصل بتقدير رجحان الأصل على الفرع أو عدم رجحان الأصل فقد أقام دليلاً على المساواة بينه وبين الفرع أو برجحان الفرع عليه وذلك يُبطِل ما ادعاه المعترض من إضافة الحكم إلى المختص ويُحقق ما ادعاه المستدلّ من إضافة الحكم إلى المشترك وذلك دخول في فقه المسألة ولم يذكره المصنّف لأنه يحتاج إلى بحث عن مادة المسألة ومأخذها بأن يقول المستدلّ ليس المضروب راجحًا على الحُليِّ إذ لو كان راجحًا لكان الرجحانُ مختصًّا به وليس مختصًّا به لأن الغير الذي هو الفرع راجح بأن الحليّّ فضل هو مستغنًى عنه إذ ليس هو من الحاجات الأصلية بخلاف المضروب فإنه قد يكون معدًّا للنفقة مظنّة الحاجة إليها أو يقول ليس المضروب راجحًا لأن الزكاة إنما وجبتْ باعتبار حقيقة النقدين لا باعتبار صيغهما وصورهما فيجب في جميع أنواعهما كالربا الواجب فيهما فإنه لا يختلف باختلاف صورهما وإذا كان الموجب للزكاة هو الحقيقة الذهبية أو الفضية وتلك لا تختلف ولا تتفاضل فلا رجحان للمضروب على التِّبر أو يقول المناسبة دلََّت على المساواة بين الأصل والفرع وما دلَّ على المساواة دلَّ على عدم الرجحان ونحو ذلك من الكلام الذي هو بحث عن المآخذ الحكمية والمدارك العلمية من المناسبات والتأثيرات ودلالات النصوص واعلم أن قوله لا يكون راجحًا إذ لو كان راجحًا لكان راجحًا

على الغير فرعًا ونقضًا ثم قال ولا يكون الرجحان مختصًّا بالأصل يدلُّ ظاهره على أنه لا يختصّ بالرجحان عن الفرع وصورة النقض أما كونه لا يختص عن الفرع فهذا نفس موجب الدليل فلا كلام فيه وأما كونه لا يختص به عن صورة النقض فهذا باطل بل مخالف للإجماع لأنه لو لم يختص بالرجحان عن صورة النقض للَزِمَ أن يساويها ولو ساواها لم يختلف الحكم بينهما واختلاف القضيتين في الحكم بالإجماع يدلُّ على تفاوتهما في الموجب والمقتضي فإن قال قد يستويان في الموجب وتمتاز صورة النقض بمانعٍ يمنع الوجوب قيل عدم ذلك المانع في الأصل إما أن يكون نفسه رجحانًا أو يوجب له معنى ثبوتيًّا يقتضي الرجحان على الاختلاف بين القائلين بتخصيص العلة والمانعين منه وعلى التقدير ينِ فلا يجوز أن يقال إن الأصل راجح في الجملة سواء كان هو الفرع أو موضع النقض ويكفي في ذلك عدم الرجحان على الفرع وهذا كلام صحيح قال المصنف أو نقول الأصل لا يكون راجحًا لكونه قاصرًا أو مساويًا لما مرّ هذه عبارة ثانية في توجيه المعارضة التي قبل هذه وهو كلام صحيح لكن الشأن كل الشأن في تمكّن المستدلِّ من تقرير قصورِه أو مساواته فإن هذا إذا صحَّ فهو القياس الصحيح الذي يجب القول به

ولا ينكره أحدٌ من القياسيين والدالُّ على رجحان الفرع دالٌّ على تصوُّرِه والدالُّ على عدم رجحانِه دالٌّ على مساواته كما مرَّ قال المصنف أو نقول ابتداءً كما قال السائل في التلازم معناه والله أعلم أن المستدلّ يقول يجب في الأصل بتقدير عدم الرجحان لأجل المقتضي لوجوبها الواقع في الواقع فإن المقتضي لوجوبها لو لم يكن واقعًا في الواقع لما وجبت للنافي لوجوبها السالم عن معارضته المقتضي وقد وجبت فثبتَ وجود المقتضي لوجوبها وأنه واقع في الواقع وإذا كان المقتضي لوجوبها موجودًا في الواقع ثبت الوجوب أو يقول الوجوب ثابت في الأصل على هذا التقدير بما يدلّ عليه في الأول وهذا مثل السؤال الذي أورده في التلازم حيث منعه عدمُ الوجوب على الفقير على تقدير الوجوب على المدين فقال السائل المانع المستمر واقعٌ في الواقع إلى آخره وفي الحقيقة هذا هو الجواب الأول ثبت الحكم في الأصل إذا لم يكن راجحًا بالمقتضي فإن كلاهما يعود إلى استصحاب الواقع وذلك بأن نقول ما يدلُّ على الوجوب في الواقع فلابدّ أن يكون مستمرًّا والمستمرّ هو النافي على التقدير إذ لو لم

يكن كذلك لما ثبت الوجوب فيه بالنافي السالم عن معارضة الموجب المستمر وقد وجب فيكون منتقضًا بالاستمرار فينفي على التقدير فيكون الموجب ثابتًا على ذلك التقدير ثم يمكن السائل أن يقول هنا كما قال المستدل هنالك وهو أن ما ذكرتم من الدليل وإن دلَّ على وجود الموجب على ذلك التقدير لكن عندنا ما ينفيه لأن الدليل على عدم الوجوب متحقق على تقدير عدم الرجحان فلو تحقق الدالُّ على الوجوب للَزِمَ التعارض على ذلك التقدير وهو على خلاف الأصل لاستلزامه تركَ العمل بأحد الدليلين وقد مضى الكلام على مثل ذلك في التلازم وبيّنا فسادَه وأنه لا يلزم من قيام المقتضي أو المانع إثباته لموجبه على كل تقدير بل على كل تقدير واقع أو جائز أو على كل تقدير لا ينافيه فعلى المستدلّ به أن يبيّن وقوع ذلك التقدير أو جوازه أو عدم منافاته وحينئذٍ لا يمكنه بيان ذلك إلاّ ببيان أن الواقع عدم الرجحان ولو بيَّن ذلك لاستغنى عن الاستدلال بالمقتضي وعن استصحاب الواقع ثم للمعترض أن يقول الموجب موجب له على كلّ تقدير واقع وعدم الرجحان غير واقع لما ثبت في المعارضة قال المصنف ولئن قال الحكم في الأصل يُضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين وذاك لا يكون مشتركًا إذ

المشترك ما هو الثابت فيهما قطعًا فنقول الحكم يضاف إلى ما هو اللاَّزم فيهما قطعًا أو في الفرع على تقدير اللزوم في الأصل وأنه هو المشترك بينهما هذا سؤال ثانٍ من المعترض وهو معارضة في كون المشتركِ مناطَ الحكم وكونِ الحكم مضافًا إليه قال المستدل الحكم في الأصل لا يضاف إلى المشترك بينه وبين صورة النزاع لأنه إنما يضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين وذلك لأن الحكم في الأصل مضاف إلى ما هو موجود فيه من المناسبة لأن المقتضي للحكم لابدَّ أن يكون موجودًا فيه لامتناع ثبوت الحكم بدون المقتضي ولأن ما في الأصل من المصالح المتعلقة بالوجوب أمر مطلوب والوجوب طريق صالح لتحصيله فيضاف الوجوب إلى تلك المناسبة الحاصلة في الأصل وتلك المناسبة يجوز أن تكون معدومة في الفرع المتنازع فيه لأنه محلّ خلافٍ بين العلماء فيجوز أن يكون الحكم فيه ثابتًا ويجوز أن لا يكون ثابتًا وبتقدير عدم الثبوت لا تكون المناسبة الموجودة في الأصل موجودةً فيه بل معدومة فعُلِمَ أن الحكم المضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين وهو الفرع المشترك بينهما ليس جائز العدم في إحداهما لأنه لو جاز عدمُه في إحداهما لم يكن مشتركًا والتقدير أنه مشترك فعُلِمَ أنه ثابت فيهما قطعًا وإذا كان الحكم إنما يضاف إلى ما هو جائز العدم في إحداهما

والمشترك ليس جائز العدم في إحداهما لم يكن الحكم مضافًا إلى المشترك وقد أجاب المصنف عن هذا بأن قال نحن ندَّعي إضافة الحكم إلى ما هو اللازم فيهما قطعًا أي هو ثابت فيهما قطعًا في نفس الأمر أو إلى ما هو لازم في الفرع على تقدير لزومه في الأصل أي إلى ما هو حاصلٌ في الفرع قطعًا على تقدير حصولِه في الأصل وما هو حاصل فيهما قطعًا أو هو حاصل في الفرع قطعًا على تقدير حصوله في الأصل فهو مشترك بينهما قطعًا وهو جائز العدم في إحدى الصورتين لأنه إذا لم يكن لازمًا فيهما قطعًا فهو جائز العدم لأنه جائز العدم على تقدير فإن قال المعترض إنما يكون هذا مشتركًا على تقدير اللزوم في الأصل أي على تقدير أن يلزم في الأصل ما يلزم من حصولِه فيه حصوله في الفرع وهذا غير لازم في الأصل قال له المستدل هو مشترك بينهما في الجملة والمدَّعَى الإضافة إلى المشترك في الجملة فإن قال المعترض المشترك بينهما في الجملة لا يكون لازمًا في الأصل لزومًا قطعيًّا والحكم في الأصل يضاف إلى ما هو لازم فيه لزومًا قطعيًا فلا يضاف إلى المشترك في الجملة قال له المستدل إنما يضاف إلى ذلك إذا كان اللازم مختصًّا بالأصل أما إذا لم يكن فلا احتمال أن يكون مضافًا إلى اللازم فيها وأيضًا فإن اللازم فيهما على الإطلاق متعدد فيدعي المستدل الإضافة

إلى لازمٍ بعد لازم كما ادَّعى المعترض عدمَ الإضافة إلى المشترك واعلم أصلحك الله أن هذا الكلام باطلٌ سؤالاً وجوابًا أما السؤال فهو مبنيُّ على مقدمتين باطلتين إحداهما قوله الحكم يضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين والثانية قوله والمشترك بينهما ليس جائز العدم في إحداهما بيان ذلك أن قوله إنما يضاف إلى ما هو جائز العدم في إحداهما قلنا لا نُسلِّم وذلك لأنّ حاصله أنه لا بدَّ أن يُقطعَ بوجوِده وبعلَِّيتِه في الأصل ولا يُقطع بهذين في الفرع فإن أردتَ أنه لا بدّ أن يُقطع به على سبيل التعيين بحيث يقطع أن الحكم في الأصل مضاف إلى الوصف الفلاني المقطوع بوجوده وعلّيته فهذا خلاف إجماع المسلمين بل قدا الغالبُ في مسائل الفروع أنه لا يُقطَع على وصفٍ بعينه أنه هو العلَّة في الأصل وإن أردتَ أنه لابد أن يقطع أن في الأصل علة موجودة في الجملة فهذا مسلَّمٌ لكن إذا قطعنا أن في الأصل علة فقد قطعنا بوجوِدها فيه وبأنها علة وتلك العلة يجوز أن لا تكون علة في الفرع إما لعدمها أو عدم علّيتها فإن تجويزَ عدم الحكم فيه إنما يُفيد تجويز عدم العلة إما لعدم ذاتها أو لعدم صفة العلّية وحينئذٍ فالمشترك بينهما إنما ثبت قطعًا وجودُه لا علّيتُه فإذا أضفنا الحكم إليه فقد أضفناه إلى علة يجوز عدمُ علّيتها في إحداهما وإن كانت ذاتها لا يجوز عدمها في إحداهما

فقوله إلى ما هو جائز العدم إن أراد به إلى ما يجوز عدم ذاته في أحدهما فهذا ليس بمشترط بالإجماع كما تقدم لجواز أن تكون العلة في الأصل ما يقطع بوجودها في الأصل والفرع وإن لم يقطع بعلّيتها في واحدٍ منهما إذ القطع في الأصل إنما هو بمطلق العلة لا بعين العلة وذلك لأنّنا في الشك في تعينها في جميع مسائل القياس وإذا قسنا الفرع على الأصل بوصفٍ حسّي أو عقلي أو شرعي منصوص أو بجميع علية فإنا نقطع بوجودِه في الموضعين وإن لم نقطع بعلّيته مع قطعنا بوجود علة الحكم في الأصل وبكونها لابدّ أن تكون علة وإن أراد به إلى ما هو جائز عدم الإضافة إليه في أحدهما إما لعدم ذاته أو لعدم علّيته فقط فهذا قد نُسلِّم لكن المشترك بينهما وإن كان موجودًا فيهما قطعًا لكنه جائز عدم الإضافة إليه في إحداهما لجواز أن لا يكون علة وهذا الجواز يكفي في صحة الإضافة فانظر إلى استعمال اللفظ المبهم كيف راجَ به هذا التلبيس فإن جواز العدم من لوازم العلة الظنية والمشترك غير جائز العدم لكن جواز عدم العلة غير جواز عدم الذات وهو في كلّ مقدمة بمعنى غير الآخر الوجه الثاني أن هذا الكلام يُعارَض بمثله فإن الحكم لا يُضاف إلى المختص فتتعين إضافته إلى المشترك وإنما قلنا لا يضاف إلى

المختص لأنه إنما يُضاف إلى ما هو جائز الوجود فيهما فإن الحكم يجوز أن يكون ثابتًا في الفرع لوقوع الخلاف فيه وعلى ذلك التقدير فعلة الحكم موجودة فيه وفي الأصل فالعلة في الأصل لابدّ أن تكون جائزة الوجود والعلّية في الفرع والمختصّ بالأصل لا يجوز وجودُه ولا عليته في الفرع فلا يكون علة فيكون المشترك علة الوجه الثالث أنا لا نُسلِّم أن المشترك بينهما لا يجوز عدمُه عن أحدهما فإنه يجوز أن يكون من الصفات العارضة للذات وحينئذٍ فيجوز أن يُعدَم عنهما فضلاً عن أحدهما وإن قال أردت أنه حال إضافة الحكم إليه لا يجوز أن يكون معدومًا قلنا بل في حال الإضافة يجوز أن يكون معدومًا إذا كان الطريق التي بها عُلِمَ وجودُه ظنيًّا فقوله المشترك ما هو الثابت فيهما قطعًا غير مسلَّم بل يكفي ثبوتُه قطعًا أو ظنًّا بإجماع القائسين وإن شاء المستدلُّ قال أنا أضفتُ الحكم إلى أمرٍ يجوز عدمُه في إحدى الصورتين وهي صورة النزاع لأن الحكم فيها ليس بقطعي بل ظني وإذا كان ظنيًّا جاز أن لا يكون ثابتًا وإذا انتفى الحكم انتفى المناط الذي أضيفَ إليه الحكم لأن وجودَه مستلزم لوجود الحكم وانتفاءُ اللازم دليلٌ على انتفاء الملزوم وإذا كان عدمُ ما أضفتَ إليه

الحكم جائزًا وصورة النزاع مع كونه مشتركًا بعد قوله إذ المشترك بينهما هو الثابت في الصورتين قطعًا وإن شاء قال ما أضفتَ إليه الحكم يجوز أن يكون موجودًا في صورة الإجماع ويجوز أن يكون معدومًا وإذا كان موجودًا جاز أن يكون علةً للحكم وجاز أن لا يكون وإذا كان علةً للحكم جاز أن يكون موجودًا في الفرع وجاز أن لا يكون فكيف يصح أن يُقال المشترك ما هو الثابت فيهما قطعًا الوجه الرابع أنا لا نعلم أنه لابد أن يُضاف الحكم إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين فإن الأقيسة تنقسم إلى يقينية وظنية فإنه إذا عُلِمَ ثبوتُ العلّة في الأصل والفرع وعُلِمَ أنها علةٌ وعُلِمَ أن الحكم مضاف إليها والأقيسة المجمع عليها من هذا الباب فليس هذا شرطًا على الإطلاق وإن قال هو شرط في هذه الصورة قلنا هذا أمر اتفاقي والأمور الاتفاقية لا تكون شروطًا في الأدلة الشرعية الوجه الخامس أن هذا الكلام يقدح في القياس القطعي والظني وما قَدَح فيهما فهو باطلٌ يقدح فيهما لأنه إذا اشترط جواز العدم في أحدهما قدح في اليقيني وإذا كان هو يجوِّزُ عدمَه والمشترك لا يجوز عدمه قَدَحَ في كل قياس جاز عدم العلة فيه عن أحدهما وذلك قدحٌ في جميع الأقيسة الظنية بل نفس هذا الكلام يقتضي فسادَ كلِّ قياسٍ يُعلَم أنه باطل

الوجه السادس أن قوله إلى ما هو جائز العدم والمشترك ثابت قطعًا إشارة إلى كون العلة قطعية وظنية والدليل عليه إجماع الناس على أنه يجوز أن يكون ثبوت المشترك في الأصل والفرع قطعيًّا بمعنى أنه يجب أن يقطع بوجوده فيهما وبأن الحكم مضافٌ إليه فيهما فإن ذلك إذا وُجِد يكون القياس يقينيا وحينئذٍ لا يخالف فيه أحد وما سوى ذلك فهو القياس الظني وهو حجة عند القياسيين في الجملة فلا يُقبَل منعُ الاحتجاج به ممن شرع في الكلام عليه إذ شروعُه في الكلام عليه تسليمٌ لأصل الاحتجاج به ثم هو على خلاف إجماع الفقهاء المعتبرين وكون الشيء قطعيًا وظنيًا نسبةٌ له إلى اعتقاد العباد وذلك لا يؤثر فيه فإن حقيقته في نفسه لا تتغيَّر بتغيُّر اعتقاد الناس فيه وإنما يتغير حكم الناس بتغيُّر اعتقادهم فإن كان اعتقادهم لإضافة الحكم إلى المشترك ولثبوته فيهما قطعيًّا فالقياس قطعي وإن كان ظنّيًّا فالقياس ظنّي لكن هذه أمور خارجة عن نفس العلة وصفاتها فلا يجوز التعويل عليها في نفي علة المشترك السابع أن قولك الحكم مضاف إلى ما هو جائز العدم في إحدى الصورتين لفظ مشترك فإن الجواز من عوارض الماهيات ومن عوارض الاعتقادات فإذا قيل العالم جائز أو ممكن فذلك حكمٌ على ماهيته بقبولها للوجود والعدم وإذا سُئل الرجل عن وجوب الزكاة في الحليّّ فقال يحتمل أن يكون واجبًا ويحتمل أن يكون غير واجب أو سئل عن رؤية الله بالأبصار فقال ليس في العقل ما يوجبها

ولا ما يُحيلها بل يجوز أن تكون واجبةً ويجوز أن تكون ممتنعةً لكن لمّا دلَّ على وقوعها حكم العقل أنها جائزة وكذلك كل الأمور التي هي من مواقف العقل ومَحَاراته فإن الجواز هنا معناه أن الإنسان ليس له علمٌ بما الأمرُ عليه في نفسه فهو يُجوِّز النقيضين والضدَّين فالجواز بالمعنى الأول عِلمٌ بحقيقة الأمر والثاني عدمُ علمٍ بحقيقة الأمر بل وَقْفٌ وشكٌّ والأول صفة ثابتة للماهيَّة كانت نسبيةً أو ثبوتيةً أو عدميةً والثاني تردُّدٌ ذهني وتجويزٌ عقليٌّ والجواز الأول لا يجوز عليه التبدُّل والتغيُّر بل هوهو في علم كل عالم والتجويز الذهني لو انكشفت الحقائقُ لصاحبه لظهر أحدُ الأمرين والفرق بين الجواز الوجودي العيني والجواز العلمي الذهني ظاهر فقولك الحكم يضاف إلى ما هو جائز العدم تَعْنِي به أنه في حقيقته يجوز أن يكون موجودًا ويجوز أن يكون معدومًا أم تَعني به أنه في اعتقاده يجوز أن يكون معدومًا إن عَنَيتَ الأوَّلَ فلا نُسلِّمه فجاء الدليل عليه ثم نقول لا يجوز أن يكون معدومًا لأنه حكم الله وحكمُ اللهِ قديم وهو مضافٌ إلى علمِه القديم وما ثبتَ قِدَمُه استحالَ عدمُه فبتقدير أن يكون الحكم ثابتًا لا يجوز عدمُه ولا عدمُ ما يُضاف إليه ثم لا فرق على هذا التفسير ثم لا فرق بين الأول والثاني

ثمّ هَبْ قابلٌ للعدم إذا عني صفة الفعل لكنه صار موجودًا والموجود بعد وجودِه لا يجوز أن يكون معدومًا إذ الجمع بين الوجود والعدم محالٌ وإن قال نحن نُجوِّز أن يكون معدومًا لتجويزنا عدمَ الحكم في الفرع وكون هذا الجواز ملزومًا لجواز عدم الوصف الذي أضيف إليه الحكم في الأصل قيل ذلك تجويزنا لعدمِه مستندٌ إلى عدم عِلْمِنا به هل هو موجود أو معدوم وعدمُ علمنا به لا يجوِّز أن يكون مانعًا من كونه علةً للحكم في الأصل ولا عِلمُنا بوجودِه يُجوِّز أن يكون خيرًا من العلة في الأصل ولا شرطنا في العلة لأن العلّة هي الوصف الذي لأجله أثبتَ الله ذلك الحكم وذلك المناط إذا ما ثبت في علم الله لا يجوز أن يختلف وهو ثابت في علم رسولِه صلَى الله عليه وسلم قبل وجودنا وقبل اعتقادنا فلو جاز أن يكون علمنا مؤثّرًا فيه وجودًا وعدمًا للَزِمَ أن تكون عقائدنا مؤثرةً فيما ثبتَ في علم الله وعلم رسولِه صلَى الله عليه وسلم وذلك لا يجوز فإن قال يجوز أن يكون اعتقادنا عَلَمًا على الحكم ودليلاً عليه وعند ذلك يختلف باختلاف كونه قطعيًّا أو ظنّيًّا قلت الأدلة ما يُوجِب الاعتقادات فلو كانت الاعتقادات أدلةً لَزِمَ أن يكون الشيءُ دليلاً على نفسه ثم الاعتقادات لابدّ أن تستندَ إلى أدلة والدليل هو العلة ونحوها فكيف تستند الأدلةُ إلى الاعتقادات

ولو جاز أن يكون الاعتقاد جزءًا من العلة لكان إثباتُ الأحكام ونفيها باعتقادنا وهذا باطل ولسنا نمنع أن يكون الاعتقاد دليلاً على اعتقاد آخر وموجبًا له وإنما نمنع أن يكون الاعتقاد دليلاً على صحة نفسه أو دليلاً على أن العلة في نفس الأمر هي ذلك الاعتقاد كما يقال شرط العلة في الأصل القطعُ بها فيه وعدمُ القطع بكونها في الفروع فإن القطع وعدمه يتبع دليلَ العلة فلا يكون دليل العلة الثامن أنه يجوز أن يكون ثبوت الوصف في الأصل قطعيًّا والإضافة إليه ظنية كعلل الربا من القدر والطعم والقوت ويجوز أن يكون في الفرع ظنيًّا والإضافة إليه قطعية كالاتفاق على أن أقرب العصبات أولى بالميراث فإن هذه الأولوية مضافة إلى كونه أقرب بالاتفاق ثم اختلفوا في الجدّ أقرب أو هو والأخ مستويان ونحو ذلك فقوله بعد ذلك وما يضاف إلى ما هو جائز العدم في أحدهما والمشترك ثابت فيهما قطعًا غير صحيح فإن ثبوت المشترك له ثلاث اعتبارات أحدها ثبوته في الأصل والثاني إضافة الحكم إليه في الأصل

والثالث ثبوته في الفرع وشيء من هذه الاعتبارات لا يعتبر فيه القطع بالاتفاق إلاّ عند شذوذ لا مبالاة بهم زعموا أنه لابدّ أن يكون ثبوت الوصف في الأصل وفي الفرع قطعًا وبطلانُ هذا ظاهر وهو خلاف ما عليه المعتبرون من الفقهاء فبطل قوله على كل تقدير وقد تقدم ما يُشبِه هذا الوجه وجُلُّ الشبهة في الوجه الأول فإن قوله إلى ما هو جائز العدم في أحدهما يعني به جواز عدم علِّيته والمشترك لا تكون علّيتُه ثابتةً فيهما قطعًا وإنما حصل التمويه لما في قوله جائز العدم من العموم والإطلاق وأنه في كل مقدمة بمعنى يخالف معناه في المقدمة الأخرى هذا هو الجواب المحقق عن هذا السؤال وقد أجاب عنه المصنّف بجوابٍ غير مزيلٍ للشبهة وإنما فيه مجرد دعوى وتغيير عبارة فقال الحكم يضاف على ما هو اللازم فيهما قطعًا أو في الفرع على تقدير اللزوم في الأصل وأنه هو المشترك بينهما فقال المشترك لا يجب أن يكون ثابتًا فيهما قطعًا وإنما يشترط أن يكون ثابتًا فيهما قطعًا فقد صار مشتركًا بينهما وإن كان لازمًا في الفرع على تقدير لزومِه في الأصل فإنه إذا حصل لزومُه في الأصل فقد حصل لزومُه في الفرع وذلك يُوجب اشتراكهما فيه فيعلم الاشتراك بأحد أمرين إما بثبوته فيهما قطعًا أو بثبوتِه في الفرع عند ثبوته في الأصل وقد تقدم تقرير هذا الجواب

واعلم أن هذا الجواب مغلطة وإن السؤال ليس بحق لكنه أجود توجيهًا من الجواب وذلك أن قوله يضاف إلى ما هو اللازم فيهما قطعًا أو في الفرع على تقدير اللزوم في الأصل وأنه هو المشترك يقال له تقرير ثبوته في الأصل حاصلٌ قطعًا أو ليس بحاصلٍ قطعًا فإن قال حاصلٌ قطعًا فهو حاصلٌ في الفرع قطعًا لأنه ثابت في الفرع بتقدير ثبوته في الأصل فيكون هو القسم الأول بعينه وإن كان تقدير ثبوته في الأصل ليس بحاصل قطعًا بل حاصلٌ ظنًّا أو ليس بحاصلٍ أصلاً لكن هذا لا يجوز أن يكون هو مستند الحكم في الأصل لأن ما يضاف إليه الحكم في الأصل لابدَّ أن يكون حاصلاً قطعًا لامتناعِ عدم الحكم فيه أو وجودِ الحكم بلا موجب فقد عاد السؤال بعيِنِه وأيضًا الأسولة التي ذكرناها للسائل متوجهة وهي قوله اللازم في الفرع على تقدير لزومه في الأصل إنما يكون مشتركًا على تقدير اللزوم في الأصل وهذا ظاهر فإن لزومه في الفرع موقوف على لزومه في الأصل ونحن لا نسلِّم أن في الأصل ما يلزم منه لزومُ الحكم في الفرع قوله هذا مشترك في الجملة والمدّعى الإضافة إلى المشترك في الجملة

قلنا عنه أجوبة أحدها أنه إنما ادَّعَى الإضافة إلى المشترك مطلقًا ولم يدَّعِ الإضافة إلى ما هو مشترك على بعض التقادير فلا يقبل الرجوع عن دعواه الثاني أنه إن عَنَى بالمشترك في الجملة ما يجوز أن يكون مشتركًا على بعض التقادير فهذا خلاف الإجماع بل خلاف ضرورة العقل فإن ما يجوز أن يكون مشتركًا على تقدير لا يعلم أنه مشترك إلاّ بعد العلم بذلك التقدير وربما كان ذلك التقدير ممتنعًا أو غيرَ واقع فلا يكون في نفس الأمر مشتركًا وإذا لم يكن مشتركًا في نفس الأمر لم يلزم من إضافة الحكم إليه ثبوتُه في الفرع وإن عَنَى بالمشترك في الجملة شيئًا آخر فلا بدَّ من تفسيره بما يعود إلى هذا الثالث أن المشترك في الجملة يجوز أن لا يكون حاصلاً في الأصل والحكم إنما يضاف إلى ما لا يجوز عدمُه فيه وقد تقدم هذا الكلام إنما يضاف إلى ما هو لازم فيه لزومًا قطعيًّا فلا يضاف إلى المشترك في الجملة قوله إنما يضاف إلى ذلك إذا كان اللازم مختصًّا بالأصل أما إذا لم يكن فلا احتمال أن يكون مضافًا إلى اللازم فيهما قلنا يضاف إلى ما هو لازم فيه لزومًا قطعيًّا بكل حال لما تقدم

سواء كان مختصًّا بالأصل أو مشتركًا فإنه على التقديرين يضاف إلى ما هو لازم في الأصل لزومًا قطعيًّا وقوله اللازم فيهما متعدد قلنا ويمكن تعديد الجواب بتعديد الدعوى وقد تقدم أن تكرير الدعاوي غير نافع وأيضًا فإنه وإن كان متعددًا لكن ما ذكرنا من الدليل ينفي الإضافة إلى اللازم فيهما بكل حال وأيضًا فإن الدعوى الأولى إمّا أن يَدَّعِيَها مع الثانية أولا يدّعيها فإن ادَّعاها لم يصحّ لما تقدم وإن لم يَدَّعِها فقد رجع عمّا ادَّعاه أولاً وانفساد دعوى ثانية غير الأولى وذلك انقطاعٌ وعجزٌ عن إتمام الكلام وأيضًا فإن إضافة الحكم إلى المشترك أو إلى اللازم في الفرع بتقدير لزومه في الأصل إما أن يكون هو المشترك الذي أضاف الحكم إليه أو لا فإن كان هو إيَّاه فما وَرَدَ على الأول يَرِدُ عليه وإن لم يكن إيَّاه فإن استلزمه وَرَدَ عليه ما وردَ على الأول وإن لم يكن هو الأول ولا هو مستلزمًا للأول لم يكن مشتركًا بحال وأيضًا فقولك لازمٌ في الفرع على تقدير لزومه في الأصل ولزومه في الأصل والفرع هل هو قطعي أو ظنيّ فإن كان اللزوم قطعيًّا لم يجز ذلك لوقوع الخلاف وإن كان ظنيًّا فقد جاز عدمُه والمشترك ثابتٌ فيهما قطعًا لا يجوز عدمُه فقد عادَ السؤالُ بعينه وأيضًا فلزومُ هذا اللازم في الأصل إن كان ثابتًا فهو لازم فيهما

فيكون هو القسم الأول وهو قولك إلى ما هو اللازم فيهما ويكون القسمان قسمًا واحدًا وقد تقدم الكلام عليه وإن لم يكن ثابتًا فليس بلازم في الأصل ولا في الفرع وذلك لا يجوز إضافة الحكم إليه وهذا تقسيمٌ حاصرٌ قال الجدلي ولئن قال الحكم في الأصل يضاف إلى ما هو المختصّ بالأًصل أو لا يضاف إلى المشترك وأيًّا ما كان لا يضاف إلى المشترك فنقول لا يضاف إلى ما يكون مختصًّا بالأصل أصلاً أو يُضاف إلى المشترك ويلزم أيِّهما كان إضافة الحكم إلى المشترك فإن الحكم في الأصل يضاف إلى ما هو الثابت به قطعًا هذا الكلام إن قُرِنَ به دليلٌ من الطرفين هو من نمط الذي قبلَه ونتكلم عليه وإن لم يُقْرَن به دليلٌ فهو دعوى عارية عن الأدلة وتلك لا نتكلم عليها البتة لعدم الفائدة فيه وكون كلّ أحدٍ يُحسِن مثل هذا وما هو إلاّ بمثابة من قال الزكاة تجب في الحليِّ قال الآخر لا تجب في الحليّ قال المستدل الوجوب في الحليّ ثابت فيلزم وجوبها في الحليّ قال المعترض عدم الوجوب متحقق فينتفي الوجوب

قال المستدل قد قام الدليل على وجوبها في الحليّ فيقول الآخر قد قام الدليل على انتفاء وجوبها في الحليّ فيقول الآخر وجوبها في الحليّ منضمًّا إلى الأمور الواقعة واقع في الواقع فيقول الآخر عدمُ الوجوب منضمًّا إلى الأمور الواقعة واقعٌ في الواقع فيقول الأول الوجوب ثابت في الحليّ بالمناسبة والدوران فيقول الثاني الوجوب منتفٍ فيها بالمناسبة والدوران فيقول الأول عدم الوجوب ملزوم ما وجوده ملزوم لما هو معدوم وإذا كان اللازم معدومًا فملزومه كذلك وملزوم ملزومِه كذلك فيلزم عدم عدم الوجوب فثبت الوجوب فيعارضه الثاني بمثل هذه العبارة إلى أمثال هذه العبارات التي ليس لها حاصلٌ سِوى تكرير الدعوى ومعارضتها بمثلها بعد تغيير العبارة وهذا من أقبح ما تَنطق به الألسنة وأَسْمَج ما يخاطب به العاقل فإن قول المعترض يضاف إلى المختص أو لا يُضاف إلى المشترك وأيًّا ما كان لا يضاف إلى المشترك قد علم أنه ثبت أحد الأمرين وهو ثبوت إضافته إلى المختص بالأصل فقط أو انتفاء إضافته إلى المشترك فقد لزم انتفاء إضافته إلى المشترك لكن الشأن في ثبوت أحد الأمرين فلم يذكر

عليه حجة من بينة ولا شبهة ولما كان هذا الكلام مبناه على الدعوى المحضة عارضَه المجيب بمثله فقال لا يضاف إلى ما يكون مختصًّا بالأصل أصلاً أو يضاف إلى المشترك ويلزم من لزوم أيّهما كان إضافةُ الحكم إلى المشترك فإن الحكم في الأصل يضاف إلى ما هو الثابت به قطعًا وذلك لقيام الدلائل الدالة على كل واحدٍ منهما أمّا الإضافة فبالمناسبة مثلاً وأما عدم الإضافة إلى المختصّ بتوسُّط الإضافة إلى المشترك أن يقول المختص بالأصل مقصور عليه والعلة القاصرة لا يجوز إضافة الحكم إليها والخلاف في ذلك مشهور بين الفقهاء فإن المشهور عند الحنفية المنع وعند المالكية والشافعية الجواز وللحنبلية وجهان والصواب أنه جائز في الجملة وليس هذا موضع ذكره أو بالأدلة النافية للوجوب على تقدير الإضافة إلى المختص السالم عن معارضة الإضافة إلى المشترك أو بالأدلة النافية للإضافة إلى المختص من الاستصحاب ونحوه والمغايرة بين عدم الإضافة إلى المختص والإضافة إلى المشترك ظاهرة لوجود الأول دون الثاني فيما إذا لم يكن الحكم مضافًا إلى شيء وأيّهما لزم لزمت الإضافة إلى المشترك أما على الثاني فظاهر فإنه عين المدَّعي وأما على الأول فكذلك لأن الحكم في الأصل يضاف إلى ما الحكم ثابت به قطعًا فإن ما ثبت به الحكم أضيف إليه الحكم ومعنىَ ما ثبت به أي كان علةً وموجبًا لثبوته فإذا لم يضف إلى المختص لزم أن يضاف إلى المشترك لأن ما ثبت به الحكم في

الأصل إن كان موجودًا في الأصل والفرع فهو المشترك وإن كان موجودًا في الأصل دون الفرع فهو المختصّ وعلى هذا الجواب عدة مناقشات أحدها قوله يلزم من لزوم أيهما كان إضافة الحكم فإن اللزوم لذات أيهما يكون فلا حاجة إلى توسُّط لزومِه فإنها زيادة لا تنفع وقد تضر فيعتقد أن لزوم الإضافة إنما هو للزوم أحدهما النفس وجوده حتى يظن أن في ذلك معنًى زائدًا نعم لو قال يلزم من لزوم أيهما كان لزوم إضافة الحكم فجعل اللزوم من لوازم اللزوم الثاني قوله لا يضاف إلى ما يكون مختصًّا بالأصل أو يضاف إلى المشترك ويلزم من أيّهما كان إضافة الحكم إلى المشترك ليس كذلك فإنه إذا لم يضف إلى ما يختص بالأصل جاز أن يضاف إلى المشترك بينه وبين الفرع المتنازع فيه وجاز أن يضاف إلى المشترك بينه وبين فرع آخر ويجوز أن يكون تعبديًّا فلا يضاف إلى علةٍ أصلاً ويجوز أن يجوز هذا وهذا وهذا وهذا ومع تردُّدِ عدّة احتمالاتٍ كيف يلزمُ من عدم أحدهما وجود آخر لم يبقَ إلاّ قوله أو يضاف إلى المشترك ويلزم منه إضافته إلى المشترك وهذا لا فائدة فيه وهذا مناقشة في تفسير المختص فإن ظاهره أنه ما يختص بالأصل فلا يوجد في غيره وإنما المراد به ما لا يوجد في الفرع المتنازع فيه وأيضًا فلو أضيف إلى مجموع المشترك والمختص كان المقصود حاصلاً والعبارة لا تدل عليه

الثالث قوله الحكم في الأصل يضاف إلى ما هو الثابت به قطعًا ظاهرُه مخالفٌ للإجماع لأنه إن عَنَى أنّ وجود الوصف في الأصل مقطوعٌ به فهذا لا يُشترط وفاقًا وإن عَنَى أن إضافَة الحكم في الأصل إلى الوصف مقطوع به فهو أبعدُ وأبعدُ بل الدعوى تُحِيلُ وجودَ قياسٍ مختلَفٍ فيه فحاصله أن إضافة الحكم في الأصل إلى الوصف وثبوت الحكم بالوصف لا يحتاج أن يكون قطعيًّا بالإجماع بل هو خلاف الواقع في عامّة الأقيسة وإن عَنَى أن ما ثبت به الحكم يقع بإضافته إليه فهذا صحيح كما تقدم لكن في اللفظ احتمال قال الجدلي ولئن قال الحكم في الأصل لا يضاف إلى ما لا يكون مختصًّا بالأصل أو لا يضاف إلى المشترك وأيّهما كان لزم عدم الإضافة إلى المشترك فنقول الحكم في الأصل يضاف إلى المشترك أو إلى ما يُحقِّق الإضافة إلى المشترك هذا الكلام من نمط الذي قبله بل هو بعينه في المعنى لكن غيَّر الدعوى لأنه في الأول أضاف الحكم إلى المختص وهنا نفاه عمّا ليس بمختص ويلزم من نفيه عما ليس بمختصٍّ ثبوتُه للمختص والمستدلُّ غيَّر الدعوى وهو قوله أو ما يُحقِّق الإضافة إلى

المشترك وهو تغيير عبارة فإن الإضافة إلى تحقق الإضافة للمشترك يُوجب الإضافة إلى المشترك فإن قيل إنما سأل هذا السؤال لأنه قد ادَّعى أوَّلاً عدمَ الإضافة إلى المشترك بما ذكره من اختصاص الأصل بما يمنع الإضافة إلى المشترك ومن أن المشترك ليس جائز العدم في أحدهما ومناط الحكم جائز العدم في أحدهما ثم ادّعى عدم الإضافة بأحدهما مبهمًا والطريق المبهم غير الطريق المعيَّن وذلك أن يقال أحد الأمرين لازم وهو إضافة الحكم إلى المشترك بينه وبين الفرع وعلى التقديرين لا يكون الحكم في الأصل مضافًا إلى المشترك بيان الأول أن الأدلة قد قامت على كلِّ واحدٍ منهما أما الأول فإن المناسبة تدلُّ على الإضافة إلى المختص بالأصل من المعاني المناسبة للحكم فإن ذلك أمرٌ مطلوبٌ والوجوب طريقٌ صالحٌ لحصول ذلك الأمر المطلوب فيكون الوجوب مضافًا إلى الأمر المطلوب وأما الثاني فإن ما تقدم من الأدلة الدالة على عدم الإضافة إلى المشترك يَدُلُّ عليه وهو كون المشترك ثابتًا فيهما قطعًا ومناط الحكم في الأصل جائز العدم أو بما ينفي الوجوب على هذا التقدير أو بالنافي لهذه الإضافة إلى المشترك

أما إذا لزم الأول فإنه إذا أضيف إلى المختص لم يكن مضافًا إلى المشترك إذ المشترك يمتنع أن يختصّ بالأصل وذلك لأن إضافته إليه إنما معناها أن الحكم ثبتَ به ولأجلِه سواء فُسِّر بالمضاف أو فُسِّر بأنه الموجب للحكم أو أن العلم به هو الموجب للحكم ومتى ثبت به ولأجله لم يكن ثابتًا بغيره ولأجل غيره لأن قولك ثبت به ما في قولك ثبت بغيره وإذا لم يكن ثابتًا بغيره فلا يكون مضافًا إلى المشترك ولا إلى القدر المجموع من المشترك والمختص لأن ذلك غير المختص وأما إذا لزم الثاني وهو عدم الإضافة إلى المشترك فظاهرٌ أنه يلزم عدم الإضافة إلى المشترك فيقال هنا مناقشة جدلية ومناظرة علمية أما المناقشة فإن الرجل إنما يقول أحد الأمرين لازمٌ إذا كان الدليل إنما يدلُّ على أحدهما فأما إذا دلَّ على كلٍّ منهما دليلٌ مستقل فالواجب أن يقال كلا الأمرين لازمٌ وأيضًا فإن ما ذكره ثانيًا من الدلالة على الإضافة إلى المختصّ وعدم الإضافة إلى المشترك كلاهما يدلُّ على المقصود به دون توسُّط المقدمة الأولى فتكون ضائعة لأنه أدخل في الدليل ما ليس منه وأيضًا فإنه لو عارض بما يدلُّ على الإضافة إلى المختص وبما ينفي الإضافة إلى المشترك كانتا معارضتين مستقلتين فلا تُجعَل معارضة واحدة

وأيضًا فإنه لو عارض بما يدلُّ على الإضافة إلى المختص وحده كان كافيًا لأن ما ينفي الإضافة إلى المشترك قد تقدم واعلم أن مقصود هؤلاء بإبهام الدعاوي وتغيير عباراتها أن يُظَنّ أن الدعوى الثانية غير الأولى وأن يعجز الخصمُ عن مقابلتها بمثلها فإذا حُقِّقَ الأمرُ عليهم انكشفَ أن الإبهام والتغيير لا يُفيد إلاّ ما أفادته الدعوى الأولى المعينة ثمّ المصنِّف لم يذكر في مقدمته ما يُقرِّر هذه المعارضة فبقيت دعوى قادحة مُقابَله بمثلها وأما الكلام العلمي فمن وجوه أحدها أنّا لا نُسلِّم تحقُّق واحدٍ من الأمرين قوله المناسبة تدلّ على الإضافة إلى المختص بالأصل من المعاني المناسبة قلنا لا نُسلِّم أن في الأصل معانيَ مختصّةً به مناسِبةً للحكم ومعلوم أن ذلك ادّعاءٌ يفتقر إلى دليل وهذا بخلاف المستدلّ فإنه زعم أن مصالح المشترك مناسبةٌ للإيجاب لأن الإيجاب في الجملة يُحصِّل مصالح في الأصل خاصّةً دون الفرع فهذا لا يُعلَم بدليل إجمالي فإن بين في الأصل معاني مختصة به فذلك كلامٌ صحيح وهو استدلالٌ بالأدلة الفقهية والكلام فيه الثاني أنه وإن كان فيه معاني مناسبة مختصة ففيه معاني مناسبة

مشتركة والوجوب طريقٌ صالح لتحصيل مجموع ذلك فيضاف الحكم إلى المجموع لا إلى أحدهما دون الآخر وهذا الكلام يمنع القياس أيضًا وإنما ذكرناه لبيان أن الإضافة إلى المختص وحده لا يجوز الثالث أنه إذا أضيف إلى القدر المشترك فقد حصل بالوجوب المصالح المطلوبة المختصَّة والمشتركة أما إذا أضفناه إلى المختصّ وحده لم تحصُل المصالح المطلوبة المشتركة فتكون إضافته إلى المشترك أولى وهذا كلامٌ جملي وإلاّ فالمرضيُّ عندنا أنه لو ثبت مناسبة الجميع لم يضفه إلى أحدهما إلاّ بدليل يختصُّه بل يضيفه إليهما وهذا يقول به من يرى ترجيح العلة المتعدية على القاصرة وفيه خلاف مشهور الرابع أنا نضيفه إلى المختص وإلى المشترك لأن إضافته إلى أحدهما لا تقدح في إضافته إلى الآخر أما إن قلنا إن تعليل الحكم الواحد بعلتين جائز كما هو قول الجمهور فظاهرٌ لأن الحكم في الأصل يكون ثابتًا لكلِّ واحدٍ من المختصّ والمشترك وإن قلنا إنه غير جائز فنقول ندّعي أنه ثبتَ في الأصل وصفانِ كلٌّ منهما لو انفرد لثبتَ به الحكم استقلالاً ولا خلافَ في جواز مثل هذا وهذا الكلام يقوله من لا يرى سؤال الفرق قادحًا والمرضيُّ عندنا أنه كلامٌ غير صحيح إلاّ أن يثبت كون واحدٍ من الوصفين علةً للحكم بنصٍّ أو تنبيه أو إجماع أو ثبوت به على انفرادِه في موضعٍ آخر فأما بمجرّد المناسبة فلا لأن الحكم اقترن بالوصفين فدعوى أنه لو اقترن

بأحدهما يثبت الحكم لابدَّ له من دليل ومجرّدُ المناسبة ليست دليلاً إلاّ بالاقتران إنما حصلَ لهما لا لأحدهما الخامس وأما قوله ما تقدم من الأدلة الدالة على عدم الإضافة إلى المشترك فنقول قد بيَّنا فيما مضى أنه ليس في شيء مما ذكره السائل ما يدلُّ على عدم الإضافة إلى المشترك قال الجدلي ولئن قال هذا مُعارَضٌ بمثلِه فنقول بعد المنع المدعى إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك أو الحكم في الفرع وبهذا يندفع ما ذكرتم أما قول السائل هذا مُعارَضٌ بمثله فكلامٌ صحيح في هذا الموضع إذ يقدر أن يقول الحكم لا يضاف إلى المشترك أو يضاف إلى ما يُحقِّق إضافتُه إليه عدمَ الإضافة إلى المشترك وقد أجاب عنه بجوابين أحدهما منع المعارضة بالمثل إذ لم يكن المشترك معينًا بأن يقول سلَّمنا أنه لا يُضاف إلى المشترك ولا ينافي ذلك إضافته إلى المشترك إذا كان هناك عدة مشتركات يضاف إلى بعضها ولا يُضاف إلى بعض والثاني بتغيير الدعوى أما الجواب الأول ففاسدٌ من وجوهٍ

أحدها أن قوله لا يضاف إلى المشترك اسم جنس مُحَلًّى باللام يقتضي الاستغراق الثاني أن جميع الكلام الذي مضى إنما هو في جميع أنواع المشترك وإلاّ لما انحصرت الصفات في المختص والمشترك الثالث أنه يمكنه أن يقول لا يضاف إلى مشترك أو يضاف إلى ما يُحقِّقُ إضافتُه إليه عدمَ إضافته إلى مشترك أو يقال يضاف إلى المختص أو إلى ما يُحقّق إضافتُه إليه الإضافةَ إلى المختصّ الرابع أن اللام للجنس أو للعهد وعلى التقديرين فلا يصح ما ذكره الخامس أن المعيَّن لا يمكن هذا المنع فيه اتفاقًا وأما الجواب الثاني فهو عامٌّ وهو متعين إذا كان المشترك معيَّنًا فإن قيل هذه الدعوى مغايرةٌ للأولى لأن ما لا يكون مختصًّا بالأصل يجوز أن يكون وجوديًّا ويجوز أن يكون عدميًّا بخلاف المشترك فإنه وجوديّ فصار الأول أعمَّ من الثاني وقد قام الدليل على كلٍّ منهما وهو المقتضي إضافةِ الحكم في الأصل إلى المختص وأيهما كان لزمَ عدم إضافة الحكم إلى المشترك أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فإنه إذا لم يضف الحكم إلى ما ليس مختصًّا بالأصل لم يضف إلى المشترك قطعًا لأن المشترك ليس مختصًّا بالأصل سواء قدر عدم إضافته إلى شيء أصلاً أو قدر

إضافته إلى شيء وليس هو مضافًا إلى غير المختصّ فإنه يكون مضافًا إلى المختصّ فلا يكون مضافًا إلى المشترك قلنا ما لا يكون مختصًّا بالأصل وإن جاز أن يكون عدميًّا لكنه هنا وجوديّ لأن الدليل على الحصر المقتضي لإضافة الحكم إلى المختص فعُلِم أنه مدعى على التقديرين لإضافة الحكم إلى المختص ولأن الحكم يضاف إلى ما ثبت به قطعًا وهو أمرٌ وجوديّ لا محالةَ وأنه لا يجوز أن لا يكون مضافًا إلى شيء لأنه لابدَّ لكل حكم في نفس الأمر من موجب وحينئذٍ فالموجب الذي لا يكون مختصًّا يكون مشتركًا لكن قد يتوجّه للسائل أن يمنع كون الحكم معلَّلاً أو مضافًا إلى شيء البتةَ وعلى هذا فيكون السؤال مغايرًا للأول من بعض الوجوه لكن ليس هذا مبنيًّا على أصول القياسيين فإن الأحكام عندهم معلَّلةٌ في نفس الأمر سواء علمنا العلل أو لم نعلمها وحينئذٍ فإذا كان مضافًا إلى شيء وليس مضافًا إلى غير المختصّ لزمَ أن يكون مضافًا إلى المختص فلا يكون بينه وبين الأول فرق على تقدير صحة القياس والكلام مبنيٌّ عليه فإن قلت من الأحكام ما هو بعيدٌ قلتُ البعيد هو ما لم تُعلَم عِلَّتُه فأما أن لا تكون له علةٌ في نفس

الأمر فلا وهنا بحوثٌ كثيرة ليس هذا موضعَ ذكرها ولما ادَّعى السائل عدمَ الإضافة إلى المشترك أو عدمَ إضافةٍ إلى ما يلزم منه عدم الإضافة إلى المشترك قابله المستدلُّ بمثل ذلك فادَّعى الإضافةَ إلى المشترك أو إلى ما يحقق الإضافة إلى المشترك أي ما تكون الإضافة إليه محقِّقةً للإضافة إلى المشترك وهو ما كان ملازمًا له بحيث يلزم من وجودِه وجودُ المشترك أو أن يكون سببًا للمشترك أو حكمة للمشترك أو سبب سببٍ أو حكمة حكمةٍ فإن الإضافة إلى واحدٍ من هؤلاء لا ينافي الإضافة إلى الآخر بل يُحقِّقها فإن السبب متضمن لحصول الحكمة بالحكم والحكمة إنما يتحقق حصولُها بالحكم عند تحقق السبب وهذا كما يقال أَكلَ لأنه جائعٌ وأكلَ للشِّبَع فإضافة الأكل إلى الشبع الذي هو الحكمة تُحقِّق الإضافة إلى الجوع الذي هو منشأُ كون الحكم محصِّلاً للحكمة والإضافة إلى الجوع الذي هو السبب تُحقِّق الإضافة إلى الشبع الذي هو الحكمة التي بها صار الجوعُ سببًا للأكل كما لم يصر سببًا لأكل ما لا يُشبِع والمناسبة المذكورة أولاً تدلُّ على الإضافة إلى المشترك وإلى ما يُحقِّق الإضافة إليه فإنه وإن كان غير المشترك لكنه لا يمنع الإضافة إليه كما تقدم واعلم أن ما دلَّ على ثبوت وصفٍ قد دلَّ على ثبوت لوازمه وما

دلَّ على انتفائه فقد دلَّ على انتفاء ملزوماتِه فإذا ادَّعى المدَّعي أن العلَّةَ في الحكم هي المشترك فقد ادّعَى أن المشترك متى حصل حصلَ الحكمُ سواء اقتضاه بنفسه أو بواسطة وقد ادعى ثبوت لوازم المشترك المساوية وكونها من لوازم العلة وتوابعها فإذا ادعى بعد ذلك الإضافةَ إلى تلك اللوازم كانت إضافته إلى اللازم المساوي الذي هو ملزوم إضافة إلى ملزومه المساوي لتلازم الوصفين وتصاحبهما فقوله إن هذه الدعوى تغاير الأول إن قال تغايرها في الصورة فقد صدق لكن ليس ذلك بمغايرة وإن زعم أنها تغايرها في الحقيقة فليس كذلك وإذا كان كذلك فكل من عارض بدليل هو من لوازم الأول لم يكن في الحقيقة معارضًا إلاّ بالأول فلا تكون المعارضة متعددة إلاّ في الصورة فتكون المعارضات مجرد تكريرٍ فلا تُقبل لأن تعدد المعارضة إنما فائدتُها تقوية الأول بالثاني فإذا كان الثاني قد انضم إلى الأول فليس فيه قوة زائدة على قوة الأول وكثيرٌ من كلام هولاء مبني على هذا وتقريره أن يقال إنا ندّعي أحد الأمرين وهو إما إضافة الحكم إلى المشترك أو ثبوت الحكم في الفرع وأيهما كان لزم ثبوت المدَّعى لأنه إن حصلت إضافة الحكم إلى المشترك ثبت الحكم في الفرع وإن ثبت الحكم في الفرع فقد ثبت المدّعى وهذا مغايرٌ لما تقدم من الدعاوي وكذلك إن قال المدَّعَى إضافة الحكم إلى المشترك أو استلزام الحكم في الأصل للحكم في الفرع أو ملزوميته أو يقول المدَّعي الإضافة يدَّعي الإضافة إلى المشترك أو مدارية المشترك

وهذا الجواب أيضًا باطل من وجوهٍ أحدها أن يقال هَبْ أنك ادعيتَ الإضافة إلى المشترك أو الحكم في الفرع لكن لا دليل يدل على الحكم في الفرع بدون الإضافة إلى المشترك إلاّ أن يذكر دليلاً آخر الثاني أن المعترض يمكنه أن يقول المدَّعى إضافة الحكم إلى المختص أو انتفاء الحكم في الفرع أو المدَّعَى انتفاء الإضافة إلى المشترك أو انتفاء الحكمة في الفرع وتقدير دعواه أسهل الثالث أن يقال هَبْ أنك تدَّعي أحد الأمرين الإضافة أو الحكم في الفرع أو الإضافة أو التلازم أو الإضافة أو الدوران لكن إذا لم يكن مع الدعوى بينة فأيّ حجة لصاحبها فليس في هذا الكلام إلاّ أنك حكيتَ مذهبك فبارك الله لك فيما تعتقد أيَّ شيء تَصنَع إذا كنت مدّعيًا لهذا فإنا نسلِّم أنك تدَّعي هذا لكن لا نُسلِّم بصحة الدعوى ولم تَقْرِن بهذه الدعوى ما يدلُّ على صحتها فيجب ردُّها من حيث بدأتْ منكوسةً على أمِّ رأسها فإنّ ما تقدم من الكلام إن دلَّ فإنما يدلُّ على الإضافة إلى المشترك ولم يدل على أحد الأمرين وحينئذٍ فلا يثبت أحد الأمرين إلاّ بعد ثبوت الإضافة إلى المشترك فيكون قد ادّعى الإضافة إلى المشترك عينًا أو دعوى لا دليل عليها وعلى التقديرين لا يصحّ الجواب الرابع أن دعوى أحد الأمرين إن كانت هي الدعوى الأولى أو ملزومة للدعوى الأولى فما ينفي الأولى ويعارضها ينفيه وينفي

ملزوماتِه وإن لم تكن هي ولا ما يستلزم ثبوتها وأيضًا فإن من ادعى شيئًا لا يُقبل منه بعد ذلك الرجوعُ عنه ودعوى ما يستلزمه ومتى بقي على الدعوى الأولى لزم عليها ما تقدم وإن ادَّعى ما يغاير الأول ولا يستلزم الأول فذاك لا ينفعه والنكتة أن الدعوى إن غُيِّرتْ لفظًا لم تَنفع وإن غيّرت في المعنى لم تُقْبل الخامس أن مقابلة الدعوى بالدعوى لا تُجدِي ولا تُفِيد بل هو بابٌ لا يَنْسَدّ فإن قال الخصم لما عارضني بدعوى عارضتُه بمثلها ومهما عارضني بدعوى عارضتُه بمثلها حتى أعارضه بدعوى لا يَقدِرُ على أن يعارضني بمثلها قيل له بل يقدر أن بعارضك بمثلها فإن المعارضة بالدعاوي بابٌ لا ينسدُّ إلاّ أن يُغلق وليس أحدٌ من العقلاء مؤمنهم وكافرهم يحتاج أن يعارض الدعوى بالدعوى على سبيل المحاجة والمناظرة ثم إن كان هو المبتدئ بالمعارضة فيكفيك أن تقابله بدعوى مقابلةً للفاسد بالفاسد إن كنت ترضى بسلوك هذا الطريق الحائد ولا تزالان هكذا إلى أن تقوم القيامة أو أن يعجز أحدكما عن أن يتم كلامه فإذا قال لك هذا مُعارَضٌ بمثله قُلْ له وهذا معارَضٌ بمثله السادس أنه يمكنه أن يقول لا يتحقق أحدهما أصلاً لأنه لو تحقق أحدهما للزم إضافة الحكم إلى المشترك فإن اشتراك الأصل

والفرع في الحكم يُوجِب اشتراكهما في الموجب وإضافته إليه ولا يتحقق الإضافة إلى المشترك لما تقدم وهذا سؤال المعترض كما سيأتي قال صاحب الجدل الباطل ولئن قال لا يتحقق أحدهما أصلاً وإلا لتحقق إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك ولا يكون مضافًا إلى المشترك لما بيناه ولأنه لو كان مضافًا إلى المشترك لكان المشترك علة والمانع عن الحكم متحقق في الفرع فيتحقق التعارض بينهما وأنه على خلاف الأصل ما عُرِف حاصل هذا السؤال أنه يقول لا يتحقق أحد الأمرين لأنه لو تحقق أحدهما لتحققت الإضافة إلى المشترك لأن اللازم منهما لا يخلو إما أن يكون هو الإضافة أو ما قُرِن به من الحكم في الفرع ونحوه فإن كان الأول فظاهر وإن كان الثاني فالحكم إذا ثبت في الفرع يلزم الإضافة إلى المشترك لوجوهٍ أحدها مناسبة المشترك السالمة عن معارضة تخلف الحكم في الفرع الثاني أن الاتفاق في الحكم دليلُ الاتفاق في المصلحة إذا لو

لم يكن كذلك للزمَ إما إلغاء المصلحة الزائدة أو عدم الحكم عند عدمها وكلاهما ممتنع الثالث إذا ثبت الحكم في الفرع فالمشترك بينه وبين الأصل إن لم يكن هو العلة فالعلةُ إما ما يختصّ به الفرع وهو خلاف الإجماع ولنه لو كانت العلة ما يختص به الفرع لم تكن إضافة الحكم إليها أصلاً يشهد له بالاعتبار وإما ما يختصُّ به الأصل ولو كان ذلك لامتنع إلحاق الفرع به فلابدَّ أن يكون المشترك علة على هذا التقدير وكذلك على تقدير مدارية المشترك أو على تقدير ملزومية الحكم في الأصل الحكم في الفرع فإنه لابدّ أن تتحقق الإضافة إلى المشترك على هذه التقادير لما تقدم أو لا تحقق الإضافة إلى المشترك إليه لما مرّ فلا يتحقق أحدهما إذ المراد به ما يناقض شمولَ العدم لهما في الدلالة على عدم الإضافة وأنه لو أضيف الحكم إلى المشترك لكان مقتضيًا للحكم المتنازع فيه فيلزم أن يعارضه المانع من الحكم المتنازع فيه والتعارض على خلاف الأصل فلا يكون المقتضي موجودًا فلا يكون مضافًا إلى المشترك واعلم أنه يمكن إقامة الدلالة على عدم الإضافة إلى المشترك من وجوهٍ متعددة من هذا الجنس الذي أثبت به المستدل الإضافة إلى المشترك لأن عدم الإضافة إلى المشترك من لوازم عدم كون الحكم في الأصل مضافًا إلى شيء بأن يكون تعبديًّا ونحوه ومن لوازم عدم الحكم بما الحكم مضاف إليه في نفس الأمر ومن لوازم عدم

الحكم إلى ما يختص بالأصل ومن لوازم الإضافة إلى غير المشترك ومن لوازم علة اختصاص الحكم بالأصل ومن لوازم رجحان العلة في الأصل على الفرع ومن لوازم اختصاص الفرع بمانع يمنع الحكم إلى غير ذلك من الأمور التي يستلزم كلٌّ منها عدمَ الإضافة إلى المشترك فيمكن المعترضَ أن يدَّعيَ واحدًا منهما أو أحد أمرين منهما أيهما شاء أو واحدًا منهما على تقدير عدم الآخر بأن يدعي الأول على تقدير عدم الثاني أو تقدير عدم الثالث وكذلك أنها عينة على تقدير أنها عين عدمه غير الأول أو يدّعي أحدهما أولاً على تقدير عدم أحدهما وكذلك يدّعي أحدهما ثانيًا على تقدير عدم أحدهما بعدد تلك الأمور التي تستلزم عدم الإضافة وقد عددنا منها سبعة فإن شاء ذكرها أو ذكر أربعة منها أو أقل أو أكثر أو يدّعي أحدهما أولاً على تقدير عدم أحدهما ثانيًا وبالعكس وكذلك يدَّعي أحدهما ثانيًا وما بعده من المرات وذلك لأن هذه الأمور المستلزمة للعدم يثبت المدَّعَى بكل واحد منها على التعيين وبكل واحدٍ منها على الإبهام وبالمبهم اثنين أو ثلاثة أو نحو ذلك منها وبأحدها على تقدير عدم الآخر معينًا ومبهمًا وبأحدهما أولاً على تقدير عدمه ثانيًا لأنه يمكنه أن يعدّد المعارضات بعددها فإذا ثبت الحكم به في مرة من المرات ثبت المدَّعى وإذا تبيَّن لك ذلك علمتَ أن جنس ما ينفي الإضافة إلى الأمر المشترك من هذه الأمور العامة أكثر من جنس ما يثبت الإضافة إليه

فيكون جانب المعترض هو الراجح في هذه الطريقة وهذا كما ذكرناه في التلازم أن ما ينفيه من هذا الجنس أكثر مما يثبته وهذا من رحمة الله سبحانه فإنه لم يكن دليل مغلطي مموّه إلاّ نصبَ الله من جنسه ما ينفي مقتضاه غير منع مقدماته فيفيد ذلك مقابلة المستدل به بمثل دليله فينقطع ويعلم أن الشيء الواحد إذا دلَّ على نوعه على النقيضين كان نوعُه باطلاً وهذا مما يُبيِّن فسادَ جميع ما يُستدلُّ به من هذا الجنس من الحجج المموّهة فلما كان الأمر كذلك احتالوا لإتمام كلام المستدل بما سيأتي ذكره وبيانُ فسادِه وعدمِ تمامِه واعلم أن هذا السؤال المذكور في الجواب فاسدٌ عند التحقيق لوجوهٍ وذلك أن مبناه على أن يقال لا يتحقق أحدهما وهو إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع لأنه لو تحقق أحدهما لتحقق إضافة الحكم في الأصل المشترك لأنه إن كان الثابت إضافة الحكم إلى المشترك فقد لزم إضافة الحكم في الأصل إليه وإن كان الثابت هو الحكم في الفرع فثبوته في الفرع إنما هو لأجل القدر المشترك إذ ليس في الفرع ما يوجب اختصاصَه به بالإجماع ولأن الأصل عدم علة زائدة ولأنه إذا ثبت في الفرع لزم إضافته إلى المشترك بنفس الدليل الذي دلَّ على أنه ثبت في الأصل ثبت لأجل القدر المشترك أولى لأن عامة الأسولة مندفعة عنده وإذا كان للمشترك فقد لزمت إضافة الحكم إلى المشترك وهو المدَّعى ثم قال واللازم منتفٍ وهو إضافته إلى المشترك لما بيّنا قال ولأنه لو كان مضافًا إلى المشترك لكان المشترك علة

والمانع عن الحكم متحقق في الفرع فيتحقق التعارض بينهما وأنه على خلاف الأصل على ما عُرِفَ لأن علة الحكم ما أضيف الحكم إليه وذلك يوجب ثبوته في الفرع وفي الفرع ما يمنع ثبوته فيتعارض المقتضي والمانع وتعارضُ الأدلة على خلاف الأصل لاستلزامِه تركَ العمل بأحد الدليلين وذلك فاسدٌ من وجوه أحدها قوله وإلا لتحقق إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك ولا يكون مضافًا إلى المشترك لما بينا قلنا الذي ذكرتَه ممّا ينفي الإضافة إلى المشترك قد تقدم الجواب عنه بما دلَّ على نقيضه وبالجواب عنه فلم يبقَ ذلك دليلاً يدل على عدم الإضافة إلى المشترك حتى يُستدلَّ بها هنا على عدم الإضافة الثاني قوله والمانع عن الحكم متحقق في الفرع فيلزم التعارض قلنا أيُّ مانعٍ في الفرع فإنك لم تُبْدِ مانعًا في الفرع لا في أول كلامك ولا في آخره فلا يُسلَّم وجودُ مانع في الفرع فعليك بيانه فإن قيل الحكم المتنازع فيه من الأحكام الشرعية فلابدَّ أن يتحقق فيه المقتضي والمانع إذ المجتهد لا يقول بأحد الحكمين إلاّ بدليل عنده قلنا أولاً هذا إن صحَّ فهو يوجب وقوعَ التعارض فلا يُقبل ما ينفي وقوعَه وإن لم يصحّ فقد بطل الاستدلال على المانع وثانيًا إن الاختلاف يدلُّ على وجود حجة في الجملة سواء كانت صحيحة أو فاسدة لكن لا يلزم منه وقوع مانعٍ صحيح وإذا لم يدلّ على وقوع مانعٍ صحيح فالتعارض بين الصحيح والفاسد ليس على

خلاف الأصل الرابع أنّا قدَّمنا ما يدلُّ على ثبوت الحكم في الفرع وذلك يدل على عدم المانع لأنه لو كان موجودًا لزم التعارض بينه وبين ما ذكرناه وذلك على خلاف الأصل الخامس أن يُعارَض هذا الكلام بمثله فيقال لو لم يتحقق أحدهما لزم إضافة الحكم إلى المختص وذلك يوجب امتناعَ الإضافةَ إلى المشترك وعدم الحكم في الفرع وهو باطلٌ لما بيّناه ولنه لا مانع في الفرع لأنه لو كان فيه مانع لزم المعارضة بينه وبين المقتضي الذي ذكرناه والمعارضة على خلاف الأصل قال الجدلي فنقول لا نُسلِّم بأنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققةً بل لا يكون كذلك لما ذكرتم من الدلائل ولئن منع فذلك مدفوعٌ بالضم بأن نقول المدَّعَى أحد الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل أو نقول المدَّعَى أحدهما على تقدير عدم أحدهما اعلم أنّ حاصل هذا الكلام أن المستدلَّ مَنَعَ إضافةَ الحكم إلى المشترك على تقدير أحدهما أي على تقدير الإضافة إلى المشترك وعلى تقدير الحكم في الفرع بأن قال لا أسلّم أنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة إلى المشترك متحققة بل لا تكون متحققة لما ذكرتم من الدلائل الدالة على عدمها

فمنعه المعترض دلالة الأدلة على تقدير أحدهما وهو منع ظاهر فإنه إذا تحقق أحدهما تحققت الإضافة إلى المشترك لما مرّ فلا تكون الإضافة منتفية بالأدلة النافية على تقدير ثبوتها فقال المستدل هذا مدفوعٌ بالضم أي بضم الدلائل الدالة على عدم الإضافة إلى المنع والدعوى وذلك أن يقول المستدل المدعَى ابتداءً أحدُ الأمرين إما إضافة الحكم في الأصل إلى المشترك أو الحكم في الفرع منضمًّا إلى تلك الدلائل الدالَّة على عدم الإضافة إلى المشترك فإذا ادَّعىَ ذلك احتاج السائلُ أن يمنعه مع ذلك القيد بل يقول لا يتحقق أحدهما فإنه لو تحقَّقَ أحدُهما منضمًّا إلى ما ذكرنا من الدلائل لتحققت الإضافة إلى المشترك وإذا قال ذلك قيل له لو تحقق أحدهما مع الدلائل النافية للإضافة إلى المشترك لم تتحقق الإضافة إلى المشترك لأن ذلك التقدير المضموم ينفي الإضافة إليه وكذلك لو قال لا يتحقق احدهما مع الدلائل المضمومة لأنه لو تحقق معها لتحققت الإضافة قيل له لا يتحقق على ذلك التقدير ولا يمكنه أن يقول أن يمنع عدم تحقق الإضافة على ذلك التقدير فهذا مما يقوله المموهون في دفع المنع على التقدير كما تقدم وقد أجاب المستدل بجواب ثان وهو أن يقال المدعى أحدهما على تقدير عدم أحدهما أي المدعى الإضافة إلى المشترك أو الحكم

في الفرع بتقدير عدم أحدهما وحينئذ فتقرير دلالة الدلائل الدالة على نفي إضافة الحكم إلى المشترك إما أن يكون واقعًا أو لا يكون فإن كان واقعًا لم تكن الإضافة إلى المشترك واقعة فيكون المدعى الحكم في الفرع على هذا التقدير وإن لم يكن واقعًا لزم عدم ما ينفي الإضافة إلى المشترك وحينئذ فالمدَّعَى الإضافة إلى المشترك على تقدير عدم النافي لهذه الإضافة قد ادعى كل منهما على تقدير عدم الآخر فلا يضر منع دلالة الدلائل على عدم الإضافة إلى المشترك على تقدير أحدهما لأنه إنما ادَّعاها على تقدير عدم أحدهما ولا يُمكِن المعترضَ أن يقول لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققة كما تقدم لأن المستدل يقول لو تحققت الإضافة لتحققت بدون الحكم في الفرع والمجموع غير واقع لما مرَّ من الدلائل الدالة على الحكم وعدم الإضافة وإذا تحقق احدهما على تقدير عدم أحدهما تحقق في الواقع لأن عدم أحدهما إن كان واقعًا في الواقع تحقق أحدهما وإن لم يكن واقعًا تحقق نقيضُه وهو وجود أحدهما ولأنه إذا تحقق أحدهما على تقدير عدم أحدهما تحقق افتراقهما أعني تنافيهما على ذلك التقدير فذلك إن كان واقعًا في الواقع لزم وجود أحدهما ضرورة وإن لم يكن الاقتران واقعًا لزم انتفاء التقدير فيلزم انتفاء أحدهما على التقدير وقد يدعي أحدهما في الواقع من غير ضمّ لكن إذا لم يكن التقدير واقعًا عنده بأن يقول ما ذكره من الدلائل الدالة الواقعة في الواقع إما أن تكون واقعةً أو لا تكون فإن كانت واقعةً لم يصحَّ منعُها

وإن لم تكن واقعةً في التقدير وهي واقعة في الواقع فالتقدير غير واقع لاستلزتمه رفعَ الواقع في الواقع أو يقال الواقعُ في الواقع واقعٌ على التقدير الممكن في الواقع وإلا لم يكن التقدير الممكن في الواقع واقعًا على التقدير الممكن في الواقع ممكنًا في الواقع وهو محال وقد تقدم الكلام فيما يُشبه هذا وسيأتي إن شاء الله واعلم أن هذا الكلام فاسدٌ أشدُّ فسادًا مما قبله من وجوه أحدها أنه منع ما لا يقبل المنع وهو قوله لا نسلِّم أنه لو تحقق أحدهما لكانت الإضافة متحققة فإنا قد بيّنا في تقرير السؤال أنه متى لزم إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع قد تحقق الإضافة إلى المشترك لأنه إذا ثبت الحكم في الفرع فالمقتضي له إمّا المشترك أو غيره أو لا هو ولا غيره والقسمان الثانيان باطلان بالإجماع وبالنافي وبالأدلة المتقدمة وبالمناسبة وبالدوران فتعين الأول الثاني أنه مٌنع الشيء بعد تسليمه وذلك غير مقبول بل هو انقطاع لأنه قد تقدم قوله الحكم يضاف إلى المشترك أو إلى ما يحقق الإضافة إلى المشترك أو لزوم الحكم في الفرع فلابد أن يكون الحكم في الفرع يُحقق الإضافة إلى المشترك لئلا يتناقضَ الدعويانِ فإذا قال بعد هذا

لا نسلّم لزومَ الإضافة إلى المشترك كان منعًا لما ادعاه وسَلَّمه وهو ثبوت الإضافة إلى المشترك أو ما يُحقّق الإضافةَ إليه وهو ثبوتُ الحكم في الفرع الذي يُحقّق الإضافة إلى المشترك الثالث أنه لو لم تكن الإضافة محققةً لبطل أصلُ دليله لأن مَبناه على إضافة الحكم إلى المشترك فإذا منعه على تقدير صحة دعواه فقد لزم بطلان إضافة الحكم إلى المشترك أو بطلان تحقق أحد الشيئين الإضافة أو الحكم في الفرع وإنما ذلك يُبطِلُ دليله وبيان ذلك أنه لا يخلو إما أن يتحقق أحدهما أو لا يتحقق فإن تحقق أحدهما فإما أن تتحقق الإضافة أو لا تتحقق فإن تحققتْ بطل هذا المنعُ وإن لم تتحقق فالإضافة غير متحققة فلا يصح الدليل وإن لم يتحقق أحدهما فالمنتفي إما ثبوت الحكم في الفرع وهو المدعى فيلزم امتناع ثبوت المدعى وإما الإضافة فيبطل الدليل فكيف يصح الجواب عن نقض معارضات الدليل بإبطال نفس الدليل فعُلِمَ أن هذا المنع موجبٌ لبطلان الدليل وهو قاطع الرابع قوله بل لا تكون محققة لما ذكرتم من الدليل والخصم لم يذكر دليلاً كما بيّناه الخامس أن الدليل الذي ذكره يمنع إضافةَ الحكمِ إلى المشترك فإن صحَّ هذا الدليلُ بطلَ أصلُ دليل المستدل وإن لم يصحَ بطلَ قوله بل لا يكون كذلك أعني قوله لا تكون الإضافة متحققة

وإذا بطل كون الإضافة متحققةً ثبت كون الإضافة متحققة فعلم أن قوله لا تكون الإضافة متحققة على هذا التقدير كلام باطل السادس أن تحقق أحدهما إما أن يكون مع جملة الأمور الواقعة واقعًا أو غير واقع فإن كان واقعًا فمن جملة الأمور الواقعة تحققُ الإضافة لما مرّ وإن كان غير واقع في جملة الأمور الواقعة فقد امتنع إما إضافة الحكم إلى المشترك أو الحكم في الفرع وإذا بطلَ أحدُهما بطلَ دليلُه أو مذهبُه السابع قوله ولئن منعَ فذلك مدفوعٌ بالضمّ بأن نقول المدعَى أحد الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكره من الدلائل معناه ولئن منعَ المعترضُ كون ما ذكر من الدلائل دالاًّ على عدم الإضافة على تقدير تحقق أحدهما وهو الإضافة إلى المشترك أو الحكم في الفرع وهذا المنع قد تقدمَ نظيرُه في التلازم وغيره فإنه يقول لا أُسلِّم أن ما ذكرت من الدلائل دالاًّ على عدم الإضافة على التقدير الذي ادعاه المستدل تقدير تحقيق أحدهما وهو منعٌ صحيح متوجه وليس عنه جوابٌ يتحقق إلا بتقرير التقدير الذي ادعاه المستدلُ ولو ثبت له ذلك التقدير لاستغنى عن هذا الكلام وقد تقدم ذكر توجيهه وبيانه هنا أن يقال ما ذكرتَه من الدلائل الدالة على عدم الإضافة إن كانت سالمةً عن المعارض أو راجحةً عليه فإنه يستلزمُ عدمَ الإضافة لاستلزام الدليل السالم أو الراجح ثبوتَ مدلولِه وعدمُ

الإضافة يستلزم عدم الحكم في الفرع لأن الحكم إذا لم يكن مضافًا إلى المشترك كان مضافًا إلى المختص وحينئذٍ يمتنع ثبوته في الفرع لعدم المختص كما مرّ تقريره ولأن المقتضي له إما المشترك أو غيره وغيرُه منفيٌّ بالأصل والمشترك بما ذكره فيلزم انتفاءُ الحكم فيه مطلقًا ولأن المستدل إنما يُثبِت الحكمَ في الفرع بالإضافة إلى المشترك والخصمُ يمنع ثبوتَه مطلقًا فلو جاز ثبوتُه في الفرع بدون الإضافة إلى المشترك كان على خلاف الإجماع فما ذكرته من الدليل مستلزمٌ عدمَ الإضافةِ وعدمَ الحكم في الفرع لكونِ الدليل دالاً على عدم الإضافة وعدم الحكم في الفرع فلزم تحقق أحد الأمرين مع انتفاء كل واحد من الأمرين وذلك جمعٌ بين النقيضين وهو محال وهذا المحال إنما لزم من كون الأدلة المانعة من الإضافة مانعةً على تقدير ثبوت أحدهما أعني الإضافةَ أو الحكمَ في الفرع فيكون دلالةُ الأدلة على هذا التقدير مستلزمًا للمحال وما يستلزم المحالَ فهو محالٌ لوجوب امتناع الملزومِ عند امتناع اللازم فعُلِمَ أن المنع منعٌ صحيحٌ ثابتٌ بالبرهان الضامن قوله فذلك مدفوعٌ بالضم بأن نقول المدَّعَى أحدُ الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل أو نقول المدعى أحدُهما على تقدير عدم أحدهما وحاصل هذا الكلام أن يقول المستدل أنا أدَّعي ثبوتَ أحد

الأمرين وهو الإضافة إلى المشترك أو ثبوت الحكم في الفرع منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل الدالة على عدم إضافة الحكم إلى المشترك وإذا ادعيتُ ثبوتَ أحدهما منضمًّا إلى ما ذكرتم من الدلائل لم يصحَّ منعُ دلالة الدلائل مع ثبوت أحدهما لأنه منعٌ لنفس المدَّعَى أو يقول المستدل أنا أدَّعي أحدهما على تقدير عدم أحدهما أي أدَّعي أحدَ الأمرين الإضافة إلى المشترك على تقدير عدم الحكم في الفرع أو أدّعي الحكم في الفرع على تقدير عدم الإضافة إلى المشترك واعلم أن نفسَ تفسير هذا الكلام وتصوّره يُبيِّن لك صحته من فساده فهل سمعتَ بعاقلٍ قَطُّ يَدَّعي دعوى بعضُها يَنقُض بعضًا وثبوتُها يوجب إبطالها وكأنه قَصَدَ بهذا ترويجَ هذه العبارة على من لا يفهم معناها لكنه يسمع المدعى أحد الأمرين أو المدعى أحدهما على تقدير عدم أحدهما فيحسن أن هذه دعوى صحيحة أو دعوى ممكنة الصحة فإذا تَصَوَّر معناها عَلِمَ مقتضاها فيقال له قولك المدعى أحدُ الأمرين ابتداءً منضمًّا إلى ما ذكرتم من نفي الإضافة إلى المشترك نفي الحكم في الفرع بالإجماع والمناسبة والدوران والنافي لغير ذلك وتسليم المستدل لذلك في أول استدلاله فإذا ادعيتَ أحدَهما بنفيِهما جميعًا فقد ادعيتَ الجمعَ بين النقيضين لأنك ادعيتَ وجودَ أحد الشيئين مع انتفائهما جميعًا وكذلك أيضًا قوله المدعى أحدهما على تقدير عدم أحدهما جوابه أن يقال ثبوتُ أحدِهما على تقدير عدم أحدهما محالٌ

وجمعٌ بين النقيضين لأن أحدهما إن كان هو الإضافة إلى المشترك فلا يصح دعواه على تقدير عدم الحكم في الفرع لأن وجوده مستلزمٌ للحكم في الفرع فكيف يكون موجودًا ولازمه معدوم وإن كان أحدهما هو الحكم في الفرع فهو مستلزم للإضافة إلى المشترك فكيف يصحُّ دعوى وجودِه مع انتفاء لازمه فحاصله أنهما متلازمانِ لما مَرَّ غير مرةٍ فدعوى أحدهما على تقدير عدم أحدهما دعوى وجود الملزوم مع عدم اللازم أو دعوى انتفاء اللازم مع وجود الملزوم وذلك فاسدٌ بالضرورة كما عُرِفَ في التلازم التاسع أن يقال هَبْ أنك تدّعي أحدهما مع الانضمام إلى الدليل أو تدّعي أحدَهما على تقدير عدم أحدهما لكن مجرد الدعوى لا يُحِقُّ حقًّا ولا يُبطِل باطلاً فلا نسلِّم ثبوتَ المدعى فعليك إثباته فإن أثبته بما ذكره من الكلام كان دورًا أو تسلسلاً وهو باطل وإن أثبته بغيره فقد احتاج إلى دليل ثانٍ يدل على الحكم في المسألة وذلك انتقالٌ من دليلٍ إلى دليلٍ قبلَ تمام الأول فيكون انقطاعًا أو أن يكون معارضةً صحيحة للمعترض في معارضته ليسلم الدليل الأول وهذا يكون مقبولاً والفرق بين الانتقال والمعارضة أن الانتقالَ يكون قبل ثبوت المقدّمَات ولزوم الدليل منها بل ينتقل إذا منع المقدمات أو عُورِضَ فيها إلى دليل مستقل والمعارضة تكون بعد ثبوت المقدمات ولزوم الدليل منها فيعارضه المعترض في المقدمة أو في حكم الدليل فيعارض المعترض بدليل آخر إمّا في نفس مقدماته أو بعد ثبوتها ليسلم الدليل الأول فإن الدليلينِِ راجحانِ على دليل واحد إذا كانت متكافئةً في القوة

العاشر أن يُقال قولك المدعى أحدهما منضمًّا إلى الدليل المانع من الإضافة فذلك المانع من الإضافة إما أن يكون واقعًا في الواقع أو غيرَ واقع فإن كان واقعًا فقد بطلت الإضافةُ إلى المشترك فيبطلُ أصلُ الدليل لأن ثبوتَ الحكم في الفرع لم تُثبتهُ إلا بالقياس على الأصل بواسطة الإضافة إلى المشترك وإن لم يكن واقعًا فقد ادعيتَ أحدَهما منضمًّا إلى أمرٍ غير واقع فكأنك قلت أدّعي دعواي إذا كانت الأمور التي ضممتُها إليها غير واقعة وإذا كانت الضميمةُ غيرَ واقعةٍ لزمَ عدمُ وقوع ملزومها وهو الدعوى فتكون قد ادعيتَ أحدهما بتقدير كونهما غير واقعينِ وذلك دعوى وجودِ الشيء بتقدير عدمه وهو دعوى كون الموجود معدومًا وهو دعوى المحال وكذلك يقال على قوله المدعى أحدُهما بتقدير عدم أحدهما يقال عدم أحدهما إن كان غيرَ واقع فقد ادعيتَ أحدَهما بتقدير غير واقع وهو دعوى المحال كما مرَّ وإن كان هذا التقدير واقعًا وهو عدم أحدهما فذلك المعدوم إن كان حكم الفرع فقد بطلَ أصلُ الدعوى وإن كان الإضافة إلى المشترك فقد بَطَلتِ الإضافةُ إلى المشترك فيبطلُ الدليلُ الذي ذكرتَه في أول المسألة فيثبتُ الانقطاعُ الحادي عشر أنا إذا سلَّمنا صحةَ الدعوى كان حاصلُها أنا ندَّعي الحكمَ في الفرع على تقدير عدم الإضافة إلى المشترك امتنع أن يكون المدَّعى هو الإضافة إلى المشترك فيكون هو الحكم في الفرع ونحن نسلِّم أن يُدَّعَى ذلك لكن بغير دليل فإن استدل بالقياس المذكور كان

دورًا وإن استدل بغيرهِ فذاك دليلٌ مستقل وذلك انقطاعٌ عن إتمام الدليل الذي استدلَّ به الثاني عشر أنه إذا ادعى هذه الدعوى فقد رجع عن دعوى الإضافة إلى المشترك عينًا وذلك يُبطِلُ دليلَه واعلم أنك إذا فهمتَ حقيقةَ كلامه فلك أن تتصرفَ بالأدلة الدالة على فساده وتُخالفَ بين تركيباتها حتى يُمكِنك أن تذكر وجوهًا كثيرةً من صور الاستدلال وأنواعه الدالة على فساد هذا الكلام الذي قد عُلِمَ فسادُه بالضرورة فإن ما عُلِمَ صحتُه أو فسادُه بالضرورة لم يمتنع أن تكونَ هناك أدلةٌ تقتضي صحتَه أو فسادَه بل الواقع كذلك فإنّ تواردَ الأدلة على المعلومات واقعٌ في الموجودات لكن قد يقال الدليل لا يُحتاج إليه وقد يقال بل فيه فوائد وهو خُطور المدلول بالبالِ عند ذهولِه عن حقيقةِ التصور وعن سائرِ الأدلة والاستدلال بها على من عَسَى ذِهنُه يَقصُرُ عن درك الحقيقة أو من يَنفِي الحقيقةَ جدالاً وعنادًا إلى غير ذلك من الفوائد ومدارُ إبطالِه هنا على الملازمة بين الإضافة إلى المشترك وبين ثبوت الحكم في الفرع كما قدمناه وعلى أن الدليل الذي شرعَ فيه قد بطلَ وصَار مُدَّعيًا محضًا قال الجدلي ولئن قال العدم في المتنازع مما يستلزم عدمَ كل واحد ممَّا ذكرتم والدليل دلَّ على العدم فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كل واحدٍ منهما فنقول الوجوب في

المتنازع مما يستلزم أحدَهما قطعًا فالدليل دلَّ على الوجوب فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ أحدِهما كما ذكرتم هذا أيضًا دعويانِ من نمط تلك الدعاوى إلا أن العبارة تغيرت وحاصلُه أن المعترض قال عدم الحكم المتنازع فيه يستلزم عدمَ الإضافةِ إلى المشترك وعدمَ الحكم في الفرع لأن الحكم إذا عُدِمَ فقد عُدِمَ الحكمُ في الفرع بالضرورة وعُدِمت الإضافةُ إلى المشترك لأنه يمتنع اجتماعُ الإضافةِ إلى المشتركِ وعدمِ الحكم في الفرع إذ لا معنى لإضافة الحكم إلى المشترك إلا وجود الحكم معه ولا يجوز أن يقال تخلَّفَ عنه لمانعٍ لأن المشترك هو ما يشترك فيه الصورتانِ من المقتضي للحكم وعدم المانع منه ويمتنع أن يُضافَ الحكمُ إلى ذلك ويكون معدومًا عن محلِّه فإذا كانت الإضافة إلى المشترك موجودةً أو أدلتُه موجودة لزمَ تخلُّفُ المعلولِ عن علَّتِه والمدلولِ عن دليله إلا لمانع وهو باطل بالضرورة والإجماع ولن الحكم إذا عُدِمَ لم يبقَ عليه دليلٌ خالٍ عن معارضةٍ راجحةٍ ولا علةٌ خاليةٌ عن معارضة إذ لو كان عليه علةٌ أو دليلٌ راجحٌ لما عُدِمَ وعَدَمُ الأدلةِ والعللِ الراجحة يُبطِلُ ما ذكره المستدلُّ من الإضافة الموجبة ثبوتَ الحكم في الفرع ولأنه يقتضي الإضافةَ بالأدلة النافية السالمة عن معارضةِ اتحادِ الأصل والفرع في الحكم ثم قال والدليل قد دلَّ على عدم الحكم المتنازع فيه من النصوص النافية وغيرها فيتحقق هو وهو عدم الحكم في الفرع أو

ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كلِّ واحدٍ منهما لأنّ عدمَ الإضافة إلى المشترك وعدمَ حكم الفرع كلٌّ منهما لازمٌ لعدم الحكم المتنازع فيه فإنَّه إذا عُدِمَ الحكمُ المتنازعُ فيه فقد عُدِمَ حكمُ الفرعِ وعَدِمَت الإضافةُ إلى المشترك فإذا تحققَ عدمُ الحكم المتنازع فيه فأحد الأمرينِ لازمٌ وهو إما أن يتحقق عدمُه أو يتحقق ملزومٌ من ملزوماتِ عدم كل واحدٍ منهما وذلك الملزوم هو عدمُ الحكم المتنازع فيه بعينه فإنه ملزومٌ لعدم الحكم في الفرع وملزومٌ لعدم الإضافة إلى المشترك أو يقول فهو ملزوم من ملزوماتِ عدم كل منهما سواء كان نقيضَ الحكم أو ما يُساوي النقيضَ أو ضدَّ الحكم أو ما يُنافيه أو يقول يتحقق عدمُ الحكم في الفرع ولوازِمه ومن لوازمه عدمُ كلٍّ منهما أو يقول يتحقق الملزوم أو اللازم وإذا تحقق ما هو مستلزمٌ لعدم كل منهما تحققَ لازمُه وهو عدمُ كلٍّ منهما وإذا عُدِمَ كلٌّ منهما بطلَ دعوى وجودِ أحدهما لامتناع اجتماع النقيضين فتبيَّن أنه إذا عُدِمَ الحكمُ المتنازعُ فيه فلا بُدّ أن يتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدمِ كلٍّ منهما فيتحققُ عدمُ كلٍّ منهما واعلم أن هذا لكلام دعوى عاريةٌ لَيْسَ فيها زيادةٌ على الدعاوى الماضية سوى تغييرِ العبارة وتطويلها بغير فائدةٍ وسلوكِ الطريق المُعْوجَّةِ المنكوسة وما مثل هذا إلاّ مثل من قيل له أين أذنك اليسرى فوضعَ يدَه اليمنى فوق رأسِه ثم نزلَ بها على أذنه وترك أن يوصلها إليها من تحت ذَقَنِه ومثل من سلك ما بين فُرضَتَي القوس على

ظهره دون وتره ومثل من أراد أن يذهب من الشام إلى مكة فذهب من أرمينية إلى الصين ومن الصين إلى الهند ومن الهند إلى اليمن ومن اليمن إلى الحجاز بل مثل مَن رَحَلَ إلى العُلا ثم رجع إلى تبوك ثم ذهب إلى العُلا ثم رجع إلى مَعَان ثم ذهب إلى العُلا ثم رجع إلى دمشق ثم ذهب إلى العُلا كلما طالَ سفرٌ رجع القهقري حتى يرجع من حيثُ بدأ أو مثل من قال إن كان فلان وُلِدَ له مولودٌ فهو أبو ابن أبي المولود أو فهو والدُ ولدِ ولدِ المولود أو مثل من قال إن كان النهار موجودًا فملزومٌ من ملزوماتِ وجودِه مستلزمٌ لعدم نقيضِه وقد تحقق الملزوم وهو عدم النقيض فيتحقق ملزومُه وهو ملزوم وجود النهار فيتحقق ملزوم وجود النهار فيتحقق وجود النهار فيتحقق ملزومه فيفيد هذا الدليل العظيم أنه إن كان النهار موجودًا فهو موجود يا لها فائدةً جليلة ثم فيه زيادةُ قبحٍ على ما تقدم من وجوه أحدها قوله العدم في المتنازع مما يستلزم عدم كل منها فيقال له العدم في المتنازع إما أن يكون مسلَّمًا لك أو أنت مستدلٌّ عليه وأيُّهما كان فإذا ثبتَ استغنيتَ عن القدح في دليل المستدل فإن مقصودك إنما هو إبطالُ ما ادعاه فإذا أثبتَّ نقيضَ مُدَّعاه فهذا غاية الإبطال الثاني أن قولك والدليل دلَّ على العدم تَعني به دليلاً ذكرتَه أو الدليل في نفس الأمر أو دليلاً تذكره فإن عنيتَ شيئًا تقدمَ فليس فيما تقدم ما يقتضي عدمَه وإن عنيتَ الدليل في نفس الأمر

لم نُسلِّم ذلك فإنا لا نُسلِّم أن في المسألة نصًّا ينافي الوجوب وإن عنيتَ دليلاً تذكره فلم تذكره ثم لو ذكرتَه كنتَ قد ذكرتَ دليلاً فأنت تريد إبطال دليل المستدلّ بإثبات نقيض ما ادَّعاه فتكون قد منعتَ مقدمتَه التي استدلَّ بها بإثبات نقيضِ ما ادعاه من الحكم المتنازع فيه وذلك غير مقبول لأنه غَصْبٌ فإن قال إنما استدللتُ على ذلك بعد فراغه من الدليل قيل لم يذكر دليلاً مستقلاً على نفي الحكم وإنما مَنَعَه مقدمةَ الدليل وعارضَه فيها بما يدل على بطلان الحكم المتنازع فيه وهذا عَينُ الغَصْب الثالث أن قوله العدم في المتنازع مما يَستلزم عدمَ كل واحِدٍ مما ذكرتم والدليل دلَّ على العدم فيتحقق هو أو ملزومُ عدمِهما قلنا إن صحّ قيام الدليل على العدم فهو مستلزمٌ عدمَهما فأنت مستغنٍ عن تحقق ملزوم عدمهما لأن المقصود من تحقق ملزوم العدم الاستدلال به على تحقق لازمه وهو العدم أعني عدمَهما وإذا كان لا يثبتُ ذلك إلا بالدليل على تحقق عدمهما الذي هو لازم قيام الدليل على عدم الحكم المتنازع فيه فأنت تُثبِت المدلولَ بما لا يثبت إلا بعد ثبوت المدلول حيث أثبتَّ عدمَهما بتحقق ملزومه الذي يُحقِّق عدمَ ملزومهما وتحقَّقُ عدمِ ملزومِهما أعني ثبوتَه وحصولَه إنما أثبتَّه بثبوتِ ملزومه وهو عدم الحكم المتنازع فيه فإنه إذا تحققَ عدمُ الحكم فقد تحققَ عدمُ ملزوم عدمهما وإذا تحققَ عدمُ ملزوم عدمِهما تحققَ لازمُه وهو عدمهما وإذا تحققَ عدمُهما تحققَ عدمُ الحكم فأنت أثبتَّ عدمَ

الحكم بمقدماتٍ لا تَثْبُتُ إلا بعدَ عدمِ ثبوتِ الحكم وهذا من أقبح المصادرات وحاصله أنه ذكر عَدَمينِ لا حاجةَ إليهما فإنه زعم أن الدليل دل على الحكم المتنازع فيه ثم جعل عدم الحكم المتنازع مستلزمًا لعدمِ الأمرين وهما الإضافة إلى المشترك والحكم في الفرع وجعلَ عدمَ الأمرين مستلزمًا لعدم الحكم ولو كان الدليل دلَّ على عدم الحكم المتنازع فيه لم يحتج إلى نفيه بواسطةٍ تنفيها لكونها تَنتفي بانتفائه فإن الاستدلال على الشيء بنفسه لا يجوز فكيف الاستدلالُ عليه بما لا يَثبتُ إلا بعدَ ثبوتِ المستدَلِّ عليه الرابع قوله فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزوماتِ عدمِ كلٍّ منهما قلنا إن أردتَ بالملزوم هو نفسه كان التقدير يتحقق هو أو هو فإن قيل يتحقق هو وهو ملزوم من ملزومات عدم كل منهما كان أجود وإن أردتَ بملزومٍ من ملزومات العدم غيرَه فذلك لا يكون ملزومًا إلا بواسطة هذا فيكون التقدير فيتحقق هو أو اللازم من لوازمه التي تستلزم عدمَ كلٍّ منهما ومعلومٌ أن لازمه تابعه وقد يجوز انفكاكه عنه فإذا ردَّد الكلامَ أوهمَ جوازَ حصولِ لازمه بدونه وهو غير جائز الخامس قوله والدليل دلَّ على العدم فيتحقق هو أو ملزوم من ملزومات عدم كلٍّ منهما لفظ مشترك فإن حرف أو للترديد يقتضي أحد الشيئين ولو دلَّ الدليلُ على عدم الحكم لتحقق عدم

الحكم وما يستلزم عدم كلٍّ منهما لأن عدم الحكم يستلزم عدم كل منهما فإذا كان عدم الحكم وعدم ملزومِ عدم كل منهما يتحققان إذا عُدِمَ الحكمُ كيف يصح أن يُجعلَ اللازم أحدهما وما هذا إلاّ بمثابة أن يقال إن كان زيدٌ أبا عَمرو فزيد ابن أبي عمرو أو أبو عَمرو فإن قال هَذِه القضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع أي أنه لا يخلو من عدم الحكم أو عدم ما يستلزم عدمهما قلنا والقضية التي تمنع الخلو من الأمرين لا يصح استعماله حتى يكون العلم بامتناع خلو أحدهما لدليلٍ غيرِ امتناع خلو الآخر كفى إقامة الدليل على امتناع خلو الملزوم وهنا إنما يعلم تحقق عدم ما يستلزم عدمهما بتحقق عدم الحكم فكيف يجعل قسمًا لامتناع الحكم وهذا حكم ظاهر لمن فهمَه واللهُ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ثم إن الجدلي عارضَ الدعوى بالدعوى مع ما ذكرناه من الكلام الضائع فقال فنقول الوجوبُ في المتنازع مما يستلزمُ أحدَهما قطعًا فالدليل دلَّ على الوجوب فيتحقق هو أو ملزومٌ من ملزومات أحدهما وهذا مثل الذي قبله فإن الدليل إذا دل على الوجوب من نص أو قياس أو نحوه فإن الوجوب يستلزمَ الحكم في الفرع أو الإضافةَ إلى المشترك بل يستلزمهما جميعًا وإذا كان كذلك فقد تحقق الوجوب وهو مستلزم أحدَهما فيتحقق ملزومٌ من ملزومات أحدهما نحو إرادة الوجوب من النصوص أو ملزومية وجوب

الأصل لوجوب الفرع أو مداريته كما قيل في السؤال وأيُّهما كان يلزم الوجوب وهذا الكلام بعد تحقق دليل الوجوب صحيح إلا أنه تطويل ركيكٌ كما تقدم سواء فقد عاد الأمر إلى مقابلة الدعوى بالدعوى حتى إن السائل يقول في آخر ذلك ما ذكرتُه راجحٌ لأنه متعددٌ تعددًا كثيرًا لأنه عدمي والأمر العدمي لا يفتقر إلى غيره فيتحقّق على تقدير وجود الغير وعدمه بخلاف الوجودي فإنه يقف على وجود السبب والمحلّ والشرط ونحو ذلك من الأمور اللازمة فيقولُ المستدل ما ذكرتُه راجحٌ لأنه متعددٌ في الدعوى بالنسبة إلى الملزوم الواحد وبالنسبة إلى الملزومات المتعددة والدلائل المتعددة عليها فإن كل واحد من ذلك يستلزم الوجوبَ ولأن لزوم الوجوب عما ذكرناه من الملزومات يُعطي عدم الوجوب فيما ذكرتم وحاصله أن المعترضَ رجَّحَ تحققَ الحكم العدمي بأنَّ تحققَه أيسرُ لعدم توقفه على أمور وجودية والمستدلُّ رجّحَ الوجوديَّ بأن الأسبابَ المقتضية له أكثر واقتضاؤها أقوى فالحكم العدمي يسير في نفسه لكن أسبابه كثيرةٌ قوية فيكادان يتعادلان من هذه الجهة واعلم أصلحك الله أن الدعاوى إذا تعدَّدتْ لم ينفع تعدُّدَها أن يكون الدليلُ على كلٍّ منها غيرَ الدليل على الأخرى لأن الدليل الواحد إن صحَّ صحَّتْ تلك الدعاوي وإن لم يصحَّ لم يصحَّ شيءٌ منها فلا فرق بين اتحادها وتعددها

واعلم أن الدعاوي إذا كانت متلاومةً فإن ما صحَّح الملزومَ صحَّح اللازمَ وما أبطلَ اللازمَ أبطلَ الملزومَ فصارت المراتبُ ثلاثًا أحدها أن يتعدد الدليل بتعدد الدعوى سواءٌ تلازمتْ أو لم تتلازمْ وهذا الذي لا شكَّ فيه الثاني أن يتعددَ من غير تلازمٍ من أحد الطرفين والدليل واحدٌ وهذا نادر بأن يدل على الدعوى بوجهٍ وعلى الأخرى بوجهٍ والثالث أن يتعددَ وتكونَ إحداهما من لوازم الأخرى مع اتحاد الدليل وهو أكثر ما يستعملُه المموِّهونَ وليس هو من طرق المحققين وربما نذكره إن شاء الله في موضع آخر وقد ظهر بما بيناه أن المستدلَّ لم يُقِمْ دليلاً صحيحًا وأن أكثر أَسوِلة المعترض وأجوبة المستدلّ باطلةٌ وذلك يُوجِبُ أن كلاًّ منهما منقطع فإن من احتجَّ بما لم يُفِدْ فهو منقطع ومن أوردَ ما لا يقدح فهو منقطع لكن في تفاصيل الكلام قد يحصلُ من المستدلِّ أجوبةٌ صحيحة من ذلك المقام ومن المعترض أسوِلةٌ قادحة كما بيناه لكن ذلك كله مبنيٌّ على أصل غير صحيح كما تقدم فلهذا حكمنا بانقطاع كل منهما وإنما ذكرتُ هذا لأنّ بعضَ الطلبةِ قال أُحِبُّ أن تذكر لي في آخر كلامك من فَلَج بالحجة من المستدل والمعترض فذكرتُ ذلك لأن الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالاً وسؤالاً وانفصالاً فإن من استدلَّ بالباطل فهو مُبطِلٌ ومن ردَّ الباطلَ بالباطل ولم يُبيِّن أن الدليل باطل فهو مُبطِلٌ ومن أجابَ عن الباطل بباطلٍ ولم يُبيِّن أن السؤالَ باطل فهو مُبطِل وكلُّ مبطلٍ فإنه يكون منقطعًا إذا بُيِّن بطلانُه والله أعلم

فصل ثم القياس يكون مخصصًا اعلم أنه لابد من مقدمتين إحداهما أن تخصيص عموم الكتاب والسنة بالقياس مسألةٌ مشهورة والخلاف فيها مشهورٌ قديمًا وحديثًا بين الفقهاء والمتكلمين على أقوال أحدها أنه يجوز وهو قول المالكية أو أكثرهم وأكثر الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد وقول كثيرٍ من أصحابه والثاني لا يجوز وهو قول بعض الشافعية والحنبلية وروايةٌ عن أحمد وطوائف من المتكلمين والثالث الوقف وهو قول الواقفية وقد رُوي عن أحمد ما يدلُّ على ذلك والرابع إذا كان العموم مخصوصًا بدليلٍ يجوز نسخُ العامِّ به جازَ تخصيصهُ بالقياس وإلاّ فلا وهو المشهور عن الحنفية ثم من المجوِّزين من لا يرى التخصيص إلا بالقياس على الصورة المخصوصة بالنص وهذا هو المشهور عند أهل الطريقة الجدلية وهو الذي يسمونه قياس التخصيص

والخامس أنه يجوز تخصيصُه بالقياس الجلي دون الخفي وهو قول طائفة من الشافعية والجليُّ قد قيل هو القياس في معنى الأصل وما نُصَّ على علته وما كان أولى بالحكم من الفرع وعلى هذا التفسير فلا يختلف الفقهاء الذين يَخُصُّون العمومَ بخبر الواحد أنهم يخصُّونه بمثل هذا القياس فإن أكثرهم عندهم هذا من باب دلالات اللفظ دون القياس وقيل إن الجلي هو قياسُ المعنى وهو القياس المناسب ونحوه دون قياس الشبه وعلى هذا التفسير فيُجعَل هذا التفريق قولاً رابعًا واعلم أن من نظر في مآخذِ الأحكام ودلالات الأدلة عليها الظواهِر والأقيسةِ من كلام الشارع تارةً ومن المعاني المعقولة أخرى عَلِمَ يقينًا لأنه في بعض المواضع يُقطَع برجحانِ العموم وفي بعضها يقطعُ برجحان القياس فإن العمومَ أعلاه ما احتفَّ من القرائن ما دلَّ على أن مقصودَ الشارع به العموم واتّحدتْ أفرادُه وانضمَّ إليه عمومٌ عقلي ثم ما تخلَّفَ عنه بعض هذه الأفراد مثل أن يكون مجرَّدًا عن القرائن المقوية ثم ما اقترنَ به قرائنُ تُوهن عمومَه وإن لم يُمنَع الاحتجاجُ به كالعموم الخارج على سبب ثم العموم الذي لم يُقصَدْ به قصد العموم وإنما سِيْقَ الكلامُ لشيء آخر إن جعل حجةً عند السلامة عن المعارض كقوله فيما سَقَتِ السَّماءُ العُشرُ وما سُقِي بالدَّوالي والنَّواضِح نصفُ العُشر حيث قصد به بيان قدر المُخْرَج

لا بيان أنواع ما تجب فيه الزكاة وكذلك القياس على مراتبَ أعلاه قياسٌ عُلِمَتْ علتُه بنص أو إيماءِ نص أو إجماع والقياس في معنى الأصل وهو قياس لا فارق وقياس الأولَى ثم القياس الذي عُلِمَتْ مناسبةُ الوصفِ فيه بالتأثير والاعتبار ونحو ذلك ثم أقيسة الدلالة ثم أقيسة الشَّبه ثم الطرديات إن اعتُقِدتْ حجةً إذا علمتَ هذا الترتيبَ فالقولُ المجمل إن قَويَّ العمومِ مقَدَّمٌ على ضعيف القياس وقويّ القياسِ مقدَّم على ضعيف العموم فإن تعارضَ قويان وضعيفان فبحسب قوتهما وضعفهما وهو كما لو تعارضَ عمومانِ أو قياسان ولكل مسألةٍ ذَوْق خاص ولما اتسعتْ دلالاتُ الظواهر والأقيسة قال الإمام أحمد ينبغي للمتكلم في الفقه يجتنب هذين الأصلينِ المجملَ والقياسَ وقال أكثر ما غَلِطَ الناسُ من جهة التأويل والقياس يعني بالمجمل العامَّ والمطلقَ ونحوَ ذلك فإن تسميةَ العام والمطلق مجملاً عرفٌ معروفٌ في لسان الأئمة وهو على وفق اللغة يقال أجملتُ الحسابَ إذا جمعتَه وضممتَ بعضَه إلى بعض حتى يصير جملةً واحدةً فالعامُّ يَجمع أفرادَه وتسميتُه مجملاً أظهر من تسمية المبهم الذي لا يبين

المراد من لفظه مجملاً وفي عرف المتأخرين لفظ المجمل يقع على هذا وعلى هذا وأكثر ما يستعملونه فيما لم يتبين مراده من لفظه أراد الإمامُ أنه ينبغي له أن يتوقى المسارعةَ إلى الحكم بأحد هذين الأصلين قبلَ الفحصِ والبحثِ عما يُعارِضُه ويُقوِّيه فإن أكثر الغلط في الأصول والفروع إنما وقعَ من جهة التأويل وهو الاستنباط من الظواهر ومن جهة القياس وهو البحث عن المعاني من غير نصوصٍ قاطعةٍ للاحتمال هذه مقدمةٌ لا بدَّ من التنبيه عليها المقدمة الثانية أن العام المخصوصَ دليلٌ فيما عدا صورة التخصيص عند جماهير السّلف والخلف من الطوائف كلِّها وذهبَ بعض الحنفية إلى أنه ليس بحجة وعلى القول الأول فإذا كان بعضُ الصور يُماثِل الصورةَ المخصوصة فقد تعارضَ العمومُ المخصوصُ والقياس المختص فإن كانت الصورة الأخرى مساويةً للصورة المخصوصة في المعنى الذي خُصَّتْ لأجله ظَهَرَ هنا ترجيح القياس على تناول العموم وإن كانت مَقِيسةً على غير الصور المخصوصة فقد تعارضَ قياسٌ مختص وعمومٌ مخصوص فإن كان القياس قويًّا رجحناه وإلا فلا واعلم أن أكثر ما يستعملون القياس المخصّص في جواب المعارضة لأن المستدلَّ إذا أثبتَ الحكمَ بدليل فعُورِضَ بعموم يُناقِضُ دعواه قال قد خُصَّتْ منه صورةُ الإجماع فأخصُّ منه صورة النزاع بالقياس عليها وربما استدلَّ بقياس إحدى الصورتين على

فصل

الأخرى ابتداءً فإذا عُورِضَ بالعموم قال قد خُصَّ منه الأصلُ المَقِيسُ عليه فيُخَصُّ منه الفرع قال المصنف القياس قد يكون مخصصًا كما يقال في مسألة شرائط الإحصان جوابًا عن النصّ العام كقوله عليه السلام الثيبان يُرجَمان أنه خُصَّ عن النص موضعُ الإجماع وهو ما إذا ظهر زناه بشهادة أهل الذمة على معنى عدم إرادته منه مع تناول اللفظ إياه كذا صورة النزاع بالقياس عليه لأن التخصيص ثمة إنما كان لدفع ضرر وجوب الرجم بالمناسبة إلى آخر ما مرَّ في فصل القياس سؤالاً وجوابًا اعلم أن المختار أن النص إذا خُصَّتْ منه صورةٌ جاز أن يُلْحَق بها في التخصيص ما شاركَها في معناها وهؤلاء الجدليون أصحاب هذه الطريقة لا يستعملون من الأقيسة المخصّصة إلا هذا وهو قول أكثر الحنفية فمن أحبَّ المناظرةَ العلمية فله أن يقول لا أسلِّم جوازَ التخصيص بالقياس أصلاً لحديث معاذ إن كان ممن ينصر هذا القول وإن كان ممن ينصرُ الجوازَ مطلقًا فله أن يقول أنا أَخُصُّ

منه صورة كذا وكذا وإن لم يكن قد خُصَّ منه شيءٌ لأن القياس حجة شرعية دالة على خصوص الحكم بنفسه فيجب تقديمه علي العموم كما يجب خبر الواحد لأن تقديمَ العموم يقتضي إبطال القياس بالكلية وتقديم القياس يَبقى معه العملُ بالعموم فيما عدا صورةَ التخصيص والجمعُ بين دليلينِ أولَى من إلغاء أحدهما ومن قال بقياس التخصيص دون سائر الأقيسة وهم الحنفية وهؤلاء الجدليون قال العامُّ قبل التخصيص نصٌّ في أفراده حقيقةٌ في مسمَّاه وآحادِه لأنه متناولٌ لكل واحدٍ بعمومه ولم يُعارِضْ عمومَه في شيء من الأفراد نصٌّ ولا إجماعٌ يخالفه فلا يجوز أن يعارض نصوص الكتاب والسنة بالأقيسة أما إذا خُصَّ فقد صار مجازًا وبطلَ الاحتجاجُ به عند بعض الناس وعند الباقين فإنّ المتكلم قد علمنا أنه لم يُرِدْ به الاستغراقَ وإلاّ لما خُصَّ منه شيءٌ فإذا كان لم يُرِدْ به الاستغراقَ جاز أن تكون هذه الصورةُ من جملة ما لم يُرِدْه وجاز أن تكون من جملة المراد فإذا لم يعارض فيها قياس كان المقتضي وهو عموم اللفظ قائمًا من غير معارضٍ فيعمل عملَه أما إذا عارضَ فيها قياس فإن المقتضي لإرادتها قد عارضه معارضٌ وهو القياس وترجَّح هذا المعارض بالعلم بعدم إرادة العموم من هذا اللفظ فصار راجحًا ومن حقَّقَ الطريقةَ التي أومأنا إليها في صدر الكلام عرفَ الحقَّ من الباطل وأمكنَه تقريرُ رجحانِ القياس على العموم الضعيف وبالعكس وليس هذا موضعَ استقصاءِ الكلام في

ذلك ونحن نتكلم على تقدير تسليم قياس التخصيص إما وحدَه أو هو وغيره وبَيِّنٌ أن هذا المجادل لم يستعمل صحيحَه وإنما استعملَ فاسدَه كما تقدَّم في استعمالِه أصلَ القياس وذلك أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان الموجب للرجم عند فقهاء الآثار من الشافعية والحنبلية ونحوهم وهو شرط عند فقهاء الأمصار من الحنفية والمالكية وأما سائر الشروط من مساواة المتجامعين في الإحصان ففيه خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه فإذا احتجَّ من يقول بوجوب الرجم على الكافر أو على الحرِّ المتزوج بأمّه بقوله صلى الله عليه وسلم الثيبانِ والبكرانِ يُجلَدانِ ويُرجَمانِ وهذا اللفظ ليس هو مشهورًا في كتب الحديث وأظنه قد رُوِيَ من حديث أبي بن كعب وإنما الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البِكرُ بالبِكرِ جَلْدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ والثيبُ بالثيب جَلْدُ مائةٍ والرجمُ وفي الصحيح أيضًا عن عمر وغيرهِ أنه كان فيما أُنزِل من القرآن الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتةَ نكالاً من الله والله عزيز حكيم فنُسِخَ لفظُه وأُبقيَ

حكمُه باتفاق الفقهاء أهل السنة للنصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجم الثيب التي ليس هذا موضعها فإذا احتجَّ المستدلُّ بأحد الألفاظ الثلاثة قال له المعترض خصَّ عن النص موضع الإجماع وهو ما إذا شهد عليه أهل الذمة إلى آخر التقدير وكذلك لو استدل ابتداءً على عدم الرجم بدليل ذكره فيعارضه السائل بالنص العام المقتضي للوجوب فإن المستدل يقول خصّ عنه صورة الإجماع فيخص صورة النزاع بالقياس والكلام فيه كالكلام في القياس المثبت للوجوب ابتداءً سؤالاً وجوابًا إلا أنه يُبدَل لفظ الوجوب بلفظ المخصص واعلم أنهم يُورِدون على القياس المخصوص ما لا يصحُّ من الأسولة فنذكره ونُبيّن حاله وذلك أن المخصص إذا قال خُصَّتِ الصورةُ الفلانية فكذلك الصورة بالقياس عليها لأن التخصيص هناك إنما كان تحصيلاً للمصالح المتعلقة بالتخصيص بشهادة المناسبة فيجب ثبوت التخصيص في هذه الصورة تحصيلاً لتلك المصلحة قالوا له لا نُسلِّم وجودَ المناسبة في صورة الإجماع لأن المناسبة هي مباشرةُ الفعلِ الصالح لحصول المطلوب والتخصيصُ ليس بفعلٍ لأنه عدم إرادة الصورة المخصوصة من اللفظ الشامل لها والعدم لا يكون فعلاً فلا تتحقق المناسبةُ فيه لأنها إنما تتحقق في الأفعال والجواب عن هذا من وجوه أحدهما أن التخصيص يضاف إلى الشارع تارةً وإلى العبد أخرى

أما الأول فكأن يقال خَصَّ الشارعُ الصورةَ الفلانية من عموم القول الفلاني أو خَصَّتِ الآيةُ أو الحديثُ الصورةَ الفلانية فيضاف إلى كلامه وقوله وأما الثاني فمثل أن يقال خصصنا هذا العموم بكذا وكلاهما وجودي أما إن أريد ب الثاني فظاهر لأن المكلف يُخرِج تلك الصورة من العموم ويعتقد ويقول إنها ليست مرادةً وقولُه واعتقادُه عدمَ الإرادة أمرٌ وجودي وعلى هذا التقدير فالمناسبة متحققة في فعله بمعنى أن الله أمره بهذا التخصيص تحصيلاً لتلك المصلحة والمر بالتخصيص أمر وجودي وهذا ظاهر فَلنا أن نُقِرَّ التخصيصَ بهذا وهذا جواب مستقل وأما إن أريد به الأول فالتخصيص أَزالَ القول العام أو الخطاب بالقول العام مع عدم إرادة الصور المخصوصة وهو أمر وجودي فإنَّ عدمَ إرادة الصور المخصوصة ليس هو عدمًا محضًا وإنما هو عدم خاص لا يتحقق فيه لتحققها في لازمه الوجه الثاني أن الشارع لا يُخصِّص العام حتى يَنْصِبَ دليلاً دالاًّ على عدم إرادة الصور المخصوصة عقليًّا أو سمعيًّا أو حسيًّا أو غير ذلك الدليل المخصص يخصص منه فيكون ظاهرًا فإن عدم الإرادة

بدون الدليل الدالِّ على عدم الإرادة مع الخطاب العام المحال لأنه تكليفُ ما لا يطاق ولأنه تدليسٌ وتلبيسٌ ولأنه يمتنع في مثل هذه الصورةِ العلمُ بالتخصيص والكلامُ فيما إذا علمنا أنه مخصوص الوجه الثالث هَبْ أن التخصيص أمر عدمي لكن لِمَ قلتَ إن المناسبة لا تتحقق في الأمور العدمية فإنا نقول إنما لم يُرِدِ الشارعُ هذه الصورةَ لما في إرادتها من الضرر أو لعدم المصلحة في إراداتها فيُعلَّل عدمُ الإرادة تارةً بعدم المقتضي وتارةً بوجود المانع وكلاهما مناسب لعدم الإرادة فعُلِمَ أن المناسب يتحقق تارةً فيما يريده الشارع ويفعله وفيما لا يريده بل يتركه قوله المناسبةُ هي مباشرة الفعل قلنا قد تقدم الكلام على هذا الحدّ وبينا أنه مدخول أو أنه جرى مجرى الغالب إذْ إضافةُ المباشرةِ إلى الله وتسميةُ حكمِه فعلاً لابدَّ فيه من تجوُّزٍ واستعارة وإذا كان كذلك جاز أن يُسمَّى عدم الإرادة فعلاً كما يُسمَّى الإرادة أو القول فعلاً الوجه الرابع أن التخصيص يصحُّ طلبُه وجودًا وعدمًا من الربّ لعبده ومن العبد لربّه بأن يقال إما خصُّوا هذه الصورة الفلانيّة وذلك متحققٌ لكونه أمرًا وجوديًّا الوجه الخامس لو لم يكن وجوديًّا لكان نقيضُه وهو عدم التخصيص وجوديًّا لامتناع خلو النقيضين لكن ليس بموجود لكونه

مما يصحُّ وصفُ المعدوم به والوجودي لا يكون صفةً للمعدوم وإذا لم يكن النقيضُ وجوديًّا كان التخصيص وجوديًّا وربما استدلَّ بعضُهم على أنه فعلٌ بهذا الدليل لأن نقيضه ليس بفعلٍ لأن الفعل أمر وجودي وعدم التخصيص ليس بوجودي فلا يكون فعلاً وإذا لم يكن نقيضه فعلاً ثبت أنه فعلٌ إذ لو لم يكن هو ولا نقيضُه من الأفعال لم يكن مقدورًا وهو محال وفي هذين نظرٌ لأنه يمكن أن يُمنَع كونُ عدم التخصيص ليس وجوديًّا لأنه عبارة عن إبقاء العموم بحاله وكونه بحيث يصحُّ أن يوصف بعدم تخصيص العموم فإنه لا عمومَ فيه حتى يُنفَى عنه تخصيصُه نعم يصحُّ أن يُوصَفَ بعدم التخصيص المبتدأ أو بعدم التخصيص مطلقًا إذا عُنِيَ به عدمُ هذا النوع أما عدم تخصيص العموم فممنوع واعلم أن حقيقة الأمر أن التخصيص مشتملٌ على أمر وجودي وعدمي فإن حقيقتَه لا تقوم بدونهما وبهذا يندفع هذا السؤال لكن على العبارة الثانية سؤال وهو أنه يمكن أن يقال التخصيصُ ليس فعلاً ولا عدمَ فعلٍ وليس بمقدور إذا عُنِيَ به عدمُ الإرادة والإرادة صفة أزلية فلا تكون مقدورةً وإذا كان المراد مقدورًا وكذلك عدم الإرادة الأزلية واجب العدم فيمتنع أن يكون مقدورًا وإن كان ما عُدِمَتْ إراداتُه مقدورًا فبينَ الصفةِ ومتعلَّقِ الصفة فرقٌ ظاهر وهذا مبنيٌ على أصول أهل السنة أن الإرادة صفة أزلية وإن كان تعلُّقُها حادثًا وقد يوصف بأنه إرادةٌ أيضًا وأما القدرية فيقول أكثرهم إن

الإرادة فعل من الأفعال وهل هي نفس الخلق والأمر أو صفةٌ قائمةٌ لا في محلٍّ بينهم في ذلك خلاف معروف ليس هذا موضعه الوجهُ السادس أن يقال أجمع المسلمون على إمكان قياس التخصيص فإما أن يكون التخصيص أمرًا وجوديًّا أو لا يكون وجوديًّا لكن المناسبة تتحقق فيه مع ذلك وعلى التقديرين فالمقصود حاصل إذ ليس غرضنا إلا تعديةَ الحكمِ من صورة التخصيص إلى صورة أخرى وهذا أمرٌ ممكنٌ بالضرورة واعلم أن تقدير الجدليِّ ضعيف من وجوه أحدها أن التخصيص الذي يتكلم فيه هنا أن يُخرَجَ من اللفظ بدليل منفصلٍ مَا لولا ذلك الدليلُ لَوجبَ دخولُه في اللفظ ولا يكون تخصيصًا حتى يكون اللفظ شاملاً له وهل يُشترط تسميته تخصيصًا أن يجوز إرادة المتكلم له فيه خلافٌ بين الناس مبناه أن ما خرج بدليل العقل الظاهر وقرائن الأحوال ونحوها من الدلائل التي تمنع فهم صورة التخصيص من اللفظ العام هل يُسمَّى تخصيصًا وأكثر الناس يسمونه تخصيصًا والنزاع لفظي وعند ذلك فقوله الثيبان يُرجَمانِ أو قوله الثيبُ بالثيب جَلْدُ مائةٍ والرجمُ وقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة لا يقتضي عمومُه إلاّ رجمَ من زَنَى وكذلك قوله الثيبان يُرجَمانِ والزانيانِ البكرانِ يُجلَدانِ وقوله

الثيبُ بالثيب أبلغُ فإن الباء تدلُّ على فعل الزنا وقد صرّح به في اللفظ الثالث وإن كان المراد الثيبان الزانيان إما بنفس اللفظ أو بسياق الكلام فنقول من شَهِدَ عليه بالزنا أهلُ الذمة ومن تُرَدُّ شهادتُه لا نُسلِّم أنه زانٍ حتى يدخل في عموم اللفظ أكثر ما في الباب أنه قد أخبرَ جماعةٌ من الفساق أنه زانٍ وذلك لا يُوجِبُ أن يكون زانيًا لا في الحقيقة ولا في الحكم الشرعي أما في الحقيقة فلجواز كذبهم ولهذا يُحَدُّون حدَّ القَذْفِ عند كثير من الفقهاء وبالجملة فعلى المخصِّص أن يبين أن هذا زانٍ وأنَّى يقدر على ذلك وقوله ظهر زناه بشهادة أهل الذمة دعوى محضة وإلاّ فلا ظهورَ بقول من كذَّبَه الله وأوجب عليه الحدَّ وقوله على معنى عدمِ إرادتِه مع تناول اللفظ له قلنا عدم الإرادة مسلَّمٌ وأما تناول اللفظ فغير مسلَّم ولا يكون التخصيص تخصيصًا حتى يتبين عدمُ مراد المتكلم بعض الصور التي يتناولها اللفظ الثاني لو سلَّمنا أن صورة الإجماع مخصوصة فلماذا يجب تخصيص صورة النزاع قوله بالقياس عليه قلنا ولِمَ قلتَ إنّ القياس يُوجِبُ تخصيصَ العام ولم تَذكر عليه دليلاً والدليل على خلافِه أن المقتضي لوجوب سائر الصور

موجود وهذا اللفظ العام المجرَّد عن قرينة التخصيص للصورة التي لم تُخَصَّ وإنما قلنا إن هذا هو المقتضي لأن المقتضي إما اللفظ المطلق كما ذكرناه أو اللفظ بشرطِ بُقْيَاه على العموم فلو كان شرطًا لو يَجُزْ لأحدٍ أن يستدلَّ بالعموم على فردٍ من أفراده حتى يعلم أن سائر الأفراد مرادة منه وحتى يعلم أن الفرد الأول مراد فيتوقف العلم بإرادة كل واحدٍ من الأفراد على العلم بإرادة الآخر وهو دور باطل فإن قلتَ الشرط هو عدم التخصيص لهذا الفرد ولسائر الأفراد لا العلم بإرادته قلتُ فعلى هذا لا يجوز الاستدلالُ به على فردٍ حتى أبحث عن جميع أفراد العام وأبحث عن جميع المخصِّصات لجميع الأفراد فإذا لم أجد شيئًا من المخصِّصات لشيء من الأفراد عملتُ به في صورة واحدة ومعلومٌ أن أفراد العام قد تفوق الإحصاءَ والعدَّ والأدلة المعارضة لحكم العموم في كل فرد قد تتعدد وتكثر فلو لم يَجُز العمل بالعام في صورة من الصور إلا بعدَ أن يُعلَم أو يُغلِبَ على الظن انتفاءُ كلِّ ما يعارضُ العمومَ في كل فرد من أفراد العموم لتوقفَ الاستدلالُ به على طريق البرّ ومعلومٌ أن هذا فاسد وأيضًا فإن الصحابة والتابعين أجمعوا على العمل بالعمومات المخصوصة في الكتاب والسنة إذ قيل إن أكثر العمومات مخصوصةٌ

لو لم يكن المقتضي للعمل بها ثَمَّ لما جاز العمل بها بدون المقتضي والمقتضي إما دلالة اللفظ أو غيره والثاني منتفٍ لأن الأصل عدم الغير ولأنا رأيناهم لا يتوقفون عند سماع اللفظ على غيره ورأيناهم يُعزُونَ الحكمَ إلى اللفظ ولأن القضايا المتعددة إذا اشتركت في حكمٍ وسببٍ غَلبَ على الظن أن ذلك السبب هو الموجب للحكم فإذا كان اللفظ هو المقتضي مع تخصيصه وهو موجود وجبَ العملُ به وأيضًا فل لم يكن اللفظ مقتضيًا لشيءٍ من الأفرادِ إلاَّ بشرط اقتضائِه لسائرها لكان التخصيص إخراجًا لجميع الأفراد عن اقتضاء اللفظ لها وذلك تعطيل اللفظ فوجب أن لا يكون التخصيص جائزًا لإفضائِه إلى تعطيل اللفظ وفي إجماع أهل اللغة والشريعة يل إجماع الأمم على جوازه ووقوعه وحُسْنِه ما يَمنعُ هذا وإذا ثبتَ أن المقتضي قائم فلم يعارضه إلا قياس التخصيص والقياس لا يجوز أن يعارض النص لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بم تَحكُم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلُو قال الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسلِ الله لما يُرضِي رسولَ الله فصوَّب النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على تركه العملَ باجتهاد الرأي بل هو أخص الاستنباطات باجتهاد الرأي فوجب أن يكون تركه عند وجود ما يُحكَم به في الكتاب والسنة صوابًا ومن وجدَ العامَّ المخصوصَ فقد وجدَ ما يحكم به في الكتاب والسنة فيكون

تركُه للقياسِ صوابًا وإذا كان صوابًا لم يكن القياس حجةً على هذا التقدير لأن ترك الحجة الشرعية ليس بصوابٍ فعُلِمَ أنه ليس بحجة وأيضًا فإن الله سبحانه يقول في كتابه العزيز فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] والمتنازعان إذا احتجَّ أحدُهما بعموم والآخر بقياس فعليهما أن يردّاه إلى الله والرسول والعموم كلامُ الله وكلام رسوله والرد إليه يُوجِبُ إحقاقَ قولِ المحتجّ به وإبطال قول الآخر وأيضًا فإن العموم كلام الله أو الرسول ودالٌّ بنفسه على مقصود الشارع ومرادُه لا يتوقف على ثبوت الحكم في الأصل ثم على استخراج العلة على ثبوتها في الشرع وذلك إنما يُعلَم باجتهادنا واستنباطنا والخطأ سريعٌ إلى أهل الاستنباط فوجبَ تقديمُ ما يَبعُد عن الغلط على ما يقرب إليه واعلم أن هذه الأسولة وإن كان لها غَورٌ وفيها كلام طويلٌ إلا أن القصدَ هنا إيرادُ سُؤالٍ متوجهٍ من هذه الجهة وإن كان يمكن أن يكون عنه أجوبةٌ صحيحة فإن مثل هذه الأسولة أفتَحُ لباب الفائدة من الأسولة المعوجَّة المعكوسة الثالث سلَّمنا جوازَ تخصيص هذا العموم بالقياس لكن بأيّ قياس أبالقياس الجلي أو بمطلق القياس الأول ممنوع والثاني

مسلَّم فعليك أن تبيِّن أن هذا القياس من الأقيسة الجلية وهذا لأنَّ القياس الجلي مثل ما تكون علتُه منصوصةً أو يكون في معنى الأصل أو أولى منه بالحكم إما أن تكون دلالته سمعيةً أو عقليةً ظاهرةً لا تتوقف على كثير بحث ونظر ولهذا يشترك فيه العلماء والعامة فجرى مجرى النص فإن التخصيص به تخصيصٌ بالنص أما الخفي مع كثرة تطرق الخطأ إليه فإذا أطلق الشارع لفظًا عامًّا ظاهرًا في العموم وأراد منّا أن لا يُعمَل به في بعض الصور لأن في بعض الأحكام معانيَ خفية إذا استنبطت فُهِمَ منها عدمُ إرادة تلك الصور كان ذلك شبيهًا بالتلبيس والتدليس وهو غير جائز على الشارع ومتى جوَّزنا ذلك لم نَثِقْ بمقتضى شيء من العمومات والظواهر الرابع سلّمنا جواز التخصيص بكل قياس لكن لابدَّ أن يكون القياس صحيحًا فإن الإجماع منعقدٌ على امتناع تخصيصه بقياس فاسدٍ فعليك أن تُبيِّن صحةَ القياس وإنما تتبين صحة القياس إذا ثبتَ اشتراكُ الأصل والفرع في الموجب للحكم في الأصل قوله لأن التخصيصَ ثمة إنما كان لدفع ضرر وجوب الرجم بالمناسبة إلى آخرِ ما مرَّ في فصل القياس سؤالاً وجوابًا قلنا لا نُسلِّم أنه إنما كان لدفع الضرر وأما المناسبة التي ادعاها فلم يُبيِّنها ونحن نُبيِّنها لنكشِف سِتْرَها وذلك أنه يقول دفعُ الضرر مناسبٌ لعدم الوجوب بمعنى أنه يَحسُن في نظر العقلاء أن يُضافَ

أحدُهما إلى الآخر ويُنسَب إليه لأن دفعَ الضرر أمرٌ مطلوبٌ وعدمُ الوجوب طريقٌ صالح له وإذا رأينا مباشرةَ الحكيمِ الطريقَ الصالحَ لتحصيل أمر مطلوب يغلبُ على ظننا أنه إنما باشره لأجل ذلك المطلوب فلو رأينا الشرع قد منع الوجوب في صورة التخصيص ورأينا هذا المنع طريقًا إلى دفع الضرر عن المرجوم غلب على ظننا أنه إنما فعل ذلك لدفع الضرر فيكون عدمُ الوجوب مضافًا إلى دفع الضرر وصورةُ القياس يحصل فيها ضررٌ بتقدير وجوب الرجم فيكون دفعه علةً لعدم الوجوب فينتفي الوجوب لإرادة دفعه هذا تقريره وهذا أفسد مما ذكره في فصل القياس ويتبيَّنُ فساده من وجوه احدها لا نسلِّم أن التخصيص إنما كان لدفع الضرر وذلك لأنَ دفع الضرر أمر مانع من الوجوب أو التعليل بالمانع يعتمد قيام المقتضي لأنه إذا كان المقتضي منتفيًا كان انتفاءُ الوجوبِ لانتفائه وإذا كان لانتفائه لم يكن لوجود المانع لئلا يتوارد على المعلول الواحد بالعين علِّتانِ لا تستلزم إحداهما الأخرى فإن ذلك لا يجوز وإذا كان التعليل بالمانع يعتمد قيام المقتضي في الأصل فعليك أن تُبيِّن قيامَ المقتضي في صورة التخصيص وأنت لم تُبيِّن ذلك فلا يكون التعليل بالمانع مقبولاً الثاني أن الحكم في الأصل معلَّلٌ بعدم المقتضي لأنَّ المقتضي لوجوب الرجم الزنا المعتبرُ بشروطه بالمناسبة الصحيحة بالدوران بل بالنص والإجماع وصورة النقض لم يثبت فيها المقتضي لأن

ثبوته إنما يكون بطريقه الشرعي وشهادةُ الكفار والفسَّاق ليست طريقًا شرعيًّا وإذا كان معللاً بعدم المقتضي لم يعلَّل بوجود المانع وهذا منعكس في الفرع فإن المقتضي وهو الزنا قائم فيه لأن التقدير ما إذا ثبتَ زناه بإقراره أو ببينة وإنما الكلام في كون كفره مانعًا أو إيمانه شرطًا فإن قال دفعُ الضرر عمن لم يَزنِ مناسبٌ لعدم وجوب الرجم وإنما اندفع الرجمُ للضرر فيه قلتُ عدمُ الوجوب يكفي فيه عدم المُوجِب ولا يُحتاج فيه عدم الوجوب إلى إفضائه إلى دفع الضرر الثالث قوله التخصيص ثَمَّ إنما كان لمناسبة دفع ضرر وجوب الرجم مع عدم الإيجاب في صورة النقض قلنا لِمَ قلتَ إنه كان كذلك فإن قال لأني وجدتُ هذا الوصفَ مناسبًا للحكم فيغلبُ على الظن إضافته إليه قلنا إنما يفيد غلبةَ الظن إذا لم يزاحمه وصفٌ آخر لم يكن اعتقاد موجبية أحدهما بأولى من الآخر أو بأولى من اعتقاد موجبيتهما وفي صورة النقض كما أن دفع الضرر مناسب لعدم الإيجاب فشهادة الفاسق مناسبة للتوقف فيها وعدم الحكم كما دلَّ عليه قوله إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية [الحجرات 6] لا يُؤمَنُ عليه الكذبُ أو المجازفة ولا يستأهل أن يُنصَب منصبَ الائتمان على الدماء والأموال

والفروج وينفذ قولُه في غيره لأن التوقف عما لا يُعلَم حقيقته أمرٌ مطلوبٌ في نظر العقلاء فإذا رأينا الشارع قد أمر الحاكم بالتوقف عن الحكم بشهادة الكفار والفساق غلبَ على الظن أنه إنما أمر بذلك لكونه مظنة الكذب أو مستحقّا للإستخفاف والإهانة لأن ذلك طريق صالحٌ لتحصيل هذا الغرض وإذا كان هذا الوصف مناسبًا لم يجز إضافة الحكم إلى المشترك خاصة لأن من أعطى رجلاً فقيرًا قريبًا عالمًا فظنَّ ظانٌّ أنه إنما أعطاه لمجرد علمِه أو قرابته كان مجازفًا فكذلك إضافة الحكم إلى ما به الاشتراك مع صُلُوح ما به الامتياز للإضافة غير جائز فإن قيل فهبْ أن فِسْقَ الشهود مناسبٌ لردّهم لكن إنما كان ذلك لأجل أن قبول شهادتهم يُفضِي إلى الضررِ بالمشهود عليه وإذا كان مطلوبه أحدَ الشيئين لأجل الآخر لم تكن إضافة الحكم إلى أحدهما مانعًا من إضافته إلى الآخر قلنا هذا إن سُلِّم فإنه تعليلٌ بنوع خاص من الضرر فلا يلزم التعليل بجميع أنواع الضرر بمطلق الضرر لأن كطلق الضرر وبعض أنواع الضرر موجود في صور كثيرة وقد وجبَ الرجم فلو علَّلنا بمطلق لزمَ انتقاضُ العلة وإن عللنا بالضرر الناشئ من شهادة الفساق لزم اطرادُها والتعليل بما يطرد أولى من التعليل بما ينتقض الرابع أن نقول التخصيص لم يكن بمطلق دفع الضرر بل لأنه

قبولٌ لشهادةِ الفاسق المناسبة للردّ أو لأنه إضرارٌ بمن لم تثبت منه خيانة وذلك يناسب التحريمَ والمنعَ لأن هذه الأوصاف قد أومأ إليها النص ودلَّ عليها الإجماعُ فيكون أولى من تلك ولأنها مطَّردةٌ فتكون أولى من المنتقضة الخامس ندعي أن حصول الضرر مانعٌ من وجوب الحدّ مطلقًا أو مانعٌ من وجوب الحد بعد وجود الزنا فإن عنيتَ الثاني لم ينفعك وإن قال هو مانع إلا إذا حصلَ الإحصان الذي اشترطه ونحو ذلك أو مانع على الإطلاق لكن ترك مدلول الدليل مقرونًا بمانع لا يُبطِل دلالتَه قلنا فالمناسبة التي ادعيتَها لا تدلُّ على هذا التفصيل واعلم أن ذكرنا ما يختصُّ بهذا النوع وإلا فقد تقدم في فصل القياس الكلامُ المحقَّقُ في إبطال جنس ما يستدلون به من الأقيسة قال الجدلي أو نقول التخصيص ثابت هنا وإلاّ لما ثبتَ ثمةَ بالنافي للتخصيص وهو المقتضي لوجوب الرجم أو نقول لم يرد الفعل أصلاً وإلا لأريدَ مع الأصل بالمقتضي للإرادة هذان تقريرانِ آخرانِ لقياس التخصيص فإنهم يُثبِتون التخصيصَ في الفرع بأنواعٍ من جنس أدلتهم من التلازم والتنافي وغيرهما مثل أن

يقول التخصيص ثابت في صورة النزاع وإلا لما ثبت في صورة الإجماع بالنافي للتخصيص مطلقًا أو بالنافي للتخصيص السالم عن معارضة ثبوت التخصيص في صورة النزاع فإنه معارض للنافي للتخصيص وإنما قلنا إن النافي للتخصيص قائم لأن الخطاب العام مقتضٍ لإرادة جميع الأفراد ودالٌّ على ذلك عند جميع الطوائف إلاَّ عند من لا يُبالَى به من الواقفة ونحوهم ولأنه لو لم يكن الخطاب العام مقتضيًا للشمول والعموم لما صحَّ أن يعارض به ما يناقضه في صورة التخصيص وحينئذٍ فيَبطُل الاعتراضُ به ولا يحتاج المستدل أن يقول خُصَّ منه صورة الإجماع فيُخصَّ صورةُ النزاع وإذا كان الخطاب العام موجبًا للشمول والعموم فذلك ينافي عدم الشمول والتخصيص مستلزم لعدم الشمول فالمقتضي لشمول الخطاب العام نافٍ للتخصيص وهو المطلوب وأيضًا فإنه بتقدير التخصيص يتعارض الخطاب العام والدليل المخصص وذلك مقتضٍ لترك أحدهما لأنه إن أبقَى العامَّ على عمومه ترك العمل بالمخصص وإن لم يُبقِ على عمومه ترك العمل به في صورة التخصيص أو يقال إن عملَ بالمعارض الخاص لزمَ تركُ العمل العام في قدره وإن لم يعمل به تركَ الخاصَّ وإذا كان ذلك التقدير موجبًا للتعارض كان خلافَ الأصل وأيضًا فإن تخصيص الصورة من الخطاب الذي يقتضي الوجوب

لا يكون إلا بعد قيام ما يقتضي الوجوب ويكون التخصيص تركًا لموجب ذلك المقتضي فيكون ذلك المقتضي مما ينافي التخصيص ومثل أن يقول تخصيص صورة الإجماع مع عدم تخصيص صورة النزاع لا يجتمعان لأن المشترك بينهما إن كان مانعًا من الإرادة ثبتَ التخصيص وإن لم يكن مانعًا انتفى التخصيص لوجود النافي له السالم عن معارضة مانعيه المشترك من الإرادة ومثل أن يقول الفرع غير مرادٍ من النص لأنه لو أريد لأريدَ مع الأصل للمقتضي للإرادة ولا يتحقق إرادتهما فلا يتحقق إرادة الفرع فإن قال ولا يتحقق إرادة الأصل صحَّ أيضًا قيل يمكن المعارضَ أن يعدِّيه بأن يقول لو لم يُرَد الفرعُ لأريدَ مع الأصل ولا يتحقق إرادته كما يمكنه المقابلة لو قال المستدل لو أُريدَ الفرعُ لأُريدَ الأصلُ ولا يتحقق إرادته بأن يقول لو لم يرد الفرع لأريد الأصل ولا يتحقق إرادته والأجود الفرق فإنه إذا قال لو لم يرد الفرع لأريد مع الأصل فإنه ادعى إرادتَهما على تقدير عدم إرادة أحدهما ومعلومٌ انه إذا لم يرد أحدهما لا يتحقق إرادتهما فإن قيل المدَعى إرادتهما على تقدير عدم إرادة الفرع وحده قيل أولاً هذا خلاف معنى الكلام فإن عدم إرادة الفرع أعمُّ من عدم إرادته بصفة الانفراد وبصفة الاجتماع وثانيًا إن المستدلَّ يقول قولي ولا يراد الأصل أي لا تنحصر

الإرادة فيه ولا تتدخل فيها والمعترض لا يمكنه أن يقول لو لم يرد بوجهٍ ما لا يدفع الأصل ثم من عادتهم أن يقول الخصم لا أسلِّم قيامَ المقتضي اللازم على هذا التقدير فإنه إذا أريد الفرع قد لا يُراد الأصل بالمانع من إرادته خصوصًا وهو أنَّ في إرادته مع إرادة الفرع زيادةَ تركِ العمل بما ينفي إرادتهما فإن المانع من إرادتهما إذا تُرِكَ العملُ به في الفرع ثم تُرِكَ في الأصل ازدادت مخالفة الأصل فيقال له لا نسلِّم قيامَ المانع على تقدير إرادة الفرع فيقول هو واقع في الواقع فيكون واقعًا على التقدير فيقال له مثل ما قيل في التلازم وقد تقدم الكلام في ذلك وبيّنا فسادَ ما ذكر الجدليُّ أنه يقرر به القياس المخصص وذلك من وجوه أحدها أن يقول التخصيص ثابت في عدم الإحصان المدَّعى وهو زنا الكافر مثلاً لأنه لو لم يكن ثابتًا هناك لما ثبتَ في صورة الإجماع وهو الزنا الذي لم يثبت نحوه لأن النافي للتخصيص ثابت وهو المقتضي لوجوب الرجم وهو شمول اللفظ له فيقال له لا نُسلِّم أنه لو لم يثبت هنا لما ثبتَ في صورة الإجماع أما في هذا المثال الذي ذكرَه فلأن تلك المسألة غير مندرجة في عموم اللفظ ولا مقتضيَ للوجوب فيها وإذا لم تكن مخصوصةً ولا مقتضِيَ فيها للوجوب فقوله لو لم يكن التخصيص لم يثبت في

صورة الإجماع ولكن لا يلزم من عدم ثبوت التخصيص ثبوتُ وجوبِ الرجم إلاّ إذا ثبتَ دخولُه في العام الوجه الثاني أنا لا نسلِّم التلازمَ وأما النافي للتخصيص فهو إنما ينفي التخصيص على التقديرات الواقعة في الواقع أو على التقديرات التي لا تنافيه لأنه لو نفاه على كل تقديرٍ لنَفاه على تقدير عدم النافي ووجوده وعلى تقدير عدم الرسول ووجوده وعلى تقدير وجود الزنا وعدمه وعلى كل تقدير باطل وهذا محال فعُلِمَ أنه إنما ينفيه على كل تقدير واقع أو تقديرٍ لا ينافيه فإذا ادعيتَ قيامَ المانع من التخصيص في الأصل على تقدير عدم التخصيص في الفرع فإن كان هذا التخصيص واقعًا لم يصحَّ دعوى التخصيص حينئذٍ وإن لم يكن واقعًا لم يصح دعوى قيام النافي للتخصيص على تقدير وجود التخصيص وتحريره وأن تقدير التخصيص في الفرع إن لم يكن واقعًا فلا يصح الاستدلال بالنافي على تقدير غير واقع لا سيما الاستدلال بالنافي للتخصيص على تقدير التخصيص الوجه الثالث أن المانع من التخصيص في صورة النزاع موجود وهو العموم ونحوه كما تقدم فيكون امتناع التخصيص واقعًا لقيام مقتضيه فيكون التخصيصُ غيرَ واقع وإذا كان التخصيص في صورة النزاع غيرَ واقع في الواقع لم يكن المقتضي للوجوب النافي للتخصيص في صورة الإجماع واقعًا على هذا التقدير لأنه يكون واقعًا على تقدير عدم الواقع فيكون الواقع مستلزمًا لغير الواقع وذلك جمعٌ بين

النقيضين وهو محال الوجه الرابع النافي للتخصيص قد ترك العمل به في صورة الإجماع بالإجماع فلا يبقى نافيًا للتخصيص في الأصل ولا مقتضيًا للإجماع على عدم نفيه للتخصيص وعدم اقتضائه للوجوب في هذه الصورة فلا يصحُّ الاستدلال به الوجه الخامس أن تخصيص الأصلِ واقع في الواقع بالإجماع فيكون واقعًا على تقدير عدم التخصيص في الفرعِ لأنه لا منافاةَ بين تخصيص الأصل وعدم تخصيص الفرع إذ لو تنافيا لكان إذا خصَّصنا صورةً يلزم تخصيصُ كل صورة وهو خلاف الإجماع الوجه السادس أن النافي للتخصيص لا اختصاصَ له بتقدير التخصيص في الفرع وعدمه فإمّا أن يكون دالًّ على التقديرينِ أو لا يكون دالاًّ وليس دالاًّ على التقديرين بالإجماع فتعيَّن أن لا يكون دالاًّ على التقديرين أعني تقدير التخصيص في الفرع وعدمه وإذا لم يكن دالاًّ على انتفاء التخصيص في الأصل بطلَ الاستدلالُ به الوجه السابع أن النافي للتخصيص نَفَى التخصيصَ في الصورتين فإذا التزم مخالفته في إحداهما بالإجماع لم يجب أن يلتزم مخالفته في الأخرى لما فيه من تكثير مخالفة النافي الوجه الثامن أنه إما أن يكون النافي للتخصيص قائمًا أو لا يكون فإن لم يكن بطلَ الاستدلالُ وإن كان قائمًا فهو نافٍ للتخصيص في الفرع فإمّا أن ينتفي التخصيص في الفرع أو يتعارض

مقتضيه ونافيه وكلاهما ينقض الاستدلال التاسع أن يقال ليس التخصيص ثابتًا لأنه لو كان ثابتًا لما ثبتَ التخصيصُ في الأصل بالنافي له واعلم أن فسادَ هذا الكلام له طرق كثيرة وقد تقدم في التلازم طرفٌ من ذلك وأما قوله أو نقول لم يرد الفرع أصلاً وإلاّ لأريد مع الأصل بالمقتضي للإرادة وهو اللفظ العام وإرادته مع الأصل محال فإرادتُه محالٌ وقد علمتَ أن في حصول المثال الذي ذكره يمكن منع المقتضي للإرادة أن اللفظ غير عام كما قدمناه لكنا نسامحه في ذلك لأن القصد الكلام على مثل هذا التركيب الفاسد فنقول لا نسلِّم أنه لو أريد لأريد مع الأصل فإن هذه الملازمة ممنوعة قوله المقتضي للإرادة قلنا المقتضي للإرادة يقتضي إرادتَه على كل تقديرٍ أم على كل تقدير واقع فإن ادعى الأولَ فهو ممنوع باطل وإن ادعى الثاني فإرادة الأصل غير واقعة فقوله لو أُريدَ لأريدَ مع الأصل بالمقتضي معناه أن المقتضي يقتضي إرادتهما مع العلم بأن أحدهما غير مراد ثم نقول إذا كان الأصل يقتضي إرادتهما وقد ترك هذا الأصل في حكم الأصل كان تركًا للدليل وترك الدليل على خلاف الأصل

فتكون كثرته على خلاف الأصل فلا يلزم تركُ الدليل في الفرع لما فيه من تكثير مخالفة الأصل واعلم أن قوله لو أريد لأريد مع الأصل بالمقتضي للإرادة هو بعينه معنى قوله لو لم يخصّ الفرع لما خصّ الأصل بالنافي للتخصيص فإن إرادة الحكم هو عدم تخصيصه والمقتضي للإرادة نافٍ للتخصيص فكلُّ ما قدمناه على التقدير الأول يأتي هاهنا قال ولئن منع التلازم بالمانع فنقول المانع غير متحقق على ما ذكرتم من التقدير وإلا لوقع التعارض بينه وبين المقتضي على ما عُرِفَ يقول إن منعَ المعترضُ التلازمَ أي إرادة الأصل على تقدير إرادة الفرع أو عدم التخصيص في الأصل وذلك المانع هو النصوص المختصة بالأصل أو الإجماع المختص به أو المناسبة المختصة به أو يقول لو أريدَ الأصلُ للزم زيادة ترك العمل بما ينفي الحكم فإن الأدلة المانعة للوجوب تَنفي إرادتَهما وإذا تركنا العمل به فيهما زادَ تركُ العمل بها وذلك منتفٍ أو يقول لا أسلِّم أنه لو لم يثبت التخصيص في الفرع لما ثبتَ في الأصل أو لا أسلِّم أنه لو أريد الفرع لأريد الأصل لأن النفي للإرادة وهو الإجماع والضرر اللاحق يمنع الوجوب والإرادة في الأصل وذلك يقتضي أن يكون مانعًا على

هذا التقدير كما قرِّرَ في التلازم أن المانع مستمرٌّ في الواقع فيكون مانعًا على هذا التقدير فإنه يجاب بأن يقال له المانع الواقع في الواقع غيرُ واقع على تقدير إرادة الفرع أو عدم التخصيص فيه لأنه لو كان واقعًا للزم التعارضُ بين المقتضي للوجوب أو المقتضي للإرادة وبين المانع من ذلك والتعارض بين الأدلة على خلاف الأصل وهذا شبيهٌ بما ذكره في التلازم حيث ألزمَ السائلَ تعارضًا يلزمُ منه تركُ أحدِ الدليلين فيكون على خلاف الأصل بخلاف ما إذا منع ثبوت أحدهما على التقدير فلا يكون تركًا لأحدهما وتركُ أحدهما على تقديرٍ ليس تركًا له في نفس الأمر كما تقدم لأن أحد الأمرين لازمٌ في نفس الأمر وهو إمّا عدم الدليل أو وجود مدلوله وهذا التقدير غير واقع لأنه تقدير عدم تخصيص غير واقع فلا يضرُّ إذا لزمَ عليه تركُ العمل بالنافي واعلم أن هذا الجواب ليس بصحيح كما تقدم في التلازم وذلك أن المعترض يقول لا أسلِّم ثبوتَ التلازم كما قررناه ولا يحتاج أن يُسنِدَ مَنعه إلى وجود مانع بل يمنع ويقرر منعَه من الوجه الذي بيناه وهو أنا لا نُسلِّم وجود المقتضي والإرادة في الأصل على تقدير الملزوم من الوجوه التي تقدمت ويمكن المعترض تقرير كلامه بوجهٍ آخر نحو مما قرَّر المستدل كلامه في اللازم وكما قرر كلامه هنا في جوابه بأن يقول لو لم يُرَد الفرعُ أو لم يُخَصّ الفرعُ لزمَ

مخالفةُ المقتضي لأن المقتضي لإرادته والنافي لتخصيصه قائم ولو كان تخصيص الأصل وعدم إرادته مستلزمًا لتخصيص الفرع وعدم إرادته لزمَ التعارضُ بين المقتضي لإرادة الفرع والنافي لإرادته لأن العموم يقتضي إرادتَه وقياسه على الأصل يقتضي عدمَ إرادته والتعارضُ يستلزمُ تركَ أحدِ الدليلين وهو خلاف الأصل أو يقول المقتضي لوجوب الرجم غير موجودٍ على تقدير استلزامه التخصيص في الأصل التخصيصَ في الفرع لأنه لو كان موجودًا تعارض المقتضي لوجود الرجم في الفرع والمانع وهو الملازمة والمعارضة على خلاف الأصل وهذا الكلام هنا في غاية الحسن وهو أحسن من إيراده في جواب هذا السائل نعم يَرِدُ عليه أنه تركَ المقتضي في الأصل فيقال ما كان على خلاف الأصل فتكثيرهُ على خلاف الأصل فيجب الاحتراز عن مخالفة الأصل مهما أمكن فهذه أجوبةٌ محققة يبطلُ بها كلامُ المستدل على هذا الوجه وكذلك منعه اللازم صحيح والمانع صحيح وقول المستدل إن المانع غير متحقق لأنه لو تحقق لوقع التعارض قلنا هذا مُقابَلٌ بمثلِه فإنه لو تحقق المقتضي لإرادة الأصل لوقعَ التعارضُ بينه وبين المانع منه والتعارضُ على خلاف الأصل أيضًا

فالتعارضُ واقعٌ في الواقع فلا يضرُّ التزامُه على هذا التقدير وقد تقدّمَ الكلامُ على مثل هذا في التلازم قال المصنف ولئن قال لِمَ قلتم بأن التخصيصَ عبارةٌ عما ذكرتم فنقول بالنقل وعمومه موارد استعمال اسم التخصيص في الشرع اعلم أن التخصيص في الأصل مصدر خَصَّصْتُ الشيءَ أُخصِّصُه تخصيصًا ويقال خَصَصْتُه أخُصُّه خصوصًا واختصصتهُ أختَصُّه اختصاصًا إذا جعلتَه خاصًّا في نفسه أو في اعتقادك واعتقادِ غيرِك أي عينًا أو علمًا وكذلك عظَمتُه وشرَّفتُه أي جعلتُه عظيمًا في نفسِه أو جعلتُه عظيمًا في نفسي وكذلك كثيرٌ من الأفعال المتعدية وتخصيصه إفرادُهُ من غيرِه وله في باب العموم عدةُ معانٍ أحدها أن التخصيص إفراد الشيء بالحكم أو بالذكر بمعنى أنك لم تَقرِنْ به غيرَه مثلَ أن تقول زيدٌ قائمٌ الأَيِّمُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها ومَطْلُ الغنيّ ظلمٌ فهذا هو التخصيص المبتدأ لأنك لم تُخرِجه من عمومٍ لفظيّ شَمِلَه وغيرَه وهذا التخصيص إن عُلِمَ أنه تخصيصٌ في الحكم فلا كلام وإن لم يُعلم فهل يدل تخصيصُه بالذكر على تخصيصه بالحكم فيه اختلاف المشهور بين القائلين

بالمفهوم ودلالته والمانعين من الاستدلال به الثاني أن تقول خصصتُه إذا أخرجتَه من لفظك العام بإرادتك عدمَ دخوله أو بعدم إرادتِك دخولَه وهذا هو الأصل في تخصيص العام فإذا قيل إن الله سبحانه خصَّ من قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء 11] العبدَ والكافر والقاتل فمعناه أنه لم يُرِد دخولهم في الحكم بل أراد عدم دخولهم وكذلك المتكلم من الخلق إذا قال من دخل داري من نسائي فهي طالقٌ واستثنى بقلبه إلاّ زينب نفعَه هذا الاستثناءُ فيما بينه وبين الله وفي قبوله في الحكم خلاف مشهور لكن هذه الإرادة أعني إرادة الله سبحانه أو إرادة المتكلم لما كانت غنيةً عن الخلق جعل ما يدلّ عليها مخصَّصًا والمستدلُّ بذلك الدليل مخصِّصًا فهذا هو المعنى الثالث والرابع من معاني التخصيص فإنا نقول قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لا يَرِث المسلمُ الكافرَ خَصَّ آية المواريث وقولُه لا يُقطَع السارق إلاّ في رُبُع دينارٍ خَصَّ آية السرقة أو نقول قولُه وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 4] خصَّ قولَه وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 228] وقوله أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة 226] ويقال فلان يخصِّصُ هذه الآية أي يعتقد أنها خاصةٌ بدليلٍ اقتضى ذلك ثم إنك تقول خصصتُ العامّ بكذا أي جعلتُه مخصوصًا

ببعض أفراده وخصصتُ هذه الصورة من العامّ أي جعلتُها مخصوصةً من حكمه فالمخصوص يُقال على العامّ الذي أُخرِج منه شيء وعلى ما أُخرج من العامّ إذا فهمتَ هذا فقول المصنف تخصيص الشيء من العامّ عدمُ إرادتِه مع تناول اللفظ له كلام جيد إذ لو لم يكن اللفظ متناولاً لما كان تخصيص العام في كل شيء بل كان تخصيصًا مبتدأً أو كلامًا مبتدأً وإذا كان اللفظ متناولاً له وهو مراد فليس بمخصوصٍ بل مرادٌ من اللفظ يَبْقَى على مقتضَى العموم ومَنْعُ السائل هنا لا وجهَ له فإنَّ مَنْعَ دلالة اللفظ إنما يستقيم إذا كان اللفظ في الكتاب أو السنة وقد استدلّ به على حكم فيحتاج أن يبيّن دلالته عليه أما لفظ التخصيص الذي يُستعمل هنا فهو لفظٌ من ألفاظ العلماء واصطلاحهم مثل القياس والتلازم والمناسبة والدوران فلا وجهَ لمنعه يُبيِّن ذلك أن المستدل يمكنه تقريرُ دليله بدون التعرض لهذا اللفظ بأن يقول حكم الأصل لم يرد من هذا اللفظ العام بالإجماع فلذلك حكم الفرع لا يكون مرادًا بالقياس عليه إلى آخر الكلام أو يقول إخراج حكم الأصل من اللفظ إنما كان للقدر المشترك بينه وبين الفرع

أو يقول الخطاب بالعام الذي لم يتضمن حكم الأصل إنما كان للقدر المشترك بينه وبين الفرع فإن استدلاله غير متوقف على تفسير هذا اللفظ فما وجه الاعتراض على معناه دون معنى القياس والدوران والتلازم وغيرهما إلاّ أنه في الجملة في الكلام عليه تكثير للفائدة لكنْ هو منعٌ غير متوجه ومن أهم الأشياء على المناظر تمييز المُنُوعِ القادحة والمعارضات الصحيحة من المُنُوعِ التي لا يضرُّ منعُها والمعارضاتِ التي لا يضرّ وجودُها لا سيما أهل هذه الطريقة فإن أولهم كانوا يزعمون أن طريقتهم تجمع بشر الكلام وتصونه عن الخبط وعدم الضبط لكن الذي دعاه إلى ذلك أن التخصيص قد يكون مسلمًا في صورة الإجماع وقد لا يكونُ كذلك كالصورة التي مثل بهذا فإن الإجماع فيها مركب وذلك لأنه إنما لم يجب الرجم فيها عند أبي حنيفة ومالك لعدم الإحصان الذي هو الشرط ولم يجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه لأن شهادة أهل الذمة لا تقبل عندهم فانتفى الرجمُ لعدم البينة به فيحتاج أن يبيّن التخصيص في هذه الصورة أن يبين عدم إرادتها إجماعًا مع تناول اللفظ لها قوله فنقول بالنقل وعمومه موارد استعمال اسم التخصيص في الشرع

اعلم أن معنى اللفظ يثبتُ بالنقل عن أهل اللسان الذين خُوطِبنا بلغتهم أو بالنقل عن العلماء بلغتهم الذين طلبوا علمها وبحثوا عنها أو بالنقل عن أهل العرف إن كان اللفظ عُرفيًّا أو بالنقل عن أهل العرف الخاص إن كان اللفظ اصطلاحيًّا كألفاظ الفقهاء والنحاة ونحوهم أو يثبت بالاستعمال المجرد وهما ظاهران لكن لفظ التخصيص لفظ اصطلاحي عِلْمي المرجعُ فيه إلى أهل الفقه وأسبابه فيُرجَع فيه إلى النقل عنهم وهم قد ذكروا في تفسير الخصوص هذا المعنى الذي قاله إما باللفظ الذي قاله أو بما يُشبِهه مثل أن يقال إخراج ما لم يرد باللفظ العام ونحو ذلك وأما عموم المعنى موارد استعمال اللفظ بحيث لا يستعمل اللفظ في مورد إلا وذلك المعنى الكلي موجود فيه فإن ذلك يدلّ على أن ذلك المعنى هو مفهوم ذلك اللفظ ومسمّاه ومعناه ثم منهم من يقول ذلك المعنى حقيقة ذلك اللفظ ومنهم من يقول ذلك اللفظ حقيقة المعنى ومنهم من يقول الحقيقة استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى فيجعل الحقيقة تارةً عبارة عن اللفظ وهو المشهور وتارةً عن المعنى وتارةً عن استعمال اللفظ في المعنى والأمر في ذلك واسعٌ هكذا زعم أصحابُ هذا الجدل ونحوهم والتحقيق أنه لا يُكتفَى بذلك حتى يعمّ موارد الاستعمال ويختص بها بحيث لا يوجد في غيرها وإلاّ فلو وُجِدَ فيها ووُجِدَ في غيرها كان معنى لفظ أعم من ذلك اللفظ مثال ذلك لفظ حيوان فإذا وجدناهُ يُقال للإنسان والفرس

والطير والأسد والثور وغير ذلك من الدوابّ فقلنا معنى الحيوان هو الجسم الحسّاس النامي المتحرك بالإرادة لأنا وجدنا هذا المعنى يعمُّ مواردَ استعمال لفظ الحيوان وكذلك لفظ إنسان وجدناه يَرِدُ على الأسود والأبيض والعربي والعجمي والطويل والقصير والصغير والكبير من الآدميين فقلنا معنى الإنسان هو الحيوان الناطق أو هو الآدمي أو هو البشري أو نحو ذلك من التفسيرات المطابقة لأن هذا المعنى عام لموارد استعمال لفظ الإنسان في اللغة والتحقيق أن يقال هذا المعنى المدَّعَى أنه مفهوم اللفظ ومسماه وأنه حقيقة اللفظ أو اللفظ حقيقة فيه مطابقٌ لموارد استعمال اللفظ عمومًا وخصوصًا وملازم للفظ وجودًا وعدمًا ودائرٌ معه فهيًا فيه أو عموم المعنى موارد الاستعمال واختصاصه بها دليلٌ على الحقيقة أو عموم المعنى موارد الاستعمال ولزومه لها أو تلازم اللفظ والمعنى في الاستعمال يدلُّ على أنه معناه أو دوران إرادة هذا المعنى من اللفظ مع اللفظ وجودًا وعدمًا دليلٌ على أن المدار حقيقةٌ في الدائر ودليلٌ عليه وموجبٌ له في الاستعمال اللغوي وإيضاح هذا المعنى المدَّعَى أنه حقيقة اللفظ له ثلاثة أقسام إمَّا أن يكون اعمَّ من اللفظ كمعنى الجسم النامي بالنسبة إلى لفظ الحيوان وكمعنى الحساس والمتحرك بالإرادة الحيوانية إلى لفظ الإنسان

وإمّا أن يكون أخصَّ منه كمعنى الصاهل والناطق والباغم والراعي بالنسبة إلى لفظ الحيوان وكمعنى العربي والعجمي بالنسبة إلى لفظ الإنسان وإمّا أن يكون مساويًا له ومطابقًا في العموم والخصوص كما ذكرناهُ من معنى الحيوان والإنسان بالنسبة إلى لفظهما فإن قيل عموم المعنى موارد استعمال اللفظ يوجب كون ذلك المعنى حقيقة في اللفظ قيل له قد يعمُّ موارد استعمال ذلك اللفظ وموارد استعمال غيره كمعنى الجسم والنامي فإنه يعمُّ موارد استعمال لفظ الحيوان والإنسان ولفظ نبات ومعدن ويعم معنى الجسم لفظ سماء وأرض وتراب وماء وهواء ونار وغير ذلك فلو كان مجرَّد عموم المعنى موارد الاستعمال دليل الحقيقة كان لا يشاء أحدٌ أن يجعل الألفاظ حقيقةً في أعمَّ من معناها إلاّ فعل ذلك واحتجَّ بعموم المعنى المدَّعى موارد استعمال ذلك اللفظ كما يعمّها ما هو مساوي لمعنى اللفظ وإذا كانت هذه الدعوى مستلزمةً وجودَ الباطل كانت باطلةً فإن قيل اختصاص ذلك المعنى لموارد اللفظ إذ لا يكون اللفظ مستعملاً في غير ذلك المعنى أو كون اللفظ لا يُوجَد إلاّ

والمعنى العام معه وإذا كان عدميًّا لم يجز أن يُجعَل جزءًا من المقتضي لوجوهٍ أحدها أن الأمر العدمي لا يجوز أن يكون علةً ولا جزءًا من العلة وغلاّ لجاز إسنادُ الحوادث إلى أمور عدميّة حتى لا تكون دالَّةً على وجود الصانع وهو مع كونه خلافَ إجماع الأمم معلومُ الفسادِ بالضرورة الثاني أن وجود ذلك المعنى العام في غير موارد لفظ حيوان وإنسان مع كون ذلك المعنى حقيقة اللفظ كما منع كون معنى الجسم والنامي حقيقة لفظ حيوان وإنسان لأن حقيقة اللفظ لابدَّ أن تكون موجودةً حيثُ ما وُجِد اللفظ هذا موجب اللفظ ومقتضاه فلما وُجِدَ ذلك المعنى بدون اللفظ دلَّ على أنه ليس بحقيقة وصار هذا مثل النقض في الحدود والأدلة والعلل والشروط والقضايا الكلية فإن النقض يُفيد الحدَّ بالاتفاق وإن كان في إفساده للعلة خلاف وكون اللفظ حقيقةً في كذا هو من باب الحدود اللفظية لأن الحدَّ تارةً يكون بحسب الاسم وتارةً يكون بحسب الوصف فالحدُّ بحسب الاسم أن يضع اللفظ فيقول ما حدُّّ هذا اللفظ أي ما هو المعنى الذي هو مقصود هذا اللفظ ومرادُه وذلك لابدَّ أن يساويه في العموم والخصوص وإذا كان وجود المعنى بدون اللفظ نقضًا ومانعًا يجب على المستدلِّ الاحترازُ عنه لأنَّ تكليفَه ذلك يُفضِي إلى شططٍ عظيم ومشقة شديدة لاحتياجه إلى بيان عدم النقض في كل صورة فيكون ذلك من وظيفة المعترض لأن غرضه يَحصُل بالنقض في

صورة واحدةٍ الثالث أن المعنى في صور الاستعمال يقتضي كونَه حقيقةً وعدم وجوده مع وجود الاستعمال يقتضي كونه ليس بحقيقة فيكون هذا معارضًا وذكر المعارض إنما يجب على المعترض وهذا الوجه قريبٌ من الذي قبله فيقال الجواب من وجوه أحدها أنّا لا نسلِّم أن اختصاص المعنى العام بموارد الاستعمال أمر عدمي وذلك أن معناه أن معنى ذلك المعنى مستلزم لموارد استعمال اللفظ كما أنه إذا وجدت موارد استعمال اللفظ فلابدّ من وجود المعنى وهذا هو التلازم بعينه مثل تلازم الحدّ والمحدود والعلة المعينة والمعلول ونحو ذلك وهذا أمر وجودي بل لا فرق بين عموم المعنى موارد استعمال اللفظ وعموم اللفظ موارد المعنى ومواضعه بل استعمالُ العموم في اللفظ أكثر من استعمال العموم في المعنى حتى اتفق الناس على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقةً واختلفوا في كونه من عوارض المعاني فلو جاز أن يُدَّعى أن عموم المعنى لموارد اللفظ عدمي ثم الذي يدلُّ على أنه وجودي أن نقيضه لا عموم ولا خصوص

ولا لزوم ولا وجود كما بيَّناه وهذه المشتقات كلها عدمية بدليل جواز وصف المستحيل بها وصفةُ المستحيل لا يجوز أن تكون وجوديةً للزوم اجتماع النقيضين ولامتناع وجود الممتنع وإذا كان أحد النقيضين عدميًّا كان الآخر وجوديًّا وأما ما ذكره من كون معناه أن ذلك المعنى لا يُفهَم في غير موارد اللفظ أو لا يكون اللفظ مستعملاً في غير ذلك المعنى فإن هذه المعاني لازمة وتابعة للأمر الوجودي الذي هو وجود اللفظ حيث يوجد المعنى كما أن كون المعنى العام يتخلف عن موارد اللفظ وكون اللفظ لا يكون موجودًا بدون المعنى العام أمر عدمي لكنه لازم عن الأمر الوجودي الذي هو عموم المعنى موارد الاستعمال وهذا شأن كل متلازمين فإن وجود كلٍّ منهما مستلزمٌ لوجود الآخر وانتفاؤه محقِّقٌ لانتفائه ولا يقال إن التلازم أمر عدميٌّ بل هو وجوديٌّ مستلزمٌ لعدميّ واستلزامه للعدم لا يوجب أن يُجعَلَ هو العدم ولا يجعل العدم جزءًا من حقيقة وإلاّ لتوقَّف فهمُ الحقيقة على فهم كونِه ضِدًّا لكلِّ ضِدٍّ وهو مُبطل ولكان عدمُ كلٍّ من الضدين جزءًا من حقيقة الضدِّ الآخر ووجود الحقيقة متوقفٌ على وجود أجزائها فيكون وجودُ كلٍّ منهما متوقفًا على عدم الآخر بمعنى أن يكون عدمُه علةً وسببًا لوجوده أو مقوِّمًا ومحقّقَا لوجودِه لأنّ أجزاء الحقيقة هي كذلك

والعلة والمقوِّم متقدم على المعلول تقدُّمًا ذاتيًّا فيكون عدمُ كلّ منهما متقدمًا على الآخر تقدّمًا ذاتيًّا ومعلومٌ أن وجود أحدهما مؤثر في عدم الآخر إمّا تأثيرًا ذاتيًّا أو بجَرَيانِ العادة فيكون وجودُه متقدمًا على عدم الآخر فلو كان وجوده متوقّفًا على عدم الآخر توقُّفَ المعلولِ على العلّة لزومَ الدور وأيضًا فلو كان عدمُ الضدِّ جزءًا من وجودِ هذه لكان عدم الممتنعات جزءًا من الوجود الواجب وهذا معلوم الفساد بالضرورة وأيضًا فلو كان عدم الضدّ جزءًا من الضدّ الآخر وكلّ حقيقة فلها ضدّ لكان العدم جزءًا من علَّةِ كلِّ موجود والمعترض فرَّ من بعض هذه المحاذير فكيف يلتزمُها كلَّها وهذا ظاهر فتبيَّنَ بهذا أن عمومَ المعنى مواردَ اللفظ وعموم اللفظ مواردَ المعنى ليس واحدٌ منهما عدميًّا وهذا إنما أوضحناه لأن بعض هؤلاء الجدليين ادَّعى ذلك الجواب الثاني لو سلَّمنا أنه عدميٌّ فلا فرقَ بينه وبين عموم المعنى موارد اللفظ والعلم بذلك ينتهي عند تصوره فما لزمَ في أحدهما لزمَ في الآخر الثالث سلَّمنا أنه عدمي لكن لا نُسلِّم أنه علةٌ لكون اللفظ حقيقةً

في المعنى وإنما هو دليل على أن حقيقة اللفظ ذلك المعنى وذلك لأن العلة ما يؤثّر في وجود المعلل وكلّ واحد من عموم اللفظ للمعنى وعموم المعنى للفظ واختصاصه ليس مؤثّرًا في وجود كون اللفظ حقيقةً# لمعنى وإنما المؤثر فيه هو الوضع سواء كان الوضع متقدمًا على الاستعمال أو كان نفس الاستعمال وضعًا وذلك يرجع إلى إرادة الواضع وقصده ثم يتبع ذلك العموم والخصوص المتقدم نعم العموم والخصوص والتلازم والدوران دليلٌ وعَلَمٌ على الوضع المستند إلى قصد الواضع والدليل يجوز أن يكون عدميًّا باتفاق العقلاء فإن عدم الشرط العقلي والشرعي دليلٌ على عدم المشروط وعدم العلة المعيّنة دليلٌ على عدم المعلول وعدم اللازم دليلٌ على عدم الملزوم وعدم الفساد في العالم دليلٌ على عدم شريكٍ للإله الحق وكما يجوز أن يكون دليلاً على الأمور الوجودية كالاستدلال بعدم الشيء على وجود نقيضه وبعدم الناقل عن الأصل على بقاء الأمر على ما كان عليه منضمًّا إلى استصحاب الحال وبعدم علامات الأسماء والأفعال على كون الكلمة حرفًا وبعدم الآيات على كذب المتنبئ وبعدم إتيان القاذف بأربعة شهداء على أنه عند الله من الكاذبين وبعدم الإسلام والعهد على حلٍّ الدم والمال وبعدم الوارث من النسب على استحقاق الوارث بالولاء وبعدمهما على استحقاق أهل بيت المال وكذلك الاستدلال بعدم الطبقة الأولى من الوقف على استحقاق الطبقة الثانية

والاستدلال بزوال ملك المورث على وجود ملك الوارث والاستدلال بانقضاء مدة الإجازة الذي هو عدم استحقاق المستأجر على عود المنافع إلى ملك المؤجر والاستدلال بعدم الضدّ على وجود الضدّ الآخر إن لم يكن له إلاّ ضدٌّ واحدٌ وعلى وجودِ واحدٍ من أضدادِه إن كان ذا أضدادٍ وهذا كثيرٌ يفوق الإحصاء وإن كان لابدَّ في عامّة هذه المواضع من أمر وجوديّ إذ الحكم هنا أمرٌ وجودي فمُوجِبُه لا يكون إلاّ وجوديًُّا الرابع سلَّمنا أنه عدميٌّ لكن ليس بعلة وإنما هو جزء من العلة إذ العلة مجموع الأمرين عدم المعنى وعدم وجوده في مورد لفظٍ آخر فلِمَ قلتَ إن العدم لا يكون جزءًا من العلة وهذا لأنه يكون شرطًا لتأثير العلة بالاتفاق لتوقف تأثير المؤثر على عدم الموانع فلمَ قلت إنه لا يكون جزءًا فإن العلة قد يُعنَى به مجموع ما يجب الحكم عند وجودِه وعلى هذا فعدم الموانع جزءٌ من العلة وقد يُعنَى به ما يكون موجبًا إن لم يُعارِضْه غيرُه وعلى هذا فعدمُ المانع ليس بجزء فلا يُقدَّمُ أحد التفسيرين الخامس لا نسلِّم أن العدم لا يكون علةً ولا جزءًا من العلة لأن العلة إنما هي علامةً أو أمارةٌ وذلك يكون عدميًّا كما تقدم وما ذكره من الدليل فإن ما يدلّ على ذلك العلة الموجبة فإن العدم المخصّص محالٌ أن يوجب وجوده أما المعرّف فلا نسلّم ذلك فيه

وفي الداعي تردُّدٌ السادس أن العدم لا يكون علةً ولا جزءًا لكن للحكم الوجودي أو العدمي الأول مسلَّم والثاني ممنوع فإنّ الناس مجمعون على جواز تعليل العدم بالعدم كما يقال عدمُ الطهارة علة لعدم الصلاة وعدم الاستطاعة علة عدم وجوب الحج وعدم كونه ماءً أو ترابًا عدم صحة طهارتَي الحدث أو الجنب ونحن إنما جعلنا العدم هنا علة لعدم كونِ غير هذا اللفظ حقيقةً فإن عمومَه يقتضي كونَه حقيقةً وخصوصه يمنع كونَ غيرِه حقيقةً إذ لولا اختصاصه بهذه الموارد لكان معنى آخر يعمّ تلك الموارد فتوجب كونه حقيقةً ولو كان معنى آخر غيره حقيقةً لصار اللفظُ مشتركًا وهو خلاه الأصل فما ذكرناه عدمٌ يوجب عدمَ حقيقةٍ أخرى لا وجودَ هذه الحقيقة السابع العدم لا يكون علّةً للموجود مطلقًا أو إذا تضمَّن أمرًا وجوديًّا الأول ممنوع والدليل المذكور لم يعمَّه والثاني مسلَّمٌ والدليل عليه أن الفقهاء بل والعقلاء كالمجمعين على إضافة الحكم إلى عدم المانع إذا كان المقتضي ظاهرًا وكذلك يضيفونه إلى أمر عدمي إذا كان مستلزمًا لوجودي كقولهم مات لعدم الطعام والشراب وأصابهم المطرُ لعدم السَّقف ويُباحُ قتلُ الحربي لأنه لا

ذمَّة له وتجب الصلاة على الحائض ونحوِها إذا انقطع الدم قبل خروج الوقت لزوالِ المانع ونظائر ذلك كثيرة وما نحن فيه كذلك كما تقدم بيانه الثامن أن هذا نفي المانع والمعارض لكن المانع إذا كان ظاهرًا مشهورًا فلابدَّ من الاحتراز عنه حَذَرًا من انفتاح باب الكلام وخروج الأمر إلى الانتشار الخصام ولهذا كلّ من نمسَّك بالاستصحاب ونحوِه من الأدلة التي كثر تخلُّف مدلولاتِها عنها فلابدّ أن يضمّ إليه عدم المعارض التاسع أن عدم الاحتراز من هذا المانع يُفضِي إلى انتقاضِ أكثرِ صُورِ هذا الدليل والاستدلالِ بما لا يدلُّ أكثر من الاستدلال بما يدلّ وذلك أكثر مشقةً على أهل الحق وأعظمُ ضررًا على المعترض على الباطل بيان ذلك أن المعاني العامة لموارد الاستعمال وهي حقيقة اللفظ أضعافُ أضعافِ المعاني العامة التي هي حقيقة اللفظ بألوفٍ مؤلَّفةٍ وذلك أنه ما من معنى عام إلاّ ومعناه يعمُّ موارد استعمال كل لفظ أخص من الأخص حتى ينتهي إلى ما لا شركةَ فيه وفي ذلك من الدرجاتِ والتفاوت ما لا يَعلمه إلاّ الله فإن لفظ شيء وموجود ومعلوم ومذكور وذات عين ونفس وحقيقة وماهية يعمُّ موارد استعمال كل لفظٍ من الألفاظ وليس حقيقة إلاّ في معنى واحدٍ فإذا كان الشيء الواحد يدلُّ

على مدلولِه في صورٍ ويَدُلُّ على غيرِ مدلولِه في أضعافِ تلك الصور كان عدمُ دلالتِه أغلبَ على القلب من دلالته فإن الكثرة دليل الرجحان والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب وقد احتجَّ هؤلاء الجدليون على أن عموم المعنى موارد الاستعمال يدلُّ على كون اللفظ حقيقةً بأشياءَ أحدها أن حقيقة اللفظ موصوفةٌ بأنها واحدةٌ وبأنها عامة لموارد الاستعمال وبنحو ذلك فإذا رأينا هذا المعنى موصوفًا بهذه الصفات غلبَ على ظنِّنا أنه هو القاضي ولهذا لو كتب قاضٍ إلى قاضٍ بحقّ على فلان بن فلان الفلاني فقامت البينةُ بأنه فلان بن فلان الفلاني فادَّعى أن له شركاء في هذا الاسم لم يُقبَل منه حتى تقوم البينةُ بشريكٍ ولولا أنه يُستدلُّ على عينٍ بكثرة الصفات التي لم يُعلَم فيها شريكٌ لم يكن كذلك الثاني أن جَعْلَه حقيقةً في المعنى العام يَدفَعُ عن اللفظ فسادَ الاشتراك والمجاز والتعطيل لأنه لو لم يكن حقيقةً في ذلك المعنى فإن كان حقيقةً فيما يختصُّ بكلِّ فردٍ من الأفراد لَزِمَ الاشتراكُ وإن كان حقيقةً فيما يختصُّ ببعض تلك الأفراد دون بعضٍ لزمَ أن يكون مجازًا في الباقي وإن لم يكن حقيقةً في شيء لزمَ تعطيلُ اللفظ فإذا جعلناه حقيقةً في الجميع اندفعَ الاشتراك والمجاز وإذا كان دفعُ هذا الفساد مطلوبًا وهذا الطريق يخصُّه لدفع هذا الفساد كان سلوكُه جائزًا وإن

كان له طريقٌ آخر كسلوك طريقٍ من الطُّرق المُفضِية إلى المطلوب الثالث أن هذا المعنى عامٌّ والأصل عدم معنى آخر عام وحقيقة اللفظ لابدّ أن تكون عامَّةً فهذا المعنى حقيقة اللفظ والجواب عن الأول أن الظن الذي ذكروه مشروطٌ بعدمِ العلم بالشريك وقد بيَّنا وجودَ الشركاء في المعنى العامّ لموارد الاستعمال فهو نظير ما إذا كان الحق على محمد بن علي أو عبد الله بن محمد ونحو ذلك من الأسماء التي وقعت فيها الشركة وكذلك أيضًا لو وصف القاضي الفردَ بصفاتٍ قد عُلِمَ فيها الشركة فقوله حقيقة اللفظ واحدة عامة لموارد الاستعمال قلنا وهذه صفة أشياء ليست حقيقة وهي كل معنى أعمّ من حقيقة اللفظ والجواب عن الثاني أن دفع الفساد لا يكون مقصودًا إلاّ بعد قيام المقتضي موجودًا ويكون معدومًا لعدم المقتضي فدفعُ المجاز والاشتراك والتعطيل لا يكون مقصودًا إلاّ إذا قام المقتضي له والمقتضي له انعقادُ السبب الموجب للمجاز أو الاشتراك أو التعطيل ولا يسلّم وجود السبب وأيضًا فإن هذا المحذور قد تعيَّن لدفعِه طريقٌ واحد وهو حمل اللفظ على حقيقته لأن حَمْلَه على بعض الحقيقة محذور فلِمَ قلتَ إن هذا الطريق هو طريق دفعه بخلاف ما إذا ذكر النظائر فإن الغرض يحصل بكل طريق وهنا لا يحصل إلا بطريقٍ واحدٍ

وأيضًا فإن جَعْله حقيقةً في المعنى العام المدَّعَى كما أنّ فيه دفعَ هذه المفاسد ففيه أيضًا المفاسدُ التي قدَّمناها أو احتمالُ تلك المفاسد وليس في تركِ جَعْلِه حقيقةً إلاّ السكوت ومَن خُيِّر بين ركوبِ طريقٍ فيها دفعُ مفسدةٍ واحتمالُ مفسدة بين تركِها كان التركُ أولى بها ولهذا سُئِل ابن عباس عن رجلين أحدهما كثير الطاعة والذنوب والآخر قليل الطاعة والذنوب فقال لا أَعدِلُ بالسلامة شيئًا وعن الثالث أن الأصل النافي إنما يحتج به في موضعٍ لم يكثر الوجود بخلافه أو موضعٍ لم يُعلم أن هناك وجودًا يخالف الاستصحاب وقد بيّنا انه ما من لفظٍ إلاّ وهناك معاني كثيرة كلُّها عامٌّ لمواردِ استعماله فتخصيص أحدها بكونه حقيقةً يحتاج إلى دليل فيقال في مثل هذه الصورة كونه لم يرد مع تناول اللفظ معنى يعمّ استعمال لفظ الخصوص ويعمّه أيضًا كونه معنى لفظٍ وكونه مخرجًا وكونه غير مدلولٍ عليه وكونه غيرَ مرادٍ باللفظ ونحو ذلك وشيء من ذلك ليس بحقيقة لفظ التخصيص وإنما حقيقة لفظ التخصيص واحدٌ من هذه الأشياء وذلك لأن هذه المعاني أعمُّ من مواردِ استعمال لفظ العموم وحقيقة اللفظ لابدّ أن تكون مساويةً لموارد الاستعمال كما تقدم واعلم أن التخصيص عدم إرادة المعنى من اللفظ مع تناوله له بالطريقة التي ذكرناها وهو مطابقة المعنى لموارد الاستعمال عمومًا

وخصوصًا لأنّ كلَّ مورد للّفظ المخصّص عُدِمَتْ فيه الإرادة واللفظ متناولٌ له سُمِّي تخصيصًا كعدم إرادة من لا يَرِث من قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء 11] ونظائِره من العمومات وكلّ موضع سُمِّي تخصيصًا فقد عُدِمت فيه الإرادة مع تناول اللفظ لجميع التخصيصات فإثباتُ حقيقةِ اللفظِ ومسمَّاه يَثبتُ بهذا الذي ذكرناه من الطرد والعكس وهو الدوران والتلازم والمطابقة والمساواة عمومًا وخصوصًا ومَن أنصفَ عَلِمَ أن مستند العلم بجميع اللغات هو ما ذكرناه من الدوران لا مجرّد عمومِ المعنى والكلام في ذلك يطول واعلم أن قولهم عموم موارد الاستعمال إنما يَصحُّ في حقيقة الألفاظ الكلية وهو ما لا يمنع نفسُ معناه من ووقوع الشركةِ فيها بل في الألفاظ العامة وهو مالها موردانِ وأكثر حتى تكون هناك موارد يمكن دعوى عمومِ المعنى لها فأما المعنى الجزئي كما دَلّ عليه لفظ العَلَم والإشارة والمعرَّف بلام العهد إذا كان معيّنًا ونحو ذلك فهنا لا يمكن إثبات المسمَّى بذلك وأما على ما ذكرناه من مطابقة المعنى لموارد اللفظ فيمكن ذلك واعلم أيضًا أن قولهم موارد الاستعمال فيه إشكال وهو أن مورد استعمال اللفظ هو الموضع الذي استعمل اللفظ فيه فإمّا أن يكون هو المعنى الذي ادُّعِي أنه مسماه أو غيره فإن كان هو الأول كان التقدير عموم المعنى موارد المعنى وإن كان غيره لم يكن ما استعمل فيه اللفظ وهو معنى اللفظ

وجوابه أن يقال معنى عموم المعنى الموارد أن هذا المعنى موجود في كلّ موضع وردَ فيه اللفظُ ويَحصُل التغايُر بين المعنى وبين الموارد باعتبار المعنى ذهني والموارد خارجة أو باعتبار أن المعنى كليٌّ والموارد جزئيّة أو باعتبار أن المعنى المدَّعى هو جملة الموارد والجملة من حيث هو جملةٌ مغايرةٌ لأجزائها وهذا قريب من التقدير الثاني والله أعلم واعلم أن على المصنّف هنا استدراكًا واضحًا بعد تسليم صحة هذه القاعدة لأنا لم نقصد بالكلام على هذه القاعدة مُحاقَّتَه وإنما حَاقَقْنا فيها من عدَّها قاعدةً من نظرائه الجدليين أصحابِ الجدل المحدث وأما ما يختصّه فقوله وعمومه موارد استعمال اسم التخصيص في الشرع وذلك أن الألفاظ الشرعية هي ما كانت موجودةً في القرآن أو في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظة التخصيص بهذا المعنى ليست موجودة في الكتاب والسنة لأنها من باب الألفاظ الاصطلاحية في أصول الفقه كالحقيقة والمجاز والاشتراك والتواطؤ والمنطوق والمفهوم والعموم والخصوص والمطلق والمقيّد والنقض والقلب والكَسْر وفساد الوضع وفساد الاعتبار والمناسبة والدوران والتلازم وغير ذلك وهذه الألفاظ مستعملةٌ في كلام العلماء فَيُوْجِد عمومُ ما يدّعى أنه معناها وخصوصه في

كلامهم فإن قال هو موجودٌ بهذا المعنى في ألفاظ العلماء وهم أهل الإجماع وقولهم دليلٌ من أدلة الشرع قلنا وليس هو موجودًا في كلام أهل الإجماع على وجهٍ ارتبطَ به حكمٌ شرعي حتى يُستدلَّ بتفسيره على مقصودهم قال المصنِّف ولئن مَنَع العموميَّة فنقول إنه ثابت في صورة التخصيص غير ثابت بدونه بالنافي للتخصيص أو لأن أحد الأمرين لازم وهو إما عدمُ النصِّ العام أو تحقُّق موجبِه إما بالضرورة أو بالنصّ فإن الحال لا يخلو عن وجود النصّ أو عدمِه وإذا كان عامًّا يكون حقيقةً له فإن الغير لا يكون حقيقةً له وإلاّ يلزم الاشتراك أو المجاز اعلم أولاً أنَّ لغةَ العرب المُورَثة عنها المتداولة في كلامِها وكلامَ الفصحاء الذي ينحو نحوها وهي لغة القرآن والسنة وسلف الأمة أن الكلمة إذا لم يكن لها فعلٌ وأرادوا أن يَنطِقوا لها بمصدرٍ يَدلُّ على ما يدلُّ عليه مصادرُ الأفعال صاغوا منها لفظًا على مثال الفُعُولة

أو الفعوليّة أو نَسَبُوا الاسم منها وأَنَّثُوه فيقولون العبودة والعبودية والذكورة والأنوثة والذكورية والأنوثية والمروءة والإنسانية تارةً يقتصرون على تأنيث اللفظ المشتق منها وتارةً ينسبون التأنيث وكأنّهم والله أعلم إذا صاغوه على مثال الفُعولة فلأنّ هذه البنية مثالٌ من أمثلة مصادر الأفعال الثلاث اللازمة فزادوا إلهاء وإشعارًا بالفرق بين مصدر الأفعال والمصدر المأخوذ من الأسماء لأنه فرعٌ على الأول وتَبَعٌ له بمنزلة المؤنث من المذكر وإذا زادوا فيه ياء النسب قصدوا به أنه منسوبٌ ومضافٌ إلى الاسم كأنه قيل الحال العبودية والحال الذكورية أي الحال المنسوبة إلى ذلك المعنى وإنما يُنسَب الشيء إلى الشيء للزومِه إياه واختصاصه به وهذه المصادر تدلُّ على حالٍ ثابتة لازمة بخلاف مصادر الأفعال قال إن كلّ فعلٍ له صدرٌ فلا يكاد يُسَمع في الكلام العربي أنه صِيْغَ له مصدرٌ من هذا الجنس منسوب إلى اسم مزيد فيه هاء التأنيث استغناءً بالمصدر عنه فإن هذه زيادةٌ وعَجرفةٌ إلاّ فيما شَذَّ مثل قولهم الخُصوص والخُصوصية والخَصوصية بضم الخاء وفتحها وهو أفصح وقد كَثُر استعمال هذا الضرب في لسان المنتسبين إلى العلم من متأخري الأعاجم يقولون العالمية والقادرية والمعلومية والمقدورية والعمومية والخصوصيّة وأشباه هذا تارةً يُضيفون اسم الفاعل وتارةً اسم المفعول وتارةً المصدر كما استعمل المصنّف لفظ العمومية بقوله ولئن مَنَع العموميَّة وهذا استعمالٌ

خارج عن النحو العربي وزيادةٌ في اللفظ وتكلُّفٌ من غير فائدةٍ لأنه لو قال ولو منع العموم كان المعنى تامًّا حاصلاً بدون هذه النسبة والتأنيث فإن العموم مصدر عَمَّ الشيءُ غيرَه يَعُمُّه عمومًا فإذا منع أن اللفظ قد عمّ فهو المطلوب فإن قيل بل فيه فائدة غامضة فإنّ بين المصدر وبين هذه الأسماء المنسوبة المؤنثة فرقًا دقيقًا وذلك أنك إذا قلت العلم والقدرة فإنك تَعني به المعنى القائم بالذات المدلول عليه بلفظ علم ولفظ قدرة وكذلك إذا قلت العموم أو الإحسان فإنما تعني الحدث أو المعنى القائم بالفاعل الذي نسبتَ إليه العموم أو الإحسان فإذا قلتَ العالمية والقادرية فإنما تعني الحال الثابتة للذات التي اقتضاها العلم والقدرة وهي المعبَّر عنها بكون الذات عالمةً وقادرةً وفرقٌ بين العلم والقدرة وبين كونش الذات عالمةً وقادرة لأن كونها عالمةً وقادرةً حكمٌ ومعلولٌ وحالٌ اقتضاها العلم والقدرة ولفظ المصدر إنما دلَّ على نفس الصفة لا على هذه الحال ألا ترى أنَّا ندلُّ عليها باسم منسوب كأنه صفة لموصوف محذوف تقديرهُ الحال العالمية أو النسبة العالمية أو الإضافة العالمية وفيها فائدة أخرى وهو أن العلم والقدرة إنما يدل على الصفة والحدث من حيث هو هو لا إشعارَ له بالعلم المعلوم فإذا قيل العالمية والمعلومية كان تقدير الحال الحاصلة لذاتٍ عالمةٍ أو الحال الحاصلة لذاتٍ معلومةٍ وكان فيها دلالةٌ على ما يُنسَب إليه الصفةُ

والحدثُ هل هو الفاعل أو المفعول ومجرَّد المصدر لا يَدُلُّ على ذلك قيل عن هذا أجوبة أحدها لو كان فيه فائدةٌ لم يجز أن تخلو اللغة عن لفظٍ يدلُّ عليه لأنّ المعنى الذي يكثر دورانُه في القلوب يُحتاج إلى التعبير عنه فيجب أن تكون له عبارةٌ تدلُّ عليه ولمّا لم يكن هذا الاستعمال موجودًا في اللغة الحكيمة عُلِمَ أنّ هذا اللفظ كانَ حقُّه أن يُلحَق بالمهملات لا سيّما وكلام الله وكلام رسولِه وكلام الأئمة من سلف الأمة لا يجوز أن يَعْرَى عن بيان هذه المعاني فلو لم يكن بيانُها إلاّ بهذه الألفاظ أو لو كان بيانُها بهذه الألفاظ أجودَ لوجبَ أن يكون ذلك في كلامهم لأنّ إدراكهم للمعاني أتمّ وتعبيرهم أفصح وأوضح الثاني أن نقول الخلاف في ثبوت الحال مشهورٌ بين الناس حتى إنّ أكثر المتكلمين المنتسبين إلى السنة ينفونها ويقولون لا معنى لكون الشيء عالمًا قادرًا إلاَّ نفس قيام العلم والقدرة به وأما حالٌ يُوجِبُها له العلم والقدرة فكلاَّ وهؤلاء يُبطِلون ما يُدَّعَى في هذا الموضع من العلّة والمعلول ويَردُّون ذلك اعتبارات عقلية وأحكامٍ ذهنية يتبعها الأسماء واللغات فعلى قولِ هؤلاء لا فرقَ بين قولنا عِلْمِ الشيء وكونه عالمًا في الوجود الخارجي وهذا القول أصوب وأما مَن يُثبِت الأحوال فيقولون إن لفظ العلم والقدرة ونحوهما يدلُّ على الصفة وعلى الحال وإذا أرادوا تمييز الحال قالوا

كون الشيء عالمًا وكونه قادرًا وعند نُفاةِ الصفات هذه الألفاظ تدلُّ على الحال بانفرادها فقد اتفقت الطوائف على أن لفظ المصدر يدلُّ على تمام المقصود وهذا ظاهر فإن الحال لازمةٌ للصفة لزومًا خارجيًّا وذهنيًّا وليس للحال مقصودٌ زائدٌ على ثبوت الصفة فواضعُ اللغة الحكيمُ أدرجَها في لفظةٍ يُبيِّن ذلك أنه لو كانت الحال ثابتةً ولا يدلُّ عليها لفظ المصدرِ لكانت اللغاتُ خصوصًا اللغة الحكيمة عاريةً عن الدلالة على هذه المعاني الكثيرة المحتاج إلى التعبير عنها وذلك لا يجوز الثالث أنه لو لم يدلّ المصدرُ على الحال لكان استعمالُه أولى وذلك لأنّ المتكلم إن قصد الإثبات فإذا أثبتَ المصدرَ ثَبتت الحالُ وإن قصد النفي فإذا نفى المصدرَ انتفت الحالُ أما إذا استعمل هذه الألفاظ وقيل إنها تدلُّ على الحال فإذا أثبتها أثبت المصدر أما إذا نفاها فقد لا ينتفي المصدر لاعتقاد المتكلم أو المستمع أنه لا حقيقة لها في الخارج حتى يلزمَ من انتفائها انتفاءُ الصفة مثال ذلك قول المصنّف ولئن منع العموميّة فإن العموميّة إن كانت هي العموم فلا كلام وإن قيل هي حالٌ للَّفظِ أوجبَها العموم فلفظ العموم يدلُّ عليها نفيًا وإثباتًا وأما لفظها فلا يلزم من مَنْعِه مَنْعَ هذه الحالِ منعُ العموم لجواز أن يعتقد أن هذه الحال لا حقيقةَ لها وأيضًا فقد يعتقد أن العمومية صفة ثابتة للعامّ بخلاف العموم فإنه عارض لأنّ مسمَّى المصدر حدثٌ فإذا منع الصفة الثابتة لم يلزم أن يمنع الصفة العارضة فكان قولنا منع العموم أجود

وعلى ما قلنا فالعموم يدلُّ على هذه الصفة سواء كانت ثابتةً أو عارضةً في النفي والإثبات هذه لغة العرب وقول النحويين المصدر يدلُّ على الحدث أو الحدثان توسُّعٌ في العبارة لأن الغالب على مسمَّيات المصادر في أفعال الخلق أن تكون حادثة وإلاّ فقولنا علم الله ويعلم الله وهو عالم وله علم ليس في ذلك ما يدلُّ على حدوث صفةٍ أصلاً وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وبالجملة فتسميتُها حدثًا وحدثانًا اصطلاحٌ نحوي لا وضعٌ لغوي الرابع أن استعمال هذه الألفاظ التزامٌ لثبوت الحال وفي ذلك ما فيه أما استعمال لفظ المصدر فهو خلوصٌ عن هذا الالتزام ولا حاجةَ بالمستعمل إلى التزامِ أمرٍ باطلٍ ومختلَفٍ فيه من غير حاجةٍ ولا فائدة بل لو قيل عدمُ هذه الألفاظ دليلٌ على عدم معانيها التي يعتقد مُثبِتُو الأحوال إذْ لو كانت ثابتةً لوجبَ أن لا تَعرَى أذهانُ جميع أهل اللغات عن إدراكها وتنفرد به شرذمةٌ من المتكلمين ولو أدركتْ أذهانُهم ذلك لوجبَ أن تكون لها عبارةٌ عنها كسائر المعاني المشتركة بين الأمم إمّا مفرد أو مركَّبٌ ولكان هذا أولى من التزامِ ثبوت الحال واستعمالِ هذه العبارات الخامس أن الحال إن لم تكن ثابتةً فلا حاجةَ إلى هذه العبارات وإن كانت ثابتةً فلابدَّ أن تشتمل العبارات اللغوية على الدلالة عليها خصوصًا كلام الله وكلام رسولِه وكلام العلماء والحكماء من أمته فإنه لا يجوز أن يَعْرَى عمّا يبيِّنُ هذه الحقائق وعلى التقديرين فلا حاجة إلى هذه الألفاظ الغريبة

فهذا هو الجواب عن كون هذه الألفاظ تدلُّ على الأحوال أما قولهم تدلُّ على خصوص النسبة إلى الفاعل والمفعول فإضافةُ المصدرِ إلى أحدهما يُغنِي عن ذلك بأن يقول عِلْمُ فلانٍ أو العِلْمُ بكذا أو يقول كون الشيء عالمًا أو كونه معلومًا واعلم أن من حكمة لغة العرب أن لا يُضيفوا هذه المصادر ويُضيفوا المصادر التي للأسماء أعني بالإضافة النسبة بالتأنيث وهو قولهم الذكوريّة والعبودية ولا يقولون الضَّربيّة والقّتليّة والضاربيَّة والقاتليّة وذلك لأن ذلك المصدر إنما أُخِذ من الاسم فكأنه قَبِلَ المعنى الذي به كان العبد عبدًا أو الذكر ذكرًا أو المعنى الذي أوجبَه كونُه ذكرًا وكونُه عبدًا وذلك المعنى الذي صار به العبدُ عبدًا هو مقتضٍ لكونِه عبدًا والمعنى الذي أوجبه كونُه عبدًا هو معلولُ كونِه عبدًا وكونُه عبدًا هو الحال والصفة المعبَّر عنه بالمصدر فأُضِيف إلى هذا المعنى كلُّ ما هو لازمٌ وكلّ ما هو تابعٌ له إما بكونه مقتضيًا له أو بكونه إنما كان من أجله أما الضرب والقتل فهما أصلٌ للفعل على الوجه المشهور فلم يُنْطَق قبلهما باسم يشتقان منه فلو أضيف لأضيف الأصل إلى الفرع وذلك لا يجوز بخلاف المواضع التي نُطِقَ فيها بالاسم قبل المصدر ألا ترى أن قولك ضارب وقاتل إنما يَنطِق به من نَطقَ بقتل وضرب وقولك عبد ورجل ينطق به قبل الرجولية وقبل العبودية وقولهم الخُصوصيّة والخَصوصية فهو والله اعلم ليس بمصدر وإنما هو الصفة

والحال التي أوجبها المصدر فإن من خُصَّ بأشياءَ فلابدّ أن تبقى له صفة أوجبها الخصوص السادس أن هذه الألفاظ فيها تكلُّفٌ وتقعُّرٌ وتنطُّعٌ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ الله يُبغِض البليغَ من الرجال الذي يتخلَّل بلسانِه كتخلُّل الباقرةِ بلسانها وقال إنّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مجلسًا منّي يوم القيامةِ الثَّرثارون المتفيهقون المتشدِّقون وهي تُفضِي إلى اللَّدَد وفي الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبغضَ الرجال إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِم وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلَكَ المتنطِّعون قالها ثلاثًا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال أهل النار كلُّ جعظريّ جَوَّاظٍ مستكبرٍ وهي خروجٌ عن البيان الذي امتنَّ الله بتعليمه حيث يقول الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) [الرحمن 1 - 4] وتكلُّفٌ في المنطق الذي هو خاصَّة الإنسان التي انفصل بها عن سائر أنواع الحيوان وتشبُّهٌ بالأعاجم فيما أحدثوه من الدندنة

والطنطنة وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبُّه بالأعاجم فيما أحدثوه من الهيئات فإن العجم مأمورون أن يتبعوا هَدْيَ العرب من الصحابة والتابعين وكذلك متأخرو العرب مأمورون أن يتبعوا هَدْيَ الأولين كما قال وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ إلى آخر الآية [التوبة 100] فحَكَمَ بالرضَى لمن اتبعَ السابقين بإحسان وقال صلى الله عليه وسلم لما صلَّى قاعدًا لا تُعظَّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا وقال في بعض ما أمر به لا تشبَّهوا بالأعاجم وكتب عمر إلى العراق تَمعْدَدُوا واخْشَوشِنُوا وامْشُوا حُفَاةً وانتَعِلُوا وانْزُوا على الخيل نَزْوًا ولا تَشبَّهوا بالأعاجم كذلك نهى عن التشبه بأهل الجاهلية فيما خالفوا فيه الإسلام ونهى عن التشبه باليهود والنصارى في أشياءَ من هَدْيِهم ودَلِّهم وسَمْتِهم وليس هذا موضع استقصاء القول في ذلك

فمن اتبعَ من العرب والعجم هَدْيَ الأولين دخلَ في زُمرتهم فإنه مَن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم وحينئذٍ يكون العجم ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم لو كان العلمُ وفي لفظٍ الدينُ معلَّقًا بالثُّريا لتناولَه رجالٌ من أبناء فارس فإنه إشارة إلى العلم الذي نَعتَ الله به نبيَّه الذي بعثَه به وإن أخرجوا عن ذلك عادوا إلى الجاهلية جاهلية العرب ولا يَحقِرنَّ أحدٌ أمرَ اللسان فإنه أمرٌ عظيم ولهذا قرنَه عمر بالدين لمّا قال لابن عباس قد كنتَ أنت وأبوك تُحِبُّون أن يكثر هؤلاء يعني سَبْيَ المجوس فقال إن أمرتَنا قتلناهم فقال أبعدَ ما دخلوا في دينكم وتكلَّموا بلسانكم وقال عمر أيضًا رضي الله عنه تعلَّموا الفرائضَ واللحنَ كما تَعلَّمون القرآن فأمر بتعليم لحن القرآن والفرائض كما أمرَ بتعليم القرآن وقال عمر رضي الله عنه ما تكلَّم أحدٌ بالفارسية إلاّ خَبَّ ونَقَصَتْ مروءتُه وهذا والله أعلم عربيٌّ يُريد أن يتكلم بها لغير حاجة فما أظنُّه إلا أراد ذلك فإن كثيرًا من الصحابة والتابعين كانوا عجمًا فُرسًا ورُوْمًا

واعلم أن هذه العبارات لا عربية لأن العرب لم تتكلم بها ولا عجمية لأنها ليست من لغة العجم فهي كلامٌ عجميٍّ يُريدُ أن يتكلم بمثلِ كلام العرب وحقيقٌ بالعجم الذين يريدون الدخول في عموم قولِه لو كان العلمُ معلَّقًا بالثريا لَتناولَتْه رجالٌ من أبناء فارس أن يَصُونوا ألسنتَهم عن التفوُّه بالكلام المعجرفِ الذي أقلُّ منه أفضل منه وأخصُّ منه أنفعُ منه فقد قيل إنه جاء فيهم آيتانِ من كتاب الله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد 38] وقوله وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة 3] وأن يعدِلوا إلى العربية السمحة السهلة المُسفِرة عن وجوهِ المعاني الآخذة بأَزِمَّة الحقائق المبينة بين المشبَّهات بالفواصل المميِّزات والجامعة بين المشتركات بالضوابط المعمَّمات وأن يتكلَّموا بلغتهم التي نشأوا عليها فأمّا إحداثُ لغةٍ ثالثةٍ فهو حدثٌ في الدين وإذا ابتغَى العجمُ اجتنابَ التكلف في الكلام فالعربُ أحرى بذلك وأخلقُ لتيسُّرِ النطقِ عليهم بالعربية وبُعدِهم عن مسالك الشعوبية واعلم أنه وإن كان يقال لا مُشَاحَّةَ في العبارات فإن المقصود هو المعنى فإن اللسان له موقعٌ من الدين والعبارة المرضيَّة مندوبٌ إليها منا أن التعمُّق منهيٌّ عنه وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يُغيِّر كثيرًا من الأسماء أسماءِ الأشخاص والأمكنة وغير ذلك وكانوا يَنهَون عن اللحن ويأمرون بإصلاح اللسان فكيف في العبارات العلمية والمفاوضات الفقهية لا سيما في كلامٍ مقصودُه تركيبُ عباراتُ يَقْتَنَصُ بها الباطل أو يُفْحَمُ بها الجاهلَ متى سُوْمِحَ صاحبُها في الإطلاق تمكَّن من الرواج والنفاق

واعلم أن العموم والخصوص وإن كانا في الأصل مصدرين فقد يُوصَف بهما إمّا الفاعل أو المفعول فيقال هذا من الخصوص وهذا من العموم إمّا من المعمومين والمخصوصين وإمّا من العامّ والخاصّ وقول المصنِّف العمومية كأنه والله أعلم جعل العمومَ صفةً ثم نسبَها إلى ما أوجبَها كما يقال فيه عاميًّةٌ أي حالٌ منسوبة إلى العامَّة فَجعلَه من العموم على تقدير ولئن منع كونه عمومًا أي كونه عامًّا وهذا كلام معترض ليس هو المقصود قال ولئن منع العمومية فيقال إنه ثابتٌ في صورة التخصيص إذ التخصيص غير ثابتٍ بدونه بالنافي للتخصيص أو لأن أحدَ الأمرين لازم وهو إمّا عدمُ النصِّ العامِّ أو تحقُّقُ موجبِه إمّا بالضرورة أو بالنصّ فإنّ الحال لا يخلو عن وجود النصِّ أو عدمه اعلم أن منع العموم يحتمل شيئين أحدهما منع عموم اللفظ العام لصور التخصيص وهذا منعٌ صحيح يَستحقُّ الجواب إذ اللفظ لا يثبت أنه متناول لذلك الفرد حتى يثبت عمومُه والذي دلَّ عليه جميعُ السلف وعامَّةُ الخلف من طوائف العلماء على اختلافِ اعتقاداتِهم وتفنُّنِ عُلُومِهم بل الذي عليه طبقاتُ بني آدم أن هذه الألفاظ المعروفة بصِيَغِ العموم دالَّةٌ عند تجرُّدِها عن

القرائن على الشمول والاستغراق ولم يُخالِف من ذلك إلاّ الواقفةُ والمرجئةُ مع أن بعضَ الواقفة خرجَ عنهم في صيغ العموم وقد قال بعضُ من حَرَّر قولَ الواقفة إن متبوعهم لم يُنكِر صِيغَ العموم وإنما أنكر أن تُستعمل الظنون في مواضع القطع وهو إنجاز الوعيد وهذا أجْدَر أن يُظَنَّ بالعاقل فإن إنكار أصل العموم كأنه خروجٌ عن عقول العقلاء وإذا سلّم أن اللفظ هام لم يُقْبل منه في المباحث الفقهية أن يقول لا أسلِّم أن العموم حجة لكن إذا أنكر العموم فعلى المستدلِّ بيان العموم ببيان أن هذه الصيغة من صيغ العموم بالنقل أو الاستعمال وغير ذلك من الطرق وسيأتي هذا السؤال في قوله لِمَ قلتم إن اللفظ تناوله فإنَّه إذا ثبت أن اللفظ تناولَه ثبت العموم إذْ لا معنى للعموم إلاّ ذلك الثاني أن يمنع عموم المعنى موارد الاستعمال اسم التخصيص وهو المقصود هنا بأن يقال لا أسلِّم أنَّ عدمَ الإرادة مع تناول اللفظ معنًى يعمُّ صورَ التخصيص بل جاز أن يكون موجودًا في بعض صور التخصيص دون بعض فيقال له هذا المعنى ثابتٌ في كل صورةٍ من الصور التي يُستعمل فيها لفظ التخصيص لأن التخصيص ليس ثابتًا بدونه بالأدلة للتخصيص وإذا ثبت التخصيص مع عدمِه فحيثُ تحقق

التخصيص تحقَّق هذا المعنى ولا معنى لعمومه موارد التخصيص إلا هذا وإن شئتَ قلتَ لأنه لو لم يكن ثابتًا لم يثبت لفظ التخصيص لأن التخصيص على خلاف الأصل فهو منفيٌّ بالموجب للعموم وباستصحابِه الحالَ فلو لم يكن المعنى الذي ذكرناه من عدم الإرادة مع التناول ثابتًا في الموضع الذي يقال له تخصيص إمّا بأن تكون الإرادة حاصلةً أو بأن لا يكون التناول حاصلاً لم يثبت التخصيص للأدلة الدالّةِ على نفيه السالمةِ عما يُعارِضُها وهذا الجواب يختصُّ بهذا الموضع وما أشبَهه من المواضع التي تكون على خلاف الأصل ويمكن أن يُجعَل عامًّا بأن يقال في كل معنًى يُدَّعى عمومُه مواردَ الاستعمال اللفظ غير ثابت بدون هذا المعنى بالأصل النافي لأن الأصل عدم استعمال اللفظ فيما عدا صور هذا المعنى لأن الاستعمال كان معدومًا والأصلُ بقاء ما كان على ما كان وإذا كان اللفظ غير ثابت بدون هذا المعنى فحيثُ ما كان اللفظ فقد وُجِدَ المعنى العام فيكون المعنى عامًّا قال ولأن أحد الأمرين لازم وهو إمّا عدم النصّ العام أو تحقُّق موجبه بالضرورة أو بالنصّ فإنّ الحال لا يخلو عن وجود النصّ أو عدمِه هذا تقريرٌ ثانٍ لأنَّ المعنى المذكور عامٌّ لموارد الاستعمال يقول لأنّ التخصيص غير ثابتٍ بدونِه في نفس الأمر فهو لازمٌ للتخصيص

فيكون عامًّا له بالضرورة لأن اللازم عامٌّ لصور الملزوم وإنما قلنا ذلك لأن أحد الأمرين لازم إمّا عدمُ النصّ العام أو تحقّق موجبه بالضرورة أو بالنص نقول إن الضرورة أو النصّ تحقق أحد الأمرين عدم العام أو موجب العام لأنه إن لم يكن موجودًا فقد تحقَّق أحدُهما بالضرورة وهو عدم العام وإن كان موجودًا تحقَّق موجبُه بالنصّ لأنّ النصّ العام يقتضي تحقُّقَ موجبه فيكون النصّ محقِّقًا لأحدهما وأيُّهما تحقَّق لزمَ عدمُ التخصيص لأنه إن تحقَّق عدمُ العام فلا تخصيص وإن تحقق موجبه فلا تخصيص واعلم أنّ هذين التقريرين فاسدان أما الأول فمن وجوه أحدها قول التخصيص غير ثابت بدونه قلنا هذا حكمٌ على التخصيص بعدمِه عند عدمِ هذا المعنى والحكم على الشيء فرعُ تصوُّرِه وكلامنا في تصوُّرِ اسمِ التخصيص وحَدَّ هذا اللفظِ بحسب اللغة والاصطلاح فلا يخلو إمّا أن يكون اسم التخصيص مما قد عُرِفَ معناه ومفهومُه أو لم يكن قد عُرِفَ فإن كان قد عُرِفَ فلا حاجةَ إلى الاستدلال عليه كيف والخصمُ قد نازعَ فيه وإن لم يكن قد عُرِف لم يجز الحكمُ عليه بعدمٍ أو وجودٍ فإن قلتَ إنما أحكُم على اسم التخصيص وذلك إنما يتوقف على تصوُّر اللفظ فقط لا على تصوُّر معنى اللفظ قلتُ فالأدلة النافية لا تنفي اللفظ إنما تنفي المدلول عليه باللفظ لأن الأدلة النافية هي المُفضِية للعموم والشمول وهذه إنما

تنفي إخراجَ بعض العام لا تنفي أن ينطق ناطقٌ بلفظ تخصيص وإذا كانت إنما تنفي ما هو المعنيُّ بلفظ التخصيص لم يلزم من نفي هذا المعنى نفيُ الاسم المذكور حيث يثبت أن هذا المعنى لازم هذا الاسم ولن يثبت أن هذا المعنى لازمٌ لهذا الاسم إن لم يثبت أن الاسم لا يثبت بدون المعنى فلو أثبت هذا بما ذكر لأثبتَ الشيء بنفسه وهو غير جائز الثاني قوله لا يثبت بدونه بالنافي للتخصيص قلنا هذا حكمٌ بتحقُّق النافي للتخصيص ولا يمكن ذلك إلاّ بعدَ معرفةِ التخصيص فلو أثبتنا معرفة التخصيص بهذا لَزِمَ الدور الثالث أن النافي للتخصيص إما أن ينفي إطلاق اللفظ على غير هذا المعنى أو ينفي ما قد عَناه بالتخصيص أو ينفيهما معًا أما الأول والثالث فلا سبيل له لأن ما ينفي التخصيص إنما هو المقتضي للعموم وإرادة كل فردٍ من أفراد العام وذلك لا يتعرض لهذا اللفظ بنفي ولا إثبات فإن إطلاقَ هذا اللفظ على ذلك المعنى أمرٌ يتبع الوضعَ والاصطلاحَ في لفظ التخصيص وما يُوجِبُ إجراءَ العموم على عمومِه لا يتوقف على النطق بلفظ التخصيص كما ينفيه مع كون هذا المعنى لا يتحقق بدونه لفظ التخصيص فلا اختصاصَ للنافي للتخصيص بمطابقة اللفظ المعنى وجودًا ولا عدمًا وأما التقرير الثاني فنقول قولك التخصيص غير ثابت بدونه وقولك يلزم من تحققِ أحدِهما عدمُ التخصيص غير معقولٍ حتى يُعقَل معنى لفظ التخصيص فلو أثبتَّ ما يُعقَل من لفظ التخصيص بهذا

لَزِمَ الدور وأيضًا فقوله إذا عُدِمَ هذا المعنى لزِمَ إما عدم العموم أو تحقّق موجبه قلنا هَبْ أنه كذلك لكن من أين يلزم من تحقُّق أحدِهما عدم اسم التخصيص فإن الواضع لو وضَعَ اسم التخصيص على بعض ما يجامع أحدهما لم يكن محالاً وإن قال يلزم عدمُ المعنى الذي فسَّرنا به التخصيص قلنا نعم ولكن لِمَ قلت إن ذلك هو معنى لفظ التخصيص فإن هذا أولُ الكلام وأيضًا فإن الاستدلال بهذين الدليلين موقوفٌ على المقتضي لتحقُّقِ موجي العموم وعلى النافي للتخصيص ولاشكَّ أنّ معرفة معنى التخصيص أمرٌ متفقٌ عليه أظهرُ من هذين الأصلين فكيف يثبت الأقوى بالأضعف واعلم أن المرجع في ذلك إلى استقراء صور الاستعمال ومعرفة صور الوجود وصور العدم وهذا قد يُقطَع به وقد يَغلب على الظنّ وأدنى الأحوال أن يُستدلَّ على الأشياء باستصحاب الحال بأن يقال قد وجدناهم يستعملون لفظ التخصيص في موضع كذا وكذا وكذا وقد اشتركت هذه المواضع في هذا المعنى والأصل عدم موضع آخر لا يُوجد فيه هذا المعنى وإن سلك الطريقة المحققة قال هذا اللفظ مطابقٌ لهذا المعنى عمومًا وخصوصًا وملازمٌ له وجودًا وعدمًا لأنا وجدناه مقرونًا به في موضع كذا وكذا والأصل عدم وجود احدهما منفردًا عن الآخر وقد

يمكن التقسيم الحاصر إذا كان حكم الأقسام مسلَّمًا أو معلومًا سواء كان في جانب الوجود أو العدم مثل أن يقال اللفظ إمّا أن يكون متناولاً للمعنى أو لا يكون فإن لم يكن متناولاً فلا تخصيص لم يبق إلاّ إذا تناوله اللفظ وهو غير مراد وهذا حسنٌ إذا سلّم انتفاء التخصيص في القسمين الأولين والله سبحانه أعلم قوله إذا كان عامًّا يكون حقيقةً له فإن الغير لا يكون حقيقةً له وإلاّ يلزم الاشتراك أو المجاز هذا تقريرٌ لكون المعنى إذا كان عامًّا لموارد استعمال الاسم يكون حقيقةً له وهو أحد الوجوه التي ذكرناها فيما تقدم في حجة من يقول بهذه القاعدة وبيان كلامِه أن المعنى عامٌّ لموارد استعمال الاسم فإمّا أن يكون حقيقةً أو لا يكون والثاني باطلٌ فيتعيَّنُ الأول وإنما قلنا إنه باطل لأن الغير لو كان حقيقةً مثل أن يقال التخصيص عدم إرادة المعنى من اللفظ المتناول له بكلامٍ متصل فيقال استعمالُه في ذلك الغير إما أن يكون بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز فإن كان بطريق الحقيقة كان اللفظ مشتركًا وإن كان بطريق المجاز كان مجازًا وكلاهما خلاف الأصل وهذا تقريرٌ ليس بصحيح والاعتراضُ عليه أن يقال قولك وإن كان عامًّا يكون حقيقةً له فإن الغير لا يكون حقيقة له أيَّ شيء تَعنِي بالغير تضعني غيرَ هذا المعنى العام أو غيرَ ما هو معنى عام فإن

عنيتَ غيرَ هذا المعنى فلا نُسلِّم أنه يلزم الاشتراك والمجاز وذلك لأن غير هذا المعنى هو عامٌّ أيضًا أو يجوز أن يكون عامًّا لأن هذا المعنى يجوز أن يكون عامًّا لموارد الاستعمال وليس اللفظ عامًّا لمواردِه ويجوز أن يكون اللفظ عامًّا لموارده يكون موجودًا بدون اللفظ وإذا كان المعنى موجودًا بدون اللفظ لم يكن حقيقة اللفظ مع أنه عام لموارده وعلى هذا التقدير فلابدّ من معنًى يكون عامًّا لموارد الاستعمال ويكون اللفظ عامًّا لموارده هو حقيقة اللفظ ولا يلزم اشتراك ولا مجاز وإن شئتَ قلتَ غير هذا المعنى إذا كان حقيقة اللفظ فإنه يكون عامًّا أيضًا لمواردِه ولا اشتراك ولا مجاز وإن شئت قلت ما هو اعمّ من هذا المعنى واعمُّ من الأعمّ وهَلُمَّ جرًّا كلُّها مغايرةٌ لهذا المعنى ولو كانت حقيقة اللفظ لم يلزم اشتراكٌ ولا مجاز لأن اللفظ يكون حينئذٍ دالاًّ على القدر المشترك بينهما كلها بطريق الحقيقة وإن عنيتَ بالغير معنًى لا يكون عامًّا فإنه على هذا التقدير يلزم الاشتراك أو المجاز لأن حقيقة اللفظ في بقية الموارد إن كان بطريق الحقيقة أيضًا كان للَّفظ حقيقتان وهو المشترك وإن كان بطريق المجاز لزم المجاز لكن إذا بطل ما ليس بمعنى عام وهذا عام فلِمَ قلتَ إنه حقيقة اللفظ إنما يثبت ذلك إذ لو كان لا معنى عام إلاّ هذا لكن هنا معاني كثيرة عامة أو يجوز أن يكون هنا معنًى عام أو ما هو أعمُّ من هذا المعنى عامٌّ أيضًا

بالضرورة أو ما هو أخصُّ من هذا المعنى عامٌّ أيضًا إن أمن بيانُ ذلك وقد تقدم الكلام على هذا واعلم أن قوله فإن الغير يكون حقيقة له ظاهرهُ أنه يعني غيرُ هذا المعنى لا يكون حقيقة لأنه لو كان حقيقةً لزمَ الاشتراك أو المجاز كما ذكرنا في التقرير الأول وهذا فاسدٌ بالضرورة كما تقدم قال المصنِّف ولئن قال لِمَ قلتم بأن اللفظ تناولَه فنقول بدليل صحة الاستثناء لما ادَّعى أن الأصل مخصوص من اللفظ العام بمعنى عدم إرادته مع تناول اللفظ إيَّاه فيخص منه النزاع قال ولئن قال لِمَ قلتم إن اللفظ تناولَه قال فنقول بدليل صحة الاستثناء وذلك أن صحة استثناء الشيء من اللفظ يَدُلُّ على أنه عامٌّ له لأن الاستثناء يُخرِج من اللفظ ما لولا هو لما خرج بدليل النقل والاستعمال والحكم والاشتقاق أما النقل فإن أهل النحو ذكروا ذلك في كتبهم وقالوا إخراجُ ما لم يدخل استثناءٌ منقطعٌ وإنما حقيقة الاستثناء أن يخرج بعض ما دخلَ في اللفظ وأما الاستعمال فإن الاستقراء دلَّ على أنّ العرب إنما تُخرِج من اللفظ ما دَخلَ فيه فإذا لم يدخل استُغنِيَ بعدمِ دخولِه عن إخراجه وأما الحكم فإنه لو قال عَبِيْدي أحرارٌ إلاّ فلانًا عُتِقُوا كلّهم إلاّ

فلانًا ولو لم يَستثِنه لعتقوا كلُّهم ولولا أن الاستثناء أخرجه وكان داخلاً بدونه لما كان كذلك وأما الاشتقاق فإن الاستثناء استفعالٌ من الثَّنْيِ وهو الصَّرف والمنع يقال ثَنيْتُ عِنانَ الفرس وثَنيْتُ فلانًا عن رأيه إذا طلبتَ صَرْفَه عن وجهه فالاستثناءُ يطلب صَرْفَ المستثنى ومَنْعَه عن الدخول ولولا قيامُ المقتضي لدخولِه لم يحتج إلى ذلك وإذا قام المقتضي السالم عن المعارض وجبَ دخولُه فإن قيل هذا يُشكِل بالاستثناء من غير الجنس قلنا عنه أجوبة أحدها أن ذلك لا يكون إلاّ في كلام غير موجب كما شهدَ به الاستعمال ونحن إنما استدللْنا بالاستثناء مطلقًا من الموجب وغيره الثاني أن ذلك يكون منصوبًا بكلِّ حالٍ في اللغة المجازية كما في قوله مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء 157] ونحن إنما قصدنا المستثنى الذي يجوز إبدالُه في اللغة الشائعة من المستثنى منه الثالث أن ذلك مجاز على خلاف الأصل باتفاق أهل العربية وبعضهم يقول ليس باستثناء وإنما هو بمعنى لكن ونحن إنما استدللنا بحقيقة الاستثناء لا بمجازه

الرابع أن المانع هناك من دخولِ المستثنَى في المستثنى منه كونُ لفظ المستثنى منه ليس موضوعًا له جميعًا ولا فرادى ونحنُ إنما نستدلُّ بما يَصحُّ أن يُطلَق عليه لفظ المستثنى منه ولو على سبيل الأفراد كما يُطلق لفظ الإنسان على آحاد الذين آمنوا الخامس أن مقتضى الدليل دخولُ كلِّ مستثنًى لكن حيث عُلِمَ أن اللفظ لم يَشملْه عُلِمَ أنه استثناء منقطع فما لم يُعلَم ذلك فهو على الأصل السادس أن الاستثناء المنقطع استثناء المستثنى من حكم المستثنى منه ومن جنسه البعيد فإذا قيل ط إنسان إلاّ حمارًا فقد استثنيت الحمار من الحكم وهو نفي كونها فيه وهو مستثنًى من جنس الإنسان البعيد وهو الحيوانية فعُلِمَ أن المستثنى لابدَّ أن يدخل جنسه البعيد في حكم المستثنى منه ولولا ذلك لما صحَّ الاستثناء وهذا حسن قوله ولئن مَنَعَ فنقول يصحّ استثناء البعض في بعضِ الأسامي المحلاَّةِ بالألف واللام كما في قوله وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر 1 - 3] فوجبَ أن يصحَّ في الكلّ وإلاّ يلزم أن يكون البعض مختصًّا

بالموجب وليس كذلك وإذا صحَّ في الكلِّ صحَّ فيما نحن فيه ولئن قال لِمَ قلتم بأنه إذا صحَّ في البعض صحَّ في هذا المعيَّن فنقول مثل ما قلنا اعلم أن هنا مَنْعَيْنِ أحدهما أن يمنع صحة الاستثناء من اللفظ الذي يدعي عمومه وهو قوله هنا الثيِّب بالثيب جَلْد مئةٍ وتغريبُ عام أو الثيبان يُرجَمان والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة والثاني أن يمنع كون الاستثناء دليل التناول والعموم أما الثاني فقد تقدم بيانه وأما الأول فيحتاج إلى بيان صيغ العموم والكلام في هذا الموضع في الاسم المعرَّف باللام وهو قسمان أحدهما أن يكون اسم جمع أو ما هو من نعتي اسم الجميع وهو ما لم يصلح أن يكون صفة للواحد ولا موصوفًا به مثل جموع التصحيح والتكسير كرِجالٍ وقُرُوْه وأسماء الجموع كالناس والنَّفر والرَّهْط واسم الجنس كالنمر والبقر والغنم والإبل ونحو ذلك فهذا كلُّه للعموم باتفاق القائلين بالعموم إلاّ من شَذَّ الثاني أن يكون اسمًا واحدًا مثل اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبَّهة وأفعل التفضيل والمصادر كلّها وجميع أسماء الأجناس

التي لها تثنية وجمع كالإنسان والحيوان والدرهم والدينار فهذا عند الفقهاء وأكثر الأصوليين يُفِيد العموم أيضًا كما ذكره صاحب الجدل وذهب جماعةٌ من مُثبِتي العموم من المتكلمين إلى أنه لا يفيده وإنما يُفيده عند القائلين به إذا لم يكن التعريف لمعهود فأما إن كان لمعهود غير المسمّى العام فإنه يرجع إليه بلا تردد والدليل على انه يفيده صحة الاستثناء منه والدليل على صحة الاستثناء منه قوله إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر 2 - 3] وإذا صحَّ الاستثناء من بعض الأسماء المفردة صحَّ من جميعها لأنه لو لم يصحَّ لكان ذلك البعض مختصًّا بما يوجب صحة الاستثناء وليس كذلك لأن الأصل عدم الموجب ولأنه لا فرق بين هذا المفرد وبين غيره من المفردات فوجب التسوية بينها في جواز الاستثناء وإذا صحَّ في جميع الأسماء المفردة صحَّ فيما نحن فيه لأنه اسم جنس مفرد ولأن الاستثناء قد صحَّ في عدة صورٍ مثل قوله إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ , إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إلى قوله إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) [المعارج 19 - 22] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [هود 9 - 11] وقول النبي صلى الله عليه وسلم التاجر هو الفاجر إلاّ من بَرّ وصّدّق أو كما قال إلى غير ذلك من الصور

فنقول إنما صحَّ فيها للقدر المشترك بينها وهو الألف واللام لدوران الصحة معها وجودًا فيما ذكرنا وعدمًا في النكرات في الموجب إذا قيل أكرم رجلاً ونحو ذلك وإذا كانت الألف واللام هي المصحِّحة للاستثناء وجب صحة الاستثناء حيث كانت ولأن المصحّح للاستثناء ليس غير الألف واللام إذ ليس في اللفظ ما يصلح للعموم غير ذلك بالضرورة والاتفاق فتعيّن الألف واللام ولأن الألف واللام للتعريف فإذا لم يكن بعض الأفراد معهودًا لم يبقَ معروفٌ ينصرف الخطابُ إليه إلاّ الجنس ولو كان المراد مطلق الجنس لم يصحّ الاستثناء لأن إخراج فردٍ من الأفراد لا يؤثِّرُ في الحقيقة وجودًا ولا عدمًا فتعيَّن أن يكون المراد استغراق الجنس وهذا كما أنه دليل على العموم فهو دليل على صحة الاستثناء من كلّ جنسٍ جاز تعريفُه مع عدم العهد وهو المقصود وأما قول المصنف إذا صحَّ في بعض الأسامي صحَّ في الكلّ وإلاّ لكان البعض مختصًّا بالموجب وليس كذلك فهو كما قال لأنه لو صحَّ في بعض الأسماء المحلاَّةِ باللام دون البعض لوجب اختصاص البعض بالموجب وليس كذلك لأن الموجب للصحة هو المشترك بينها أو نقول فإن الصحة متعلقة بالمشترك بينها وهو الاسم المحلَّى باللام لما تقدم من الدوران ونحوه فإن قيل فقد دارَ مع ما يختصُّ بتلك الصورة المستشهد بها

قيل لم يَدُر معه عدمًا لأنّ المختصّ ينتفي بانتفاء أجزائه وصحة الاستثناء موجودة ولم يَدُرْ مع بعضه لأنه لم يَدُرْ وجودًا مع بعضه وأما قوله لِمَ قلتم إذا صحَّ في البعض صحَّ في المعيَّن فمعناه لِمَ قلت إنه إذا صحَّ في بعض أفراد الجنس يصحُّ في هذا الفرد المعيَّن من أفراد العام فنقول مثل ما قلناه أي أنه إنما صحَّ في البعض لأجل المشترك بينه وبين غيرِه وهو كونُه داخلاً في مسمَّى الاسم العام خارجًا عن إرادتِه لدوران الصحة معه وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي صورة الصحة وأما عدمًا ففي صورة عدم المشترك وهو ما إذا كان مرادًا فقد دارَ كلامُه على مقدمتين إحداهما أنه صحَّ استثناء البعض في بعض الأسماء المعرَّفةِ بالألف واللام فيصحُّ في الجميع والثاني صحَّ استثناء البعض فيصحُّ استثناء الجميع وهو كلامٌ صحيح في الجملة الوجه الثاني في تقرير العموم أن المراد بالثيب ونحوه إمّا أن يكون المراد به واحدًا بعينه أو عموم الجنس أو مطلق الجنس والأول منتفٍ بالإجماع ثم لو ثبت في واحدٍ بعينهِ فإنما ذاك لأجل الثيوبة فإنّ الحكم إذا عُلِّق باسمٍ مشتقّ مناسب كان ما منه الاشتقاقُ علَّةً فتكون العلةُ هي الثيوبة فيجب عموم الحكم لعموم علته

والثالث يقتضي العمومَ أيضًا لأنه يقتضي تعلُّقَ الحكم بالحقيقة من حيث هي هي وكلُّ فردٍ من أفرادٍ الحقيقة قد تحققت فيه الحقيقة فيجب أن يتعلَّق الحكم بها لما ذكرناه من المعنى والثاني واضح الوجه الثالث أن المانع من عمومِه إمّا أن يكون جواز إرادة الحقيقة من حيث هي هي أو شيئًا آخر لكن الثاني منتفٍ بالأصل وبالاتفاق على أن ما سوى ذلك ليس بمانع وهذا لا يجوز أن يكون مانعًا لأن أسماء الجموع قد يُرادُ به تعريفُ الحقيقة ثم لم يكن ذلك مانعًا من العموم فكذلك أسماء الأجناس واعلم أن الحكم المعلَّق باسم الجنس إن كان في معنى النفي كالتحريم ونحوه كان مفيدًا للعموم بلا تردُّد لأن انتفاء الحقيقة لا يحصل إلا بانتفاء كلِّ فردٍ من أفرادِها أما إذا كان إثباتًا كالإيجاب والإباحة فيظهر لك أن دلالة قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة 275] على العموم أضعفُ من دلالة قوله وَحَرَّمَ الرِّبَا على العموم فإن تحريم الربا يقتضي تحريم هذه الحقيقة وتحريمها يقتضي الأمر بإعدامها وذلك لا يحصل إلاّ بإعدام كلِّ فردٍ من أفرادِ الربا وأما إحلال البيع فإن قيل يقتضي العموم وإلاّ فيقال إنه إنما اقتضى إباحة هذه الحقيقة ولاشكّ أنها مباحة لكن لا يمنع من تحريم بعض النوع بسببٍ خارجٍ عن حقيقة البيع وأيضًا فإن إحلال البيع مع تحريم الربا يقتضي أن بعض البيوع محرَّم وذلك البعض لا يُعلَم حتى يُعلم الربا فيكون مُجملاً أو

يكون كلّ ما يُسمَّى ربًا خارجًا عن الإحلال والربا إمّا عامٌّ أو مجمل ولأجل هذه المآخذ اختلف الناس هل المحَلُّ المحرَّمُ هنا مجملٌ أو عام مما ليس هذا موضع استقصائه قال المصنّف ولئن منع الإضافة وقال إنه غير مضاف أو غير ثابت بالأصل فذلك باطلٌ يُعرَف من بعدُ يعني إن منعَ إضافةَ الحكم إلى المشترك بين صورة الإجماع وصورة النزاع وقال إن الحكم غير مضاف إلى المشترك أو التخصيص غير ثابت في صورة الإجماع أما الأول فلما تقدم ذكره من النافي للتخصيص يقول أحد الأمرين لازم إما عدم الإضافة أو عدم التخصيص فإنه يكون قد ادَّعَى أحد الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء وقد تقدم الكلام على عدم جواز هذا وسيأتي إن شاء الله وذلك أنه يدَّعي عدمَ الإضافة وقد انعقد الإجماع على وقوع التخصيص فيكون عدم التخصيص لازم الانتفاء وأقلُّ ما فيه أن يُقابلَ بمثله فيقال لا يتحقق أحدهما لتحقق أحد الأمرين الآخرين اللذين أحدهما عدم التخصيص في صورة الإجماع أو الإضافة إلى المشترك وإذا تحقق أحدهما ولم يتحقق عدم التخصيص تعيَّن إضافة الحكم إلى المشترك وذلك يناقض ما ادعيتم من نفي الإضافة

قوله وكذلك إذا قيل لو أضيفَ لتَرجَّح القياسُ على النصّ فإن الترجيح بعد التعارض ولا تعارضَ بينهما في الحقيقة هذا كلام صحيح في الأصل وهو كلام من يجوِّز تخصيص العموم المخصوص بالقياس فإن المانع يقول لو أضيف الحكم إلى المشترك للزمَ ثبوت الحكم في الفرع فيلزم ترك العمل بالعموم وذلك تقديم القياس على النصّ وهذا لا يجوز لِما تقدم من الحجج الكثيرة وجوابُه أن الترجيح بعد التعارض ولا تعارض بين النصّ والقياس لأنّ النصّ لم يدلَّ على الحكم في صور التخصيص وإذا لم يكن مراده لم يكن قد تعارضا وهذا معنى قولِه في الحقيقة وقد تعارضَا في الظاهر لأن العموم يُثبِتُ الحكمَ في ذلك الفرد والقياس ينفيه لكن يقال إنما قدَّمنا القياسَ على دلالة العموم وذلك غير محذور وليس هو ترجيحًا للقياس على النصّ ومنهم من يُقرِّر هذا بوجهٍ آخر فيقول لو أضيف الحكم إلى المشترك لكانت الإضافة متحققةً في نفس الأمر وامتنع أن يعارضها نصٌّ لأنّ النصّ كلام الشارع وهو مما يُوجِب العلم في الشرعيّات لكونه مَصُونًا عن الخطأ والقياسُ رأيُ المجتهد وقد يُخطِئ ويُصيب

ولأن النصّ مُثبِتٌ للحكم والقياس مُظهِرٌ لمحل آخر يثبت فيه مثل حكم النصّ فكيف يُعارضه فكيف يتعارضان وإذا امتنع تعارضهما امتنع الترجيح لأنه فرع التعارض لكن وقوع الإضافة دليلٌ على عدم النصّ المعارض فلا ترجيح للقياس على النصّ واعلم أنّ الجواب الأول الاعتراض عليه ببيان دلالة العام على صور التخصيص وغيرها وحينئذٍ يعود الكلام المتقدم وأما الثاني فضعيف لوجهين أحدهما أنه هَبْ أن الإضافة لو كانت واقعةً لما عارضت النصّ لكن وقوعها في نفس الأمر غير معلوم وإنما دلَّ عليه المناسبة ونحوها فيكون ما ذكرته على صحة وقوع الإضافة معارضًا للنصّ ومعنى الكلام إن قلتم بالإضافة لزمَ المحذور الثاني أن المعارضة بين دلالة النصّ وبين القياس وهذا واضح

فصل في تعدية العدم

فصل في تعدية العدم اعلم أن القياس تعدية حكم الأصل إلى الفرع والحكم قد يكون وجودًا وقد يكون عدمًا كما يعدَّى حكم الوجوب أو عدم التحريم أو عدم الصحة ونحو ذلك وإذا كان عدمًا جاز أن يكون وصفًا وجوديًّا وهو في الغالب وجود مانع منه وجاز أن يكون عدميًّا وهو في الغالب عدم المقتضي له أو عدم شرطه ومن الناس من يمنع القياس بعدم المقتضي لأنه متوقف على نفي المقتضي عنهما وذلك إذا حصل في الفرع أغنَى عن القياس والصحيح أنه يصح القياس به كما يصحّ القياس بوجود المانع وإن كان وجوده لو ثبت كافيًا وكما يصحّ القياس بالمقتضي للحكم وإن كان لو ثبت اقتضاؤه كافيًا للحكم وذلك أن الأصل بمنزلة الشاهد وذلك أنه قد لا يمكن بيان عدم المقتضي في الفرع إلاّ بتوسُّطِ عدمِه في الأصل وقد تكون الدلالةُ على عدمِه في الفرع بواسطة القياس أسهل فإن الصورتين إذا تماثلتا وقد عُدِمَ المقتضي في إحداهما عُدِمَ في الأخرى مثل أن يستدلّ على عدم وجوب الزكاة فيما إذا نقضَ نصابُ النقدين نقصًا يسيرًا بأن يقال نقص يسير في النصاب فلا تجب الزكاة معه كنقص نصاب السائمة أو كنقص الكثير أو يُقاس عدمُ وجوبِ الوتر على عدم وجوب ركعتي الفجر بجامعِ فِعْلِهما على الراحلة في السفر وإن كان وجود نقص النصاب يُوجب عدمَ المقتضي

وقد يمكنه أن يجمع بين الأصل والفرع بالمشترك سواء كان عدم مقتضٍ أو وجود مانعٍ بأن يقول إن لم يكن المقتضي موجودًا لزمَ عدمُ الوجوب وإن كان موجودًا امتنع الحكم لوجود المانع قياسًا على الأصل واعلم أن القياس في الأحكام العدمية مع تجويزه في الوجود فإن قيل كيف صحَّ تعدية العدم والتعدية فرعُ تعليل الحكم والعدم لا يمكن تعليلُه بعلةٍ وجوديَّة ولا عدمية لأن العلة لابدَّ أن تكون سابقةً للمعلول سبقًا ذاتيًّا والعدم لا يَسبِقه شيء بالذات لا وجودٌ ولا عدمٌ فإنه قبل كلّ وجودٍ حادثٍ مع كلِّ عدمٍ فيقال الجواب من وجوه أحدها أن العلل قد تكون أدلَّةً وعلاماتٍ والأمر العدمي يجوز أن يُعلَم بغيره وإن لم يكن سابقًا عليه لأن المتأخر يجوز أن يدلَّ على المتقدم والأمور العدمية إنما عللها في الحقيقة علاماتٌ وأدلة على بقاء العدم الثاني انه يجوز تعليله بالوجود والعدم أما بالأول فإن المانع أمر وجودي يقتضي عدمَ الحكم وهذا العدم عدمٌ خاصٌّ وهو عدمٌ انعقد بسبب الوجود الذي يناقضه فيكون حادثًا متخصصًا فيجوز أن يُعَّل بالوجودي وأما بالثاني فلأن عدم الحكم يُعلَّل بعدم العلة المتحدة وإن اقتربنا في الزمان ويكون عدم العلة متقدمًا بالذات على عدم المعلول كما كان وجودُها بالذات متقدمًا على وجودِه إذ التقدم هنا إنما يُعرَف بالعقل بأن يقال وُجِدَ هذا فوُجِد هذا ويقال

عُدِمَ هذا فعُدِمَ هذا وهذا كذلك الثالث أن يقال العلة في العدم هي علم الله سبحانه بأن المصلحة في إبقاء عدم العلم على ما كان وبأن المصلحة في أن يكون معدومًا لا موجودًا الرابع أن عدم الحكم يتضمن أمرًا وجوديًّا لأن عدم الوجوب يتضمن إباحة الترك والتلبيس بالأضداد واعتقاد عدم الإيجاب وهذه أمور وجودية الخامس أن عدمَ الإيجاب الذي في علم الشرع مغايرٌ لعدم الإيجاب الذي يستفاد باستصحاب دليل العقل والشارع إنما يقرر عدم الإيجاب على ما كان ويخصُّ بعض الأشياء بالوجوب لأمورٍ تفصِل بين ما أوجبَه وبين ما لم يوجِبْه وإلاّ لكان تخصيصًا من غير مخصّص وحينئذٍ فلا يُعنَى بالعلة سوى ما أوجب الفرق بين الموضعين سواء كان وجوديًّا أو عدميًّا في أحدهما أو في الآخر السادس أن عدم الوجوب مستلزم لقيام ضدٍّ من أضداد الوجوب كما أن عدم الفعل مستلزم لضدٍّ من أضداد الفعل فكما جاز أن ينهى عن الفعل ويكون الطلب متوجّهًا إلى الاشتغال بضدّ الفعل جاز أن يكون هذا الترك مستندًا إلى علة وأن يكون عدم الوجوب لذلك بمعنى أن عدم وجوب الفعل متضمن لضدٍّ من أضداد هذا العدم السابع أنه إذا عُلِّل عدمُ الوجوب مثلاً فلابدَّ أن يُعلَّل بعدم مصلحةٍ في الوجوب أو بقيام مفسدةٍ فيه وكونُه خاليًا عن المصلحة أو متضمنًا للمفسدة والعلمُ بذلك يمنع الشارعَ من هذا الإيجاب فيكون

الإيجاب ممتنعًا والتعليل لامتناع الوجوب لا بمجرد عدمه ولاشكّ أن كونَه ممتنعًا أخصُّ من كونِه معدومًا وليس ذلك لامتناعه في ذاته فلابدَّ أن يكون لسببٍ منفصلٍ وهذا الامتناع قد يكون حادثًا فإن الشيء الجائز قد يصير ممتنعًا وإذا كان حادثًا جاز تعليلُه كغيره واعلم أنّا إنما تكلمنا في هذا بناءً على أن الأحكام الوجودية قد توصف بالحدوث إذا عُنِيَ بالحكم نفس الوجوب أو الحرمة القائمان بالفعل أو المضافان إليه ولم يُعنَ بهما نفس الإيجاب أو التحريم الذي هو كلام الله فإنه إذا عُنِيَ بها ذلك فالأحكام كلُّها قديمةٌ وجوديُّها وعدميُّها والسؤال على الجميع واحد وإن كان بينهما فرقٌ من وجهٍ آخر واعلم أن استقصاء الكلام في هذا السؤال غيرُ لائقٍ بمقصودِ هذا الكتاب قال المصنّف كما يقال العدم ثابت في فصل اللآلئ والجواهر فكذا في الحُلِيِّ بالقياس عليه إذ العدم في اللآلئ والجواهر يدلُّ على أن المشترك بين الوجوبين لا يكون علةً أصلاً أو المشترك بين العدمين مانعٌ عن الوجوب قطعًا فإنه إذا لم يتحقق أحدُهما تحققَ الوجوب فيهما بالمقتضي السالم عن المعارضَينِ

القطعيَّينِ أحدهما عدم علية المشترك والثاني مانعيته اعلم أنه إذا قاس الحُليَّ على الحلية من الجوهر مثلاً في عدم الوجوب فعليه أن يبيّن أن المشترك بينهما دليلٌ على عدم الزكاة إمّا باشتماله على عدمِ مقتضٍ أو فواتِ شرطٍ أو وجودِ مانع فيقول المشترك بينهما وهو التحلِّي مانعٌ من الوجوب أو مشتملٌ على عدم الموجب لأن التحلي من الأمور المباحة المأذون فيها وإيجابُ الزكاة فيها يُخِلُّ بمقصود هذا المباح لأنه ليس لها نماءٌ يَسُدُّ مَسَدَّ ما يُخرَج منها وهذا المعنى مناسبٌ لعدمِ الوجوب إمّا لكونه مانعًا للسبب فلا يكون السبب معه سببًا أو مانعًا للحكم وقد شهد له بالاعتبار عدمُ الوجوب في الأصل وغيره من الأصول أو يقول الحلية مالٌ مقطوعٌ عن النماء والزكاةُ إنما تجب في مالٍ نام نامٍ بالدوران فإن الإبل والبقر والغنم والعروض والنقدين لما كان مالاً مُرصَدًا للنماء بنفسه أو قابلاً للتنمية من غير فواتِ مقصودٍ أوجبَ الشرعُ فيه الزكاة والعبيد والمساكن لما لم يكن قابلاً للنماء لو يُوجِب فيه الزكاة ودورانُ الحكم مع الوصف أو دوران الأثر مع المؤثر وجودًا وعدمًا آيه كون المدار علةً للدائر فيكون كونُ المالِ ناميًا بمعنى أنه ينمي بنفسه أو بتصريفه من غير فواتِ مقصودٍ علةً لوجوب الزكاة وقد دلَّ على اعتبار القيد الأخير عدم الإيجاب في المعلوفة والعوامل فإنها

تقبل النماء وقد تنمى لكن مع فوات مقصودٍ وهو الاستعمال ونحوه والحليُّ ليس كذلك هذا ونحوه تقرير علّية المشترك وللمعترض أن يتكلم على المناسبة أو الدوران بوجوهٍ معروفةٍ لم يتعرض لها المصنف فلذلك لم نذكرها إذ الغرضُ التنبيهُ على المسلك الصحيح والتكلم على مسلكه ليظهر الفرق بين الجدل الصحيح والباطل وهؤلاء إنما يسلكون الكلام العامّ المموّه في تعدية العدم كما قال إذ العدم في اللآلئ والجواهر يدلُّ على أن المشترك بين الوجوبين لا يكون علة أصلاً أو المشترك بين العدمين مانعٌ عن الوجوب قطعًا إلى آخره يقول عدمُ الوجوب في اللآلئ والجواهر يدلُّ على أحد أمرين إمّا على أن المشترك بين الوجوبين لا يكون علةً أو على أن المشترك بين العدمين مانعٌ من الوجوب وعلى التقديرين يلزم انتفاء الوجوب في الحليّ لأن اللازم إن كان عدم كون المشترك بين الوجوبين علة لزمَ عدمُ الحكم لعدم علته وإن كان اللازم كون المشترك بين العدمين مانعًا فقد تحقق مانعُ الحكم فيجبُ عدمُه ويعني بالمشترك بين الوجوبين كونَ الوجوب فيهما محصّلاً للمصالح المتعلقة بالوجوب ويعني بكونه لا يكون علةً لا يكون علةً راجحةً لا في الأصل ولا في الفرع كذلك يعني بكون المشترك بين العدمين مانعًا أس مساويًا راجحًا فيهما ومعلومٌ أنه على هذا التفسير يكون عدم المقتضي قاطعًا والمانع كذلك

قال وإنما قلت إن احدَ الأمرين لازمٌ لأنه إذا لم يلزم واحد منهما أعني من عدم عِيِّيَّة المشترك ووجود مانعيَّة المشترك فقد خلا الأصلُ والفرعُ من تحقُّق عدم عِلِّيَّة المشترك للوجوب ومنع المشترك للوجوب فتجبُ الزكاةُ في الحِلْية الجوهرية بالمقتضي لوجوبها من النَّص والقياس ونحوهما السالم عن المعارِضَيْن القطعيَّيْن وهو معارضةُ تحقُّق عدم كونِ المشترك علة وتحققُ كون المشترك مانعًا وأنه إذًا فَرْض إذْ لو ثبت عدم كون المشترك موجبًا أو ثبتَ كونُه مانعًا بالتفسير الذي ذكرناه ومضمون العدم هو معارِضٌ قطعيٌّ للعلة الموجبة وللحكم لعَارَضَ ذلك بما يوجب الزكاة هذا تفسيرُ كلامه وسيتضح في حَلِّه بيانُ فسادِه والاعتراضِ عليه وذلك من وجوه أحدها قوله العدم في اللآلئ والجواهر يدل على أن المشترك بين الوجوبَيْن ليس بعلة أو أن المشترك بين العدَمَيْن مانع قلنا لا نُسَلِّم ولم يذكر على ذلك دليلاً سوى قوله بالمقتضي السالم عن المعارضيْن قلنا لا نُسَلِّم وجودَ المقتضي على هذا التقدير ولم يذكر على وجوده دليلاً فنتكلَّم عليه ولا يحتاج أن يمنع الوجوب

كما منع السائل بالمانع بل يمنع الوجوبَ ويمنع وجودَ مُقْتضيه حتى يثبتَه وإن قال المقتضي واقع في الواقع فيجب أن يكون واقعًا على هذا التقدير باستصحاب الواقع يقال له واقع على كلِّ تقدير أو على تقدير واقع فإن ادَّعى الأول فهو باطل بالضرورة والإجماع وإن ادَّعى الثاني قيل لا نُسَلِّم أن التقديرَ الذي ذكرتَه واقعٌ لأنه تقدير أنْ ليس له علة لعدم الحكم أو انه مانع من ثبوت الحكم وتقديرُ عدم عِلِّيَّته أو مانعيَّة لا نُسَلِّم أنه واقع لأن المشترك عندنا لا تأثير له وجودًا ولا عدمًا ولا يمكنُه بيانُ كونِ التقدير واقعًا إلا ببيان تأثير المشترك وحينئذٍ يكون ذلك دليلاً مستقِلاً فيُسْتَغْنَى به عن هذا الكلام هذا هو المنعُ المحقَّق وإن شئتَ قلت لا نُسَلِّم أن المقتضي واقع في الواقع ولا دليل له على ذلك بل الدليلُ على عدمه وذلك لأن المراد به ما يقتضي وجوبَ الزكاة في اللآلئ والجواهر لأنه إن عَنَى بالمقتضي النصوصَ العامةَ فقد علم عدم إرادة اللآلئ والجواهر منها فلا تكون مُقْتَضية وإن عَنَى به نوعَ قياسٍ فيه مناسبة أو نحو ذلك إبطال ذلك بطريقه فإنَّه من المحال أن يقومَ دليلٌ شرعيٌّ على وجوب الزكاة في اللآلئ والجواهر في الواقع

وإن قال إنما هو مقتضٍ على هذا التقدير وهو تقدير كون المشترك لا يدلُّ على منع الزكاة قال له المعترِضُ ولا أُسَلِّم أن شيئًا من الأدلة مقتضٍ على هذا التقدير لأن هذا التقدير واقع عندي فإن المشترك لا أثر له في مَنْع الزكاة وإن امتنعت الزكاةُ في الحلية من الجواهر لمعنًى اختصَّ بها وإذا كان هذا التقديرُ واقعًا امتنع أن يقوم المقتضي للوجوب على تقدير عدم اختصاص الحِلْية بما يمنع الوجوب بل الواقعُ أحدُ الشيئين إما عدم المقتضي للوجوب في الحلية أو اختصاصها بالمانع فيمكن أن ينازع في هذا المقام في عدم المقتضي أو يقال أحد الأمرين واقع عدم المقتضي للوجوب في الحلية الجوهرية أو مانعٌ مختصٌّ بها فإن كان الواقع عدم المقتضي بطل قولُه بتحقُّق الوجوب فيهما بالمقتضي وإن كان الواقع مانعًا مختصًّا بها بطل قوله العدمُ في اللآلئ يدلُّ على أن المشترك ليس بعلة الوجوب أو هو مانع من الوجوب لأن المانع إذا اختصَّ بالحلية الجوهرية لم يكن للمشترك بانفراده أثر في عدم الاقتضاء أو اقتضاء العدم بل يكون الحكم مضافًا إلى المختص فإذا قال المعترِض لا أُسَلِّم أن المقتضي واقع في الواقع لأن الواقع في الواقع واقع مِن جملةِ الأمور التي هي واقعة حتى يجب العمل به على تقدير نفي تأثير المشترك

الوجه الثاني لا نُسَلِّم قيامَ المقتضي في الحِلْية لأنه لو كان قائمًا لزم التعارضُ بينَه وبين المانع منها بل لزم ترك العمل به للإجماع على عدم الوجوب فيها على عدم المقتضي لم يلزم التعارض المذكور فيكون أولى وطرده الحُلي لمَّا قام المقتضي للوجوب فيه ثبتَ الوجوب لئلا يلزم ترك العمل بالدليل وهذا الكلام في غايةِ الحُسْن من جانب المعترض وهو يقطع دابر المستدلِّ لأن المعترض يقول أنا عملتُ بالمقتضي في الحِلْية من غير معارضةٍ بمانع وقد عملتُ بعدم المقتضي في الحلية من غير إثباتٍ لمقتضٍ مستلزمٍ تركَ العمل به لمانع فقد احْتَرزْتُ عن محذورِيْن كلاهما خلاف الأصل وأنت التزمتَ مخالفةَ الأصل لأنك ادَّعيتَ أن المشترك مؤثِّر في عدمِ الوجوب وقد ادَّعيتَ قيامَ المقتضي للوجوب فقد تعارض في دليلكَ ما يقتضي الوجوبَ وما ينفيه والتعارضُ على خلاف الأصل أو يقول لا يخلو إما أن يكون المقتضي للوجوب فيهما قائمًا أو غير قائم فإن لم يكن قائمًا بطل دليلُكَ وقولُكَ بتحقُّقِ الوجوب فيهما بالمقتضي وإن كان قائمًا قال فإما أن تعمل به وهو خلاف الإجماع في الأصل وخلاف قولك في الفرع وعلى التقديرَيْن بطل مذهبُك وإما أن لا تعمل به فقد التزمتَ تَرْك المقتضي وتركُ الأدلَّةِ على

خلافِ الأصل وليس في التعارض محذورٌ أشدّ من الترك فلئن قال هذا التعارض موجود في الأصل فكذلك في الفرع قيل لا نُسَلِّم وجودَ المقتضي في الأصل كما ذكرناه وعلى تقدير التسليم فلا يلزم من ترك العمل بالدليل في موضع ترك العمل به في موضع آخر إلا أن تُبَيِّن أنه مثله وأنتَ لم تُبَيِّن أنه مثله بهذا الدليل وهذا الدليل إنما يتمُّ إذا ثبت أنه مثله فصرتَ محتجًّا على الشيء بما ر يتمُّ إلا ببيان الشيء وهذه مصادرةٌ على المطلوب وكثيرًا ما يَسْتَعْمِلها هذا الجدليُّ في أغالِيْطِه بل كثيرٌ من الأغاليط إنما ترُوْجُ بِها فإنه يُغَيِّر العبارة ويُكَثِّر الأقسام ويُطِيْل المقدِّمات ويجعلُ الشيءَ مقدمةً في إثبات نفسه من حيث لا يشعر الغبيّ فافطن لهذا المعنى الثالث أن يقال المقتضي للوجوب في الأصل إما أن يكون ثابتًا فهو مدفوعٌ بالمانع بالإجماع وذلك المانع إما المشترك أو غيره فلِمَ قلتَ إنه المشترك دون غيره فإنَّ عدمَ الحكم في الأصل يدلُّ على عدمِ موجِبه أو وجود مانعه فإنه إذا لم يتحقق أحدُهما تحقَّقَ الموجبُ السالمُ عن المعارِض فيعملُ عملَه هذا هو الذي يدلُّ عليه عدمُ الحكم فلِمَ تحكَّمْتَ بتعيين كون ذلك المؤثِّر في عدم الحكم هو المشترك دون غيرِه من غيرِ دليل

وهذا كمن قال زيدٌ جائع فإن لم يأكل هذا الرغيفَ يموت لوجود الجوع المقتضي فيقال له الجوعُ يندفع بما يسدُّ الرَّمَقَ من هذا الرغيف أو غيره فَلِمَ خصَّصْتَ الحكمَ مع أن المقتضي لا اختصاص له ونحو ذلك من كلِّ أمرٍ يدلُّ على موجب مُجْمَل ولو ادَّعى مدَّع أنَّ المؤثِّر في عدم الحكم هو ما يختص بالأصل أو مشترك آخر بينَه وبينَ فرع آخر لم يكن بينك وبينه فرقٌ إلاَّ التحكُّم وذلك أنَّ كلَّ تقدير ينشأ منه ثبوتُ مقتضٍ أو عدمُه أو انتفاءُ مانعٍ فلا يُقْبل من أحدٍ تعيين المقتضي أو المانع إلا بدليل وتقديرُ عدم الوجوب في الأصل ينشأ منه ذلك وقد عيَّنت المشترك عدم مقتض أو وجود مانع بغير دليل فلا يُقْبل منك ذلك أن يقال الوجوب في كذا يقتضي الوجوب في كذا لأنه يقتضي كون المشترك علة إذ لو لم يكن علة للزم انتفاء الحكم عن الأصل لقيام النافي السالم عن معارضة عِلِّيَّته وتثبيت موجبيَّتِه ومعلوم أن هذا فاسد بالبديهة الرابع أن هذا الكلاَم معارَضٌ بمثله وهو أن يُقال العدم في

الحلية الجوهرية يدلُّ على أن ما اختصت به الحلية لا يكون عِلَّة لوجوب الزكاة أو هو مانع من وجوب الزكاة فإنه إذا لم يتحقَّق أحدهما وهو كون المختص ليس بعلة للوجوب أو هو مانع للوجوب تحقَّقَ الوجوبُ المقتضي له السالم عن المعارضين فتقف الدلالة وهذا التعارض إنما نسأ لأنَّ عدمَ الوجوب في الأصل لا يدلُّ على شيءٍ بعينه لا على مشترك ولا على مختصٍّ فلاستدلال به على أحدهما كالاستدلال به على الآخر وقد يُعارض بأشياءَ كثيرةٍ مثل أن يُقال عدمُ الوجوب يدلُّ على أن كونَه جوهرًا يؤثِّر في عدم الوجوب أو يدل على أن المشترك بينهما وبين البقر العوامل مؤثِّر في عدم الوجوب أو تذكُرُ أيَّ شيءٍ مِن كلِّ ما يؤثِّر في عدم الوجوب في موضع من المواضع إذا كان موجودًا فيها وإذا عُلِمَ أن هذا القياس تَنْقا سبه أمورٌ باطلة عُلِمَ أنه باطل الخامس أن يقال المقتضي ينفي سلامتُه عن هاتين المعارضتين أم لابد سلامته عن جميع المعارضات فإذا ادَّعيتَ الأول فهو محالٌ وإن ادَّعيتَ الثاني فهو معارَض بما ينفي الحكم في الأصل على تقدير عدم تأثير المشترك وهذا هو الجواب الذي حكاه عن المعترض وأجاب عنه بأن هذا يلزم منه تعارض الأدلة وجواب هذا الجواب أن يقال التعارضُ هنا ثابتٌ بالإجماع كما مضى وسيأتي إن شاء الله

تعالى السادس قوله العدمُ في اللآلئ والجواهر يدلُّ على أن المشترك بين الوجوبَيْن لا يكون علة أصلاً أو على أنَّ المشترك بين العدمين مانعٌ من الوجوب قطعًا قلنا هب أنَّا سلَّمنا أنَّ عدم الوجوب في الدليل يدلُّ على أن المشترك بين الوجوبين لا يكون علة أصلاً بل نحن نُسَلِّم ذلك فأيُّ فائدةٍ في ذلك وذلك أنَّ المشترك بين الوجوب في الحكم الحُلِيّ والحلية لا حقيقة له إذ لا وجوب في الحلية حتى يكون بينه وبين وجوبٍ آخرَ مشترك ولو سُلِّم أن فيها وجوب وقُبِل المشترك بين الوجوبَيْن أو قُبِل المشترك بين الوجوبين المقدَّريْن أو اللذَيْن أحدهما محقق والآخر وقدَّر ليس بعلة أصلاً قلنا لا يلزم من عدم كونِ المشترك بين الوجوبَيْن علة عدمُ كون المشترك بين الصورتين علة لأن الوجوبَيْن عند المَّعي لا حقيقة لهما فالمشارك بينهما أمرٌ عَدَميّ فلا يلزمُ من عدمِ إيجابِ عدمِ الوجوبَيْن عدمُ إيجابِ الحُكْمِيْن العَدَمِيَّيْنِ لأمرٍ وجوديّ أو عدمُ إيجابِ الصُّورتين الوجوديَّتَيْن لأمرٍ وجوديّ أو يُقال عدمُ الوجوب في الجوهر مستَنِدٌ إلى عدم علَّةِ الوجوب أو علة عدم الوجوب وهو دليل على هذا المستند دلالةَ المعلولِ على علته والمشتركُ بين الوجوبَيْن جزءٌ من الوجوبَيْن وذلك يمنعُ أن

يكون علة للوجوب لذاته فإنَّ جزءَ الشيءِ لا يكون علةً لوجوده وإذا كان هذا ممتنعًا في نفسه لم يكن امتناعُه مدلولاً عليه بعدمِ الوجوب لأن الدليل أن يفيدَ العلمُ به العلمَ بالمدلولِ وهنا عدمُ كونِ المشترك بين الوجوبَيْن علةً أمرٌ ثابتٌ لا يُستفاد من عدم الوجوب وهذه مناقشةٌ لفظيَّةٌ إذ كان حقُّه أن يقول المشترك بين الصورتين ومثل هذا يَرِدُ عليه في قوله المشترك بين المقدِّمتَيْن فإن العلة اقتضاءً ومنعًا لا تكون من نفس الوجوب وعدم الوجوب وإنما تكونُ من نفسِ الصورتين وجودًا وعدمًا وهذا ظاهر الوجه السابع سَلَّمْنا أن المشترك بين الوجودَيْن لا يكون علةً ولا يلزم من نفي عِلِّيَّة المشترك نفي عِلِّيَّة المختصّ بالأصل والعلةُ عندنا هي المختصُّ بالأصل وليس في نفي كون المشترك بين الوجودَيْن علةً للوجوب أو بين الصورتين فائدة أصلاً فضمها إلى كون المشترك مانعًا كلام ضائع فإنَّ الترديدَ إنما يكونُ إذا كان الحكمُ ثابتًا على التقديرَيْن يوضِّح هذا أن قولَه بالمقتضي السالم عن المعارضين كلامٌ باطل فإن المعارضة بِعَدم عِلِّيَّة المشترك لا تتأتَّى لأن المقتضي إن كان قياسًا فلابدَّ أن يكون المشترك عِلّة فكيف يُعارِضُ الشيءُ نفسَه وإن لم يكن قياسًا كان عدمُ علِّيَّة المشترك نفيًا محضًا والنفيُ المَحْضُ ليس بدليلٍ يُعارِضُ الأدلةَ القائمةَ قوله ولئن منعَ الوجوبَ بالمانع فنقول المانعُ غير مُتحقِّق

على ذلك التقدير وإلا لوقعَ التعارضُ بين المقتضي والمانع إلى آخر ما مرَّ في التلازُم معنى هذا أنَّ المعترض إن قال الوجوب على تقدير عدم تأثير المشترك منتفٍ بالمانع قيل له لا يكون المانعُ متحقِّقًا على ذلك التقدير لئلا يلزم التعارض وهذا المنع صحيحٌ من جهةِ المعترض وليس الجوابُ عنه بسديد وذلك أن المعترِضَ يقول لا أُسَلِّم الوجوبَ على تقدير تأثير المشترك أعني على تقدير أن لا يكون علة للوجوب فيهما أو يكون مانعًا للوجوب بالمانع للوجوب ولا يلزم من ذلك تعارض الأدلة وذلك لأن التقدير غير واقع عندي وأدلة لا تتعارض على تقدير غير واقع ولا لتعارُض أدلة فسادِ العالم وأدلة صحته على تقدير الأدلة أو يقول كون المانع إذا وقع تحقَّق التعارض فيقع التعارض بين الأدلة على كلِّ تقدير أو على كلِّ تقديرِ واقع أما الأوَّل فباطل بالضرورة وأما الثاني فلا نسلِّمُ أَنَّ المانعَ إذا وقع تحقَّق التعارضُ إلا إذا سَلَّمنا وقوعَهما جميعًا ونحن لا نسلِّم وقوعَ أحدِهما وهو قيام

المقتضي مع تأثير المشترك لأن تأثير المشترك غير واقع أو لا نسلِّم أنه واقع فلا يمكنه إثبات التعارض حيث يثبت وقوع ما ادَّعاه من الدليل ولا يمكن وقوعه إلا بوقوع ما ذكره من تأثير المشترك ولو أثبتَ ذلك استغنى عن هذا كلِّه ثم إنه إنما أثبتَ تأثيرَ المشترك بهذا الدليل فإذا لم يَثْبُت إلا بعد تأثير المشترك كان مصادرةً على المدَّعَى جوابٌ ثانٍ التعارضُ بين المانع والمقتضي هنا ثابت بالإجماع لأن المانع واقع في الواقع لِمَا ذكرتُه والمقتضي واقع في الواقع لِمَا ذكرته لأن ذلك دليلك يتضمَّن ذكرَ كونه مقتضيًا على بعض التقادير ولا يحتاج إلى السلامة عن المعارضة إلا المقتضي الواقع وإذا عرفت بقيام المقتضي على تقدير تأثير المشترك وهذا التقدير واقعٌ عندك والمانع الذي ذكرته واقع في الواقع فيجبُ أن يكون واقعًا على هذا التقدير الواقع عندك وأيضًا فإن التعارضَ بينهما ثابتٌ في نفس الأمر بالإجماع ولو لم يكونا واقِعَيْن على هذا التقدير لكان هذا التقدير باطلاً لأنه يرفع الأمورَ الواقعة وهذا هو التقدير الذي لا يضرُّ منعُه ومعناه أن تقول إن ثبتَ تعارُضُهما على هذا التقدير فهو أحد الأمرين المطلوبَيْن وإن لم يثبت فإنَّ تعارضهما ثابتٌ في نفس الأمر فيكونُ هذا التقديرُ واقعًا للأمور الواقعة فيكونُ باطلاً وإذا بطلَ بطلَ

الدليلُ وهو المطلوب جوابٌ ثالثٌ وهو معارضتُه بمثلِه أن تقول المانعُ للوجوب في الأصل قائم فالمقتضي إما أن يكون موجودًا على هذا التقدير أو غير موجود فإن لم يكن موجودًا اندفع الدليلُ وإن قُدِّر وجودُه لزم تعارضُ الأدلةِ وهو على خلاف الأصل جوابٌ رابعٌ أن المانعَ قائم فلا يجوز أن يكون المقتضي قائمًا على هذا التقدير فإنه إذا دار الأمرُ بين كون المانع مانعًا على هذا التقدير وبين كون المقتضي مقتضيًا كان رعايةُ المانع أولى لأن المانِعَ مانعٌ في نفس المر في الأصل بالإجماع ولا في الفرع عندك وثبوتُ مدلولِ أحدِ الدليلين عند التعارض يدلُّ على رجحانه فعُلِمَ أن المانِعَ أقوى فإذا اضطررنا على هذا التقدير إلى ثبوت أحدهما كان إثبات المانع أولى وهذه المعارضة من أحسن المعارضات أيضًا وأقطعها لدابر المبطل فإن التقدير الذي فرضَه وهو عدم تأثير المشترك في منع الزكاة هو تقدير عدم مسألة النزاع بعينها ثم ادَّعى قيامَ الموجب للزكاة في الحلية إن لم ينفها عن الحلي فقابله الآخرُ بدعوى قيام النافي للزكاة في الحلية وإن لم ينفها عن الحلي وهذه مقابلةُ دعوى بدعوى فكيف تروغ من هذه المعارضة مراوغة الثعلب الأملس جوابٌ خامسٌ أن يُقال أنا وإن التزمت المعارضة بينَ

المانع والمقتضي على ذلك التقدير فأنتَ قد التزمتَ المعارضةَ بين تأثير المشترك النافي للزكاة والمقتضي لوجوب الزكاة فليس قبول إحدى المعارَضَتَيْن بأولى من قبول الأُخرى فإن رَدَدْناهما معًا بطل استدلالُك وإن قبلناهما معًا بطل استدلالُك وأما قبول إحداهما دون الأُخرى فتحكُّم قال المصنف أو نقول العدم في اللآلئ والجواهر يدلُّ على أنَّ العدمَ متحقِّق فيهما أو لا يكون المشترك بينهما علة للوجوب أصلاً فإنه إذا لم يتحقق أحدهما لتحقق الوجوب عنه أصلاً وإلا لوجبت ثمة ولم تجب فيلزم أحدهما ويلزم من لزوم أيهما كان عدم الوجوب هنا أما إذا لزم الأول فظاهر وأما إذا لزم الثاني فكذلك لأنه لو وجب هنا لكان المشترك علة إما بالمناسبة أو بالدوران فإن الوجوب حينئذٍ دار مع المشترك وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي هذه الصورة وأما عدمًا ففي صورة عدم المشترك قلتُ حاصلُ هذا أنه يقول عدم الحكم في الأصل يدلُّ على أحد أمرين أو هو مستلزم لأحد أمرين إما عدم الحكم في الأصل والفرع وإما عدم كون المشترك بينهما علةً للوجوب أصلاً لأنه لو لم يلزم العدم فيهما أو عدم عِلِّية المشترك لكان الحاصل إما وجود

الحكم فيهما أو وجود عِليَّة المشترك وعلى التقدِيرَيْن يلزم الوجوب في الأصل واللازم منتفٍ فينتفي الملزوم وهو وجود أحد الأمرين فثبتَ عدمُ أحد الأمرين وأيهما ثبت لزم الحكم لأنه إن ثبت عدم الحكم فيهما فظاهر وإن ثبتَ عدمُ عِلِّية المشترك لزم انتفاء الوجوب لأن الوجوب لو حصل لأضيف إلى المشترك لأن المشترك مناسب للوجوب لما فيه من تحصيل مصلحة الإيجاب أو بالدوران وهو دوران الوجوب مع المشترك وجودًا في صورة وجود المشترك وهي هذه الصورة صورة الأصل وعدمًا في صورة عدم المشترك والدورانُ يدلُّ على أن المدارَ عِلَّةٌ للدائر هذا تقريرُ كلامِه وهو من أفسد الكلام وطريقُ إظهار فسادِه بِمَنْعِ كلِّ واحدةٍ من المقدِّمتين فإن فسادها عند تحليلها ظاهر وذلك من وجوه أحدهما لا نُسلِّم أنه لو لم يتحقَّق العدم فيهما أو لم يكن المشترك علةً للوجوب لوجبت الزكاة في الأصل وذلك لأن انتفاء تحقُّق العدم فيهما يكون تارةً بوجود الحُكْم فيهما وتارة بوجود الحكم في الأصل وتارة بوجوده في الفرع فإنه على كلِّ واحدٍ من هذه التقديرات لا يتحقَّقُ العدمُ فيهما لوجود الحكم في الأصل فلا يلزم من انتفاء تحقق العدم فيهما الوجوب ثَمَّ بل ينتفي تحقق العدم فيهما ويحصل الوجوبُ في الأصل فقد منعت المقدمة الأولى وتبيَّن بطلان الدليل عليها الثاني أن يقال لا نسلِّم لو لزمَ عدمُ كون المشترك علَّة لزم عدم

الحكم فيهما لأن عدمَ عِلِّيَّة المشترك عدمُ عِلَّةِ وصفٍ مخصوصٍ أو عدمُ علَّةٍ مخصوصةٍ فإن المناسبة أو الدوران إنما يدل على أن المشتركَ علةٌ للوجوب بتقدير الوجوب وذلك لا يمنع من ثبوتِ علةٍ أخرى في الفرع فيكون من عدم المشترك عدم الإضافة إليه ويلزمُ من عدمِ الإضافة إليه عدمُ الحكم في الفرع أما عدم الحكمُ في الأصل فلا يلزم أو يقول لا يلزمُ من عدم المشترك عدم الحكم لا في الأصل ولا في الفرع وذلك أن العكسَ في العلل الشرعية غير واجب فلا يلزم من عدم العلة المعيَّنَة عدم المعلول فإن قال لأنَّ الأصل عدم علة الوجوب في الأصل فإذا انتفى كون المشترك علة فالأصل ينفي عدم الوجوب وينفي عدم علَّةٍ أخرى لعدم الوجوب وينفي علَّةً أخرى لعدم الوجوب فليس دعوى وجود الحكم حينئذٍ لانتفاء علةٍ معيَّنَةٍ يوجبُ العدم بناءً على أنَّ الأصل عدم غيرها بأولى من دعوى العدم بمقتضى الأصل أو من دعوى كون الأصل عدمَ كونِ عدمِ المشترك علةَ عدمِ الوجوب بل هذا أولى لأن الأصل النافي ينفي الحكم بنفسه وعدم المشترك إنما ينفيه بواسطة الأصل النافي وإذا كان احدُ الدليلَيْن متوقِّفًا على الآخر والآخر ليس بمتوقف عليه كان الغنيُّ عن غيره أولى لأنَّ كلَّ ضعفٍ في الغنيّ موجود في المحتاج من غير عكس الثالث أن يقال لا نُسَلِّم أن المناسبة أو الدوران يدل على عِلِّية المشترك بتقدير الوجوب في الأصل وذلك لأن هذا تقدير ممتنع فجاز أن يلزمه حكم ممتنع كما في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ

لَفَسَدَتَا [الأنبياء 22] وليس عدمُ كون المناسبة والدوران عِلَّة بأكثر من الأمور الممتنعة فلا يضر تحقُّقُ هذا العدم على تقديرِ ممتنعٍ الرابع أن يقال لو سلَّمنا ثبوتَ الوجوب في الأصل لم يلزم كون المشترك عِلَّة لأن الأحكامَ المتماثلة يجوز أن تُعَلَّل بعللٍ مختلفة كالملك فإنه نوع يثبت بعللٍ من البيع والهبة والإرث فيجوز أن يثبت الوجوب في الأصل بعلةٍ وفي الفرع بأخرى فلا يكون المشترك علة الخامس المناسبةُ والدورانُ قد دلاَّ على عدم عِلِّيَّةِ المشترك في الأصل مع النص والإجماع فإنه لو كان علةً لثبتَ الوجوبُ في الأصل والفرع وهذا خلاف الإجماع فلا يجوز أن يدلاَّ على كون المشترك علةً بتقدير الوجوب في الفرع لأن الوجوبَ في الفرع إن كان واقعًا لزم دلالة الدليل الواحد على النقيضين وهو محال وإن لم يكن واقعًا فتقدير ما ليس بواقع لا يوجبُ تغييرَ الأدلة الشرعية عن موجباتها ومقتضياتها لأن التقديرات الممتنعة أو التقديرات التي لا حقيقةَ لها لو أوجبَتْ تغيير دلالة الأدلة وانعكاس موجبها لكانت الأمور العدمية أو الأمور الممتنعة مغيِّرةً للأمور الوجودية ومزيلةً لها عن صفاتها فعُلِمَ أنَّ المناسبةَ والدوران اسم جنس والدالُّ منه على عدم عِلِّية المشترك فردٌ من أفراده والدالُّ منه على عِلِّية المشترك بتقدير الوجوب في الفرع فردٌ آخر فلا يلزم أن يكون الدالُّ على النفي هو الدال على الإثبات على ذلك التقدير ولا تغيير

الأدلة فيقال هذان الفردان إما أن يكونا دليلين باعتبار ما بينهما من القدر المشترك وهو كونهما مناسبة أو دورانًا أو باعتبار ما اختصَّ به كلٌّ منهما فإن كان الأول فقد لزمَ إبطالُ دلالةِ المناسبة والدوران بالتقديرات الممتنعة وإن كان الثاني فالدليل إذاَ مركَّب من مسمَّى المناسبة والدوران ومن خَصِيْصة أخرى وهو خلاف ما ذكره المستدلُّ قوله أو نقول لو وَجَبت لكانت العلةُ محقَّقة لا محالة وغير المشترك ليس بعلَّة لأنه غير ثابت أو غير علة بالأصل هذا الكلامُ أقرب مما تقدَّم ومعناه أن يقول لو وَجَبت الزكاةُ في الحلي لكان للوجوب علة فإما أن تكون العلة ما بَيْنَه وبين الحلية الجوهرية من المشترك أو غير ذلك والثاني معدوم بالأصل النافي لوجوده أوَّلاً وبالأصل النافي لعِلِّيَّتِهِ ثانيًا فإن الأصلَ عدمُ ثبوته والأصل بعد ثبوته عدم كونه علة وإذا دلَّ الأصلُ على عدم ما سوى المشترك تعيَّن كونُ المشترك علة ولو كان المشترك علةً للزم الوجوب في الصورَتَيْن والثاني باطل فالمقدم مثله

وهو كلام فاسدٌ أيضًا من وجوه أحدها لا نسلِّم أنه لو وَجَبت لكانت العلة محققة لأن الأحكام منقسمة إلى ما يُعَلل وما لا يُعَلل والمُعَلَّل في نفس الأمر منقسم إلى ما تعقل عِلّته وإلى ما لا تعقل عِلّته فلشمَ قلتَ إنَّ هذا من الأحكام المعلَّلة المعقولة علَّتها ولكن جواب هذا أن يقال الأصل في الأحكام أنها معللة والأصل فيها كون عِلَلِها معقولة ولولا تسليم هذين الأصلين لم يصح ادِّعاء علة مستنبطةٍ بمناسبةٍ ولا دوران الثاني أن يقال قولك غيرُ المشترك ليس بعلة لأنه غير ثابت ليس بصحيح فإنَّا نعلم بالاضطرار أن هناك صفات موجودة في الحُلي غير المشترك بينه وبين الحِلْية مِن كونه ذهبًا أو فضة ومن كونه من نس النقدين ومن كونه في الأصل مُعَدًّا للثَّمنيَّة والأصلُ النافي إنَّما نحتجُّ به فيما لم يُعْلَم وجوده أما ما عُلِم وجودُه بالضرورة فلا يجوز نفيُه بالأصل النافي فيقال الأصلُ النافي ينفي كون المشترك علة كما ينفي كون غير المشترك علة إذ لا فرق في اقتضائه النفي بين المشترك والمميز فإما أن يَعْمل به فيهما أو يتركه فيهما أما استعمالُه في أحدهما دون الآخر فيحتاج إلى مفرق بين الموضعين وحينئذٍ يحتاج إلى البحث الفقهي عن الجوامع والفوارق بين الحُلي والحِلْية أو يقال من رأس

الأصل النافي إذ لا فرق بين الموضِعَيْن الوجه الثالث أن يقال لا نُسَلِّم أن الأصل عدم كون غير المشترك علة لذلك لأن العلة في الحقيقة هي علم الله سبحانه بما اشتمل عليه الحكم من المصالح فيجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن المشترك هو المشتمل على تمام المصلحة ويجوز أن يكون قد علم أن المشترك والمميز تمام المصلحة ولا يقال الأصلُ عدم هذا العلم لأن القديم لا يجوز نفيه وإنما يجوز نفي ما عُلِم أنه ليس بقديم لأنه كان في الأزل معدومًا والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان فأما القديم فلم يكن معدومًا قطُّ حتى يُسْتصحبَ عدمه إلا أن يقال الأصلُ عدمُ علمنا بكونه عِلة ونحن مُتَعَبَّدون بما علمنا دون ما لم نعلمه وتجويز أن يكون في نفس الأمر علةً لم نعلمها ولا يَمْنَعُنا أن نضيف الحكم إلى ما ظهر لنا لكن يَمْنَعُنا من القطع واليقين ونحن إنَّما ندَّعي الظنَّ وهو حاصل فهذا قد يتسمَّى الوجه الرابع الوجوب في الحُلِيّ إما أن يكون واقعًا أو غير واقع فإن كان واقعًا بطل استدلال المستدلِّ لأنه يستدلُّ على عدم وقوعه والاستدلالُ على عدم وقوع الواقع باطل وإن لم يكن واقعًا فالأصل النافي يقتضي عدم وقوعه ويلزم من ذلك عدم علةٍ للوقوع سواء فرضت القدرَ المشترك أو القدر المختص إذ لو كانت للوقوع علة للزم الوقوع والتقديرُ خلافُه وحينئذٍ فلا يصح الاستدلال بالأصل النافي على عدم عِلِّيَّة بعض الأمور الموجودة في الأصل

وهي المشتركة دون المختصَّة لن ذلك مستلزم لِعِلِّيَّة البعض دون البعض وهو خلاف موجِب الدليل بل وهو خلاف الواقع فعُلِم أن الاستدلالَ على عِلِّية المشترك دون المختصّ بالأصل النافي لا يصح على التقديرين الخامس أن الوجوبَ في الحُلِيّ إن كان واقعًا فلا يصح الدلالة على عدمه وإن لم يكن واقعًا امتنع أن يكون هناك ما يدلُّ على عِلِّيةِ المشترك لأنه يلزم من عِلِّية المشترك ثبوت الحكم في الأصل والفرع وهو خلاف الواقع فيها لأنَّا نتكلَّم على ذلك التقدير وهو خلاف الإجماع في الأصل وإذا لم يكن المشترك عِلَّة فالاستدلال بالأصل النافي إن لم تُفِدْ عِلِّيةَ المشترك فلا منفعة فيه وإن أفادها فهو باطل لما ذكرناه السادس وفيه كشفُ سِرِّ هذا التغليط أن يُقال لا نُسلِّم أن غير المشترك ليس بعلَّةٍ بالأصل وذلك لأنَّا نتكلَّم على تقدير وجوب الزكاة في الحلي لأنك قلتَ لو وَجَبت الزكاةُ فيه لكانت العِلَّة محققة لا محالة وإذا كُنَّا نتكَلَّم على هذا التقدير فالأصل النافي المنتفي إما هو منتفٍ في نفس الأمر والمنتفي في نفس الأمر منتفٍ على كلِّ تقديرٍ واقع إذ الانتفاءُ الواقع لا يرفع الأمورَ الواقعة ولا يلزم أن يكون منتفيًا على كلِّ تقدير سواء كان واقعًا أو غير واقع لأن من التقديرات

تقديرات وجوده أو أسباب وجوده لا يجوز أن يكون منتفيًا على هذا التقدير وحينئذٍ فالوجوب في الحلي إن كان واقعًا بطل الاستدلال من أصله وإن لم يكن واقعًا كان الاستدلالُ على انتفاءِ شيء على تقدير غير واقع والأصل النافي لا يدل على انتفاء الأشياء على التقديرات غير الواقعة ولا يدل على انتفاء الأشياء على كل تقديرٍ غير واقع لجواز أن يكون ذلك التقدير موجبًا لوجود المنتفي بالأصل فلا يصحّ نفيه بالأصل حينئذٍ لتردد الأصل بين أن يكون دليلاً أو لا يكون حتى يتبيَّن أنَّ ذلك التقدير ليس بموجب لثبوت ما دلَّ الأصل على عدمه ولا يمكن ذلك هنا لأن ذلك التقدير يوجب ثبوتَ علَّةٍ يجوز أن تكون هي المشترك ويجوز أن تكون هي المشترك والمختصّ ويجوز أن تكون هي المختصّ ويجوز أن تكون مركَّبة من المشترك والمختص ويجوز أن تكون بعض المشترك ويجوز أن تكون بعض المختص فإذا كان التقديرُ يوجبُ بعضَ هذه الأمور لم يَجُز تعيينُ واحدٍ منها بالنفي بالأصل دون الآخر لأن ذلك تحكُّمُّ يقابَلُ بمثلِه وترجيحٌ من غير مرجِّح وهو غير جائز السابع أن يُعارض فيقال لو وجبت الزكاةُ لكانت العلة محقَّقَة ولكانت هي المختصّ بالحليِّ من كونه مالاً ناميًا أو من جنسِ

النقدين لأن هذه علَّةٌ منصوصة بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة 318] وبقوله صلى الله عليه وسلم ما مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤدِّي زَكَاتَها الحديث أو يقال لا يجوز أن يكون المشترك علَّةً لأن المشترك كونُه متحلًّى به وهذا المعنى لا يصلح أن يضافَ إليه الوجوب بل إضافة الوجوب إليه تعليق على العلة ضدَّ مقتضاها لأن التحلِّي به هو استعمال له في أمرٍ مباح وذلك بكونه مانعًا من الوجوب أشبه منه بكونه مقتضيًا أو يقال أو وَجَبت الزكاةُ لكان المختصّ علةً للوجوب لأن العلةَ محقَّقّة وغير المختصِّ ليس بثابت أو ليس بعلة بالأصل وهذه معارَضَات يبطل بأحدِها كلامُ المستدل ثم تقريرها أظهر من تقرير كلام المستدل فإن إيماءَ النص والمناسبة والدوران يدل على عِلِّية المختص على هذا التقدير وما ذكره في تقرير عِلِّية المشترك على تقدير الوجوب فإنه يعارَض بما يدلُّ على عِلِّية المختص بمثل كلامه والنوعُ الواحدُ من الأدلة إذا استلزم النقيضين عُلِمَ أنه باطل قال أو يقال إباحةُ التَّرْك متحقِّقة في تلك الصورة فكذا

في المتنازع فيه كما في القياس الوجوديِّ ويلزمُ منه العدمُ هنا يقول إباحةُ تَرْك أداء الزكاةُ متحقِّقَة في الحلية الجوهرية فكذا في الحِلْية الثمنيَّة كما في القياس الوجودي وهو القياسُ بجامعٍ ما يشتركان فيه وبيان عِلِّية المشترك بالمناسبة وهو أن كونه متحلًى به أو مستحلاًّ لاستعمال مباح مناسبٌ لإباحة ترك زكاته لكون الزكاة فيه تخلُّ بهذا الأمر المباح وقد شهد لهذا المناسب بالاعتبار الأصلُ المذكورُ وهو الحلية الجوهرية وعُدِما في المضروب فيكون المدار عِلَّة للدائر وإذا ثبتَ إباحةُ ترك أداءِ الزكاة لزمَ منه عدم الوجوب في الحليّ وهو المُدَّعَى واعلم أنَّ هذا الكلام أجودُ مما قبله لكن لا يتمُّ إلا بذكرِ فقهِ المسألةِ وبيانِ الجوامع والفوارق وما اعتبره الشرع بإيماءِ النصوص أو بشهادة الأصول بما ألغاه وحينئذٍ تكونُ مناظرة فقهيَّة ومجادلة علمية فيختلف بحسب الموادِّ التي لكلِّ مسألة مسألةٍ على انفرادها وإذا ابْتُدِيَت المآخِذُ العلميَّةُ أمكن المستدلَّ أن يقرِّرَها بصورٍ شتَّى مثل أن يقول عدمُ الزكاةِ في الحِلْية الجوهرية إنما كان لكونها مالاً معدولاً به عن جهة الاستنماء أو مالاً مُعدًّا لاستعمالٍ مباح بشهادة المناسبة والدوران وهذا الوصف مشترك بينها وبين الحلية

النقدية فيلزم انتفاء الوجوب فيها أمَّا دعوى كون عدم الوجوب في الأصل يدلُّ على عدم عِلِّيَّة المشترك أو على عدم الوجوب في الفرع بالأدلة العامة التي ادّعاها الجدليُّ فكلام باطل كما تقدم واعلم أنه إن أُثْبتت عِلِّية المشترك بين الإباحتين بالأدلة العامة التي تنفي الزكاة وهي كونها خَرزًا ونحو ذلك وبكونه سالمًا عن معارضة الوجوب في الأصل فهي من جنس الكلام الأول والاعتراضُ على هذا النظم الخاص أنْ يُعْترض على القياس الوجودي الذي يذكره هنا بمثل ما اعترض به على القياس الوجودي الذي تقدَّم في إيجاب الزكاة في الحلي سواءٌ كان الاستدلال على عِلِّية المشترك عامًّا أو خاصًّا كما تقدم

فصل في توجيه النقوض

فصلٌ في تَوْجِيْه النُّقُوض اعلم أن النقض في باب القياس هو وجود الوصف المدَّعَى علةً بدون الحكم فيقال قد انتقضت العلةُ وهو خلاف انبرامها وانتظامها واطرادها لأن اطرادها جريانها في معلولاتها بحيث تكون إذا وُجِدت وُجِد الحكم كما يقال البيعُ الصحيحُ موجِبٌ لانتقال الملك إلى المشتري والقتلُ العَمْدُ العدوان المحض للمكافئ موجِبٌ لثبوت القَوَد فإذا تخلَّف الحكمُ عن وصفٍ فقد انتقض كما ينتقض السلك بذهاب بعض حبَّاته وكما ينتقض البناء بذهابِ بعضِ أركانه وكما تنتقض الدُّوَل بذهاب بعض أركانها فالنقضُ ضدُّ الإبرام ومنه قوله وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا [النحل 92] وقوله وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل 91] وقوله وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد 25]

وقوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد 20] ومثله النَّكْث لأن العهود والعقود إنما تتم بإبرامها والوفاء بها فإذا قُسِّمت فقد انتقضت وانتكثت والنقضُ يَرِدُ على الحدود وعلى الأدلة وعلى الشروط وعلى العلل وعلى كلِّ قضيَّة كلية وقد اختلفَ الناسُ قديمًا وحديثًا في العلة إذا انتقضت هل يكون ذلك دليلاً على فسادها مثل أن يقال القتل العمد موجِبٌ للقَوَد فيُقال ينتقض بقتل غير المكافئ أو يقال مِلْك النصاب النامي موجبٌ لوجوب الزكاة فيقال ينتقض بملك المدين أو ملك الحلي أو ملك الصبي والمجنون ونحو ذلك مما يُسَلِّمه أو يقال الموتُ علة لنجاسة الميت فيقال ينتقض بما لا نفسَ له سائلة وبموت الآدمي إن سَلَّم ذلك أو يقال سفح الدماء موجب لطهارةِ الجلد فيقال ينتقِضُ

بذبح المجوسيِّ والمرتدِّ والمُحْرم الصيدَ وبالذكاة في غير المحلِّ المشروع وتسمَّى هذه المسألة مسألة تخصيصِ العلة فأطلقَ أكثرُ المالكية والشافعية والحنبلية وبعضُ الحنفية القولَ بأن العلة لا يجوز تخصيصُها وأنَّ تخصيصَها ونقضَها دليلٌ على أنها ليست بعلَّةٍ تامَّة وهو أشهر الروايتين عن أحمد ثم اختلفَ هؤلاء في العلة المنصوصة على وجهين أحدهما انه يجوز تخصيصُها فلا يكون انتقاضها دليلاً على فسادها كتخصيص الصِّيَغ العامة والثاني أنه لا يجوز تخصيصُها وهي إن تخصَّصت عُلِم أن المذكور في لفظ الشارع إنما هو بعضُ العلة وتمامها وصفٌ يُخْرج صورة النقض وهذا قولُ محقِّقِيْهم وأطلقَ أكثرُ الحنفية وبعضُ الطوائف الثلاث أنه يجوز تخصيصُها وأنَّ انتقاضَها لا يُفْسِدُها إذا قام الدليل على صحتها وذكروه رواية عن أحمد ثم من هؤلاء من يقول والنقضُ لا يفسدها أصلاً ومنهم من

يقول إنما لا يفسدها إذا دلَّ دليلٌ على صحتها أما إذا ادَّعى أنها علة بمجرَّد المقارنة فإن الانتقاض يُفْسِدها وهذا قول المعتبرين منهم والأولُ لا يقوله لبيبٌ وفي المسألة أقوال ثلاثة أُخَر منهم من يجعلها تفسيرًا لكلامِ الأُوَل ومنهم من يجعلها تفسيرًا لكلام الآخرين ويحملون إطلاقاتهم عليها ومنهم من يجعلها أقوالاً أُخر أحدها أن التخصيص لا يجوز إلا لفوات شرط أو وجود مانع فإذا انتقضت العلةُ فعلى المستدلِّ أن يُبَيِّن أنَّ صورةَ النقض اختصت بفوات شرط أو وجود مانع من ثبوت الحكم فيها بخلاف الفرع فإنه ليس فيه المانع الموجود ومن الجدليين من لا يُلزم المستدل بأن يعكس علة صورة النقض في الفرع ولا يكلِّفه بيان عدم المانع في الفرع لكن تكلّف المعترض بيان وجود المانع فيه حسب وجودِه في صورةِ النقض والأمرُ في ذلك قريب والأول أقربُ إلى الإنصاف وقلةِ الأسولة والأجوبة وانضباط الكلام وهذا القولُ في الجملة قولُ طوائف من الناس حتى إن من الناس من يقول هو قول الأئمة الأربعة وهو قول عامَّة الجدليين المتأخرين العراقيين والخراسانيين حنفيهم وشافعيهم وحنبليهم وهو أصوب الأقوال وعليه يُحمل ما اختلف من كلام الأئمة الثاني أنه إذا انعطف من صورة النقض على الوصف المشترك قَيْد

لا يمنع القياس لم تفسد العلة وإلا فسدت وهذا القول قريبٌ من الذي قبله بل هو هو عند التحقيق الثالث إن كان التخصيص لازمًا على كل قول كاستثناء العقل من وجوب الجناية على الجاني واستثناء العرايا من بيع الربويّ خرصًا وبيع الرطب باليابس لم تفسُد العلة وإلا أفسدها وهذا كما تقدَّم من الناس من يجعله متفَقًا عليه ومنهم من صَوَّر الخلاف وهو التحقيق والكلامُ في ذلك طويلٌ معروف في مظانِّه لكن نحن نذكر أصلَيْن تَقِفُ اللبيبَ على الحق أحدهما أنَّ العلة إذا انتقضت في صورة ليس بينها وبين الفرع فرقٌ أو ليس بينها وبين نفيه الصور فرق فلا يشك لبيبٌ أنها ليست بعلَّة حتى لو كانت منصوصةً للعلم أن النصَّ إنَّما بَيَّن بعضَ أوصافِ العلةِ الني يُحتاج إلى بيانها وتَرَك ذكر النافي لظهوره والعلم به فإنَّ كونَها عِلة أنها موجِبةٌ للحكم ومقتضيةٌ له فإذا رأيتها قد وُجِدَت مقارِنةً للحكم تارة ووجدناها قد وُجِدت مفارقةً للحكم في مثل ما قارَنَتْه عُلِمَ قطعًا أنها ليست موجبة للحكم ولا مقتضية له إذ الإيجاب والاقتضاء حقيقة واحدة ومعنًى واحد لا يقبل التجزُّؤ والانقسام

الثاني إذا تخلَّف الحكمُ عنها في صورة من الصور لاختصاص تلك الصورة بما ينفي الحكمَ فإنَّ ذلك لا يمنع من اقتضائها للحُكْم في صورةٍ ليس فيها ما ينافي الحكم فإنَّ مَن قال أكرمتُ زيدًا لِعِلْمه أو فقرِهِ أو رَحِمِه ثم إنه لم يُكْرِم مَن ساواه في العلم أو الفقر أو الرَّحِم لفسقِه أو لعداوتِه أو لكفْرِه لم يمنع تخلُّفُ الإكرام في هذه الصورة أن يوجَدَ في محلٍّ وُجِد فيه العلم أو الفقر أو الرحم منفكًّا عن هذه الموانع والصوارف والعلمُ بذلك ضروري لكن يبقى أن يُقال فهل العِلَّةُ في الحقيقة مجموعُ وجودِ الصفات الباعِثَةِ وعدمِ الصفاتِ المانعة أو العلةُ ما ينشأ منه الباعث مع قَطْع النظر عن غيره هذا محلُّ الاختلاف بيم من يُجَوِّز تخصيصَ العلة والأمر في ذلك قريبٌ يرجعُ إلى اختلافٍ في عبارةٍ واختلافٍ في اصطلاحٍ لا يرجعُ إلى اختلافٍ في استدلالٍ ولا حكم فمن الناس من يقول العلةُ هي مجموع الأمور التي إذا تحقَّقَت تحقَّقَ الحكمُ ومنهم من يقول العلةُ هو الأمر الذي يكون وجوده مقتضيًا للحكم بحيث يُعْقَل أن يقال وُجِدَ هذا فوُجِدَ هذا ولاشكَّ أن الأول يسمَّى علة والثاني يُسَمَّى علة والأولُ أخصُّ من الثاني

فكذلك قيل هو اختلافٌ في التَّعْبير وأمَّا الاصطلاح فمن قال بالأول كلَّفَ المستدلَّ أن يحترِزَ في كلامه عن جميع الصور التي يتخلَّف الحكم فيها بحيثُ لو لأوْرَد صورةً واحدةً قد تخلَّفَ الحكمُ فيها لوجودِ مانعٍ ونحوه عُدَّ منقطعًا وهؤلاء لا يقبلون الجواب عن النقض بالفرق ولا شكَّ أن هذا وإن كان يضمُّ الكلامَ لكان فيه تطويل عظيم في العبارة وتضييع لمطلع النظر الذي هو مأْخَذ المسألة وتفريق للذِّهن بالاحتراز عن أمورٍ ليس تحتها فقه وكثير من أهل هذه الطريقة من يقنع من المستدلّ بوصفٍ مطَّرِدٍ لا يَرِدُ عليه نقضٌ وإن لم يُقِم دليلاً على صحته ولا شكَّ أن من قَنِع بالطَّرْد المحض فإنه لابد أن يمَكِّن المعترض من الاعتراض بالنقض ولابدَّ أن يجعل النقض دليلاً على البطلان وإلا لوضع كلُّ أحدٍ له مذهبًا من غير دليل وهذه الطريقة كانت هي الغالب على العراقيين وكثير من الخراسانيين في حدود المائة الرابعة وقبلها وبعدها ومن قال بالثاني لم يكلِّف المستدلَّ الاحتراز عن صورة النقض لكن يكَلِّفه بيان الفرق في صورة النقض بين الفرع وغيره من صور وجود الحكم ومتى لم يُفَرِّق انقطع وهؤلاء لا يطالبون المستدلَّ بالطَّرْد لكن يطالبونه بما يدل على تأثير العِلَّة وصحتها ويبقى النظرُ في الجوامع والفوراق وأنها أحقّ بالاعتبار

وهذه الطريقة التي اصطلح عليها عامَّةُ المتأخرين من الجدليين في عامة الأمصار ولا شكَّ أنها أقرب إلى طريقة الأوَّلين من السلف فإنهم لم يكونوا يُحَرِّرُون العبارات الطويلة الجامعة بين الأصل والفرع وإنما يذكرون الجوامع والفوارق مُنَبِّهين على مآخِذ الأحكام ومشيرين إلى مدارك الشريعة وهي أيضًا أقربُ إلى طريق النظر والاجتهاد فإن المستدلَّ بينَه وبين نفسِه لا يحتاج إلى النظر في الأشياء الخارجة عن المقصودِ الخاصِّ بتلك المسألة لكن آفةُ هذه الطريقة الاستدلالُ على عِلِّية المشترك بمجرَّد ما يدَّعِيْه من المناسبة العامة والدوران العام كما يفعلُه هؤلاءِ أربابُ الجدلِ المُحْدَث وأن هذا لا يُقْبَل حتى يُبَيِّن أن الشارع يعتبر مثل ذلك المناسب بِعَينه في غير الأصل المقيس عليه فإن أقرَّ أنَّ الحُكْمَ به في الأصل يعارضه تخلُّفُ الحكم عنه في صورةِ النَّقْض فليس أن يكون علة للمقارنة في صورةٍ أخرى فإنَّ عدم الاقتران يدلُّ على عدم التأثير أبلغ من دلالة الاقتران على التأثير فلابُدَّ حينئذٍ من تحقيق المناسب ولا يُكْتَفَى ممن يدَّعي المناسبةَ مجرَّدُ ذِكْر صفة عامة تختلف في الحكم لمراتٍ متعددة وأما الدوران فأبعد وأبعد فإنَّ الحكم لم يَدُر مع الوصف في جميع الصور غير صورة النزاع ليستدل بكونه مَدَارًا في تلك المواضع

على العِلِّية فإذا رأينا الوصفَ موجودًا ثمَّةَ لم يكن مدارًا قال الجدليُّ ثم النقض قد يكون معيَّنًا مفردًا كان أو مركبًا وقد لا يكون كذلك واعلم أنَّ المعترض إذا ذكر أن الحكم متخلِّف عن الوصف المدَّعَى علةً فإمَّا أن يعيِّن الصورة التي تخلَّف فيها وإما أن يبهمها والثاني هو النقض المجهول كما سيأتي والأول على قسمين لأنه إما أن يُنقضَ بصورةٍ تخلَّفَ الحكمُ عنها والمأْخَذُ واحد عند الاثنين وإما أن ينقضَ بصورةٍ اتفقَ الحكمُ فيها مع الاختلاف في المأْخَذ كحُلِيِّ الصَّبِيَّة فإنَّ عدمَ الوجوبِ فيه عند أهل العراق لكونه مالَ غيرِ مكلَّفٍ وعند كثير من أهل الحجاز لكونه حُلِيًّا وكذلك بنت خمس عشرة إذا كانت بكرًا فإنَّ العراقيَّ يُجْبرها لاعتقاده أنها لم تبلغ والحجازيُّ يُجْبرها لاعتقاده أنها بكر ثم قد يكون الاتفاق في الحكم ثابتًا بنفسه مع قطع النظر عن

المأْخذ وذلك بكون الحكم منصوصًا عليه أو مجمعًا على عينِ تلك الصورة إجماعًا متلَقًّى عن السَّلَفِ الذين لم يُفْصِحوا بالمأْخّذِ كالإجماع على أنَّ المُعْتَقة تحتَ عبدٍ لها الخيار مع الاختلافِ في المأْخَذِ هل هو لكونها ملكتْ نفسَها أو لكون الكفاءة قد سُلِبت وقد يكون الاتفاق في الحكم تابعًا للمأْخَذ وإنما وقع الاتفاقُ بحكم الاتفاق وهذا هو التركيبُ الحقيقيُّ كالصورة الممثَّل بها وأما الأول فليس في الحقيقة بتركيبٍ ومن المركبات ما هو أشنع من هذا وهو أن يجمع بين صورتين مثل أن يقول مسَّ ذكرَه أو أكَلَ لحمَ الإبل فانتقضَ وضوؤه كما لو مسَّ وقَهْقَه أو أكَلَ لحمَ الإبل أو مسَّ النساءَ لغير شهوة والتركيبُ على قسمين تركيب في الأصل كما ذكرناه وتركيبٌ في الوصف والقياسُ المركَّب قد اخْتُلِف في جواز استعماله في الجدل والمحقِّقُون لا يرضونه وأما بناءُ الأحكام فعليه فتوى وحكمًا للناظر المجتهد فقد حكوا الاتفاقَ على المنع من ذلك وأما أصحاب هذا الجدل فإنهم يعنون بالنقض المفرد ما كان على احد المذهبين وبالنقض المركب ما كان على المذهبين جميعًا

قال المصنف أما المعيَّن فمثاله أن يقال لا يضاف الحكمُ إلى المشترك فيما إذا قاس الحُلِيّ على المضروب بدليل التخلُّفِ في فصل اللآلئ والجواهر إذ المشترك متحقِّق ولا حكمَ فيه اعلم أن النقض المعروف عند أهل الفقه والأصول والجدل إنما يكون على الوصف الذي ادعاه المستدلُّ جامعًا وذلك إنما يكون غالبًا بعد تصريحه بالجامع فأما إن وُجِد معنى الوصف المذكور ولم يوجد لفظُه فإنهم يسمونه كسرًا ومبناه على أن يحذف المعترضُ لفظًا من الجامع ببيان عدم تأثيره ثم يبين انتقاض العِلَّة بدونه مثال ذلك إذا قال مالٌ من جنس الأثمان بلغ نصابًا فوجبت الزكاة فيه كالمضروب فهذا لا ينتقض بالحلية الجوهرية لأنها ليست من جنس الأثمان ولم يتخلَّف الحكمُ عند المستدلِّ في صورة من الصور فإن أراد إيراد الكسر على وقوع تعسف قال قولك من جنس الأثمان لا أثرَ له لوجوب الزكاة في المناسبة يبقى قولك مال بلغَ نصابًا وهذا منتقضٌ بالحِلْية الجوهرية أو يقال ابتداء هذا ينكسر باللآلئ والجواهر على أنه لا فرق بين كسره بالحلية الجوهرية وبسائر الأموال غير الزكوية فلا وجه لتخصيصه باللآلئ والجواهر

على أن جوابَ هذا أن يقال ما ذكرتَه من العلة فقد دلَّ عليها إيماءُ الشارع بل نصُّه ودلت عليها المناسبة وثبوت الحكم بدونها لعلةٍ أخرى وهو أنَّ كلَّ من ملك النصاب من جنس الأثمان ومن المشية ومن عروض التجارة موجبٌ للزكاة فتكون العلةُ غيرَ منعكسة والعكسُ غيرَ واجب لجواز تعليل الحكم الواحد بالنوع بعللٍ متعددة إذا علمتَ هذا تبيَّن ل كان النقض في هذا المثال المذكور لا يَرِدُ على قياس صحيح وإنَّما صورةُ ورودِ النقضِ أن يقيس القائس بجامع جُملي كما تقدَّم ذِكْر المصنف له في فصل القياس بأن يقول الوجوبُ ثابت في المضروب فكذا في الحُلِي بالقياس عليه بجامع ما يشتركان فيه من تحصيل المصلحة الناشئة من الإيجاب من تطهير المزكِّي وتحصين المال وشُكْر النِّعمة وإِغناء المحاويج ونحو ذلك من الجوامع التي لا تختصُّ بمالٍ دون مال ولا بحالٍ دون حال وقد عرفت فيما تقدم أن هذا قياسٌ فاسد والنقضُ الذي ذكره المصنف يَرِدُ على هذا الضرب من القياس بأن يقال لا يضاف الحكمُ إلى المشترك وهو تحصيل المصالح المذكورة بدليل تخلُّف الحكم عن تحصيل هذه المصالح في فصل اللآلئ والجواهر إذ المشترك

وهو تحصيل المصالح بتقدير الوجوب أو كونه سببًا لحصول المصالح بتقدير الإيجاب متحقِّق في الجوهر والوجوبُ منتفٍ وهذا نقضٌ صحيحٌ لمثل ذلك القياس فإنَّ الأمرَ الجامع الذي به جَمَع المقابلة بين الأصل والفرع موجودٌ في عدة مواضع قد اقترنَ الحكمُ به في بعضها وتخلَّف عنه في بعضها فلو كان علة لما تخلَّف الحكم عنه لأن معنى العلة هو الأمر الذي يكون موجِبًا للحُكم ولأنه ليس الاستدلال على اعتبار الشرع المشترك العام لاقتران الحكم عنه في صورة أخرى بل دلالة التخلُّف على عدم كونه علةً أولى من دلالة الاقتران على كونه علة لأن علة الحكم قد تقترن بها صفات كثيرة إما أعمّ منها أو أخص منها أو مساوية لها غير مؤثرة في الحكم أمَّا أنَّ الموجب المقتضي للحكم يتخلَّف الحكم عنه لا لمانع فهذا لا يكون أبدًا قوله ولئن قال لا نسلِّم بأنَّ التخلُّف مما يُخْرِج المعنى من العِلِّية بل التخلف لا لمانع مختص إذ التخلُّف لمانع مختص يصادف مطلق التخلُّف والمانعُ المختصُّ متحقِّق في فصل اللآلئ والجواهر إلا لثبتَ الحكمُ فيه فنقول لا يتحقَّق وإلا لوقع التعارض بين المقتضي والمانع

حينئذٍ على ما عُرِف في التلازم سؤالاً وجوابًا اعلم أن كلامَ هؤلاء مبنيٌّ على أن تخصيصَ العلةِ لمانعٍ مختصٍّ بصورة التخصيص جائزٌ وهذا مذهب حَسَن فقال السائل لا نسلِّم أن مطلق التخلُّف يخرج المعنى من العِلِّية بل إنما يخرجه التخلفُ لا لمانعٍ مختصٍّ بصورةِ النقض لأنه إذا كان التخلُّف لمانعٍ مختصٍّ بصورةِ التخلف أُحِيْل التخلُّفُ حينئذٍ على وجودِ ذلك المانع وكان في ذلك جَمْع بين الدليل المقتضي لصحةِ العلَّة والدليلِ المقتضي لعدم الحكم في صورة النقض بخلافِ ما إذا أبطلنا العلة بالكلية فإنَّه يكون إبطالاً لدليلِ صحةِ العلة ولأن الأدلة جميعها من الأصل الموجب للحقيقة والنافي للاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار والتقديم والتأخير والموجب لحَمْل الأمر على الإيجاب والإجزاء وحَمْل النهي على التحريم والفساد كلُّها قد تتخلَّف عنها مدلولاتُها لمانعٍ ومعارضٍ فكذلك العلة لأنها دليل من أدلة الشرع وبين العلة والدليل فرق لكن ليس هذا موضعَ إشباعِ الكلام في ذلك وقوله إذ التخلُّفُ مختصٍّ يصادف مطلق التخلف كأنه ردٌّ لقوله التخلُّف يمنع الإضافة إلى المشترك يقول التخلُّف لا لمانع مختصٍّ يصادفُ مطلقَ التخلُّف لأن وجودَ المعيَّن مستلزم لوجود المطلق ومع هذا لا يكون مانعًا فلا

يكون مطلق التخلُّف مانعًا هذا كلامٌ جيد ثم قال والمانع المختصُّ متحقق في فصل الجوهر لأنه لو لم يكن متحقِّقًا لوجبت الزكاة فيه عملاً بالمقتضي لوجوبها التي تقدمت الدلالة عليه وهذا الكلام يتوجَّه في موضع ثبتت فيه المناسبةُ بتأثير الوصف المناسب وحدَه في موضع آخر أما في مثل هذه المناسبات التي توجد في صُوَرِ وجودِ الحكم وصُوَر عدمه فلا يصح لوجوه أحدها ما ذكرَه المصنِّف وهو أن يُقال لو تحقق المانع في صورة التخلُّف مع قيام المقتضي فيها لوقعَ التعارض بينهما وتعارضُ الأدلة على خلاف الأصل وهذا الكلامُ هنا جيد بخلاف ما تقدم في التلازم فإنَّا قد بيَّنَّا هناك أنه يلزم المستدل مثل ما يلزم المعترض وهنا لا يلزم موجِّه النقض مثل هذا الكلام لأنه يقول عدم الوجوب في صورة التخلُّف إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع فإن كان لوجود المانع لزم محذور الترك وإن كان لعدم المقتضي لم يلزم المحذور فيكون أولى الثاني أن يقال المناسبة التي ادَّعيتها مقتضية للوجوب وهي موجودة في الأصل وفي صورة التخلف ومعلومٌ قطعًا أنَّ مثل هذا لا يفيدُ ظنَّ كون ذلك المناسب هو العلة فإن مَنْ دَخل عليه رجلان عالمان أو فقيران فأعطى احدَهما ولم يعطِ الآخر لا يمكن

بمجرَّد ذلك أن يقال إنما أَعْطى هذا لكونه عالمًا أو فقيرًا وحَرَم الآخر لمانعٍ فيه فِسْق أو عداوة بل ذلك معارَضٌ بأن يقال يجوز أن يكون أعطى المُعْطَى لقرابته أو صداقته أو إحسانه إليه لا سيما إذا عَلِم وجود هذه الأسباب المناسبة وفي هذا الموضع كما أن عمومَ تحصيل المصلحة مناسب فتحصيل المصلحة من المال النامي مناسبٌ أيضًا والحكم مقارن لخصوص هذا الوصف دون عموم الآخر الثالث أن يقال الأصل ينفي وجود المقتضي ووجود المانع وأنت تدَّعي ثبوتَهما جميعًا فيكون قولُكَ مدفوعًا بالأصل النافي الرابع قولُك لو لم يكن المانعُ موجودًا لثبتَ الحكمُ في البعض إنما يتم كونه علة إذا علم أن التخلُّف إنما هو لمانع فلو استدللنا على كون التخلف لمانع بكون المشترك علةً لزم الدور لأنَّا لا نعلم العلة فلئن قال المناسبةُ دليلُ العلة قلنا إنما تكون المناسبة دليلاً مع الاقتران وإنما يتم الاقتران إذا لم يتخلَّف الحكم إلا لمانع فعاد الدورُ جَذَعًا الخامس أن يقال المناسبة والتخلُّف دليلان على عدم العِلِّية لأن الإيجاب ضرر والمناسبة مع الاقتران دليل واحد على الإيجاب

والعمل بدليلين أولى من العمل بدليل واحد فإن قال لا أُسَلِّم ثبوتَ المناسب لعدم الوجوب لئلا يلزم التعارض قيل المعارض لازم على ما ادَّعَيتَه وعلى ما ادعيناه ونفي رجحان الدليلين من جهتنا قوله وكذلك إذا ادَّعى الحُكم في النقض على تقدير الإضافة والخصمُ يمنعه معناه أن المستدلَّ يدَّعي الحُكم في صورة النقض بتقدير إضافة الحكم إلى المشترك بين الصُّوَر أعني الأصلَ والفرعَ وصورة النقض والخصمُ يمنعُ الحكمَ مطلقًا بان نقول الحكم في صورة النقض إما أن يكون مضافًا إلى المشترك أو لا يكون مضافًا فإن لم يكن مضافًا إليه لم يلزم النقض وإن كان مضافًا امتنع الحكم على هذا التقدير ولا يلزمني المنع في نفس الأمر لأن هذا التقدير غير واقع عندي لأن الحكمَ في صورة النقض غير مضاف إلى المشترك لوجود ما يمنع إضافته إليه فإن الإضافة إلى المشترك مشروطة بعدم المانع ولاشك أن هذه الدعوى تُرَدّ بعين ما رُدَّ به الكلام الأول مع ضعف الأول

قوله أو يقال لا يُضاف إلى المشترك إذ لو أُضيف لكان المشترك علة ولو تحقَّق أحدُهما وهو إما الإضافة أو العلية لثبتَ الحكمُ ثمةَ عملاً بالعلة ولم يثبت فلا يضاف هذا توجيهٌ ثانٍ للنقض وهو أن يقول لا يضاف الحكمُ إلى المشترك بين الصور لأنه لو أُضيف لكان المشترك علة لأن الحكمَ إنما يضافُ إلى عِلَّته ولو تحقَّقَت إضافتُه إلى المشترك أو كون المشترك علة لثبتَ الحكمُ في صورة النقض فلا يضاف إلى المشترك يعني أنَّ كلَّ واحد من هذين وجبَ الحكمُ في صورة النقض قوله أو يقول لو أُضيف لكان الحكم ثابتًا هنا ولو ثبتَ أحدُهما وهو إما اللازم أو الملزوم لثبت ثَمَّة هذا توجيهٌ ثالثٌ يقول لو أُضيفَ إلى المشترك لكان الحكم ثابتًا هنا يعني صورة النزاع ولو ثبتَ اللازم وهو صورة النزاع أو الملزوم وهو الإضافة إلى المشترك فظاهر وأما على تقدير ثبوت الحكم هنا فلأنَّ ثبوتَه هنا مستلزم لِعلِّية المشترك إذ لو فُرِضَ عدمُ ذلك لَعُدِم الحكم هنا وعلِّية المشترك مستلزمة للحكم في صورة النقض

ولازم اللازم لازم هذا الذي يُفْهم من هذا الكلام وفيه تطويل لا حاجة إليه كما ترى وإن كان عَنَى بقوله لكان الحكم ثابتًا هنا صورةَ النقض فهو أيضًا تطويل بارد ويكون اللازم في المقدمة الثانية هو الملزوم على أحد التقديرين لأن معنى الكلام حينئذٍ لو أُضيفَ لكان الحُكم ثابتًا في صورة النقض ولو ثبت أحدُهما إما الإضافة أو الحكم في صورة النقض لثبت في صورة النقض قوله هذا إذا يمسَّك بدليلٍ خاصٍّ أما إذا تمسَّك بالدليل العام فذاك معارَضٌ بمثله فلا تفاوتَ في التوجيه بين ما ذكرناه اعلم أنَّ الكلامَ الذي ذكره هذا الجدليُّ لا فرق فيه بين التمسُّك على علَّة الأصل بدليل عامٍّ أو خاص والخاصُّ ما يدلُّ بخصوصه على أن المشترك بين الأصل والفرع علة والعام هي المناسبات العامة ونحو ذلك كما ذكره المصنف في فصل القياس لكن الدليل العام يُعَارَض بمثله بأن يقال لا تجب الزكاة في الحلي بالقياس على الحلية بجامع ما يشتركان فيه من دفع المفسدة الناشئة من الإيجاب وهو الضرر الحاصلُ منه للمكلَّف وهو تنقيصُ ماله وتعريضه للعقاب بتقدير الترك وتعريضُه للحاجة إلى الناس وغير ذلك

من المفاسدِ المشهودِ لها بالاعتبار في صُور عدم الوجوب فإذا انقضت عِلِّية صور الوجوب قال التخلُّف هناك لمانع وهو المقتضي للوجوب فيقال له هذا يلزم منه التعارُض بين المقتضي والمانع ويُسَاقُ الكلامُ إلى آخره وهو قوله ولا تفاوت في التوجيه واعلم أنه إن كان الدليل على صحة القياس عامًّا فهو فاسد لأنه معارَضٌ بمثله أيضًا وهو أن يقاس الفرع على صورة النقض بجامع خاصٍّ مدلولٍ على علِّيَّته بدليل خاص لكن هذه المعارضة لا تُخْرج القياسَ عن أن يكون دليلاً صحيحًا لأنه الدليلُ الدالُّ على صحة الجامع بين الفرع وصورة النقض لكن هذه معارضة بدليل آخر كما لو عارضه بالقياس على أصلٍ آخر غير صورة النقض أو بالقياس على أصل المستدل إما بعلِّيَّة أو بغير عِلِّيَّة ومنه القلب أو عارَضَه بعموم أو مفهوم ونحو ذلك وحينئذٍ فيحتاج المستدل إما إلى إفسادِ ما عارضَ به المعترض أو إلى ترجيح دليله على دليله ومتى لم يطعن فيما عارضَ به المستدل ولم يرجِّحْه كان منقطعًا وأما الدليلُ العامُّ فإنه بعينه يدلُّ على الشيءِ ونقيضِه فيعلم أنه في نفسه باطل لأن الحق لا يستلزم النقيضين فمتى رأينا الشارع قد أثبتَ

الوجوب في بعض الأموال ونفاه في بعض الأموال ثم تنازعنا في مالٍ ثالث فمَنْ أَلْحقه بصورة الإيجاب بمعاني يشترك فيها عموم الأموال كان بمنزلة من نفى عنه الوجوب بمعاني يشترك فيها عموم الأموال لأن المعاني التي يشترك فيها جميع الأموال موجودة في صُوَرٍ في الوجوب وعدمه فليس إلحاق مال ثالث بأحدهما للمعاني التي اشتركت فيها بأولى من إلحاقه بالآخر للمعاني التي اشتركت فيه وأيضًا فإن المعاني المشتركة هي المقتضية للحكم الموجبة له فلو جاز إضافة الحكم إليها للزم أن يُضاف إليها الوجوب وعدمه فتكون موجبة للنقيضين فعُلِمَ من هذا أن الموجِبِ أمورٌ خاصَّة توجد في بعض الأموال وأنَّ المانع أمور خاصَّة تختصُّ ببعض الأموال ويبقى النزاع هل صورة الخلاف من قبيل ما فيه الأمور الموجبة أو من قبيل ما فيه الأمور المانعة واعلم أنَّا قد بيَّنَّا من قبل أنه إذا بيّن صحة القياس بدليل خاص وجمع بين الحُلِيّ والمضروب بوصفٍ يختصُّ بهما امتنعَ النقضُ على المعترض لعدم وجود المشترك الخاص بينهما في صورة النقض فقول المصنِّف هذا إذا تمسَّك بدليل خاص ليس بجيِّدٍ في هذا المثال وهو قد مثَّل به وإنما أُتيَ من حيث إن هذا الكلام يتمُّ في صورة أخرى

ثم أن يقول في مسألة البكر البالغ بالغة فلا تُجْبَر على النكاح قياسًا على الثيِّب فيقال له ينتقض بالمجنونة فيقول التخلُّفُ هناك لمانع مختصٍّ وهو الجنون أو يقال في مسألة المستدل قَتْل عَمْدٌ عدوان محض فأوجب القَوَد كالقتل بالمحدَّد فيقال له ينتقضُ بقتل الكافر والعبد والابن فيقول التخلُّف هناك لفوات الشرط وهو المكافأة وفواتُ الشرط مانعٌ مختصٌّ أو يقول في زكاة الحليّ أو زكاة مال الصبيّ مالكٌ لنصاب نامي فوجبت فيه الزكاة قياسًا على المضروب وعلى مال المكلَّف فإذا نَقَضْتَ عليه بمال المدين أو بالمغصوب والمجحود وكل ما لم يَقْتَضِ ولم يمنع الحكم قال التخلُّفُ هناك لمانعٍ مختصٍّ وهو الدَّين أو لفوات شرط وهو اليد واعلم أنه إذا دل المستدلُّ على صحة علته وبيَّن أن التخلُّف مانع مختص بين وجوده على وجه الاختصاص في صورة النقض وبين

أنه مانع كان الجوابُ الذي ذكره المصنف باطلاً وهو لزوم المعارضة بين المقتضي والمانع كما تقدم تقرير مثل ذلك في الملازمة وغيرها من وجوه مثل أن يقال التعارُضُ بين المقتضي والمانع ثابت في نفس الأمر فلا يضرني التزامه لأن الشيءَ إذا وقع لم يجز أن يستدل على عدم وقوعه ألبتة ومثل أن يقال ما ذكره من الدليل على علة المشترك راجحٌ على النافي لأن النافي للتعارض إذا تُرِك لم يلزم منه إلا ترك ضَعْف الدليلين لوجود أقوى منه وهذا كثير أما الدليلُ على عِلِّية المشترك فلو تركته لتركته لتعارضٍ وذلك لا يجوز ومثل أن يقال التعارض واقع لا محالة إما بين ما ذكرته دليلاً على العلة وبين النافي للتعارض وإما بين العلة وبين المانع وإذا كان لازمًا لك كلزومه لي لم يجز إبطال دليلي به ومثل أن يقال الدالُّ على صحة العلة إنما يدل على إثباتها للحكم إذا استجمعَ شروطَه وسَلِمَ من موانعه فإذا وُجِدَ مانعٌ مختصّ كان وجوده مخلًّ بشرط اتباع موجب العلة فلا يكون ذلك معارضة ولهذا ترجع المانع على المقتضي وإنما المعارضة أن يكون كلٌّ من الدليلين يقتضي العمل مطلقًا وهذا تحقيقٌ جيَّد لكنه يحتاج إلى بيان أن دليلَ العلةِ لا يثْبُت مع وجود المعارِض

ومثل أن يقال التعارض وإن كان على خلاف الأصل لكن القول بوجوده واجب إذا قام دليل وجوده وقد قامَ دليلُ وجود التعارض لأني قد أقمتُ الدليلَ على وجود المقتضي لوجوب الزكاة ووجود المانع منها في صورة النقض ومثل أن يقال لازم التعارض ترك الدليل في صورة النقض ولازم ترك ما ذكرته من الدليل ترك العمل في صورتي الأصل والفرع وترك العمل بالدليل مرَّتين أشد محذورًا من ترك العمل به مرة واحدة وهنا أجوبة كثيرة وقد تقدَّم بعضُها واللبيبُ يتفطَّنُ لباقيها قوله والمركَّب كحليِّ الصبيَّةِ مثلاً غير أنَّ الجواب عنه أن يقال الوجوب في المضروب من أموال الصبية لا يخلو إما أن يكون ثابتًا أو لم يكن فإن كان ثابتًا فلا نُسَلِّم تحقُّق العدم في تلك الصورة وإن لم يكن ثابتًا فيها كان الفرع راجحًا على النقض وإلا لثبتَ الوجوبُ ثمةَ بالقياس على الأصول ولم يثبت هذه هو الكلامُ في النقض المركَّب والقولُ في صحته كالقول في صحة القياس عليه وقد تقدَّم أنَّ المحققين لا يستحسنون الكلام

عليه لا قياسًا ولا نقضًا لأن حاصله استدلال بِغَلَطِ خصمِك في مسألةٍ على صواب نفسك في مسألة أخرى ومعلومٌ أن هذا ليس بدليل ولهذا أجمعَ الناسُ على أنه لا يجوزُ الاستدلالُ به على الأحكام الفقهيَّة للناظر المجتهد بحيث يُسْنِدُ إليه اعتقادَه قولاً وفعلاً فتوى وحكمًا وذلك لأنك إذا قِسْتَ عدم الوجوب على العِلِّية أو نقضت به فإن المجادل لك يقول أنا إنما نفيتُ الوجوب عن حُليِّها لاعتقادي أن الزكاة إنما تجبُ في مال المكلِّفين فإن كنت موافقي على صحة هذا الاعتقاد لزمك عدم الإيجاب في ماشيتها وأنتَ لا تقولُ به وإن كنتَ معتقدًا لخطئي في هذا الاعتقاد فليس لك أن تبني على أصلٍ تعتقد خطأ مؤصِّله أو تنقض به قياسًا قامَ دليلُ صحته وذهبتْ طوائفُ من الجدليين المتقدِّمين من نحو المائة الرابعة والمتأخرين إلى استعماله في المجادلات والمناظرات لأن المستدلَّ يقول قد توافقتُ أنا وخصمي على أنَّ حُلِيّ الصبيَّة لا زكاة فيه وإن كان مَدْرَكي غير مَدْركه فمتى انتقضَ قياسُه بهذه الصورة كان قياسًا فاسدًا ومتى قِسْتُ عليه كان قياسي صحيحًا ومَنْعُ الحكم فيه على تقدير صحة عِلَّتي غير مقبول لأن إمامه أو لأنه يُثبتُ الحكمَ فيه مطلقًا فإذا بان فسادُ مأْخَذِه تعيَّن صحةُ مأخذي ولأني وإياه اتفقنا

على الحكم فيه وهو يدَّعي القولَ به منضمًّا إلى جملةِ أقواله فإذا أثبتَ أنه يلزمه ترك القول به أو ترك القول ببعض أقواله التي هي من لوازمه مأْخَذِه فقد حصل الغرض وهذه المنفعة حاصلها بيانُ فسادِ أحدِ مذهبي الخصم من غير تعيين ولا يدلُّ ذلك على صحة قولٍ مُعيَّن للمستدل واعلم أنه إذا كان التركيبُ بين المتناظرين فقط كانت مناظرةً جدليَّةً محضة ولعلَّ الحقَ يكونُ في غير القولين وإن كان التركيبُ بين الأمة فهو أقوى لامتناع أن يكون الحكم في صورة التركيب خلافَ ما أجمعوا عليه ورُبَّما يُجْعَل دليلاً حقيقيًّا على المسألة بأن يقال هذه الحادثة قد اتفقت فيها أقوالُ العلماء على هذا الحكم بأن يُقال الصبيَّةُ لا زكاة في حُليها بالاتفاق وخضروات الأرض الخراجيَّة لا عُشْرَ فيها بالاتفاق والإجماعُ حجةٌ قاطعة فالعلةُ إما كونه حُليًّا وإما كونه مالَ صغير لكن كونه مالَ صغيرٍ لا يجوز أن يكون علة فتعيَّن القولُ الآخر ويلزم من صحَّته سقوطُ الزكاة في جميع الحُلِي وهل لأحدٍ أن يوجبَ الزكاةَ فيها بناءً على موافقة أحدهما في مسألة والآخر في مسألة أخرى هذه من فروع ما إذا اختلفوا في مسألتين على قولين كن هنا القول بالتفريق أبعد لكونه مستلزمًا لمخالفة الإجماع في صورةٍ من الصور لكن جواب هذا أن الإجماع هنا يمنع من توابع ذلك الخلاف

وفيه نظر ولا يكاد هذا ينضبط إلا أن يُعْلَم أن كلَّ من كان في إحدى المسألتين من طرف كان في المسألة الأخرى من الطرف الذي بانضمامه إلى ذلك الطرف يتأَتَّى ذلك الحكم وإن لم يُعْلَم هذا يصير اتفاقًا بين المتناظرين فقط وتلك مناظرة إلزامية لا علمية واعلم أن مسألة الحلي قد يمنع فيها لأن للشافعي وأحمد قولاً بوجوبِ الزكاةِ في الحلي فحينئذٍ يصيرُ في حُلِيِّ الصبيَّةِ خلافٌ مثال ذلك إذا قال الزكاة واجبة في الحليِّ قياسًا على المضروب بجامع ما يشتركان فيه من كونهما من جنسِ الأثمان ونحو ذلك من الجوامع قال المعترض ينتقضُ بحليِّ الصبيَّة فإن الزكاة لا تجب فيها إجماعًا وكذلك أيضًا لو ادَّعى وجوبَ الزكاة على المَدِيْن فنقض عليه بالصغير والمجنون المَدِيْنَيْن وكذلك لو ادَّعى وجوبَ الزكاة فيما لم تَثْبُت عليه اليدُ من عِوَض الخُلْع والصَّدَاق وثمن المبيع والموروث أو وجوبَ الزكاة فيما لا يقدر على قبضِه كالضالّ والمغصوب ونحو ذلك فنقض عليه بمال غير المكلَّف أو نقضْتَ عليه في صورةٍ ادَّعى فيها الوجوب بعدمِ الوجوبِ قبل الحلول أو بعدم الوجوب فيما دون النصاب أو بعدم الوجوبِ قبل بعثة الرسول

وهذا نقضٌ باردٌ جدًّا يتبيَّنُ من له أدنى فَهْم أنه كلامٌ ركيك وفيه تضييع الزمان وخروجٌ عن مقصود المسألة وهو في الحقيقة ليس بنقضٍ أصلاً وبيانُ ذلك من وجوه أحدها أن المستدلَّ يقول لم ادَّعِ وجوبَ الزكاة في كلِّ حُليٍّ ولا نصبتُ الدليلَ على ذلك فإنه من المعلوم أن حليَّ الكفار الذي في المغانم وبيت المال ونحو ذلك لا زكاة فيه وعبارتي لم تدل على ذلك لأني إنما قلتُ الحلي يجب فيه الزكاة واللام في الزكاة للتعريف والزكاةُ المعروفة هي التي أَوجبها الله وهي إنما تجبُ على مالٍ مخصوصٍ بشروط مخصوصةٍ أو الزكاة المعروفة إنما تجب على من تجب عليه زكاة المضروب إذ عندي أن الزكاة التي أوجبها اله لا تجب في مال الصبي والمجنون ومن قال الزكاةُ تجب في هذا أو لا تجبُ لم يكن عليه أن يتعرَّض بشروط الوجوب التي لا تختصُّ بتلك المسألة للعلمِ بأن ما لم يوجد فيه تلك الشروط لم يكن فيه زكاة الثاني أن يقول إنما قلتُ الزكاةُ واجبة في حليِّ النساءِ ومعلومٌ أن هذا يحصل بإيجابه في حليِّ امرأة واحدةٍ لأن اللام لتعريف الحقيقة والماهية والحقيقة تحصل بحصول فردٍ من أفرادها فإذا وجبت زكاةٌ في حليِّ امرأة صحَّ أن يقال وجبتِ الزكاةُ في حُليِّ

النساء وذلك لأن اللام ليست للاستغراق لأن الزكاةَ الواجبةَ في النوع الواحد ليست أنواعًا وإنما هي نوع واحد الثالث أن يقال من فصيح الكلامِ وجيِّدِه الإطلاقُ التعميمُ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة وكلام العلماء بل وكلِّ كلامٍ فصحيح بل وجميع كلام الأمم فإن التعرُّضَ عند كلِّ مسألةٍ لقيودها وشروطها تَعَجْرُف وتكلُّف وخروج عن سَنَن البيان وإضاعةٌ للمقصود وهو يُعَكِّر على مقصود البيان بالعكس فإنه إذا قيل تجب الزكاة في الحُليِّ فقال إن كان لامرأة مسلمة ليس عليها دين حالٌّ لآدمي يُنْقِضُ زكاةَ المال عن أن يكون نصابًا وحالَ عليه حولٌ لم يخرج عن ملكها ويدُها ثابتةٌ عليه وجَبَتْ فيه الزكاة كان ذلك لُكْنَةً وعِيًّا وقد لا يستحضر المتكلِّمُ جميعَ الشروط والموانع فإنَّ هذا في كثير من المواضع لا يكادُ ينضبط بل من فصيح الكلام أن من تكلَّم في شيءٍ كجهة من الجهات لم يلتفت إلى غير تلك الجهة وإذا كان كذلك فقد عُلِم أنَّ قصدي إنما هو الكلامُ في إيجاب الزكاة في الحُليِّ المعدِّ لاستعمالِ المباح في الجملة من غير تعرُّضٍ لشروط الوجوب

وموانعه فلا يجوز أن يُنْقَض كلامي عليَّ بِصُورة عُدِمَ فيها شرطُ الوجوب أو وُجِدَ فيها مانِعُه فإنَّ كلامَ صاحب الشريعة خارجٌ على هذا الوجه كقوله صلى الله عليه وسلم في كلِّ أربعين شاةً شاةٌ وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مَخاض وفي ثلاثين من البقر تَبيْع وفي الرِّقَة رُبْعُ العشر ولم يقل إذا كانت ملكًا لمسلم لا دَيْن عليه وحالَ عليها الحول وكانت ملكًا لمكلَّف ونحو ذلك لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الناس يعلمون أنه إنما قَصَد بيان مناصب الصدقة وفرائضها دون التعرض لسائر أحكامها وكذلك قولُه لَيْس فيما دون خمسةِ أَوْسُقٍ صَدَقة وليس فيما

دون خمس ذَودٍ صَدَقة وليس فيما دُوْن خمسِ أوَاقٍ صدقة ولم يقل إلا أن تكون للتجارة لعلمه بأنهم يعلمون أنه إنما يكون في الزكاة المتعلِّقة بالعين وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما سَقَتِ السَّماءُ والعيونُ أو كان عثريًّا العشر وفيما سُقِي بالدوالي والنواضح نصف العشر ولم يقل إذا كان مكيلاً مدَّخرًا أو مكيلاً مقتاتًا مدَّخرًا وإلا الحطب والحشيش والقصب لعلمه بأنهم يعلمون أنه إنما قَصد بيان ما يختلف به مقدار الواجب لا بيان أنواع ما يجب فيه ومن تعرَّضَ للكلام في مقدار الواجب لا يستوفي الكلامَ في الأنواع الواجبة الرابع أن اللام في الحلي يجوز أن تكون للجنس ويجوز أن تكون للعهد وإذا كان معهودًا فهو أولى من الجنس وهنا معهودٌ يعودُ الكلام إليه وهو الحُلي الذي فيه النزاع أو الحُلي الذي لو صِيْغ لوجبت فيه الزكاة أو الحُلي الذي تجب الزكاة في سائر ملك مالكه أو الحلي الذي اجتمعت فيه شروط الوجوب وهذا ظاهر الخامس الجواب الذي ذكره المصنف وهو أن يقال إما أن يكون الوجوب في مضروب الصغيرة ثابتًا أو غير ثابت فإن كان

ثابتًا فلا يُعلم تحقق العدم في حُلِيها لأني إنما استدللتُ على وجوب الزكاة في حُلِيّ من تجب الزكاة في مضروبه فإذا كانت ممن تجب الزكاة في مضروبها وجبت الزكاةُ في حُلِيها وإن لم يكن الوجوب في مضروبها ثابتًا فأولى أن لا تجب الزكاة في حليها وإذا لم تجب الزكاةُ في مضروبها ولا حُلِيِّها كان الفرع وهو حُلي المكلَّفة راجحًا على النقض وهو حلي الصبية في الوجوب إذ المكلَّفة وجب في مضروبها والصبيَّة لم يجب في واحدٍ منها لأنه لو لم يكن حُلِيّ المكلَّفة راجحًا على حليِّ الصبيَّة رُجْحانًا يقتضي الوجوب كان مساويًا له ولو ساواه لثبت الوجوب في حُلي الصبيَّة بالقياس على مضروب المكلَّفة كما قِسْتَ حليَّ المكلَّفة على مضروبها وإذا كان الفرعُ راجحًا في صورةِ النقضِ بما يقتضي انفراده بالحكم عُلِم اختصاص صورة النقض بما يوجب اختصاصها بعدمِ الحكم فلا يتعدَّى ذلك الحكم إلى الفرع فلا يصح النقضُ به وحاصلُه أن يُقال للناقِض أنتَ بين أمرين التسوية بين المكلَّفة وغيرها أو التفريق بينهما فإن سوَّيت بينهما لم يسلَّم عدم الوجوب في حُلِيِّ الصبية وإن فَرَّقْتَ بينهما لم يصح النقضُ بها لاعترافك أن الوجوب على المكلَّفة يثبت مع عدم الوجوب على الصبيَّة حيث فرَّقِتْ بينهما في المضروب ويلزم من ذلك أن يكون الفَرْع

راجحًا على صورة النقض إذ لولا رُجْحانه عليه لألْحِقت صورة النقض بالأصل لمساواتها الفرع وبيانُه بعبارةٍ أُخرى أن يقال ما ذكرتَه من الدليل يقتضي التسوية بين المضروب والحلي فإن وجبتِ الزكاةُ في مضروب الصبيَّة منَعْت عدم الوجوب في حُليها وإن لم تجب الزكاة في مضروبها لم يصحَّ النقضُ بحليها لأن حليها دون حُلي البالغة لأنه لو كان مثله لوجبت الزكاةُ فيه وبما ذكرته من الدليل وكان كثير من العلماء يُجيبُ عن هذا النقض بالتسوية ويقول أنا مقصودي التسوية بين الحلي والمضروب فإذا استويا في الوجوب في الصورة التي قِسْت عليها فاستويا في عدم الوجوب في الصورة التي نقضتَ بها كان ذلك دليلاً على صحة الجمع بينهما وهذا كلامٌ صحيح من جهة الفقه وإنَّما اختلفوا في قبوله في الجدل على خلافٍ مشهورٍ في الأصول والجدل فإن قيل قولُ المستدل إن كان الوجوب ثابتًا في مضروب الصبيَّة لم أُسَلِّم أنَّ الحكم في الحلي مُنِع على خلاف الأصل فلا يُسْمع فإنَّ الحليّ لا زكاة فيه اتفاقًا والحكمُ إذا اتُّفِق عليه لم يَجُز منعُه على تقديرٍ من التقادير لا سيِّما وهو منع الجمع عليه على تقديرِ ممكن فإن الوجوبَ في مضروبها ممكن لأنه مختلَفٌ فيه

فالجواب من وجوه أحدها لا نُسَلِّم أن عدمَ الوجوب في حُلِيِّها متفقٌ عليه بل هو قولٌ معروفٌ وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد ومذهب كثير من العلماء كإسحاق بن راهوية وغيره ممن يوجبُ الزكاةَ في الحلي وفي مال الصبيِّ والمجنون لكن هذا المنع يختصُّ بمثل هذه الصورة الثاني أنِّي إنَّما منعتُ الوجوبَ على تقدير الوجوبِ في مضروبها وهذا التقديرُ غيرُ واقعٍ عندي لأن عندي لا تجبُ الزكاة في مضروبها فإذا قلت تجبُ الزكاة في حُليها وهو قول باطل على تقدير الوجوب في مضروبها وهو قول باطل لم أكن قد التزمتُ مُحالاً وهو كقوله قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) [الزخرف 81] وقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس 94] وليس يلزمني إذا ثبتَ بطلانُ الباطل على أصلي أن أُثْبته على أصلِ غيري الثالث أن الذي ذكرتُه مطابقٌ لمعتقدي فإني إنما نفيتُ الوجوبَ في الحلي لاعتقادي انتفاءه في المضروب فإن صحَّ اعتقادي الثاني لم يصح النقض به لوجود الفرق بين الصغير والكبير وإن لم يصح اعتقادي الثاني أكونُ مخطئًا في نفي الوجوب عن حُلِي الصبيّ إذ لا

مستند عندي لانتفائه سوى عدم التكليف وهو يشمل القسمين فإذا لم يكن مستندًا صحيحًا بَطَل قولي في صورة النقض فلا يجوز أن يُحتج بخطئي في تلك الصورة على حكم هذه المسألة وهذا كلام من لا يصحِّح النقضَ المركَّب والقياسَ المركَّب ومن صحَّحه قال له أنتَ قد سوَّيتَ بين الحلي والمضروب وجوبًا على المكلَّفة وسقوطًا عن الصبيَّة وعدمُ الوجوبِ في حُلي الصبيَّة ينقضُ استدلالَك على التسوية في الوجوب فإن صحَّ قولُكَ في نفي الوجوب على حُلي الصبيِّ بَطَل استدلالُك وإن صحَّ استدلالُك بطلَ قولُك في صورة النقض فليس تصحيح استدلالِك بتقدير خطئك في صورة النقض بأولى من تصحيح قولك في صورة النقض بإبطالِ استدلالك بل هو أولى لأن صورة النقض لا يمكن انتفاءُ الحكم فيها ألبتة لأن الحكم فيها ثابتٌ إجماعًا يقال ذلك في مجمعٍ عليه بين الأمة والأمةُ معصومةٌ عن الخطأ ففي تخطئتِكَ في الحكم تخطئةٌ لجميعِ الأُمَّة وذلك باطل بخلاف تخطئتك في المأْخَذِ فإنه شيءٌ انفردْتَ به والخطأُ جائز على أبعاضِ الأُمة ويجوزُ أن تجتمعَ الأمة على حكم ويكون مستند بعضهم فيه ما ليس بدليل وإن لم يَجُز ذلك على جماعتهم لأن العصمةَ إنما شَمِلَتْهم فيما أجمعوا عليه وهم لم يُجمعوا على ذلك المأْخَذِ

وصاحبُ ذلك المأْخَذِ وإن كان مخطئًا في نسبة الحكم إليه لكن لما وافقَ الجماعةَ شملته بركةُ الجماعة فأصابَ الحقَّ في تلك الواقعة لموافقةِ الجماعة لا لمأْخّذه وهو غير آثم لأنَّ غايةَ وُسْعه كانت إدراك ذلك المأْخَذ وبناء الحكم عليه إنما كُلِّف بما في وُسْعه وجوابُ هذا أن يُقال إنما يبطل استدلالي بالإيجاب في حُلي الصبيَّة إذا أوجَبْتُه في مضروبها وأما إذا نفيتُ الوجوب في حُليّ الصبيَّة على وجهٍ يستلزمْ النفيَ في مضروبها فإنَّ استدلالي صحيح لأن النقض حينئذ لا يصح لكون صورة النقض تكون أولى بعدم الوجوب في حُلي البالغة ومختصَّة بما يمنعُ الوجوب فيها وأنا لم أنفِ الحكمَ الثابت إجماعًا في نفس الأمر وإنما نفيتُه على تقديرٍ هو عندي غير واقع وعندي أني مصيبٌ في الأمْرَين ولو فرضنا أني أخطأتُ في أحدهما فدليلي في هذه المسألة إنما يبطل إذا عُلم أني أخطأتُ في نفي ذلك التقدير وهو الوجوب في مضروب الصبيَّة لأنه بتقدير أن أكون أصبتُ في نفي ذلك التقدير فالدليل الصحيح لاستلزام عدم الوجوب في المضروب عدم الوجوب في الحلي فتترجح صورةُ النقض على الفرع وأنتَ لم تُقِمِ الدليل على خطئي في تلك المسألة فلا يكون نقضُك صحيحًا وهذا كلامٌ محقَّقٌ في نفسه واعلم أنه يمكنُ الاعتراضُ على الجواب الذي ذكره المصنف بأن يقال قولك لو لم يكن ثابتًا فيها كان الفَرْع راجحًا على النقض

قلنا لا نُسَلِّم قولك وإلا لثبتَ الوجوبُ ثمَّة بالقياس على الأصل قلنا إنما يلزم من عدم رُجحان حُلي البالغة على حُلي الصغيرة الوجوبُ في حلي الصغيرة بالقياس على مضروب البالغة إذا ثبتَ أن الحُلي بمنزلة المضروب وإنما يثبتُ هذا إذا سَلِمَ قياسُك عن النقض وهو لا يَسْلم عن النقض إلا بهذا الجواب وهذا الجواب لا يتم إلا بالقياس فيلزم تصحيح الشيء بنفسه وذلك مُصَادَرة وهي غير جائزة ولو سلَّمنا الرُّجحان فإن ذلك لا يمنع من النقض وتقريرُ هذا الجواب أن يقال إن لم يكن الوجوبُ ثابتًا في مضروب الصغيرة فقد ثبتَ رُجحان الكبيرة على الصغيرة بالوجوب في مضروبِ هذه دون هذه وإذا ثبتَ رُجحان مضروب هذه على مضروب هذه لَزِم رُجحان حُليها على حُليها لأن نسبةَ المضروبِ إلى المضروب كنسبة الحُلي إلى الحُلي والعلمُ به ضروريٌّ وإذا ترجَّح الفرعُ على صورة النقض عُلِمَ اختصاص النقض بوجود مانع أو بفوات شرط فيكون انتفاءُ الوجوب كذلك والفرقُ بين هذا التقرير وتقرير المصنف أنه قاسَ حُلي الصغيرة على مضروب الكبيرة بتقدير عدم الوجوب في مضروب الصغيرة وعدم رُجحان حُليها على حُليها وهو عَوْد إلى أصلِ الدليل وهذا قياسٌ لنسبة حُليِّ هذه إلى حُلِّي هذه على نسبة مضروب هذه إلى مضروب هذه ولا ريبَ أن قياس النسبة على النسبة لا يمكن منعُه

قوله أو يقال إذا لم يكن ثابتًا ثمَّة يكون ثابتًا هنا إجماعًا ولو ثبتَ هنا لكان الحكمُ في الأصل مضافًا إلى المشترك على ما عُرِف وهذا جوابٌ بأنَّ النقضَ على تقدير عدم الوجوب في مضروب الصبية يقول إذا لم يكن الوجوبُ ثابتًا في مضروب الصبيَّة يكون ثابتًا في الفرع وهو حُلي البالغة إجماعًا لعدم القائل بالفَرْق لأن القائل قائلان قائل يقول إنه يجبُ في مضروب المكلَّف وغير المكلَّف دون الحلي وقائل يقول يجب في مضروب المكلَّف وحُليِّه دون مال الصبي فإذا قيل إنه لا يجب في مضروب الصبيَّة فإنه يجب في حُلي البالغة ومضروبها ولو ثبتَ الوجوبُ في حُلي البالغة لكان الحكم في الأصل وهو مضروبها مضافًا إلى المشترك بين الحليِّ والمضروب وهذا الجواب مُسْتَدْرَك من وجوه أحدها أنه مبنيٌّ على عدم القائل بالفرق بين مسألتين مختلِفَتَي المأْخَذ والطريقة وهو مَسْلك رديءٌ جدًّا لم يسلكه أحدٌ من أهل

الفقه والأصول ولا سلكه أحدٌ من أهل الجدل المحقِّقين وإنما يسلكه من لا خَلاقَ له من المغالطين وبيانُ ذلك أن العلماء إذا اختلفوا في مسألتين على فولَيْن فهل يجوز لمن بعدهم أن يأخذ بقول هؤلاءِ في مسألةٍ وبقولِ هؤلاء في مسألة فإما أن يكونَ مأخذُها وطريقةُ الحكم فيها مُتشابهًا كزوج وأبوين وزوجة وأبوين ونحو ذلك فهنا قد اختلف الناسُ فمنهم من قال له أن يأخذ بقول هؤلاء في مسألة وقول هؤلاء في مسألة كما فعل مَسْرُوق وهذا قول أكثر الفقهاء وهو قول أكثر الشافعية والحنبلية وهو المختار ومنهم من قال ليس له أن يُفَرِّق بينهما وهو قول طوائف من الفقهاء وأما إن صرَّحوا بالتسوية بينهما أو كانت إحداهما من فروع

الأُخرى أو كانت جميعًا أصلاً لفرعٍ واحد بحيثُ يكون أهل الإجماع قد صرَّحوا بذلك فهنا لا يجوز التفريق بلا ريب كوجوب الزكاة في مال الصبيِّ والمجنون وكالردِّ وتوريث ذوي الأرحام وذهبَ طائفةٌ من الناس إلى جواز التفريق مطلقًا وإن صرحوا بالتسوية وأما إن كانت التسويةُ بين المسألتين أو كون إحداهما فرعًا للأخرى أو كونهما فرعين لأصلٍ واحدٍ مما يُعْلَم بالاستدلال وقد ينقدح خلاف ذلك فهذا كالقسم الأول كإيجابِ الزكاةِ في جميع أموال الصبيِّ أو نفيها عن جميع أمواله وفرَّق أبو حنيفةَ بين الغِرِّ وغيره وأما إن كان مأْخّذ المسألتين مختلفًا متباعدًا بحيثُ لا تعلُّق لأحدهما بالأخرى كإيجابِ الزكاة في الحُلِي وإيجابها في مال الصبيِّ والمجنون وإيجاب الزكاة على المَدِيْن وإيجابها في الخُضْروات ووجوب القَوَد بالمُثَقَّل وقَتْل المسلم بالكافر وإيجاب الحدِّ على الكافر المُحْصَن وعلى من زنى بذوات محارمه ونفيه عنهما ونحو ذلك من المسائل فقد اتفق الفقهاءُ بل العقلاءُ على أنه لا يلزم الموافقةُ في إحدى المسألتين الموافقةَ في الأخرى وليس

على من قال بقول قومٍ في مسألةٍ أن يقول بقولهم في المسألة الأُخرى وإنَّما عليه أن يَتْبَعَ في كلِّ مسألةٍ دليلَها اللائقَ بها والعلمُ بهذا ضروريٌّ عقلاً وشرعًا ومع هذا فقد حُكِيَ عن بعض ما يتكلَّم في أصول الفقه أنه لا يجوز التفريق وكذلك بعضُ هؤلاء الجدليين المُغالِطيْن يسلُكُ مثل هذه الطريقة وأقلُّ لوازم هذا أنه يُستدلَّ بدليلٍ واحدٍ في جميع مسائل الخلاف لعدم القائل بالفَرْق ولا يخفى على ذي عقلٍ أنَّ هذا هذيانٌ يجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى فاعله ويُقال لقائلِ هذا ولا قائل بالجمع فإنهم لم يجمعوا بين حُكْم المسألتين حتى جعلوا الحكمَ المعيَّن في هذه مستلزمًا للحكم المعيَّن في هذه فهمن جمعَ بينهما فقد خالفَ الإجماعَ ومن استدلًّ بقوله لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ في مسألةِ الإدالَةِ فقد خرج عن مسالك العقل والدين والحياء ويقال له الجمعُ والفَرْقُ إنما يكون بين شيئين اشتركا فيما يقتضي الحكم فيهما ولو بَعُدَ وليس بين هاتين المسألتين جَمْعٌ ولا فَرْقٌ ويُقالُ له الفرقُ إنما يكونُ عند الاشتراك في الحكم وكذلك الجمع فأما إذا كان حُكم إحداهما الوجوب وحُكْم الأُخرى عدم الوجوب فكيف تنفي الفَرْق

ويقال له بل قد أجمعوا على الفَرْق لأن هؤلاء يوجبون الزكاة على الصبيان ولا يوجبونها في الحُلِي وهؤلاء يوجبونها في الحُلي ولا يوجبونها على الصبيان فقد أجمعوا على أنَّ حكم إحدى المسألتين نَفْيٌ والأخرى إثبات فكيف يصحُّ نَفْي الفرق فيما فيه الفرق ويقال له هَبْ أَنَّا سلَّمنا ألاَّ قائلَ بالفرق فَلِم قلتَ إن القولَ بالفرق باطل وليس في هذا إلا دعوى محضة وكلمة تُقال لا حاصل تحتها وإنما القولُ الباطل ما قال أهلُ الإجماعِ خلافَه أما ما لم يقولوا بما يوافقه ولا ما يخالفه فيجوز أن يكون صحيحًا ويجوز أن يكون باطلاً نعم لو قال أهلُ الإجماع بالإجماع بين المسألتين والتسوية لكان الفرقُ باطلاً فإن قال الفرقُ إحداثُ قولٍ ثالث قلنا لا نُسَلِّم بل هو موافقة هؤلاء في مسألة وموافقة هؤلاء في أخرى ومن فعل ذلك لم يخرج عن قول الأُمة ويُقال له لفظُ الفرق نشتركٌ فإنه يُقال فَرَّق فلانٌ بين الشيئين إذا كانا مشتَبِهَيْن نوع اشتباه فيقال قد قال بالفرق إذا فرَّق بين الحادثتين ويقال قال بالفرق إذا فرَّق بين القائلَيْن بأنْ كان مع هذا

تارةً ومع هذا أخرى فالفرقُ تارةً يكون بين الحوادث لما بينها من التشابه وتارةً يكون بين الأقوال لاشتراكها في قائل واحد فإن عنيْتَ أنْ لا قائل بالفرق بين قولَي عالمٍ واحدٍ في مسألتين متبايِنَتَيْن فهذا خلافُ إجماع الأمة بل خلاف إجماع العقلاء بل خلاف المعلوم بالاضطرار فإنه ما من أحدٍ من علماء الصحابة والتابعين وسائر الأئمة إلا وقد قال بالفرق بين مقالاته في المسائل خلقٌ من العلماء بَعْدَه بحيثُ يفرِّقون بين أقواله في الحوادث المتباينة وهذا إجماعٌ من الأُمة على ثبوت القول بالفَرْق بين الأقوال وإن قلتَ إنما أعني به أن لا قائل بالفرق بين قولَي هذَيْن العالِمَيْن في هاتين المسألتين فإني أُخْبر بأن هذا لم يقع قيل لك وليس من شرط التفريق بين قولَي العالم في المسائل المتباينة تقدُّم قائلٍ بالفَرْق فإن ذلك لو شركًا لزم التسلسل أو بطل جواز التفريق بين قولَي القائل في حادِثَتَيْن مُخْتَلِفَتين بعده وكلاهما معلوم الفساد وإذا تبيَّن فسادُ هذا الأصل فقوله إذا لم يكن ثابتًا ثمَةَ يكون ثابتًا هنا إجماعًا قلنا لا نُسَلِّم التلازم والعلمُ بعَدمِ التلازم بديهيُّ ضروريُّ وهو مُجْمعٌ فإنَّ الأُمةَ مُجمعة على أنه لا يلزم من القول بعدم إيجاب

الزكاة في الحلي إيجاب الزكاة في مال الصبيِّ والمجنون إذ الدليل لابُدَّ أن يناسبَ المدلول عليه نوع مناسبةٍ ولا مناسبةَ بين هذين الحكمَيْن ودعوى الإجماع على التلازم كَذِبٌ وزُوْر بل الأُمة مجمعةٌ على بطلان هذا التلازم وكتب الفقه وأصوله مشحونة بذكر هذا والعلمُ به من دين الإسلام وتصرُّفاتِ العلماءِ في علمهم ضروريٌّ وإن قيل أُريد به أنهم أجمعوا على قولين في هذه المسألة وعلى قولَيْن في هذه المسألة ولم يضمُّوا حكمَ أحد المسألتين إلى الأخرى والإجماعُ حكايةٌ عن الأمة فلا يحلُّ أن يُحكى عنهم الجمع بين شيئين لم يتكلَّموا بالجمع بينهما ولعلَّه لم يخطر على قلوبهم في هذه المسألة المفروضة وقد قيل بالوجوب في المسألتين في جماعة العلماء وأظنه قد قيل بعدم الوجوب فيهما الثاني أن يقال إن ثبتَ لك الإجماعُ على هذا التقدير على ثبوت الوجوب في الكبيرة فأنت على أحد التقدِيْرَيْن تُثْبِت الوجوب في مضروب الصغيرة وحُليها وعلى التقدير الآخر تدَّعي الإجماع على الوجوب في حُلي الكبيرة فهذا يغنيك عن دعوى الإضافة إلى المشترك قوله أو يقال الوجوبُ في إحدى الصورتين راجح على

الوجوب في حُلِيِّ الصبيَّة بدليل الافتراق في الحكم والوجوبُ في المضروب من أموال الصبيَّة لا يخلو إما أن يكون ثابتًا أو لم يكن فإن كان ثابتًا فظاهر وإن لم يكن فلا يترجَّح على النقض فيترجَّح الفرعُ عليه حينئذٍ هذا الجوابُ يعودُ إلى الجواب الأول الذي ذكره وحاصِلُه أن الوجوب في إحدى الصورتين الأصل والفرع حُلي البالغة أو مضروبها راجحٌ على الوجوب في حُلي الصبيَّة لأنَّ الوجوبَ في الأصل راجحٌ على الوجوب في حُليها بالإجماع بدليل الافتراق في الحكم ويَصْدُق عليه أنه إحدى الصورتين وإنما أبهمه لغرضٍ له وهو أن يقيس على القدر المشترك بين الأصل والفرع لأن عنده الفرق بين صورة النقض وبين دلِّ واحد من الصورتين صورة الأصل والفرع ثابت ثم قال والوجوب في مضروب الصبية إن كان ثابتًا فظاهر يعني أنه يَمْنع على هذا التقدير الوجوب في حُليها فلا يصح النقض كما تقدَّم وإن لم يكن الوجوب ثابتًا فلا يترجَّح على النقض لأن الوجوبَ مُنْتفٍ فيهما في مضروبها وحُليها وإذا استويا في عدم

الوجوب لم يترجَّح أحدُهما على صاحبه فيترجَّح الفرعُ عليه حينئذٍ يقول فيترجَّح الفرعُ على النقضِ حينئذٍ قياسًا لإحدى الصورتين وهي الفرع على الأخرى وهي الأصل كأنه على هذا التقدير تستوي صورةُ الفَرْق وصورةُ النقض في عدم الوجوب وقد ثبتَ أن إِحدى الصورتين راجحٌ على صورة النقض فتترجَّح الأخرى عليها بالقياس وهذا الكلامُ هو الأوَّل مع التطويل في أوَّله الذي لا حاجة إليه فإنَّ قوله الوجوب في إحدى الصورتين راجح على الوجوب في حُلي الصبيَّة لا يُفِيْده شيئًا فإن رُجْحان إحدى الصورتين لا يقتضي رُجْحان الأخرى إلا بِضَمِيْمة القياس وحينئذٍ فيكون جوابُ النقض موقوفًا على صحَّةِ القياس وصحةُ القياس موقوفةٌ على جواب النقض وهذا دَوْرٌ يوجبُ بطلان الدليل كما تقدم بيانُه والله سبحانه هو الهادي إلى سواءِ الصراط

فصل في النقض المجهول

فصلٌ في النقض المجهول وطريقُه أن يقال لا يُضاف الحكم إلى المشترك إذ لو أُضيف لكان المشترك عِلَّة ولو كلن عِلَّة لثبتَ الحكمُ في كلِّ صورة من صور وجودِ العلة وأنه غير ثابت في البعض منها أو يقال المشترك متحقِّق في صورة من صور العدم أو العدم ثابت في صورة من صُوَرِ وجود المشترك ويلزم من هذا عدم الإضافة لما مرَّ آنفًا اعلم أن النقضَ المجهول بيانُ تخلُّه الحكم عن الوصف المُدَّعَى كونُه علةً في بعضُ الصُّور من غير تعيين وأقلُّ ذلك أن يتخلَّفَ في صورةٍ من صور وجود الوصفِ المشترك وإنما يمكن هذا إذا كانت مواضع التخلُّف ظاهرةً معلومةً أو كان الناقضُ يمكنه تعيين صورة من الصور إذا نُوْزِع في وجود النقض والتخلُّف وإلا فلو قيل له لا نُسَلِّم أنه غيرُ ثابت في شيء من الصور ولم يبيِّن عدمَ الثبوت لكان منقطعًا عن توجيه النقض بالدعوى التي لم يبيِّن

صحتها وأقلُّ ما فيه فسادُ السؤال لكن له أن يذمر أسْوِلَةً أُخرى واعلم أن هذا نقضٌ صحيح مثال ذلك إذا ادَّعى وجوبَ الزكاة في الحُلِيِّ قياسًا على المضروب بجامع ما يشتركان فيه من تحصيل المصلحة الناشئة من إيجاب الزكاة فإنه ينقض عليه بكلِّ صورة تخلَّفَ فيها الحكمُ عن الوصف المقتضي بحصول هذه المصلحة حصولاً ينشأ من الإيجاب وهي صُوَر كثيرة ثم قد يكون إيهام النقض لكثرة الصور وقد يكون لتيسيير التعيين وقد يكون لِعُسْر تمييز صورة النقض وقد يكون تغليطًا للخصم حتى لا يمكنه الفرق بين الفرع وبين الصورة المعيَّنَة وقد وجَّهَه المصنف بقوله لا يُضاف الحكم إلى المشترك بين الأصل وبين الفرع ولو أُضيفَ لكان المشترك علةً لأن الحكمَ إنما يُضاف إلى العلة أو علة العلة أو الوصفِ المتضمِّنِ ثبوتَ العلة وبالجملة فلابدَّ من حصول العلة في الإضافة مجرَّدَةً عن غير العلة ولو كان المشترك هو العلة لثبتَ الحكمُ في صورة من صور وجود هذه العلة لأن العلة يجبُ طَرْدُها في معلولاتها بحيث تقتضي الحكم في جميع مَحالِّ ثبوتها كما تقدَّم في بيان كون النقض يُفْسِد العلة والحكمُ غير ثابت في بعض صُوَر وجود المشترك فلا يكون علةً فلا تجوز الإضافة إليه فيبطل القياس

أو يقول المشترك متحقِّق في صورة من صور عدم الحكم فيلزم ثبوتُ المشترك مع تخلُّف الحكم عنه فلا يكون علةً أو يقول عدمُ الحكم متحقِّق في صورةٍ من صُور وجود المشترك فيلزم وجود المشترك مع عدم الحكم فلا يُضاف الحكم إلى ذلك المشترك لأن العلة التي يُضاف الحكم إليها يجب اقترانُ الحكمِ بها حيث وُجِدَت ومعنى هذا الكلام كله واحد وهو سؤالٌ صحيح مقبول عند عامَّة طوائف العلماء إلا شِرْذمة لم يقبلوه بناءً على أنَّ التخلُّف تخصيصُ العلة وتخصيصُ العلة جائز كتخصيص الأدلة والأوَّلون إما أن يمنعوا تخصيصَ العلة بكلِّ حال أو يجيزوه بشرط كون التخصيص لوجود مانع أو انتفاء شرط وعلى المستدلِّ أن يبيِّن اختصاصَ صورة النقض بوجود المانع أو عدم الشرط واعلم أن هذا النقض إذا توجَّه فالجوابُ المحقَّقُ عنه أن يقول المستدلُّ التخلُّف إنما كان في تلك المواضع لمانعٍ مختصٍّ ويُبَيِّن اختصاصَ كلِّ صورة من صور التخلُّف بما يمنع الحكم ويفرِّق بين صور النقض وصُوَر الأصْلِ والفَرْع فإذا ادَّعى المعترض بقاءَ شيءٍ غير صور النقضِ ولم يسلِّمْه المستدلُّ فعلى المعترض تعيينه كما

لو منعَه المستدلُّ وجودَ النقض ابتداءً أو يقال ذلك البعض الذي يدَّعي التخلُّف فيه إما أن تكون هذه الصورة الفلانية والصورة الفلانية فقط أو هي وشيئًا آخر أو شيئًا آخر أو شيئًا آخر فإن كان الأوَّل فالتخلُّف هناك لمانعٍ مختصٍّ وهو في الصورة الفلانية كذا وفي الصورة الفلانية كذا وهو كذا وكذا في جميع الصور وإذا ادَّعيتَ النقضَ في غير هذه الصُّوَر فلا أُسَلِّم تحقُّقَه والأصلُ عدمُه فعليك بيانه فإنَّ دَعْوَى ما لا يُعْلَم لا يُقْبَل إلاَّ ببيِّنَة واعلم أنَّك إذا علمتَ أن هذا هو الجواب المحقَّق عن النقض المجهول علمْتَ أَنَّه لا فائدة فيه لمن يريد التغليط وأنه بكلِّ حال تعيينُ صور النقض من المعترض أحسنُ في انتظام الكلام واقتسام المناظرة لكن فيه فوائد من الاختصار وغيره للمعترض فإن النقض المجهول تَعْظُم به المؤونة على المستدلِّ حيثُ يحتاج إلى بيان النقض وجواباتها فإن قلتَ فهذا جائز أم يجيب بجوابِ عاجزٍ أن يقول التخلُّفُ في جميع تلك المواضع لوجود مانع أو فوات شرط إذ لولا ذلك لوجبَ ثبوتُ الحكم بما ذكرته من القياس المطَّرِد السالم عن

معارضة الموانع قلتُ لوجوه أحدها أن قولَه التخلف لوجود مانع دعوى محضة تعارَضُ بمثلها بأن يُقال بل التخلُّف لعدم المقتضي وليس أحدُهما بأَوْلَى من الآخر وقوله إن ما ذكرتُه يدلُّ على قيام المقتضي إنما يصحُّ إذا عُلِمَ اطِّرادُه وسلامتُه عن النقض إلا لمعارض وإنما يَسْلن عن النقض إلا لمعارض إذا عُلِم أنَّ التخلُّفَ هنا لمعارضٍ فلو جاز أن يستدلَّ على ثبوت المانع هنا بوجودِ المقتضي ووجود المقتضي لا يتم إلا ببيان ثبوتِ المانعِ المختصّ لزم الدور نعم إن كان دليلُ العلة نصًّا أو إجماعًا فههنا قد تنقدح دعوى أن التخلُّف لمانع وإن لم يتبين وجوده كما لو احتجَّ بصيغةٍ عامةٍ قد خُصَّ منها صور فإن له أن يحتجَّ به فيما عدا صورة التخصيص وإن لم يتبيَّن اختصاصُ تلك الصور بالمخصِّصات وفيه نظر الثاني أن يقال له لو كان المقتضي قائمًا للزم أن يعارض المانع وتَعارُضُ الأدلةِ على خلاف الأصل الثالث أن التخلُّفَ دليلٌ على عدم العلة إلا أن يبيِّنَ أنه لمانع

فإنه لا أدَلَّ على عدم اقتضاءِ الشيء من تحقُّق هذا العدم فإنَّ تخلُّف الحكم عنه يُبَيِّن أنَّه ليس فيه ما يقتضي الحكم لوجبَ أن يقتضي الحكم وإلا لزم إهمال الحِكَمِ والمصالح وتعطيل المناسبات الصحيحة وذلك غير جائزٍ على الشارع نعم يجوزُ أنّ عدَم اقتضائه هنا لصادٍّ صدَّه ورادٍّ ردَّه ويجوزُ أن يكون لعدم كونه مقتضيًا فيقف الدليل حتى يَبِيْنَ الحالُ ولو قال قد قامَ الدليلُ على كونه مقتضيًا بالمناسبة فيجبُ إحالة التخلُّف على المانع لئلاَّ يلزم تعطيل ذلك الدليل في الفرع من غير مانع قيل هذا الدليلُ الذي ذكرتَه يعارضُ الأصل النافي لوجود المانع والأصل النافي لوجود التعارض ودليلان أرجحُ من دليل فإن قال المناسبة أقوى من الأصل النافي بدليل ترجُّحِها عليه عند المعارضة فإن الأصلَ عدمُ الحكمِ في صورةٍ ثبتَ الحكمُ فيها بالقياس وقد ترجَّحَ القياسُ على هذا الأصل عند الفقهاءِ القياسيين وإنما يرجِّحُ الأصلَ النافي أهلُ الظاهر وليس الكلامُ في هذه المسائل على هذا الأصل وإنما الكلامُ مع من يعتقدُ صحَّةَ بناءِ الأَحكامِ على القياس على أن هذا القولَ فاسدٌ للأدلَّة المعروفة في موضعها وأدناها أنَّ هذا القائل يرجِّحُ نوعًا ضعيفًا من القياس على سائر أنواعه وذلك أنه يقيس الحكم في الزمان المشتمل على السبب

الموجب له على الحكم في الزمان الخالي عن ذلك السبب وهو عينُ القياس مع ظهورِ الفارق ومعلوم أنَّ الجمعَ بين الصورتين بما يدلُّ على اشتراكهما في حِكْمة الحكم أحسنُ من الجمع بينهما بالزمان الشامل لهما قيل له القياسُ الراجحُ على الأصل النافي هو القياسُ السالمُ عن التخلُّف إلا لمانعٍ مختصٍّ وهذا القياس لم يُعْلَم أنه كذلك فيجب العملُ حينئذٍ بالأصل النافي لسلامتِه عن معارضة القياس الذي لم يثبت شرطُه ولاشك أنَّ المصنِّف يعلم جواز كون التخلُّف لمانعٍ أو لعدمٍ مقتضٍ فدعوى رجحان أحدهما دعوى باطلة إلا بعد التفصيل وذلك ينقض استدلالَ المستدلِّ وهو مطلوب المعترض الرابع أن هذا مُعَارَض بمثله بأن يقال العدمُ متحقِّقٌ في صورة من الصور فيجبُ تحقُّقُه في الفرع بالقياس عليه بالجامع المشترك فإذا نقض قياسَه بصُوَر الوجود قال التخلُّف هناك لمقتضٍ مختصٍّ مع ترجُّحِ هذا القياس باعتضاده بالأصل النافي للحكم وبالأصل النافي للتعارض فإنَّ وجودَ المقتضي في بعض الصور لا يعتمد قيامَ مانعٍ بخلاف وجود المانع فإن قلتَ هذا القياس مُسْتَدْرَك لأنه إن قاسَ بعدم المقتضي فهو يحتاجُ إلى عدمه عن الأصلِ والفرع وبيانُ عدمه عن الأصل كافٍ

وإن قاس بوجود المانع فهو يحتاج إلى بيان وجود المقتضي في الأصل ولم يُبَيِّن ذلك قلت هو يقيسُ بالمشترك سواءٌ كان وجود مانع أو عدم مقتض وذلك كافٍ له ولو صرَّحَ بعدم المقتضي لكان قياسًا صحيحًا كما لو صرَّح بوجودِ المانع وقوله بيانُ عدم المقتضي في الفرع كاف قلتُ قد لا يتم بيان عدم المقتضي إلاَّ بشهادة صورةٍ تُماثلُ الفَرْعَ لأنه يظهر حينئذٍ أنهما سواء في عدم المقتضي الخامس أن دلالة الانتقاض على فساد العلة أَوْكد من دلالة المناسبة على صحتها وذلك لأن العلة إنما تقتضي الحكم لنفسها وعينها وذلك لا يقبل التعدُّد فحيثما تخلَّفَ الحكمُ عنها عُلِمَ أنَّ هذه الماهية غير مُوْجِبة لهذا الحكم أم المناسبة فكثيرًا ما يُعْدَم الحكم مع وجودها لاختلاف أنواعها وأقدارها وتوقُّفها على شروطٍ مُتَمِّمات وزوال موانع الاستقراءُ يدلُّ على أن تأثير الانتقاض في الفساد أكثرُ من تأثير مجرَّدِ المناسبة في صحَّة العلَّة فوجب إلحاقُ هذا الفَرْد بالأعمِّ الأغلب قوله ثمَّ المعلَّل أوَّلاً يمنع الوجوب في كل صورة من صور

وجود العلة بإثبات العدم في البعض منها أو يقول لو لم يُضِف الحكم إلى المشترك لما كان المشترك علة فلا يتحقَّقُ الحكم في كلِّ صورة من صور العدم كونه علَّة وقد تحقَّق في البعض منها وكذلك نقول الحكم ثابتٌ في صورة من صُوَر وجود المشترك أو المشترك في كل صورة من صور الحكم فيُضافُ الحكم إلى المشترك اعلم أن هذه أجوبة غير مُسَلّمة لمن أحسنَ النظر فيها أما قوله إن المعلل يمنع الوجوب في كل صورة من صور وجود العلة بإثبات العدم في البعض منها فإما أن يعني به وجوبَ الزكاة مثلاً وما أظنه عَنَى ذلك وهذا لا يفيد بل هو عين تحقيق النقض وإما أن يعني به أنه لا يجب تحقُّق الحكم في كلِّ صورة من صور وجود العلة وهو ظَنِّي ما عناه فهذا كلامُ من لا يرى النقضَ مُفْسِدًا للعلة سواءٌ كان التخلُّف لمانعٍ أو لم يكن وليس هو قول أحدٍ من

المعتبرين وليس الاصطلاحُ عليه هو فاسدٌ قطعًا لأن الوصفَ إذا اقترن به الحكمُ في محلٍّ ولم يقترن به في محلٍّ آخرَ وكلُّ واحدٍ من المحلَّيْن مُسَاوٍ للآخر فيما يمنعُ الحكمَ عُلِمَ بالاضطرار أن ذلك الوصف ليس مقتضيًا لذلك الحكم لأن حقيقةَ الاقتضاء أنه يوجِبُ الحكمَ وأنَّ الحكمَ مقترنٌ به فإذا وجدْتَ ماهيَّةٍ خالية عن هذا الإيجاب وهذا الاقتران كان دَعْوى كونه مقتضيًا دَعْوى ما عُلِمَ فسادُه ضرورةً لأن الحكم المضاف إلى الحقيقة والماهيَّة لا يجوز خُلُوُّه عنها ولا تحقُّقُها بدونه ثم قوله لا أُسَلِّم أنه يجب وجود الحكم في كلِّ صورة من صور العلة بدليل أن الحكم معدوم في بعض الصور قيل له عدمُ الحكم في بعض الصور لا يدلُّ على عدم وجوب وجود الحكم في صورة العلة بل عدم الحكم يدلُّ على عدم كمال الأسباب المقتضية له إما عدم عِلَّته أو جزءٍ من أجزائها أو قَيْدٍ من قيودها أو وجود مانِعِه أو عدمِ بعضِ شروطه فإذا كان عدمُ الحكم يستلزم أحدَ هذه الأمور من غير تعيينٍ فلِمَ ادَّعَيْتَ أنه يستلزم عدمَ وجوبِ وجود الحكم في صورة العلة وأيضًًا فقوله يمنع الوجوبَ في كلِّ صورة من صور وجود العلة أو يقال له يمنع أن هذا هو الأصل في العلة وأن هذا مقتضي كون العِلَّة علةً أو يمنع لزوم وقوع هذه المقارنة

فإن قال امتنع لأن العلةَ من حيثُ هي علة توجبُ وجودَ الحكم قيل له هذا خروجٌ عن حدودِ العقل فإنه إذا لم تكن حقيقتُها مقتضيةً للحكم كان الحكم حاصلاً بغيرها وبدون وجودها وحينئذٍ فلا معنى لتسميتها عِلة ثم يقال له هذا يُفْسِد عليكَ القياس لأنَّا هب أنَّا سلَّمنا لك أن المشتركَ علة لكن لا نُسَلِّم الحكمَ في الفرع لأن العلَّة لا تقتضي الحكمَ ولا توجِبُه فلا يلزم من حصولها في الفرع حصول الحكمِ واعلم أنَّ اقتضاءَ العلةِ المعلولَ أمرٌ فطريّ ضروري والمنازعةُ فيه منازعةٌ في الضروريات كالمنازعة في اقتضاءِ الدليل المدلول وإن قال أُسَلِّم أنها توجبه وتقتضيه من حيث هي هي لكن لا يلزم ثبوته في جميع صور وجودها لجواز التخلُّف لمانعٍ مختصٍّ قيل له قِسْ وجود المانع المختص في صور النقض وقد تقدم الكلامُ على هذا آنفًا وإن قال أدَّعي وجوبَ وجودِ الحكم في كلِّ صورة من غير تفصيل

قيل له لابدَّ من التفصيل ثم إِنَّا سلَّمنا هذه الدعوى بَطَل القياس لأن الفَرْعَ صورةٌ من الصور فلا يجب وجودُ الحكم فيه وهذا يُبطل كلامَك وهذا من الإلزامات المسكتة وأما قوله لو لم يُضَفْ إلى المشترك لما كان المشترك علة قلنا مُسلَّم قوله فلا يتحقق الحكم في كلِّ صورة من صُوَر عدمِ كونه علة قلنا لا نُسَلِّم ولم يذكر على ذلك دليلاً لأنَّا إذا قلنا هذا الشيءُ ليس بعلةٍ لم يكن وجوده مقتضيًا لوجودِ الحكم ولا عدمهُ مقتضيًا لعدمه فالمشتركُ إذا لم يكن علةً كان عدمُه عدم ما ليس بعلةٍ وعدمُ ما ليس بعلةٍ لا دلالة له ألْبتة وكذلك أيضًا وإذا لم يكن علٍة كان مع وجودِه قد عُدِمَت عِلِّيته وعدم عِلِّيَّةِ الوصف لا يدل على وجود حكمٍ ولا على عدمِه نعم يدلُّ على أن الحكم إذا وُجِد لا يُضاف إليه وأنه إذا عُدِم لا يجبُ عَدَمُ الحكم وكون الحكم موجودًا في بعض صور عدم عِلِّيته ليس فيه دلالة على ثبوت عِلِّيته فإنَّ وجود الأحكام مع أوصافٍ عديمة العلية أكثر من وجودها مع أوصاف موجودة العِلِّية وما أظنُّ هذا يخفى على عاقلٍ وظنِّي أن الجدليَّ إنما قَصَد بهذا التغليط المحْضَ والترويج الصِّرْف فنسألُ اللهَ العافية ونعوذ بالله من تغليط الأذهانِ وتخبيطِ العقولِ والأَديان واستحسانِ قول الهذيان والدخولِ في دين الله

بالإفك والبهتان وأن يُقال ما لا يَنْفُقُ إلى على الساخرين المُجَّان وكذلك قوله الحكم ثابتٌ في صورة من صور وجود المشترك أو المشترك ثابت في كلِّ صورةٍ من صور الحكم فيُضافُ الحكمُ إلى المشترك دعوى باطل وكلام ليس له حاصل فيقال لا نُسَلَّم أنَّ ثبوتَ الحكم في بعض صور المشترك أو ثبوت المشترك في بعض صور الحكم يدلُّ على إضافة الحكمِ إلى المشترك ولم يذكر عليه دليلاً ومعلومٌ أنه خلاف إجماع العلماء فإن أحدًا من الناس لم يقل إن مجرَّدَ اقتران حكمٍ بوصفٍ يدلُّ على أنه علة نعم ذهبَ بعضُ الناس إلى أنَّ الوصفَ الموجودَ في جميع صور الحكم يكون علَّةً له وهم أصحاب الطَّرْد وأَبى ذلك أكثرُ المحقِّقين وأما اقترانُه به في صورة مع انتفائه عنه في صورة أخرى فلا يقول عاقل إنه دليلٌ على العلة وأدنى ما في هذا الكلام أن يُعَارضَ بمثله كما تقدم والمعارضة صحيحةٌ عند العقلاءِ بخلاف هذه الجهالة الجهلاء

فصل في النقض المفرد

فصلٌ وأما النقض المفرد فهو المجرَّد عن مساعدة الخصم كمال المديون والصبي والمجنون اعلم أنَّ المعترض متى نقضَ العلة بِحُكمٍ متفقٍ عليه بينهما فهو نقضٌ صحيح وإن نقضَها بحكمٍ ثابت على مذهب المستدلِّ خاصةً فهو أيضًا نقضٌ صحيح لأنه يقول للمستدل لو كانت عِلَّتُك صحيحةً لطَرَدْتَها في مواضع وجودها فإذا لم تلتزم أنت موجَبَها في صورة النقض فكيف ألتزمُ أَنا موجَبَها في الفرع وهذا ظاهر وإن نقضَها على مذهب نفسِه خاصةً فهذا النقضُ غير مسموعٍ عند جميع العلماء لأن المستدلَّ يقول على موجِب الحكم في صورة النقض في الفرع المتكلَّم فيه فيجب عليكَ القول بموجَبِها في الموضِعَيْن كما فعلتُه أنا ونقْضُه بحُكم انفردَ به كنقضه بالفرع نفسه قالوا ومتى منع المستدلّ الحكمَ في صورة النقض انقطع كلامُ المعترض وليس له أن يستدلّ على الحكم في صورة النقض لأنه لو فعَل ذلك لكان مبطلاً لدليل المستدلِّ بإثبات نقيضِ مذهبِه وهذا من نوع الغَصْب لأن الغاصبَ يدلُّ على نقيضِ مذهبِه في الفَرْع وهذا

الناقضُ يدل على نقيض مذهبه في صورة النقض وصورةُ النقضِ فرعٌ ثانٍ إذ لا فرقَ بينها وبين صورة النزاع هذا الذي أَطْبَق عليه المتقدِّمون والمتأخِّرون من أهل الأصول والفقه والجدل وهو ظاهرٌ لمن فهمَه وهولاء يريدون بـ النقض المفرد القسمَ الأوسط وهو النقض المجرد عن مساعدة المعترض بأن ينقض على المستدلِّ بصورٍ تخلُّفَ الحكمُ عنها في مذهبه خاصَّة فهو مجرَّدٌ عن مساعدةِ الحكم المعترض الناقض وعما هو علة للحكم عنده لأن ثبوتَ الحكم في صورة النقض لم يكن عنده للمشترك الذي ادَّعاه المشترك مثل أن يقيس من يرى الزكاةَ في الحلي فيقولُ تجبُ الزكاةُ فيها قياسًا على المضروب بما يشتركان فيه من تحصيل المصلحة الناشئة من الإيجاب فيقول له المعترِضُ ينتقضُ على أصلك بمالِ المَدِيْن ومال الصبي والمجنون قوله بأن يقول لو أُضيف إلى المشترك لثبتَ الحكم ثَمَّةَ ولم يثبت لما ذكرتم إلى آخر ما مرَّ من التوجيهات هذا ظاهر ومعناه أن يقول المعترض لو أُضيفَ الحكم إلى المشترك الحاصل في جميع الصور التي تنشأ منها هذه المصالح لثبتَ

في مال الصبيِّ والمجنون والمَدِيْن ولم يثبت لما ذكرتَه أيها المستدل فإنك ذكرتَ أنَّ الوجوبَ غيرُ ثابت فيها ويوجِّهه توجيه سائر النقوض المتقدِّمة ولا شكَّ أنَّ جنسَ هذا النقض نقضٌ صحيح كما تقدم قوله ثم الحكم في الفرع إما أن كان من لوازم العدم في النقض أو لم يكن فإن كان فنقول العدمُ ثمةَ لا يخلو إما أن كان ثابتًا أو لم يكن فإن كان ثابتًا فظاهر وإن كان فكذلك ضرورة تحقّق الوجوب هنا هذا هو الجوابُ عن النقض المفرد وهو على مذهب المستدلِّ خاصة وذلك أن صورةَ النقض إما أن يكون عدمُ الحكم فيها مستلزمًا للحكم في الفرع أو لا يكون فإن كان عدم الحكم فيها مستلزمًا للحكم في الفرع فيقول المستدل عدمُ الحكمِ في صورة النقض إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون فإن لم يكن ثابتًا امتنع النقض لأن العدم إذا لم يكن ثابتًا ثبتَ وجود الحكم فيها فلا يتأَتَّى النقضُ وإن كان العدمُ ثابتًا فيها فهو مستلزم للحكم في الفرع فلا يفيد النقض وهو معنى قوله فكذلك ضرورة تحقق الوجوب يعني أنه بتقدير ثبوت العدم يتحقَّق الوجوب في الفرع فدارَ الأمرُ بين عدم النقض وبين

ثبوا الحكم في الفرع وعلى التقدِيْرَيْن يتمّ الدليل واعلم أن هذا يَنْفُقُ على الطريقة الرديَّة التي تقدَّمت وهو الملازمة بين حكمين مختلِفَي المأْخذِ بأنه لا قائل بالفَرْق مثال ذلك تقيس الوجوب في الحليّ على الوجوب في المضروب فإذا نقضتَ عِلَّته بمال الصبيّ والمجنون والمَدِيْن فإن الوجوبَ في الحلي من لوازم عدمِ الوجوبِ على الصبيِّ والمجنون لأن الكوفيين يقولون يجب في الحليّ ولا يجب على غير المكلَّف والحجازيون يقولون يجب في مال الصبيّ والمجنون ولا يجب في الحلي فادعاءُ هولاءِ أن الحكم في الفرع وهو الوجوب في الحليّ من لوازم عدم الوجوب في مال غير المكلف وقد علمتَ أن هذا اللازم خلاف إجماع الأمة فلا يُسْمَعُ ألْبتة فيقول المستدلُّ على تقدير هذا التلازم العدمُ في صورة النقض إما أن يكون ثابتًا أو لم يكن فإن لم يكن ثابتًا كما هو مذهب المعترض لم يضح النقضُ به وإن كان ثابتًا لزم من ثبوته الوجوب في الفرع لعدم القائل بالفَرْق وإذا تحقَّقَ الوجوب في الفرع ثبتَ المدَّعى وكذلك لو قال في مسألة المثقَّل قَتْل عَمْد عدوان مَحْض

فأوجب القَوَد كالقتل بالجارح فنقَضْتَ عليه بقتل المسلم بالكافر وبقتل الحرِّ بالعبد بأن يقال لو أُضيف الحكم إلى المشترك لثبتَ وجود القَوَد في هاتين الصورتين وقد ذكرتَ أنه غير ثابت فنقول إن لم يكن الوجوب معدومًا هناك فلا نقض وإن كان معدومًا فقد لزم الوجوب في القتل بالمثقل لعدم القائل بالفرق واعلم أصلحك الله أن هذا الكلام من أفسد الفاسد من وجوه أحدُها أنه إنما يتمُّ بالملازمة بين مسألتين مختلفَتِي المأْخَذ لا مناسبة بينهما والملازمة بينهما خلاف إجماع المسلمين بل ولا خلاف إجماع العقلاء فإن الرجلَ لو قام عنده دليلٌ على صحة مذهب الحجازيين في القتل بالمثقَّل لحديث الجارية مثلاً فاستدلَّ بذلك على صحة مذهبهم في جميع مسائل الخلاف أو قال يلزم من موافقتي لهم في هذه المسألة موافقتهم في جميع مسائل الخلاف لعدم القائل بالفرق بين تلك المسائل لكان هذا خارجًا هم حدِّ العَقْل والدين هازئًا بآياتِ الله لاعبًا بدين الله الثاني أن يُقال قولك عدم الحكم في صورة النقض إما أن

يكون ثابتًا أَوْ لا تقسيمٌ لا حاصلَ له فإن العدمَ حاصل عندك وثابت ولولا ذلك لما صحَّ النقضُ والتقسيمُ الذي قد عُلِمَ انتفاءُ أحدِ قِسْميه أو ثبوتُه غير سديد وذلك لأنه إذا عُلِمَ ثبوتُ الشيءِ أو انتفاؤه كان الترديد بينه وبين قسميهِ تضييع كلام فإن الكلام على القسم المعلوم ثبوتُه أو انتفاؤه غيرُ حاصل وإن قال أردْتُ ثبوتَه أو انتفاءَه في نفس الأمر قيل له فلو كان العدمُ غير ثابتٍ في نفسِ الأمر لزمَ فساد مذهبك في نفس الأمر وأسُّ غرضٍ لك في أن تُصَحِّحَ مذهبًا بفسادِ آخر وإذا كان مذهبُك هذا لا يتم إلا بفساد الآخر في نفس الأمر لم يتم استدلالك لأنك مطالَبٌ بتصحيحِ الدليل مع سلامةِ بقيَّةِ المذهب ولو زعمتَ أنَّ هذا الدليل لا يتم إلا بفساد ذلك المذهب لكنْتَ قد عَجَزْتَ عن نصرةِ المذهب وانقطعتَ وقولُكَ غير مقبولٍ على صاحب المذهب لأنه قد لا يلتزم هذه الطريقة التي سلكها الثالث أن قولَه إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون ثابتًا إن أرادَ به في نفس الأمر فالمختار هو الثبوت لكن لا يلزم من ذلك عدمُ النقضِ لأن علته تنتقض بما يعتقدُه وإن لم يكن مطابقًا لنفس الأمر وذلك إذا قال مذهبي ينقضُ دليلي هذا أو دليلي هذا ينقض مذهبي كان إقرارًا منه بعدم اتِّباعه لهذا الدليل ومن أقرَّ بأن بيِّنَته غير

صادقة لم يلزم خصمَه ما شهدت به وكأنَّه هو يعتقدُ بطلان هذا القياس لعدم قوله بموجبه في صورة النقض والمعترضُ يعتقد بطلانَه لعدم قولِه به في الفرع والوجوبُ عنده في صورة النقض لمقتضٍ آخر غير هذا المشترك وإذا حصل الإجماعُ من الفريقين على انتقاض هذا القياس كان فاسدًا وإن لم يتفقا على عين صورةِ النقض فإذا سَلَّم المعترِضُ أنَّ العدمَ غير متحقِّق في نفسِ الأمر لم يلزم من ذلك سلامتُه عن النقض مع اعترافِ المستدلِّ بانتقاضِه واعترافِ المعترضِ بانتقاضِه في موضعٍ آخر وإن أراد به الثبوت عنده فالواقع هو عدمُ الثبوت عنده وحينئذٍ تكونُ علَّته مُنْتقضة بإقراره كما تقدَّم فجوابه حينئذٍ أن يقال هو ثابتٌ عندك وليس بثابتٍ في نفسِ الأمر وعلى التقدِيْرَيْن لا يصح استدلالك الرابع أن قولَه وإن لم يكن ثابتًا فالحكمُ متحقِّق في الفرع لو سلم صحة اللزوم لكن ذلك لا يمنع تَوَجُّه النقض فإنَّ غايةَ ذلك أن يكون الوجوبُ ثابتًا في الفرع مع أنّ القياسَ المذكور فاسدٌ لانتقاصه والكلامُ إنما كان في إبطال الدليل الذي استدلَّ به على الحكم لا في إبطالِ نفسِ الحكم فمتى بطَل الدليلُ انقطعَ المستدلُّ وإن كان الحكمُ ثابتًا وأيضًا فإن صحَّة الحكم لا يستلزم صحةَ الدليلِ المعيَّن بل صحة الدليل يستلزم صحة الحكم لأنَّ الدليلَ يجب طَرْدُه ولا يجب عكسُه فوجود ملزومٌ للحكم فإذا وُجِدَ الحكمُ وإذا عُدِمَ الحكمُ

عُدِمَ أما مجرَّد وجود الحكم فلا يدلُّ على وجود الدليل المعيَّن أصلاَ فإن قال أحدُ الأمرين لازم إما سلامة القياس على النقض أو الحكم في الفرع وعلى التقديرين فقد لزِمَ المدَّعَى قيل له لا يلزم المدَّعَى على واحد من التقديرين أما على الأولى فلأنَّ سلامَتَه من النقض كانت على وجهٍ تعتقدُ أنتَ أنه منتقض فلا ينفع سلامته في نفس الأمر عن بعض النقوض مع إقرارك أنه باطل ومع إقراري أيضًا لأن الخصم لو قال هذا دليلٌ في نفس الأمر وأنا لا أَعْتَقده دليلاً لم يجب قبولُ قولِه لأن أحدَ قوليه ينقضُ الآخر لأن كونه دليلاً يوجبُ الاتِّباع فإن تَرَكَ اتباعَ الدليل إلا لمعارض كان فاسقًا فلا يُقْبَل قولُه هو ثابت في نفس الأمر وقولُه لا أعتقدُهُ دليلاً ينفي قولَه هو دليل في نفس الأمر لأنه لو كان دليلاً لاعتقده دليلاً لأنَّ الأصلَ في المسألتين الصحة ثم يقولُ له المعترِض إن سَلِمَ في نفس الأمر عن هذا النقض فهو منقوض بالفرع وكلٌّ منَّا يعتقدُ انتقاضه في نفس الأمر بصورة فقد أجْمَعْنا على أنه ليس بدليل في نفس الأمر وأما الحكم في الفرع فقد علمت أنه ليس بلازم على التقدير الآخر وعلى تقدير لزومِهِ فإن الدليلَ باطل منقوض والمدَّعى هو ثبوتُ الحكم بذلك الدليل فإذا لم يلزم ثُبُوت الحكم بذلك الدليل على كلِّ واحد من التقديرين بطل المدَّعَى واعلم أن أصل هذا الفساد دعوى التلازم بين مسألتين لا مناسبة

بينهما فاحْذَرْه فإنه بابٌ عظيمٌ من باب أغاليط هولاء المغالطين وعليك بإحكام أصولِ الفقه فإنه يبيِّن لك طُرق استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة السمعية قوله وإن لم يكن فالجواب عنه بالفرق أو بتغيير المدَّعى بأن يقال انتفاءُ المجموع المركَّب من العدم هنا والوجوب ثَمَّة فإنه ثابت لأن الوجوبَ ثمة لا يخلو إما إن كان ثابتًا أو لم يكن فإن لم يكن فظاهر وإن كان فكذلك ضرورة تحقق الوجوب هنا لما بيَّنَّا من الدليل السالم عن التخلُّف هذا هو الجواب على تقدير أن لا يكون حُكم الفرع من لوازم عدمِ الحكم في صورة النقض ولعمري جميع التقادير هكذا لما بيّنا من فسادِ الملازمة ومثال ذلك على ما قصَدَه الجَدَليُّ أن يكون قد قال قائل بقول إحدى الطائفتين في صورة النقض وبقولِ الأُخرى في الفرع مثل أحد قولَي الشافعي وأحمد وقول كثير من أهل العلم بوجوب الزكاةِ في الحليّ وبالوجوب في مالِ غيرِ المكلَّف فلو قال إن كان العدمُ ثابتًا في صورة النقض وهي مال الصبي والمجنون لزِمَ تحقُّق الوجوبِ في الفرع وهو الحليّ لعدم القائل بالعدم في الموضعَيْن أو

الوجوب في الموضِعَيْن قيل له قد قال بالوجوب فيهما طائفةٌ من أهل العلم في المذاهب المتبوعة في هذا الزمان وغيرها وأَبْيَنُ من هذا المثال أن يُقال في مسألة وجوب القَوَد على المكره يجبُ القَوَد قياسًا على المختار فقال ينتقضُ بقتل المسلم الذمِّيَّ وقتل الحرِّ العبدَ فلا يمكنه أن يقول إن كان عدمُ الوجوبِ متحقِّقًا في صورة النقض لزم الوجوب في الفرع لعدم القائل بالفرق لأنَّ الشافعيَّ في قولٍ له لا يوجب القَوَد في الجميع وزُفَر يوجب القَوَد في الجميع وإنما كان هذا أَبْيَن لأنَّ المسألة الأولى لم يَقُل فيها بالعدم في الموضِعَيْن أَحدٌ في المذاهب المتبوعة فيمكن أن يُقال إن كان العدم ثابتًا تحقَّق الوجوب في الفرع لعدم القائل بعدم الوجوب في الفرع بتقديرِ عَدَمِه في صورة النقض واعلم أنَّ هذا الكلام لكونه باطلاً يِسْتَثقِلُه القلبُ العاقِلُ لكن لابدَّ من بيان مقالةِ هولاء فيه وقد علمت أنه في الحقيقة وعند كل منصف فإن الواقع هو هذا القسم فيكون النقض نقضًا صحيحًا

قال فالجواب عنه بالفرق وهو جواب صحيح عند من يجوِّز تخصيصَ العلة لمانع أو مطلقًا وأما من لا يرى تخصيصها فإنه لا يسمع الفرق بل يعد المستدلَّ منقطعًا إذا توجَّه النقضُ عليه توجيهًا صحيحًا وعند هولاء إنما يُجابُ النقض بمنعِ ثبوتِ المشترك في صورة النقض أو بمَنْع تخلُّف الحكم فِيها فقط فأما إذا سَلَّمَ ثبوتَ المشترك وتخلَّف الحكمُ فقد اعترف بما يُفسد العلم والأول هو الذي أطبق عليه عامةُ متأخري الجدليين وهو أشبه بمباحثات الفقهاء وأقرب إلى طريقة السلف وصورةُ الفرقِ أن يبيِّن اختصاصَ صورة النقض بما يقتضي عدم الحكم فيها من وجود مانعٍ أو فوات شرطٍ مثل أن يقول الصبيُّ والمجنونُ إنما تخلَّف الوجوبُ عن مالهما لعدم التكليف الذي هو شرط وجوب العبادات كما نبَّه قوله صلى الله عليه وسلم رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة الحديث وأَنها أحد مباني الإسلام فلم تجب إلاَّ على

مكلَّف كالحج أو تكليفٌ من التكاليف فلم يتعلَّق بغير المكلَّفين كسائر التكاليف وحينئذٍ فإن نازعه المستدلُّ في صحَّةِ الفَرْق بأن يُبَيِّن أن عدم التكليف لا أثرَ له في سقوط الحقوق المالية بدليل وجوب العشور في أرضه والفطرة في ماله ووجوب النفقات والغرامات في ماله وأنَّ حقيقةَ التكليف يثبتُ في حقَّ الوليِّ فإنه هو المخاطَب بالأداء من مال الصبيِّ كما يُخاطَب بإخراج عُشْره وصدقة فطرِه كان هذا في الحقيقةِ من جنسِ الأَقْيِسَة المركَّبة لأن المعترِض لا يقول بعدم الموجب في صورة النقض والمستدلُّ إنما يبغي الوجوبَ لمأْخَذٍ يُثْبِت الوجوبَ في صورة النقض كما يَثْبُت في الفرع فقد اتفق الفريقان على عدم النقض بهذه الصور مع اختلافِ المأْخَذ والصواب في هذه النقوض أنها إن رجعت إلى قاعدةٍ أخرى بحيثُ تكون صورة النقض توجد مع الوصف المشترك ومنع عدمه كما ذكرناه من النقض بالصبيّ والمجنون فإنها لا تُقبل وإن قُبِلت سُمِعَ الجواب عنها بإبداء مانعٍ ولم ينازع في صحةِ المانع لأن ذلك خروج من مسألةٍ إلى مسألة وخروجٌ بالكلامِ عن المقصود إلى غيره ويمكنُ المستدل أن يجيبَ بالأجوبة التي تقدَّمت بأن يقول

القياسُ إنما اقتضى وجوبَ الزكاة المعهودةِ أو الشرعية أو الزكاة الواجبة في المضروب ونحو ذلك كما تقدَّمَ في النقض المركب من المذهبين ومالُ الصبيّ والمجنون عندي ليس بهذه المثابة أوْ لا أُسَلِّم أن مالَ الصبيّ والمجنون بهذه المثابة فيكون قد منع اقتضاء القياس الوجوبَ المعتبرَ في صُوَر وهذا منعٌ لتحقُّقِ الوصفِ المشترك في صورة النقض ببيان امتناع وجوده وهذا جوابٌ محقَّقٌ في نفس الأمر وإن كان النقضُ من تفاريع الجامع المشترك فله أن ينازع المستدلَّ فيه ويكونُ حاصلُ المنازعةِ إلزامَ المستدلِّ وبيانَ مناقضاته وأما قوله أو بتغيير المدَّعَى إلى آخره فمعناه أن يُقال المدَّعَى انتفاءُ المجموع المركَّب من عدم الوجوب في الفرع والوجوب في صورة النقض يقول أدَّعِي أنه لا يجتمع هذان الأَمران عدمُ الوجوبِ هنا والوجوبُ هناك فإنَّ انتفاء هذا الاجتماع ثابت وإذا كان هذا الاجتماع منتفيًا ثبتَ المدَّعَى لأنه إذا لم يثبت المجموع فإن ثبتَ عدمُ الوجوب في الفرع فقد ثبتَ المدَّعى وإن ثبتَ الوجوبُ في صُوَر النقض تَمَّ الدليلُ وسَلِم عن النقض وإنما قلنا إنَّ انتفاء هذا المجموع المركب ثابت لأن الوجوبَ في صورة النقض إن لم يكن ثابتًا فقد انتفى أحدُ الأمرين وهو الوجوبُ هناك فلا يكون المجموع ثابتًا وإن كان الوجوبُ ثابتًا هناك فقد

تحقَّق الوجوبُ في الفرع لأن الدليل حينئذٍ يكون قد سَلِمَ عن التخلُّف والدليلُ السالم عن النقض مما يجبُ العملُ به واعلم أرشدك الله أن هذا الكلام أَفْسَد مما قبله وأقبح من وجوه أحدُها أنَّ تغيير الدَّعوى لا يُسمع لأنه إذا ادَّعى الوجوبَ في الفرع بدليلٍ ذكره فقد لزمه تصحيحُ دعواه فإذا انتقل بعد ذلك إلى دعوى مغايرةٍ لها لم يُقْبل لأن الانتقال إلى دليلٍ آخرَ لا يُقْبَل فالانتقال إلى دعوى أُخرى أولى أن لا يقبل ولو قال هذه الدَّعوى الثانية تُصَحِّح الدعوى الأولى قيل له إن بَقِيت الدعوى الأُولى على حالها لَزِم النقض المذكور وإن غُيِّرت عن حالها فهو انتقال وتحرير ذلك أنَّ الدعوى الثانية إما أن تكون هي الأولى في المعنى أو لا تكون فإن كانت هي الأولى فقد وردَ عليها ما ورد على الأولى سواءٌ تبدَّلَ اللفظُ أو لم يتبدَّل وإن لم تكن هي الأولى فإما أن يدَّعي الأولى مع ادعاءِ الثانية فالنقضُ وارد على الدعوى الأولى فيفسد الدليل وإن كان لا يفسد على تقدير الثانية لأن المعترض إنما يقدح في الأولى وإن رجّعْتَ عن الأولى فقد حصل المقصود وانقطعْتَ عن إقامة الدّلالةِ عليها فلا ينفعك بعد هذا صحةُ دعوى أخرى الثاني أن يقال ما تَعْني بانتفاء المجموع المركَّب مِن العدم

هنا والوجوب هناك تعني به انتفاءَ كلٍّ منها أو انفراد المركب فقط العدم فإن عَنَيت انتفاء هنا وانتفاء الوجوب هنا فهذا أوَّل الدَّعَوى ورأْس المسألة وترجمة المذهب فما الدليل عليه وقد ذكرتَ دليلاً يقتضي انتفاءَ العدم وثبوتَ الوجوب فيهما جميعًا فكيف الجمع بين دعواك دليلِك الذي يُناقِضها ثم كلامك المذكور يقتضي ثبوتَ أحدِهما فكيف يجوز ادعاء انتفائهما وإن عَنَيْت انتفاء المركَّب ينتفي تارةً لانتفاء أحدِ مفردَيْه إما هذا وإما هذا وتارةً لانتفاء كلِّ واحدٍ من المفردَيْن وإن ادَّعيت انتفاءَه لا ينفي كلَّ واحدٍ من مفرديه فهي الدَّعَوى الأولى بعينها وإن عَنَى به انتفاء المركَّب لانتفاءِ أحدِ مفردّيْه وهو الذي دلَّ عليه كلامُه فيقال له إمَّا أن تدَّعي انتفاءَ أحدهما وثبوت الآخر أو انتفاءَ أحدهما مع قطعِ النظر عن الآخر وإِن عنيتَ انتفاءَ أحدهما وثبوت الآخر فقد ادَّعَيْت انتفاءَ العدمِ في الفرع وذلك بتحقُّق الوجوبِ فيه وثبوت الوجوب في صورة النقض وثبوت العدمِ في الفرع وأيُّما كان فقد ادَّعَيْت ما يخالف دعواك الأولى ويُناقضُ

مذهبَك لأنك ادَّعَيْتَ خلافَ مذهبِكَ إما في الفرع أو في النقض وهذا اعترافٌ بالعجز عن نصر المذهب وإن ادَّعيتَ انتفاءَ أحدهما مع قطع النظر عن الآخر قيل لك إذا انتفى أحدُهما فإما أن ينتفي الآخرُ معه أو لا ينتفي لأن الحالَ في نفسِ الأمر لا يخلو عن الأمرين فإن انتفى أحدُهما مع انتفاءِ الآخر فهو المدَّعَى أوَّل المسألة لأن انتفاء العدمِ في الفرع وانتفاء الوجوب في النقض هو الحُكْم بالوجوبِ في صورةِ النزاع وبالنفي في صورة النقض وإن انتفى أحدُهما مع ثبوتِ الآخر فهو نقيض المدَّعَى لأنه يستلزمُ حينئذٍ خلاف قوله إما الفرع أو في العلم فَعُلِمَ بهذا التقسيم الحاصِر أنه لا يمكنه أن يدَّعي إلا ما هو مذهبه من الوجوبِ في الفرع وعدمِ الوجوبِ في النقضِ فيلزمُه النقضُ المتقدِّم أو ما يخالف مذهبَه في أحدهما فيبطل كلامه ويتبيَّن أَن جوابه بتغير المدَّعى إنَّما غيَّر لفظه لا معناه وأَوْهَمَ بمجيئه بألفاظٍ مشتركةٍ أنه خلصَ من النقض المنقضّ على العبارة الأولى وهيهات تبدُّل الحقائق بتغيير العبارات الوجه الثالث أن يقال ادَّعيتَ انتفاء المجموع المركَّب من العدم هنا والوجوب ثَمَّةَ

فيقال لا نُسَلِّم انتفاءَ المجموع بل يجوز أن يكون المجموع المركَّب ثابتًا وهو العدم في الفرع والوجوبُ هناك وعلى هذا التقدير فالوجوب في الفرع باطل ولا يضر تَسْليم انتقاضِ الدليل على تقدير عدم الحكمِ في الفرع لأنه تسليمٌ لقياسٍ لا دلالة له وأنتَ لم تذكر دليلاً على ثبوتِ أحدِ الأمرَيْن كما سنُبَيِّنه الوجه الرابع أن يُقال لا نُسَلِّم انتفاءَ المركَّب وقوله الوجوب هناك لا يخلو إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون فإن لم يكن فظاهر قلنا لا نُسَلِّم ظهوْرَه وذلك لأنك ادَّعيتَ انتفاء المركَّب فإن عنيتَ انتفاءَ مفردَيْه أو انتفاءَ أحدهما مع كون الآخر في نفس الأمر منتفيًا فقد ادَّعيتَ الوجوبَ في الفرع وعدمَه في النقض أو الوجوبَ في الفرع وأيُّما كان فهو الدَّعوى الأولى بعينها فأين التغيير المدَّعَى ثم يلزمُك على معنى هذه الدعوى ما لزمَك على الأولى من النقض المنقض وإن عنيتَ به انتفاءَ أحدِ مفردَيْه وثبوتَ الآخر أو انتفاء أحدِهما مع أنَّ الآخر في نفس الأمر ثابت فإذا لم يكن الوجوبُ في النقض ثابتًا لزم أن يكون عدمُ الوجوبِ في الفرع متحقِّقًا ثابتًا وحينئذٍ كيف يكون قولُك ظاهرًا مع تضمُّنِه نقيضَ الحكم الذي ادَّعَيْتَه في

صورة النزاع وحاصله أنك بَيْن أمرين على هذا التقدير إما أن تبطلَ قولك بتغيير الدَّعوى وتقرَّ بأَنَّ هذه الدعوى هي الأولى فيبطل الكلام أو تعترفَ بخلاف قولك وترجع عن قولك ومتى بطل قولك على هذا التقدير بطل قولك لأنه لا يتم حتى يَبِيْن حصولُ الغرضِ على كلِّ واحدٍ من التقدِيْرَيْن فإنه إذا لم يتم على أَحدهما مع جواز أن يكون هو الواقع لم يعلم صحة المدَّعَى فأيُّ ظهورٍ في هذا الوجه الخامس قوله وإن كان الوجوبُ ثابتًا في صورة النقض فكذلك أي هو ظاهر لتحقُّق الوجوب في الفرع لسلامة الدليل عن التخلُّف قلنا إذا كان الوجوبُ ثابتًا في صورة النقض فقد بطل قولُكَ في صورة النقض لأنك تعتقدُ عدم الوجوب فيها فإذا لم يتم حكم الفرع إلا بتقدير الوجوب فيها لم يتم حكم الفرع إلا بالرجوع عن المذهب في صورة النقض وهذا من أكبر الانقطاع وهو مطلوب الخصم أن يبيِّن أنَّ صحَّةَ هذا القول لا يتم إلا بفساد قولٍ آخر وإن قال أنا ردَدْتُ الكلامَ فلا يضرني لزوم المحذور على أحدِ التقديْرَيْن بجواز أن يكون الواقع هو التقدير الآخر قيل له قد بيَّنا أن المحذورَ يلزمُك على كلِّ واحدٍ من التقديْرَيْن وأيضًا فقد بيَّنَّا أَنَّ غرضك لا يحصُل على واحدٍ من التقدِيْرَين لأن الغرضَ إنما يتمُّ بثبوتِ الوجوب في الفرع وعدمِه في الأصل وهذا

المجموعُ لا يحصُل على التقدير الأوَّل ولا على التقدير الثاني فبطل كلامُك من كلِّ وَجْه الوجه السادس أنتَ ادَّعيتَ انتفاءَ المركَّب من العدم هنا والوجوب هناك وذلك دعوى ثبوت أحدهما أو دعوى نفيهما وغرضُك لا يحصل إلاَّ بثبوتهما لأنه إن ثبتَ الوجوبُ هنا دون العدم هنا أو بالعكس لم يتمَّ الكلامُ وإذا كان الغرضُ إنما يحصل بثبوتهما فأَنت لم تذكر على ذلك دليلاً بل القياسُ الذي ذكرتَه ينفي ثبوتَ العدم والوجوب وتلخيصُه أن يُقال هب أنَّا سلَّمنا أن المركَّب من العدم هنا والوجوب هناك منتَفٍ ولكن إذا لم ينتفِ مع وجود أحد مفردَيْه وهو إما العدم هنا أو الوجوب هناك بطلت الدَّعْوى أو دليلها فلابدَّ من نفي مفردَيْه وأنتَ على أحدِ التقديْرَيْن نفيتَ أحدَ المفردَيْن وأثبتَّ الآخر وعلى التقدير الآخر عكستَ فحاصِلُه أنك لما نفيتَ الوجوبَ هناك فقد نفيتَ أحدَ الأمرين ولمَّا أثبتَّه هنا فقد أثبتَّ الآخر وإن شئت أن تقول سلَّمنا أنه لا يجتمع المركَّب من الأمرَيْن الوجه السابع أن يُعارَض بمثله بأن يُقال أحدُ الأمرين لازم

وهو إما العدم هنا أو الوجوب هناك وإنما كان يلزم تعيين المدَّعَى لأنه إن كان القياس صحيحًا لزم الوجوبُ هناك فينتقضُ القياس وإن كان فاسدًا لَزِم العدمُ في الفرع بالأصل النافي السالم عن معارضة القياس الصحيح ولا ريبَ أنَّ هذا الكلام أَوْجَه من كلامه الوجه الثامن أن يُقَابَل بمثلِه فيقال المدَّعَى انتفاءُ المجموع المركَّب من الوجوب في الفرع وعدم الوجوب في صورة النقض وإذا انتفى المجموع المركَّب من هذين بَطَلَ الدليلُ على ما لا يخفى لأنه إن انتفى المجموعُ لانتفاءِ الوجوب في الفرع فهو بُطلان المدَّعَى وإن انتفى لانتفاء عدمِ الوجوبِ في النقض فقد لزم الوجوب في النقض فيتوجَّه النقضُ فيبطل الدليلُ فيبطل المدَّعَى وإنما قلنا إن المجموعَ منتفٍ لأنه إن ثبتَ عدمُ الوجوب هناك فقد تَمَّ النقضُ وتوجَّه ويلزمُ من انتقاضِه بطلانُ الدليل فيبطل المدَّعَى وهو الوجوب في الفرع فينتفي أحدُ الأمرين فلا يكون المركَّب ثابتًا وإن لم يثبت عدم الوجوب هناك فقد انتفىَ الآخر وهو عدم الوجوب وهو أَحد الأمرين وإن شئتَ أن تقول الوجوبُ في الفرع وعدمُه في النقض لا يجتمعان إلى آخره وإن شئتَ الوجوبُ هنا وعدَمُه هناك متنافيان إلى آخره

وبكلِّ حال فيبطل المدَّعَى ومعلومٌ أن هذه المعارضة أحسنُ وأَجْوَد

فصل في القياس على أصل مجهول معلوم الحكم

فصل وإذا لم يكن المقيس عليه مُعَيَّنًا فعلى السائل أن يعيِّنَ صورةً هي راجحة على صورة النزاع ويقول المقيس عليه يساوى تلك الصورة لاستوائهما في الحكم أو يُعيِّن صورةً هي راجحة على صورة معينة لا يترجح المقيس عليها إذا لم يكن المقيسُ معينًا أيضًا اعلم أصلحك الله أن هذا هو القياس على أصلٍ مجهول معلوم الحكم وقد اختلفَ فيه أربابُ الجدل فالذي عليه أهلُ العراق أنَّه لا يصح وذهبَ أهل الجدل المُحْدَث من الخراسانيين إلى أنه يصح واحتجُّوا بأن مناطَ الحكمِ إنما هو العلة والركنُ الأعظم في القياس إثبات عِلِّيَّة المشترك وذلك ممكن بدون تعيين الأصل بأن يقال ثبتَ الحكم في صورةٍ من الصور لكذا فيجبُ ثبوتُهُ في صورة النزاع لوجود المشترك وتثبت عِلِّيَّة المشترك بالمناسبة والدوران من غير تعيين الأصل فتثبتُ إضافةُ الحكم إلى المشترك فيلزم في ثبوته في الفرع

ولهذا لو سمعنا أن السلطانَ أعطى رجلاً عالمًا غلب على ظنِّنا أنه إنما أعطاه لعلمه وإن لم نَعْرِف عَيْنَه وكذلك لو علمنا أنَّ رجلاً شرب دواءً فأعقبه إسهالاً غلبَ على ظنِّنا أن ذلك الدواء كان سبب الإسهال وإن لم نَعْلَم عينَ الرجل وحجَّةُ الأوَّلين أن شرط القياس ثبوت العلة في الأصل وثبوت كونها علة ولهذا يتوجَّه المنع على وجودها في الأصل وعلى عِلِّيتها فإذا لم يكن الأصلُ معلومًا امتنعَ العلمُ بحصول العِلَّة فيه لأن العلمَ بالصِّفَة فرعُ العلمِ بالموصوف وإذا لم يعلم بحصول العلة فيه لم يصح القياس لانتفاء شرطه وامتنع أيضًا العلم بعلِّية الوصف المدَّعَى كونه علةً لأن عِلِّيته لا تثبتُ إلا في محلٍّ فإذا لم يُعْلَم محلُّها لم يُعْلَم ثبوتها وذلك لأن عِلِّيَّته لو ثبتت بدون أصلٍ تقوم به لكانت مناسبةً مطلقةً ومصلحةً مرسلةً وذلك ليس من القياس الذي يُقاس فيه فرع على أصل فإنه حينئذٍ ليس هناك مقيس عليه لا معلومًا ولا مجهولاً وهذا القولُ هو الصواب وعليه أهلُ الفقه والأصول لكن لا يجبُ العلم بصفاتِ الأصل التي لا تأثير لها في الحكم وهذا هو فَصْل الخطاب في المساْلة فإن الأصل على ثلاثة أقسام أحدها أن لا يُعْلَم شيءٌ من صفاته فهنا يستحيل القياس عليه

قطعًا الثاني أن يُعْلَم بعيِنِه فهذا يصح القياس عليه قطعًا الثالث أن يُعْلَم بعضُ صفاتِه دون بعض مثل أن تُعْلَم صفاتُه العامة دون الخاصة أو يُعْلَم نوعُه ولا يُعْلَم شخصُه أو جِنْسُه ولا يُعْلَم نوعُه فهذا قسمان أحدهما أن يُعلم أن المجهول من صفاته لا تأثير له في الحكم مثل أن يُعلم أن رجلاً وقع على امرأته في رمضان فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالكفارة فليس علينا أن نعلم عينَه باسمِه ونسبِه وكونه طويلاً أو قصيرًا أو أسود أو أَبيض أو عربيًّا أو عجميًّا لِعِلْمنا بعدمِ تأثير هذه الصفات وعلينا أن نعلمَ هل هو مسلم أو كافر مقيمٌ أوَ مسافر لاختلاف الحكم باختلاف هذه الصفات والثاني أن يكون المجهولُ من صفاتِه يجوزُ أن يكون مؤثَّرًا ويجوز أن لا يكون مؤثَّرًا فهنا إن قام دليلٌ من نصّ أو إجماع على عِلَّيَّة الوصف المعلوم فلا شكَّ أنه حجة وإن لم يقم دليلٌ فهذا موضع الخلاف لأن الدوران والمناسبة قد انتظما الصفات المعلومة والمجهولة انتظامًا واحدًا فلا يمكن إضافة الحكم إلى ما عُلِمَ من صفاته دون ما جُهِل وقولهم إن إثبات عِلِّية المشترك ممكن بدون التعيين

قلنا أما التعيين الشخصِيُّ فليس مشروطًا بالاتفاق وإنما المشروط التعيينُ النوعيُّ وهو مالا تختلف آحادُه بالنسبة إلى ذلك الحكم إلا فى العدد فقط وما ذكروه من صور الاستشهاد فإنَّا قد علمنا أنَّ الشارب للدواء إنسانٌ والعلم بهذا كافي وقد علمنا أنَّ المُعْطَى رجلٌ عالم وذلك عِلْم بنوعِه حتى لو فرضنا أن ذلك الرجل يجوز أن يكون فيه صفات مؤثِّرَةٌ من النسب والفقر والصداقة غير العلم لم يُضف الإعطاء إلى العلم واعلم أصلحك الله أن التعيين فى باب القياس الشرعي لا يُرَاد به التعيين الشخصي أصلاً اللهم إِلا فى صورة نادرة وعند المحقِّقين ليس ذلك بقياس لأن حُكْمَ اللهِ لا يختلف باختلاف أشخاص الأفعال وأشخاص الفاعلين وأشخاص مواضع العلل ومواضع الحِكَم مثل هذا البُرّ وهذا الخمر وهذا الحلي وهذا الصبيّّ وإنما يُراد بالتعيين التعيين النوعيّ مثل أن يقيس على بعض صور وجوب الزكاة ولا شكَّ أنها تجب في الماشية وفي النقدين وفي الحرث ولكل واحدٍ من ذلك أحكامٌ تخصُّه إذا علمتَ فلا يُقْبل من القائس إلا قياسٌ على أصلٍ معلومِ النَّوع بأخصِّ صفاته أو على أصل قد عُلِمَت عِلِّية المشترك بينَه وبين الفرع بنصٍّ أو إِجماع أو تنبيه كما عليه أهل ُ العراق ولكن نحنُ نذكرُ ما اصطلحَ عليه هولاء الخراسانيون مثالُ ذلك أن يقول الزكاةُ واجبة فى صورةٍ من الصور فيجب فى محلِّ النزاع قياسًا عليه بجامع ما يشتركان فيه من تحصيل مصلحِة

الإيجاب وتثبت عِلِّية المشترك بالمناسبة والدوران كما تقدَّم واعلم أن هذا القياس فاسدٌ من وجوهٍ كثيرٍة قد تقدَّم ذكرُ بعضها فإنه مجهول الأصل مجهول الجامع والمناسبةُ أو الدوارنُ لا يدل على عِلِّية مشتركٍ لا يُدْرَى ما هو ولا يُدْرَى أين هو لأنه لابدَّ أن يقول المشترك مناسِِبٌ للحكم أو مدار الحكم معه وجودًا وعدمًا فيقال له لا نُسَلِّم أن المشترك مناسِبٌ أو أنه مدار لأن الحكم على الشيء فرعُ تصوُّرِه ونحن لا نعلم المشترك لأن العلم بالمشترك بين الشيئين فرعُ العلم بالمشتركين فمن لم يعلم المشتركين كيف يعلم المشترك بينهما أكثر ما عملنا أنَّ الوجوبَ موجودٌ فى بعض الصور وأنَّ له علةً موجودةً في تلك الصور أمََّا أن تلك العلة هي المشترك بينَه وبينَ محلَّ النِّزاع فهذا لم نَعْلَمْه فلابُدَّ أن يضطرَّ إلى بيانِ وصفٍ يعلم أنه مشترك مثل أن يقول كونه مالكًا لمال ونحو ذلك وحينئذٍ تنهالُ الأسولةُ القادحة على هذا المشترك لأن الوصفَ المذكور قد دار معه أوصافٌ كثيرة وهو منقوضٌ بصورٍ كثيرة ومناسبة غير صحيحة لانخرامها بما هو أقوى منها ولأن إضافة الحكم إليه موجبُ انتقاضِها وإن كان أكثر الأصوليين يقولون لا ينخرم بالمعارضة فمعناه

عندهم أن الحكم إذا ثبت أنَّ فيه مصلحة وجبَ إضافته إليها وإن كان فيه مفسدة لأن الشارع قد حَكَم به فلابد أن يكون جانبَُ المصلحة راجحًا عند الشارع أمَّا إذا كانت المفسدةُ ناشئة من إضافة الحكم إلى المشترك لا من مجرَّدِ الحكم أو كانت ناشئة من الحكم على تقديرِ إضافته إلى وصفٍ دون إضافته إلى وصفٍ أحسن فلا ريبَ أنَّ هذا يُفْسِد قياسَ القائس ويُبطل ما ادَّعاه من المناسبة وبالجملة فمن قَبِلَ هذا النوع من القياس ولم يُحاقّ صاحبه كما ذكرناه فلابدَّ من أن يكون عنده ما يتعرض به عليه لئلا يلزم نَفَاق الأقيسة الفاسدة قال المصنف الاعتراض عليه أنَّ يُعَيِّن السائل صورةً هي راجحة على صورة النزاع ويقولون المقيس عليه يساوي تلك الصورة لاستوائهما فى الحكم مثاله إذا قاسَ الوجوبَ فى الحليّ على صورة من صور الوجوب قيل له الوجوب ثابتٌ فى الماشية وهي راجحة على الحليّ لأنها مال نامٍ بنفسِه لا مؤونةَ على صاحبه ولا هو مُعَدٌّ للانتفاع بعيِنِه على وجهٍ تنقصُ الزكاةُ منفعتَه وهذه الصورة راجحة

على صورة النزاع فإن الحُليّ ليس بنامٍ بنفسه وهو مُعَدٌّ لمنفعةٍ مباحةٍ متى أُخرجت منه زكاة نقصت منفعتُه والأصل المقيس عليه مساوٍ لهذه الصورة المذكورة لاستوائهما فى الحكم وهو الوجوب والاستواءُ فى الحكم دليلُ الاستواءِ فى المصلحة لأنه لو كانت هذه الصورة راجحة على الأصل فإِما أن يكون ذلك الرجحان معتبرًا أو غير معتبر فإن لم يُعتبر لزم إلغاءُ المصالح وإهدارُها والشارعُ حكيم لا يهتك المصالح وإن كان معتبرًا فإما أن يفيد ذلك الحكم بعينه أو أَزْيَدَ منه فإن كان الأول لزم تعليل الحكم الواحد بالعين بعلتين وهو غير جائز وإن أفاد أزْيَد منه لزم الاختلاف فى الحكم ونحن نتكلَّمُ على تقدير الاستواءِ فى الحكم ولأن الحكم الموجود فى صورٍ كثيرةٍ مشتركةٍ فى معنًى مناسب يُضاف إلى ذلك المعنى الخاص دون ما تختصُّ به كلُّ صورة كما يقال كلُّ حكمٍ ثبتَ للأعمِّ فالأعم عدم التأثير فيه لأن المعنى العام قد عُلِمَت عِلِّيته باستقلاله بالحكم مع عدم تلك الخصائص والإضافةُ إلى ما عُلِمَت عِلِّيته أولى فلو استوت الصورتان فى الحكم مع تفاوت المصلحة لَزِم التعارضُ بين المقتضي للإضافة إلى جميع المصلحة والمقتضي للإضافة إلى المعنى العام المشترك وهو على خلاف الأصل وإذا كان الاستواءُ فى الحكم دليل الاستواء فى المصلحة وقد استوى الأصلُ المقيسُ عليه والصورةُ التي أبداها المعترضُ فى الحكم فقد استويا فى المصلحة مع رُجحان أحدهما على صورة النزاع فقد ترجَّحَ الأصلُ على صورة النزاع

فيمتنع القياسُ لوجود الفارق وحاصل هذا أنَّ المستدلَّ ثبَّتَ رُجْحان الأصل المجهول بمساواته للصورة المعيَّنة الراجحةِ في الحكم وقوله أو يعين صورةً هي راجحة على صورة معينة لا يترجَّح المقيس عليها إذا لم يكن المقيسُ معيَّنًا أيضًا هذا إذا لم يكن المقيسُ معيَّنًا بأن يقول الحكمُ ثابت فى محلِّ الإجماع فثبت فى محلِّ النزاع بالقياس عليه أو ثابت فى صورةٍ من الصُّوَر فيثبت فى صورة النزاع قياسًا عليه بالجامع المشترك ولا يُعَيِّن صورةَ النِّزاع ولا يذكرها لئلاَّ يتمكَّن المعترِضُ من الكلام واعَْلَم أن المغالبة فى أنواع اللعب من الصراع والسِّباق والقمار أحسن من المغالبة بمثل هذا الكلام فهل سمعَ السامعون بأقبحَ مما يقال فلانٌ يخالفك فى مسألةٍ لا يدري ما هي ولا يدري من أيِّ نوعٍ من العلوم هي وهل هي من الفروع أو الأصول أو الأحكام الطبيعية أو الشرعية أو من الطهارات أو من الجنايات فيقول الحكمُ ثابتٌ في صورةٍ من الصور فيثبتُ في صورةِ النزاع أو في صورة من صور النزاع قياسًا عليه لأن الحكم ثمةَ إنما ثبتَ لأجل المشترك بدليلِ المناسبة والدوران والمشترك متحقِّقٌ في

صورةِ النزاع فيثبت المدَّعَى أو متحقِّق في صورةِ من صور النزاع فيثبت الحكم فى جميع صور النزاع لأنه لا قائل بالفرق وما حقُّ من يتكلَّم بمثل هذا الهذيان أن يُقَابل إلا بالتبكيت والتَّسْكيت بل بالتعزير والتنكيل وإن سُوْمح قيل له لا نُسَلِّم أن بين الصورتين مشتركًا صالحًا للإضافة بالكلية ولا نسلِّم بتقدير وجود المشترك إمكان كونه مناسبًا أو مدارًا ولا نسلِّم تحقُّق المناسبة أو الدوران بتقدير إمكان كونه مناسبًا أو مدارًا فإن شيئًا من هذه الأشياءِ لم يَثْبُت إنما ادَّعاه دعوى فالواجبُ فى مثل هذا الكلام أن يُقابل بالمُنُوْعِ الصحيحة التي يتمكَّن معها من إثبات ما يدَّعِيْه أو يُقابَل بالمعارَضات من جنس كلامِه بأن يقال الحكمُ منتفٍ في بعض الصور فينتفي في صورةِ النزاع قياسًا عليه بالجامع المشترك إلى آخره هذا إن سُمِعَ كلامُه وإلا فالواجبُ إغلاقُ بابِ هذا الهذيان وأن لا يُعَدّ صاحبُه من نوعِ الإنسان فضلاً عن أهل العلم والبيان وأمَّا ما ذكره المصنِّف من الردِّ فهو أن يقال الوجوبُ في المناسبة أو في المضروب راجح على الوجوب فى الثياب والعبيد بدليل الوجوب فى أحدِهما وعدمِه في الآخر والافتراقُ فى الحُكْم دليل الافتراق في المصلحة وهذا ظاهر والمقيسُ الذي هو صورة النزاع ليس براجحٍ على الثياب والعبيد وإذا لم يكن راجحًا يلزم تساويهما فى عدم الوجوب أو يقول المقيسُ ليس براجحٍ على ثياب البِذْلَة

وعبيدِ الخدمة وثيابُ البِذْلَة وعبيدُ الخدمة مرجوحٌ بالنسبة إلى الماشية والمضروب بدليل افتراق الحكم فيهما وإذا كانت بعض الصور راجحةً على ما لم يترجَّح عليه الأصل لزم تساوي الصور في هذا الرجحان لاستوائهما في الحكم وإذا كانت جميع صور الإجماع راجحةً على ما هو المقيس مساوٍ له أو ناقصٌ عنه لَزِم أن يكون المقيس مرجوحًا بالنسبة إلى جميع صور الإجماع فيمتنع القياس مع الرجحان واعلم أن ما لم يمكنه الاكتفاء بقياس محل النزاع المجهول على بعض صور عدم الوجوب لأنه يكون معارضةَ دليلٍ تامٍّ بدليل تام بخلاف ما إذا استلزم من ذلك رجحان صور الأصل على محل النزاع فإنه يبطل القياس لكن الشأن فى بيان عدم رجحان محلِّ النزاع المقيس على الصورة المرجوحة عن بعض صور الأصل وقوله ولئن منع عدم الرُّجحان فنقول المقيس إما قاصر أو مساوٍ لأن الحكم فيه لا يخلو إما أن كان ثابتًا أو لم يكن فإن لم يكن فظاهر وإن كان ثابتًا فكذلك ضرورة تحقَّق الدليل على أحدهما وهو المساواة حينئذٍ فإنَّ الحكمَ إذا كان ثابتًا في

المقيس وجب أن يثبت فيما ذكرنا من الصور إما بالضرورة أو بالنص أو بالقياس وحينئذٍ تتحقَّق المساواةُ بينهما حاصل هذا أن يقول المقيس إما أن يكون قاصرًا عن الصورة المرجوحة بالنسبة إلى بعض صور الأصل أو مساويًا لها وعلى التقدِيْرَيْن فقد ثبتَ عدمُ رجحانها على المرجوح فيلزم مساواتها للمرجوح فيثبت بها مرجوحه وإنَّما قلنا ذلك لأن الحكم في الفرع المقيس إن لم يكن ثابتًا فظاهر لبطلان القياس حينئذٍ والدعوى أيضًا وإن كان ثابتًا فظاهر أيضًا لأنه إذا كان الحكم ثابتًا في الفرع المقيس فقد تحقَّق الدليلُ على أحد الأمرين وهو مساواة الفرع المقيس لتلك الصورة التي ادَّعى عدم رُجحانه عليها لأن الحكم إذا ثبتَ في الفرع المقيس وجب أن يثبت في تلك الصورة إما بالضرورة إن أمكن أو بالنص أو بالقياس كما في الصورة المُمَثَّل بها فإنه يقال لو ثبتَ الوجوبُ في شيء من صور النزاع في عَبِيد الخِدْمة وثياب البِذْلة بجامع ما يشتركان فيه من تحصيل المصلحة الناشئة من الإيجاب إلى آخره وإذا ثبتَ الوجوبُ في تلك الصور ثبتت أيضًا مساويةً للفرع المقيس فثبتَ أحدُ الأمرين وهو المساواة فصحَّ قولُنا إن المقيس إِما أن يكون قاصرًا عن تلك الصورة المرجوحة أو مساويًا لها واعلم أصلحكَ الله أن هذا الكلام مقابلة دعوى مجملة وهو من باب مقابلة الباطل بالباطل لأن القائس فى فرعٍ مجهول

عكس عليه الأمر بأَن جعل ذلك الفرع الذي ادَّعاه أصلاً لصورة مرجوحة عن أصله المجهول بعد تعيين شيءٍ من صُوَرِه فإن قيل كيف يتمكَّن المعترضُ من أن يدَّعي أنه إذا ثبت الحكم في المقيس ثبتَ في تلك الصورة المرجوحة بالدليل أو بالنَّصِّ مع أنَّ المسألة خلافية قيل هذا يتفق إذا كان القياس في فرع مجهولاً فاسدًا بالضرورة وقد ركَّبه هذا التركيب بأن يقول مثلاً الزكاةُ واجبةٌ في بعض صور النزاع التي في الزكاة مثلاً من الوجوب في مال الصبي ومال المدين وحُلي المرأة والمال الضائع ونحو ذلك قياسًا على الوجوب في بعض صور الإجماع بالجامع المشترك فيقال له الوجوبُ فى الماشيةِ راجح على الوجوب فى الحُلي بدليل قولِه صلى الله عليه وسلم عفوتُ لكم عن صَدَقةِ الخَيْل والرَّقيق مع الزكاة في الماشية والافتراقُ في الحكم دليلُ الرُّجحان وبعض الصور المقيسة لا يترجح عن الخيل فيلزم كونها مرجوحة عن جميعِ صُور الوجوب للاستواءِ فى الحكم وإنما قلنا لا يترجح عن الخيل

لأن الصور المقيسة إما قاصرة عن الخيل أو مساوية لأن الحكم في بقيَّة الصور المقيسة إن لم يكن ثابتًا فظاهر وإن كان ثابتًا لزم الوجوب في الخيل بالضرورة لأن الوجوبَ إذًا ثبتَ في جميع صور النزاع من المسائل المذكورة

فصل في المعارضة بالقياس المجهول

فصل وإن عارض بالقياس المجهول فذلك معارَضٌ بمثله ولئن منع المغايرة فنعيِّن به غير الأول أو نُعَيِّن صورةً من صور النقوض ابتداء ونبيِّن الفرقَ بينها وبين صورة النزاع كما إذا قال لا يجب في الحلي بالقياس على صورة من صُوَر العدم فنقول المقيس عليه لم يَقْصُر عن ثيابِ البِذْلة والمهنة بدليل الاستواء في الحكم والفرق بَيَِّن بينها وبين المقيس لكونها مشغولة بالحاجة الأصلية وهي دفع نازلة الحر والبرد حاصل هذا أن المعترض إذا عارَض بقياسٍ مجهول بأن يقيس صورة النزاع على صورة من صور عدم الوجوب عارضَه المستدلُّ بقياسٍ آخر مجهول ليتعارض القياسان ويسلم الأول عن المعارضة

فإذا قال المستدل لا أُسَلِّم أنَّ هذا الثاني غير الأول ففيه جوابان أحدهما أن يقول عيَّنْتُ في القياس الثاني أصلاً غير الذي عينته في الأول لكن للمعترض أيضًا أن يعارضه بقياسٍ مجهول ويدَّعي تغاير القياسين وحينئذٍ يكون الفَلْج لمن كانت صور الحكم فى قياسِه أكثر الثاني أن يعيِّن المستدلُّ صورةً من صور التفويض وهو صور عدم الحكم التي قاسَ عليها المعترض ويبيِّن الفرقَ بينها وبين صور النزاع كالمثال الذي مثَّل به فإنه إذا قاس المعترضُ على صورةٍ من صور عدم الزكاة قال له المستدل الفرقُ بين الحُلي وبين بعض الصور ثابت وهو الثياب لأنَّ الثياب مشغولة بالحوائج الأصليَّة وهي دفع ضرر الحر والبرد وسَتْر العورة حقيقةً أو مَظِنَّة فإذا ثبت الفرقُ بين الفرع الذي هو صورة النزاع وبين هذه الصورة ثبتَ الفرقُ بينها وبين سائر الصور بدليل استوائها في عدم الحكم والاستواءُ في الحكم دليلُ الاستواء فى المصلحة فيثبُتُ الفرقُ بين الفرع وبين صور النقض التي قاسَ عليها المعترض وإن شاء قال الصورةُ التي قِسْت عليها لا تنقص عن ثياب البِذْلة أو ثيابُ البِذْلة لا تزيد عليه بدليل الاستواء في الحكم وإذا لم تنقص عنها وقد ثبتَ الفرقُ بين الفرع وبين ثياب البِذْلة ثبتَ بين الفرع وبين

الأصل الذي قِسْتَ عليه واعلم أنَّ هذا الكلام مُعَارَضٌ بمثله بأن يُعَيِّن المعترضُ صورةً من صور الأصل ويبيِّنَ الفرقَ بينها وبين الفرع المقيس فيثبت الفرق بينَه وبين الجميع لاستوائهما في الحكم مثل أن يقول الصورةُ المقيسُ عليها لا تزيد على المضروب بدليل الاستواء في الحكم والفرقُ بين المضروب وبين الحُليّ أن الحليَّ غير معدولٍ لاستعمالٍ مباح فيثبتُ الفرقُ بين الفرع وبينَ جميعِ صور المدَّعى وهذا كما تقدم في الفصل الذي قبل هذا فإذا كَان المستدلُّ يعترض على قياس المعترض بمثل ما يعترض به المعترضُ على قياسِ المستدلِّ تكافآ وعُلِم أن القياسَ المجهولَ باطلٌ وسيأتي الكلام على هذا قوله أو نقول العدمُ غير ثابتٍ في الفرع وإلا يلزم الاستواءُ بينهما في الحكم مع الافتراق في الحكمة وأنه غير واقع وإلا يلزم الترك بالمقتضي لإضافة الحكم إلى العلة أو الفارق هذا صورة أخرى للجواب عن المعارَضَةِ بالقياس المجهول وهو أن يقول عدمُ الوجوب ِ غير ثابتٍ في الفرع وهو الحُليّ لأنه إن كان ثابتًا للزم التسوية بين الفرع وبين ثياب البِذْلة في الحكم وهو عدم الوجوب مع الافتراق فى الحِكْمة وهو غير واقع لأنه يستلزم ترك

العمل بالمقتضي لإضافة الحكم إلى جميع العلة المناسبة ويستلزم ترك العمل بالفارق وقد تقدم الكلام على هذا قوله ولئن قاس ثانيًا وقال نعني به غير الأوَّل فنقول ما ذكرتم غير ثابتٍ وإلا لكان العدمُ فيما ذكرنا من الصور مضافًا إلى المشترك وليس كذلك لما بيَّنَّا حاصله أنَّ المستدلَّ إن عارض بقياس ثانٍ مجهول وادَّعَى المغايرة بين الأصل فيه والأصل في الأول قيل له عدمُ الحكم في صورة النزاع غير ثابت لأنه لو كان ثابتًا لزم أن يكون عدمُ الحكم في الصورة التي ذكرتَها وهي ثياب البِذْلة مضافًا إلى المشترك بينها وبين محلِّ النزاع لأن الاستواء في الحكم دليلُ الاستواء في الحكم مع الافتراق في الحِكْمة لما ذكرنا من الفرق بين تلك الصورة وبين محلِّ النزاع قوله ولئن قاس ثالثًا وأثبتَ التغايرَ بينه وبين الأَوَّلَيْن فنقول لم يتحقَّق ما ذكرتم وإلا لتحقَّق أحدُهما

حاصله إن عارَض بقياسٍِ يبيِّنُ فيه التغايرَ ولم يكتفِ بغايته قيل لا يتحقَّقُ مُدَّعاك لأنه لو تحقَّق لزم استواء الصورة المذكورة والفرع في الحكم مع الافتراق في الحكمة وهو مستلزمٌ لترك العمل بالمقتضي للإضافة أو الفارق قوله ولئن قاس رابعًا فنعيِّن صورةً أخرى فنقول بمثلِ ما قلنا مرةً بعد أُخرى إلى أن قاسَ سابعًا فصاعدًا

فصل في التنافي بين الحكمين

فصلٌ في التنافي بين الحُكْمَيْن اعلم أنَّ التنافي عكس التلازم لأنه عبارة عن كون الشيئين بحيث كلٌّ منهما ينفي الآخر ويمنعه ولا يجامعه وهو التضاد والتنافي والتعاند والترديد والتقسيم والشرطيّ المنفصل

وأصلُ اللفظ أن يكون كلٌّ منهما ينفي الآخر كالضدين لأن التنافي تفاعُلٌ من النفي فأصله أن يكون كلٌّ منهما يفعل مع الآخر مثل ما يفعل الآخرُ معَه فيكون معناه عدم اجتماعهما فقط فعلى هذا أيُّ المتنافيين تحقَّقَ انتفى الآخر ولا يجوز أن يكون النفي من أحد الجانبين دون الآخر لأن أحد الشيئين متى نُفِيَ الآخر لم يجتمع معه فلو فرَضْنا تحقُّقَ المنفيِّ امتنع تحقُّق النافي وإلا لاجتمع مع المنفيِّ وهو خلاف المفروض وكذلك لو تحقَّق النافي امتنع تحقق المنفي بخلاف اللزوم فإنه قد يتحقَّق اللازم بدون ملزوِمه لأن مقتضى اللزوم إنما هو وجودُه مَعَه فيجوز وجوده بدونه لأن ذلك لا ينافي وجوده معه وأما النَّفي فمقتضاه عدم الاجتماع فيمتنع اجتماع الوجُوْدَين ثم التنافي على ثلاثة أقسام لأن المُنَافي إِما أن ينافي الآخر وجودًا فقط أو عدمًا فقط أو وجودًا وعدمًا فإن تنافيا وجودًا وعدمًا فهو الذي يُقال له الشَّرْطيُّ المنفصلُ الحقيقيُّ الانفصال إذا صيغ التنافي بصيغة الشرط ويقال فيه استثناء عين كلِّ واحد من الأقسام يُنْتِج نقيضَ الآخر واستثناء نقيضِه يُنْتِج عينَه فله في الأصل أربعة استثناءات وهو الذي يقال له مانعُ الجمع والخلوِّ أي يمنعُ اجتماعَ القِسْميَن ويمنع خلوَّهما وربَّما عُبِّر عنه بالمتناقِضَيْن وإن

كان التناقض في الأصل عبارةً عن الإثبات والنفي لأنه متى انحصر الأمرُ في قسمين فلابدَّ من إثبات أحدهما ونفي الآخر كما يُقال العددُ إما شفع وإما وتر والماءُ إمَّا طاهر وإمَّا نجس والعباداتُ والعقودُ إمَّا صحيحة وإما فاسدة أو باطلة وهذا بالفعل إمَّا حلالٌ وإمَّا حرام والخبر إمَّا صدق وإما كَذِب وهذا إمَّا موجودٌ أو معدوم وأمثلته كثيرة فنقول لكنَّه طاهر فليس بنجس أو لكنه نجس فليس بطاهر أو لكنه ليس بطاهر فهو نجس أو لكنه ليس بنجسٍ فهو طاهر وإن صُغْتَه بصيغة الحمل والإخبار قلتَ الطهارةُ والنجاسةُ لا ترتفعان ولا تجتمعان أو تقول الطهارةُ والنجاسةُ حاصران أو لازمان متنافيان ونحو ذلك من العبارات وإن تنافيا وجودًا فقط أو عَدَمًا فهو الذي يقال له الشَّرْطيُّ المنفصلُ الذي ليس بحقيقيِّ الانفصال ثمُ ما تنافَى وجودُهما فهو الذي يقال له مانع الجمع ويُعَبِّر عنه في المعنى بالضدَّيْن واستثناءُ عين أحدهما يُنْتج نقيضَ الآخر فأما استثناءُ نقيِضه فعقيمٌ من هذه الجهة فإن وجود أحدِهما مستلزمٌ لعدمِ الآخر وهذا إنَّما يُستعمل في موضعٍ يكون المقصودُ نفي اجتماع الشيئين والاستدلال بوجود أحدِهما على عدمِ الآخر وكلامُ المصنِّف

في النافي يدخل في هذا القِسْم فإنه مفهوم التنافي في أصلِ اللغة وهذا يكونُ في الأضداد مثلُ قولنا إما أن يكون أَسودَ أو أبيض وإما أن يكون واجبًا أو حرامًا وإما أن تكون الصلاةُ صحيحةً أو الطهارةُ فاسدةً وإما أن تكونَ العلةُ موجودةً أو الحكمُ منتفيًا وإن شئت عبَّرتَ به بأن كذا وكذا مما لا يجتمعان أو بأنَّهما متنافيان وإن تنافيا عَدَمًا فقط فهو الذي يُقال له مانع الخلوِّ أي يمنع خلوَّهما جميعًا أي عدمهما جميعًا فأيهما عُدِم دلَّ على وجود الآخر ولهذا يقال استثناءُ نقيض أحدِهما يُنتجُ عينَ الآخر وأما استثناءُ عيِنِه فعقيم وهذا إنما يُستعمل في الموضع الذي يكون المقصود بيان وجوِد احدِ الأمرين أو كلاهما وبيانُ الحصرِ في شيئين أو أشياء والاستدلال بعدم أحدِهما على وجودِ الآخر أو بأنَّه إذا عُِدم وُجِدَ الآخر ردًّا على من زعم عدمَهما جميعًا كما أنَّ الذي قبله ردٌّ على من زعم اجتماعهما كما يقال الاستنجاء إما أن يكون بالماء أو بالجامد وطهارة الحدث إمَّا بالماءِ أو بالتراب والأدلة الشرعية إما الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو الاستصحاب

والغالبُ أن يُستعمل في هذا القسم لا يخلو كما يُستعمل في الذي قبله إما أن يكون كما يقال العلةُ لا تخلو إما أن تكون منصوصةً أو مستنبطة أو يقال الموجِبُ للغسل إما الجنابة أو الحيض أو النفاس أو الإسلام أو الموت وموجبُ العمد إما القَود وإما الدِّية والحكمُ إما بالبيِّنة أو بالإقرار أو باليمين أو بالنكول وكثيرًا ما يقع الترديد بين شيئين أحدهما أعمُّ من الآخر أو أحدُهما مستلزمٌ للآخر أو أحدهما مغاير للآخر لفظًا فقط بلا معنى لأن المقصود بيانُ وجودِ أحدِهما على التقدِيْرَيْن أو بيان وجود مقصود تحصيل أحدهما وأما في القِسْمَيْن الأوَّلَيْن فلا يجوز ذلك لأن قسيم الشيء ليس قسمًا منه والمتلازمان لا يتنافيان وكثيرًا ما يسلُكُ الجدليون هذا المسلك وإذا كان كذلك لم يُنْتِج استثناء نقيضِ كلٍّ منهما عينَ الآخر لأن نفي الأعم أو الملزوم لا يصحُّ معه ثبوتُ الأخصِّ اللازم كما يقال الشيءُ إمَّا أن يكون ممكنًا الإمكان العام أو الإمكان الخاص فإن لم يكن ممكنًا الإمكان الخاصَّ فهو ممكن الإمكان العام ولا يصحُّ العكس والسرُّ في ذلك أن الترديد في المعنى بين الخاص منفردًا وبين العامِّ مع الخاص فكأنه قيل إما أن يكون الإمكان الخاص فقط أو الخاص والعام ومعلوم أنه لو قيل كذلك ظهر المقصود فافهم الفرقَ بين هذه الأقسام وموادِّها وصورِها فإنه نافع في العلوم جميعًا

واعلم أن التنافي كما يكون بين الأحكام فإنه يكون بينها وبين الدلائل والعلل كما يُقال القولُ بموجبِ هذا الدليل وعدمُ الحكم الفلاني لا يجتمعان أو كون الوصف الفلاني علة وعدم الحكم الفلاني لا يجتمعان وذلك لا يخفى على مُحَصِّل قال المصنِّف وهو امتناع الاجتماع بينهما في محلٍّ واحد في زمانٍ واحد وهو كما قال لأنه يعني بالمتنافيين المتضادِّيْن وهما مالا يجوز اجتماعهما مكانًا وزمانًا فإذا اجتمعا في محلٍّ واحد في زمانٍ واحد فليسا متنافيين وإن لم يجتمعا في المحلِّ الواحد إلا في زمانين أو لم يجتمعا في الزمان الواحد إلا في محلَّيْن فهما متنافيان وإن لم يمكن اجتماعُهما لا في محلٍّ واحد ولا محلين ولا زمانٍ واحد ولا زمانَيْن فهما أشد تنافيًا واعلم أنهما قد يتنافيان مطلقًا وقد يتنافيان على نقص الوجوه وكثيرًا ما يقع الغلطُ في هذا فيوجد المطلق موضع المقيَّد وبالعكس والنَّقِيضان نوعان من المتنافيين وقد عُلِم أنه لابدَّ في المتناقِضَيْن من اتحادهما في النسبة التي تناقضا فيها حتى يلزم من عدم أحدهما

وجود الآخر وبالعكس وقد فصَّلها بعضُ الناس وعدُّوها ثمانية ومنهم من زعم أنَّ الأقسامَ متداخلة إلى ثلاثة وقيل إلى اثنين وقيل إلى واحد وهو الصواب فالمعتبر أن يكون المثبت هو المنفي وكل ما اقتضى تغايرهما لم يتحقَّق معه التناقض وأما المتنافيان فأعم من ذلك فلا يشترط إلا أن يكون أحدهما بحيث يلزم من وجوده عدم الآخر سواء كان نقيضه أو ضده واعلم أن التنافي إذا صحَّ بطريقٍ شرعيٍّ فإنه طريق من الطرق الصحيحة كالتلازم وتحقيقُه إنما يكونُ بالمناهج العلمية أو المعاني الفقهية وهولاء المموِّهون يدَّعُونه ويحتجُّون عليه بما لا دليل فيه والله المستعان قوله كما إذا قال الوجوب على المديون مع عدم الوجوب على من ملك مالاً دون النصاب مما لا يجتمعان والثاني ثابت إجماعًا فيلزم انتفاء الأوَّل اعلم أن المتنافيين قد يكونان وجوِديَّيْن وقد يكونان عدَمِيَّيْن وقد يكون الأول وجودًا والثاني عدمًا وبالعكس كما في التلازم فإذا ادَّعَى أن الوجوبَ هنا وعدم الوجوب هنا لا يجتمعان فهو معنى دعوى التلازم بين الوجودِيَّيْن وقوله والثاني ثابت مثل قوله والملزوم منتفٍ لكن الكلام في هذه الصورة له طريق يختصُّ بها فإن قيل إذا قيل إن المتنافيين إنما يمتنع اجتماعهما في محلٍّ

واحد وزمانٍ واحد فالوجوبُ على المَدِيْن وعدمُه على مالك ما دون النصاب لا يكونان في محلٍّ واحد حتى يقال اجتمعا فيه أو لم يجتمعا مرادهم أنهما لا يجتمعان في حكم الشارع وجعلوا الحكم الشرعي محلاًّ لما هو أخص منه من الأحكام كالوجوب هنا والوجوبُ كما يجعل الأمور العادية أوعية ومحالاًّ لأقسامها الخاصة لأنها جَمَعَتْها ووَعَتْها كالظرف والوعاء فيقال الجِسْم يجمع النامي والجامد والحيوان والجامد والبهيم والناطق ويقال الحكم الشرعي يدخل فيه الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحظر وهو كثير واعلم أن الطرق الصحيحة في تقرير أن يبين أن ثبوت أحدهما ينفي الآخر إما بنصٍّ إن اتفق ذلك فإن النصوص لا تكاد تدل على مثل ذلك صريحًا إلا بطريق الاستلزام نحو ذلك وذلك أن يسوِّي الشارع بينهما أو يفرِّق فيقال إثبات أحدهما مع عدم الآخر مما لا يجتمعان أو إثباتهما جميعًا مما لا يجتمعان وهذا كما يقال في حديث التوضؤ بالنبيذ

إن الاستدلال على تجويز التوضؤ بالنبيذ المطبوخ مع القول بعدم الجواز بالنِّيء لا يجتمعان لأن الحديث إِنما هو في النبيذ النِّيء فإن كان دليلاً معتمدًا جاز الوضوء بالنِّيء فلا يكون عدمه متحقَّقًا وإن لم يكن دليلاً معتمدًا امتنع الاستدلالُ به على جواز التوضوء بالمطبوخ فعُلِمَ أن الاستدلالَ به على الجواز في المطبوخ دون النِّيء غير ممكن فيكون الجوازُ هنا وعدمُه هناك متنافيين وأما بقياس صحيح أو تلازم صحيح مثل أن يبيِّن أن المقتضي للجواز في إحدى الصورتين موجود في الأخرى أو المانع في إحداهما موجود في الأخرى أو أنَّ إحداهما مستلزم للحكم في الأخرى فيتنافى الجواز وعدمه في إحدى الصورتين ونقيضه في الأخرى أو يبيِّن أن بتقدير الحُكْم في إحدى الصورَتَيْن يقوم مانع في الأُخرى أو بتقدير عدم المانع في إحداهما يُسَلَّم المقتضي في الأُخرى

عن المانع فيتنافى الحُكْمان فيهما وجودًا وعدمًا مثل أن يُقال إيجابُ الزكاةِ في مال الصبيّ وعدم الإيجاب في مالِ المجنون لا يجتمعان أو يقال إجبار الصغيرة الثيب والبكر البالغة يتنافيان أو لا يجتمعان أو يقول إيجابُ العبادة وقضاؤُها يتنافيان أو عدم إيجاب الوضوء وعدم إيجاب التيمم يتنافيان أو يقال إيجاب قتل الجماعة بالواحد ومنع لا يجتمعان ويُسْتَدل على التنافي بالأدلة المعلومة في كل مسألة من هذه المسائل سواء كانت إجماعيَّة أو خلافية ومثاله أن يقول في المال الذي ذكره لأن عدم الوجوب على من له دون النصاب إنما كان لنفي الضرر الحاصل بالإيجاب فإن المالَ القليلَ لا يحتمل المواساة لأنه مشغول بحوائج مالكه ومالُ المدين يشاركه في هذا المعنى فيتنافىَ وجودُ أحدِهما وعدمُ الآخر أو يقول الوجوبُ على المدين إن ثبتَ فإنما يكون رعايةً لجانب السبب الموجِب وهو المال الموجود وترك النظر إلى كونه مشغولاً بمصالح المالك وهذا المعنى موجود في قليل المال فيجب ثبوت الوجوب فيه وليس الغرضُ تقريرَ صحَّة هذا التنافي على الخصوص فإن مادَّة الكلام في هذا المثال قد تقدمَّ في التلازم وعامة المُمَوِّهين يثبتون التنافى

بنحوٍ مما يثبتون به التلازم قال المصنِّف والدليل على عدم الاجتماع متعدِّد فإنه يمكن أن يتمسَّك بالنص والقياس والتلازم وغيرها لكن نفي الاجتماع بِنَفْي أحدهما في مثل ما ذكرنا من المثال لا يتم لوجهين أحدهما أنه دعوى أَحد الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء وهذا باطل يُعْرف من بعد والثاني أنه معارَض بمثله فإن الخصمَ يقول العدمُ هنا مع العدم ثَمَّةَ مما لا يجتمعان بعينِ ما ذكرتُم وهو كما قال فإنهم تارة يثبتون نَفْي اجتماع العدم والوجوب بالنص الدال على الوجوب مثلاً في صورة العدم كما تقدَّم من أدلتهم على الوجوب على الفقير في التلازم كقوله وَآتُوا الزَّكَاةَ [النور 56] أو خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 103] والدال ُّ على الوجوب في تلك الصورة دالٌّ على أن العدم فيها والوجوب في الأخرى لا يجتمعان إذ لو اجتمعا لثبتَ العدمُ فيهما وهو خلاف مدلول الدليل أو بالنصِّ الدالِّ على العدم في صورة الوجوب المختَلَفِ فيها

كقوله لا صَدَقَة إلا عن ظَهْرِ غِنًى وابدأ بنفسِكَ ونحو ذلك ومتى ثبتَ العدمُ فيها ثبتَ أن الوجوب فيها والعدمَ في الأُخرى لا يجتمعان وتارةً يثبتونه بالقياس سواءٌ كان وجوديًّا أو عدميًّا مثل أن يقيس الوجوب على الفقير على الوجوب على المَدِيْن أو عدم الوجوب على المَدِيْن على عدم الوجوب على الفقير بالأقْيِسَة المعروفة من طريقتهم مما سيأتى وتارةً يثبتونه بالتلازم المذكور في بيان الوجوب على الفقير على تقدير الوجوب على المَدِيْن كما تقدم ذكرُه مثل أن يقال لو وجبَتْ هنا لوجبت هناك أو لو لم يجب هناك لما وجبَتْ هُنا أو يقال عدم اجتماعهما من لوازم اللزوم كما تقدم ذكرُه في التلازم وقد اعترفوا أن هذا لا يتم أي لا يتمُّ للمستدل إما لإمكان إبطاله في نَفْسِه أو لإمكان معارضته بمثله وكلُّ صورة من صور

النكث أمكن فيها أحد هذين لم تتم بل ينقطع المستدلُّ بها دون إتمامها لأن تمامها إنما يكون بالدلالةِ على المطلوب والسلامةِ عن المعارض وبيانُ ذلك من وجهين أحدهما أنه دعوى أحد الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء وذلك لا يصحُّ كما يذكر في الاستدلال بالنصِّ وذلك لأنه إذا قال الوجوبُ هنا والعدم هناك لا يجتمعان فلابدَّ أن يقول وأحدُهما ثابت فينتفي الآخر مثل أن يقول والعدم هناك ثابت إجماعًا فينتفي الوجوب هنا ومتى احتاج أن ينفي ثبوت أحدهما فقد ادَّعَى أحد الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء لأنه يقول لابُدَّ من أحد الأمرين إمَّا العدم هنا وإمَّا الوجوبُ هناك وإذا ادّعَى أحدَ أمرَيْن وأحدهما معلوم الانتفاء في نفسِ الأمر لم يَجُزْ ذلك واللازِمُ الانتفاء هو المدَّعَى لأنه دعوى ما يُعْلَم عدمُه فيتعيَّن أن يكون المدَّعَى هو الأمر الآخر وإذا كان المدَّعَى هو الأَمر الآخر وهو دعوى العدم هنا مثلاً فهو دعوى محلّ النزاع بعينه فلا فائدة في الترديد والتنافي وأيضًا فإنه لم يمكنه إقامة الدليل على انتفاء الأمرِ الآخر الذي ينافي ثبوتَ اللازم الانتفاء فقد أقامَ الدليل على المدَّعَى فلا فائدةَ في التنافي وإن لم يمكنه إقامةُ الدليل على انتفائه جازَ أن يكون موجودًا

وجاز أن يكون معدومًا وحينئذٍ فلا تتحقَّقُ منافاتُه لثبوت ما عُلِم انتفاؤه وأيضًا فإنه إذا ادَّعى أحدَ الأمرين اللذين قد عُلِم انتفاء أحدهما فإِمَّا أن يُقِيم الدليلَ على أحدهما مبهمًا أو معيَّنًا لم يجز أن يقيم الدليلَ على ثبوت ما يجوز ثبوته دون ما عُلِم انتفاؤه وأمَّا إقامة الدليل على كلٍّ منهما فلا سبيل إليه فعُلِم أنه على كلِّ تقدير لا يمكنه إقامة الدليل إلا على ثبوت ما يجوز ثبوته وأنه إن أقامَه على ما عُلِم انتفاؤه كان قد عُلِم أنه باطل فلا يفيد وهذا مثل إقامة الدليل في المثال المذكور على الوجوب على من مَلَك دون النصاب فإنه إقامةُ دليلٍ على ما يُعْلَم انتفاؤه فلا يكون مسموعًا وأَيضًا فإنه إذا قام الدليل على ثبوتِ ما هو لازمُ الانتفاءِ وهو الوجوبُ على من ملَكَ دون النصاب مثلاً فإنه لازمُ الانتفاء فإذا أقامَ الدليلَ على ثبوته لم يمكنه أن يقول بعد ذلك والعدمُ ثابت فينتفي الأول ولابدَّ له من هذه المقدمة الثابتة فإذا أقام الدليلَ على الوجوب لم يصح أن يقول وعدم الوجوب ثابت لأنه جَمْع بين النقيضَيْن وأيضًا فإنه إذا أدَّعى أحدَ الأمرين وأقامَ الدليلَ على كلٍّ منهما

أمكنَ المعترض أن ينفي الأمرَيْن بالأدلة النافية لكلٍّ منهما مثالُ ذلك إذا قال هنا لا يخلو إمَّا أن لا يجب أو يجب هناك بالأدلة الدالَّة على عدم الوجوب هنا والأدلةِ الدالة على الوجوب هناك لكن الثاني منتفٍ بالإجماع فيتعيَّن الأول قيل له لا يثبتُ واحد منهما لأنه لا يخلو إما أن يجب هنا أو يجب هناك بالأدلة الدالة على الوجوب هنا وهناك والوجوبُ هناك منتفٍ فيتعيَّن الوجوبُ هنا فإن قيل إنما يَدَّعي أحد الأمرَيْن اللذين أحدُهما لازم الانتفاء ويقيم الدليل على ثبوتِ أحدهما بتقدير عدمِ الآخر كما في التلازم مثاله أن يقيم الدليلَ على الوجوب على الفقير بتقدير الوجوبِ على المَدِيْن فلا فرقَ بين هذا وبين التلازم في المعنى قيل هو في باب التلازم يدَّعي الوجوب على التقدير وهذا أيضًا ممكن ويقيم الدليل عليه في الجملة فيكون قد أقام الدليلَ على ممكن وكذلك لم يمكن المعترض معارضته بنفسِ كلامه وهنا إذا ادَّعَى أحدَ أمرين فهو يُقيم الدليل على كلٍّ منهما بانفراده وهذا غير ممكن فيما عُلِمَ انتفاؤه وإذا أمكن في الجانب الآخر فهو مستقلٌّ بالإفادة واعلم أن هذا الذي قالوه جيِّد إذا كان الاستدلال على أحد الأمرين بأدلة عامة من جنس الأدلة التي يثبتون بها التلازم والدوران

والقياس والنقض ونحو ذلك أما إذا ادَّعى أحد أمرين وأقامَ دليلاً صحيحًا على ثبوتِ أحدِهما لا محالة وكان قد عُلِمَ انتفاءُ أحدهما فهو دليلٌ على ثبوتِ الآخر وهذا يكون كثيرًا في مواضع يكون الدليلُ الواحدُ غير دالٍّ على عين المدَّعَى مثل أن يقول المقتضي لتحريم الخمر إمَّا السُّكْر أو الرائحة لأن التحريم دار معهما وجودًا وعدمًا والرائحةُ غير مقتضية بالإجماع فتعيَّن أن يكون السُّكْر مقتضيًا أو يقول صيغة افعل إمَّا أن يكون مقتضاها في الأصل الطلب أو ما يستلزمُ عدم الطلب لأنَّ الحال لا يخلو عن أحدهما والثاني منتفٍ فيتعيَّن الأول وهذا كثير في كلامهم واعلم أن هذه الأدلة العامة لا تدلُّ على شيءٍ لا في التنافي ولا في غيره لكن في غيره قد لا يمكن الخصمَ المقابلة بمثل ذلك الدليل وفيه قد أمكنه ذلك فلذلك يقولون قد لا يَتمّ فالمقصود بتمام الدليل وعدمه عندهم إمكان الاستدلال عليه بجنس أدلتهم من غير مُعَارضة بمثل ذلك الدليل الثاني أنه وإن لم يظهر بطلانُه في نفسِه فإنه يمكن معارضتُه بمثله بأن يُقال ما ذكرتَ من الدليل وإن دلَّ على عدم الاجتماع فعندنا ما ينفي هذا العدم وهو ما يثبت الاجتماعَ وذلك لأن عدمَ الوجوبِ في فصلِ المدينِ وعدَمَه في فصل الفقير الذي يملك دون النصاب لا يجتمعان بعين ما ذكرتم وهو النص الدالُّ على الوجوب في صورة العدم ونحوه مما يقال في دعوى أحد الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء كما يقال إمَّا أن يجب هنا أو يجب هناك ولا يجب هناك

بالإجماع فيجب هنا وحينئذٍ يلزم الاجتماع هنا وعدم الوجوب هناك وهو نقيض ما ادعاه المستدل واعلم أنَّ الاستدلال على التنافي على الوجه الذي تقدَّم باطلٌ من وجوه أخرى كثيرة قد تقدم التنبيه على كثير منها في التلازم فإن مادَّة الكلام واحدة فلذلك كرهنا إعادتها ويختص هذا الموضع بأنه قد انعقد الإجماع على عدم دلالة النصوص أو الأقسية أو التلازمات على الوجوب هناك وإذا لم تكن دالةً على الوجوب لم تكن دالة على عدم اجتماعهما ولا يمكنه أن يقول هي دالة على الوجوب على تقدير اجتماع الوجوبَيْن كما قال في التلازم هي دالة على الوجوب على تقدير الوجوب لأنَّه لا يريدُ أن يثبتَ دلالتها على عدم الاجتماع بدلالتها على الوجوب فلو قال هي دالَّة على الوجوب على تقدير اجتماع الوجوبَيْن فتكون دالَّة على عدم اجتماع الوجوب هنا والعدم هناك لكان معنى الكلام هي دالَّة على الوجوب على عدم اجتماع الوجوب هنا وعدمه هناك على تقدير اجتماع الوجوبَيْن ومعلومٌ أنه بتقدير الوجوبَيْن لا يكون أحدُهما معدومًا فلا يجتمع الوجوب في أحدهما والعدم في الآخر فنكون قد قلنا هي دالَّة على عدم اجتماع الوجوب والعدمِ بتقدير عدم اجتماع الوجوب والعدم وهذا كلامٌ لا يُفِيْد وكذلك لو قال هي دالَّةٌ على الوجوب هناك على تقدير الوجوب

هنا فتكونُ دالَّة على عدمِ اجتماع الوجوب هنا والعدم هناك قيل له إذا دلَّت على تقدير الوجوب بتقدير الوجوب فقد دلت على امتناع اجتماع الوجوب في أحدهما والعدم في الآخر فتكون دلالتها على امتناع هذا الاجتماع مشروطة بما يمنع هذا الاجتماع وهذا أيضًا لا يفيد فإن الدليلَ إذا لم يدل إلا بتقدير وجودِ المدلول عليه بدونه لم يكن دليلاً لعدمِ تأثيره في المدلول وجودًا وعدمًا هذا هو السِّرُّ في ردِّهم دعوى أحد الأمرين الذين أحدهما معلوم الانتفاء وأيضًا فإنه إن استدلَّ على عدم اجتماع الوجوب هنا والعدم هناك بما ينفي الوجوبَ هنا كان ذلك وحدَه دليلاً على عدم الوجوب هنا وهو المطلوب فلا يجوز جَعْل عدم الاجتماع مقدمةً في الدليل وهى لا تثبتُ إلا بثبوت المطلوب فيكون ذلك مصادرةً على المطلوب وأيضًا فإنه هب أنه أمكنه الدلالة على عدم الوجوب هنا أو على ثبوته هناك لكن ليس هنا ما يدلُّ على التنافي فإن مجرَّد الدلالة على ثبوت الشيءِ أو نفيه لا يدلُّ على نفي غيره أو ثبوته إلا بواسطةٍ أخرى فإن قال الواسطةُ هي الدليل الآخر في الجانب الآخر قيل له وذلك أيضًا لا يدلُّ على عدم الاجتماع لا بنفسه ولا بواسطة وإيضاح ذلك أنه إذا استدلَّ على الوجوبِ هناك ثم قال

فلا يجتمع عدم الوجوب هناك والوجوب هنا قيل له لا نُسَلِّم فإنه بتقدير أن يكون الوجوبُ هناك ثابتًا جاز أن يكون العدمُ هنا ثابتًا وهذا وإن كان خلاف الإجماع لكن الوجوب هناك خلاف الإجماع فلا يضرُّ أن يلزم من خلافِ الإجماعِ خلافُ الإجماع وكذلك قوله ما يدلُّ على عدم الوجوب هناك يدلُّ على عدم الاجتماع غيرُ صحيح بل الأدلَّة على ذلك بالنفي والإثبات وإن استدلَّ على عدم الوجوب هنا ثم قال وإذا ثبتَ العدمُ فالوجوب هنا والعدم هنا لاَ يجتمعان قيل له لا نُسَلِّم فإن الدالَّ على العدم هنا يدلُّ على العدم هنا أمَّا دلالته على الحكم هنا بنفيٍ أو إيجابٍ فلا وذلك أنه يجوز أن يكون العدمُ هنا ثابتًا والوجوبُ هنا والعدمُ هناك يجتمعان ويجوز أن يكون الدالُّ على العدم هنا دالاًّ على الوجوب هناك لأنَّ المعترضَ يُمكنُه منعُ عدمِ الوجوب هناك بتقدير الوجوب هنا قوله وأما إذا ردَّدَ الكلامَ في أمرٍ ونَفى الاجتماعَ على كلِّ واحدٍ من التقديرَيْن بما هو المختص بذلك التقدير كما إذا قال المشترك بينهما لا يخلو إمَّا أن يكون موجِبًا لوجوبِ الزكاة أو لم

يكن فإن كان موجبًا تجبُ الزكاة ثمَّة عملاً بالموجِب وإن لم يكن لا تجبُ الزكاة هنا بالنافي السَّالم عن معارضةِ كونه موجبًا فإنه يتم لأنه لا يمكن له أن يقول بمثل ما قلنا سواء كان ذلك الأمر وهو الذي ضم إليه ضد المدَّعَى من صُوَر الإجماع كما مر أو من صور الخلاف نحو المركَّب مثلاً أو كان فيه روايتان عن مجتهدٍ والترديد لازم بعد اللزوم فيها واعلم أن التنافي على هذا الوجه مقيَّد في الجملة وهو مما يمكنُ تمامه وذلك لأنه إذا ردَّد الكلام بين أمرين وبيَّن أن الاجتماع منتفٍ على كلِّ واحد من التقديرين بدليلٍ يختصُّ ذلك التقدير كان بمنزلة أن يقيمَ دليلاً يدلُّ بنفسه على امتناع الاجتماع بأن يُبَيِّن أن ثبوت أحدهما ينفي ثبوتَ الآخر فإن ذلك قد يمكن في مواضعَ كثيرة لأنه لا فرقَ أن يُبَيِّن تنافيهما وامتناع اجتماعهما بدليل يدلُّ على ذلك أو يُبَيِّن انحصار الأقسام في أمور ويُبَيِّن تنافيها على تقدير كلِّ قسمٍ من الأقسام وكذلك أيضًا لا فرقَ بين إثبات التلازم بما يدلُّ بنفسه على ذلك أو ترديد الحال في أمور وبيان اللزوم على تقدير كلِّ قسم وهذا ظاهر بخلافِ ما إذا بيَّن التنافي بدليل يُثبت أحدَهما

وبدليلٍ آخر ينفي الآخر وليس لدليلِ ثبوتِ أحدِهما إشعارٌ بانتفاء الآخر ولا لدليل الانتفاءِ إشعارٌ بثبوتِ الآخر بل يجوز أن يستدلَّ بدليلِ ثبوتِ أحدِهما على ثبوتِ الآخر كما يستدلُّ على انتفائه ويجوز أن يمنع الحكم هناك على تقدير خلاف المدَّعَى هناك وفَرَضْنا ثبوتَ موجب الدليلين لكان ذلك أمرًا اتفاقيًّا لا لزوميًّا والأمرُ الاتفاقي لا يدلُّ على التنافي لجواز تغيرُّ الحال الاتفاقية ولأنه لا مناسبة بينه وبين ما استدلَّ به عليه ولابدَّ أن يكون بين الدليل والمدلول نوعُ علاقة ورباط ولأنَّ التنافي هو كون أحدهما ينفي الآخر بنفسه أو بلازِمِه من حيث هو لازِمُه لا كون هذا اتفقَ انتفاؤُه عند وجود هذا لا سيما إذا اتفق انتفاؤه عند وجوده وعند عدمه لكن إنَّما أثبتوه بجنس أدلَّتِهم في الجملة وذلك له صور متعدِّدة لأن انتفاء الاجتماع على كلِّ تقدير له أسباب متعدِّدة منها ما ذكره وهو القياس بأن يقال المشترك بين الصورتين لا يخلو إما أن يكون مقتضيًا وجوبَ الزكاة أو لا يكون ويعني بالمشترك بينهما حصول المصالح المتعلِّقة بالوجوب منهما أو كون الوجوب طريقًا إلى تحصيلها فإن ما يشتركان فيه من ذلك إما أن يكون موجبًا لوجوب الزكاة أم لا فإن كان مقتضيًا وجبت الزكاةُ هناك عملاً بالموجب وحينئذٍ فلا يجتمع الوجوبُ هنا والعدم هناك وإن لم يكن المشترك مقتضيًا للوجوب لم تجب الزكاة هنا عملاً بالنافي لوجوب الزكاة السالم عن معارضة موجبه المشترك وحينئذٍ لا يجتمع

الوجوبُ وعدمُه فحاصله أنه أثبت الوجوبَ على تقدير بدليلٍ ينشأُ من ذلك التقدير وأثْبَت عدمها عند عدم ذلك التقدير بدليلٍ ينشأُ من عدم ذلك التقدير وهذا في الجملة له توهيم وتمويه فإن قيل ألا تجبُ الزكاةُ هناك على تقدير كون المشترك موجبًا بالمانع من الوجوب قيل له يعني بالموجب هو ما يقتضي الزكاة على تقدير وجود المانع وعدمه بأن يكون راجحًا على ما يعارضُه وينافيه وحينئذٍ فإذا كان المشترك موجبًا بهذا التفسير لزمت الزكاةُ هناك قطعًا وإن لم يكن موجبًا فقد سلم ما هنا عن المعارض القطعي وهو الموجب بكلِّ حال فيكون الموجب منتفيًا بالنافي السالم عن هذا المعارض واعلم أن اختصاص السالم النافي بتقدير عدم موجبيَّة المشترك أظهر من اختصاص الموجب بتقدير موجبيَّتِه لأن الوجوب يمكنُ حصوله بغير المشترك كما يمكن حصوله به وغير المشترك متعدِّد أمَّا نفي الوجوب فلا يحصل إلاَّ بالنافي السالم عن المعارض والمعارضُ إما قطعيٌ أو ظنيٌّ فقد ذكر أحدَ قِسْمَي عدم الوجوب فعُلِم أنَّ النافي لا يحصل إلا على هذا التقدير أو تقدير آخر والموجب يحصل على هذا التقدير وعدَّة تقديرات فكان الأوَّل

أخص وإنما لم يمكن المعترض أن يقابل المستدلّ بمثل كلامه لأنه إذا قال العدم هنا مع العدم هناك لا يجتمعان لأن المشترك بين الصورتين إما أن يكون مقتضيًا للوجوب أولا يكون فإن كان مقتضيًا للوجوب وجبت الزكاةُ هناك عملاً بالموجب أو وجبت الزكاة مطلقًا وحينئذ فلا تحقُّقَ للعدم فضلاً عن اجتماع الموجبين وإن لم يكن مقتضيًا للوجوب وجبت الزكاةُ هنا بالمقتضي للوجوب فلا يجتمع العدمان قيل له لا نُسَلِّم أنَّه إذا لم يكن مقتضيًا تجب الزكاة هنا لأن عدم المقتضى الخاص لا إشعار له بالوجوب بل هو إلى الإشعار بالعدم أقرب ومَنْعُ المستدلِّ هنا ظاهر لأن الوجوبَ عنده غير ثابت فإن أنشأ المعترضُ الوجوبَ هنا بدليلٍ لم يَحْسُن لوجهين أحدهما أن ذلك الدليل لا ينشأ من هذا التقدير والأدلَّةُ العامةُ قد تقدمَّ الكلامُ على تهافتها وتهاترها والثاني أن إثبات الوجوب هنا إثبات الحكم المتنازع فيه فإذا أبطل به مقدمة المستدل وهو قوله الوجوبُ هنا والعدم هناك لا يجتمعان قد قال الوجوب والعدم يجتمعان لثبوت الوجوب

المتنازع فيه بكَيْتَ وكَيْت وهذا غَصْب لمنصبِ الاستدلال فلا يُسْمَع هذا تقرير كلام هؤلاء والتحقيقُ أنَّ مثل هذا الكلام لا يُقْبل من المستدلِّ أيضًا لوجوه أحدها قوله وإن لم يكن المشترك موجبًا لم تجب الزكاة هنا بالنافي السالم عن معارضة القطعي قلنا إما أن تكون سلامة النافي عن المعارض القطعي كافيةً في العمل بموجبه أو غير كافيةٍ فإن كانت السلامة عن المعارض القطعي كافيةً في العمل بموجبه وجبَ العملُ بكلِّ نافٍ لم يعارِضْه قطعي وحينئذٍ فلا يجوز إثبات الوجوب بدليل ظَنِّي لأن نافي الوجوب حينئذٍ يكون سالمًا عن المعارض القطعي وهذا خلاف إجماع الأمة بل خلاف إجماع العقلاء فإنَّ الأصل النافي أضعف الأدلة فأدنى دليل موجب يُبْطِل العملَ به ولهذا يترك استصحاب الحال النافي للوجوب بالظواهر والتلازمات والأقيسة وغير ذلك ولهذا تُشْغل الذمم بالأمارات التي ليست قطعية وتقبل أخبار الآحاد بل تُقْبل الأمارات الظنية في دفع موجب الأدلة النافية من الاستصحاب ونحوه ومن تأمَّل الشريعة تأصيلاً وتفصيلاً وجد الغالب عليها تقديم

الظواهر على النوافي وإن قال أعني بالنافي ما ينفي الوجوب من الاستصحاب والدور المنفي شرعًا والنصوص النافية للوجوب قيل هذا لو صحَّ لم يَجُز العملُ به إذا عارضه ما يكافئه أو يفوقه من الظنِّيَّات وإن كان سالمًا عن معارضة القطعي فعُلِمَ أن ذلك وحدَه ليس كافيًا وإن لم تكن السلامة عن معارضة القاطع كافيةً في العمل بالنافي كان معنى كلامه لم تجب الزكاةُ هنا بالدليل الموصوف صفةَ قد لا تكفي في العمل به ومعلومٌ أنَّ الدليل لا يجوزُ اتِّباعه حتى يتَّصف بالصفات التي يجب العمل به عند وجودها فإن قال مجرَّد النافي دليل شرعي وليس على المستدل به التعرُّض لنفي المعارضات إذ المعارضات لا تنحصر بل على المستدل إبداء المعارض لكن له أن يتعرَّض لنفي ما يشاء من المعارضات فإنه ليس ممنوعًا من ذلك وقد تعين ما نَصَبَه منها لكونه قد خطر بباله أو ببال المناظِرِ له لكونه هو الذي خشي أن يعارض به أو الذي اشتهرت المعارضةُ به أو لأنه لا يعرف معارضًا غيره ونحو ذلك وحينئذٍ فنفْيُه للمعارض القطعي تبرُّع بزيادة

في الدليل لا شرطٌ في الاستدلال بالنافي نعم الشرط على الناظر أن لا يجد دليلاً أقوى من النافي أو مساويًا له وعليه فيما بينه وبين الله أن يبين رُجْحان النافي على ما يَجِده من المعارضات بعد البحث أما المُناظِر فلا يُكَلَّف ذلك كما تقدم هذا تمسُّكٌ باستصحاب الحال النافي وعند أكثر هؤلاء الجدليين وأكثر سلفهم المؤصّلين إنما يصلح للدفع وإبقاء ما كان على ما كان وحينئذٍ فلا يجوز الاستدلال به في تنافي الحكمين لأن ذلك قدر زائد على الدفع والإبقاء وأما عندنا وعند أكثر الناس فإنه حجة في الجملة لكن نقول إن كان دليله لا يتم إلا بالاستدلال بالنافي على إحدى مقدماته فلا حاجة إلى هذا التطويل فإنَّ النافي وحدَه كاف بأن يقول أولاً لا تجب الزكاة على المدين بالنافي وعلى المعترض أن يبيِّن ما يوجب الزكاة أو يقول تجب الزكاة عليه بالنافي السالم عن معارضة القطعي وإذا كان ما يدلُّ على بعض المقدمات على بعض التقادير

يدل بعضُه على الحكم المتنازع كان بقية المقدمات والتقديرات خارجةً عن الدليل وزيادةً فيه ولا يجوز أن يُزاد في الدليل ما ليس من الدليل لأنَّه ضم ما لا يفيد إلى ما يفيد مثل التكلُّم بالمهمل والمستعمل والاستدلال على الحكم الشرعي بالأدلة الشرعية بعد تقديم مقدمات حسابية وظنية لا يتوقف الاستدلالُ عليها وهذا ظاهر لا خفاءَ به فإنه إذا قال الوجوبُ هنا والعدمُ يتنافيان وإذا تنافيا وقد ثبتَ العدم انتفي الوجوب فهاتان مقدمتان ثم يقول والدليل على الأولى أن المشترك إن كان موجبًا فقد ثبت الوجوبُ فيهما وإن لم يكن موجبًا انتفى الوجوب عنهما بالنافي للوجوب السالم وكان قوله في الأول الأمر لا يجب هنا بالنافي السالم وإلا كانت تلك المقدمات والتقديرات حشوًا ليس من الدليل واعلم أصلحك الله أن نكت هؤلاء المموِّهِيْن إذا صح بعضُها وكان مبنيًّا على أصول الفقه فإنه لابد من حشوٍ وإطالة وذِكْر مالا يفيد ووقف الاستدلال على مالا يتوقف وإدخال ما ليس من مقدمات الدليل في المقدمات فهي دائرة بين تغليط وتضييع وبين الإحالة والإطالة وبين الباطل الصريح والحشو القبيح فإن قلتَ حُسْن الكلام ليس محصورًا في الإيجاز بل المتكلم له أن يوجز تارة ويُسْهِب أخرى فإنهما طريقان من طرق الكلام كما

قيل ويُسْهب لكنه لا يُمِلّ ويوجز لكنه لا يُخِلّ قلتُ هم قد سلَّموا لنا أن ما لا يتوقف الاستدلالُ عليه لا يجوزُ إدْخاله في الدليل وما ذكرناه كذلك ثم نقول الإسهابُ والإطنابُ حَسَنٌ بليغ إذا أفاد الإيضاح والبيان حتى يصيرَ الخبرُ كالعيان ولهذا قال الخليلُ بن أحمد الكلامُ يوجَزُ لِيُحْفَظ ويُبْسَط لِيُِفْهَم إذا كانت معانيه تكُثُر بكثرة ألفاظه أما إذا كان بالإطالة يزداد خفاءً وبُعدًا وما يُزادُ فيه لا حاجةَ إليه أَلْبتة لم يجز استعماله باتفاق أهل البيان وأهل النَّظر فإنه مذموم شرعًا قبيح عقلاً وطبعًا الوجه الثاني أن قوله بالنافي السالم إما أن يعني به براءة الذمم من الوجوب المعلومة بالعقل المُسْتَصْحِبة إلى أن يَرِدَ الناقل أو يعني

به أدلَّةً معينةً تنفي الوجوب أو يعني القَدْر المشترك أو يعني شيئًا رابعًا فإن عَنَى الأول كان مستدلاًّ على نفي وجوب الزكاة عن رجلٍ قد ملك نصابًا لأجل دينٍ عليه بالبراءة الأصلية وهذا قد انعقد سببُ الوجوب في حقِّة وإنما التردُّدُ في كون الدين مانعًا من الوجوب ومعلومٌ أن ما هذا سبيله لا يجوز الاستدلال على عدم الوجوب فيه بالأصل النافي لوجوده أحدهما أنَّ الأصل النافي بطل حكمُه بقيام السبب الموجب فإن الأسبابَ التي جعلها الشرعُ موجبةً رافعةٌ للعدم الأصلي الثاني أن الأصل النافي كما ينفي الإيجاب ينفي المانع من الوجوب فيكون دليلاً على عدم الوجوب وثبوته فلا يصح الاستدلال به على عدمه الثالث أنَّ سببَ الوجوب إذا انعقد وقد وقع الشك في حصولِ مانعٍ من الوجوب فالاستدلال ُ بالأصل النافي على عدم المانع أولى من الاستدلال به على عدم الوجوب لأنَّ الأصل الأول قد وقع الخللُ فيه بتخلُّف الحكم عنه كثيرًا وبقيام السبب الموجب والثاني وهو عدم كون الدَّيْن مانعًا محفوظٌ عن الخلل فيتعيَّنُ أن يكون الأوَّلُ أولى الرابع أنَّ ما ينفي الوجوب قد عارضه السببُ الموجبُ الذي انعقد الإجماعُ على كونه سببًا للوجوب أما النافي للمانع من الوجوب

فلا معارِضَ له فيكون العمل به أولى الخامس أنَّ النافي للوجوب دليلٌ عَقْليّ والمقتضي للوجوب أدلة سمعية كثيرة اعتضد بها العقلي النافي للمانع فيكون أوثق من حيث إن الحكم الشرعي يرجح فيه ما اقتضته الأدلة السمعية على ما اقتضاه مجردَّ الدليل العقلي لو لم يكن معارضًا فكيف إذا تعارض السادس أنَّه إذا قال العقلُ ينفي الوجوبَ فأنا أسْتَصْحبه ما لم يجيئ دليلُ التغيير قيل بذلك قد جاءت الأدلة النافية وهى كل آية وحديث دخل فيه صورة النزاع وهى مثل قوله صلى الله عليه وسلم في كلِّ أربعين بنت لبون وفي كلِّ خمسين حقة وفي الرِّقَةِ رُبْع العُشْر وما من صاحِبِ ذهبٍ ولا وَرقٍ لا يؤدِّى زكاتَها إلا جُعِلَتْ له صَفائحُ من نارٍ تُكْوَى بها جَبِيْنُه وجَنْبُه وظهْرُه في يوم كان مقدارُه خَمْسِين ألفَ سنة فيرى سبِيْلَه إما إلى الجنِة وإمَّا إلى النارِ فإن قال الدَّين مانع من الدخول في العموم ويمنع من الوجوب قيل له لا نُسَلِّم فإن الأصل عدم مانِعِيَّتِه

السابع أنَّ الذين يُجِيْزون التمسُّك بالأصل النافي يشترطون فيه عدم الناقل لإجماعهم على أنه لا يجوز الاستدلالُ به قبل البحث التام عن النواقل الشرعية والذين يمنعون الاستدلال به إما مطلقًا أو في غير الدفع والإنفاق ونحو ذلك ينصون على فساد هذا الاستدلال أما الآخرون فظاهر وأما الأولون فلأنَّ شرط الاستدلال عدم النواقل والنواقل هنا موجودة وهؤلاء يوجبون على المُناظِر إذا استدلَّ به إبداء عدم الناقل حسب الطاقة وإن كانوا لا يوجبون ذلك في الأدلَّة الشرعية لأن الأدلَّة الشرعية تدلُّ بنصِّها على الحكم الشرعي وإنما يُخافُ حصولُ معارض والأصلُ عدمُه أما هذا فإنَّما يدل على حكمٍ عقليٍّ كان قبل مجيء الشرعيِّ وذلك لا يجوز اعتقادُ بقائه حتى يُعلم أنَّ الشرعَ أبقاه أو أنه قرَّره وذلك يحتاج إلى دليلٍ شرعيٍّ يدلُّ على التقرير أو عدم التغيير والمستدلُّ لم يتعرَّض لهذا وأما إن عَنَى بالنافي أدلةً سمعية تنفي الوجوب في صورة النزاع فلا نسلِّم وجودها أَلْبتة وعلى المستدل إبداؤه وهو لم يتعرض له وهو كالمتعذِّر عليه أن يستدلّ بقياس أو بعموم يحتاج إلى نوع تأويل أو يحتج بحديث عثمان ونحوه وحينئذٍ فلا ريب أن ذلك دليل في الجملة لكن لا تُقبل دعوى وجوده حتى يبديه إذ المعترض

يعتقد أنْ ليس على نفي الوجوب دليلٌ سمعيٌ وإن اعتمد على طريقة نفي الضرر ونحوها فسيأتي بيانُ فسادِها فيثبتُ بهذا التحرير الواضح أنه لم يثبت نافيًا للوجوب فضلاً عن كونه سالمًا وإن عَنَى القدر المشترك أو مطلق النافي قيل هو في نفس الأمر إمَّا أن يكون عقليًّا أو سمعيًّا ويُعادُ الكلام وإن ادَّعى نافيًا خارجًا عن الأدلة العقلية والسمعية فعليه بيانُه ولا سبيل إليه الوجه الثالث أن يُقال النافي للوجوب إما أن يكون متحقِّقًا في نفس الأمر أو لا يكون فإن لم يكن متحقِّقًا بطل الاستدلال وإن كان متحقِّقًا فإما أن يجب العمل به مطلقًا أو عند عدم مطلقِ المعارض أو عند عدم معارضٍ مخصوص والأوَّل والثاني خلاف الإجماع بل خلاف ما تقتضيه ضرورة العقل وأما الثالث فنقول ذلك المعارض المقتضي للوجوب لابدَّ أن يكون راجحًا على النافي ولا يُشترط فيه غير ذلك بالاتفاق فيقول أنت لم تعلم سلامته إلا عن معارضة موجبية المشترك بين الصورتين وهو لم يسلم عن معارضة موجبيَّة المختص بصورة النزاع ولا عن معارضة موجبية المشترك بين صورة النزاع وسائر صور الوجوب ولا عن معارضة المركَّب بينها وبين سائر صور عدم الوجوب وهي معارضات كثيرة لا تكاد تنضبط وقد عَلِمْنا أن بعضها يُقَدَّم على النافي بالإجماع وبعضها يُقَدَّم النافي عليه

بالإجماع وبعضها مختلف فيه ولابدَّ من فصلٍ بين ما تقدَّم على النافي وما تقدم النافي عليه فَلِمَ قلتَ إن مجرَّد موجبيَّة المشترك التي تُقَدَّم على النافي وسائر المعارضات لا تقدَّم على النافي لأنَّ التخصيصَ لابدَّ له من مُخَصِّص فليس في ذلك إلا سلامته عن موجب واحد أو نوعٍ واحد من أنواع الموجبات فامتيازُ هذا عن غيره لابُدَّ له من سبب وليس معه أكثر من أنَّ موجبيَّة المشترك تقتضي الوجوبَ فيه قيل له وأيُّ موجبية قامت فيه من جنس موجبيَّة المشترك فإنها تقتضى ذلك فما الموجب لتخصيص هذه الموجبيَّة فإن قال لأنَّ موجبيَّة المشترك تقتضى الوجوبَ في الصورتين فيحصلُ التنافي المدَّعى قيل له حصول المقصود بالأدلة تابعٌ لصحَّة الأدلة في نفسها فإن الدليل يٌتْبَع ولا يَتْبَع فيجب أن تكون الدعوى على مطابقته ولا يجوز أن يُجْعَل هو على مطابقة الدعوى لأن الأدلة أعلامُ الله التي نصبها أسبابًا موصلات إلى العلم بأحكامه والدعاوى أقوال العباد واعتقاداتهم والعبادُ مأمورون باتِّباع ما أنزل الله وشرَعَ ونَصَب فلا يجوز أن يجعلوا ما شرع اللهُ ونصبَ تبعًا لهم والمستدلُّ إنما خصَّ موجبيَّة المشترك بالاحتراز عنها دون غيرها

بمعنًى فيها يقتضي ذلك إنما خصَّها لأن دعواه تتمّ بها دون غيرها وتمامُ دعواه بها ليس لخاصةٍ فيها بل لنفس الدعوى فكأنه اعتقد صحة الدعوى ثم طلب ما يدلُّ عليها وهذا غير جائز والذي يوضِّح ذلك أن كون المشترك بين صورة المدين والفقير موجبًا للزكاة أمر لم يعتقدْهُ أحدٌ من الأمَّة ولا يجوز أن يعتقده وكون المشترك بين المَدِيْن وبين الغني الجلي موجبًا أقرب بالنافي للوجوب على المدين لا يمكن أن يُعْمَل به حتى يُعتقد عدم موجبيَّة المشترك بين المَدِيْن والبريء من الديون أمَّا عدم موجبيَّة المشترك بينه وبين الفقير بالذكر تخصيصٌ من غير مخصِّصٍ يقتضي ذلك في حقيقة الأمر بل تخصيصٌ بمَحْضِ التحكُّم وصِرْف التشهِّي بل تخصيصٌ لِمَا يصحِّح الدَّعوى وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك ما يدلُّ على خصوص الدعوى بل يكون كسائر الأدلة العامة التي اعترضوا بأنه لا دلالة فيها إذ لا فرق بين قول القائل يجب العمل بالنافي على تقديرِ عدمِ هذا المعارض وإن لم يكن لتخصيصه موجب وبين قوله يجبُ على هذا التقدير وإن لم يكن دليل الوجوب مختصًّا بالتقدير فإنَّ التحكمَ بتقديرٍ لقيامِ مقتضٍ لا يختصُّ ذلك التقدير كالتحكُّمِ بتقديرٍ يقومُ منه مانعٌ لا يختصُّ بذلك التقدير فإنَّ قيام المقتضي إذا لم يكن ناشئًا من التقدير ولوازمه

والمانعُ إذا لم يكن ناشئًا من التقدير ولوازمه لم يكن فرق بينَه على ذلك التقدير وبينه على غير ذلك التقدير ومعلومٌ أنَّ هذا لا يجوز التعويلُ عليه فافهم هذا فإنه سرُّ عدم دلالة هذا النظر مع أنه في ظاهره قد يختل الرابع أنَّ الدليل ما كان النظرُ فيه مُفْضيًا إلى علم أو ظنٍّ غالب ومن علم أن الأصل ينفي وجوبَ الزكاة مطلقًا وإنما خولفت في مواضع لقيام أسباب موجبيَّتِه ثم عرضت عليه صورة قد علم أن أمرًا من الأمور لا يوجب الزكاة فيها ولا في غيرها منتفٍ عنها ولم ينظر هل فيها أسباب غيره توجب الزكاة أم لا ثم قيل له هل يكون علمك بالأصل النافي مع علمك بعدم هذا الأمر الذي لا يوجب الزكاة قط عنها محصِّلاً لظنك عدم الوجوب لَعَلِم بالاضطرار أن مجرَّد هذا لا يفيد ظنًّا بجواز أن تكون الصورة من صور الوجوب أو من صور عدم الوجوب وأن الذي علمنا انتفاءه عنها ليس مما يوهم الوجوب وهذا ظاهر الخامس النافي لوجوب الزكاة هو تخلُّفه عن مقتضاه في مواضع لا تُحصى ونحن نعلمُ أن تلك المواضع امتازت عن غيرها بأسباب موجبة والمستدلُّ لم يذكر انتفاءَ سببٍ من الأسباب الموجبة عن صورة النزاع فإن المشترك بينه وبين الفقير ليس موجبًا إجماعًا وإذا لم يكن موجبًا في نفس الأمر لم يكن مانعًا من العمل بالنافي

فيكونُ قد استدلَّ بمجرد النافي الذي لم يظن سلامته عن شيءٍ من المعارضات وهذا لا يجوز إجماعًا السادس أنَّ المشترك لا يكون معارضًا للنافي إلا بتقدير الوجوب فيهما وهذا التقدير غير ثابتٍ إجماعًا فلا يكون مُعَارضًا أصلاً فقولُه بعد هذا بالنافي السالم عن معارضة القطعي غير مُسَلَّم لأنه لا يَسْلَم عن معارضةِ شيءٍ له حقيقة وإنما يتعارض لنفي المعارض إذا كان له في الجملة حقيقة ولو على بعض التقادير الواقعة فأمَّا ما لم يوجد ولا يجوز أن يوجد فلا يجوز أن يتوهَّم معارضته ليحترز عنها وحينئذٍ يكون استدلالاً بمجرَّد النافي للوجوب وهو غير صحيح السابع ما ذكرته من النافي وإن دلَّ على عدم الوجوب لكن الأمور الموجبة من النصوص العامة والأقيسة وغيرها دالَّة على الوجوب فإن تعارضا وَقَفَ الاستدلال ثم الترجيح معنا لأنه إذا اجتمع النافي للزكاة والموجب لها قُدِّم الموجِب لأن عامة صور الوجوب قد قُدِّم فيها المقتضي على النافي وتقديمُ مدلولِ أحدِ الدليلين عند التعارض دليلٌ على رجحانه وليس له أن يقول وقد قدم النافي على الموجب في صورة عدم الوجوب لأنَّا نقول العدمُ هناك إنما كان لعدمِ الموجب لا لقيام المانع والموجب هنا موجود فإنْ مَنَع الموجب على التقدير فعنه

جوابان أحدهما أنا نقول بموجب النصوص الشاملة لصورة النزاع ويدعى عدم إرادة صور العدم فيها فإنه معلومٌ قطعًا والمقتضي لإرادة صورةِ النزاع وهو شمول اللفظ لصُوَرِه ولم يقم دليلٌ أرجح من العموم على عدم إرادتها قائم فإن ادَّعى الدليل المانع من الإرادة قيل الأصل عدمه فعليك بيانه الثاني أنَّه يمنع قيام المقتضي للوجوب أيضًا على تقدير ملك النصاب المعتبر إذ لا فرق بين الأمرين فإن قال الموجب لا يختص هذا التقدير فعنه جوابان أحدهما أني أُثْبِت بهذا الدليل الوجوبَ مطلقًا وهو المقصود فإنَّه إذا صحَّ بطل الدليل الثاني أنه إذا لم يختص التقدير فدليل النافي لا يختص أيضًا تقدير عدم هذا المعارض المذكور إذ لا فرقَ بينَ قيام موجبٍ في صورة النزاع على تقدير عدم الوجوب في صورة الفقير وعدم كون المشترك بينها وبين صورة المَدِيْن موجبًا وبين قيام ما به من

الوجوب على تقدير عدم الوجوب هناك وعدم كون المشترك موجبًا فإنّ ما يدلُّ على الوجوب في هذه الصورة أو العدم فيها من الأدلة العامة لا اختصاصَ له بتلك الصورة وجودًا ولا عدمًا وإن قال إثبات الوجوب غَصْب فعنه جوابان أحدهما أن إثباته بعد فراغ المستدلِّ ليس غصبًا وهذا على تقدير أن لا أمنع المقدمة بإثباته الثاني أنه وإن كان غصبًا فنفي الوجوب مصادرة على المطلوب وكلاهما سواء بل المصادرة أقبح لأن ما ذكره المستدل من التنافي لا يتم إلا بما ينفي الوجوبَ في صورة النزاع وما ذكره المعترض لا يتم إلا بما يُثبت الوجوب في صورة النزاع بل فِعْل المعترضِ أجمل لأوْجُه أحدها أنه مفعول على سبيل المقابلة فلا يكون قبيحًا الثاني أنه جائز عند بعض الناس في الجملة الثالث أنه يذكره على وجه المعارضة المستقلة أو على وجه المعارضة في المقدمة والأول جائز بالاتفاق أما المصادرة على المطلوب أو الاستدلال على المقدمة بنفسِ ما يدلُّ على المدَّعَى فقبيحٌ بالاتفاق وإن كان الأول قبيحًا غير مقبول أصلاً والثاني قبيح مقبول مع سماجته

واعلم أنَّ هذا الوجه يتضمنُ وجهين أحدهما معارضةٌ مستقلّة والثاني معارضته بجنس دليله وهو السؤال الذي زعم أنَّ المعترض لا يمكنُ أن يقولَه وقد قرَّرْناه لهم فقد بيَّنا أنه يمكن المعارضة به وأن إثبات النافي بهذا الجنس كإثباته بالجنس الذي سلَّموا فساده سواء وأجبنا عما كنَّا ذكرناه لهم من جواب المعترض وهو ظاهر بيِّن لمن أَنْصف هذا إذا كان الحكم الذي ضمَّ إليه ضد المدَّعى إجماعِيًّا وهو عدم الوجوب على الفقير فإنه ضم ضد المدَّعى وهو الوجوب على المَدِيْن إلى هذا العدم المتَّفَقِ عليه وادَّعى تنافيهما وأحدُهما ثابت قطعًا فيتعيَّن أنهما ضدُّ المدَّعى المساوي لنقيضِه أو غير نقيضِه فيلزم المدَّعى وأما إن كان من صور الخلاف مثل النصاب المركَّب من الذهب والفضة فإنَّ العلماء اختلفوا في ضمِّ أحدِ النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب فذهب أكثرُهم مثل أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتَيْه إلى الضم وذهبَ الشافعيُّ وأحمد في الراوية الأخرى إلى عدمه والذين قالوا بالضمِّ منهم من قال يُضَم بالأجزاء ومنهم من قال يُضَم بالأَحَظّ للمساكين من القيمة أو

الوزن ومنهم من قال يُضَم بالقيمة وسواء كان الخلاف بين العلماء أو عن بعض العلماء المجتهدين كالروايات والأقوال المأثورة عن الأئمة المتبوعين وكالوجوه والطرق الموجودة في مذاهبهم فإنَّ ذلك كلَّه خلاف مقيد فإذا كان المستدلُّ يعتقد عدمَ الوجوب على المَدِيْن مثلاً والوجوب في المركَّب أو في الحلي أَو في مال الصبي أو في المال الضائع ونحو ذلك قال الوجوب على المَدِيْن مع العدم في النصاب المركَّب لا يجتمعان أمكنه عند هولاء أن يثبت التنافي بما شاء من الأدلة كالنصوص والأَقْيِسَة والتلازمات الدَّالَّة على الوجوب أو على عدمه بخلاف ما إذا كان المضموم إليه مُجْمَعًا عليه فإِنَّه يكون قد ادَّعى أحدَ أمرين أحدهما لازمُ الانتفاء وهنا ادعى أحدَ أمرين ليس أحدُهما لازمَ الانتفاء لأنه إذا قال إما أن يَجِب هنا أو لا يجب هناك أو لابدَّ من الوجوب هنا أو عدمه هناك فليس الوجوبُ هنا ولا العدم هناك معلومَ الانتفاء لوقوع الخلاف فيه ولا يمكن الخصم أن يعارضه بمثله في جميع الصور فإذا قال العدم هنا والعدم هناك لا يجتمعان فلابدَّ أن يقول إما أن يجب عينًا أو يجب هنا ولا يجب هناك لم يجب أن يستدلَّ

بعين ما استدلَّ به المستدلّ إذ لا إجماع هنا على العدم هناك ويمكن أيضًا أن يُسْتَدل على التنافي بما تقدمَّ من الترديد وهو أن يقول الوجوب على المَدِيْن مع عدمه في المركَّب لا يجتمعان لأنَّ المشترك بينهما لا يخلو إما أن يكون موجبًا أو لا يكون فإن كان موجبًا لزم الوجوب وإن لم يكن موجبًا لزم عدمُه بالنافي السالم وعلى التقدِيْرَيْن فقد لزم التنافي ويلزم من تنافيهما وعدم اجتماعهما عدم الوجوب على المَدِيْن لأن الوجوب في المركَّب إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون فإن لم يكن ثابتًا فإنه لا يجبُ هنا لما تقدم من أن الوجوب هنا والعدم هناك لا يجتمعان وإن كان ثابتًا فإنه لا يجب أيضًا هنا لأن الوجوبَ لا يشمل الصورتين بالاتفاق أمَّا عند العراقى ومن يوافقه في فصل المَدِيْن فلانتفاءِ الوجوبِ في فصل المَدِيْن وأما عند المخالف له إن كان شافعيًّا فلانتفاءِ الوجوبِ في فصل المركَّب وهذا معنى قوله والترديد لازم بعد اللزوم فيهما أي بعد أن يلزم الوجوب في إحداهما والعدم في الأُخرى أو بعد أن يلزم عدمُ الاجتماع في ما كان من صور الخلاف أو كان فيه روايتان عن مجتهد يلزم الترديد بأن يقول الوجوبُ هناك إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون فإن لم يكن ثابتًا لم يجب هنا لتنافي الوجوب هنا والعدم هناك وإن كان ثابتًا فإنه لا يجبُ هنا لأن الوجوب لا يجتمع في الصورتين بالاتفاق واعلم أنَّ الاتفاق قد يُعْنَى به اتفاق الأُمة وقد يُعنى اتفاق مذهب المُتناظِرَيْن أمَّا الأول فإن أمْكَن فهو أَجْوَد إلا أنه لا تكاد تتأتَّى الإحاطةُ به في مسألتين مُختلِفَتي المأْخذ وأما الثاني فهو الغالب على

كلام الجدليين ثم العدم في المدَّعَى والوجوبُ فيما ضُمَّ إليه إما أن يكون متفَقًا عليه في مذهب المستدلّ أو على الأول دون الثاني أو الثاني دون الأول أو مختلفًا فيهما وعلى التقديرات الأربع فإما أن يكون الوجوبُ في محلِّ النزاع والعدمُ في الصورة التي ضُمَّ إليها متفقًا عليه في مذهب المعترض أو مختلفًا في الأول فقط أو في الثاني فقط أو فيهما فهذه ستة عشر تقديرًا لكنها تتداخل إلى سبعة الأول أن يكون المذهبان متفِقَيْن على التناقض في الحكمين مثل أن يقول المالكي والشافعي أو الحنبلي بوجوب صدقة الكافر أو وجوب زكاة الغَنَم فيما زاد على عشرين ومائة مع عدمه في المغشوش الغالب عليه الغش أو مع عدم وجوب صدقة الفطر في عبيد التجارة أو عدم وجوب بنتَي لبونٍ وحِقَّة في ثلاثين ومائة من الإبل لا يجتمعان لأن المشترك إن كان مقتضيًا للوجوب ثبتَ الوجوبُ فيهما وإن لم يكن مقتضيًا انتفي الوجوب بالنافي السالم أو يقول تجبُ في مال الصبي والمجنون بالنص والأقْيِسة الموجبة ولا يجب في صورة العدم بالأدلة النافية فثبَتَ أنَّ الوجوبَ والعدم لا يجتمعان وعلى التقديرَيْن يلزم عدم اجتماعهما ويلزم من ذلك عدم الوجوب هنا لأن الوجوبَ في فِطْرة العبد الكافر وفي الغنم في ما زاد على العشرين ومائة من الإبل إما أن يكون ثابتًا أو لا يكون فإن لم يكن ثابتًا لزم عدمُ ثبوتِهِ في صدقةِ فطر عبيد التجارة وبنتي لبون وحقة في ثلاثين ومائة من الإبل لأن العدمَ هناك

والوجوبَ هنا لا يجتمعان وإن كان ثابتًا هناك لزم عدم الثبوت هنا لأن الوجوب لا يشمل الصور بالاتفاق وهذا مُعَارَض بمثله سواء مثل أن يقول الحنفيُّ عدمُ الوجوب هنا مع الوجوب هناك لا يجتمعان لأن المشترك إما موجب فيثبت الوجوب فيهما أو غير موجب فلا يثبت الوجوب بالنافي السالم وعلى التقديرَيْن فلا يجتمعان ويلزم من ذلك عدم الوجوب فيهما لأن الوجوب هناك إمَّا ثابت أو غير ثابت فإن كان ثابتًا لزم الوجوب لأن شمولَ العدم لهما يخالف الإجماع وإذا كان كذلك لم يتم سلَّم هولاء الجدليون ذلك الثاني أن يكون قد اخْتُلِف في الوجوب هنا في مذهب المستدل سواء اتفق على الحكمين في مذهب المعترض أو اختلف في الأوَّل أو الثَّاني مثل مال المَدِيْن عند الشافعيِّ وأحمد فإِنه مُخْتَلَفٌ عنهما فيه في الجملة أي في الأموال الظاهرة وكذلك الحُلي عندهما فإذا قال من يستدلُّ به لعدمِ الوجوبِ في الحلي الوجوبُ فيه مع العدمِ في مالِ الصبيِّ والمجنونِ لا يجتمعانِ وساقَ

الكلامَ إلى آخره وإذا لم يجتمعا لزم الوجوبُ في الحلي لأن الوجوبَ في مالِ الصبيِّ إن لم يكن ثابتًا لزم عدمُ الوجوبِ في الحليِّ لامتناع الوجوبِ هنا والعدمِ هناك وإن كان ثابتًا لزم عدمُ الوجوبِ في الحليِّ لأنَّ الوجوبَ لا يعمُّ الصورتين بالاتفاق فهذا لا يتمُّ لأن فيهما قولاً بالوجوب فيهما لكن كلام المعترضِ هُنا يتمُّ إن لم يكن قد اخْتُلِفَ عنده في العدم هناك الثالث أن يكون قد اخْتُلِفَ في الوجوب هنا أو العدم هناك كما لو استدلَّ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في مسألةِ صدقةِ الفطر عن العبد والكافر أو إيجاب الغنم بعدَ إيجاب الإبل بأنَّ عدمَ الوجوبِ هنا مع الوجوب في مال العبد عند أحمد أو مال المَدِيْن عند الشافعي أو يقال العدمُ في مالِ الصبيِّ مع الوجوب في الحليِّ لا يجتمعان بأنَّ الوجوبَ هنا والعدمَ في مال المَدِيْن لا يجتمعان فهذا يتم لأنه يمكنه أن يقول في آخره لأن الوجوب لا يشمل الصورتين بالاتفاق ولا يتمكَّنُ المعترضُ أن يقول لأن العدم لا يشمل الصورتين بالاتفاق لأنَّ الشافعيَّ والحنبليَّ يمنعُ ذلك وكذلك مسألةُ النصابِ إذا استدل الحنفيُّ في مسألة الدَّيْن وضَمَّ إليه النصاب المركَّب أمكنه أن يقول الوجوبُ لا يشمل الصورتين بالاتفاق لوجهين أحدهما أنَّ له في الدَّيْن قولاً بالعدم فعلى هذا يكون العدم شاملاً

الثاني أنَّ صاحِبَيْ أبي حنيفة لا يوجبان في المركَّب الذي تمَّ بالقيمة دون الوزن فيكون العدم شاملاً للصورتين في الجملة وإن كان الكلامُ مع حنبليٍّ لم يُسَلِّم عدمَ شمول الوجوب ولم يمكنه أن يدَّعِى عدمَ شمولِ العدم بالاتفاق لأن في المسألتين عنده خلافًا وأكثر استدلالِ هولاء من هذا النوع الرابع أن يكون قد اخْتُلِف في الموضعين في مذهبه سواء اتفقَ مذهبُ المستدلِّ فيهما أو اختلف في الأول أو الثاني منه كما لو استدلَّ الحنبليُّ على عدمِ الوجوبِ في الحليِّ بأن الوجوبَ فيه والعدم على المَدِيْن لا يجتمعان فهذا أيضًا لا يتمُّ لأنه لا أن يقول الوجوبُ ثَمَّ شاملٌ بالاتفاق ولا يمكن المعترض أن يقول العدمُ غير شامل الاتفاق الخامس أن يكون مذهبُه غير مختلف في العدمِ هنا والوجوبِ هناك لكن مذهب المعترض مُخْتَلِف في الوجوب هنا دون العدم هناك فهذا يتم أيضًا لأنه يمكنه أن يقول الوجوبُ ليس شاملاً لهما بالاتفاق هذا كما لو قال المالكيُّ أو الشافعيُّ أو الحنبليُّ في الخضروات وما دون النصاب من المُعَشَّرات الوجوبُ هنا والعدم في مال الصبي والمجنون مما لا يجتمعان فهذا يتم ما يقولونه لأنه يمكنه أن يقول

لأن الوجوب غيرُ شامل لهما بالاتفاق لأن صاحِبَيْ أبي حنيفةَ يقولان بشمول العدم السادس أن يكون مذهبه متفقًا هنا وهناك ومذهب المعترض مختلفًا في السالم فهذا معترض عليه بمثله لأنه إذا قال الوجوبُ ليس شاملاً بالاتفاق قال المعترض العدمُ غير شاملٍ بالاتفاق لأنه قد اخْتُلِفَ عنده في العدم ولم يختلف عنده في الوجوب هنا فلم يقل أحدٌ بالعدم في الموضعَيْن السابع أن يكون مذهبُه متفقًا فيهما ومذهبُ المعترض مُخْتَلِفًا فيهما فهذا لا يتم له ولا للمعترض لأنه قد قيل في مذهب المعترض بالوجوب فيهما والعدم فيهما ومثالُ هذا والذي قبله أن يقال وجوبُ الفِطْرة عن العبد الكافر مع عدم وجوب الزكاةِ على الفور لا يجتمعان فهذا لا يتم للمستدل لأنه لا يمكنه أن يقول والوجوب غير شامل لهما إجماعًا لأنَّ أبا يوسف يقول بالوجوب في الموضِعَيْن لكن يتم هذا للمعترض أو يقول الشافعي للحنبلي وجوبُ الزكاة في مالِ العبِد مع عدم وجوبها في الصغار منفردة عن الكبار لا يجتمعان فهذا لا يتم من الطرفين لأنه لا يمكن أن يقال الوجوبُ غير شامل فيهما بالإجماع

ولا شامل فيهما بالإجماع واعلم أصلحك الله أن كلّ ما ذكرناه من الأدِلَّة على فساد القول بالدليل المذكور في التنافي إذا كانت إحدى الصورتين إجماعيَّة فهو موجودٌ هنا ويزيد هذا النوع بوجوهٍ ظاهرةٍ في فساده أما الكلامُ في بطلان التنافي فقد تقدَّمَ نفيُ الكلامِ هنا في لزوم المدَّعى على تقدُّم التنافي والفساد في قوله وإن كان الوجوبُ يعني في الصورة المنافية لنقيض المدَّعَى غير ثابت لزم عدمُ الوجوبِ على المَدِيْن ضرورةَ تنافي الوجوب هنا والعدم ثمَّ وإن كان الوجوبُ ثابتًا هناك لزم عدمُ الوجوب هنا أيضًا لأن الوجوبَ لا يشمل الصورتين بالاتفاق لأن البعضَ يقول بالوجوبِ هنا والعدم هناك والبعضُ يقول بعكس ذلك فنقول الكلامُ عليه من وجوه أحدُها أن التنافي إما أن يُثبته بما يدلُّ على ثبوتِهِ ثبوتُ الوجوبِ مطلقًا أو على انتفائه مطلقًا أو بما يدلُّ على ثبوته على تقدير كون المشترك موجبًا وعلى انتفائه على تقدير كونه غير موجب فهذه الأدلة إما أن تكون صحيحةً أو فاسدة فإن كانت فاسدةً بطل النافي فبطل الدليل وإن كانت صحيحةً فهي دالَّة على الوجوب مطلقًا أو على انتفائه مطلقًا فإثباتُ الوجوبِ على تقديرٍ وعدمِهِ

على تقديرٍ آخر تحكُّم لم يدلَّ عليه الدليل فيكون باطلاً الثاني أن أقوى أدلة التنافي إثباتُه بتقدير إيجاب المشترك وبتقدير عدم إيجابه فنقول إن كان المشترك موجبًا لزم الوجوب فيهما معًا وإن لم يكن موجبًا لزم العدمُ فيهما معًا فقولهم بعد هذا إن كان الوجوبُ ثابتًا هناك لزم عدم الوجوب هنا إثباتُ الوجوبِ في أحدهما والعدم في الآخر وذلك خلاف مدلول الدليل المذكور فإن كان دليلُ التنافي صحيحًا بطلت المقدِّمة الثانية وإن كان باطلاً بطل الدليلُ كلُّه أو يقول إن كانت المقدِّمةُ ثابتةً صحيحة وهو لا ينازع اجتماع وجوبِ أحدهما وعدم الآخر بطل التنافي لأن التنافي امتناع الوجوبِ في صورة والعدم في أُخرى وإذا بطل التنافي بطلت المقدمة لأن صحتها مَبْنية عليه وإن لم تكن صحيحة بطل الاستدلال بها وبالجملة فإن كونهما متلازمين وجودًا وعدمًا وكون أحدها ملزومًا لعدمِ الآخر تناقضٌ ظاهر ولا يجوز تأليف الدليل من مقدِّمتين متناقِضَتَيْن متضادَّتين الثالث قوله الوجوبُ لا يشمل الصورتين قلنا لا نُسَلِّم ذلك وقولُه بالاتفاق دعوى غير صحيحة لأن العلماء لم يجمعوا أن المسألتين مستويتان في الوجوب أو في انتفائه

ولا أنَّ حكمَ إحداهما مستلزمٌ لحكمِ الأخرى وإنَّما تكلَّموا في كلِّ واحدٍ منهما على حِدَة فالقولُ بالوجوبِ في صورةٍ وعدمِهِ في أُخرى موافقة هولاءِ في مسألةٍ وموافقة هولاء في مسألةٍ أُخرى وهذا جائز بالاتفاق فإنَّ المسلمين مجمعون على أنَّ من وافق بعض المجتهدين في الوجوب في مسألة لم يجب عليه أن يوافقه في الوجوب في كلِّ مسألة وكذلك لو وافقه في عدم الوجوب وهذا مما أجمع عليه المسلمون إجماعًا ضروريًّا فإنَّ أحدًا لم يخالف في أنَّ من وافقَ بعضَ العلماءِ في حكمِ حادثةٍ لا يجبُ أنْ يوافقه في حكم حادثةٍ أخرى ليست متعلَّقة بها وقولهم لا قائل بالفرق إنما يصحُّ إذا كان مأْخَذُ المسألتين واحدًا مع أن الأكثرين على جواز التفريق ما لم يصرحوا بالتسوية وهذا نكتة الدليل وهو أحد قولَي هولاء المموِّهِيْن وهو من القواعد التي حكى غيرُ واحدٍ إجماعَ المسلمين على فسادها وسيأتي إن شاء الله كلامٌ في ذلك أطول من هذا الرابع قوله الوجوبُ لا يشمل الصورتين بالاتفاق يعني به أن شموله لهما ليس متفقًا عليه أو يعني به أن نفي شمولِهِ لهما متفق عليه وذلك أن الباء يجوز أن تكون متعلِّقة بالفعل ويجوز أن تكون متعلِّقة بنفي الفعل فإذا علَّقها بالفعل كان التقديرُ أن شموله لهما بالاتفاق ليس بواقع وإن علَّقها بالنفي كان التقديرُ أن انتفاء الشمول متفقٌ عليه فإن عنيتَ هذا المعنى الثاني فهو غير مُسَلَّم ولا

صحيح فإنَّ أهلَ الإجماع لم يتكلَّموا في الشمول بنفي ولا إثبات فلا يجوز إضافة نفيه أو إثباته إليهم وإن عَنَيْتَ الأول فهو مُسَلَّم لكن عدم الإجماع على الحكم ليس دليلاً على بطلانه وأنا أُسَلِّم أنهم لم يُجمعوا على شمول الوجوب للصورتين لكن الفرق بين عدم الإجماع على الشمول والإجماع على عدم الشمول ظاهر الخامس أنهم إن لم يُجْمِعوا على عدم شمول الوجوب للصورتين جاز إثباتُ الشمول وبطلت هذه المقدمة وإن أجمعوا على عدم شمول الوجوب للصورتين فقد أجمعوا على الوجوب في إحدى الصورتين أو العدم في الأُخرى وحينئذٍ لا يجوز أن يُقَدَّم دليل على الوجوب فيهما ولا على العدم فيهما لأنَّ ذلك يخالف الإجماع فيكون باطلاً السادس أنهم أجمعوا على الوجوب في إحداهما والعدم في الأُخرى والتنافي يمنعُ الوجوب في إحداهما والعدم في الأخرى فيكونُ التنافي باطلاً فإِن قيل التنافي دلَّ على أنَّ الوجوبَ هنا والعدمَ هناك لا يجتمعان والإجماع لم يُعَيِّن هذه الصورة قلنا دليلُ التنافي عامُّ مُطْلق ليس فيه تخصيص والإجماع المدَّعى عامُّ مطلق ليس فيه تخصيص فتخصيص التنافي من هذه الأدلّة يفتقر إلى دليلٍ على صحته ولا دليلَ على صحَّته إلا الذي يدلُّ على بطلانه فتعذَّرَ تصحيحُه إذًا والله أعلم وأحكم

فصل في التمسك بالنص وهو الكتاب والسنة

فصلٌ في التمسُّكِ بالنص وهو الكتابُ والسنة اعلم أنه كان ينبغي تقديم النصِّ على سائر الأدلة كما هو الواجب وكما هو عادة أهل العلم والنصُّ له معنيان أحدهما القولُ الدَّالُّ على معناه على وجهٍ لا تردُّدَ فيه وهو خلاف الظاهر والمجمل والثاني هو مُطْلق دلالة القول سواء كانت قطيعة أو ظنية فيدخل فيه القاطع والظاهر وهو مُراد هولاء وهو المشهور في ألْسِنَةِ السَّلَف قوله واعلم أوَّلاً بأنه لا يُراد مِن اللفظ معنًى إِلاَّ وأن يكون جائزَ الإرادة والمعنى من جواز الإرادة أنه لو ذكَرَ وأرادَ ما أرادَ لا يُخَطَّأُ لغةً ويُقال في الخلافيات جواز الإرادة مما يوجب الإرادة لدوران ظن الإرادة معه جوازًا وعدمًا

ويقال إن كان جائزَ الإرادة يكون مرادًا لأنه لو لم يكن مرادًا فلا يخلو إما أن يكون غيره مرادًا أو لم يكن فإن لم يكن مرادًا يلزم تعطيل النص وإن كان مرادًا فلا يخلو إما أن كان جائزَ الإرادة أو لم يكن فإِن لم يكن يلزم إرادة ما لا يجوز إرادته وإنَّه قبيحٌ جدًّا وإن كان جائزَ الإرادة يلزم اختلال الفهم وخرجَ الانقسامُ بين كونه مرادًا وبين عدم كونه مرادًا اعلم أصلحك الله أن دلالات الألفاظ على المعاني ووجوهها هي ينبوع الأحكام الشرعية وجِماع الأدلة السمعية وقد قَسَّم الناسُ فيها وذكروا من وجوهها ما يكثر تدواره في الفقه وفي الأصول من دلالةِ منطوقٍ ومفهوم وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وحقيقة ومجاز ومشترك ومتواطئ ومفرد ومرادف وغير ذلك من أنواع الدلالات فعليكَ بفهم وجوهِ القرآن كما قال أبو الدرداء لا يفقه

الرَّجُل كلَّ الفقه حتى يرى للقرآن وجوهًا كثيرة واعلم أن المعنى المرادَ من اللفظ لابدَّ أن يكون جائزَ الإرادة لأنه لو لم يكن جائزَ الإرادة لكان ممتنع الإرادة والممتنع غيرُ واقع فلا يكون مرادًا وهذا ظاهر كما ذكره لكن لفظ إلاَّ وأن يكون ليس بلفظٍ جَيِّد وكان حقُّه أن يقول إلاَّ ويكون أو إلا أن يكون كما يعرفَه أهلُ العربيَّة وقوله والمعنى من جواز الإرادة أنه لو ذكر وأراد ما أراد لا يُخَطَّأ لغةً وهذا في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم الذين يَنْتَحونَ في كلامهم نحوَ اللغةِ العربية وإلاَّ فكلامُ العامة في العقود والأَيْمان ونحو ذلك يكون المعنى جائز الإرادة منه مع تَخْطِئتهم لغةً واعلم أنَّ هذا التفسير قد يتوجَّه وقد يُناقَشُ صاحِبُه بأن يقال دلالةُ اللفظِ على المعنى يكون باعتبار الحقائق الثلاث اللغوية والشرعية والعرفية فلو ذكر اللفظَ وأرادَ ما يدلُّ عليه بطريقِ الحقيقة الشرعية أو العرفية لخُطِّئ لغةً إلاَّ أنَّه قد يقول الحقيقةُ الشرعية والعرفية لغةٌ أيضًا ويَرِدُ عليه أيضًا أن المعاني التي تستحيل من الشارع أن يريدها بكلامه مع صلاح اللفظ لها معاني لو ذكر

اللفظ وإن بدت منه لم يُخطَّأ المريد لغةً وهو مخطئ الإرادة إما عقلاً أو شرعًا وجميعُ وجوه الخطأ منفيةٌ عن الشارع فلا يكون جائز الإرادة وهذا كما لو قال الرجل بيعُ الكعبةِ جائز مِن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة 275] لأنه لو ذكر اللفظ وأرادَ هذا المعنى لم يُخَطَّأ لغةً وكذلك نَهْيُه صلى الله عليه وسلم أن يَسْقي الرجلُ ماءَه زَرْعَ غيِرِه وأرادَ به الزرعَ في التراب لم يُخَطَّأ لغةً وإرادَتُه من الشارع محالٌ قطعًا واعلم أصلحك الله أن وجوه الأدلة السمعية معروفة قد ذكرها الناسُ قديمًا وحديثًا وقد يتفرَّد هولاء أهلُ الجدلِ المُمَوَّه من الخراسانيين بقولهم جواز الإرادة وخرجوا في ذلك عما عليه أهل الأصول والفقه وأهلُ الجدل المتقدِّمون منهم ومن غيرهم والمتأخّرون من العراقيين وغيرهم وما عليه أهلُ الخلاف في

جميع الأعصار والأمصار إلا من سلك سبيلَهم فإنَّ هؤلاء لم يُعرِّجوا على هذا الكلام ولم يلتفتوا إليه ولم يستدلّوا في شيٍء من كلامهم وكتبهم بمثل هذا الدليل ولو ذكر ذلكَ أحدٌ لتَجافَوْه وطعنوا عليه ولم يلتفتوا إليه وقول المصنف يقال في الخلافيات جوازُ الإرادة مما يوجب الإرادة يعني به خلافيات أهلِ الجدل المُمَوَّه وإلا فالخلافيات المشهورة عند كلِّ الطوائف لا يلتفتون فيها إلى هذا الكلام ونحن نذكرُ ما احتجُّوا به على هذه القاعدة ونُبيِّنُ تزييفَه ثم ندلّ على فسادها وقد احتجَّ لها هذا المصنِّف بشيئين أحدهما أنه دار ظنُّ الإرادة مع جواز الإرادة وجودًا وعدمًا أما وجودًا ففي المواضع التي أريدت في ظنَّنا إرادتها وهى جائزةُ الإرادة مما لا تنحصر كثرةً وأما عدمًا ففي المواضع التي لم تَرِد ولم يُظَن إرادتها وهي غير جائزةِ الإرادةِ وذلك أيضًا مما لا ينحصر ودوران الأمر مع الشيءِ وجودًا وعدمًا يدلُّ على أنَّ المدارَ عليه الدائر وهذا المسلك ليس بشيء لأنَّا لا نُسَلِّم دوران ظنّ الإرادة مع جواز الإرادة وجودًا وعدمًا لأن معنى الدوران أن يوجد الدائر في كلِّ صورة من صُوَر وجود المدار أو في كلِّ صورة تحقَّقْنا

وجودَ المدار فيها وفي صورٍ متعدِّدة مع عدم تخلُّف الدائر في مواضع لم يكن قد دارَ معه وجودًا ومعلومٌ أنَّ الصور التي تخلَّف فيها ظنّ الإرادة عن جواز الإرادة أضعاف أضعاف الصور التي اقترنَ فيها ظنُّ الإرادة بجواز الإرادة وذلك لأن كلَّ لفظٍ فإنه يجوز أن يُرادَ به كلُّ واحدٍ من مَجازاته بمعنى أنه لو أُرِيْدَ منه لم يكن خطأً ومعلومٌ أن مجازات الألفاظ أضعاف الحقائق فإنَّ الاستعارة والتشبيه والتعريض والكناية والإضمار والتقديم والتأخير لا يكادُ يُحصى وإنما يُرَاد في الغالب إما الحقيقة أو واحدٌ من مجازاتها فَعُلِمَ أنَّ المعاني التي تجوز إرادتها ولم ترد أكثر من المعاني التي أُرِيْدت وكذلك الألفاظُ المشتركة والمنقولة والمغيَّرة شرعًا نقلاً وتغييرًا شرعيَّين أو عُرْفيَّين إنما يريد بها المتكلِّم في الغالب أحدَ المعنيين مع أن المعاني الأُخَر جائزة الإرادة ولم تُرَد وكذلك أسماء الأجناس التي هي الغالبة على اللغات كثيرًا ما يُراد بها تعريف المفرد فتكون سائرُ الصور جائزة الإرادة ولم تُرَدْ وكذلك كلُّ عامٍّ مخصوص ومطلق قد قُيِّد فإن المواضع التي لم

ترد منه جائزة الإرادة ولم تُرَد وكذلك أيضًا الألفاظ الكُلية يجوز أن يُراد بها في الإثبات خبرًا وطلبًا كلُّ فرد من أفرادها ومعلومٌ أن تلك الأفراد لم يُرَدْ منها إلا واحد أو لم يُرَدْ منها شيء بل أريدت الحقيقة من حيث هي هي وهذا بابٌ واسع فمن تأمَّل كلَّ لفظٍ في كلامِ متكلِّمٍ رأى أنه يجوز أن يُراد به من المعاني ما شاء اللهُ والمتكلِّم لم يُرِد إلا واحدًا من تلك المعاني فكيف يقال دارَ ظنُّ الإرادة مع جواز الإرادة وجودًا وتخلُّفُ الظنِّ عن هذا الجواز أكثرُ من وجودِهِ معه فإنْ قال إنما أُريد بالدوران وجوده معه في عدة صور قلنا لا نُسَلِّم أن الدوران بهذا التفسير فقط يفيد شيئًا وإنما يفيده التفسير الذي تقدمَّ وقد يقال أيضًا لم يُرِد عدم ظن الإرادة مع عدم جواز الإرادة عدمًا لأن كثيرًا من الناس يظنون إرادة ما لا تجوز إرادته لعدم علمهم بدلالات الألفاظ وبجواز ما يجوز أن يكون مرادًا لكن هذا مكبوت مغلوب بالنسبة إلى نقيضه الوجه الثاني لا نُسَلِّم أنه دار ظن الإرادة مع جواز

الإرادة في شيءٍ من الصور لأنَّ دوران الظن معه أمَّا إذا رأينا الشيء جائز الإرادة ظنَّنا أنه مراد أو حصل ظنُّنا بأنه مراد وإذا رأينا غير جائز الإرادة انتفى ظنُّنا بإرادته والمرجعُ في هذا إلى ما يجده الناس ونحنُ إذا اعتقدنا أنَّ هذا الشيء جائز الإرادة فقط من غير ضميمة أخرى لم يَبْنِ ذلك لنا ظنًّا ولم يَقْتَضِ لنا رأيًا ولا يوجب لنا اعتقادًا ومن ادَّعى أنَّ ظنَّه بوقوع الإرادة يحصل عنه اعتقاده لأن الشيءَ جائزُ الإرادة فقد ادَّعى على العقول خلاف ما جَبَلها اللهُ عليه على أنَّا لا نجد ذلك ولا يكلِّف اللهُ نفسًا إلا وسعها ولو ثبتَ له حصولُ الإرادة لحصول الظن عند جواز الإرادة لاستغنى عن إثباته بالدوران ولو أنَّه قال حصول الإرادة دار مع جواز الإرادة لكان أجود وإن قال إنما أُرِيْد الظن حَصَل مقارنًا لجواز الإرادة في كثيرٍ من الصور ولا أدَّعِي أنه هو الموجب للظن قلنا هذا القدر غير موجب لأن الجواز هو المقتضي للظنِّ وأنه هو دليلُه ومقتضيه لأن الاعتقادات الحاصلة في النفس عن أدلةٍ إنما تحصل بعد شعور النفس بتلك الأدلة والظن الحاصل بالإرادة

حاصل مع أن الشعور بجواز الإرادة وحده غير حاصل الثالث أن يقال الدوران إنما يفيد العِليَّة إذا لم يزاحم المدار مدارًا آخر وهنا قد زاحمه مدارات أُخر فإنَّ ظن الإرادة قد دار مع كونه معنى اللفظ أي هو الذي ينبغي للمتكلم أن يُعَيِّنه بلفظه ودار مع كونه حقيقة اللفظ ودار مع كونه دلَّ الدليلُ على إرادته ودار مع كونه يجب إرادته ودار مع كون اللفظ دالاً عليه فإنه ما من معنًى من هذه المعاني إلا وُجِدَ الظنُّ معها في صورٍ كثيرة وانتفي في صور كثيرة فلماذا يجب أن يقال المقتضي للظنِّ هو جواز الإرادة دون سائر هذه المعاني ودون غيرها بل إذا أنصف العاقلُ وجدَ الظنَّ بالإرادة في كلِّ موضع له سبب وموجب غير السبب الذي له في الموضع الآخر من غير أن يخطر بباله أن جواز الإرادة هو السبب وكلُّ سبب من تلك الأسباب يدور الظنُّ معه وجودًا وعدمًا الرابع أنَّ الظن الحاصل بإرادة معنى كلّ كلمٍة يدورُ مع أسبابٍ خاصةٍ بتلك الكلمة فالظنُّ الحاصل بإرادة الأمر دار مع صيغة افْعَل المجرَّدة أو ما يقوم مقامها وجودًا وعدمًا والظنُّ الحاصل بإرادة كلِّ المُسَمَّيات من الليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض دارَ مع الصِّيَغ المخصوصة الموضوعة لهذه المعاني على وجهٍ يَطَّرِدُ في كلِّ موارده وينعكس في غير موارده فإن قيل القَدْر المشترك وهو ظنُّ الإرادة دار مع القدر

المشترك وهو جواز الإرادة فيكون مطلق الظنِّ ناشئًا عن مطلق الجواز قلتُ هذا ممنوع كما تقدَّمِ بيانُه بل ظنُّ إرادة كلِّ معنى دارت مع أسبابٍ خاصةٍ به من وضعْ اللفظِ ومعرفة دلالته وتلك الأَسباب تستلزمُ كونَ المعنى جائز الإرادة كما أنَّ كلَّ واحد من شبع زيد وشبع عمرو دار مع قدرٍ مخصوصٍ من الأكل يختصُّ به فلو قيل إنّ مسمَّى الأكل يقتضي مُسَمَّى الشبع لأنه هو القدر المشترك كان غلطًا وإنما القَدْر المشترك الأكل المُشْبِع أو أكل الكفاية وذلك يختلف باختلاف الأشخاص وذلك يستلزم حركةَ فَكَّه عند الأكل أو حصول الطعام في معدته وإن لم يكن ذلك وحدَه كافيًا في حصول الشبع لكن هو لازمٌ من لوازم الشبع المسلك الثاني قولهم إذا كان جائز الإرادة يكون مرادًا لأنه لو لم يكن مرادًا فلا يخلو إما أن كان غيره مرادًا أو لم يكن مرادًا فإن لم يكن مرادًا يلزم تعطيلُ النصِّ وإن كان مرادًا ولم يكن جائز الإرادة لزم إرادة ما لا يجوز إرادته وإن كان غيره مرادًا وهو جائز الإرادة يلزم اختلال الفهم فقد خرج الانقسام بين كونه مرادًا وبين عدم

كونه مرادًا والاعتراضُ عليه أن يقال لا نُسَلِّم أنَّ غيره إذا كان مرادًا وهو جائز الإرادة يلزم اختلال الفهم ولم يذكر على ذلك دليلاً ولا شكَّ أن هذا باطل لأن الاختلال إنما يلزم إذا لم يكن لكلِّ لفظٍ صيغةٌ مخصوصةٌ تدلُّ على المراد الأصليّ من غيره فإن أكثر ما يقول إن المعنيين إذا كان كلُّ منهما جائز الإرادة وقد أُريدَ أحدُهما دون الآخر لزم اختلال الفهم بفهم المعنى الذي ليس بمراد فوجب أن لا يكون جائز الإرادة إلاَّ مرادًا قلنا إنما يلزم اختلال الفهم من اعتقد أن مجرَّد جواز الإرادة يقتضي الإرادة بالمفسدة الناشئة من اعتقاد هذا الاعتقاد مع كونه غير مطابق يلزم إثبات أيّ حقيقةٍ شاء الإنسان بالمفسدة الناشئة من اعتقادها بتقدير عدمها وحينئذٍ فتكون الحقائق تابعة للعقائد حتى يُحكم بثبوت كلِّ مُعْتَقد خشيةَ فسادِ الاعتقاد وهذا أحد أنواع السَّفْسَطة الثاني نقول إذا كان غيره مرادًا فلابدَّ أن يدلَّ دليلٌ على إرادته إما كونه حقيقة اللفظ وقد تجرَّدَ عن القرائن أو كونه مجاز اللفظ الذي اقترنَ به ما يقتضي إرادة مجازِه أو كونه فردًا من أفراد حقيقته أو كونه أحد معنَيَي اللفظ المشترك الذي دلَّ دليل على أنَّه هو

المراد أو على أنّ الآخر ليس بمراد واستقراءُ اللغات يدلُّ على أنَّ كلَّ متكلِّم قَصَدَ الإفهام إنَّما يُعْلم مراده بأمر زائد على مجرَّد جواز الإرادة وعلى التقدير فلا اختلال للفهم الثالث تدَّعِي أنَّ كل ما جاز إرادته فإنه لابدَّ أن يكون مرادًا أو تدعي أن الأصل فيه أن يكون مرادًا فإن ادَّعيت الأول ففساده معلوم بالاضطرار وإن ادَّعيت الثاني فقد سلَّمْتَ تخلُّف الإرادة عن جواز الإرادة في مواضع فنقول تلك المواضع التي كان المعنى فيها جائزَ الإرادة ولم يُرَد لابد أن يكون قد اقترن بالمعنى الآخر المراد ما دلَّ على أنه هو المراد ونحن كلَّ الألفاظ من هذا القسم فيُعْلَم المراد بما هو دليلٌ عليه في كلِّ موضع بحسبه الرابع إذا كان جائز الإرادة فإن دلَّ دليلٌ على أنه مراد فلا كلامَ فيه وإن لم يدلَّ دليلٌ سوى كونه جائز الإرادة فإنه يجوز أن يكون مرادًا ويجوز أن لا يكون مرادًا وإلاَّ لوجَبَ التلازم بين جواز الإرادة ووجودها في جميع المواضع وهو خلافُ إجماع العقلاء فنقول حينئذٍ هذا المعنى جائز عدم الإرادة فلا يخلو إما أن يكون مرادًا أو لا يكون فإن لم يكن مرادًا بطل الاستدلال وإن كان مرادًا لزم إرادة ما يجوز أن يكون مرادًا ويجوز أن لا يكون مرادًا من غير دليل يٌبَيِّن رُجْحان أحدهما وذلك تكلُّمٌ بما لا يُفهم وتكليفٌ لما لا يُطاق

ونَصْب دليل دِلالَة فيه وإن قالوا إرادة المعنى راجحة قلنا عدم إرادته راجحة لإعضادها بالأصل بل نقول إذا جاز أن يكون مرادًا وجاز أن لا يكون مرادًا كان ترجيحُ أحدِهما على الآخر لغير مرجَّحٍ باطلاً فالواجب التوقُّف عن الجزم بأحدِهما حتى يأتي ما يرجِّحُه فإن قالوا هو ثابت الإرادة إلا عند وجودِ مُعَارِض قلنا بل هو غيرُ مرادٍ إلا عند وجودِ ما يدلُّ على الإرادة ولا شك أن نسبة عدم الحكم إلى عدم مُقْتَضِيه أولى من نِسْبَته إلى وجودِ مانعٍ منه لما في الثاني من التعارض بين المقتضي والمانع ولهم مسلك ثالث وهو أنه لابدَّ أن يُرَاد باللفظ ما هو جائز الإرادة لأنه إذا عدم ذلك فإما أن لا يُراد معنى أو يراد ما لا يجوز إرادته وكلاهما ممتنع فثبتَ أنَّ إرادةَ المعنى الجائزةِ إرادتُه واجبة وهي تدفع عن اللفظ هذين الفسادين فحينئذٍ إذا فرض معنًى جائزُ الإرادة كان المقتضي لإرادته قائمًا وإن لم يدل على عينه فإن

المقتضي للحكم يعمل عملَه وأيُّ محلٍّ وُجِد وإنما التعيينُ بمنزلة الطُّرُق التي كل منها محصِّل للغرض فلا يضر أنها تُسلك فإذا أُريدَ منه هذا المعنى حصل الغرضُ المطلوبُ مما يقتضيه نفس استعمال اللفظ فيكون المقتضي للإرادة ثابتًا وهذا المسلك أيضًا ليسَ بشيءٍ لأن وجودَ معنى جائز الإرادة لابد منه وتعيّنه بهذا المعنى إذ هذا المعنى إنّما يكونُ طريقًا إذا لم تكن فيه مفسدة وهذا فيه مفسدة وهو التعرض بحمل اللفظ على ما لم يُرَد به وأيضًا فهذا إنما يقتضي أنَّ هناك معنًى ما جائز الإرادة فإذا أبدى الخصمُ معنًى من المعاني جائز الإرادة اندفع الحاجة إلى ذلك المعيّن لأن المقتضي يقتضي معنًى ما جائز الإرادة فإذا حصلت المزاحمة لم يكن أحدُهما بأولى من الآخر والمقتضي لا عمومَ له وحينئذٍ فلا يمكن الاستدلال بهذه القاعدة لأنه ما من لفظٍ إلا ويمكن الخصمَ أن يذكرَ فيه معنًى جائزَ الإرادة في نفس الأمر فإنَّا نعلمُ أنَّ اللفظ له معنى جائزُ الإرادة لكن اندفاع المفسدة ليس موقوفًا علينا ولا على تَعْييننا ولهم مسلك رابع وهو أنَّ مفسدة عدم الحمل أشد من مفسدة الحمل إذ المعنى إذا كان مرادًا فلم يعتقِدْه مرادًا لزم إبطال مقصود الشارع قطعًا أما إذا لم يكن مرادًا واعتقدناه مرادًا فلا بدَّ أن نَحْمله على

كلِّ جائز الإرادة وحينئذٍ فنكون قد علمنا ببعض المقصود والدليلُ على أنَّ مجرَّد جواز الإرادة لا يقتضي حصولَ الإرادة وجوه أحدها إما أن يقتضيه في كلِّ حال أو في بعض الأحوال فإن كان الأول لزم إرادة ما تجوز إرادته من كلِّ لفظ وهو خلاف المعلوم بالاضطرار وإن كان الثاني فلابدَّ أن يتميَّز الحال فيها الاقتضاء عن غيرها وحينئذٍ فإما أن ينضمَّ إلى جواز الإرادة قَيْد عَدَمي أو قَيْد وُجُودي فإن كان الأوَّل بأن يقال جواز الإرادة يقتضي الإرادة ما لم يعارضه بما يمنع الإرادة أو ما لم يعارضه كونه مجازًا كان النافي للمجاز أقوى من جواز الإرادةِ المقتضي لإرادة المجاز ونحو ذلك أو قَيْد وجودي بأن يُقال لابدَّ أن يستعمل اللفظ على وجهٍ يقتضي أن ذلك المعنى مرادٌ به فإن كان الأول يلزم كون التعارض بين المقتضي والمانع ولزم أن لا يفهم أحدٌ معنًى من لفظٍ حتى يَعْلَم انتفاءَ جميعِ الموانع ويستشعر ذلك ولزم أن تكون الأمور العدمية أبعاضًا للأدلة والعلل وهذا كلُّه خلاف الأصل إن لم نقل هو ممتنع ثم يقول حال اللفظ قبل وجود المانع إن كان مثله بعد وجودِه لَزِم ترجيح الشيء على مِثْله وإن كانت صفتُه الثبوتيَّة قبل وجودِ المانع أَكمل منها بعد وجودِه فهو القسم الثاني فَثَبت أنه لا يفيد الإرادة إلاَّ بوصفٍ وجودي ينضمُّ إلى جواز الإرادة فيكون مجموع ذلك

هو المقتضي فلا يكون مجرَّد جواز الإرادة هو المقتضي فإن قيل هذا يلزم في كون الأصل في الكلام هو الحقيقة وأن الأصل في الأمر الإيجاب والأصل في الصيغة العامة الشمول قيل تلك المواضع قام الدليل فيها على أن تلك الأدلة عند تجرّدها تقتضي مدلولاتها فكان ذلك راجحًا على ما ذكرناه هنا بخلاف جواز الإرادة فإِنه لم يقم دليلٌ على اقتضائها الإرادة الثاني أنه إذا كان جائز الإرادة فإما أن يتوقَّف وقوع إرادته على شيءٍ غير جوازها أو لا يتوقَّف فإن لم يتوقف لزمَ كون الشيء الجائز يترجَّح طرفُ وجودِه على طرف عدمه من غير مرجِّح زائد وهو باطل وإن توقَّف وقوع الإرادة على شيءٍ زائد على جوازها كان المقتضي لوقوع الإرادة هو ذلك الشيء الزائد فلا يكون جواز الإرادة موجبًا للإرادة وهذا واضح الثالث كون الجواز يقتضي الوجوب أو يقتضي الوقوع تعليقٌ على الشيء ما لا يقتضيه وقلبٌ للحقائق وذلك لأن أسباب الجواز تُخْرج الشيءَ من حَيِّز الامتناع فقط أو من حَيِّز الامتناع والوجوب وأسبابُ الوجوب تُخرج الشيءَ من حيِّز الإمكان والامتناع وأسبابُ الوقوع تُخرج الشيءَ من حَيِّز العدم فإذا حلَّ بأنه يصير الشيءُ جائزًا جاعلاً له موجودًا أو واجبًا فقد صار الممكن واجبًا أو موجودًا مع قَطْع النظر عن غير الإمكان ومعلوم أنَّ هذا باطل

الرابع إذا جعلنا الشيءَ مرادًا لله ولرسوله بمجرَّد عِلْمنا بأنه يجوز أن يراد من اللفظ فقد قلنا على الله ما لا نعلم وقَفَوْنا ما ليس لنا به علم وذلك حرامٌ بنصِّ القرآن وذلك لأنَّ عِلْمنا بأنه جائز الإرادة علم بأنَّ المتكلِّم لو أراده لم يكن لاحنًا أو لم يكن متكلِّمًا بغير العربية أو علم بأنَّ المتكلّم له أن يريده وإذا عَلِمْنا أن الله سبحانه له أن يريد المعنى أوله أن يشاء الفعل ثم أخبرنا عنه بأنه قد شاءه وأنه قد أراده من غير دليلٍ زائد دلَّنا على أنه أراده لا علمنا بأن له أن يريده كُنَّا قد أخْبَرْنا عنه بأكثر مما عَلِمْنا منه والعلمُ به ضروري وذلك قولٌ على الله ما لا نعلم الخامس أن كونه جائز الإرادة إما أن يعنى به جائز الإرادة لغة بمعنى أنَّ كلَّ عربيٍّ لو أراد ذلك المعنى من ذلك اللفظ لم يكن خارجًا عن لغته أو جائز الإرادة من كلِّ وجهٍ بمعنى أنَّ الله ورسوله إذا أراده لا يلزم منه محذور من مخالفة الأصول في قَلْب الحقائق فإن عَنَى المعنى الأول فنحنُ نعلم باضطرار أنَّ مجرَّد كون العربي يجوز أن يريد المعنى من اللفظ لا يقتضي ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى ورسوله أراده فإنَّ العربي من حيث هو كذلك يريد الحقَّ والباطلَ والهوى والضلال والكفر والإيمان واللهُ ورسولهُ منزَّهٌ عن ذلك وإن أريد القسم الثاني بطل قولهم فإنهم لا يثبتون جواز الإرادة إلا لغةً

فصل: التمسك بالنص من وجوه

فصل ثم التمسُّك بالنصِّ من وجوه أحدها دعوى إرادة الحقيقة إذا لم ينعقد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة فيقال الحقيقة مرادة لأن الأصل في الكلام هو إرادة الحقيقة فإن الغرض من الكلام هو الإفهام فلو لم يكن الأصل ما ذكرنا يلزم اختلال الفهم فلا يوجد الإفهام ولأن الثابت بطريق الحقيقة أسبق إلى الفهم بالنسبة إلى غيره فالظاهر من حال العاقل الإقدام إلى ما هو أسرع إفضاءً إلى الغرض فَتُرَاد الحقيقة على أن عدم الإرادة مما يفضي إلى ترك العهد والإصلاح والإخلال بالظن فينتفي اعلم أنّ هذا طريقٌ صحيح فإن الأصل في الكلام هو إرادة الحقيقة وهذا مما اتفقَ عليه الناسُ من جميع أصحاب اللغات فإن مقصود اللغات لا يتم إلا بذلك وهو مستوفًى في مواضعه

والحقيقةُ قد يُعْنَى بها المعنى المدلول عليه باللفظ وقد يُعنى به اللفظ الدال على المعنى وقد يُعنى به نفس الدِّلالة والمشهور أنها اللفظ المستعمل فيما وُضِعَ له والأوضاعُ ثلاثة وضعٌ لغويٌّ وشرعيّ وعرفيّ فلذلك صارت الحقائق ثلاثة أنواع وقد يكونُ اللفظ حقيقةً بالنسبة إلى وضعٍ مجازًا بالنسبة إلى وضعٍ آخر وتختلف الأوضاعُ أيضًا باختلاف الأعصار والأمصار فكم من لفظٍ غَلَب استعمالُه في معنًى عند قوم وفي معنًى آخر عند قوم فدلالات الكتاب والسنة مبنيَّة على معرفة أوضاع من نزل القرآنُ بلسانه وبُعِثَ الرسولُ فيه ودلالات الأقوال المستعملة في العقود والأيمان مبنيَّة على معرفة أوضاع مَنْ ذلك المتكلِّم منهم ثم إن كان ممن يتكلم بوضْعَين فلابدَّ من التمييز ولهذا اختلَفَ الفقهاءُ في الحاسب إذا قال له عليَّ درهم في درهمين أو أنت طالق طلقة أو طلقتين وقد ذكر في الأصل إرادة الحقيقة ثلاثة أوجهٍ فنقْتَصِر على شرحها أحدها أن مقصود الكلام هو الإفهام والإفهامُ إنما يتم إذا علم أن ذلك اللفظ موضع لذلك المعنى فإما أن يكون هذا وحدَه كافيًا في الإفهام أوْ لا فإن كان كافيًا فهو المقصود بقوله إن الأصل في

الكلام إرادة الحقيقة وإن لم يكن كافيًا فلا يحصل بسماع شيءٍ من الألفاظ معرفة مقصود المتكلِّم حتى يقترن به ما يبينه فلا يحصل المقصود من الخطاب بنفس الخطاب ولا يحصل الإفهام بمجرَّد سماع الكلام وذلك يُعَكِّر على مقصود الخطاب بالإبطال الثاني أن المعنى الثابت بطريق الحقيقة أسبق إلى الفهم من غيره كما يشهد به الواقع وسلوك الطريق التي هي أقرب إلى المقصود اظهر من حال الحكم الثالث أن عدم إرادة الحقيقة يُفْضي إلى تَرْك المعنى المعهود المصطلح عليه ويُزيل ظنَّ إرادته فيكون بما في ذلك من المفسدة ثم اعلم أنه إن أجمع الناس على أن الحقيقة غير مرادة كقوله إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب 49] وقوله فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ [البقرة 232] عند من يقول إن حقيقةَ النكاح الوطء وقوله رُفِعَ عن أُمتي الخطأ والنِّسْيان فإن حقيقة رفع الخطأ

والنسيان بمعنى أنه غير واقع لم يُرَد إجماعًا وكذلك قوله وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 82] فإن سؤال الجدران لم يُرَد بالإجماع لم يصح دعوى إرادتها وإن لم يجمعوا على ذلك صحّ دعوى إرادتها إلا أن يعارض المستدل بما ينفي إرادتها وفي الحقيقة لا فرق بين أن يكون النافي لها الإجماع أو غيره من الأدلة الراجحة وإنما خُص الإجماعُ بالذكر لأن غالبَ ما يستعملون هذه الطريقة في الأقوال العامة والمطلقة والعمومات على ثلاثة أقسام

أحدها ما انعقد الإجماع على بقائه على عمومه وهو قليل والثاني ما أُجمع على تخصيصه وهو كثير جدًّا وقد اختلفوا بعد التخصيص هل يبقى حقيقة أو مجازًا على قولين مشهورين مع أنَّه حجة عند عوام العلماء وأصحابُ هذه الطريقة يسمونه مجازًا فإذا أَجمعوا على تخصيصه لم يمكنه دعوى إرادة الحقيقة وإن لم يجمعوا على تخصيصه أمكنه أن يدَّعي إرادة الحقيقة التي هي إرادة كلّ فرد من أفراده أو إرادة المعنى العام الكليّ من حيث هو كذلك قوله الثاني دعوى إرادة صورة النزاع بأن يقال جاز إرادتها فَتُراد كما مرَّ هذا مبنيُّ على ما تقدَّم وهو عند من يقول به إما أن يدَّعي أن المعنى الفلاني هو المراد فتكون إرادة غيره مانعة من انحصار الإرادة فيه أو يدَّعي أنه مراد فلا تكون إرادة غيره مانعةً لكن متى أثبتَ الخصمُ أن اللفظ إنما يدلُّ عليه بطريق المجاز كان ذلك مانعًا من إرادته لأنّ النافي للمجاز هو المقتضي لإرادة الحقيقة وذلك راجح على جواز الإرادة المقتضي للإرادة بالاتفاق وإن أثبت الخصمُ أنَّ معنًى آخر مرادٌ بطريق الحقيقة وأنه ليس

داخلاً والمعنى الأول تحت معنًى كليّ كان ذلك أيضًا مانعًا من إرادة الأول لاستلزمه الاشتراك أو المجاز وإن أثبت الخصمُ أن معنًى آخر جائز الإرادة وأنه وهذا المعنى لا يجتمعان تحت كلي يكون حقيقة اللفظ فقد تعارض قولُه المستدل لأنه يلزم أن يكون اللفظ حقيقةً في أحدهما مجازًا في الآخر أو حقيقةً في كلٍّ منهما على انفراده وذلك يمنع انفراد أحدهما بالاستدلال دون مرجِّح وهذا ظاهر فتأمَّلْه وما شابهه فإنه إذا سَلَّم أن جواز الإرادة يقتضي الإرادة أمكن إفساد أكثر الاستدلالات المموَّهَة بهذا التحقيق واعلم أن دعوى إرادةِ صورة النزاع قد اختلفوا هل تجامع دعوى إرادة صورة النزاع أو دعوى إرادة مقيَّد بقيدٍ مُدْرج فيه صورة النزاع ومنشأُ هذا التردُّد أن اللفظ العامَّ إنما يندرج فيه الأفراد من جهة اشتراكها في المسمَّى الذي دلَّ عليه العموم وهو الرحمة أو الإنسانية مثلاً لا من جهة ما يمتاز به كلُّ فردٍ عن الآخر لكن يلزم من دخول الفرد ودخول مواده التي تعين فهو دال على مجموع الأفراد بطريق المطابقة وعلى فردٍ فردٍ بطريق التضمُّن وعلى ما يمتاز به كل فرد عن الآخر بطريق الالتزام فدعوى إرادة الحقيقة وإرادة صورة النزاع بدلالتين جائز أما بدِلالةٍ واحدةٍ فلا يجوز وقد اعتقد بعضُ الناس أن دعوى إرادة صورة النزاع دعوى إرادة

المجاز وجَعَل دلالة التضمن واللزوم مجازيَّتين وهذا إنما يصح أن لو جعل اللفظ دالاًّ على ذلك فقط أما إذا جعل ذلك بعض مدلولات اللفظ فلا يصح قوله الثالث دعوى إرادة المقيد بقيدٍ يندرج فيه صورة النزاع كالحلي التي هي نصابٌ كامل حوليٌّ مملوك رقبة ويدًا من قوله عليه السلام في الحلي زكاة اعلم أن هذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف في كتابٍ معتمد من كتب الحديث فَلْيطلب مثلاً آخر كقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة 34] والفرق بين هذا المدَّعى والذي قبله أنه هناك ادَّعى إرادة صورة النزاع بخصوصها وهنا ادَّعى إرادة نوع عام تندرج فيه صورة النزاع وفي الأول ادَّعى إرادة الحقيقة وهي أعم من ذلك قوله الرابع دعوى إرادة شيء يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع مثل أن يدَّعي أنّ تحريم الكَنْز مراد من الآية وتحريم الكَنْز مستلزم لوجوب الزكاة أو يدَّعي إرادة العقاب من إيجاد حُلي غير

مزَّكى من هذه الآية وذلك مستلزم للحكمِ في صورة النزاع وإنما قسَّم هذه الأقسام الأربعة لأنَّ دلالة اللفظ إن اعْتُبِرت على جميع مسمَّياتها فهي المطابقة وهي الحقيقة وإن اعْتُبِرت دلالته على بعض مسماه فهي التضمن وذلك البعض إما أن يكون أعم من محل النزاع أو هو محلّ النزاع وإن اعْتَبرتَ اللازم فهي الالتزام فلذلك جعل هذه الأقسام الأربعة وانتزعها من دلالة المطابقة والتضمن والالتزام قوله أو أحد الأمور الأربعة أو الأول مع البواقي أو الثاني كذلك إلى الرابع هذه عشرة أقسام الأول أن يدَّعى أحد الأقسام الأربعة أو أحد الأمرين الأول والثاني أو الأول والثالث أو الأول والرابع أو أحد الأمرين الثاني والثالث أو الثاني والرابع أو أحد الأمرين الثالث والرابع وبقي قسمان آخران وهو أحد الثلاثة الأُوَل أو أحد الثلاثة الأواخر الثاني والثالث والرابع قوله أو إرادة أحدها على تقدير عدم إرادة أحدها ويلزم من

هذا إرادة أحدها ضرورة تحقق اللازم أو نقيض الملزوم بأن نردّد في اللازم أو الملزوم حاصله أنه قد يدَّعي إرادةَ واحد منها على تقدير عدم إرادة واحدٍ منها بأن يقول أحدها مراد على تقدير عدم إرادة الآخر كما تقدَّم فإنْ تحقَّق الملزوم وهو عدم إرادة أحدها تحقَّق اللازمُ وهو إرادة أحدها فثبتَ نقيضُه وهو إرادة أحدها قوله ولئن قال شيءٌ منه عدم الحكم في صورة النزاع مراد من هذا النص فنقول نعني به ما يستحيل انفكاك الحكم في صورة النزاع عن إرادته ولئن منع فنعيّن صورةَ النزاع أو نقول نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا اعلم أنَّ هذه معارضة الدعوى الرابعة فإن المستدل إذا قال شيءٌ يلزم منه الحكم في صورة النزاع جائز الإرادة فيكون مرادًا قال له المعترض شيءٌ يلزم منه عدم الحكم في صورة النزاع جائز الإرادة فيكون مرادًا وهذا بعيدٌ في الدلالات المعروفة لأن الكلام الواحد لا يكون دالاًّ على النقيضين إلا أنه يَنْفُق

طريقة لا قائل بالفرق في مسألتين مختلفتين وقد عرفتَ ما فيها مثالُ ذلك أن يقال في مسألة علة الربا التقديرُ بالكيل أو الوزن شيءٌ يلزم منه تحريم بيع المكيل والموزون بجنسِه مرادٌ من هذا النص لأنه إذا باع الجِصّ والنورة أو القطن والحرير بجنسِه متفاضلاً فَحُرْمَةُ أَخْذ ذلك الشيء الفاضل جائزة الإرادة من هذا النص لأنه لو أُرِيْد من هذا النص لم يكن خطأً في اللغة فيكون تحريم أكل ذلك الفاضل مرادًا من هذا النص وإذا كان مرادًا لزم منه تحريم بيع المكيل والموزون بجنسِه متفاضلاً لأنه تحريم الشيء المأخوذ بالعقد يستلزم تحريم العقد لعدم الأسباب المحرمة غيره فيكون مرادًا فيقول له المعترض شيءٌ يلزمُ منه عدم الحكم في صورة النزاع مرادٌ من هذا النص لأنَّ تحريم بيعِ الخيارِ والقِثَّاء والبطيخ بجنسه متفاضلاً جائز الإرادة من هذا النص فيكون مرادًا وهو شيء يلزمُ منه عدم التحريم في الجِصّ والنُّورة والقطن والكتان لأنه لا قائل بالفَرْق بينَ الحكمين بحيث يقول بالتحريم في الجميع أو التحليل في الجميع فمن قال بالتحريم في هذا قال بالتحليل في هذا واعلم أن طريقة لا قائلَ بالفرقِ هنا أجود ممَّا مضى لأن أصل المسألتين شيءٌ واحد وهو أن علة التحريم هي الطُّعْم والتماثل في الجنس وقد أجمعَ الخصمان على أن أحدَ القولين ينفي

الآخر فليس للمستدلِّ أن يأتي في هذا الأصل بقولٍ ثالث يخرج عنهما وهو دعوى إرادة الجميع لكن هذا إلزامٌ جدليٌّ وإلا ففي المسألة قولٌ آخر وهو أن العلة الطُّعْم والتماثل فيكون قد سوَّى بين تلك الصور في التحليل وفيها قول آخر لبعض الأتباع وهو أن العلة التَّمَوُّل فيجري في جميع الأجناس فقد قيل بالتحريم في الجميع فبطل قوله لا قائل بالفرق على أنه لو لم يقل أحدٌ بالفرق في هذه المسألة فهل يجوز الفرقُ فيها قولان مشهوران لأهل الفقه والأصول كما تقدم لكنَّ القولَ بعدم جواز الفرق هنا متوَجِّه وإن كان الصحيحُ خلافَه وهذا البحث إنما هو في المثال المذكور فإذا أوْرَد المعترضُ مثلَ هذا السؤال قال المستدلُّ يعني به ما يستحيلُ انفكاك الحكم في صورة النزاع عن إرادته يقول يعني بالشيء المستلزم للحكم في صورة النزاع متى يستلزم الحكم بالضرورة بحيث لا يجوز انفكاك الحكم عن إرادته كما ذكرناه فإنَّ إرادةَ تحريم الفاضل من الجِصّ والقطن إرادةُ شيءٍ مستلزم لتحريم العقد بحيثُ لا يجوز انفكاكُ تحريم العقد وهو محلُّ النزاع عن إرادته بخلاف تحريم الخيار والقثاء الزائد فإنه شيء ليس مستلزمًا بالضرورة لعدم تحريم العقد المشتمل على التفاضل في الجِصّ والقطن لأنه يجوز أن ينفكّ عدمُ الحكمِ في صورة النزاع وهو عدم تحريم التفاضل في المكيل والموزون عن تحريم

التفاضل في المطعوم بأن يكون في المسألة قولٌ ثالث بالتحريم فيهما فإنَّ تجويزَ قولٍ ثالث أمرٌ ممكن جائز فليست الملازمة ضرورية بخلاف تحريم المبيع من حيث هو مبيع مع تحليل العقد فإنه مستلزمٌ بالضرورة وأما قوله ولئن منع فُنعَيِّن صورةَ النزاع يعني إنْ مَنَع أنَّ شيئًا يستحيل انفكاك الحكم في صورة النزاع عنه جائز الإرادة عيَّنَّا صورة النزاع فيثبت استحالة الأنفكاك وقوله أو نقول نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاعِ في الوصف ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا اعلم أن المستدل قد يدَّعي إرادةَ شيء يلزم من إرادته الحكم في صورة النزاع وقد يدَّعي إرادة شيء يلزم منه الحكم فإن ادَّعَى الأول جائز أن يضمن أنه محلُّ النزاع لأن محلَّ النزاع شيء يلزم من إرادته الحكم في صورة النزاع وإن ادَّعى الثاني لم يجز أن يضمن نفسَ محلِّ النزاع لأن نفسَ محل النزاع ليس شيئًا يلزم منه الحكم وإنما يلزم الحكم من إرادته وبَيْنَ المعنيين فرق إذا عرفتَ هذا فالمصنِّف إنما ذكر إرادةَ شيءٍ يلزمُ منه الحكم في صورة النزاع وهذا لا يجوز أن يفسَّرَ بمحلِّ النزاع لأن محل النزاع لا يلزم منه الحكم وقد قال فنُعَين صورةَ النزاع أو نقول نعني ما

لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف وهذا تعيينٌ للشيء الذي يلزم منه الحكم في صورة النزاع بأنَّه محلُّ النزاع وهو كما ترى إلا أنه يمكن أن يقال لا فرقَ من جهة المعنى بين ما يستلزم إرادته الحكمَ وبين ما يستلزمُ هو الحكم بتقدير كونه مرادًا ونحن ندَّعي أنَّ محلَّ النزاع يستلزم الحكم إذا كان مرادًا لا سِيَّما ومن اللغة الفصيحة التسامح في مثل هذا الكلام عند ظهور القصد وحَذْف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقَامه قولنا إرادة شيء يلزم منه الحكم أي يلزم من إرادته الحكم ودلَّ على المحذوف قولُه إرادة شيء قولُنا بعد ذلك يلزم منه أي يلزم من هذا الشيء المراد من حيث هو مراد أو يلزم من إرادته وعلى هذا فينبغي في المثال الذي ذكرناه أن يدَّعي إرادةَ تحريم بيع الكيل بالكَيْلَين أو الرطل بالرطْلَيْن من كلِّ مال متماثل ثم نعين ذلك إذا منع أو نقول نعني به ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف لأن ما ذكرناه لا يغاير صورةَ النزاع في الوصف وهذا معنى قوله ولا يمكن الخصم أن يقول بمثل ما قلنا

لكنَّ الاعتراض في الحقيقة لا يندفع بهذا إلا أنَّ الخصمَ يقول هب أن الذي تعنيه ما يستحيل انفكاك الحكم في صورةَ النزاع عن إرادته أو ما لا يُغاير صورةَ النزاع في الوصف لكن وجه الدلالة فيه أنه شيء يلزم منه الحكم في صورة النزاع وأنَّه مراد وأنا معي شيءٌ يلزمُ منه عدم الحكم في صورة النزاع وهو مراد فاقتراقهما بعد ذلك بأنَّ أحدهما لا ينفكُّ عن الحكم أو لا يغاير صورة النزاع افتراقٌ في شيءٍ لا تأثير له وجودًا ولا عدمًا فلا يصلح جوابًا للمعارضة ولا ترجيحًا وهذه المعارضة تدفعُ أصلَ الاحتجاج بجواز الإرادة لأنه يلزم منها مثل هذه النقائص وقد اختلف الناس في آية الربا والبيع هل هما من قبيل العمومات والظواهر أو من قبيل المجملات فمن سلك المسلك الأول يجوِّز الاحتجاجَ بعمومها ومن سَلَك الثاني لا يُجَوِّزه ولولا أن كان نفس هذه الآية على سبيل المثال لبينَّا وجوهَ الاستدلال الصحيح منها والاعتراض عليه والجواب عنه

فصل في دعوى الإرادة

فصل إذا ادَّعى أحدَ الأمرين اللذين أحدهما لازم الانتفاء لا يتم كما إذا ادَّعى إرادة الحقيقة أو إرادة صورة النزاع من النص انعقد الإجماعُ على عدمِ إرادة الحقيقة كقوله عليه السلام في الحليِّ زكاة فإنَّ الخصمَ يقول أحدُ الأمرين لازم وهو إما إرادة الحقيقة أو عدم إرادة صورة النزاع والأول منتفٍ فيتحقق الثاني ويلزمُ من هذا عدم إرادةِ كلِّ واحدٍ مما ذكرتم اعلم أصلحكَ الله أن مُدَّعي الإرادة لابدَّ أن يبين جواز الإرادة فإذا منع جواز الإرادة فلا بد من الدلالة عليه دلالةً سالمةً عن المعارضة بأن يبيِّن صلاحَ اللفظِ له واحتماله له وأن إرادة ذلك المعنى به ليست خطأً هذا أقلُّ ما يلزمه عند كلِّ أحد وإلا فيدَّعي الإنسانُ إرادةَ ما شاء من أيِّ لفظٍ شاء وإذا أقام الدليلَ على أنه جائز أو سُلِّم له أن جواز الإرادة يدلُّ على الإرادة ثبتَ المدَّعَى إلا أن يُعارض بما يمنع الإرادة من

إجماعٍ أو كونه مجازًا أو نحو ذلك لكنَّ هولاء فتحوا باب مقابلة دعوى الإرادة بدعوى الإرادة وتنزَّلوا عن مقام الممانعة والغرضُ أن يبينوا الدعاوى التي يمكن أن تُقَابل بدعاوى تناقضها من التي لا يمكن ذلك فيها فإذا ادَّعى المستدلُّ أحد أمرين أحدهما لازم الانتفاء وهو أن يكون منتفيًا في نفسِ الأمر ليس انتفاؤه متعلِّقًا بعدمِ الآخر ولا بوجوده وهذا في الترديد مثل اللزوم الاتفاقي لا يجوزُ الاستدلالُ به ألْبتة حتى يكون الشيئان بينهما نوعُ مناسبة ينشأ منها التعاند والترديد والتلازم والاستتباع وهذا إذا كانت مفردة فإنه إذا كان لازم الانتفاء على التقدير فما من تقديرٍ يضمه إليه المستدل إلا أمكن المعترض أن يضم إليه نقيضه كما ذكره فإنه إذا قال أحد الأمرين لازم إما إرادة الحقيقة أو إرادة صورة النزاع والأول منتفٍ فيتعيَّن الثاني قيل له أحد الأمرين لازم إما إرادة الحقيقة أو عدم إرادة صورة النزاع والأول منتفٍ فيتعيَّنً الثاني وهو عدم إرادة صورة النزاع لأن التقدير المنتفي في نفس الأمر لك أن تدَّعي على تقديره أيَّ دعوى أردْتَها إذ ليس بعضُ الدعاوى أولى من بعض قوله هذا إذا ادَّعى في نفس الأمر أمَّا إذا ادَّعى على تقدير هو غير واقع عنده فإنه يتم كما إذا ادَّعى أحدَهما على تقدير انتفاء ملزوم من ملزومات الحكم في صورة النزاع أو على تقدير عدم إرادة

هذا الحكم من قوله صلى الله عليه وسلم أدُّوا زَكاةَ أَمْوالِكُمْ ويلزم منه الحكم في صورة النزاع لأن الحالَ لا يخلو عن تحقُّق ذلك التقدير أو عدمه مثالُ هذا أن يقول الحقيقةُ أو صورةُ النزاع مرادةٌ من هذا النصِّ وهو قوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ [التوبة 34] أو قوله في الحُلِيِّ زكاةٌ وقد تجنَّبْتُ ذِكْرَ هذا الحديث لأنه ليس له أصل على تقدير انتفاء ذمِّ من ليس لها حُلي لا تزكيه أو على تقدير انتفاءِ وجوبِ ضمِّ الحليِّ إِلى نوعه من المضروب في تكميل النِّصاب وإذا كان أحدُهما مرادًا على هذا التقدير فإما أن يكون هذا التقدير ثابتًا أو لا يكون فإن كان ثابتًا فإنه يستلزم عدمَ الحكم في صورةِ النزاع لأنه إذا لم يلزم المرأة بترك إخراج الحلي عن الزكاة ولم يجب عليها أن تضمَّه إلى المضروب في تكميل النصاب فإن ذلك ملزوم لعدم الوجوب

عليها وعدم الوجوب ملزوم لعدم إرادة صورة النزاع وعدم إرادة صورة النزاع ملزوم لإرادة الحقيقة والحقيقةُ ليست مرادة بالإجماع فيتعين أن يكون المراد صورة النزاع أو يقول فيتعيَّن التقدير الثاني وهو عدم ذلك التقدير وإذا عُدِم انتفاء الذَّم أو انتفاء وجوب الضم فقد ثبتَ ذمُّ من لم يزكِّ الحليَّ وثبتَ وجوبُ ضمِّ الحليِّ إلى المضروب وذلك ملزوم الوجوب في الحلي وهو محلُّ النزاع أو يقول إن كان هذا التقدير ثابتًا لزم إرادة الحقيقة وهو خلاف الإجماع فيتعيَّن انتفاؤه أو يقول إما أن يكون ثابتًا أو منتفيًا فإن كان منتفيًا لزم الحكم في صورة النزاع وإن كان ثابتًا فإما أن يُرَاد الحقيقة أو صورة النزاع والحقيقةُ غيرُ مرادة فيُراد صورة النزاع فقد صارت صورة النزاع ثابتة على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه أو يقول أحد الأمرين مرادٌ على هذا التقدير فإن كان ثابتًا فقد لزم إرادة أحد الأمرين وأيُّهما أُريد فقد ثبتَ المدَّعى وإن لم يكن ثابتًا فقد ثبت المدَّعى فإن قيل الحقيقة ليست مرادة بالإجماع قال لا يضرني دعوى إرادتها على تقدير ليس بثابت فإني أُسَلِّم

عدمَ الإرادة على كلِّ تقديرٍ ثابت أما على التقديرات التي ليست بثابتة فقد يلزم المحال وكذلك إذا ادَّعى أَحدَ الأمرين على تقدير عدم إرادة هذا الحكم من قوله صلى الله عليه وسلم ما من صَاحِب ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يؤدِّي زَكَاتَه أو من قوله أدُّوا زَكَاةِ أمْوالِكُم إن كان لهذه الصيغة أصل أو من قوله وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] أو من قوله خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 103] أو من قوله وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون 10] فإنَّ هذا التقدير إن كان ثابتًا فقد لزم أحد الأمرين إرادة الحقيقة أو إرادة صورة النزاع والحقيقةُ ليست مرادةً بالإجماع فتعيَّن إرادةُ صورة النزاع وإن لم يكن ثابتًا فقد ثبتَ نقيضُه وهو إرادة الحكم من هذه النصوص فيثبت الحكم في صورة النزاع فصار محلُّ النزاع ثابتًا على التقديرين ولا يمكن المعترض أن يقابل هذا بمثله بأن يقول الحقيقةُ أو عدم صورة النزاع مرادٌ على هذا التقدير لأن هذا

التقدير إن كان منتفيًا لزم المدَّعى فلا يحصل غرضُه على التقديرين واعلم أنَّ هذا الكلام كما تراه في غاية السماجة وذلك أنَّ مبناه على قبول الدَّعاوَى المحضة واختلاقها فالصانع مَن يُحْسِن اختلاق دعوى يعجز الآخر عن اختلاق دعوى تناقضها وما أشبه هولاء بما يُحكى أن ماجِنَيْن اجتمعا وتفاخرا في أيهما أَقدر على اختلاق الكذب والأسمار الباطلة والأحدوثات المفتعلة ولم يزالا يتناوبان في الحكايات حتى أتى أحدهما بِبِدْع من الأكاذيب فأعجزَ الآخر عن معارضته وحَسْبُك بمن يكون فَلْجُه وظهورُه بالاقتدار على الاختلاق والحذق في الافتراء وسبيل هذه الدعاوى أن تُقَابل بالمنع الصحيح من غير معارضة فإنَّ المبْطِل يجوز أن يُقَابَل بالمنع الصحيح من غير معارضة فإنَّ المبْطِل يجوز أن يُقَابَل بباطِل مثل باطله بل بِدَفْع باطِلِه إما لعدم ما يصححه أو لبيان ما يُفْسِده نعم قد يُعارَض بمثل باطِلِه ليستبين له أن الذي جاء به باطل لمجيئه بالنقيضين فيُقال لمن ادَّعى إرادة الحقيقة أو إرادة صورة النزاع لا نسلِّم جواز إرادة أحدهما أو لا تقدر على دفع هذا المنع إلا ببيان جواز إرادتهما وحينئذٍ فذلك يدلُّ على إرادة صورة النزاع من غير ترديد وكذلك إذا ادَّعى إرادة أحدهما على تقدير غير واقع عنده

قيل له لا نُسَلِّم إرادة أحدهما ولا تَقْدر على دفع هذا المنع إلاَّ ببيان أنه لابد من إرادة أحدهما على هذا التقدير ولا يمكنه ذلك إلا ببيان جواز إرادة أحدهما وهو محلّ النزاع مثلاً وذلك الدليلُ مُغْنٍ له عن هذا الترديد فإن قيل في هذا التقدير له فائدة وهو أن يقول إنما أُسَلِّم أن الحقيقة أو صورة النزاع غير مرادة إذا كان هذا التقدير منتفيًا ويلزم من انتفائه ثبوت المدَّعى إما بتقدير أن هذه النصوص لم يرد منها صورة النزاع فلا أُسَلِّم أن أحدَهما غير مراد قيل له الإجماع النافي للحقيقة قول غيرك وهو ثابت على كلِّ تقدير لا ينافيه فإنَّ المُجْمِعِيْن الذين أجمعوا أن الحقيقة ليست مرادة لم يخصُّوا ذلك بما ذكَرْته من التقدير وليس الإجماع قولك حتى تتصرَّف فيه وأما كونك تمنع عدم إرادة كلٍّ منها فإنّ هذا المنع لم يضرّنا لأنَّا لم نستدلَّ بشيءٍ ولكن أنت المستدلّ فعليك بيان لزوم أحدهما إما في نفس الأمر أو على هذا التقدير وأنت لا تقدر على ذلك إن قَدَرْت عليه إلا بما يُغنيك عن هذا الترديد ثم إنه يمكن أن يُعارض هذا بما هو من نوعِه بأن يدَّعي إرادةَ الحقيقة أو عدم إرادة صورة النزاع على تقدير انتفاء ملزومٍ من ملزوماتِ عدمِ الحكم بأن يقول أحدُهما مراد على تقدير عدم انتفاء عدم الذم عمن لم يُزَكِّ الحلي وانتفاء عدم وجوب ضمِّه إلى المضروب أو تقدير عدم إرادة عدم الحكم من قوله وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ

[البقرة 219] وقوله صلى الله عليه وسلم لا ضَرَرَ ولا ضِرار فإن هذا التقدير لم يكن ثابتًا فقد لزم إرادة عدم الحكم من هذا النص ولزم انتفاء عدم ذم المزكي فيثبت عدم ذمّه فلا يكون الوجوب حاصلاً وإن كان ثابتًا فقد لزم أحدهما قوله وإن كان كلُّ واحدٍ من الأمرين محتمل الثبوت والانتفاء

فلا حاجة إلى هذا التكلُّف وكذلك إذا كان أحدهما منكرًا حاصله أنه إذا كان أحد الأمرين اللذين كل منهما محتملُ الثبوت والانتفاء أو كان أحدهما منكرًا بأن يدَّعي إرادة صورة النزاع أو إرادة نوعٍ مُقَيَّد تدخل فيه صورةُ النزاع أو يدَّعي إرادة صورة النزاع أو إرادة ما يلزم منه الحكم في صورة النزاع كان أحدهما منكرًا وتكون الحقيقة ممكنة الإرادة فيدَّعي إرادتَها أو إرادة صورة النزاع فإنَّ كلاً منهما من الحقيقة ومن صورة النزاع ممكن الثبوت والانتفاء فلا يحتاج أن يتكلَّف دعوى ذلك على تقدير غير واقع يلزمُ من وقوعه الحكمُ في صورة النزاع بحيث يثبت المدَّعى على ذلك التقدير وعلى عدمه

فصل في الأمر

فصلٌ ثم الأمرُ هو اللفظ الدالُّ على طلبِ الفِعْل بطريقِ الاستعلاء هذا الرسمُ للأمر قريبٌ وقد قيل هو طلبُ الفِعْل بالقول على وجه الاستعلاء وهذا الحدُّ أجَوْدُ من حَدِّه لأنه جعل الأمر اسمًا لنفسِ اللفظ الدالِّ على الطلب الاستعلائي ومعلومٌ أن المدلول غير الدالِّ فيكون الطلب خارجًا عن حقيقةِ الأمر ومن قال هو طلب الفعل بالقول جعلَ الطلبَ القوليَّ الاستعلائي هو الأمر وهذا أَجْود لأن هنا ثلاثة أشياء أحدهما الطلب القديم بقلب الطالب الذي لا يتبدَّل بتبَدُّل العبارات والثاني اللفظُ الدالُّ عليه والثالث مجموعُ الأمرين وقد قيل إن الأمر اسم لذلك الطلب من حيث هو كذلك وقال هذا هو اسم اللفظ

والصوابُ الذي عليه الفقهاء وجماهير أهل العلم أنه اسم للمجموع وكذلك كل اسم لنوعٍ من أنواع الكلام مثل النهي والخبر أو لجمعيه كالكلام والقول أو لمفرداته كالاسم فإن هذه الأسماء لا يستحقُّها مجرَّدُ الألفاظ مع قطع النظر عن معانيها ولا المعاني مع قطع النظر عن الألفاظ وإنما يستحقُّها اللفظ المتضمِّنُ للمعنى والمعنى المتضمِّن اللفظَ وهو كالجسد والروح للإنسان أو كالبطانة والظهارة للجبَّة فإنَّ الاسم لا يسحتقه في الأصل أحد هذين قوله ولئن منع فنقول هذا أو اللازم أمر بالنقل فإنه يدلُّ على كونِ أحدهما أمرًا أو يقول اللازم لا يخلو إما أن كان أمرًا أو لم يكن فإن كان أمرًا فظاهر وإن لم يكن أمرًا يكون ذلك أمرًا بالدليلِ السالم عن معارضة كون اللازم أمرًا يقول إذا ادَّعى المستدل أن هذا مأمور به أو أن هذا القول يدلُّ على الأمر فمنع ذلك قال هو الأمر اللفظ الدال على طلب الفعل بطريق الاستعلاء وهذا القول كذلك فإن منَعَ ذلك قال هذا اللفظ أو لازم هذا اللفظ أمر بالنقل عن أهل اللغة فإنَّ عباراتهم في بيان الأمر يدل على أنه هذا أو هو أمر لازم لهذا كقول من يقول هو

اقتضاء طاعة المأمور بفعل المأمور به أو هو صيغة افعل وما يقوم مقامها إذا تجرَّدَتْ عن القرائن أو يقول هو إرادة الفعل بالقول على وجهِ الاستعلاء أو يقول هو نفس الاقتضاء القائم بنفس المقتضي سواءٌ كان على وجهِ الاستعلاء أو لم يكن فإن هذه المعاني لازم لما ذكرته وقوله اللازم إلى آخره يقول قد قامَ الدليلُ على ثبوت الأمر فإن كان الأمر هو اللازم فهو أحد الشيئين وإن لم يكن هو اللازم فهو ذلك بالدليل المقتضي لوقوع الأمر السالم عن معارضةِ كون الأمر أمرًا قوله على أنَّ احدهما أمر في قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة 34] بدليل قوله قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف 34] يقول اللفظُ الدالُّ على طلب الفعل أو لازم هذا اللفظ وهو الطلب مثلاً في هذه الآية بدليل تسميته أمرًا فيجب أن يكون أمرًا في جميع المواضع دفعًا للاشتراك أو المجاز قوله وهذا يدلُّ على أنه للوجوب لأنه لو لم يكن للوجوب ما ذمَّه اللهُ تعالى على التَّرْك

اعلم أنَّ الاستدلال بالأمر على الوجوب له مقامان أحدهما تحقُّق الأمر وثبوته فإن كانت الصيغة صريحة مثل قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ [النساء 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل 90] يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف 157] ونحو ذلك فلا كلام وإن كانت الصيغة ظاهرة وهي صيغة افعل وليفعل ونحوهما وصيغةُ الخبر إذا اسْتُعِْملت بمعنى الأمر كقوله وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة 233] فالذي عليه عوامُّ الخلائق أن مقتضى هذه الصيغة ومعناها الطلبُ والاستدعاء وأنِها بمطلقها أمر ولا يُصْرَف عنه إلا بقرينة وذهبت الواقفة إلى أنها مترِّدَة بين الأمر وبين سائر المعاني التي اسْتُعْمِلت فيها من الإباحة والتهديد والتعجيز والتكوين والتسخير والتسوية والتمني والدعاء وغير ذلك من المعاني ثم منهم من جزم بالاشتراك ومنهم من توقَّف وليس هذا الخلاف مما يُلْتفتُ إليه في الأمور العلمية فإنَّا باضطرار نعلمُ أن هذه الصيغة إذا تجرَّدت عن القرائن فإن معناها الاستدعاءُ والاقتضاءُ ثم تلك المعاني هل فيها هذا المعنى وهو الاستدعاء والاقتضاء أو في بعضها بحيث تبين العلاقة بين الحقيقة والمجاز أو يثبت التواطؤ وليس فيها شيء من معنى الطلب فيه بحوث دقيقةٌ ليس هذا موضِعَها وإثبات هذا المقام سهل وعليه تُبْنى صيغة افعل

الواردة بعد الحَظْر هل هي أَمْر أو إذْن المقام الثاني إذا ثبتَ الأمرُ إما صريحًا أو ظاهرًا بلفظةٍ أو بقرينةٍ فهل مقتضاه إيجاب الفعل فالذي عليه جماهير الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم أنَّ المجرَّد منه للإيجاب وذهبَ بعضُهم وطوائف من المتكلمين إلى أنه إنما يفيد الندب ومنهم من قال إنما يفيد القَدْرَ المشترك وهو مُطْلق الاستدعاء من غير تعرُّضٍ لتجويز الترك أو المنع من الترك وهذا أقرب من الذي قبله ومنهم من يزعم أنه مشترك بينهما ومنهم من توقَّف في الجميع والخلافُ هنا أقربُ من الخلافِ في الذي قبله وقد استدلَّ عليه المصنِّف ببعضِ الأدلة المشهورة منها قوله مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف 12] وجه الدليل أن الله أمر الملائكةَ وإبليسَ معهم بالسجود لآدم ثم لما امتنعَ إبليسُ من السجود ذمَّه اللهُ وعاقبَه على ترك الامتثال ولو لم يُفِد الأمرُ الإيجابَ لما استحقَّ الذَّمَّ والعقابَ على الترك لأنَّا لا نعني بالإيجاب إلا كون التَّرْك سببًا للذَّمِّ والعقاب وكون إبليس مأمورًا مع الملائكة لا خلاف فيه بعد قوله إِذْ أَمَرْتُكَ سواء قيل هو من الملائكة حقيقة أو تبعًا ودعوى أن الأمَر كانت معه قرينة تُفيد الوجوب يُجاب عنه بأن الأمرَ المحكيَّ في القرآن مطلق وهو قوله فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)

[الحجر 29] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة 34] والأصلُ عدم القرائن الحالية ولو كانت لَذُكِرت لبيان المقتضي للعن الشيطان ثم قوله إِذْ أَمَرْتُكَ كالنص في ترتُّبِ الذَّمِّ على مخالفة مجرَّدِ الأمر ودعوى أن إبليس إنما استحقَّ ذلك لتركه تكبُّرًا لا لمجرَّد الترك لا تستقيم لأن التركَ من سبب الذمِّ والعقاب إذ لو لم يكن جزءًا لنفى الكبر الذي في نَفْسِه الذي لم يتضمَّن تركَ واجب ولا فعل محرم وذلك وإن كان عظيمًا لكن سنة الله أن لا يجزي الناس على ما في ضمائرهم حتى يبتليهم وإلاَّ فذلك الكبر كان موجودًا قبل هذا ولأن الله سبحانه بيَّن أن الذَّمَّ والعقابَ عن مخالفة الأمر بقوله إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف 50] وقوله إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) [البقرة 34] فذَمَّه على الإباء والاستكبار والمصير من الكافرين فَعُلِم أن كلاًّ من الإباء والاستكبار له مَدْخل في استحقاق الذَّم وأيضًا فينبغي أن يُقال إنَّ ترك امتثال الأمر على وجه الشهوة جائز وعلى وجه الكبر غير جائز ومعلوم أن هذا قولٌ يخالف الإجماع وإن كان التركُ كِبْرًا أعظمَ عند الله وأشدَّ عقوبة وأقبحَ عاقبة

الدليل الثاني قوله وكذلك قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور 63] حذَّر الله المخالفين عن أمره أن تصيبَهم فتنة وهي الكفر أو يصيبهم عذاب أليم فلولا أن المخالفة ينعقد معها سبب الفتنة أو العذاب لما حذَّر منها ومعلومٌ أنه لو كان الفعل بعد الأمر على حاله قبل الأمر من جهة عدم الضرر على تركه لم ينعقد بتركه سببُ الكفر أَو العذاب ألا ترى أن صلاة الضحى أو صيام أيام البيض لا يقال لمن تركه احْذَر أن ترتدَّ عن دينك أو يعذِّبْك اللهُ عذابًا أليمًا وهذه الآية تُصَدِّقُ التي قبلها فإن إبليسَ خالفَ عن أمرَ ربِّه فأصابته الفتنة بأن صارَ كافرًا وآدمُ عصى ربَّه فأُخْرِجَ عن الجنة الدليل الثالث قوله ولأن التارك عاصٍ بقوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) [طه 93] والعاصي يستحقُّ العقابَ لقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [الجن 23] وكذلك تارك الأمر وهذا أيضًا دليل جيِّد لأن من تَرَك امتثال الأمر فقد عصاه بقوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) [طه 93] وبقوله وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) [الكهف 69] وقوله لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم 6] ومن عصى أَمْرَ اللهِ ورسولِه فقد عصى اللهَ ورسولَه وإلا أمكن كلَّ أحدٍ أن

يقول إنما عصيتُ أمرَ الله ولم أعص الله فلا يكون أحد قد عصى الله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [الجن 23] واعلم أَنَّ هذه الأدلَّة عليها أسْوِلَة ليس هذا موضعَ استقصائها وقول المصنِّف وكذلك تارك الأمر عليه مناقشة لأنه قد قال تاركُ الأمر عاصٍ والعاصي يستحقُّ العقابَ وهذا يُنْتج أنَّ تارك الأمر يستحق العقابَ فإدخالُ كاف التشبيه هنا لا معنى له لأنه يقتضي أن تارك الأمر مُشَبَّه بالعاصي لا أنه قِسْم من العاصيين إذ المُشَبَّه غير المُشَبَّه به والجوابُ عن هذا على دقة فيه أن الجزء قد يُشَبَّه بالكلِّ ومن هنا سُمِّي هذا النظم قياسًا فكأنَّه قال كما استحقَّ العاصي العقاب يستحقه تارك الأمر لأنه قِسم منه فهو تشبيه لاستحقاق النوع باستحقاق الجنس قوله ولئن قال لو كان الأمر للوجوب لكان الترك معصيةً في كلِّ صورٍة من صور الأمر صيغةً وليس كذلك فنقول الكلامُ فيما إذا كان عاريًا عن القرينة النُّطْقية والعقلية لاشكَّ أن الأمر يدلُّ على أن الأمر أوجبَ الفعلَ إلا أن يدل دليل على أنه لم يوجِبْه وإنما نَدَب إليه وهذا شأْن جميع الأدلة التي تُتْرَك

لما هو أقوى فإنَّ تَرْكَ مدلول الدليل مقرونًا بمانعٍ لا يُبْطل دلالَتَه ولو بطلت دلالتُه بتركه لمانعٍ لما صحَّ الاستدلال بدليل يمكنُ تخلُّف مدلوله عنه من الأمر والنهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيَّد وخبر الآحاد والقياس والشهادة والفتوى والاستصحاب نعم هل الدليل مجموعُ الأمرين الأمر وعدم القرينة حتى يُقال الأمر المجرَّد هو الدليل أو الدليل هو نفس الأمر والقرينة معارض لذلك الدليل هذا فيه منازعة لفظية وقوله إذا كان عاريًا عن القرينة النُّطْقية والحالية لكان عامًّا وذلك لأن القرينةَ قد تكون حالة للمتكلم كما يظهرُ من صورته أو يُعلم من سيرته وقد تكون حالاً للمأمور وقد تكون ما يُعْلم من شأن المأمور به وقد تكون دليلاً قوليًّا أو فعليًّا أو قياسًا يدلُّ على عدم الوجوب فإن قال كل ما ليس بقوليٍّ فهو عقليٌّ قيل له إن أردت أنه يُدْرك كونه قرينةً صادقة بالعقل فالنطق كذلك وإن أردت أنَّ العقلَ يستقلُّ بدَرَكِه فأكثر هذه المواضع لا يستقلُّ العقلُ بدَرَكِها اللهمَّ إلا أن يقول أردتُ بالنطقيِّ الدلائل النقلية السمعية وبالعقليِّ الدلائل العقلية فيعودُ الكلامُ الذي تقدمَّ في

أوَّل هذا الكتاب

فصل في النهي

فصل ثم النهيُ وهو طلب الامتناع عن الفعل على طريق الاستعلاء مما يقتضي الحرمة اعلم أن حقَّه أن يجدَّ النهيَ بحدٍّ يُقابل حدَّ الأمر فيقول هو اللفظُ الدالُّ على طلب الامتناع بالقول على وجه الاستعلاء وأما مجرَّد الطلب أو الطلب بغير القول وإن سُمي نهيًا ففي كونه حقيقةً أو مجازًا خلافٌ مشهور والذي عليه الجماهير أنه مجاز وأما قولُه طلب الامتناع فهنا بحثٌ وهو أن المطلوبَ بالنهي ما هو بعد الاتفاق على أن المطلوبَ به الترك فالذي عليه أكثرُ الأصوليين أن المطلوبَ به أمرٌ وجوديٌّ وهو فعلُ ضدِّ المنهيِّ عنه وهو الكفُّ مثلاً أو الامتناع وذهب بعضُ المتكلِّمين إلى أن المطلوب به عدم المنهيِّ عنه وهو نفس أن لا يفعل المنهيَّ عنه لأنَّ مقصود الناهي عدم ذلك الأمر المنهيِّ عنه وقد لا يخطر بباله الاشتغالُ بضدَّه نعم ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به وهو مبنيٌّ على أنَّ النهي عن الشيءِ أمرٌ بضدِّه

ووَجْه الأول أن النهي طلب واقتضاء والمطلوب المقتضى لابدَّ أن يكون مُسْتَطاعًا للعبد ومقدورًا عليه له والعدمُ المحض والنفي الصِّرْف ليسَ مقدورًا له ولا هو من آثار قدرته واستطاعته فامتنع أن يكون مطلوبًا منه وأيضًا فإنَّ طاعةَ الناهي واجبة كطاعة الآمر والطاعةُ إنما تكونُ بقصدِ الموافقة والقصدُ إنما يتوجَّه إلى أفعال العبد أما ما ليس مِنْ فِعْله ولا من أثر فعله فلا يصح قصدُه وإرادته والعدم المحض ليس من فعله ولا من أثر فعله فامتنع أن يكون مقصودًا له وفصلُ الخطابِ في هذه المسألة أنَّ المنهيَّ إذا لم يفعل ما نُهِيَ عنه ولم يقصد الاحتساب والانتفاء ويستشعر الانتهاءَ عما نُهِيَ عنه لم يستحقّ ثوابًا ولا عقابًا ولا هو مطيعٌ ولا عاصٍ بل عدمُ الفعلِ اقتضى عدمَ الذَّمِّ والعقاب وعدمُ الانكفافِ والاتقاء اقتضى عدم الثواب ولو قيل إنَّه يُثابُ وإن ثوابَه سلامتُه عن العقوبة فإنَّها إحدى الغَنِِيْمَتَيْن ونجاتُه من العذاب فإنها أحد الفوْزَيْن لكان معنًى صحيحًا وأما إذا قَصَد تركَ الفعل بعد قيام داعِيْه وباعثه وقَصَد أن لا يفعل لو وجد داعيه وباعثه فهنا يُثاب على ذلك ويكون مطيعًا وقد صَدَر عنه أمرٌ وجوديٌ بلا ريب فوجودُ الثواب لا يكون إلا عن أمرٍ

وجودي أما عدم العقاب فيكفي فيه الأمرُ العدميُّ في باب المنهيَّات وبهذا يظهر أنَّ كلا القولين له وجهٌ صحيح والخلافُ في الحقيقة آئل إلى اللفظ لكن القول الأوَّل أجود تحقيقًا فإنَّ مقصودَ الناهي كما أنه قد يكون عدم فعل القبيح فقد يكون ابتلاء المكلَّف وامتحانه كما نهى آدم عن أكل الشجرة وهذا إنما يصحُّ على اُصولِ أهل السنة ولهذا كان القولُ الثاني من مذاهب المعتزلة البصريين قوله مما يقتضي الحُرْمة وإلاَّ لما صحَّ إطلاقُ اسم المعصية على ارتكابِ المنهيِّ عنه وقد صحَّ بالنقل والاستعمال اعلم أن الذي عليه عامةُ الطوائف أنَّ النهي يقتضي حُرْمة الفعل المنهيِّ عنه حتى إن كثيرًا ممن خالف في الأمر قد وافقَ في النهي وفيه خلافٌ شاذٌ وكل ما دلَّ على أن الأمر يقتضي الوجوب فهو دليلٌ على أنَّ النهيَ يفيد الحُرْمة لأن النهَي عن الشيء أمرٌ بضدِّه ولأن النهيَ في الحقيقة نوعٌ من أنواع الأمر لأن الأمرَ طلبُ الفعل والنهَي طلبُ الفعلِ أيضًا لأنَّ الترك والامتناع نوعٌ من الأفعال وهو أمرٌ وجوديٌّ كما تقدَّم ولهذا كان قول أكثر الفقهاء إنه إذا قال إنْ عَصَيْتِ أمري فأنتِ طالق فنهاها وعصته أنه يحنث وأيضًا فقد دلَّ على النهي دلائل تخصُّه كقوله سبحانه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 7] فإنه يفيد وجوبَ الانتهاء لأن

استحباب الانتهاء معلومٌ بنفس النهي فلابدَّ أن يفيد هذا الخطاب فائدةً زائدةً على جميع أنواع الاستحباب وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم إذا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فاجْتَنِبُوْه وإذا أَمَرْتُكُم بأَمْرٍ فأُتُوا منه ما اسْتَطَعْتُم متفق عليه يدلُّ على ذلك وأيضًا فإن الله سبحانه نهى آدم وزوجَه حوَّاء عن الأكل من الشجرة فلما خالفا لحقهما من العقاب ما قد ذكره اللهُ في كتابه وأيضًا فكل ما دلَّ على وجوب الطاعة أو تحريم المعصية فهو دليل على وجوب الانتهاء وتحريم المخالفة في النهي والأدلة على هذا مستوفاة في غير هذا الموضع لكن قد احتجَّ المصنِّف بثلاثة وجوه أحدُها قوله وإلا لما صحَّ إطلاق اسم المعصية على ارتكاب المنهي عنه وقد صحَّ بالنقلِ والاستعمال وتقريرُ ذلك أنه لو لم يكن الفعل محرَّمًا لما كان مرتكبُه عاصيًا لأن العاصي يستحقُ الذَّمَّ والعقابَ كما تقدمَّ فلو لم يكن الفعل محرَّمًا لكان مباحًا لأنه ليس بين الحلال والحرام واسطة ومن فَعَل المباحَ لا يكون مذمومًا ولا معاقَبًا لكن مرتكب المنهيِّ عنه عاصٍ بقوله سبحانه وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) [طه 121] لما ارتكب المنهيِّ عنه بدليل قولِه أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الأعراف 22] والأصل عدمُ

ما سِوَى النهي المجرَّد ولأن أهل اللغةِ يسمُّون من ارتكبَ المنهيَّ عنه عاصيًا ولأن الاستعمال شائع بذلك الوجه الثاني قوله على أن المنهيَّ عنه مشتمل على المفسدة الراجحة وإلاَّ لَقَبُحَ النهيُ عن الفعل المباح وليس كذلك حاصلُ هذا الوجه أنَّ المنهيَّ عنه لابدَّ أن يشتملَ فعلُه على مفسدةٍ وهي جَلْب مضرَّة أو دفع منفعة ولابدَّ أن تكون المفسدة التي فيه خالصة أو راجحة على مصلحةٍ إن كانت فيه وحينئذٍ فلا بُدَّ أن يشتمل على مفسدة لا تُعارِضها مصلحة بقدرها وهي مفسدة خالصة حينئذٍ ولو قال على المفسدة الخالصة لكان أجود من قوله الراجحة لأن كلّ راجحة فإنها تؤول إلى مفسدة خالصة وليست كلُّ خالصةٍ تكون راجحة لأن الرجحان إنما يكون عند تقابل المصالح والمفاسد ومن الأفعال ما لا مصلحةَ فيه فقوله لابدَّ أن يشتمل على المفسدة الراجحة فيه مناقشة لأن المشتمل على المفسدة المحضة لا يقال إنه مشتمل على مفسدة راجحة اللهم إلا أن يقال معناه أن أحسنَ أحواله اشتمالُه على مفسدةٍ راجحة أو يقال إنه ما من فعل إلا وفيه مصلحة ولو كونه موجودًا أو كونه موافقًا لغرض الفاعل من بعض الوجوه أو يُقال إن المفسدةَ الخالصةَ تُشْعِر خلوَّ الفعلِ عن المصلحة بالكلية فهذا هذا ووَجْه الحصر أنَّ الفعلَ

إما أن يكون فيه فساد أو لا يكون فإذا لم يكن فيه فساد لم يَجُز النهيُ عنه لأنه حينئذٍ إما أن يكون متساويَ الطرفين بحيث يصحّ أن يقال لا فسادَ فيه ولا صلاح أو يكون فيه صلاح من غير فساد وعلى التقديرين فلا وَجْه للمنع منه ومهما فُرِضَ النهيُ عن عبثٍ أو لعبٍ أو لهوٍ فلابدَّ من اشتماله على فساد ومن الناس من يقول لِمَا لا مصلحة فيه ولا مفسدة قبيح لأنه عَبَث وإضاعة للزمان فيجب النهي عنه وفي الحقيقة فهذا قد تضمَّن المفسدة وإذا كان فيه فساد فإما أن لا يكون فيه صلاح وهو المطلوب أو يكون فيه صلاح أيضًا فإن تساوَى هو والفساد من كلِّ وجهٍ لم يَجُز النهيُ عنه على ما ذكرنا وعلى ما ذكره بعضُ الناس يجبُ النهي عنه وإن ترجَّح أَحدُهما فالراجح منهما مشتمل على ما لا يقَابِلُه شيء سواءٌ كان الراجحُ جانبَ المصلحة أو جانب المفسدة ومتى كان الراجحُ جانبَ المصلحة لم يَجُز النهي عنه فتعيَّن القسم الآخر ويتبيَّن بذلك أن الفعل المنهي عنه لابُدَّ أن يشتمل إما على مفسدة خالصة أو راجحة لأنه بدون ذلك يكون النهي عن المباح وهو غير جائز أو النهي عما استوى طرفاه أو راجح جانب خيره وكلاهما لا يجوز النهيُ عنه واعلم أنَّ هذا الكلام فيه بحوثٌ كثيرة ليس هذا موضعَ تحقيقها

منها أنَّ الفعل الواحد بالشخص وهو الحركة المعينة من الشخص المعيَّن في الوقت المعين هل يمكن استواء طَرَفيها من كلِّ وجه فيه نظر الشرع أو يقال لابدَّ أن يترجَّح أحَدُ جانبيها على الآخر رُجْحانًا لا يبلغ حدَّ الاقتضاء والطلب فعلاً أو تَرْكًا فيه تفصيل ليس هذا موضعه ومنها أنَّ هذا الكلام مبنيٌّ على أنه يجبُ اشتمال الأوامر على المصالح والمفاسد وقد تقدَّم في هذا كلام وجيز في المناسبة والذي يجبُ أن يُعْتَقد أن الواقع في الشرائع أن الأمر والنهي لابُدَّ أن يشتملا على مصلحة للمأمور والمنهي بتقدير الطاعة ولابد أن يشتملا على مفسدةٍ لمن عصى كما قال عُمر بنُ الخطاب رضي الله عنه وغيره من السلف إنَّ الله إنما أمر العبادَ بما ينفعهم وإنما نهاهم عما يضرهم ولتلك المصلحة ثلاثة مصادر أحدها أن تصدر المصلحة من نفس اعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال والثاني من جهة الفعل من حيثُ هو مأمورٌ به أو منهيٌّ عنه والثالث من جهةِ الفعل من حيث هو

فإذا نهى الله سبحانه العبدَ عن شيءٍ ففي معصية هذا النهي إما بفعل المنهي عنه أو باعتقاد عدمِ التحريم والعزم على فعل المنهي عنه فسادٌ للمكلف أما الفعل المنهيُّ عنه من حيث هو هو فلا يجب أن يشتمل على مفسدة فإنَّ النهيَ قد يكون ابتلاءً وامتحانًا للمكلَّف كما نهى الله أصحابَ طالوت عن أن يشربوا من النهر زيادةً على غرفة وإن كانوا لو شربوا بدون النهي لم يكن فيه فساد وهذا مذهب الفقهاء وأهلِ السنة وأما القدريَّة فعندهم لابدَّ أن يكون الفعل في نفسه مشتملاً على مفسدة لكن يُعْلَم تارةً بالعقل وتارةً بالسمع فالشرائع عندهم موضِّحات للأحكام لا موجبات وأما الجبريَّة فعندهم لا يجوز أن يكون الفعل مشتملاً على صفةٍ مقتضية للحكم فالشرائعُ عندهم موجباتٌ لا موضحات ومذهبُ أهل السنة من الفقهاء وغيرهم أن كلا القسمين واقع وأن الشرائع تارةً توضِّح ما في الأفعال من الصفات وتارة تجعل الأفعال صفاتٍ لم تكن قبل ذلك ومن ذلك قوله وإلاَّ لَقَبُح النهي عنه فإنَّ هذا في ظاهره مبنيٌّ على قول من يقول القُبْح العقلي في أفعال الله وهو خلاف ما عليه

جماهيرُ أهل السنة وهو أصل القدرية الذين أسَّسوا عليه مذهبَهم لكن يمكن أن يقال نحن نعلم باضطرار أن الشرائع لم تشتمل على قبيح ونعلمُ أنَّ النهي عن فعل الصالحات غير واقع في الشرائع وغير جائز على الله شرعًا وغير جائز عليه عقلاً بمعنى أن العقل يعلم أنَّ فعل المنهيِّ عنه قبيح وأنه لو لم يكن قبيحًا إما بالنهي أو قبل النهي لكان النهي عن شيء لا يكون قبيحًا بحال غير جائز على الله وإن كان كلام المصنِّف لا يبيِّن هذه المعاني واعلم أن هذا الدليل ليس بمرضي لأن حاصله أنه لابد أن يكون في الفعل المنهيِّ عنه جلب مضرَّة أو دفع مفسدة أو لابدَّ أن يكون ذلك في اعتقاد عدم قبح المنهيِّ عنه أو العزم على فعله وهذا مُسَلَّم لكن لِمَ قلتَ إن هذه المفسدة توجبُ العزيمة وذلك أنه من المعلوم أن النهي قسمان نهي تحريم ونهي تنزيه وأنَّ كلا القسمين المنهي عنهما لابدَّ أن يكون مفسدته راجحة على مصلحته فلو كان اشتماله على المفسدة الراجحة موجبًا للتحريم لامتنع نهي التنزيه وذلك لأن المفاسد تختلف فمنها ما فيه ضرر عظيم في أمر الدين أو ضرر عظيم في أمر الدنيا ومنها ما فيه مضرَّة يسيرة خفيفة إما في الدين أو في الدنيا والتحريم يقتضي استحقاق الفاعل الذمَّ والعقابَ فإن كان ضرر الفعل الحاصل عنه ضررًا يقتضي ذم الفاعل

وعقابه بحيث يكون ضرر الفعل أكثر من الضرر الحاصل من ذمِّ الفاعل وعقابه حَسُن النهيُ عنه على سبيل التحريم دفعًا لأعظم الضررين بالتزام أصغرهما وإن كان ضرر الفعل شيئًا يسيرًا بحيث يكون الذم والعقاب على فعله أعظم من ضرر فعله لو خلا عن الذم والعقاب حَسُنَ أن يُنْهى عنه بيانًا لما فيه من الفساد ولم يحسن أن يحرَّم لأن معنى تحريمه الإخبار بأنه سبب لذمِّ فاعله ولعقوبته ومعلومٌ أن ذمَّ فاعله وعقوبته ربما كانت أضعاف ضرر فعله فكيف يوقع أعظمَ الضررين لدفع أخَفِّهما نعم يكون فعل ما نُهي عنه على وجه التنزيه سبب الانتقاص إما بانحطاط درجته أو بِقِلَّة أجره وثوابه أو ببقاء الأيام التي عليه كما قد يكون تَرْك كثيرٍ من المسنونات من هذا القبيل فَعُلِم بذلك أنَّ النهي يدلُّ على اشتمال الفعل المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة لكنَّ مجرَّدَ اشتماله على المفسدة لا يكون موجبًا لحرمته إلا أن تكون مفسدةُ فعلِه أعظم من المفسدة الحاصلة بفاعله من الذمِّ والعقاب بتقدير التحريم وبهذا يحصل الجواب عن قولهم الشارع حكيم فلا يجوز أن يبيح ما فيه مفسدة لأن المفاسد يجب السعي في إعدامها وإذا لم يتَّجه فقد حُرِمنا تعلُّم أن اشتماله على المفسدة موجبٌ للتحريم فيقال ما فيه مفسدة لابُدَّ أن ينهى الشرع عنه ويعرف بما فيه وحينئذٍ فلا يكون مباحًا متساوي الطرفين لأنه لابد أن يحرِّمه على

العباد حتى يجعل فاعله مذمومًا معاقبًا أو يجعل فعله سببًا لعقوبة فاعله فكيف يجب ذلك وهو لو فَعَلَه لم يكن فيه ضرر أعظم من ضرر العقوبة فكيف يُشرع حكمٌ فيه من المضَرَّة ما ليس في عدمِه إذ لو يحرِّمْه لكان ضرر فعله دون عقوبته فإن قيل كثير مما نهى الله عنه وحرَّمَه لو لم يحرِّمْه لكان إما أن يخلو عن المضرة أو فيه مضرة دون مضرة العقوبة على الفعل كما قد قرَّرتموه قبل هذا ومع هذا فقد حرَّمَه قلنا هذا غلط بل يجب أن يُعْتَقد أن جميع تحريم ما حرَّمَه الله لو لم يكن لكان الفساد الحاصل من عدمه أكثر من الفساد الحاصل بعقوبة العاصين بتقدير الوجود وأن تقدير وجوده أقل مفسدة وأكثر مصلحة من تقدير عدمه ولو لم يكن إلا أن في التحريم من تحصيل اعتقاد التحريم والعزم على الطاعة والانقياد للناهي من المصلحة ما لو عُدمت لكان ضرر عدمها أكثر من ضرر عقوبة من يعصي واعْتَبِر هذا بقصَّة النَّهر فإنه لولا النهي لعَبَروا كلُّهم وأكثرهم المنافقون فزادوهم خبالاً وأوضعوا خلالهم والمؤمن منهم لم يستحكم إيمانه فلعلّهم لو قاتلوا جالوت على تلك الحال لانهزموا فلما ابتلوا بالنهي عن الشُّرب أطاع من أطاع فازداد يقينًا وإيمانًا وحصل لهم النصر على عدوهم بسبب ذلك الإيمان

واليقين وعقوبة العاصين مرجوحة مغمورة في جانب ما حصل من إعزاز دين الله وإعلاء كلمة الله الذي هو مقصود الشرائع وأقرب ما يُقال في جواب هذا السؤال أن الفعلَ المشتمل على مفسدة والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب الوجه الثالث قوله ولأنه لو لم يكن محرَّمًا لما كان العاقل محترزًا عن ارتكاب المنهيِّ عنه حال كون النفس داعيةً إليه وقد كان محترزًا فيكون حرامًا كأن مضمون هذا الوجه أنه يقول لو لم يكن الفعل محرَّمًا لكان مباحًا ولو كان مباحًا لما احترز العاقلُ عن إيقاعه عند وجود الداعي لأن الداعي إذا دعا إلى أمر مباح فلا معنى للاحتراز عنه شرعًا لكنَّ العاقل يدعوه عقلُه إلى الاحتراز من إيقاع الفعل المنهيِّ عنه لما يتخوَّفه من قُبْح عاقبته وسوء مغبّتِه فَعُلِم أنه ليس بمباح فهو حرام وهذا الوجه مستدرَك من وجوه أحدهما أن احتراز العاقل قد يكون منشؤه تجويز التحريم أو ظنّ التحريم أو توهُّم التحريم فإنَّ هذا إنما يمنع العاقل عن ارتكاب المنهيِّ وإن لم يكن في نفسه محرَّمًا الثاني أن أفعال

فصل في التمسك بالنافي للضرر

فصل في التمسُّك بالنافي للضَّرَر مثل قوله عليه السلام لا ضرر ولا إضْرار في الإسلام فيقال الإيجاب إضرار لأنه يفَوِّت سلامة الملك عن الزوال لو أُدِّي وسلامة النفس عن العقاب لو ترك والمجموع مطلوب والإضرار يدور مع المفوت للمطلوب وجودًا وعدمًا فيكون حقيقة له مثلاً فإن أدى زال ملكه وإن لم يؤدِّ تعرَّض للعقاب وكل واحد من زوال المال وعقوبة النفس ضرر وهذا الضرر إنما حصل بالإيجاب فيكون الإيجاب مقتضيًا لهذا الضرر

فيكون ضررًا وهو معنى قوله لأن الإيجاب تَفْويت سلامة الملك أو سلامة النفس لأنه إن أُدِّي فقد فاتت سلامة الملك عن الزوال وإن لم يُؤَدَّ فقد فاتت سلامة النفس عن العقاب لقيام سبب وجوده وهو ترك أداء الوجوب وكلُّ واحدة من هاتين السلامتين مطلوبة لأن العاقل يطلب سلامة ملكه من الزوال وسلامةَ نفسِه من العقاب والإيجابُ يفوِّت هذا المطلوب وتفويت المطلوب إضرار لأن الإضرار يدور مع المفوّت للمطلوب وجودًا وعدمًا فحيثما وُجِد مفوِّت للمطلوب كان ذلك إضرارًا وحيث انتفى المفوِّت للمطلوب لم يكن إضرارًا فيكون قد دار كون الشيء إضرارًا مع كونه مفوِّتًا للمطلوب وجودًا وعدمًا فيكون التفويت للمطلوب حقيقة الإضرار والإضرار منتفٍ بقوله لا ضرَرَ ولا إضْرارَ في الإسلام والمعنى لا ضرر ولا إضرار في أحكام الإسلام بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه ولو ثَبَت الضررُ في هذا الحكم لثبت الضرر في جملة الأحكام فلم يصح أن يقال لا ضرر في أحكام الإسلام والضررُ ثابت في واحدٍ منها

واعلم أصلحك الله أن هذه الطريقة على هذا الوجه مسكتة من وجوه أحدها أن هذا الحديث الذي ذكره بهذا اللفظ لا يُعْرف في شيءٍ من دواوين الحديث وإنما المعروف ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار وللرجل أن يضع خَشَبَةً في حائِط جارِه وإذا اختلفتم في الطريق فاجْعَلُوْه سَبْعَة أذْرُعٍ ورواه ابنُ ماجه في سننه مُقَطَّعًا وإذا لم يكن معروفًا لم يصح الاحتجاج به لأن أقل ما على المستدلِّ أن يبيِّن ثبوتَ الحديثِ إما بكونه مشهورًا بالصحة أو بكونه مرويًّا في الدواوين الصحيحة أو في ديوان غير مشهور بالسُّقْم أو أن يرويه بإسناده أو بكونه في شيءٍ من كتب الحديث في الجملة وإن

كان هذا وحده غير كاف فإن الجدليين مصطلحون على أنه لو عزاه إلى بعض كتب الفقه لم يُقْبَل إلا أن يكون صاحب الكتاب عالمًا بصحيح الحديث وضعيفه ففي قبوله حينئذٍ خلافٌ بينهم ولو عزاه إلى كتاب حديث لبعض الفقهاء كان بمنزلة عزوه إلى كتاب حديث وأولى فأما حديث ليس له زِمام ولا خِطام فلا يجوز الاستدلال به في الأحكام باتفاق أهل العلم من الجدليين وغيرهم فإن قال هذا قد رواه بعضُ أصحاب الخلاف أو بعض الفقهاء وذلك كافٍ قيل له هولاء المتأخِّرون من الخلافيين ونحوهم من المتفقِّهَة أقلُّ الناسِ علمًا بالحديث وأبعدهم عن ضبطه ومعرفته ولعلّ أحدهم أو أكثرهم لا يعرفون مظانَّ طلب الأحاديث ولا حملها ونقلها ولا يميزون بين أجناسها وأنواعها وأدنى دليلٍ على ذلك ما في كتبهم من الأحاديث التي أجمع أهلُ الحديث على أنه ليس لها أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم تارةً يجعلون الفتوى حديثًا وتارة تكون الكلمة محفوظة عن بعض الفقهاء أو بعض السلف فيجعلونها مرفوعةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يخلطون بالحديث زيادات ليست منه وذلك لأنهم لم يتلقوا الأحاديث ممن ضبطَها وأحكمها وإنما غايةُ المبرِّز منهم أن يجده في بعض كتب الفقه ولا يَعْرف من أين نقله ذلك المصنِّف ومجرَّد ذلك

لا يغلِّب على الظن صحةَ الحديث بعدما عُرِفَ من تساهل هذا الضرب في الأحاديث وقلة اعتنائهم بها لا سيما إذا لم يوجد له أصل في الدواوين المعنيَّة بهذا الشأن وعند الرجال الذين هم فرسان هذا العلم فيكون مَثَلُ دينار عُرِضَ على النجَّارين فقالوا هو صحيح فلما رأتْه الجهابذة قالوا هو مغشوش والقولُ في ذلك قولُهم لأن أهل كلِّ صنعة أعلم بصنعتهم وكذلك لو رأى بعض الحدَّادين خَرَزةً فقالوا هي جوهرة وقال الجوهريُّ هي زجاجة فالقولُ قولُ الجوهريُّ ويكفي دليلاً على ذلك أن هذا المصنِّف ذكر في كتابه هذا عدة أحاديث عامتها ليست محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنَّ في الباب الذي يذكره عدة أحاديث صحاح مشهورة وإذا كان المحفوظ إنما هو قوله لا ضرر ولا إضرار بطلَ الاستدلال الذي ذكره لأنه إنما يتمّ بأن يُقال لا ضرر ولا إضرار في أحكام الإسلام ومعلومٌ أن مجرَّد قوله لا ضرر ولا إضرار لا يدلُّ على هذا المحذوف وحذفُ مالا يدلُّ عليه سياق الكلام غير جائز بقي أن يُقال اللفظ عام في نفي كلِّ ضرر والإيجاب ضرر فيكون منتفيًا فنقول سنأتي عليه الوجه الثاني أنه إن كان قوله لا ضرر ولا إضرار في الإسلام محفوظًا فإن معناه يعود إلى معنى قوله لا ضرر ولا إضرار وذلك

ينبني على مقدمة وهو أن بعضَ الناس يقول الصوابُ في هذا الحديث أن يقال لا ضرر ولا إضرار فالضرر اسم مصدر ضرَّه يضرُّه ضررًا والضرار مصدر ضارَّه يُضارُّه ضرارًا ومضارَّة فنفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم الضرر المنفرد من أحد الجانبين والضرار المشترك من الجانبين وتقديره لا يضرَّ أحدُ أحدًا ولا يُضَارَّ أحدٌ لكن في كتب الحديث لا ضرر ولا إضرار وهذا كما أنه المعروف في الرواية فهو أجود في الدراية وذلك أنَّ ما يحصل لأحد الجارين من المضرة تارًة يكون بقصد الجارِ الآخر وفعله وتارة لا يكون بفعله فما كان بفعله فهو إضرار بالآخر وما لم يكن بفعله فهو ضرر به ففي نفي النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتضرَّر الإنسانُ أو أن يضر به غيره وهذا لأن الضرر اسم المصدر واسم المصدر لا يختص باللازم ولا بالمعتدِّي بل يدلُّ على الحدث من حيث هو كالكلام فإنه لا يختصُّ بالتكلُّم ولا بالتكليم وكذلك الحركة لا تختصُّ بالتحريك ولا بالتحرُّك فالضرر اسم لما يقع بالمتضرِّر لا يختصُّ بالضرر الذي هو متعدٍّ ولا بالتضرُّر الذي هو لازم ويجوز أن يكون اسمًا للشيء المضارّ ويجوز أن يكون مصدرًا ل ضرِرْتُ أضَرُّ ضَرَرًا مثل عَرِج يَعْرجُ عَرَجًا وعَمِي يَعْمَى عمى وصمَّ يَصَمّ صَمَمًا فيكون على هذا مصدرًا للازم ومن ذلك قوله لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء 95] فإنه ليس إشارة إلى ضُرِّ الغير لهم ويدلُّ على أن هذا

الاسم لا يدلُّ على ضررٍ متعدي قولُ الإنسان فلانٌ به ضررٌ ومكانٌ ذو ضررٍ أي ضيِّق ويقال لا ضرر عليك ولا ضرورة ولا مضرَّة وأما الإضرار فهو مصدر أضْرَرْت به أُضِرُّ به إضرارًا إذا أَوْقَعَ به الضرر وأحلَّه به كأنه أَلْصَقَه به ولهذا جِيء بالباء وليست للتعدية فإن الثلاثيَّ يتعدَّى بنفسه فكيف يتعدَّى الرباعيُّ بالباء لكن جِيء بها لزيادة المعنى وهذا المعنى أعمُّ من المعنى على ذلك القول ويؤيده أنه لو أُريد ذلك المعنى لكان الأَقْيس لا ضرّ ولا ضرار وأيضًا فإنَّ الضرار في الحقيقة ضُرّ فنَفْي الضُّرِّ يستلزمُ نفي المضارَّة كما أن نفي القَتْل والضَّرْب يستلزمُ نَفْي المقاتلة والمضاربة فإن قيل فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ضارَّ أضرَّ اللَّهُ به ومن شاقّ شقَّ اللهُ عليه وقال تعالى لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة 233] وقال وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة 282]

وقال وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق 6] وقال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا الآية [التوبة 107] قيل إنما جِيء في هذه المواضع بصيغةِ المفاعلة لأنه فِعْل من أحد الجانبين يقتضي مثلَه من الجانب الآخر فهو يفضي إلى المفاعلة وإن كان المنهي أحد الجانبين وذلك أن الكاتب أو الشهيد إذا فُعِل به ما يضرُّه فإنه يكافيء على ذلك بموجب الطبيعة فصارت مُضارَّة وهكذا كلُّ ما كان من شأنه إمكان المُقابلة والمُجازاة وهذا يبين أنَّ المضارَّةَ أخصُّ من الضرر ونَفْي الأعمِّ يستلزم نفيَ الأخصِّ إذا تبيَّن هذا فقوله لا ضرر ولا ضرار صيغته بصيغة الخبر ومعناه الأمر لأنه لو كان مقصودُه الإخبار بعدم وقوع الضرر والإضرار للزم أن لا يقع شيء من الضرر والإضرار لأنَّ خبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صِدْق لا يجوز أن يقع شيءٌ منه بخلاف مُخْبره فلما رأينا في الوجود شيئًا كثيرًا من الضرر والإضرار علمنا أن مقصودَه النهي عن الضرر والإضرار فيكون المعنى لا يتضرَّرَنَّ أحدٌ بأحد فحيثما تضرَّر أحدٌ بأحد فعلى من كان ذلك التضرُّرُ من جهته أن يزيله ويرفعه فحيثُما أضرَّ أحدٌ بأحد فعليه أن ينتهي عن ذلك ولا يحلُّ له أن يفعله ابتداءً وكذلك إن صحَّ قولُه في الإسلام لكان معناه النهي أيضًا

كقوله لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغَار في الإسلام أنَّما معناه لا تجلبوا ولا تجنبوا ولا تشاغَروا في الإسلام وكذلك قوله لا حِلْف في الإسلام وما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فلم يزِدْه الإسلام إلا شِدَّة ومثل هذا كثير وإذا كان كذلك امتنع أن يُسْتَدَلَّ بذلك على نفي إيجاب الله أو تحريمه لأن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُنهى ولا يُؤمَر ويجوز أن يكون معناه الخير أيضًا وإن كان معناه آئلاً إلى الأمر بأن يَقْصد الإخبار عن الحكم الشرعي والأمر الديني تقديره ليس في دين الله وحكمه أن يتضرَّر أحد ولا أن يضرَّ أحدٌ أحدًا وعُلِمَ هذا بقرينة حاله صلى الله عليه وسلم فإنَّه إنما بُعِثَ لبيانِ الأحكام الشرعية والأمور الدينية فأما ما يَعْلم كلُّ أحدٍ بحواسِّه فلا حاجة إلى بيانه وأيضًا فإنه قد عُلِمَ أنه لم يُرد نفي وقوع الضرر فعُلِمَ أنَّ المراد نفي كونه دينًا وشرعًا فهو ينفي جوازَه وإباحتَه والمعنى لا يُباح ضررٌ ولا ضِرار

وقوله في الإسلام إن صحَّ يصدِّق هذا المعنى لأن الإسلام هو دين الله فكأنه ليس في الإسلام الذي هو دينُ الله ضررٌ ولا إضرار أي ليس فيه أن يتضرَّرَ أحدٌ ولا أن يضرَّ به غيره وما ليس من الإسلام يجبُ إعدامه لأنه لا يجوز الخروج عن دين الإسلام وعلى هذا التقدير فمعناه معنى النهي ولا يجوز أن يراد به نفي الأحكام الشرعية التي يحكم بها الشارع ويشرعها لما سيأتي إن شاء الله الوجه الثالث أنه لا يجوز أن يُراد به نفي الأحكام الشرعية لأن الأحكام الشرعية أمْرُ الشارع وكلامه أو موجب ذلك أو خَلْق ذلك بالأفعال فكل حالة إنما مصدرها ومبدؤها من الشارع فإن أثبتها ثبتت وإن نفاها انتفت ليس للمكلَّف فيها فعل وإنما يمكنه الاستدلال عليها والفحص عن أسباب علمها فهو يٌبْدِيها لا يَبْتَدِئها ويُظْهِرها لا يُصْدرها وبين المُظْهِر والمُصْدِر فرق أنور وهذا ظاهر على أصل من يقول إن في الحادثة حكمًا معينًا على المجتهد طلبه كما هو قول جماهير الفقهاء وعامة السلف وكذلك من قال ليس فيها حكم مُعَيَّن فإن عنده على المجتهد اتِّباع ما يغلب على ظنِّه فهو مقيَّد بالأدلة والأمارات غير مطلق في الآراء والاختيارات

وكذلك من قال عليه طلب الأشبه بالحق وإذا كان كذلك فإن كان معنى الكلام نهيًا لم يجز أن ينهى عما ليس من أفعالنا وإن كان نفيًا فليس من إخبارنا بأن الله إذا حَكَم بحكمٍ لم يكن في ذلك الحكم ضررٌ ولا إضرار أيّ فائدة لأن هذا أمر معلومٌ علمًا ظاهرًا أن الله سبحانه لم يضر عباده بدينه وشرعه الوجه الرابع لا يجوز أن يُراد به نفي الإيجاب أو التحريم لأن الإيجاب أو التحريم ليس بضرر ولا إضرار إذ لو كان ضررًا أو إضرارًا لكان الله سبحانه إذا أوجب شيئًا أو حرَّمه فقد حكم في دينه بالضرر والإضرار ولكانت الرسل إنما بُعِثت بالضرر والإضرار لأن أكثر الشرائع إنما هي إيجاب أو تحريم ولكان دين الله وشرعه عامته ضررًا للخلق وإضرارًا بهم ولكان تَرْك إنزال القرآن وتَرْك بعث الرسل دفعًا للضرر والإضرار فيكون ذلك أقرب إلى رحمة الخلق ونفعهم ويكون تَرْك الناس كالبهائم يفعلون ما يشتهون أنفع لهم وأصلح وأقرب إلى رحمتهم وتكميلهم واستقامة أمورهم من تقييدهم بقيود الأمر والنهي ولكان الرسول لم يُبْعَث رحمةً للعالمين لأنَّه بُعِث بالضرر والإضرار ولكان الشارع قد أراد العُسْر ولم يُردِ اليُسْر لأنه إنما أتى بالضرر والإضرار ولكان المنزل من القرآن ليس شفاءً ورحمةً للمؤمنين إلى غير ذلك من اللزوم التي يقشعر منها الجلد

بل هي كفر واضح قد أجمعَ المسلمون على بطلانها بل قد دلَّت القواطِعُ السمعيةُ والعقلية على انتفائها فَعُلِمَ أن الإيجاب والتحريم ليس بضرر ولا إضرار فبطل دخوله في العموم الوجه الخامس أن الإيجاب والتحريم ليس بداخل في الحديث لأنه لو كان داخلاً لاكتفي بقوله لا ضرر أو بقوله لا إضرار لأن أحد اللفظين يدلُّ على انتفاء ذلك كما يدلُّ عليه الآخر فإعادة اللفظ في مثل ذلك تكرير محض ولا يُقال ذلك توكيد لأن التوكيد نوعان أحدهما إعادة اللفظ بعينه كقوله والله لأغزونَّ قريشًا والله لأغزونَّ قريشًا واللهِ لأغزوَنَّ قريشًا وقوله عدَلَت شهادةُ الزُّوْرِ الإشراكَ بالله مرتين أو ثلاثًا وقوله في تعديد الكبائر ألا وَقَوْل

الزُّوْر ألا وشهادةُ الزُّوْر فمازال يكرِّرُها حتى قلنا ليته سكت وهذا كثير في كلامه صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا وإذا سلَّم على قومٍ سلم عليهم ثلاثًا فلو قصد هذا لقيل لا ضرر لا ضرر والثاني توكيد المعنى الأول بما يزيد عنه شبهة بأن يكون المؤكِّد أنصَّ على المقصود من المُؤكَّدِ كقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) [ص 73] وقولهم جاءَ زيدٌ نفسُه ونحو ذلك وهذا أيضًا منتفٍ هنا لأنه ليس في أحد اللفظين من الدلالة على نفي الإيجاب أو التحريم ما ليس في الآخر الوجه السادس أن المقصود بهذا الحديث نفي الضرر والإضرار في أفعال العباد لا في أحكام الله لأنه إذا قصد الأول كان الحديث باقيًا على عمومه سواء قصد به النهي أو النفي فإنه لا يحلُّ لأحدٍ أن

يفعل ضررًا ولا إضرارًا وحيث جاز ذلك مثل قَتْل القاتل وجَلْد الشارب فليس بضرر لأنه منفعة عامة للناس ومنفعة خاصة للمحدود بتطهيره من الذنب وتحقيق العقوبة والمضرة المغمورة في جانب المنفعة ليست مضرة مطلقة ولهذا لا يُعَدّ نزول الغيث وقت الحاجة ضررًا وإن كان فيه هَدْم بعضِ البيوت واحتباس بعض السفر وانقطاع بعضُ الناسِ عن مصالحهم وإذا جُعِل متناولاً للإيجاب أو التحريم لزم تخصيصُه بكلِّ ما أوجبَه الله أو حرَّمه ومعلوم أن هذه صور كثيرة لا تُحْصَى أشخاصُها وإذا دار الأمرُ بين ما يلزم منه التخصيص وبين ما لا يلزم منه التخصيص كان حملُه على ما يقتضي بقاء عمومه وحفظَه عن التخصيص أولى لما في التخصيص من مخالفة الأصل وهذا ظاهر ولو سُلَّم أنا إذا حملناه على أفعال العباد كان فيه تخصيص لكان يقال إذا حُمِل على الأحكام كَثُر فيه التخصيص وما كان على خلاف الأصل فكثيره على خلاف الأصل الوجه السابع أنه لا يصح اندراج الإيجاب أو التحريم فيه إلا بإضمار الأحكام لأن الإسلام فِعْل العبد المسلم يقال أسلم لله يُسلم إسلامًا وأسلم وجْهَهَ لله يسلمه إسلامًا فإذا قيل ليس في هذا الدين الذي هو الإسلام ضرر ولا إضرار كان حقيقة نفي ذلك عن الدين الذي يفعله العباد فإذا قصد به ليس في حكم الله الذي يحكم به على أهل هذا الدين افتقر إلى إضمار وحَمْل الحديثِ على معنًى لا يفتقر إلى إضمار أولى من حمله

على معنى يفتقر إلى إضمار لأن الإضمار خلاف الأصل الوجه الثامن أن الإضمار إنما يجوز إذا دلَّ على سياق الكلام إما بأن لا يصح الكلامُ إلا به كقوله وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 82] وقد علم أنَّ الجدران والأرض والسقوف لا تُسأَل ونحو ذلك وهنا الكلام يصح بدون هذا الإضمار وليس في اللفظ قرينة تدلُّ عليه فتمتنع إرادتُه وهذا قاطِعٌ في نفي الإضمار لأنّ شَرْط جوازه معدوم ولهذا لم يقصد هذا المعنى في مثل قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 78] وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة 185] وبيّن ذلك بأن أضاف نفيَ الحرجِ والعُسْر إلى الله ليعلم أنه هو الذي نفاه عن حكمه في دينه وهنا فاعل الضرر والإضرار غير مذكور ومحله هو أفعال العباد فوجب أن يجعل فاعله هو فاعل محله ويكون المعنى أيها الدائن الإسلام لا تُدْخِل فيه ضررًا ولا إضرارًا الوجه التاسع أن سياق الحديث وما قُرِن به وضُمَّ إليه يدلُّ على أنه قصد به نفي الضرر أو الإضرار في أفعال العباد بل في بعض أفعالهم وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار وللجار أن يضع خشبةً في حائط جاره وإذا اختلَفْتُم في الطريقِ فاجعلوه سبعةَ أَذْرُع ولابدَّ أن يكون بين الجُمَل المعطوف بعضها على بعض نوعُ مناسبةٍ والمناسبة هنا أن التجاور في الأملاك مَظِنَّة أحد الجارين بالآخر

أو إضراره به كما يشهد به الواقع فأراد صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن ذلك وينفيه عن دين الإسلام ولذلك قال وللجار أنْ يضَعَ خشبةً في حائطِ جارِهِ لأنه إذا احتاجَ إلى ذلك ولم يمكنه تضرَّر بذلك وكذلك أَمَر بالطريق إذا اقتسموا الأرض أو أرادوا إحياءها أن يجعلوه سبعةَ أَذْرُع فإنَّ مازاد على ذلك ضرَّر بالمُلاَّك وما نقصَ عن ذلك ضرَّر بأبناء السبيل ولهذا عامَّةُ الفقهاء والمحدِّثين إنما يذكرون هذا الحديث في أبواب الصلح وأحكام الجِوَار وكذلك احتجَّ به طوائفُ من الفقهاء مثل الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد الجارين أن يفعل في ملكه ما يضرُّ بجاره مثل إحداث رَحًى أو كنيف ونحو ذلك وأنه ليس للجار أن يمنع جارَه مما هو محتاج إليه ولا مضرَّة عليه فيه كوضْعِ الخشب على جداره القويِّ وإجراء الخليج في أرضه كما قضى به عمر بن الخطاب وغير ذلك كما هو مُبَيَّن في مواضعه من كتب الفقه وإن كان في هذه المسائل خلاف معروف وفي بعضها أيضًا خلافٌ في مذاهب أحمد ومن تأمل الحديث علم قطعًا أن هذا هو مقصودُ الحديث أو أكثر

مقصوده الوجه العاشر سلَّمنا أن اللفظَ عامٌّ لكن قصره على سببه جائز إذا دلّ دليل على ذلك وهنا أدلة كثيرة تدل على أن عمومه فيه محاذير وقصرُه على سببه لا محذورَ فيه فيكون أولى الوجه الحادي عشر لا نُسَلِّم أن شيئًا من الوجوب أو التحريم ضرر أو إضرار قوله الإضرار يفوت المطلوب قلنا لا نُسَلِّم قوله الإضرار دار معه وجودًا وعدمًا قلنا لا نُسَلِّم لأن دورانه معه أن يوجد حيثُ وُجِد ويُعْدَم حيث عُدِم وقد رأينا ما لا يُعَدّ ولا يُحصى من فوات المطلوب ولا يُعد ذلك ضررًا ولا تفويته إضرارًا فإن فضلات المطالب مثل العمر الطويل جدًّا بحيث يعيش عشرة آلاف سنة والمال الواسع بحيث يملك كل ما على الأرض والرِّياسة العامة بحيث يستولي على أقطار المعمورة والعلم المحيط بحيث لا يخفي عليه إلا ما شاء الله والقوَّة التامَّة بحيث يقتدر على ما يريد والسمع النافذ والبصر التام إلى غير ذلك مما هو مطلوب للنفوس في الجملة بمعنى أنها تريدُه وتشتهيه وتسعى في تحصيله لو أمكن وإنما أقعدها عنه اليأس من حصوله فإنه فَوْتُ مطلوبٍ ولا ضررَ على من فاته ذلك

بل من المعلوم أن الملك قد فات النوع إلا واحدًا وهو مطلوب النوع ومع هذا فلا يعدون فواته ضررًا ولا نُسَلِّم أنه دار معه عدمًا فإن الرجل قد يتضرَّرُ من غير فَوْت مطلوب وذلك لأن الطلب مسبوق بتصور المطلوب والإنسانُ قد يكره أشياءَ وهي تضره وإن كانت نفسُه لا تستشعر طلبَ أضدادها فإن الإنسانَ يتضرَّر بالمرض وهو لا يستشعر الصحة في يطلبها لكن لو حصل له المرض لتألم به ولهذا أكثر الناس غافلون عن طلب عدم ما يضرّهم وجودُه الوجه الثاني عشر لو سلمنا أن الإضرار دار مع ما ذكرتم فقد دار أيضًا مع فوات اللذة أو مع وجود المنافي للكمال ودار أيضًا مع حصول المؤلم الموجع ودار أيضًا مع تألُّم القلب وتفسيرُ الضررِ بهذا أصح لأنه مطَّرِدٌ منعكس فإن كلّ من فاتته لذة أو حصل له ألم أو فاته ما ينافي كمالَه يقال قد تضرَّر وإن لم يحصل شيءٌ من ذلك لا يقال تضرر ولو لم يكن أصحَّ لكن هو مدارٌ آخر فلا يتعيَّن ما ذكرتم وإذا كان كذلك فلا تَفُوت اللذة أو يحصل الألم أو يفوت الكمال بإخراج درهم من أربعين درهمًا كما هو الواقع وإن فُرِضَ رجلٌ شحيح حريص خروجُ الدرهمِ يُمِضُّه كانت طبيعتُه فاسدة فلا يُلْتَفت إلى تألُّمه ولا يستحق أن تَنْقلب الحقيقةُ به مدربة كما أن وجود الممرور العسلَ مرًّا أو رؤية الأحوال الواحدَ اثنين ونحو ذلك لا يغيِّرُ حقائقَ الموجودات لأن القوة الدَّرَّاكة قد فسدت

ويبيِّن صحةَ هذا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قُتِل يوم أحد فأثْنت عليه أُمُّه خيرًّا فقال وما يُدْرٍيْكِ لعَلَّه كان يتكلَّمُ فيما لا يَعْنِيْه ويَمْنَعُ مالا يَضُرُّه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْع ما لا يضره عيبًا فلو كان منع ما يضره عيبًا أيضًا لم يخصه بالذكر ومعلومٌ أن مَنْع الزكاة عيب فيكون مانعها مانعًا ما لا يضره فلا يكون إيجابها إضرارًا الوجه الثالث عشر سلمنا أن الإضرار تَفْوِيْت المطلوب لكن متى إذا حَصَلَ له بفوات مطلوبٍ أشرفَ منه أم مطلقًا الثاني ممنوع والأول مُسَلَّم وهذا ظاهر فإن العقلاء عن آخرهم لا يعدُّون من أخرج درهمًا وأخذ أَلف دينار متضرِّرًا ولا يعدُّون من فُوِّت عليه ثوب من ثيابه وأُعطي أحمالاً من البزِّ أنه قد أضرَّ به فلا بدَّ أن يقال فوات مطلوب لا ينجبر بخير منه إذ لا يَنجبر بمثله أو بخير منه ومعلوم أن سلامة الملك من الزوال وإن كانت مطلوبةً لكن يحصل

بفواتها إذا أُدِّيت الزكاة من تحصين المال وتزكية النفس وغفران الذنب ورحمة الله في الدنيا وعظيم ثوابه في الآخرة إلى غير ذلك من المطالب العظيمة والمقاصد الجسيمة ما ينغمر في جانبه فوات قليل المال وحينئذٍ فلا يكون الإيجاب إضرارًا بل نفعًا أيَّ نفع وهذا معلوم بالضرورة الوجه الرابع عشر أن تَرْك الإيجاب يفوِّت هذه المطالب أيضًا لأنه بتقدير عدم الإيجاب لا يحصل له شيء من هذه المطالب وحينئذٍ فيكون عدم الإيجاب إضرارًا فيكون منتفيًا وهذه معارضة والترجيح معنا لأن الإيجاب تفويت بعض المطالب ونفي الإيجاب تفويت مطالب أشرف منها وإذا دار الأمرُ بين تفويت مطلوبَيْن كان تفويت أدناهما لتحصيل أعلاهما هو الواجب وهذا ظاهر الوجه الخامس عشر لا نُسَلِّم أن سلامة الملك عن الزوال مطلوب مطلقًا فإن قال إنّا نرى الناسَ يحرصون على جمع المال ويصونونه عن أسباب التَّلَف والزوال قلنا إنما يصونونه إذا تلف ضائعًا إما بِحَرْق أو غرق ونحو ذلك أما سلامته عن الزوال بالإعطاء للجنس فلا نُسَلِّم أنه مطلوب لهم فإن قيل هو مطلوبٌ لهم أو لأكثرهم فإنَّ أحدَهم إذا خُيِّر بين أن يعطي أو لا يُعطي كان حفظُ ماله أحبَّ إليه قلنا هذا مُعارَض بمن إذا خُيِّر بين الإعطاء وعدمه كان الإعطاءُ مطلوبَه ومقصودَه كما قيل

تراه إذا ما جئتَه متهلِّلاً كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ نائلُه ولو لم يكن في كفِّه غير روحِه لجاد بها فَلْيتق الله َ سائلُه وهذه من طباع الأسخياء والأجواد غير منكورة ولا مدفوعة وإنهم يتلذَّذون بالعطاء ويرون سلامة المال عنه مصيبة وبلاء فإن قيل هولاء مغمورون بالنسبة إلى الجمهور والاعتبار عند التعارض بالأكثر قلنا الناس ثلاثة أصناف أحدهم إذا رأى المحاويج من الفقراء والغارمين وغيرهم كان حِفْظُ قليل ماله أحبَّ إليه من سدِّ خَلاَّتهم وهولاء الأشحِّاء وهم قليل والثاني من يُؤْثِرُ سدَّ خَلَّةِ المحتاج على قليل ماله طبعًا وخُلُقًا بحيث يرى أنه إذا ملك عشرة آلاف درهم فَسَدَّ خَلة ناسٍ من المحاويج بربع عُشْرها فهو أحب إلى طبعه من سلامةِ هذا المال ومعلومٌ أن هذا هو الغالب على الطباع الصنف الثالث من يكون طبعُه يُحب سدَّ الخَلاَّت وإعطاء السُّؤَّال ولو بضرر نفسِه وهذا طبع الأجواد وهذا قليل كالأول

فإذا كان غالبُ الناسِ لا تُؤْثِر طباعُهم سلامة قليل المال عن سدِّ خلات المحاويج لم يصح أن يكون عدمُ إيجاب الزكاة مطلوبًا ولو فُرِضَ أن غالبَ الطباع تأبى ذلك وبعضُ الطِّباعِ تحبُّ إعطاء المحاويج كانت رِعايةُ هذا الجانب أولى لأن القليلَ إذا كان أفضل وأشرف كان ترجيحُه على كثيرٍ منقوصٍ هو الواجب ولهذا عشرةُ شُجْعان يقهرون مائة جبان الوجه السادس عشر قوله الإيجاب إضرار بالعبد قلنا إيجابُ ما لم يوجبه الشارع لا يجوز والشارع أعلم بما ينفع الخلقَ وما يضرهم وهو أرْحَم بهم من الوالدة بولدها فما أوجبه لم يوجِبْه إضرارًا بهم أمَّا ما لم يوجِبْه فقد يكون إيجابه إضرارًا بهم وحينئذٍ فلا يمكن الاستدلال على نفي الإيجاب بنفي الإضرار إلا إذا عُلِم أنَّ الشارعَ لم يوجبه ولو عُلِم أنه لم يوجِبْه لاستُغْنِي عن الاستدلال على نفي إيجابه أو نقول العلمُ بكونه إضرارًا موقوف على العلم بعدم إيجابه فلو كان علمنا بعدمِ إيجابه مستفادًا مِن العلم بكونه إضرارًا لزم الدَّوْر الوجه السابع عشر لو سلَّمنا أن الإيجاب أو التحريم إضرار لكن هو واقع فإن الإيجاب والتحريم واقعان فيكون هذا الإضرار واقعًا وإذا كان واقعًا لم يصحَّ الاستدلالُ على عدم وقوعه

فإن قال هو واقعٌ في غير محلِّ النزاع فأنا أتمسَّك بالنافي للضرر في محلِّ النزاع قيل له الدالُّ على وقوعه في محلِّ النزاع قياس هذا الإيجاب على سائر أنواع الإيجاب وهذا دليلٌ خاصٌّ والنافي للضرر عامٌّ مخصوص والقياسُ مقدَّم على العامِّ المخصوص لا سِيَّما مثل هذا القياس فإن قيل إنما يصح تخصيصُه بالقياس إذا بيّن أن قَدْر ضرره مثل قدر الضرر في صورة الإجماع قيل هذا مُبَيَّن فيبيِّن الخصمُ أن صورة النزاع تساوي صورة الإجماع أو يقول هذا النافي للضرر مُعارَض بما في الإيجاب من المصلحة المشتركة فيبقى القياسُ خاليًا عن المانع أو يقول النافي للضرر عمومٌ مخصوص في كثير من المواضع فضعُفَت دلالتُه وهو واردٌ على سببٍ فضعُفَت دلالتُه من جهةٍ أُخرى والضررُ الموجود في صورة النزاع لو فُرِض قصد عين صورة الإجماع لما كان التفاوت إلا شيئًا يسيرًا وهذا الفرقُ اليسير لا يمنعه عن أن يكون من الأقْيِسَة المتوسِّطة إن لم يكن من

القويَّة والأَقْيِسة المتوسِّطة راجحة على عموم في غاية الضعف لأن هذا القياس يحتجُّ به عامةُ الفقهاء وتلك العمومات يُخالف فيها كثيرٌ منهم والاتفاقُ دليلُ قوة الدليل كما أن الاختلاف مُشْعر بعدم ظهور قرينة الوجه الثامن عشر استدراكٌ على قوله الإضرار يدور مع المفوت للمطلوب وجودًا وعدمًا فيكون حقيقة أي يكون المفوِّت للمطلوب حقيقةً للإضرار وهذا ليس بجيِّد لأن حقيقة اللفظ مُسَمَّاه ومعناه ومسمَّى الإضرار ليس هو المفوت وإنما هو التفويت الوجه التاسع عشر أن دورانه معه كما أنه يدلُّ على أنه حقيقةٌ له فقد دلَّ على أنه علةٌ له فإنَّ معنى الاسم يدورُ معه وجودًا وعدمًا كدوران المحدود مع الحدِّ والمعلولُ يدور مع العلة فلماذا كان الدوران دليلاً على أنه حقيقة له ولِمَ لم يكن دليلاً على أنه علة له فكان على هذا التقدير حقُّه أن يقال فيكون المدار علة للدائر فيكون المفوِّت للمطلوب علة للإضرار والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما نفى الإضرار ولم ينفِ علةَ الإضرار فيجوز أن يكون التفويتُ علة الإضرار والإضرارُ لم يوجد لوجودِ مانعٍ مَنَع من كونه إضرارًا والأمر كذلك فإن التفويت إنما يوجب الإضرار إذا لم يحصل له مطلوب آخر كما تقدم

الوجه المُوفِي عشرين أنَّ ما ذكرتَه من الدليل إنْ دلَّ على أنَّ الإيجاب إضرار لكن مَعَنا ما يدلُّ على أنه ينفع لأنَّ الإيجابَ يبعثُ النفوسَ على الأداء فيحصل لها الثواب الذي لا يحصل بدون هذا الأداء وهو أمور مطلوبة من تحصين المال وتزكية النفس وقضاء حاجة المحاويج ومعلومٌ أنَّ هذه أمور مطلوبة والوجوب يحصل لها فيكون نفعًا لأنَّ النفعَ دار مع الإعانة على المطلوب وجودًا وعدمًا وإذا كان نفعًا كان واجبَ الحصول لقوله صلى الله عليه وسلم من اسْتَطاعَ أنْ ينفعَ أخاه فَلْيَفْعَل حديث صحيح والنبيّ يمكنه نفع المتمَوِّل بإنبائه بالوجوب فيكون مأمورًا بهذا النفع وقوله ولئن قال المفوت فعل العبد وهو أداء الواجب أو تركه فنقول هذا لا ينفكُّ عن ذلك فيكون جهةً فيه ولا يكون مانعًا حاصله أن المفوِّت للمطلوب إنما هو فِعْل العبد أو تركه لأنه إن أدَّى الواجبَ فاتت سلامة المال وإن تركَ أداءَه فاتت سلامةُ النفس لكن فعله إنما صار مفوّتًا بإيجاب الأداء إذ لولا الإيجاب

لما كان الفعلُ مفوَّتًا لأنه على هذا التقدير يمكنه التركُ من غير تفويتِ سلامةِ النفس ولأن فعله لا ينفكُّ عن إيجاب الشرع ففعله ملزوم للإيجاب فيكون الإيجاب جهة فيه فلا يكون مانعًا من إضافةِ التفويتِ إلى الإيجاب لأنَّ معنى الإضافة إليه أنه إذا وُجِد حَصَل التفويت لا محالة سواءٌ حصل من ذاته أو من شيءٍ من لوازمه ومعلوم أن التفويت يحصل من بعض لوازم الإيجاب وهو فعل العبد أو تركه ولهذا كانت إضافة الحكم إلى السبب لا تقدح في إضافته إلى سبب السبب أو إلى حكمة السبب أو إلى حكمة الحكمة لأن السبب ملزومٌ لسببه فإضافته إلى الملزوم لا يقدح فى إضافته إلى اللازم وكذلك حكمة الحكمة ملزومة للحكمة فإضافته إلى الملزوم لا يقدح في إضافته إلى اللازم لأنه إذا تحقَّق الملزوم تحقق اللازم فإذا تحقَّقَ السَّببُ تحقَّقَ سبَبُه وإذا تحقَّقَت الحكمةُ تحقَّقَت حكمةُ الحكمة قوله ولئن قال لا نُسَلِّم بأن المجموع مطلوب وكيف العاقل يسعى في إبطاله فنقول هذا مُعَارَض بمثله يقول كما أن العاقلَ يسعى في إبطال هاتين السلامتين فهو يسعى في تحصيلهما فيبقى ما ذكرناه من الدليل على كونه إضرارًا سالمًا عن المعارض

وحاصله أن الإنسان قد يسعى في إزالة ملكه وفي تعريض نفسه للعقاب فلا تكون سلامته عن ذلك مطلوبًا له لأن المطلوب لا يبطُل ويعدم ويزال فقال هذا متعارض بأنه سعى في إيجاد هذه السلامة والسعيُ لا يكون لتحصيل شيءٍ إلا وهو مطلوب لأنَّ ما لا يُطْلَب لا يُسْعَى في إيجاده لكن يمكن أن يُقال المستدلُّ لم يُقِم دليلاً على أن المجموع مطلوب فإذا أقام السائلُ دليلاً على كونه غير مطلوب وعارضَه المستدلُّ بما يدلُّ على كونه مطلوبًا بقيت دعوى كونه مطلوبًا ليس عليها دليل سليمٌ عن المعارضة فلا تكون مقبولة وهذا ظاهر قوله ولئن منع كونه إضرارًا في الإسلام فنقول الإضرار في أحكام الإسلام مُجْمَلٌ بطريق حذفِ المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه وقد تحقَّق في واحدٍ منها فتحقَّق فيها أما مَنْع السائل كون الإيجاب إضرارًا في الإسلام فَمَنْعٌ مُوَجَّه فإن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وهذه الأمور لا إضرار فيها وأيضًا فإن الإسلام هو الدين الذي يفعله العباد والإيجاب ليس هو في أفعال العباد فإن قيل هو متعلِّق بالأفعال فيصح أن يُقال هو فيها ويدلُّ

عليه أنه يصح أن يُقال الإسلام فيه إيجاب وتحريم وأمر ونهي قيل هذا خلاف مدلول اللفظ لكن يمكن أن يُجاب عنه بأن الإيجاب يقتضي الوجوب والوجوب ثابت للأفعال فيكون الوجوب ضررًا في الأفعال فيكون الإيجاب إضرارًا في الأفعال فيكون إضرارًا في الإسلام ويُمكن أن يُجابَ عنه بأن الإسلام قد يُعنى به نفس الأحكام الشرعية لِمَا بينهما من التلازم أو بطريق حَذْف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه كما ذكره المُصَنِّف فيكون تقديره لا إضرار فى أحكام الإسلام وإيجابُ الزكاةِ إضرار فلو تحقَّق الإضرارُ في واحدٍ من أحكام الإسلام وهو الإيجاب لكان قد تحقَّق في الجملة فلا يصحُّ أن يُقال لا إضرار فيها وهو في واحدٍ منها لكن يُمْكن أن يُقال على هذا بأن الأصلَ عدمُ الحَذْف والإضمار وعدمُ التجوُّز وإطلاق أحدِ المتلازمين على الآخر ويقال أيضًا الأحكام يُعنى بها نفس الإيجاب والتحريم مثلاً ويُعنى بها الوجوب والحرمة فإن قلتَ لا إضرار في الإيجاب والتحريم مثلاً وقد ادَّعيت أن نفسَ الإيجاب إضرار لم يصح ذلك لأن الظرف غير المظروف

فأحد الأمرين لازم إما أن يكون الإيجابُ ليس إضرارًا أو يكون الإيجاب إضرارًا فلا يصح أن يُقال لا إضرار في الإيجاب كما لا يقال لا إضرار في الإضرار وإن عُنِي بالأحكام ما هو ثابت للأفعال من الوجوب والحرمة فيكون التقدير لا إضرار فيما هو ثابتٌ للأفعال من أحكام الإسلام وحينئذٍ يكون نفيًا للإضرار عن الأفعال لأن نفيه عن صفاتها نفيٌ له عنها بطريق اللزوم وحينئذ فلا يحتاج إلى إضمار الأحكام لأن نفي الإضرار عن الأحكام مُسْتلزمٌ نفيَ الإضرارِ عن الأفعال فيكون نفي الإضرار عن الأفعال مع كونه سليمًا عن الإضمار أعم معنًى فيكون أولى فلا حاجة إلى التعسُّف

فصل في الأثر

فصلٌ في الأثر اعلم أصلحك الله أن الأثر في اصطلاح فقهاء الخراسانيين يُعنى به قُول الصحابة ويسمون قولَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبرًا وأما اصطلاح سائر الفقهاء وعامة المحدِّثين فإن الأثرَ عندهم كلُّ ما أُثِر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه وربما أدخلوا فيه ما أُثِر عن التابعين وغيرهم من السَّلَف واللغةُ تساعد هذا الاصطلاح كقول عمر رضي الله عنه ما حلفتُ بها ذاكرًا ولا آثرًا أي ذاكرًا عن نفسي ولا آثرًا عن غيري ومنه قولُه تعالى ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف 4] قالوا هو الرواية والاستناد والكتابة عمَّن مضى ممن يُقْبَل قولُه وهم الأنبياء عليهم السلام ويقولون فلانٌ يأثر هذا الحديث أي يرويه ويسنده إلى غيره والمقصودُ هنا قول الصحابة وجملةُ ذلك أن الصحابيَّ إذا قال قولاً فإما أن يخالفه صحابيٌّ

أو لا يخالفه فإن خالفَه صحابيٌّ آخر لم يكن قولُ أحدِهما بمجرَّدِه حجةً بل يجب الرجوعُ إلى دلالات الكتابِ والسُّنة إلاَّ على قولِ بعضهم من ترجيح قول الخلفاء أو الشيخين وليس هذا موضعَ استقصاءِ ذلك وإن لم يخالفه صحابيٌّ آخر فإن اشتهر قوله في الصحابة ولم يخالفوه فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه يكون إجماعًا ومنهم من قال لا يكون إجماعًا بل يكون حجةً وقال طوائف من المتكلمين وبعض الفقهاء لا يكون حجةً ولا إجماعًا وليس هذا موضعَ الكلام في ذلك لأنه ليس هو مقصود الفصل وإن لم يشتهر قولُه أو لم يُعْلَم أنه يشتهر فهنا اختلف الناسُ فالظاهر من مذاهب فقهاء السلف أنه حجة وذلك ظاهر في فتاويهم وأحكامهم وهو قول جماهير الأئمة المتبوعين قولُ أكثر الحنفية مثل محمد بن الحسن وغيره ويُرْوى عن أبي حنيفة نفسه وهو مذهب مالك وأصحابِه وإسحاق بن راهويه وأبي عُبيد وخلائقَ من السلف وهو المشهور عن أحمد بن حنبل وأصحابه وهو أَحَدُ قولي الشافعي ويقال إنه القول القديم وفي ذلك نظر لأن في كتابه الجديد ما يدلُّ على أنه احتج به لكن أكثر ما يحتج في الجديد بأقوال الصحابة يعضده بضروبٍ من الأَقْيسة

وقد روى الربيعُ عنه أنه قال المُحْدَثات من الأمور ضربان أحدهما ما أُحْدِث يخالف كتابًا أو سُنة أو إجماعًا أو أثرًا فهذه البدعة الضلالة والربيعُ إنما أخذَ عنه بمصر وقد جعل مخالفةَ الأثر الذي ليس بإجماع ضلالة قال بعضُ علماء المالكية أهلُ الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيلُه وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم واستدلالاتهم على أحكام الحوادث وذهب بعضُ الحنفيَّة وبعضُ الحنبليَّة وطوائفُ من الشافعية إلى أنه ليس بحجة وهو أحد القولَيْن عن الشافعي وأحمد وهو قول كثيرٍ من المتكلِّمين أو أكثرهم لأن الصحابيَّ مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ فلا يجب تقليده ولا يكون قولُه حجة كسائر المجتهدين ولأن الأدلَّة الدالَّة على إبطال التقليد تعمُّ تقليدَ الصحابة ومن دونهم ولأنَّ التابعيَّ إذا أدرك عصر الصحابة اعْتُدَّ بخلافه عند أكثر الناس فكيف يكون قول الواحد منهم حجةً عليه ولأنَّ الأدلة قد انحصرت في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب وقولُه ليس واحدًا منها ولأن امتيازَه بكونه أفضل أو أعلم أو أتقى ونحو ذلك لا يوجِبُ اتباعه على مجتهدٍ آخر كعلماء التابعين بالنسبة إلى من

بعدهم واختلفوا أيضًا فيما إذا قال قولاً لا يخالفُ القياسَ هل يُحمل على أنه قاله توقيفًا وذهب أكثرُ الشافعية وطوائفُ من الحنبلية إلى أنه لا يجب اعتقادُ كونه قاله توقيفًا والغرضُ الآن بيان قوله المجرَّد هل هو حُجة أو لا والدليلُ على وجوب اتِّباعه وجوه أحدها ما احتجَّ به مالك وهو قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة 100] فوجه الدليل أنَّ الله أثنى على من اتبعهم فإذا قالوا قولاً فاتَّبعهم عليه مُتَّبعٌ قَبْل أن يعرف صحَّته فهو متَّبعٌ لهم فيجب أن يكون محمودًا على ذلك وأن يستحق الرضوان ولو كان اتباعهم تقليدًا محضًا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتَّبَعهم الرضوان إلا أن يكون عامِّيًّا فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم فإن قيل اتِّباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل وهو سلوكُ سبيل الاجتهاد لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قولُه بِإِحْسَانٍ ومن قلَّدهم لم يتَّبِعْهم بإحسان لأَّنه لو كان مطلق الاتباع

محمودًا لم يُفرق بين الاتباع بإحسان أو بإساءة وأيضًا فيجوز أن يُرَاد به اتباعهم في أصل الدين وقوله بِإِحْسَانٍ أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم ويكون المقصود أن السابقين قد وَجَب لهم الرضوان وإن أساءوا لقوله وما يُدْرِيْكَ أنَّ اللهَ قد اطَّلَع علىَ أهل بدرٍ فقال اعْمَلوا ما شِئْتُم فقد غَفَرْتُ لكم والثناءُ على من اتَّبَعَهم لا يقتضي وجوبَه إنما يدلُّ على جواز تقليدهم وذلك دليلٌ على جواز تقليد العالم كما هو مذهبُ طوائف من الحنفية والمالكية أو تقليد الأعلم أما الدليل على وجوبِ اتِّباعِهم فليس في الآية ما يقتضيه قلنا الاتِّباع لا يستلزمُ الاجتهاد لوجوه أحدهما أن الاتباع في القرآن مثل قوله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران 31] وقوله وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف 158] وقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 115] ونحو ذلك لا يتوقَّف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل الثاني أنه لو كان المراد اتِّباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم

يكن فرقٌ بين السابقين وبين جميع الخلائق لأن اتِّباع موجبِ الدليل يجبُ أن يُتَّبعَ فيه كلُّ أحد حتى الكافر لو قال قولاً بدليل صحيح وجبَ موافقته فيه الثالث أنه إما تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا تجوز فإن لم تجُز فهو المطلوب وإن جازت مخالفتهم فقد خُوْلِفوا في خصوص الحكم واتُّبِعُوا في جنس الاستدلال فليسَ جَعْل من فَعَل ذلك مُتِّبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعْلِه مخالفًا لمخالفته في عَيْن الحكم الرابع أن من خالفهم في الحكم الذي أَفْتَوا به لا يكون متبعًا لهم أصلاً بدليل أنَّ من خالف مجتهدًا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاده لا يصحُّ أن يقال اتبعتُه وإن قيل فلابدَّ من تقييده بأن يُقال اتبعتُه في الاستدلال والاجتهاد الخامس أن الاتِّباع افتعالٌ من التَّبَع وكون الإنسان تابعًا لغيره نوعُ افتقارٍ إليه ومَشْيٍ خَلْفَه وكلُّ واحدٍ من المجتهدين المستدلِّين ليس تبعًا للآخر ولا مفتقرًا إليه بمجرَّد ذلك حتى يستَشْعِر موافقتَه والانقيادَ له ولهذا لا يصح أن يُقال لمن وافقَ رجلاً في اجتهاده أو

تبع فتواه اتفاقًا إنه مُتَّبِع له السادس أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين وبتقدير أن لا يكون قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة بل إنما يتبع القياس مثلاً لا يكون لهم هذا المنصب ولا يستحقون هذا المدح والثناء السابع أن من خالفهم في خصوصِ حكمٍ فلم يتَّبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلُّوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعًا لهم لمشاركتهم في صفة عامة وهي مُطْلق الاستدلال والاجتهاد لا سيِّما وتلك الصِّفة العامة لا اختصاص لها به لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته وإذا وُجِد الفارقُ الأخصُّ والجامعُ الأعمُّ وكلاهما مؤثِّر كان التفريق رعايةً للفارق أولى من الجمع رعايةً للجامع وأما قوله بِإِحْسَانٍ فليس المراد به أن يجتهد وافق أو خالف لأنه إذا خالف لم يتَّبِعْهم فضلاً عن أن يكون بإحسان ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم لكن الاتباع لهم اسم يدْخُل فيه كلُّ من وافقهم في الاعتقاد والقول فلابدَّ مع ذلك أن يكون المتِّبع محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم لئلاَّ يقعَ الاغترار بمجرَّد الموافقة قولاً وأيضًا فلابدَّ من أن يحسن المتبع لهم القولَ فيهم ولا يقدح فيهم اشترطَ اللهُ ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم وهذا مثل

قوله بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر 10] وأما تخصيصُ اتِّباعهم بأصول الدين فلا يصح لأن الاتباع عام ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنَّا متَّبعين للمؤمنين من أهل الكتابَيْن ولم يفرَّق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها وأيضًا فإنه إذا قيل فلانٌ يتبع فلانًا واتبعَ فلانًا وأنا مُتِّبع فلانًا ولم يُقَيِّد ذلك بقرينةِ لفظه ولا حالِه فإنه يقتضي اتباعه في كلِّ الأمور التي يتأتَّى فيها الاتباع لأنَّ من اتبعه في حالٍ وخالفه في حالٍ أُخرى لم يكن وصفُه بأنه متَّبع بأولى من وصفه بأنه مخالف ولأنَّ الرضوان حكم معلَّق باتباعهم فيكون الاتباع سببًا له لأنَّ الحكمَ المعلَّق بما هو مُشْتَقٌّ يقتضي أنَّ ما منه الاشتقاقُ سبب وإن كان اتباعُهُم سببًا للرضوان اقتضى الحكمَ في جميع موارده إذ لا اختصاص للاتباع بحال دون حال ولأنَّ الاتباع يُؤْذِن بكون الإنسان تبعًا لغيره وفرعًا عليه وأُصول الدين ليست كذلك ولأنَّ الآيَة

تضمَّنت الثناءَ عليهم وجَعْلهم أئمة لمن بعدهم فلو لم يُفد إلا اتِّباعهم في أصول الدين والشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك لأنَّ ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم وأما قوله الثناء على من اتبعهم كلهم فنقول الآية اقتضت الثناء كلَّه على من اتبع كلَّ واحدٍ واحدٍ منهم كما أن قوله وَالسَّابِقُونَ وقوله الَّذِينَ يقتضي حصول الرضوان لكلِّ واحدٍ واحدٍ من السابقين والذين اتبعوهم فى قوله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ [التوبة 100] فكذلك في قوله اتَّبَعُوهُمْ لأنَّ حُكم الاتباع عُلِّق عليهم في هذه الآية فقد تناولهم مجموعِيْن ومُنْفَرِدِيْن وأيضًا فإن الأصل في الأحكام المعلَّقة بأسماء عامة ثبوتُها لكلِّ فردٍ فردٍ من تلك المُسَمَّيات كقوله وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة 43] وقوله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح 18] وقوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة 119] وأيضًا فإن الأحكام المعلَّقة على المجموع يؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد كقوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة 143] وقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران 110] وقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 115] فإن لفظ الأمة ولفظ سبيل

المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة وأفراد المؤمنين بخلاف لفظ السابقين فإنه يتناول كلَّ فردٍ فردٍ من السابقين وأيضًا فالآية تَعُم اتباعهم مجموعين ومنفردين في كل ممكن فمن اتبع جماعتَهم إذا اجتمعوا أو اتبع آحادهم فيما وجده عنه مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صَدَق عليه أنه اتَّبع السابقين أما من خالف بعضَ السابقين فلا يصح أن يقال اتبع السابقين لوجود مخالفته لبعضهم لا سيما إذا خالف هذا مرَّة وهذا مرَّة وهذا مرَّة وبهذا يظهر الجوابُ عن اتباعهم إذا اختلفوا فإنَّ اتباعهم هناك قبول بعض تلك الأقوال باجتهاد واستدلال إذ هم مجمعون على تسويغٍ كلِّ واحدٍ من الأقوال لمن أدى اجتهاده إليه فقد حصل اتباعهم أيضًا أما إذا قال الرجل قولاً ولم يخالفه غيره فلم يُعْلَم أنَّ السابقين سوَّغوا خلافَ ذلك القول وأيضًا فالآيةُ تقتضي اتباعهم مطلقًا فلو فرضنا أنَّ الطالب عَثَر على نصٍّ يخالف قولَ الواحد منهم فقد علمنا أنه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه أما إذا رأينا رأيًا فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي والمعترض من هذا الوجه إبقاء الاتِّباع على عمومه

وأيضًا فلو لم يكن اتباعهم إلا فيما اجتمعوا عليه كلُّهم لم يحصل اتِّباعُهم إلا فيما قد عُلِم أنه من دين الإسلام بالاضطرار لأن السابقين الأوَّلين خَلْقٌ عظيم ولم يُعْلَم أنهم اجتمعوا إلا على ذلك فيكون هذا الوجه هو الذي قبله وقد تقدم بطلانه إذ الاتباع في ذلك غير مؤثِّر وأيضًا فجميع السابقين قد مات منهم أُناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لو فرضنا أحدًا يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين فحاصله أن التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين وأيضًا فإن معرفةَ جميع السابقين كالمتعذِّر فكيف يُتَّبع كلهم في شيءٍ لا يكادُ يُعْلَم وأيضًا فإنهم إنما استحقوا منصب الإمامة والاقتداء بكونهم هم السابقين وهذه صفة موجودة في كلِّ واحدٍ منهم فوجبَ أن يكون كلٌّ منهم إمامًا للمتقين كما استوجبَ الرضوان والجنة وأما قوله ليس فيها ما يوجب اتباعهم فنقول الآيةُ تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان وقد قام

الدليلُ على أن القول في الدين بغير علم حرام فلا يكون اتباعهم قولاً بغير علم بل قول بعلم وهو المقصود وحينئذٍ فسواء سُمِّي تقليدًا أو اجتهادًا وأيضًا فإن كان تقليدُ العالمِ العالمَ حرامًا كما هو قول الشافعية والحنبلية فاتباعهم ليس بتقليد لأنه مَرْضيّ وإن كان تقليده جائزًا أو كان تقليدُهم مستثنًى من التقليد المحرَّم فلم يَقُل أحد إن تقليد العلماء من موجباتِ الرضوان فعُلِمَ أن تقليدهم خارج عن هذا لأن تقليدَ العالم وإن كان جائزًا فتركُه إلى قول غيره أو إلى اجتهادٍ جائزٌ أيضًا بالاتفاق والشيء المباح لا يستحق به الرضوان وأيضًا فإن رضوانَ الله غايةُ المطالب لا تُنال إلا بأفضل الأعمال ومعلومٌ أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال بل الاجتهاد أفضل منه فَعُلِم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألةٍ اختلفوا فيها هم ومن بعدهم ورُجحانُ أحدِ القولين يوجب اتباعه لأن مسائل الاجتهاد لا يتخيَّر الرجلُ فيها بين قولين وأيضًا فإنَّ الله أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان والتقليد وظيفة العامة فأما العلماء فإما أن يكون مباحًا لهم أو محرمًا إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف أو هو واجب عليهم فلو أُريْد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النصيب الأَوفى وكان

حظُّ علماء الأُمّة من هذه الآية أبخس الحظوظ ومعلومٌ أنَّ هذا فاسد وأيضًا فالرضوان عليهم وعلى من اتبعهم دليلٌ على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ لأنه لو كان خطأً لكان غاية صاحبه أن يُعْفَى له عنه فإن المخطئ إلى أن يُعْفى عنه أقربُ منه إلى أن يُرْضَى عنه وإذا كان صوابًا وَجَبَ اتباعُه لأنَّ خلافَ الصواب خطأ والخطأ يحْرُم اتباعه إذا عُلِم أنه خطأ وقد عُلِم أنه خطأ بكَوْن الصواب خلافه وأيضًا فإن كان اتباعهم يوجب الرضوان لم يكن ترك اتباعهم يوجب الرضوان لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وعدمه لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء وإذا كان المسألة قولان أحدُهما يوجبُ الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحقُّ هو ما يوجِبُه وهو المطلوب وأيضًا فإنَّ طلب رضوان الله واجب لأنه إذا لم يوجد رضوانه فإما سخطه أو عفوه والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة وذلك لا يُباح مباشرتُه إلا بالنصِّ وإذا كان رضوانه إنما هو في اتِّباعهم واتباع رضوانه واجب كان اتباعهم واجبًا وأيضًا فإنه إنما أثنى على المتَّبع بالرضوان ولم يصرِّح بالوجوب لأن إيجاب الاتباع يدخل فيه الاتباع في الأفعال ويقتضي تحريمَ مخالفتهم مطلقًا فيقتضي ذمَّ المخطئ وليس كذلك أما الأقوال فلا وجهَ لمخالفتهم فيها بعد ما ثبت أن فيها رِضا الله

وأيضًا فإنَّ القول إذا ثَبَت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضده بخلاف الأفعال فقد يكون رِضَا الله في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدَيْن وحالَيْن أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك فإذا ثبت أنَّ في قولهم رضوان الله لم يكن الحقُّ والصواب إلا هو فوجب اتباعُه فإن قيل السابقون هم الذين صلوا القبلتين أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم فما الدليل على اتباع من أسلم بعد ذلك قيل إذ ثبت وجوبُ اتباع أهل بيعة الرِّضوان فهو أكبر المقصود على أنه لا قائل بالفرق وكلُّ الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم الوجه الثاني قوله اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس 21] هذا قصه الله عن صاحب يس على سبيل الرِّضا بهذه المقالة والثناء على قائلها والإقرار له عليها وكلُّ واحدٍ من الصحابة لم يسألنا أجرًا وهم مهتدون بدليل قوله خطابًا لهم وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) [آل عمران 103] ولعلَّ من الله واجب وقوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا إلى

قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد 16 - 17] وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت 69] وكلٌّ منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه فيكون الله قد هداهم ومن هداه فهو مهتد فيجبُ اتباعه بالآية الوجه الثالث قوله سبحانه وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان 15] وكلٌّ من الصحابة مُنِيْب فيجبُ اتباعُ سبيلِه وأقوالُه واعتقاداتُه من أكبر سبيله والدليل على أنهم منيبون أنَّ الله قد هداهم وقد قال وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى 13] الوجه الرابع قوله قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف 108] أخبر أن من اتبع الرسولَ يدعو إلى الله على بصيرة ومن دعا إلى الله على بصيرة وجبَ اتِّباعُه كقوله فيما حكاه عن الجنِّ ورضيَه يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف 31] ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحقِّ عالمًا به والدعاءُ إلى أحكام الله دعاء إلى الله لأنه دعاء إلى طاعته فيما أَمَرَ ونهى وأذِن والصحابةُ قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب إجابتهم إذا دعوا إلى الله الوجه الخامس قوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل 59] قال ابن عباس هم أصحاب محمد

والدليل عليه قوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر 32] وحقيقة الاصطفاء افتعال من التصفية فيكون قد صفَّاهم من الأكدار والخطأ من الأكدار فيكن مُصَفَّيْنَ منه ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحقّ لم يَعْدُهم فلا يكون قول بعضِهم كدرًا لأن مخالفة الكدر وبيانه يزيل كونه كدرًا بخلاف ما إذا قال بعضُهم قولاً ولم يخالف فيه فإنه لو كان قولاً باطلاً ولم يردّه راد فلا معنى للكدر إلا هذا وهذا لأنَّ خلاف بعضهم لبعض بمنزلِة معاتبة النبيَّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ أموره فإنها لا تخرجه عن حقيقةِ الاصطفاء فإذا لم ينه لم يكن كدرًا الوجه السادس أن الله شهد لهم بأنهم أُوتوا العلم بقوله وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ 6] وقوله حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد 16] وقوله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة 11] واللام في العلم ليست للاستغراق وإنما هي والله أعلم للعهد أي العلم الذي بعثَ اللهُ به نبيَّه وإذا كانوا قد أوتوا العلم الديني كان اتباعهم واجبًا لأن المقصود إنما هو معرفة علم الدين وقد قال تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء

59] ومنهم العلماءُ والفقهاء الوجه السابع قوله سبحانه كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران 110] شهد لهم القرآن بأنهم يأمرون بكلِّ معروفٍ وينهون عن كلِّ منكرٍ فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفْتِ فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحدٌ منهم قد أمر فيها بمعروفٍ ولا نهى فيها عن المنكر فإن الصواب معروف بلا شك والخطأ منكر من بعض الوجوه ولولا ذلك لما صحَّ التمسُّك بهذه الآية على كون الإجماع حجة وإذا كان هذا باطلاً عُلِم أنَّ خطأَ من تكلَّم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع وذلك يقتضي أن قولَه حجةٌ الوجه الثامن ما خرَّجوه في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال خَيْرُ القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيه ثم الذين يَلُوْنَهم ثم الذين يلونهم أخبر صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنُه مطلقًا وذلك يقتضي تقدمهم في كلِّ باب من أبواب الخير وإلا كانوا خيرًا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقًا فلو جاز أن يخطئ

الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما تنبَّهَ للصواب من بعدهم لزم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه لأنَّ القرنَ المشتمل على الصواب خيرٌ من القرن المشتمل على الخطأ وأفضل في ذلك الفن ثم هذا يتعدد في مسائل عدة لأن من يقول إن قول الصحابي ليس بحجة يجوّز أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابيُّ قولاً ولم يخالفه صحابيٌّ آخر ومعلومٌ أن هذا يكون في مسائل كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء فكيف يكونون خيرًا ممن بعدهم وقد امتاز القرنُ الذي بعدَهم بالصواب فيما يفوق العدَّ والإحصاء مما أخطأوا فيه وفضيلةُ العلم ومعرفةُ الصواب أكمل الفضائل وأشرفُها وهذا ظاهرٌ لمن تأمله فإنه وصمة على الأمة أيّ وصمة أن يكون الصِّدِّيق أو الفاروق وغيرهما قد أخْبَر أنَّ حُكْمَ الله كَيْتَ وكَيْتَ في مسائل كثيرة وأخطأوا في ذلك ولم يشتمل قرنُهم على ناطقٍ بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكمَ الله وأصابوا الحقَّ عند الله إنَّ هذا مما يُعْلَم قطعًا أنه مُحال على هذه الأمة الوجه التاسع أن السَّلَف أجمعوا على ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الصالحة

قال عبد الله بن مسعود إن الله نظرَ في قلوبِ العبادِ فوجدَ قلبَ محمدٍ خيرَ قلوبِ العِبادِ فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بَعْدَ قلبِ محمد فوجدَ قلوبَ أصحابه خير قلوبِ العباد فاختارهم لصحبة نبيِّه ونُصْرةِ دينه فما رآه المسلمونَ حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح وقال عبد الله بن مسعود اتبعوا ولا تَبْتَدِعوا فقد كُفيتم فإن كلِّ محدثةٍ بدعة وكلِّ بدعةٍ ضلالة وقال عبد الله بن مسعود أيضًا من كان متأسِّيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم فإنهم كانوا أبَرَّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلُّفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالاً قومٌ اختارهم الله لصحبةِ نبيهِ صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلَهم واتبعوا آثارَهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم

وعن الحسن نحو من هذا وقال ابن مسعود أيضًا إنَّا نقتدي ولا نبتدي ونتَّبع ولا نبتدع ولن نضلَّ ما تمسَّكْنا بالأثر وقال أيضًا إيَّاكم والتَّبَدُّع وإياكم والتنَطُّع وإياكم والتَّعَمُّق وعليكم بالعتيق وقال أيضًا أنا لغير الدَّجَّال أخوف عليكم من الدَّجَّال أمور تكونن من كبرائكم فأيُّما مُرَيّة أو رُجَيْل أدرك ذلك الزمان فالسَّمْت الأول فإنَّا اليومَ على السنة وكان يقول إياكم والمُحْدَثات فإنَّ شرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها وكلُّ بدعةٍ ضلالة

وقال اتبع ولا تبتدع فإنك لن تَضِلّ ما أخذتَ بالأثر وقال حُذَيفة بن اليمان يا معشرَ القرَّاء خذوا طريقَ من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا وقال جُنْدُب بن عبد الله دخل عليَّ فتيةٌ حزاورة أيام النهر فقالوا ندعوك إلى كتاب الله قال قلتُ أنتم قالوا نحن قلت أنتم قالوا نحن قلت يا أخابث خليقة الله في اتباعنا تخافون الضلالة أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى اخرجوا عنِّي وقال ابنُ عباس كان يُقال عليك بالاستقامة والأثر وإيَّاك والتَّبدُّع وقال شُرَيْح إنما أقتفي الأثر فما وجدْتُ قد سَبَقَنا إليه غيرُنا حدثتكم به وقال إبراهيم النَّخَعي لو بلغني عنهم يعني أصحابه أنهم

ما تجاوزوا بالوضوء ظفرًا ما جاوزته به وكفى على قوم إزراءً أن تُخالف أعمالُهم أعمالَ أوَّليهم وقال عُمر بن عبد العزيز إنه لم يبتدع الناسُ بدعةً إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة منها فإنما السُّنة ما سَنَّها إلا من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمْق والتَّعَمُّق فارضَ لنفسك ما رضي القوم وقال عُمر بن عبد العزيز قِفْ حيثُ وقفَ القوم وقل كما قالوا واسكت عما سكتوا فإنهم عن علمٍ وقفوا وببصرٍ نافذٍ كَفُّوا وهم على كشفها كانوا أقوى وبالفَضْل لو كان فيها أحرى فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث بعدَهم فما أحْدَثَه إلا من سَلَك غير سبيلهم ورَغِبَ بنفسه عنهم وإنهم لهم السابقون ولقد تكلَّموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مُقَصِّر ولا فوقهم مُحَسِّر لقد قصَّر عنهم قومٌ فجفوا وطمح آخرون عنهم فَغَلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم

وقال أيضًا عمرُ بنُ عبد العزيز كلامًا كان مالك بن أنس وغيرُه من الأئمة يستحسنونه ويحدِّثونه به دائمًا قال سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعدَه سننًا الأخْذُ بها تصديقٌ لكتاب الله واستعمالٌ لطاعته وقوة على دينٍ يحبُّه الله ليس لأحدٍ تغييرُها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها فمن اقتدى بما سنُّوا اهْتَدَى ومن استنصر بها منصور ومن خالفها واتبع غيرَ سبيلِ المؤمنين ولاَّه اللهُ ما تولَّى وأصلاه جهنَّمَ وساءت مصيرًا ومن هنا أخذ الشافعيُّ الاحتجاجَ بهذه الآية على أن الإجماع حجة وقال الشعبيُّ عليكَ بآثار السَّلَف وإن رفضك الناسُ وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول وقال أيضًا ما حَدَّثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخُذْه وما حَدَّثوك به عن آرائهم فانْبذْه في الحشِّ

وقال الأوزاعي اصبر نفسَك على السُّنة وقِفْ حيثُ وقفَ القوم واسلك سبيلَ السَّلَف الصالح فإنه يسعُكَ ما وَسِعَهم وقُل بما قالوا وكفَّ عما كفُّوا ولو كان هذا خيرًا ما خُصِصْتُم به دون أسلافكم فإنه لم يُدَّخَر عنهم خيرٌ خُبِّئ لكم دونهم لفضلٍ عندكم وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووَصَفَهم فقال مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية [الفتح 29] وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي أدْركتُ مَشْيَخَتَنا زُفَرَ بن الهذيل وأبا يوسف الوجه العاشر أن صورة المسألة إذا لم يكن في المسألة حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا اختلاف بين أصحابه وإنما قال بعضُهم فيها قولاً ولم يُعْلَم أنه اشتهر في الباقين لا أنهم خالفوه فنقول من تأمَّل المسائل الفقهية والحوادث الفروعية وتدرَّبَ في مسالكها وتصرف في مداركها عَلِمَ قطعًا أن كثيرًا منها قد تَنْحَسم فيها وجوه

الرأي بحيث لا يُوْثَق فيها بظاهرٍ مرادٍ أو قياسٍ جيِّد ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد أو تتعارض فيها الظواهر والأَقْيِسة على وجهٍ يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظنِّ رجحانٌ بيِّن خصوصًا إذا اختلف فيها الفقهاء فإن عقول الفقهاء وعلومهم من الأئمة المشهورين من أوفر العقول وأكثر العلوم فإذا تلدَّدوا وتبلَّدوا لم يكن ذلك وفي المسألة طريقةٌ واضحة فإذا وُجِد فيها قول الفقهاء الصحابة كان الظنُّ بأنَّ الصواب في جنبه أقوى الظنون والرأي الذي يوافق رأْيَه أسدّ الآراء ومن كان إنما مطلوبه في الحادثة ظنٌّ راجح ولو استند إلى استصحابٍ أو قياسِ دلالةٍ أو شَبَهٍ أو عمومٍ مخصوصٍ واردٍ على سبب فلا يُشكّ أن الظن الذي يحصل لنا بقول صحابيٍ لم يُخالف أرجح من الظنون المستندة إلى مجرَّد هذه الأمور واعلم أن حصول الظنِّ الغالب في القلب ضروري لحصول العلم ومشاهدة الطريقة على أن من تأمَّل واجتهد وعرف طرقَ الفقه وأحوال

الصحابة وجدَ ظنًّا ضروريًّا بقوة ما يقوله الصحابي على من يخالفه الوجه الحادي عشر أن الصحابيَّ إذا أفتى بفُتْيا أو قال قولاً أو حكم حكمًا فله مدارك انفرد بها عنا وله مدارك نشاركه فيها فأما ما يختص به فيجوز أن يكون قد سمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو من آخر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ ما انفردوا به من العلم عنَّا أكثر من أن يُحاط به ولا تظنن أن كلاًّ منهم روى ما سمع كلَّه ولا العُشْر فهذا صدِّيق الأُمة لم يَرْو عنه مائةَ حديث وهو لم يغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده وكذلك عامَّةُ جِلَّة الصحابة قَلَّت روايتهم وقد كَثُرت رواية أبي هريرة وإنما صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحو أربعِ سنين فقول من يقول لو كان عنده سماع من النبي صلى الله عليه وسلم لذكره قولَُ من لم يعرف أحوالَهم فإنهم كانوا يهابون الرواية ويعظِّمونها ويُِقِلُّونها خوفَ الزيادة والنقص ويحدِّثون بالشيء الذي قد سمعوه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرارًا ولا يذكرون السَّماع وتصريحهم بالسَّماع تارةً كتصريحهم بالرأي أخرى فإنهم قد صرَّحوا في مواضع بأنَّهم قالوا بالرأي ويجوز أن تكون تلك الفُتْيا أو الحديث مما اجتمع عليه مَلَؤهم في حادثة أخرى ويجوز أن يكون قد فهمها من آية في كتاب الله أو

من حديثٍ عن رسول الله صلى الله عله وسلم لعلمه باللغة ودلالةِ اللفظ على الوجه الذي انفردوا به عنَّا أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب أو لمجموع أمور فهموها على طوال الليالي من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة سيرته وسماع كلامِه وتبيُّن مقاصده وشهود تنزيل الوحي ورؤية التأويل فإن العلم بهذه الأشياء تكشف المرادَ كشفًا تزول معه كلُّ شبهة وأما المدارك التي شَرِكْناهم فيها من دلالات الألفاظ والأَقْيِسة فلا ريب أنهم كانوا أَبَرَّ قلوبًا وأعمق علمًا وأقلَّ تكلُّفًا وأقربَ إلى أن يُوَفَّقوا لما خصهم اللهُ به من توقُّد الأذهان وفصاحة اللسان وسَعَة العلم وتقوى الرب وحُسْن القصد وغير ذلك من الأسباب التي توجب التوفيق للحق فإذا كان قد امتاز عنَّا بطرق الأحكام وفُضِّل علينا فيما شَرِكَنا من الطرق عُلِمَ علمًا ضروريًّا أن الظن الذي يحصل لنا بقوله الذي قاله أقوى وأرجح من الظنِّ الذي يحصل بِتأويلاتنا ومقاييسنا ومن شكَّ في هذا أو قاسهم بغيرهم من المجتهدين أو أُعْجِب برأي نفسِه فَلْيُعَزِّ نفسَه من العقل والدين الوجه الثاني عشر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ

وقال عليٌّ رضي الله عنه لنْ تخلوَ الأرضُ من قائمٍ لله بِحُجَّة لكيلا تبطل حُجَج اللهُ وبيناته فلو جاز أن يُخطئ الصحابيُّ في حكم ولا يكون في العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمَّة قائم بالحقِّ في ذلك الحكم لأنهم بين ساكت أو مخطئ ولم يكن في الأرض قائمٌ لله بحجَّة في ذلك الأمر ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر حتى نبغت النابغة فقامت بالحجَّة وأمَرَت بالمعروف ونَهَتْ عن المنكر وهذا خلاف ما دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ والإجماعُ الوجه الثالث عشر أنهم إذا قالوا قولاً أو بعضُهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مُبتدئًا لذلك القول ومبتدعًا له وقد قال صلى الله عليه وسلم عليكم بسنًّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المَهْدِيِّين من بعدي تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة فلا يجوز اتِّباعُه

واعلم أن في المسألة أدلَّة كثيرة وهي تحتمل بَسْطًا عظيمًا ليس هذا موضَعه فإن قيل بعضُ ما ذكرتُم من الأدلة يقتضي أن التَّابعيَّ إذا قال قولاً ولم يخالفه صحابيُّ ولا تابعيٌّ فإنه يكون صوابًا يجبُ اتباعُه قلنا هذا لا يكاد ينضبط فإن التابعين كثيرون والمسائل في أيَّامهم كانت منتشرة فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف له فإن فُرِضَ ذلك فقد اخْتُلِف فيه فمنهم من يقول يجبُ اتِّباعُه والأكثرون يفرِّقون بينه وبين الصحابيِّ ولو خالف قولُه القياس فقد قيل يُحْمَل ذلك على أنه قاله توقيفًا ويكون بمنزلةِ المرسل الذي عَمِلَ به مُرْسِلُه وقيل لا يكون كذلك وليس هذا موضعَ بسطِ ذلك وفيما ذكرناه جوابٌ عما احتجَّ به أولئك إلا قولهم بعيد بخلاف التابعي إذا أدرك عصر الصحابة فإنَّ ذلك غير مسلَّم على القول بأن قولَ الصحابيِّ حجة ومن سَلَّم ذلك فلعلَّه يقول قولُ الصحابي حجة إذا لم يُخَالَف في عصره لا من صحابيٍّ ولا من تابعيٍّ وبعضُ الأدلة يدلُّ على هذا القول بخصوصِه

قال المصنف والتمسُّك به أن قول الصحابي يُحَصِّل غَلَبةَ الظن بثبوت ذلك الشيء وهو المعنيّ بالدليل هذا الكلام لابدَّ أن ينضمَّ إليه أنَّ قولَ الصحابي يُحَصِّل من غلبةِ الظنِّ ما لا يَحْصُل بقول غيره كما تقدم تقريره والعلمُ بذلك حاصل واتباع غلبة الظن في الأحكام واجب للأدلة الدالة على وجوب اتباع الأمر والعموم والمطلق وخبر الواحد والقياس فإن قلتَ لعلَّ المصنف أرادَ مُطلق غلبة الظن لأنَّ من أصله جواز تقليد الأعلم مطلقًا أو تقليد العالم عالمًا مثله لأنه يَحْصُل له غلبةُ ظنٍّ بتقليده قلتُ لا يصحّ إرادته ذلك لأن غرضَه ما يحتجُّ به في المناظرة وهو وإن جَوَّز تقليد العالم والأعلم فيجوز الاجتهاد ومخالفته ولا يُحْتَجُّ في المناظرة بتقليد من يجوز ترك تقليده لأن الحجَّةَ لابدَّ أن تكون ملزمةً للمخالف ومن أجاز له التقليد من أهل الاجتهاد فإنه مخيَّر بين الاجتهاد وبين التقليد عند القائلين بذلك فلا يكون التقليد حجةً ملزمة فإن قيل فكيف صار تقليدُ الصحابيِّ حجةً ملزمة

قيل التقليد اسم لقبول قول الغير من غير أن يعرف حقيقةَ ذلك القول من غيره وهو قسمان أحدهما تقليد من قامت الأدلةُ على قبول قوله كتقليد الأنبياء عليهم السلام فيما يُخْبرون به ويأمرونَ به وتقليد أهل الإجماع وتقليد النَّقَلَة وتقليد الصحابي ونحو ذلك فهذا تقليدٌ واجبٌ على العالم والعامِّي وهو معنى قول الشافعي أُقَلِّد الخبرَ أو كما قال ومعنى قول أحمد ومن زعم أنه لا يرى تقليد الحديث فهو مبتدع أو ضال ونحو ذلك من الكلام أرادوا به أنه من لم يقنع فيما صحَّ فيه حديثٌ بقبولِ الحديث حتى يعرف بنظره حقيقته وزعم أنه قد يستغني عن وأنه لا يقبل إلا ما عرفه بعقله فقد ردَّ السنة وإجماع الأمة وما وجبَ عليه قبولُه فمن قال إن تقليد الصحابي واجبٌ فهذا النوعَ أرادَ والثاني قبول قول الغير من غير حجة ملزمة أو تقليد من لم يقم دليلٌ على تقليده عند عامَّة العلماء وفي جوازه للقادر على الاجتهاد خلافٌ مشهور

قولُه ولأنه ظنَّ بتحقُّق ذلك الشيء فيتحقَّق لقوله عليه السلام ظنُّ المؤمنِ لا يُخطئ وهذا استدلال ثانٍ منه على جواز التمسُّك بالأثر وهو استدلال يعمُّ جميعَ أنواع التقليد واجِبِها وجائزِها وهو أن الصحابيَّ تحقَّقَ ذلك الشيء فيجب أن يتحقَّقَ للحديثِ الذي ذكره واعلم أن هذا الدليلَ في غايةِ الفساد لوجوه أحدها أنَّ هذا الحديث الذي ذكره لا أصل له ولا يُعْرَف في شيءٍ من دواوين الحديثِ وأَقلُّ ما على المستدلِّ بحديثٍ في شريعةِ الجدلِ أن يُسْنِدَه أو يعزوه إلى كتابٍ غيرِ مشهورٍ بالسُّقْم أو يُبَيِّن أنه مشهورٌ بالصحة فإن عزاه إلى كتابِ فقهٍ لم يُقْبَل عند عامَّة الجدليِّين إلا أن يكون مصنِّفُه عالمًا بالحديث ففي قبولِهِ خلافٌ بين الجدليِّين ولو كان كتاب لعالمٍ بالفقه والحديث قُبِل عندهم وهذا الحديث ليسَ مَعْزُوًّا عزوًا يصحُّ التمسُّك به وأهلُ الحديث لا يعرفون له أصلاً فلا يُقْبَل

لكن الذي رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال اتقوا فِرَاسَة المؤمنِ فإنَّه ينظرُ بنورِ الله ثم قرأ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) [الحجر 75] وفي الصحيح عنه فيما يَرْوي عن ربه ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتى أُحِبَّه فإذا أحبَبْتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسْمَعُ به وبَصَرَه الذي يُبْصِرُ به ويَدَه التي يَبْطِشُ بها ورِجْلَه التي يَمْشِي بها بي يَسْمَع وبي يُبْصِر وبي يَبْطِش وبي يَمْشي الثاني أنه قد خَرَّجا في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إيَّاكُم والظنَّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث وشاهده في كتاب الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات 12] فكيف يقول ظن المؤمن لا يخطئ وهو ينهى عن الظنِّ ويُخْبِر أنه أكذب

الحديث الثالث لو فرَضْنا أنَّ لهذا الحديث أصلاً أو قد قاله بعضُ المعتبرين فيجبُ أن يُحمل على أنه لا يُخطئ ما وجب عليه اتباعُه بمعنى أنه إذا ظنَّ ظنًّا بعد البحثِ التَّامِّ فقد كُلِّف العمَل به فهو لم يخطئ في طَلَبِ ما كُلِّف به وإن كان قد يخطئ الحكم الذي أُمِر بطلبه وعلى هذا التقدير فلا حجَّةَ فيه لأن كلَّ مجتهد مصيب في اجتهاده وإن أخطأ الحكمَ الذي هو حكمُ اللهِ في نفس الأمر الذي أُمِر بطلبه حتى إنهم مع اختلافهم لا يكونون مخطئين بهذا الاعتبار مع أنهم لا يكون قولُهم حجةً ولا يجوز التمسُّك به ويجوز أن يُراد به ظنُّ المؤمن حالَ تحقُّقِه بالإيمان وغلبِةِ ذكرِ الله على قلبه بحيث يكون يسمعُ بالحق ويرى بالحق فيكون ظنُّه في هذا الحال مصيبًا لأن ما يُقْذَفُ في قلبه في هذه الحال إنما هو إلهامٌ من الله سبحانه لكن لا يجوز التمسُّك بقوله لأنه لا يعلم أنَّ الظنَّ الذي ظنَّه حَصَل في حال كمال ذكره الله وغَلَبة الإيمان على قلبه ويجوزُ أن يرادَ به ظنُّ المؤمن فيما يتفرَّسُ فيه من أحوال الناس ونحوها فيكون من قوله قد كان في الأُمَم قَبْلَكم مُحَدَّثون فإن يكن في أُمَّتي أحدٌ فهو عُمَر وتلك ليست أحكامًا شرعية

ويجوزُ أن يُراد به ظن الأحكام الشرعية لكن لا يجوز الاعتمادُ على ظنِّه حتى يدلَّ عليه كتابٌ أو سنة أو ما استُنْبِط منها وهو قوله نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور 35] أي نور القرآن ونور الإيمان كما قيل هو المؤمنُ ينطقُ بالحقِّ وإن لم يسمع فيه بأثر فإذا سمع به فهو نور على نور ألا ترى أن عمر بن الخطاب كان أصوبَ الناسِ ظنًّا ومع هذا لم يعمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بظنِّه حتى نزلَ القرآنُ بموافقته ولم يكن يعملُ هو بظنِّ نفسِه حتى يتأمل دلالاتِ الكتابِ والسُّنة ويجوزُ أن يكون هذا في أمورٍ مخصوصة أو يكون إشارة إلى كثرةِ صواب المؤمنِ وقِلَّة خطئه والقاطعُ الذي يوجب صرفَ هذا الكلام عما استدلَّ به المصنِّف أن الإجماع منعقدٌ على أن كلَّ مؤمنٍ سوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنه يجوزُ عليه الخطأ في الأحكام الشرعية وأنَّ كلَّ أحدٍ يؤْخَذُ من قوله ويُتْرَك إلا رسولَ ربِّ العالمين وأن عامَّة الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدَهم هم سادات المؤمنين وقد أخطأوا في مواضع فإن احتجَّ محتجٌّ بذلك على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ لحكم الله لم يحسن الاحتجاجُ به على الأحكام لأن الخصمَ يقول حينئذٍ قولي صوابٌ وقولك صوابٌ فلا معنى لدعواك أن الصوابَ معكَ دوني أو لانتقال إلى قولك

الرابع أنَّ هذا الدليل معارَضٌ بمثله بأن يقال قد قال فلان خلافَ هذه المقالة فيكونُ قولُه حجةً لأنَّ ظنَّ المؤمنِ لا يخطئ وذلك يتأتَّى في كلِّ مسألةٍ خلافيَّةٍ قوله على أن قوله صلى الله عليه وسلم أصْحابي كالنجومِ بأيِّهم اقتديتم اهتديتم يدلُّ على ذلك فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن الاهتداء في الاقتداء وما هو بمثله من الإخبارات يدلُّ على كون المخْبَر عنه متحقِّقًا وإلا لكان الاقتداءُ بهم ضلالاً لا اهتداءً

هذا الحديث مشهور في أصول الفقه ووجه الاحتجاجِ به أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاقتداء بكلِّ واحد من الصحابة اهتداء فَيكونُ ما أخبر به متحقِّقًا لأنه لو لم يكن متحقِّقًا لكان نقيضُه متحقِّقًا وهو كون الاقتداء بهم ضلالاً لا اهتداءً هذا كلامُ المصنِّف وعليه مناقشة من وجوه أحدها قولُه وما هو بمثله من الإخبارات فإنَّا لا نعلم أخبارًا بمثل ما أخبر به في هذا الحديث الثاني قولُه يدلُّ على كون المخبَرِ عنه متحقِّقًا وإلا لكان الاقتداء بهم ضلالاً ليس بجيِّد فإن أخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم تدلُّ على ثبوت المخبَرِ به لأنه الصادق المصدوق ولا يحتاج تحقُّق مخبَرِه إلى أن يُسْتَدَلَّ عليه بدليلٍ منفصل الثالث قوله وإلا لكان الاقتداءُ بهم ضلالاً وهذا استدلالٌ على كون المخبَرِ عنه متحقِّقًا والمخبَرُ عنه أن الاقتداء بهم اهتداء فيكون تركيبُ الدليلِ الإخبارُ بكون الاقتداءِ بهم اهتداء متحقِّق لأنه لو لم يكن متحقِّقًا لكان الاقتداءُ بهم ضلالاً لا اهتداءً وهذا استدلالٌ على الشيءِ بنفي نقيْضِه بغير دليل لأنه يلزم من

كون الاقتداء اهتداءً أن لا يكون ضلالاً ويلزم من عدم كونِه ضلالاً أن يكون اهتداء فليس الاستدلالُ على أحدهما بالآخر بأولى من العكس الرابع يقال ولم قلتَ بهم لا يكون ضلالاً فإن قال للحديثِ المذكور فيقال له الحديثُ المذكور دليلٌ على أن الاقتداء اهتداء من غير توسيط هذا التلازم فأيُّ فائدةٍ في إثبات الشيءِ بنفي لازمٍ لا يمكن نفيه إلا بعدَ إثبات ذلك الشيء الملزوم فإن هذه المصادرة وهي غير جائزة الخامس لا نسلِّم أنه إذا لم يكن الاقتداءُ اهتداءً يكون ضلالاً فإنه بين الاهتداء والضلال مرتبةٌ ثالثةٌ وهي عدم الاعتقاد بالكلِّية فإنَّ المُهْتدي من اعتقد الحقَّ والضالُّ من اعتقد الباطل وأمَّا من لم يتكلَّم في الحادثة ولم يعتقد فيها شيئًا فليس بمهتدٍ فيها ولا ضالٍّ واعلم أن هذا الحديث قد يُحتجُّ به على أنَّ قولَ الصحابيِّ حجة لأنَّ الاقتداء به اهتداء كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد يُحتجُّ به على جواز تقليدِ كلِّ واحدٍ منهم وإن اختلفوا لعمومِ الحديث وربَّما احتجَّ به من قال كلُّ مجتهدٍ مُصيب وللناسِ عليه أَسْوِلة

أحدها القدحُ في إسناده الثاني أن المراد به الاقتداء بهم في الرواية لا في الرأْي يعني تصديقُ كلٍّ منهم فيما أخبرَ به عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاقتداءَ بكلٍّ منهم لا يكون اهتداء في كلِّ حالٍ إلا فيما أخبروا به عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تأويلُ المزني والثالث أن الخطابَ للعامة دونَ أهلِ الاجتهاد وهو بعيد إذ ليس في الحديث تخصيص الرابع أن المراد الاقتداء بكلٍّ منهم في جملةِ أُموره فإنهم متفقون في أكثر الأقوال والأفعال والخلافُ مغمور بالنسبةِ إلى الوفاق فمن اقتدى بكلٍّ منهم في جميعِ أمورِه كان مهتديًا على صراطٍ مستقيم غايةُ ما فيه أنه ربما يخطئ في قليلٍ من مسائل الفروع وللمخطئ فيها أجر وخطؤه مغفورٌ له وذلك لا يُخرجه عن أن يكون مهتديًا فإنَّ كلِّ واحدٍ من الصحابة مهتدٍ وإن كان قد أخطأ في قليلٍ من المسائل فإن الخطأَ القليلَ المغفور الذي يُثابُ معه الإنسان على اجتهادٍ لا يمنعه أن يكون مهتديًا وهذا والله أعلم وجهُ الحديث ولهذا شَبَّههم بالنجوم التي في السماء فإنها كلَّها أدلة وأعلام على الطريق لمن يقصد مكةَ أو غيرها من البلاد فبأيِّ نجمٍ اهتدى السَّاري دلَّه على بُغْيَتِه ومقصده وكذلك أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأيِّهم اقتدى المقتدي أوْصَلَه إلى صراطٍ

مستقيم ودلَّه على الله ودعاه إلى الحقِّ واعلم أنه لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث على أن قولَ الصحابيِّ حُجَّة مُلْزِمة بأن يقال اتِّباعُه في قوله اقتداء به لأن الاقتداء جَعْلُه قدوةً وإمامًا ومن اتَّبعه في قولِهِ فقد جعله قدوةً وإمامًا والاقتداءُ به اهتداءٌ بنصِّ الحديث فيكون موافقته في قوله اهتداء والاهتداءُ واجبُ الاتِّباع بالاتفاق ولأنه لو لم يجب القول بهذا الاهتداء لكان إما أن تُعَطَّل الحادثة عن قولٍ وهو غير جائز لمسيسِ الحاجة إلى الفتوى والحكم أو يقال فيها بخلاف الاهتداء وخلافُ الاهتداء ضلالٌ والضلالُ حرام ولأنَّ من لا يجعل قولَهم حُجةًَ يُجَوِّز أن يخالفوا وإنما تجوزُ مخالفتهم لمن يعتقد أن الصوابَ في قولِ غيرِ الصحابيِّ فيكونُ قولُ الصحابيِّ خطأً والخطأُ لا يكون هدًى ولأن قولَه الاقتداءُ به الاهتداء والاهتداءُ إصابةُ الحقِّ من قولك هديتُه أهدي هدًى إذا دللتَه على الحقِّ وبيَّنْتَه له وأرشدْتَه إليه فالمَهْدِيُّ هو المَدْلول على الحق المُرْشَد إليه المُبَيَّنُ له فإذا قَبِل تلك الدلالة فهو مَهْدِيّ فَعُلِمَ أن الاهتداءَ نفسُ إصابة الحق فعُلِم أنَّ قولَه صوابٌ ولا نعني بكونه حُجَّةً إلا هذا فإن قيل هذا منقوضٌ بما إذا اختلفوا أو خالف الواحد منهم نصًّا

قلنا الحديث إنما يدلُّ على الاقتداء بهم حال عدم التعارض لأنَّه شبَّههم بالنجوم والنجمُ إذا دلَّ على جهةِ القصد عُمِل بدلالته إلا أن تُعارضه دلالةُ نجمٍ آخر وتَرْكُ الدليل لمعارضٍ لا يمنع كونه دليلاً كأخبار الآحاد والأَقْيِسَة والعمومات وأسماء الحقائق والأمر والنهي وما هذا إلا بمثابة رَكْبٍ معهم هادٍ خِرَّيْت يُعَرِّفهم الطريق فإنهم يتَّبعونه إلا أن يخالفه هادٍ آخرُ خِرِّيت من جنسه فيحتاجون حينئذٍ إلى ترجيحٍ لقول أحدهما على الآخر فإنَّ هدايتَهم إلى طريقِ الحقِّ كهداية الأدلاَّءِ على طُرُق الدنيا فمقصود الحديث أنَّ كُلاًّ منهم هادٍ بطريقِ الحقِّ بصيرٌ به فمن اقتدى به اهتدى وليس من شرط الهادي الخِرِّيت أن لا يُخطئ قط فإنَّ لكلِّ عالمٍ عثرة وزلََّة ولكن ذلك لا يمنع الاقتداء به في غير ذلك فإذا لم يعارِضْه معارضٌ من جنسه سَلِمَتْ دلالتُه عن المعارضة فوجبَ اتِّباعُها ولو كان وجود قولِه كعدمِه في وجوبِ اتِّباعه وكونه دليلاً على الحكم لم يكن مجردُ الاقتداءِ به اهتداءً وحَمْلُ ذلك على الرواية فاسد لأنه لا فَرْقَ بين الصحابة وبين غيرهم من العدول في قبول الخبر ولأن الاقتداء بالشخص اتخاذُه إمامًا وقدوةً وليس ذلك فيما يرويه عن غيرِه وإلا لكان أكابرُ الصحابةِ مقتدين بأصاغرهم إذا قبلوا أخبارَهم ولَكَان الحُكَّام مقتدين بالشُّهود إذا قبلوا شهادَاتهم ولأنه شَبَّهها بالنجوم والنجومُ أدلةٌ

هادية وليست دلالتها من جهة الرواية فَعُلِم أنَّ الصحابة أدلة هادون يُسْتَدلُّ بهم كما يُسْتَدلُّ بالنجم ولأنَّ الاقتداءَ أعمُّ من قبول الرواية وهو نكرة في سياق الشرط لأن الفعل نكرة فيعم أنواعَ الاقتداء تقديرُه بأيِّ واحدٍ حَصَلَت لكم قدوةٌ به اهتديتم ولأنَّ القدوة إمام مُتَّبَع واتِّباعُه في الرواية ومخالفتُه في غيرها إخراجٌ له عن الإمامة وهذا ظاهرٌ لا خفاءَ به

فصل في الإجماع المركب

فصلٌ في الإجماع المركَّب اعلم أن الأدلة المركَّبة نوعان أحدهما في باب القياس وهو أن يقيس على أصلٍ مركَّب أو بوصفٍ مركب فأما القياس على أصلٍ مركب فأن يكون الحكم في الصورة واحدًا متفَقًا عليه ولكن عِلَّته مختلفة فهذا إن كان الأصلُ ثابتًا بنصٍّ أو بإجماع غيرِ مَبْنيٍّ على ذلك المأْخَذ فلا ريبَ أنه حُجَّة وأما إن كان الإجماع تبعًا لذلك المأْخَذ فهنا قد اختلفَ فيه الناسُ قديمًا وحديثًا فأكثر الفقهاء والمفتين لا يحتجون وأكثرُ الجدليِّين يحتجُّون به وقسَّمه بعضُهم ثلاثةَ أقسام قسم لا يُقْبَل في المناظرة ولا يجوز إسناد الفتوى والحكمِ إليه وقسم يُقْبَل في الفتوى والمناظرة وقسم يُقْبَل في المناظرة دون الفتوى فالأول ما لا يُشْعِر بفقه المسألة ولا بمأْخَذِها الحقيقي ولا بمناقضة الخصم مثال ذلك أن يُقال في مسألة اشتراط الوليّ أنثى فلا تُزَوِّج نفسَها

قياسًا على ابنة خمس عشرة فإنَّ أبا حنيفة يُسَلِّم أن ابنة خمس عشرة لا تزوِّج نفسَها لكن لأنها صغيرة عنده إذا لم تحتلم ولم تَحِضْ إلى ثمان عشرة وعند مخالفيه هي كبيرة وإنما لم تزوِّج نفسَها لوصف الأنوثة وكان القياسُ عليها عند هؤلاء أجود من القياس على الصغيرة فإنَّ وصْفَ الصِّغَر هناك مستقلٌّ بالحكمِ وضم الأنوثة إليه غير مؤثِّر فلذلك لم يقبَلْه عامةُ المركِّبيْن وهنا قَبِله بعضُهم فإذا قال الخصم العلةُ في الأصل أنها صغيرة وأنا أُعَدِّي ذلك إلى غير ذلك من الأحكام مثل منعها من التصرُّف والحَجْر عليها في المال قال له المستدلُّ ليست صغيرة بدليلٍ ذَكَرَه كحديث ابن عمر مثلاً ثم اختلف هولاء في جواب المستدلِّ من الفروع التي عدا إليها المعترض فمنهم من قال يكون منقطعًا بترك التزام تلك الفروع لأنه لو أقام الدليل على فسادها لكان انتقالاً من مسألة إلى مسألة وعلى هذا فتخِفُّ مؤنة المركِّب ومنهم من لم يجعله منقطعًا وهنا لم خَبْطٌ عظيم والإنصافُ أنَّ هذه الطريقة من أصلها

فاسدة كما ذهب إليه مُحَقِّقو الجدليِّين وعامَّة الفقهاء فإنَّ كَوْن ابنة خمسَ عشرة صغيرة أو كبيرة لا إشعار له بفِقْهِ مسألةِ الولاية في النكاح وإنما حاصِلُه يؤول إلى الاحتجاج بغلطِ الخصم في مسألةٍ إلى صوابِك أنتَ في مسألةٍ أخرى وقد حَكَوا الإجماعَ على أنه لا يصلح أن يكون مستندًا في الفتوى والحكم ومن هذا الباب أن يُقال حُليّ فلا تجب الزكاة فيه كحُليِّ الصَّبِيَّة أو يُقال مالُ غيرِ مكلَّف فلا تجبُ فيه كحُليِّ الصَّبِيَّة وأقبحُ من هذا أن يقيس على صورتين كما يقال قهقته في صلاته تُبطل وضوءه كما لو قَهْقَه ومسَّ ذكرَه أو مسَّ ذكرَه فانتقض وضوءُه كما لو قهقه ومسَّ فإنه في الأولى قاسَ على حادثةٍ واحدة اجتمع فيها الوصفان وهنا قاس على حادثتين القسم الثاني التركيب المقبول فُتيا وجدلاً وهو أن يشعر القياس بمأْخذ الحكم مثل قياس زكاة مال الصبي والمجنون على عُشْر أرضه وقياس أَخْذ الأطراف بالطرف على الأنفس بالنفس ونحو ذلك فإنَّ بين الأصلِ والفرْع هنا مناسبة ظاهرة لكنَّ المأخذَ عند أبي حنيفة أن العُشْر حق الأرض فهو كالخراج فإنَّ الأطراف

تجري مجرى الأموال فتعتبر فيها المماثلة فهنا للمستدلِّ أن يبيِّن صحَّةَ عِلَّته ويُعَدِّيها إلى فروعها ثم إن كان هذا إجماعًا من الأمة فهو حجة في نفسِ الأمر وإن كان إجماعًا بين المتناظرين فهو حجة إلزامية لا حجة حقيقية القسم الثالث المقبول جدلاً لا فتيا وهو ما أشعر بمناقضة المخالف ولم يُشْعِر بمأْخَذِ الحكم الذي يدَّعِيْه المستدلُّ وأما التركيبُ في الوصف فمثل أن يقول في مسألة لا يُقتل المسلم الذي من لا يقتل به إذا قتله بالمثقل لا يقتل به إذا قلته بالمحدَّد كالأب مع ابنه فإن هذا من جنس التركيب الأول فحاصله أن يُسْتَدل بعدم وجوبِ القصاص بالمثقَّل على عدم وجوبِه بالمحدَّد وعدم الوجوب بالمثقَّل عنده لعدمِ المكافأة وعند مُخالِفِه لوجودِ الشبهة ولو كان المصنِّف قَصَد التركيبَ في القياس لبسطنا القولَ فيه ولكنه إنما قصد الثاني وهو التركيب في الإجماع وهو تركيبُ قولِ العلماء في مسألتين بأن تقول طائفةٌ بالنفي فيهما أو بالإثبات فيهما أو بالنفي في إحداهما دون الأخرى بعكس ذلك في المسألتين فهل يجوزُ لمن بعدهم أن يقول بقول هولاء في مسألة وبقول الآخرين في مسألة

وقد تقدم القولُ في هذا عند النقض بالمركب وذكرنا ما حاصله أن أهل الإجماع إن صرَّحوا بالتسوية لم يَجُز التفريق بين المسألتين إلا عند طائفة قليلة وإن لم يصرَّح بالتسوية فالجمهور على جواز التفريق بين المسألتين بأن يوافقَ هولاء في مسألة وهولاء في مسألة وذهبَ طوائفُ من الفقهاء إلى أنَّ مأْخَذَ الحكمِ إذا كان واحدًا لم يَجُز التفريقُ وعلى هذا القول ينبني ما ذكره المصنِّف وهو قولٌ قويٌّ في الجملة في بعض المواضع وأما إن كان المأْخَذُ مختلفًا فجوازُ التفريقِ قولُ عوامِّ الخلائق ولم يعتمد على وجوب التسوية إلا شُرَيْذِمَةٌ من متأخِّري الجدلِيِّين وكلامُ المصنِّف وضُرَبائه من الجدليِّين يقتضي سلوكَ هذه الطريقة كما تقدَّم ذكره في القياس قولُه وهو اتفاق الطرفين بعلتين مختلفتين كما يقال لو جاز نكاح الثيِّب الصغيرة لما جاز نكاح البكر البالغة لأن الإجماع منعقدٌ على انتفاءِ هذا المجموع وهو الجواز هنا مع الجواز ثمة على أن الاختلاف في القولين اتفاقٌ على بطلان قولٍ ثالث كما في النظائر

يقول هو اتفاق الطائفتين طائفة المستدلِّ وطائفة المعترض على أمر من الأمور لكن بعلتين مختلفتين كالمثال الذي ضربه فإن أبا حنيفةَ ومن وافقَه كرواية عن أحمد يقول الموجب للإجبار هو الصغر فتُجْبَر الثيِّب الصغيرة ولا تُجْبَر البكر البالغة والحجازيون يقولون الموجب للإجبار هو البكارة فتُجْبَر البكر البالغة ولا تُجْبَر الثيِّب الصغيرة فالقائل قائلان قائل بالجواز هنا دون الجواز هناك وقائل بالعكس وهذه المسألة التي فَرَضها إجماعًا بين الخصمين فقط فهي تصلح للجدل الإلزامي وهو غير الجدل العلمي لأن من العلماء من يقول كلٌّ من الصغر والبكارة موجِبٌ للإجبار فتُجْبَر البكر البالغة للبكارة والثيِّب الصغيرة للصغر كرواية معروفة عن أحمد ومنهم من يقول الموجب للإجبار مجموعُ الوصفين فلا تُجبر إلا البكر الصغيرة خاصة فأما الثيِّب أو البكر البالغة فلا تُجْبَر وهذه رواية رابعة منصوصة عن أحمد وفي الجملة فهذا من أجود الإجماعات المركَّبة وهو حجة عند كثير من الفقهاء وفي الحقيقة ليس بإجماع لأنه لو نظر ناظرٌ فرأى صحةَ العِلَّتين حتى قال بالجواز فيهما أو صحَّة مجموع العِلَّتين حتى قال بالنفي فيهما لم يكن هذا محالاً

مثال ذلك اختلافهم في أن علة الرِّبا هي التماثل أو الطَّعْم فلو قال قائل المجموع هو العلة كما هو قول ابن المسيب وقول الشافعي ورواية عن أحمد لم يكن مُحالاً ولو فرضنا أنه قام دليل على صحة التعليل بكل واحد من تلك العلل لم يكن الأخذُ بذلك مخالفًا للإجماع فمن أنعم النظر على صِحَّة قول أكثر الفقهاء في أنه يجوز أن يُؤْخذ بقول هولاء في مسألة وبقول هولاء في مسألة فإنَّ العصمة مضمونة للأمة فيما اتَّفقوا عليه وهم اتفقوا في كلِّ صورة على قولين والمخالفُ لا يخرج عن ذَيْنِك القولين ولم يتفقوا على انحصار المأْخّذ في كذا أو كذا أو على التسوية بين الصورتين وفي الجملة المسألة في محلِّ النظر وللكلام فيها مجالٌ رَحْب وحُجَّةُ من يحتجّ بهذا الإجماع المركَّب فيقول الإجماعُ منعقد على انتفاء المجموع وهو الجواز في الموضِعَيْن لأن القائل قائلان قائل بالجواز هناك دون الجواز هناك وقائل بعكس ذلك فيهما فالجواز في الموضعين أو عدمه فيهما منتفٍ بالإجماع والاعتراضُ عليه أن يقال لا نُسَلِّم أن الإجماع منعقد على انتفاءِ المجموع لأن الإجماع اتفاق أهل الحلِّ والعقد على حكم حادثة وهم لم يتفقوا على امتناع اجتماع هذين ولا على لازمهما وليس ذلك من لوازم اجتماعهم وإنما هو اتفاق عارض لإجماعهم كما لو كان أحدُهم بالشام والآخر بالحجاز ونحو ذلك من الأوصاف

العديمة التأثير فإن أحدهم قال تُجْبَر الصغيرة ولا تُجْبَر الكبيرة والآخر قالَ تُجْبَر البكر ولا تُجْبَر الثيِّب فمن قال تُجْبَر الصغيرة أو البكر أو لا تُجْبَر إلا الصغيرة البكر لم يخرج عن أقواله إذا لم ينطقوا بإجماع الملازمة قوله على أن الاختلاف في القولين اتفاق على بطلان قول ثالث كما في النظائر اعلم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين كالتحريم والتحليل لم يَجُز إحداث قول وهو الإيجاب أو الندب وكذلك لو قالوا بالإيجاب والاستحباب لم يَجُز إحداث قول ثالث بالتحريم أو الكراهة أو استواء الطرفين هذا مذهب جميع العلماء من الفقهاء وغيرهم إلا شرذمة لا خَلاقَ لهم من المتكلِّمين زعموا أنه يجوز إحداثُ قولٍ ثالث لأنه لا إجماع مع الاختلاف ولا يخفى على من له أدنى بصر أنَّ هذا قولٌ فاسد لأنهم إذا أجمعوا على الأضحية فقال بعضُهم هي واجبة وقال بعضهم هي مستحبة أو الوتر فمن قال بعد ذلك الأُضحية أو الوتر مكروهٌ أو مباح مستوى الطرفين لزم من قوله أن تكون الأمة مُجْمِعين على الخطأ لأن هذا القولَ الثالثَ إن كان صوابًا وقد أفتى كلٌّ بخلافه فقد أفتى كلٌّ منهم بضدِّ الصواب وضدُّ الصواب خطأ فكلٌّ من الأمة قد أخطأ في عين هذه الواقعة ولا معنى لكونهم مُجْمِعين

على الخطأ إلا هذا فعُلِمَ أنه خطأ وأن كلاًّ منهم يعتقد أنه خطا فقد أجمعوا على أنه خطأ وهذا ظاهرٌ لا خفاءَ به وكذلك إذا اختلفوا في الغِناء المُجَرَّد فقال قائل إنه محرم وقائل إنه مكروه وقائل إنه مباح فمن زعم أنه مُسْتحبّ أو واجب فقد خرق الإجماع وخرج عن قول الأمة لكن احتجاجه بهذا في هذه المسألة ليس بمستقيم لأن الاختلاف على قولين اتفاق على بطلان قولٍ ثالث وموافقةُ هولاء في بعض الصور وهولاءِ في بعض الصور ليس قولاً ثالثًا بل هو قولٌ مركَّبٌ من القولين فإنَّ من كان معه كيسان في أحدهما عَيْنٌ وفي الآخر وَرِقٌ فأخذ بعضَ هذا وبعضَ هذا فجعله في كيسٍ ثالثٍ لم يكن ما في ذلك الكيس خارجًا عما في الكيسين ولا مخالفًا لهما بخلاف ما لو وضع فيه فلوسًا قوله ولئن قال المجموع متحقِّق بالإجماع ضرورة تحقَّقَ الجوازُ عندكم في تلك الصورة وعندنا في هذه الصورة فنقول ما ذكرتم مُعارَض بمثله بخلاف ما ذكرنا لأنا نتمسَّكُ بقول كلِّ واحدٍ من المجتهدين على انتفاء المجموع حاصله أن المعترض يقول المجموع وهو الجواز في الموضعين متحقِّق بالإجماع لأنَّ الحجازيَّ يقول بالجواز في البِكْر البالغة والعراقيَّ يقولُ بالجواز في الثيب الصغيرة فقد أجمعوا على

الجواز في الموضعين ولاشكَّ أن هذا كلامٌ فاسد لأن تحقُّق الشيءِ المركِّب بالإجماع إنما معناه أن يتحقَّق كلُّ جزء من أجزائه بالإجماع فأما تحقُّق بعضِ أجزائه بقول مجتهد وتحقُّق الجزءِ الآخر بقول مجتهدٍ أخر فليس هذا تحقُّقًا له بالإجماع وإنما هو تحقُّقٌ لكلِّ جزءٍ من أجزائه عند العلماء وهذا لأن الذي قال بالجواز هنا ليس هو الذي قال بالجواز هناك وإنما هو آخر فصار هذا قائلاً بالجواز هنا وذاك قائلٌ بالجواز هناك فلم يُجْمعوا على الجواز لا هنا ولا هناك ولهذا عارَضَه المستدلُّ بمثل كلامه بأن يقال المجموعُ منتفٍ بالإجماع لأن الحجازيَّ يقول بالنفي في الثيب الصغيرة والعراقيَّ يقول بالنفي في البكر البالغة فصار هذا الإجماع وهو قول كلِّ طائفة في صُوَرٍ يصحُّ ادعاؤه في النفي والإثبات فلا يكون حجة لأنَّ الحجة لا تدلُّ على النقيضين بخلاف الإجماع المركَّب فإن كلاًّ من المجتهدين قال بالنفي في صورةٍ والإثبات في الأخرى فمن ادعى الإجماع على نفي المجموع أو ملازمة النفي الإثباتَ فقد أخذَ بقولِ كلِّ مجتهد لأن كلاًّ من المجتهدين يقول الإجماعُ غير ثابت والاعتراضُ عليه على طريقة أكثر الفقهاء أن يُقال قولُ كلِّ واحدٍ من المجتهدين إن المجموع غير ثابت معناه أنَّ هذين الجوازَيْن غير ثابِتَيْن وأما الثابت جواز إجبار البكر البالغة فقد

أجمعوا على نفي المجموع لاعتقادِ كلٍّ منهم ثبوتَ أحدِ الجوازَيْن وانتفاء الآخر فكان إجماعًا اتفاقيًّا فإذا وافقَ هولاءِ في ثبوت أحدهما والآخرين في ثبوت الآخر أو بالعكس فقد زالَ الأمر الاتفاقي ولم يخرج عن الإجماع الحقيقيِّ

فصل في الاستصحاب

فصلٌ في الاستصحاب اعلم أنَّ استصحاب الحال اسمٌ عامٌّ جامع يدخل فيه أنواع كثيرة وهو في الأصل نوعان أحدهما الاستصحاب في أعيان الأحكام وأشخاصها وأنواعها التي لا تختلف إلا بالعدد بحيث يكون المشكوك في وجوده أمرًا شخصيًّا لا يُسْتَدل على ثبوته وانتفائه بالأدلة الشرعية كما إذا تيقَّن طهارةَ هذا الثوب أو البدن أو تيقَّن نجاسته أو تيقَّن الحدث وشكَّ في الطهارة أو ثبتَ أنَّ الملك لزيدٍ وأنَّ الدَّيْن على عمرو وإبقاءُ ما كان على ما كان مما أجمعَ عليه العلماء بل العقلاء كلُّهم فإن أمور الدين والدنيا إنما تتمُّ بالتمسُّك بالاستصحاب فإنَّ الإنسان يبعث مالَه في الطرقات ويَرْكب البحار ويُرْسِل إلى الأصدقاء الغائبين ولولا التمسُّك بالاستصحاب لما جاز فِعْل شيء من ذلك لأن جواز التغير ممكن نعم فقد تظهر أمارة تدلُّ على تغيُّر الحال فقد اضطربَ الفقهاء هل يُقَدَّم الأصل أو الظاهر لأن موارد الشريعة ومصادرها انقسمت في ذلك وإن كان ترجيح الظاهر أقرب في أكثر المواضع والضابِطُ عندنا أنَّ الظاهر إن كانت له دلالةٌ مضبوطة في الشرع كالبيِّنَة

والإقرار ونحو ذلك قُدِّم على الاستصحاب وهو براءة الذِّمَّة واختلف الفقهاءُ في مواضع هل يُعْمَل فيها بالاستصحاب لكونه يتضمن يقينًا آخر كذهاب مالكٍ إلى أنَّ من تيقَّنَ الطهارة وشكَّ في الحدث لا يدخل في الصلاة بطهاةٍ مشكوكة وكذهابه في أبواب الطلاق إلى أشياء تُخالف البناءَ على الاستصحاب احتياطًا للأبْضاع وربما تعارض استصحابان فيتردَّدُ الفقهاء في تقديم أحدهما كما لو علَّق الطلاقَ على أمرٍ عدميٍّ بأن يقول إن لم أفعل اليومَ كذا فهي طالقٌ ويمضي اليوم ويشك في فعله فبالنظر إلى أن الأصل بقاء النكاح لا يزول بالشَّكِّ وكذلك لو قَدَّ ملفوفًا في كساء أو قَلَع عينًا واختلفَ الجاني وولي المجنيِّ عليه في الحياة أو الصحة فبالنظر إلى أن الأصل الحياة والصحة يُقدَّم قولُ وليّ الجناية والمختارُ في هذه المواضع تقديمُ الأصلِ الطارئ فيُقَدَّم قول وليِّ الجناية لأن براءةَ الذمة زالَ حكمُه بحدوث الجناية وبقاءُ الحياة لم يظهر بعده أصل تغيره

وبالجملة فالكلام في أنواع الأحكام التي لا تختلف آحادُها إلا بالشخص والعدد وظيفةُ الفقيه والكلامُ في أعيانها وأشخاصها التي لا تعدُّدَ فيها وظيفةُ المفتي والحاكم والعملُ باستصحابِ الحالِ في أنواع الأحكام وأعيانها متَّفَقٌ عليه بين العلماء النوع الثاني استصحاب الحال في أجناس الأحكام وهو إيجاده دليلاً من أدلة الشرع التي يثبت بها التحليل أو التحريم أو نفي الوجوب أو نفي التحريم بحيث يمكن أن يقومَ دليلٌ شرعيٌّ على بقاء الحال الأول أو على زوالها وهذا النوع أقسام لأنه لا يخلو إما أن يكون استصحابًا لمدلولِ دليلٍ شرعيٍّ أو استصحابًا لمدلول دليلٍ عقليّ والدليلُ الشرعيُّ إما بالنصُّ أو بالإجماع الأول استصحاب حكم الخطاب حتى يَرِد ما يغيره مثل استصحاب حكم الأمر حتى يَرِد ما يدلُّ على أنه على الاستصحاب واستصحاب حُكم العمومِ حتى يَرِد المخصِّص واستصحاب الحُكم حتى يَرِد ما ينسخه فهذا معلولٌ به عند جميع الفقهاء وعامَّتُهثم لا يُدْخِلونَه في باب الاستصحاب وإنما ادخلَه بعضُهم وفي إدخاله نظر القسم الثاني استصحاب حال الشرائع الماضية فإنَّ عامَّةَ الفقهاء على أنَّ شَرْع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يَرِد في شرعنا ما ينسخُه ثم اختلف هولاء فقيل هو من باب استصحاب الحال لأنَّا

نَسْتَصْحِب حُكْم تلك الشرائع إلى أن يَرِد في شَرْعِنا ما يُغَيِّره كما يُسْتَصْحَب حُكْم شرعنا حتى يَرِدَ الناسخُ وقيل ليس من باب الاستصحاب لأن تلك الأحكام إنما لزمنا اتباعها بشرع الله إياها لنا وأمرنا باتباعها فلم يكن مجرَّد شرعنا في تلك الشرائع كافيًا في تَمَسُّكنا بها إلا بأمرٍ من الله لنا وليس هذا باستصحابِ حالها بل هو تمسُّكٌ بشرعنا وهذا القول أصح القسم الثالث استصحابُ حال الإجماع مثاله أن يُقال في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة أجْمَعْنا على صِحَّة صلاتِه قبل رؤية الماء والأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان فهذا مما اختلفَ فيه الفقهاءُ قديمًا وحديثًا فذهب خلائقُ منهم إلى أنه لا يُحتجُّ به لأن الصورة التي أجمعوا عليها قد زالت والتمسُّك باستصحاب حالِ دليلٍ مع عِلْمِنا بزواله غيرُ جائز كمن يستصْحِبُ حالَ النهار بعد غروب الشمس ومقتضى قول هولاء أنه لو دلَّ دليلٌ غير الإجماع من نصٍّ أو فعلٍ على حكمٍ في صورة لم يجب استصحاب حالِ ذلك الحكم بعد تغيُّر الصورة التي تناولها النص لأنهم يمنعون من الاستصحابِ في كلِّ موضعٍ عُلِمَ أن دليلَ الحال الأولى يختصُّ بها ولا تشمل الحال في الزمن الثاني

وذهبَ طوائف منهم إلى قبوله ولعلَّ هذا هو الغالب على الأوَّلين من الأئمة إن كان القولُ الأوَّل محكيًّا عن جماهير الفقهاء وذلك أنَّ الحكم إذا ثبتَ في محلٍّ فالأصلُ بقاؤه على ما كان عليه سواءٌ فُرِض تناول الدليلِ له أو عدم تناوله لأن بقاءه لا يستدعي إلا مجرَّد البقاء أما زواله فيستدعي زوالَ الحال الأولى وحدوث الحال التي تضادّها وبقاء الحال الثانية وما يتوقَّف على ثلاث مقدِّمات يكون مرجوحًا بالنسبة إلى ما يتوقَّف على مقدّمة واحد ولأن ظنّ التغيُّر سيُعارَض بظنِّ التقرُّر فيبقى ما يقتضي استصحاب الحال الأولى سالمًا نعم زعم بعضُ الناس أنَّ هذا تمسُّكٌ بالإجماع وهذا غلط وكذلك من اعتقد أن التمسُّكَ بالاستصحاب هو تمسُّكٌ بالدليل الدالِّ على ثبوت الحال الأولى فهو غالط إذ لو علمنا دلالة الدليل على الحال الثانية لتناوبت الحال الأولى في الثبوت وحينئذٍ يُسْتَغنى عن الاستصحاب ولا خلاف بين الفقهاء المعتبرين أنه آخر الأدلة بحيث لا يجوز العملُ به إلاَّ بعد الفَحْص التَّامِّ عن الدليلِ الناقِل المُغَيِّر ثم قوَّتُه وضعفُه بحسب قوَّة الاعتقاد بعدم الناقلِ وضعفِه فإن فُرِض القطعُ بعدمِ الناقل وجبَ القطعُ بمضمون الاستصحاب وعند الفقهاء المعتبرين أن القياسَ الصحيحَ مُقَدَّمٌ على استصحاب الحال وكذلك الظواهرُ كلُّها من العموم والأمر

وأما أهلُ الظاهر فيقدِّمون الاستصحابَ على القياس ومَفْزَعُهم في عامَّة ما ينفونه من الأحكام الاستصحابُ كما أن مَفْزَع كثيرٍ من القياسيِّين الطرْدِيَّات والشُّبُهات القسم الرابع استصحابُ حالِ دليلِ العقل وهو ضربان أحدهما من اعتقد أن الأعيان قبل الشرع على الإباحة أو التحريم فقد اختلفوا في استصحاب حكمِ هذا الدليل بعد الشرع وأكثرهم يستصحبونه وكذلك من اعتقدَ وجوبَ أشياءَ بالعقلِ فإنهم يستصحبون إيجابَها حتى يدلَّ الشرعُ على عدمِ ذلك ولا يكاد يتأتَّى عندهم الضرب الثاني استصحابُ حال دليل العقل في براءة الذمم من التكاليف التي لا يدل عليها مجرَّد العقل إما لكونه لا يستقلُّ بالإيجاب كما هو قولُ جماهير أهل السنة أو لأنه قصَّر عن دَرْك إيجابها كما هو قول طوائف من الناس وهذا كالاستدلال على نَفْي وجوبِ الوتر والأضحية ونحو ذلك فهذا حُجَّة عند جماهير الفقهاء حتى حكاه غيرُ واحدٍ إجماعًا من العلماء وذهبَ بعضُ الحنفية وبعضُ المتكلِّمين إلى أنه ليس بحجة وقالوا هو تمسُّكٌ بالجهل وقال بعضهم هو حجة فيما بين العبد وبين الله ولا يصلح الاحتجاجُ به في المناظرات والذي عليه الناسُ القولُ الأوَّل

وهذه الأحكام المستصحبة من دليل العقل تُسَمَّى أحكامًا عقلية وتُسَمَّى أحكامًا شرعية أيضًا لأن الشرع قَرَّر ما عُلِم بالعقل فيها وقد يُسْتَدل على نفي الواجبات أو المحرمات بطريق آخر بأن يُقال الوجوب أو التحريم حُكْم شرعيٌّ ثبوتي والأحكام الشرعية الثبوتية لا تثبت إلا بدليل شرعي وليس على ذلك دليل شرعي لأن الأدلة الشرعية منحصرة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس وتوابع ذلك وكلُّها منتفٍ في هذه المسألة وهذه أيضًا طريقةٌ صحيحة لكن مدارُ الأمرِ في هاتين الطريقتين على إمكان نفي الناقل المُغَيِّر أو الموجِب والمحرِّم فإن قطَعَ بعدمِهِ كما يقطع بعدمِ ما يوجبُ شهرًا ثانيًَا وما يوجب صلاةً سادسة تساوي الخمس وما يوجب أكثر من الزكاة المفروضة أو حجّ بيتٍ أخر قَطَعْنا بعدمِ الوجوب وإن كان مَدْرَك النفي ظنِّيًّا كان الظنُّ بحسب مَدْركه ويُبْنَى على هاتين الطريقتين أنَّ النافي للحكم هل عليه دليل أم لا والمسألةُ لفظية والمشهورُ أنَّ عليه دليلاً كالمثْبِت لأنه يمكنه التمسُّك باستصحاب الحال أو بعدم الأدلة الموجبة وقيل ليس عليه بناءً على أنَّ الأصلَ عدمُ يُثبته والأصل النَّافي ليس بدليل وقيل عليه الدليل في العقليَّات دون الشرعيَّات لأن الشرعيَّات لا يجوزُ ثبوتها إلا بدليل لأن إثباتها من غير دليل تكليفٌ لما لا يُطاق

بخلاف العقليَّات فإنه ليس في ثبوتها بغير دليل ضررٌ لأنَّا لسنا مكلَّفين بنفي كلّ ما لا نعلم ثبوتَه من الأمور العقليَّةِ وقد علمتَ بهذا التوجيه أنَّ الخلاف لفظيٌّ ومما يتَّصل بذلك جوازُ نفي الشيءِ لانتفاء دليلِ ثبوته فزعم من لا يقول بالاستصحاب أن هذا ليس بدليل لأن مبناه على عدم العلم وذهبَ كثيرٌ من المتكلِّمين أن ما لم يقم عليه دليلٌ من الأمور الدينية يجبُ نفيُه لأنَّ التكليفَ بدون الدليل مُحال فَعَدَمُ دليلِ ثبوتِه دليلُ عدمِ ثبوتِه والذي عليه الفقهاء وعامة المحقِّقين أن الأحكام الشرعية مثل الإيجاب أو التحريم يجبُ نفيها لانتفاء دليل ثبوتها لما ذكرناه من طريقتي الاستصحاب وامتناع ثبوت الحكم بدون دليل وأما الأمور الحقيقيّّة مثل صفات الباري ونحو ذلك فلا يجوز نفي شيءٍ منها لعدم ما يدلُّ على ثبوته لجواز أن يكون ثابتًا من غير دليل يدلنا على ثبوته ولا يمتنع ذلك إذا لم نكن مكلَّفين باعتقاد ثبوته أو نفيه وليس الأصلُ عدمَه حتى يُتَمَسَّك فيه بالأصل النافي إذ ما وجبَ قِدَمُه امتنع عَدَمُه ولأن التمسُّك بالاستصحاب في الاعتقادات ليس بجائز ومما يتعلَّق بالاستصحاب أن الأمور على قسمين أحدهما ما علمنا أنه كان معدومًا في الأزل فهنا يجوز

الاستدلال على بقاء عدمه باستصحاب الحال والثاني ما لم يُعْلَم أنه كان معدومًا في الأزل فهنا لا يجوزُ التمسُّك بالأصلِ النافي واستصحابُه لأن ما لا يُعْلَم عدمُه يجوز أنه كان موجودًا ويجوز أنه كان معدومًا ولا رُجحان لأحد الطرفين على الآخر وبعضُ الناس قد يتمسَّك بالأصل النافي في نحو هذا والصوابُ الأول إلا إذا استدلَّ على نفيِ اعتقادنا ثبوتَه وكان الغرض يحصل بذلك فهنا يُقال الأصلُ عدم علمنا بوجوده ولم يقم ما يدلُّ على وجوده فيجب استصحاب حال هذا العدم إذا عرفت استصحابَ الحال فعبارةُ المناظر تختلف في صَوْغه والاستدلال بعدم المُوْجِب بلقبٍ يحصر المدارك ونفيها ويخص الآخر بالاستصحاب ومقصودهما واحد ووجه الاستدلال به أن الشيء متى تحقَّق أنه على حال كان ظنُّ بقائه على تلك الحال راجحًا على ظنِّ زوالها إذا قطَعْنا النظر عن العلمِ بما يوجب البقاء وما يوجب الزوال لا سيما إذا كان أمرًا عدميًّا فإنَّ بقاءَ عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلاً أما زوال عدمه بضدٍّ وجوديٍّ فإنه يفتقر إلى إزالة ذلك العدم بإيجاد ذلك الأمر الوجوديّ وإلى بقاء ذلك الأمر الوجودي ومعلومٌ أن ما لا يَفْتَقر تحقُّقُه إلى شيء فإنَّ تحقُّقُه راجح على ما يفتقر تحقُّقُه إلى سببٍ أو سببين

قوله وهو على نوعين أحدهما استصحاب الحال كما يقال كان فيستمرّ مثالُه في مسألة المنفرد عدمُ وجوب الكفارة عليه في الماضي من الزمان مما يوجبُ العدمَ في هذا الزمان أو في سائر الأزمان أو يقال العدم متحقِّق في أحد الزمانين فوجبَ أن يتحقق في الحال أو في سائر الأزمان وإلا لوجبَ في زمان لم يجب في ذلك الزمان بدليل السَّالم عن المعارض القطعي اعلم أنَّ الاستدلال باستصحاب الحال حيث لم يقم سبب الوجود دليلٌ حسن كالاستدلال به في مسألة وجوب الوتر والأُضحية أو مسألة قراءة الفاتحة أو مسألة نقض الوضوء بمسِّ الذَّكَر أو بالقَهْقَهَة أو مسألة إيجاب الغُسْل على الكافر إذا أسلم أو مسألة وجوبِ الكفَّارة على الحامل والمرضع ونحو ذلك من المواضع التي يُنْفَى فيها وجوبُ أمرٍ من الأمور التي يُعْلَم قيامُ سبب الوجوب لها أمَّا الاستدلال به في موضع سَلَّمَ المستدلُّ فيه قيامَ سببِ الوجوب فهو قبيح كالاستدلال به في نفي زكاة الحُلِيّ أو نفي الزكاة على المدين أو نفي الكفارة على المنفرد برؤية الهلال وذلك أنه قد وقع الاتفاقُ على أنَّ الجماعَ في الجملة موجبٌ للكفارة وأنَّ الذهبَ والفضةَ تجبُ فيهما الزكاة وإنما النافي يدَّعي أن حصولَ شُبهةِ الانفراد مانعةٌ من إيجاب

الكفَّارة وأنَّ صّرْفَ الذهب إلى استعمال مُباحٍ مانعٌ من الوجوب فلا يصحُّ استدلالُه على ذلك بالاستصحاب لأن حكمَ الاستصحاب قد بَطَل بقيام هذا السبب والمستدلُّ يستدعي قيامَ أمرٍ وجوديٍّ مَنَعَ ثبوتَ حُكْم السبب فعليه بيانُه وهكذا يجب القول في كلِّ مسألةٍ فيها نفي الإيجاب إن كان انتفاؤه لانتفاء السبب فقد صلح الاستدلالُ باستصحاب الحال وإن كان انتفاؤه لوجود مانعٍ يمنع السبب أو يمنع الحكم فلابدَّ من إثبات ذلك المانع الذي هو مستنده في نفس الأمر فإنه لم يعتقد الانتفاء من استصحاب الحال والمناظرةُ إظهار أدلة الحكم فإذا لم يكن هذا دليلاً له لم يَجُز أن يلزمَ المعترض اتباعُه وأيضًا فإنَّ الأصلَ الذي هو الاستصحاب قد انفسخ بقيام ما يقتضي الإيجاب فإنْ لم يُبَيَّن لم يُفسخ هذا المقتضي أو يُمنع اقتضاؤه وإلا فهو كالمستدلِّ على نفي الإيجاب أو التحريم بالأصل النافي بعد قيام دليل الإيجاب أو التحريم إذا تبيَّن لك هذا تبيَّن ضعفُ الاستدلالِ بالاستصحاب في مسألة المنفرد لكن في الجملة قد يتَّفِق الاستدلالُ به في المناظرة لكون المستدل لا يعترف بقيام السبب ونحن نتكلَّم على كلام المصنف قال عدمُ وجوب الكفَّارة عليه في الماضي من الزمان مما

يوجبُ العدمَ في هذا الزمان وعدم الوجوب في هذا الزمان وعدم الوجوب متحقِّقٌ في الماضي فتحقَّقَ موجبه لأن عدم الوجوب كان متحقِّقًا في الزمان الماضي قبلَ جِماعِه أو في الزمان الماضي قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم فتحقَّقَ في هذا الزمان لأنَّ عدمَ الوجوبِ إن أوجبَ العدم في هذا الزمان فهو المدَّعَى وإن لم يوجبه في جميع الأزمان لما سيأتي قال أو يُقال العدمُ متحقِّق في أحدِ الزمانَيْن وذلك يوجبُ تحقُّقَه في الحال أو في سائر الأزمان لأنه إن كان متحقِّقًا في الحال فهو أحد الزمانين وذلك يوجبُ تحقُّقَه في الحال وإن كان متحقِّقًا في الماضي فذلك يوجب تحقُّقَه في سائر الأزمان وذلك هو الزمان الآخر لأنه لو لم يتحقَّقْ في جميع الأزمان لتحقَّق نقيضُه وهو الوجوب في زمان من الأزمان ولم يجب في ذلك الزمان بالأصل النافي للوجوب السالم عن معارَضة القطعيِّ واعْلم أن هذا النظر مستدرك لأنَّ مقدمةَ الدليل إذا لم يكن إثباتُها إلا بما يثبت الحكمَ كان ذكرها ضائعًا وهو لا يمكنه نفي وجوبِه في زمنٍ من الأزمان إلا بالأصل النافي والأصلُ النافي ينفي الوجوبَ في الحال كما ينفيه في زمنٍ من الزمان

وأيضًا فقوله يوجبُ العدمَ في هذا الزمان أو في سائر الأزمان أو يوجب أن يتحقَّقَ في الحال أو في سائر الأزمان أن أُرِيْد تغيير العبارة يعني يقول المستدلُّ أيَّ اللفظين شاء فقريب وإن أراد به الأمر فالترديد لا يكون بين شيئين كلٌّ منهما يستلزمُ الآخر لأنَّ الترديد إما أن يقصد به امتناع الجمع والخُلُو أو امتناع الجمع أو امتناع الخُلُوّ وعدمُ الوجوبِ في هذا الزمان وفي سائر الأزمان لا يصحُّ أنْ يُقال يمتنعُ اجتماعُهما لأن اجتماعهما ممكن بل واقع ولا يصح أن يُقال يمتنع خُلُوُّ الحالِ عنهما لأنَّ ذلك إنما يكون في شيئين يجوز وجودُ أحدهما وعدم الآخر فيقال لا يخلو الأمر عن هذا أو هذا فأيهما فُرِض عدمُه لزم وجودُ الآخرِ وهنا العدم في هذا الزمان وسائر الأزمان متلازمان وأيهما تحقَّقَ تحقَّقَ معه الآخر ولا يصحُّ أن يُقال لكن عُدِم هذا فوُجِدَ هذا أو عُدِم هذا فوُجِدَ هذا قولُه والمسطور في أصول الفقه أنَّ الحالَ يصلح حجة للدفع وإبقاء ما كان على ما كان دون الإثبات والثابتُ هذا لاشكَّ أنَّ الاستصحاب لا يقتضي حكمًا جديدًا ولا وصفًا حادثًا فإنَّ ذلك تغيير وليس بتقرير وذلك أن استصحاب الحال استفعالٌ من الصُّحْبة والاستفعَالُ طلب الفعل كأنَّ المستدلَّ طلبَ أن

يصحبه الحال الأولى وتبقى معه وتدوم فالاستصحابُ والاستبقاءُ والاستدامةُ شيءٌ واحد وأكثر ما يُسْتدلُّ بها في استصحاب النفي المعلوم بالعقل أو في نفي ما لا يثبت إلا بالشرع كما تقدَّم من الاستدلال بها في نفي الوجوب وأما الإثبات فإن عني به إثباتًا جديدًا فلا دلالةَ للاستصحابِ على ذلك وإن عَنَى به إثباتًا مُسْتَدَامًا فهذا قد اختلف الناسُ فيه هل يمكن الاستدلال عليه بالاستصحاب كالاستدلال على بقاء الأحكام الثبوتية المعلومة بنصٍّ أو إجماع وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك وبيَّنَّا أن الأَوْحجَه إمكانُ الاستدلال بها لكن الخلاف في ذلك مشهور وبعضُ الناسِ يقول جمهورُ الفقهاءِ على عدم الاستدلال بها وقولُه والثابتُ هذا كأنه يعني به أن هذا القول هو الثابت المعمولُ به وليس هذا موضعَ استقصاءِ القولِ في ذلك قوله والثاني استصحاب الواقع كما يقال كان فيبقى على التقادير الجائزة اعلم أن هذا اصطلاحٌ لأهل الجدل يُقَسِّمون الاستصحاب إلى استصحاب حال وهو استدامة ما تحقَّقَ في الزمن الأول في الزمن الثاني

واسْتِصْحاب الواقع وهو استصحابُ ما هو واقع في نفس الأمر على كلِّ تقدير لا ينافيه أو على كلِّ تقديرٍ جائز وإنما فتحوا هذا الباب لكثرة استعمالهم التقديرات التي تنشأ منها المغالطات وفي الجملة فهي قاعدة صحيحة لأنَّ كلَّ ما هو واقع في نفس الأمر فإنه واقع على كلِّ تقدير لا ينافيه فهي قاعدة برهانية كقولنا الأصلُ في كلِّ ثابتٍ بقاؤه على ما كان ما لم يُغيِّره مُغَيِّر وذلك لأنَّ الشيء إذا كان واقعًا في نفس الأمر فإمَّا أن يكون ثابتًا في نفس الأمر أو منتفيًا فإن كان ثابتًا فإما أن يكون واجبَ الوجود أو ممكن الوجود لأن الممتنع لا يكون موجودًا فإن كان واجبَ الوجود كان فرضُ عدمِه على تقديرٍ لا ينافيه محالاً لأن التقديرَ الذي لا ينافيه لا يقتضي عدمه ووجوبُ وجودِه يقتضي وجودَه وإذا كان المقتضي للوجود ثابتًا وليس هناك ما يقتضي عدمه وجبَ وجودُه بالضرورة وإن كان ممكن الوجود والتقدير أنه موجود فلابدَّ أن يكون قد وجبَ سببُ وجودِه لأن الممكن لا يصير موجودًا إلا بما يقتضي وجوده وإذا كان المقتضي لوجودِه موجودًا فكلُّ تقديرٍ لا ينافي وجوده فإنَّ المانع من وجوده منتفٍ فيه فيكون المقتضي لوجوده موجودًا والمانعُ معدومًا وذلك يقتضي وجوده وإن كان منتفيًا في نفس الأمر

فإن كان ممتنع الوجود امتنعَ وجودُه على كلِّ تقديرٍ لا ينافي عدمه لأن ما لا ينافي عدمه لا يقتضي وجودَه لأنه لو اقتضى وجودَه لَنافَي عَدَمَه وإذا لم يكن على هذا التقدير المقتضي له موجودًا وهو ممتنع الوجود امتنعَ وجودُه وإن كان ممكنًا فكلُّ تقدير لا ينافيه لا يكون المقتضي التام لوجوده موجودًا امتنَع وجودُه لأن الممكن لا يصير موجودًا إلا بوجود المقتضي التام وأعني بالتامِّ قيام الموجب وحصول الشرائط وانتفاء الموانع وإذا امتنع وجودُه عُلِمَ انتفاؤه على كلِّ تقديرٍ لا ينافي عدمه ويمكن اختصار هذا الدليل بأن يُقال ما هو موجودٌ فلا بدَّ أن يكون المقتضي لوجوده واقعًا فإذا لم يكن ما ينافيه لزم وجوده بالمقتضي السالم عن المنافي وما هو معدومٌ فلا بُدَّ أن يكون المقتضي التام معدومًا فكلُّ تقديرٍ لا ينافي هذا العدم لا يلزم منه قيامُ مقتضٍ للوجود فيلزم عدمه أيضًا وإن شئتَ أخصَرَ من هذا أن يقال كلُّ ما هو واقع في نفس الأمر فلابدَّ لوقوعه مما يحقق وقوعه فكلُّ تقديرٍ لا ينافيه فإنَّ المحقِّق لوقوعه حاصل والمنافي له زائل فيجبُ وقوعُه بالضرورة وإن قلت كلُّ ما هو واقع في نفس الأمر فهو واقع على كل ِّ

تقدير جائز أو فهو واقع على التقادير الجائزة فوجهه أن يُقال التقدير الجائز لا يُغَيِّر الحقائق لأنه لو غيرها للزم إما تبديلُ الحقائق أو بقاؤها وعدمه فيخرج أن يكون واقعًا وإذا لم يغيِّرها فهو واقع في نفس الأمر لو زال على تقدير جائز للزم أن تكون الجائزات قد أبطلت الحقائق وهو باطل واعلم أن هذا الكلام ليسَ بسديدٍ وذلك أن التقديرات الجائزة قد يلزم منها قيام ما يمنع وقوع الواقع وذلك إنما يدلُّ على عدم وقوعها لا على عدم جوازها فإنَّ تقديرَ قيام الساعة في هذا الوقت أو تقدير خراب الأمصار المعمورة أو تقدير بعثةِ رسولٍ آخر أو تقدير كَوْن الشريعة أزْيَد مما هي الآن أو نقص تقديرات جائزة ويلزم منها رفع أمورٍ واقعة لكنَّا نستدلُّ بوقوعِ الواقعات على عدم هذه الجائزات فإن قال أُريد بالجائز ما لا يُعْلَم عدمُه قيل وعدم علمنا بعدمه لا يقتضي جوازه لأنَّ ما لا يُعْلَم عدمُه قسمان أحدُهما واقع والآخرُ غير واقع وإذا فرضنا شيئًا لا يُعْلَم عدمُه وكان في نفس الأمر معدومًا فإنه على تقدير وجوده قد يلزم تغيير الأمور الواقعة لأن تقدير وجودِه ليس

واقعًا ونحنُ إنما علمنا أنَّ الواقع واقعٌ في نفس الأمر ولم يُعْلَم أنه واقع إذا تغيَّر ما هو في نفس الأمر من ضرورة الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا فإن قال أريد بالجائز ما هو واقع في نفس الأمر قيل له هذا صحيح ويكون معنى الكلام كلُّ ما هو واقع فهو واقع على كلِّ التقادير الواقعة فافهم هذا فإنَّ فيه تغليظًا كثيرًا وأنا أذكُرُ درجاتِهِ الواقعُ في نفس الأمر يجبُ أن يكون واقعًا على كلِّ تقدير لا ينافيه ويجب أن يكون واقعًا على كلِّ تقدير واقع فإن قال المستدلُّ هو واقع في نفس الأمر فيكونُ واقعًا على هذا التقدير احتاج أن يُبَيِّن أن ذلك التقدير غير منافٍ أو هو واقع لأنَّ بيان أن ذلك التقدير غيرُ منافٍ أو أنَّ ذلك التقدير واقع أمرٌ ممكن سهل بخلاف مستصحب الحال فإنه ليس عليه أن يبيِّن عدمَ الناقل المغيِّر لأنَّ ذلك لا ينضبط ولا ينحصر الدرجة الثانية هل هو واقع على كلِّ تقديرٍ جائز الوجود في علمنا بمعنى أنَّا نُجَوِّز أن يكون موجودًا ويجوز أن يكون معدومًا أو يجوز أن يكون جائز الوجود والعدم ويجوز أن يكون ممتنع الوجود أو العدم وهذا ليس بلازم إلا أن يعلم أن ذلك التقدير غير منافٍ أو أنه واقع الدرجة الثالثة هل هو واقع على كلِّ تقدير جائز في نفسه بمعنى

أنه يمكن وجوده بدلاً من عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده وهذا باطل فإنَِّ ما هو واقع في الواقع يمتنع وجوده على تقديرات جائزةٍ كثيرة معدومة الدرجة الرابعة هل هو واقع على كل تقدير وهذا لا يقوله عاقل وأظنُّ هولاء الجدليين إنما يعنون الدرجة الثانية فإن الثالثةَ والرابعةَ ظاهرةُ الفساد والمحقِّقُون منهم إنما ذكروا الأولى خاصة وهو الصواب لكن إذا لم يكن النافي بين ذلك التقدير وبين الواقع ظاهرًا فأظُنُّهم يكلِّفون المعترض بيانَ المنافاة أو بيان عدم وقوع ذلك التقدير أو بيان عدم جوازه قوله وقد يُقال في التمسُّك به إن الواقع واقع على هذا التقدير لأنَّ ما هو الثابت على هذا التقدير ثابتٌ في نفس الأمر أو على تقديرٍ يُثْبِت جملةَ الأمور الواقعة على ذلك التقدير وأيًّا ما كان يكون واقعًا على هذا التقدير وإلا يلزم اجتماع النقيضين في الواقع أو على ذلك التقدير هذا يقولُه من أراد الاستدلال بوقوع الواقع في نفس الأمر على أنه

واقع في نفس الأمر واقعٌ على هذا التقدير لأن الواقع على هذا التقدير إما أن يكون ثابتًا في نفس الأمر أو ثابتًا على تقدير يُثْبِت جملةَ الأمور الواقعة على ذلك التقدير وإنما قلنا ذلك لأن الثابتَ على هذا التقدير إن كان ثابتًا في نفس الأمر فهو أحد الأمرين وإن لم يكن ثابتًا في نفس الأمر فهو ثابتٌ على هذا التقدير لأن الأمور الواقعة كائنة فتبقى على التقادير الجائزة وهذا من التقادير الجائزة وإذا كان الثابتُ على هذا التقدير ثابتًا في نفس الأمر أو على تقديرٍ يُثْبِتُ جملةَ الأمور الواقعة عليه فأيُّ الأمرين كان لزم أن يكون واقعًا على هذا التقدير لأنه لو لم يكن واقعًا على هذا التقدير لزم اجتماعُ النقيضين إمَّا في نفس الأمر أو على ذلك التقدير الذي تثبت عليه جملةُ الأمور الواقعة لأنه إن كان ما هو ثابتٌ على ذلك التقدير ثابتًا في نفس الأمر فيلزم أن يجتمع في نفس الأمر وقوعُ الواقع وعدمُ وقوعه لأن الفرض أنه ليس واقعًا على ذلك التقدير وأن ما هو ثابت على ذلك التقدير ثابت في نفس الأمر فيلزم أن يكون الذي في نفس الأمر عدم وقوع ما هو واقع وإن كان ما هو ثابت في نفس الأمر ثابتًا على تقدير يُثْبِت جملةَ الواقعة على ذلك التقدير فقد لزم وقوع الأمر الواقعة وعدم وقوعها على ذلك التقدير الذي يثبت

عليه جملة الأمور الواقعة فنقيضُه حق وهو المدَّعَى واعلم أصلحك الله أن هذا كلام ليس تحته فائدة وبيانُ فسادِه من وجوه أحدها قوله لأن ما هو الثابت على هذا التقدير ثابت في نفس الأمر أو على تقدير يُثبت جملةَ الأمور الواقعة على ذلك التقدير قلنا لا نُسَلِّم لزوم احد الأمرين ولم تذكر على ذلك دليلاً وهذا موضعُ المنعِ الذي يكشف عوار هذا الكلام الثاني قوله ما يثبتُ على ذلك التقدير ثابت في نفس الأمر أو على تقدير يُثْبِت جملةَ الأمور الواقعة على ذلك التقدير قلنا هذا هو الأول بعينه وإنما غُيِّرت العبارةُ لأنه إذا قال ما يثبتُ على هذا التقدير فقد يثبت في نفس الأمر أو يثبت على تقديرٍ يثبت عليه جملة الأمور الواقعة فلا مغايرةَ بين القسمين لأن ما ثبت في نفس الأمر فقد ثبتَ على كلِّ تقديرٍ تثبتُ عليه جُملةُ الأمور الواقعة الثالث إنما يكون الثابت على هذا التقدير ثابتًا في نفس الأمر أو ثابتًا على تقدير تَثْبُت عليه جملةُ الأمور الواقعة إذا كان ذلك التقدير تَثْبت عليه جملةُ الأمور الواقعة وهذا غير معلوم ولأنه لو عَلِمَ أن ذلك التقدير تَثْبُت عليه جملةُ الأمور الواقعة لَعَلِمَ أن الواقعَ واقعٌ

على ذلك التقدير ولو عَلِم ذلك لاسْتَغْنى عن هذا الدليل الرابع لأنه لا يعلم أن الثابتَ على هذا التقدير ثابتٌ في نفس الأمر أو على تقديرٍ تَثْبت عليه جملةُ الأمور الواقعة حتى يَثْبُت أنه واقعٌ في نفسِ الأمر وأنَّ ذلك التقدير تَثْبُت عليه جُملةُ الأمورِ الواقعة ولا يمكن ثبوت واحدٍ منها إلا بثبوت أن الواقع في نفس الأمر واقعٌ على ذلك التقدير وهذا هو المطلوب المتنازَع فيه فلا يجوز أن يُجْعَل مقدمةً في إثبات نفسه لأنَّ هذا مصادرةٌ على المطلوب وهو غير جائز الخامس أنَّ العلمَ بلزوم أحدِ الأمرين موقوفٌ على العلم بأنَّ الواقعَ واقعٌ على ذلك التقدير فإذا استدلّ على ذلك بلزوم أحدِ الأمرين كان وقفًا لكلٍّ منهما على الآخر وذلك دَوْر عِلْمي وهذا ظاهرٌ لا خفاءَ به واعلم أصلحك الله أن استصحاب الواقع إذا ادُّعِي على تقدير لم يتحقق فإنَّه بابٌ عظيم من أبواب مغالطات هولاء المُمَوِّهين المُلبِّسِيْن وأنا أضربُ لك مثلاً من كلامهم ذكر المبرز في جملة الأدلة التي يُستدل بها دليلاُ سمَّاه البرهان لأن مُقَدِّمتيه على زعمه قطعيَّتان وهو مما يمكن الاستدلالُ به على كلِّ دعوى

تُمْكِنه تارة تتمّ على زعمه لعدم التمكُّن من معارضته بمثله وتارة لا تتم مثاله أن يقال أحد الأمرين وهما إفساد صوم رمضان بفعلٍ واحد أوَّل مرَّة أو فساد صوم رمضان بفعل واحد أو مرة حال الصحة والاستقامة موجب لوجوب الكفارة لأنه لو كان أحدُهما موجبًا مستقيمًا إلى جملة الأمور الواقعة لكان أحدُهما موجبًا لوجوب الكفارة على ذلك التقدير وإذا كان موجبًا له على ذلك التقدير كان أحدهما موجبًا له في نفس الأمر لأنَّ جملةَ الأمور الثابتة في نفس الأمر ثابتة على ذلك التقدير وعدم موجبيَّة كلٍّ من هذين ليس ثابتًا على ذلك التقدير فلا يكون ثابتًا في نفس الأمر فيكون الثابت نقيضُه وهو موجبيَّة أحدهما وهو المدَّعَى وهكذا يقول في كل دعوى يدعيها فهل سمعتَ بأفسدَ من حُجَّةٍ تَثْبُت بها المتضادَّات والمتناقضات وإنما وجه التغليط فيه استصحاب الواقع حيث لا يصح وهو قوله إذا كان موجبًا له على ذلك التقدير كان موجبًا له في نفس الأمر قلنا لا نُسَلِّم قولَه لأن جملة الأمور الثابتة في نفس الأمر ثابتة على ذلك التقدير قلنا يعني به على تقدير وقوع الأمور الواقعة أو على تقدير انضمام المدَّعى إليها فإن عَنَيْتَ الأول فمُسَلَّم ولكن لا

نُسَلِّم قولك وعدم موجبيَّة كلٍّ منها ليس ثابتًا بذلك التقدير فإنّ هذا العدم يجوز أن يكون من الأمور الواقعة وإن عَنَيْت على تقدير انضمام المدَّعى إلى الأمور الواقعة فلا نُسَلِّم أن جملة الأمور الثابتة في نفس الأمر ثابتة على ذلك التقدير لأنَّ ذلك التقدير وهو انضمام المُدَّعَى إلى الواقع جاز أن يكون ممكنًا وجاز أن يكون ممتنعًا وإذا كان ممتنعًا أو معدومًا فلا تكون الأمور الثابتة في نفس الأمر ثابتة على تقدير ممتنع أو معدوم وذلك أنه لا يلزم من فرض الانضمام في الذِّهن وقوعُ الانضمام في الخارج والمفروض الذهني لا يستلزم تغيير الحقائق الخارجية فإذا فَرَضْنا الجمع بين النقيضين لم يلزم أن يكونا واقِعَيْن الطريق الثاني في إفساده قوله وعدم موجبيَّة كلٍّ من هذين ليس ثابتًا على ذلك التقدير قلنا لا نُسَلِّم وهذا ظاهر لأن ذلك التقدير هو تقدير وقوع الأمور الواقعة أو تقدير الانضمام إليها ومن الأمور الواقعة عدمُ موجبيَّة هذين فكيف لا يكون هذا العدم ثابتًا على تقدير وقوع الأمور الواقعة أو نقول يجوز أن يكون عدم إيجابهما من الأمور الواقعة فلا يجوز نفيه على ذلك التقدير فإن قيل قد فَرَضْنا ثبوتَ أحدهما مع جملة الأمور الواقعة قلنا بتقدير أن يكون الإيجابُ معدومًا في نفس الأمر فيكون قد

فُرِض وجود ما هو معدوم على تقدير وقوع الواقع ومعناه تقدير وجود المعدوم على تقدير عدمه وتقدير وجوده على تقدير عدمه تقدير الجمع بين النقيضين وهو تقديرٌ مُحَال وإذا كان تقديرًا ممتنعًا جاز أن يلزم عليه حكم ممتنع وهو موجبيَّة أحدهما وعدم موجبيَّتِه لأنه قدَّر وجود الموجبية على تقدير عدمها فتكون الموجبيَّة موجودة معدومة فلا يصحُّ دعوى وجودها دون عدمها ولا عدمها دون وجودها وإيضاح ذلك أنَّا لو فَرَضْنا اجتماعَ السوادِ والبياض مُنضمًّا إلى جملة الأمور الواقعة لكان هذا الاجتماع واقعًا على ذلك التقدير وجملةُ الأمور الواقعة في نفس الأمر واقعة على ذلك التقدير فلو قيل عدمُ اجتماع السواد والبياض ليس واقعًا على ذلك التقدير للزم أن لا يكون عدم اجتماعهما واقعًا في نفس الأمر فيكون اجتماعُهما هو الواقع وهذا باطل وإنما ذلك لأنَّ اجتماعَهُما مع الأمور الواقعة اجتماعهما مع عدم اجتماعهما لأن عدم اجتماعهما من الأمور الواقعة فالتقدير لو فرَضْناهما مجتمِعَيْن مع عدم كونهما مجتمعين وحينئذٍ لا يقال عدمُ اجتماعهما ليس واقعًا على ذلك التقدير لأنَّ فرضَ اجتماع النقيضين يستلزمُ ثبوتَ كلٍّ من النقيضين لكنَّه فرضٌ مُحال الطريق الثالث لإفساده أن يُقال قوله عدم موجبيَّة أحدهما

ليس ثابتًا على ذلك التقدير أيَّ شيءٍ تعني به أتعني به تقدير الأمور الواقعة أو تعني به تقدير انضمام الموجبيَّة إلى الأمور الواقعة إن عَنَيْت الأول فلا نُسَلِّم فإنَّ من الأمور الواقعة عندنا هذا العدم أو يجوز أن تكون من الواقعة أو لا نُسَلِّم أنه ليس من الواقعة وإن عَنَيْتَ على تقدير انضمام الموجبيَّة إلى الأمور الواقعة فَلِمَ قلتَ إن هذا الانضمام ممكن أو واقع وإذا لم يَثْبُت أنَّ هذا الانضمامَ ممكنٌ أو واقع كان عدمُ الموجبيَّة ليس ثابتًا على تقديرٍ لا يُعْلَم ثبوتُه ولا إمكانُه وذلك لا يقدح في كونه ثابتًا في نفس الأمر فلا تَغْفَل عن الفرق بين تقدير الأمور الواقعة وتقدير انضمام المدَّعَى إليها *** جاء في خاتمة النسخة آخر الكتاب والحمد لله الملك الوهاب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وافقَ الفراغ منه العشرون من شهر المحرم سنة تسعٍ وخمسين وسبعمائة الحمد لله رب العالمين

§1/1