تمام المنة في التعليق على فقه السنة

ناصر الدين الألباني

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين القائل فيما جاء في "الصحيحين": "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله وصحبه الميامين ومن تبعهم على فقههم وهديهم إلى يوم الدين. أما بعد فهذه هي الطبعة الثانية لكتابي "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" وقد مضى على الطبعة الأولى قرابة ربع قرن من الزمان لم يتيسر لي إعادة النظر فيها وإعدادها للطبع مرة أخرى إلا في هذه الآونة الأخيرة من استقراري في عمان - الأردن فقد تيسر لي - والحمد لله - أن أطبع فيها بعض مؤلفاتي تحت إشرافي وتصحيحي مباشرة مع مساعدة بعض الموظفين في المكتبة الإسلامية وبذلك أتفادى أن يقع فيها قليل أو كثير من الأخطاء الفاحشة أو أن يسقط بعض السطور منها عند تصحيحها أو تصويرها دون إشراف دقيق عليها وقد تمكنا حتى الآن أن نطبع - تحت إشرافي - بعض المؤلفات أذكر على سبيل المثال: المجلد الثالث من "سلسلة الأحاديث الضعيفة" والرابع تحت الطبع والرابع من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" والخامس تحت الطبع والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ولهذه الطبعة الثانية من "تمام المنة" مزايا مهمة كثيرة أهمها أنني ضممت إليها بقية ما كان عندي من التعليق وهي التعليق على الجزء الثالث من الأجزاء الصغيرة التي كان "فقه السنة" طبع عليها أول الأمر وهو يبدأ بأول كتاب "الزكاة" وينتهي بآخر كتاب "الصيام" وبهذه الضميمة نكون قد علقنا على نحو ربع "فقه السنة" بفضل الله تبارك وتعالى راجيا منه عز وجل أن ييسر لي تمام التعليق عليه إذا نسأ الله في العمر وبارك في الوقت أو على الأقل أن أجرد بقية ما فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة ليكون القراء على علم بها ومعرفة بحقيقة قدر المسائل التي أقيمت عليها كمثل الحديث المذكور في أول كتاب الجنائز وهو يلي الصيام -: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي" ... الخ فإنه ضعيف على شهرته في كتب السيرة ومن هنا أتى المؤلف وقد خرجته وبينت ضعفه في "تخريج فقه السيرة" ص 131 ثم في "الضعيفة" 2933 وكحديث: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل: آية محكمة" وسنة قائمة فريضة عادلة "فإنه ضعيف أيضا وبيانه في "تخريج المشكاة" 239 والإرواء 1664 و "ضعيف أبي داود" 496 وهو في آخر كتاب من كتب "فقه السنة" الفرائض وبين هذا وكتاب الجنائز كتب أخرى فيها عشرات - إن لم أقل مئات - الأحاديث الواهية هذا ولعلي لا أفشي سرا إذا ذكرت ما يأتي: لقد كان أحد إخواننا الجامعيين اقترح علي أن أرسل إلى الشيخ السيد سابق - تعاونا معه على الخير والعلم وتحري الحقائق - مقدمة كتابي هذا مع الجزء الأول وهما بخط يدي وقبل الطبع فاستجبت لاقتراحه وأرسلتهما

معه إليه فبقيا لديه أكثر من سنة ثم أعاد إلي بواسطة أحد إخواننا المقيمين في القاهرة الجزء المذكور دون المقدمة قد كنت استنسخت نسخة منها احتياطا والحمد لله تعالى. رجع الجزء إلي دون أن يأتيني من فضيلة الشيخ شيء ينبئني عن رأيه فيه وفي المقدمة ولذلك بادرت إلى طبعهما مع الجزء الثاني في أول فرصة سنحت لي يومئذ على الآلة الكاتبة ثم الساحبة ستانسل. وقد تبين لي من مقابلتي بعض المسائل في الطبعة القديمة التي وضعت عليها "تمام المنة" ببعض الطبعات الجديدة وبخاصة منها طبعة دار الكتاب العربي ذات المجلدات الثلاثة أن الشيخ لم يستفد من كتابي هذا شيئا يذكر لا فرق في ذلك بين ما كنت أرسلته إليه أو ما طبع منه بعد معه فقد لاحظت أن الأخطاء الحديثية والفقهية بقيت كما هي دون أي تعديل أو تغيير اللهم إلا في بعض المسائل المحدودة جدا فلا أدري أذلك لعدم تفرغه لقراءة ذلك أم لعدم قناعته بما فيه من النقد العلمي الخالص؟ ولعل الأقرب الأول فإن في كتابي من القواعد التي يجب على كل عالم التزامها ومن المسائل والأحاديث ما لا يجوز للعالم أن يمر بها دون أن يحدد موقفه منها نقدا أو تأييدا تضعيفا أو تصحيحا فيما لو وقف عليها كما سيرى القراء من ذلك الكثير والكثير جدا. ولكن يحول بيني وبين الجزم بهذا الاحتمال أنني رأيته قد استفاد من نقدي إياه في عدة مواضع نبهت على بعضها تعليقا على الصفحات 44 و62 و104 و137 و145 ومن ذلك موقفه من مسألة الوضوء من المحرم الإبل "فإنه في الطبعة التي وضعت التعليق عليها كان قد أورد على ترجيح

الإمام النووي وجوب الوضوء منها إشكالا يصرف ضعفاء العلم ومقلدة المذاهب عن العمل بالحديث فعقب على النووي بقوله: "إلا أنه يقال: كيف خفي حديث جابر والبراء على الخلفاء الراشدين.."الخ. فرددت عليه بما يبطل هذا الإشكال من أصله كما ستراه في محله فكان من آثار ذلك أن المؤلف خضع للحق - جزاه الله خيرا - وحذف الإشكال المزعوم ولكنه لم ينوه بمن كان السبب في ذلك!. وثمة مثال آخر فقد انتقدته في تصديره لحديث: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" بصيغة التمريض الدالة على ضعف الحديث وبينت أنه حسن لغيره وألزمته أن يقول بذلك كما ستراه في الصفحة 38 فإذا به يقع في خطأ جديد هو أفحش من الذي قبله من جهة وهو أنه عزاه لمسلم ولا أصل له عنده ومع ذلك فهو دليل على أنه وقف على نقدي إياه في هذا الحديث وأراد أن يصحح موقفه منه فكان ما رأيت!. والخلاصة: لقد كنت آمل من المؤلف حفظه الله تعالى أن يستجيب لرغبتي ويحقق رجائي الذي أودعته في مقدمة الطبعة الأولى وأطلعته عليها قبلها - كما تقدم - وهو أن "يعيد النظر فيما كتب حتى الآن ويصحح الأخطاء التي تبينت له ويتريث في إصدار أجزاء الكتاب الأخرى". كنت أرجو ذلك منه ولكن خاب الرجاء ومضى الرجل في إصدار بقية الكتاب على النهج المنتقد الذي جرى عليه في الأجزاء الأولى دون أن يلتزم تلك القواعد العلمية التي كنت أرسلتها إليه ودون أي تعديل أو تغيير في

منهجه! والعلم - كما هو معروف - في تقدم مستمر لا يعرف للجمود معنى وفي كل يوم تخرج المطابع مصادر علمية جديدة لم تكن معروفة من قبل مما يساعد الباحثين المحققين على تحسين مؤلفاتهم وتنقيحها وتغذيتها بفوائد جديدة وتحقيقات لم تكن متيسرة للكثيرين من قبل!. من أجل ذلك فإني لما رأيت "فقه السنة" جامدا هكذا على مر السنين كما وضعه المؤلف قبل نحو نصف قرن من الزمان مع تكرر طبعه مرات ومرات بدا لي أن أعيد النظر فيما عندي من "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" فنقحته وزدت فيه مسائل عدة وفوائد جمة ذكرت أهمها في مطلع هذه الكلمة فكان ذلك كله من دواعي إعادة طبعه ونشره على الناس في ثوبه الجديد سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يجعله وسائر مؤلفاتي عملا صالحا ولوجهه خالصا وأن لا يجعل لأحد فيه شيئا. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. عمان / 1 رجب سنة 1408هـ وكتب محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن

مقدمة الطبعة الأولى: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 1.

_ 1 هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يعلمها أصحابه وكان السلف يفتتحون بها خطبهم في دروسهم وكتبهم ولي فيها رسالة لطيفة جمعت فيها طرق حديثها وألفاظها وذكرت فيها فوائد تتناسب مع موضوعها وقد طبعت قريبا على نفقة جمعية التمدن الإسلامي بدمشق ثم طبعها المكتب الإسلامي طبعة ثانية جميلة مزيدة ومنقحة.

أما بعد فإن كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق من أحسن الكتب التي وقفت عليها مما ألف في موضوعه في حسن تبويب وسلاسة أسلوب مع البعد عن العبارات المعقدة التي قلما يخلو منها كتاب من كتب الفقه الأمر الذي رغب الشباب المسلم في الإقبال عليه والتفقه في دين الله به وفتح أمامهم آفاق البحث في السنة المطهرة وحفزهم على استخراج ما فيها من الكنوز والعلوم التي لا يستغني عنها مسلم أراد الله به خيرا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" متفق عليه وهو مخرج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 1194 ولقد كان صدور هذا الكتاب - فيما أرى - ضرورة من ضرورات العصر الحاضر حيث تبين فيه لكثير من المسلمين أن لا نجاة مما هم فيه من الانحراف والاختلاف والانهيار وتغلب الكفار والفساق عليهم إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يأخذون منها فقط ومن القرآن أمور دينهم ومسائل فقههم فكان لهذا لا بد لعامتهم من مصدر قريب التناول يمكن الاعتماد عليه والرجوع إليه حين يقتضيهم الأمر ويغنيهم عن المراجعات الكثيرة في الموسوعات العديدة من أجل مسائل قليلة أو كثيرة فكان أن ألهم الله تعالى الأستاذ السيد سابق فأخرج لهم هذا الكتاب "فقه السنة" فقرب لهم الطريق وأنار لهم السبيل جزاه الله خيرا.. من أجل ذلك كنت ولا أزال أحض على اقتنائه والاستفادة مما فيه من السنة والحق - ومنذ صدور الجزء الأول منه من الحجم الصغير القديم - كل راغب في السنة وناصر للحق حتى انتشرت نسخه بين صفوف إخواننا السلفيين وغيرهم في دمشق وغيرها من البلاد السورية وغيرها فكان من نتيجة

ذلك أن توجهت إلي منهم أسئلة كثيرة عن غير قليل من المسائل والأحاديث الواردة فيه فكنت أجيبهم عنها بما أعلمه وكثيرا ما كان الجواب مخالفا لما في الكتاب فقد كنت أضعف كثيرا من أحاديثه وأخطئ عديدا من مسائله فلما رأى ذلك بعض الغيورين على فقه السنة والحريصين على نشرها صحيحة بين صفوف الأمة اقترح على أن أسجل ما آخذه على الكتاب وأنشره بين الناس فاعتذرت عن ذلك أول الأمر ثم لما تكرر الطلب فيه وألح به كثير غيره رأيت أنه لا بد من إجابة طلبتهم وتحقيق رغبتهم لما في ذلك من خدمة للكتاب بل الفكرة التي يحملها ويدعو الناس إليها وهي "جمعهم على الكتاب والسنة والقضاء على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب ... " كما صرح في مقدمته. وعلاوة على ذلك ففيه تنزيه للكتاب مما وقع فيه من الأخطاء الفقهية والأحاديث الضعيفة التي يتنافى وجودها مع "فقه السنة" وبهذا أكون قد حققت شيئا من الرغبة التي كان أبداها للطرفين أحد إخواننا لما ذهب إلى مصر وهي التعاون في سبيل الفكرة المذكورة عن كثب وقرب ولكن حال دون ذلك عدة أسباب أهمها: بعد الدار وتعذر اللقاء فإذ قد فاتني ذلك فلا أقل من التعاون فيها عن بعد لأنه كما قيل: ما لا يدرك كله لا يترك جله.. فلما شرح الله لذلك صدري واطمأن له قلبي شرعت في قراءة ما صدر من أجزاء الكتاب قراءة إمعان وتدبر فكنت كلما تبين لي منه شيء يستحق ذكره والتنبيه عليه سجلته عندي وعلقته في وريقاتي فما أن انتهيت من التعليق عليها حتى تأكد لدي ضرورة ما صنعت ذلك لأنني وقفت فيها بعد

هذه الدراسة على أخطاء كثيرة بعضها مهمة جدا ما كنت أتصور وجودها فيها ولذلك فإني رأيت أنه لا بد من بيانها وقد وفق الله لذلك وله الحمد والمنة. ولعل من الفائدة أن أشير إلى نوع تلك الأخطاء بصورة مجملة ليأخذ القارئ عنها فكرة عامة فتتبين له أهمية هذا التعليق فأقول: يمكن حصر هذه الأخطاء على وجه التقريب فيما يلي: 1 - أحاديث كثيرة سكت المؤلف عليها وهي ضعيفة. 2 - أحاديث أخرى قواها وهي عند التحقيق واهية. 3 - أحاديث ضعفها وهي صحيحة أو لها أسانيد أخرى صحيحة. 4 - أحاديث ينسبها لغير "الصحيحين" وهي فيهما أو في أحدهما. 5 - أحاديث يعزوها لأحد "الصحيحين" وغيرها ولا أصل لها فيهما. 6 - أحاديث يوردها ولا وجود لها في شيء من كتب السنة. 7 - سوق الحديث من طريق صحابي يسميه برواية جماعة من المحدثين وهو عند بعضهم عن صحابي آخر أو أكثر. 8 - عزوه الحديث لمخرجه ساكتا عليه مع أن مخرجه الذي نسبه إليه عقبه بما يقدح في صحته 9 - عدم تتبعه أدلة المسائل فكثيرا ما يسوق المسائل دون دليل يؤيدها وأحيانا يحتج لها بالقياس مع أنه يوجد فيها حديث صحيح وتارة يستدل بالعموم وفيها دليل خاص.

10 - عدم استقصائه مسائل الفصل مثل "الأغسال المستحبة" ونحوها. 11 - إيراده في المسالة الواحدة أقوالا متعارضة دون أن يرجح إحداها على الأخرى. 12 - اضطراب رأيه في بعض المسائل في المكان الواحد فيختار في أول البحث ما ينقضه في خاتمته. 13 - ترجيحه من الأقوال والآراء المتعارضة ما لا يستحق الترجيح لضعف دليله وقوة دليل مخالفه. 14 - مخالفته الحديث الصحيح الذي لا معارض له من الحديث في غير ما مسألة. وهذا النوع الأخير من أنكر ما وقع للمؤلف فإنه لا يتفق في شيء مع توجيه المؤلف في الكتاب الناس إلى الأخذ بالسنة ولاسيما إذا عرفت أن عذره في المخالفة المشار إليها هو عدم أخذ الجمهور بالحديث في بعض المسائل أو عدم علمه بمن عمل به في مسألة أخرى وهذه هي شبهة المقلدين في رد السنن ومحاربتها وسيأتي كلام الإمام الشافعي الذي يبطل هذه الشبهة ويستأصل شأفتها جزاه الله خيرا وقد يكون من نافلة القول أن أذكر أنني لا أريد بالتعليق على الكتاب وبيان أخطائه أن أحط من قدره شيئا أو أبخس من حقه بل إنما أريد الانتصار للحق بالحق وصيانة "فقه السنة" عن الخطأ ما أمكن فإن ذلك أدعى لإقبال الناس عليه والاستفادة منه وأحرى أن يقطع ألسنة خصوم الفكرة عن التكلم فيه بحق أو بباطل فلعل المؤلف - زاده الله توفيقا - يعيد النظر

فيما كتب حتى الآن ويصحح الأخطاء التي تبينت له ويتريث في إصدار أجزاء الكتاب الأخرى1 إلا بعد أن يتبين من صحتها وسلامتها من الأخطاء ويجردها من الأحاديث الضعيفة فإن في الصحيح ما يغني عن الضعيف. هذا وإنني لما بدأت في التعليق على الكتاب ترددت في طريقة نقلي لكلامه أأنقله برمته أو بغالبه الذي يدل عليه أم أكتفي بنقل طرفه الأول الذي يشير إلى تتمته كما هي العادة في التعليقات؟ فأخذت الطريقة الأولى وهي وإن كانت تستلزم شيئا من التكرار بالنسبة لمن عنده الأصل "فقه السنة" فإنه أكثر فائدة ووضوحا لمن ليس عنده الأصل لأنه يستطيع أن يفهم الكلام المنتقدة والحديث المضعف ونحو ذلك دون أن يرجع إلى الأصل وقد سميته: "تمام المنة في التعليق على فقه السنة". والله تعالى أسال أن يجعله خالصا لوجه الله الكريم وأن ينفع به النفع العميم إنه سميع مجيب.

_ 1 كتب هذا قبل صدور الكتاب كاملا بأجزائه الكبيرة.

مقدمة علمية هامة

مقدمة علمية هامة: وقبل الشروع في المقصود لا بد من أن أقدم بين يدي ذلك بعض القواعد الأساسية التي لا يستغني عن معرفتها من كان يعنيه أمر التفقه في السنة ولاسيما أن طريقة التأليف تستلزم ذلك لكي نتمكن من الإحالة إليها عندما تأتي مناسبتها وبذلك أوفر علي وعلى القراء وقتا غير قليل ونعفي أنفسنا من كثير من الإعادة التي لا ضرورة إليها كما سيرى القارئ الكريم.

القاعدة الاولى

القاعدة الأولى رد الحديث الشاذ اعلم أن من شروط الحديث الصحيح أن لا يكون شاذا فإن تعريف الحديث الصحيح عند المحدثين: "هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا ففي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل والمنقطع والشاذ وما فيه علة قادحة مما في روايته نوع جرح"1.

_ 1 "مقدمة ابن الصلاح" ص 8.

والحديث الشاذ ما رواه الثقة المقبول مخالفا لمن هو أولى منه على ما هو المعتمد عند المحدثين1 وأوضح ذلك ابن الصلاح في "المقدمة" فقال ص 86 "إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان مما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ أو أضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنما رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد به وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارما له مزحزحا له عن حيز الصحيح ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر..". والشذوذ يكون في السند ويكون في المتن ولكل منهما أمثلة كثيرة سيأتي التنبيه على بعضها في مواطنها إن شاء الله تعالى.

_ 1 "شرح النخبة" لابن حجر ص 13 - 14

القاعدة الثانية

القاعدة الثانية رد الحديث المضطرب علم مما سبق آنفا أن من شروط الحديث الصحيح أن لا يكون معللا فاعلم أن من علل الحديث الاضطراب وقد قالوا في وصف الحديث المضطرب: "هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه آخر مخالف له وإنما نسميه مضطربا إذا تساوت الروايتان أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى بأن يكون راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة فالحكم للراجحة ولا يطلق عليه حينئذ وصف المضطرب ولا له حكمه. ثم قد يقع الاضطراب في متن الحديث وقد يقع في الإسناد وقد يقع ذلك في راو واحد وقد يقع من رواة له جماعة والاضطراب موجب ضعف الحديث لإشعاره بأنه لم يضبط"1. ثم ضرب على ذلك مثلا حديث الخط الذي قواه المؤلف وسيأتي الرد عليه بإذنه تعالى في فصل السترة.

_ 1 "المقدمة" ص 103 – 104.

القاعدة الثالثة

القاعدة الثالثة رد الحديث المدلس التدليس ثلاثة أقسام: 1 - تدليس الإسناد وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه وقد يكون بينها واحد أو أكثر ومن شأنه أنه لا يقول في ذلك: أخبرنا فلان ولا: حدثنا وما أشبهها وإنما يقول: قال فلان أو: عن فلان.. ونحو ذلك من الصيغ الموهمة للسماع. 2 - تدليس الشيوخ وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف. 3 - تدليس التسوية وهو أن يجئ المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعة ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة. فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل ولذلك كان شر أقسام التدليس ويتلوه الأول ثم الثاني1. وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلا أن لا يقبل منه إلا ما صرح

_ 1 انظر "المقدمة" وشرحها للحافظ العراقي ص 78 – 82.

فيه بالتحديث وبعضهم لا يقبل حديثه مطلقا والأصح الأول كما قال الحافظ ابن حجر1 على تفصيل لهم في ذلك فليراجع من شاء كتب "المصطلح".

_ 1 شرح النخبة ص 18.

القاعدة الرابعة

القاعدة الرابعة رد حديث المجهول قال الخطيب في "الكفاية" ص 88: " المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد". وأقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم كذلك. قلت: إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه وقد زعم قوم أن عدالته تثبت بذلك. ثم ذكر فساد قولهم في باب خاص عقب هذا فليراجعه من شاء. قلت: والمجهول الذي لم يرو عنه إلا واحد هو المعروف بمجهول العين وهذه هي الجهالة التي ترتفع برواية اثنين عنه فأكثر وهو المجهول الحال والمستور وقد قبل روايته جماعة بغير قيد وردها الجمهور كما في "شرح النخبة" ص 24 قال:

"والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها بل يقال: هي موقوفة إلى استبانة حاله كما جزم به إمام الحرمين". قلت: وإنما يمكن أن يتبين لنا حاله بأن يوثقه إمام معتمد في توثيقه وكأن الحافظ أشار إلى هذا بقوله: إن مجهول الحال هو الذي روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق"وإنما قلت: "معتمد في توثيقه" لأن هناك بعض المحدثين لا يعتمد عليهم في ذلك لأنهم شذوا عن الجمهور فوثقوا المجهول منهم ابن حبان وهذا ما بينته في القاعدة التالية نعم يمكن أن تقبل روايته إذا روى عنه جمع من الثقات ولم يتبين في حديثه ما ينكر عليه وعلى هذا عمل المتأخرين من الحفاظ كابن كثير والعراقي والعسقلاني وغيرهم. وانظر بعض الأمثلة فيما يأتي 204 – 207.

القاعدة الخامسة

القاعدة الخامسة عدم الاعتماد على توثيق ابن حبان قد علمت مما سبق آنفا أن المجهول بقسميه لا يقبل حديثه عند جمهور العلماء وقد شذ عنهم ابن حبان فقبل حديثه واحتج به وأورده في "صحيحه" قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان ": "قال ابن حبان: من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر ولو كان ممن يروي المناكير ووافق الثقات في الأخبار لكان عدلا مقبول الرواية إذ الناس أقوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح [فيجرح بما ظهر منه من الجرح] هذا حكم المشاهير من

الرواة فأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها". " الضعفاء" 2 / 192 - 193 والزيادة من ترجمة عائذ الله المجاشعي. ثم قال الحافظ: "قلت: وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة حتى يتبين جرحه مذهب عجيب والجمهور على خلافه وهذا مسلك ابن حبان في "كتاب الثقات" الذي ألفه فإنه يذكر خلقا نص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون وكان عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور وهو مذهب شيخه ابن خزيمة ولكن جهالة حاله باقية عند غيره". هذا كله كلام الحافظ. ومن عجيب أمر ابن حبان أنه يورد في الكتاب المذكور بناء على هذه القاعدة المرجوحة جماعة يصرح في ترجمتهم بأنه "لا يعرفهم ولا آباءهم"! فقال في الطبقة الثالثة: "سهل يروي عن شداد بن الهاد روى عنه أبو يعفور ولست أعرفه ولا أدري من أبوه". ومن شاء الزيادة في الأمثلة فليراجع "الصارم المنكي" ص 92 - 93 وقد قال بعد أن ساقها: "وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقا كثيرا من هذا النمط وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولا لم يعرف حاله وينبغي أن ينتبه لهذا ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق".

ولهذا نجد المحققين من المحدثين كالذهبي والعسقلاني وغيرهما لا يوثقون من تفرد بتوثيقه ابن حبان وستأتي أمثلة كثيرة على ذلك عند الكلام على الأحاديث الضعيفة التي وثق المؤلف - أو من نقل عنه - رجالها مع أن فيها من تفرد ابن حبان بتوثيقهم من المجهولين ومما ينبغي التنبه له أن قول ابن عبد الهادي: " وإن كان مجهولا لم يعرف حاله" ليس دقيقا: لأنه يعطي بمفهوم المخالفة أن طريقة ابن حبان في "ثقاته" أن لا يذكر فيه من كان مجهول العين وليس كذلك بدليل قوله المتقدم في "سهل": "لست أعرفه ولا أدري من أبوه". ومثله ما يأتي قريبا. وكذلك قول الحافظ: "برواية واحد مشهور" يوهم أن ابن حبان لا يوثق إلا من روى عنه واحد مشهور: لأنه إن كان يعني مشهورا بالثقة كما هو الظاهر فهو مخالف للواقع في كثير من ثقاته وإن كان يعني غير ذلك فهو مما لا قيمة له لأنه إما ضعيف أو مجهول ولكل منهما رواة في "كتاب الثقات" وإليك بعض الأمثلة من طبقة التابعين عنده: 1 - إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال 4 / 10: "يروي المراسيل روى عنه معان بن رفاعة". ثم ذكر له بإسناده عنه مرسلا: "يرث هذا العلم من كل خلف عدوله..". الحديث. قلت: ومعان هذا قال الحافظ نفسه فيه: "لين الحديث". وقال الذهبي:

"ليس بعمدة ولا سيما أتى بواحد لا يدرى من هو". يعني إبراهيم هذا فهو مجهول العين وأشار ابن حبان إلى هذا فقال في ترجمة معان من "الضعفاء" 3 / 36: "منكر الحديث يروي مراسيل كثيرة ويحدث عن أقوام مجاهيل لا يشبه حديثه حديث الأثبات". 2 - إبراهيم بن إسماعيل. قال 4 / 14 - 15: "يروي عن أبي هريرة روى عنه الحجاج بن يسار". قلت: الحجاج هذا - ويقال فيه: ابن عبيد - قال الحافظ فيه: "مجهول". وكذا قال قبله أبو حاتم وغيره كما في "ميزان" الذهبي وبين وجه ذلك فقال: "روى عنه ليث بن أبي سليم وحده"! وليث هذا ضعيف مختلط كما هو معروف حتى عند ابن حبان 2 / 231. 3 - إبراهيم الأنصاري قال ابن حبان 4 / 15: "يروي عن مسلمة بن مخلد.. روى عنه ابنه إسماعيل بن إبراهيم". قلت: وإسماعيل هذا مجهول كما قال الحافظ ومن قبله أبو حاتم. فتبين من هذا التحقيق أن ابن حبان ترتفع جهالة العين عنده برواية واحد ولو كان ضعيفا أو مجهولا خلافا لظاهر كلام الحافظ المتقدم وإن كان

لم يجزم به فإنه قال: "وكأن ابن حبان.." وهو أخذه من قول ابن حبان الذي نقله عنه آنفا: "هذا حكم المشاهير من الرواة فأما المجاهيل.." الخ فهو منقوض بالمثال الثاني كما هو ظاهر. وبالجملة فالجهالة العينية وحدها ليست جرحا عند ابن حبان وقد ازددت يقينا بذلك بعد أن درست تراجم كتابه "الضعفاء" وقد بلغ عددهم قرابة ألف وأربعمائة راو فلم أر فيهم من طعن فيه بالجهالة اللهم إلا أربعة منهم لكنه طعن فيهم بروايتهم المناكير وليس بالجهالة وهاك أسماءهم وكلامه فيهم: 1 - حميد بن علي بن هارون القيسي. ذكر له 1 / 263 - 264 بعض المناكير ثم قال: " فلا يجوز الاحتجاج به بعد روايته مثل هذه الأشياء عن هؤلاء الثقات ... وهذا شيخ ليس يعرفه كثير أحد" 2 - عبد الله بن أبي ليلى الأنصاري قال 2 / 5: " هذا رجل مجهول ما أعلم له شيئا يرويه غير هذا الحرف المنكر الذي يشهد إجماع المسلمين قاطبة ببطلانه". 3 - عبد الله بن زياد بن سليم قال 2 / 7: "شيخ مجهول روى عنه بقية بن الوليد لست أحفظ له راويا غير بقية وبقية قد ذكرنا ضعفه في أول الكتاب فلا يتهيأ لي القدح فيه على أن ما رواه يجب تركه على الأحوال" 4 - أبو زيد: قال 3 / 158:

" أبو زيد. يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه ليس يدرى من هو؟ لا يعرف أبوه ولا بلده والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيه ولا يحتج به". ومن هنا قال ابن عبد الهادي فيما تقدم: "وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولا لم يعرف حاله". لكن الصواب أن يقال عنه: "لم يعرف عينه" للأمثلة المتقدمة. والله أعلم. والخلاصة أن توثيق ابن حبان يجب أن يتلقى بكثير من التحفظ والحذر لمخالفته العلماء في توثيقه للمجهولين لكن ليس ذلك على إطلاقه كما بينه العلامة المعلمي في "التنكيل" 1 / 437 - 438 مع تعليقي عليه وراجع لهذا البحث ردي على الشيخ الحبشي فإنه كثير الاعتماد على من وثقه ابن حبان من المجهولين ص 18 – 21. وإن مما يجب التنبيه عليه أيضا أنه ينبغي أن يضم إلى ما ذكره المعلمي أمر آخر هام عرفته بالممارسة لهذا العلم قل من نبه عليه وغفل عنه جماهير الطلاب وهو أن من وثقه ابن حبان وقد روى عنه جمع من الثقات ولم يأت بما ينكر عليه فهو صدوق يحتج به. وبناء على ذلك قويت بعض الأحاديث التي هي من هذا القبيل كحديث العجن في الصلاة فتوهم بعض الناشيءين في هذا العلم أنني

ناقضت نفسي وجاريت ابن حبان في شذوذه وضعف هو حديث العجن وسيأتي الرد عليه مفصلا إن شاء الله مع ذكر عشرة أمثلة من الرواة الذين وثقهم ابن حبان فقط وتبعه الحافظان الذهبي والعسقلاني فاطلب ذلك في بحث "كيفية الرفع من السجود" ص 197 – 207

القاعدة السادسة

القاعدة السادسة قولهم: رجاله رجال الصحيح ليس تصحيحا للحديث علمت من القاعدة الأولى تعريف الحديث الصحيح وأن من شروطه أن يسلم من العلل التي بعضها الشذوذ والاضطراب والتدليس كما تقدم بيانه وعليه فقول بعض المحدثين في حديث ما: "رجاله رجال الصحيح" أو: "رجاله ثقات" أو نحو ذلك لا يساوي قوله: "إسناده صحيح" فإن هذا يثبت وجود جميع شروط الصحة التي منها السلامة من العلل بخلاف القول الأول فإنه لا يثبتها وإنما يثبت شرطا واحدا فقط وهو عدالة الرجال وثقتهم وبهذا لا تثبت الصحة كما لا يخفى. وثمة ملاحظة أخرى وهي: أنه قد يسلم الحديث المقول فيه ذلك القول من تلك العلل ومع ذلك فلا يكون صحيحا لأنه قد يكون في السند رجل من رجال الصحيح ولكن لم يحتج به وإنما أخرج له استشهادا أو مقرونا بغيره لضعف في حفظه أو يكون ممن تفرد بتوثيقه ابن حبان وكثيرا ما يشير بعض المحققين إلى ذلك بقوله: "ورجاله موثقون" إشارة إلى أن في توثيق بعضهم لينا فهذا كله يمنع من أن تفهم الصحة من قولهم الذي ذكرنا. والمؤلف كأنه لم ينتبه لهذا كله فجرى في كثير من الأحاديث على تصحيحها لمجرد قول البعض فيها ذلك القول وسنرى في تضاعيف التعليق التنبيه على ذلك. ثم زدت هذه القاعدة بيانا في مقدمة كتابي "صحيح الترغيب والترهيب" ص 39 - 46 فراجعه فإنه مهم.

القاعدة السابعة

القاعدة السابعة عدم الاعتماد على سكوت أبي داود اشتهر عن أبي داود أنه قال في حق كتابه "السنن": "ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح". فاختلف العلماء في فهم مراده من قوله: "صالح" فذهب بعضهم إلى أنه أراد أنه حسن يحتج به. وذهب آخرون إلى أنه أراد ما هو أعم من ذلك فيشمل ما يحتج به وما يستشهد به وهو الضيف الذي لم يشتد ضعفه وهذا هو الصواب بقرينة قوله: وما فيه وهن شديد بينته فإنه يدل بمفهومه على أن ما كان فيه وهن غير شديد لا يبين فدل على أنه ليس كل ما سكت عليه حسنا عنده ويشهد لهذا وجود أحاديث كثيرة عنده لا يشك عالم في ضعفها وهي مما سكت أبو داود عليها حتى إن النووي يقول في بعضها: وإنما لم يصرح أبو داود بضعفه لأنه ظاهر"

ومع هذا فقد جرى النووي رحمه الله على الاحتجاج بما سكت عنه أبو داود في كثير من الأحاديث ولم يعرج فيها على مراجعة أسانيدها فوقع بسبب ذلك في أخطاء كثيرة. وقد رجح هذا الذي فهمناه عن أبي داود العلماء المحققون أمثال ابن منده والذهبي وابن عبد الهادي وابن كثير وقد نقلت كلماتهم في مقدمة كتابي "صحيح أبي داود". ثم وقفت على كلام الحافظ ابن حجر في هذه المسألة وقد ذهب فيه إلى هذا الذي ذكرناه وشرحه واحتج له بما لا تراه لغيره ولولا خشية الإطالة لنقلته هنا فأكتفي بالإحالة إلى مصدره وهو "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" 1 / 196 - 199 للإمام الصنعاني.

القاعدة الثامنة

القاعدة الثامنة رموز السيوطي في "الجامع الصغير" لا يوثق بها اشتهر أيضا بين كثير من العلماء الاعتماد على رمز السيوطي للحديث بالصحة والحسن أو الضعف وتبعهم في ذلك الشيخ السيد سابق ونرى أنه غير سائغ لسببين: 1 - طروء التحريف على رموزه من النساخ فكثيرا ما رأيت الحديث فيه مرموزا له بخلاف ما ينقله شارحه المناوي عن السيوطي نفسه وهو إنما ينقل عن "الجامع" بخط مؤلفه كما صرح بذلك في أوائل الشرح وهو نفسه يقول فيه:

" وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى الصحيح والحسن والضعيف بصورة رأس "صاد وحاء وضاد" فلا ينبغي الوثوق به لغلبة تحريف النساخ على أنه وقع له ذلك في بعض دون بعض كما رأيته بخطه". 2 - أن السيوطي معروف بتساهله في التصحيح والتضعيف فالأحاديث التي صححها أو حسنها فيه قسم كبير منها ردها عليه الشارح المناوي وهي تبلغ المئات إن لم نقل أكثر من ذلك وكذلك وقع فيه أحاديث كثيرة موضوعة مع أنه قال في مقدمته: "وصنته عما تفرد به وضاع أو كذاب". وقد تتبعتها بصورة سريعة وهي تبلغ الألف تزيد قليلا أو تنقص كذلك وأرجو أن أوفق لإعادة النظر فيها وإجراء قلم التحقيق عليها وإخراجها للناس ومن الغريب أن قسما غير قليل فيها شهد السيوطي نفسه بوضعها في غير هذا الكتاب فهذا كله يجعل الثقة به ضعيفة نسأل الله العصمة. ثم يسر الله تبارك وتعالى فجعلت "الجامع الصغير وزيادته" المسمى ب "الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير" قسمين: "صحيح الجامع.." و "ضعيف الجامع.." وعدد أحاديث هذا 6469 حديثا والموضوع منها 980 حديثا على وجه التقريب وهو مطبوع كالصحيح والحمد لله تعالى.

القاعدة التاسعة

القاعدة التاسعة سكوت المنذري على الحديث في "الترغيب" ليس تقوية له الأصل أنه لا يجوز إيراد الحديث الضعيف إلا ببيان حاله كما سيأتي بيانه ولذلك يظن بعضهم أن ما سكت عليه المنذري في "الترغيب والترهيب" يدل على أنه غير ضعيف عنده وعليه جرى الشيخ السيد سابق في غير ما حديث وهو ذهول عن اصطلاح المنذري الذي صرح به في مقدمة الكتاب حيث قال رحمه الله ص 4: "فإذا كان إسناد الحديث صحيحا أو حسنا أو ما قاربهما صدرته بلفظة "عن" وكذلك إذا كان مرسلا أو منقطعا أو معضلا أو في إسناده راو مبهم أو ضعيف وثق أو ثقة ضعف وبقية رواة الإسناد ثقات أو فيهم كلام لا يضر أو روي مرفوعا والصحيح وقفه أو متصلا والصحيح إرساله أو كان إسناده ضعيفا لكن صححه أو حسنه بعض من خرجه أصدره أيضا بلفظة "عن" ثم أشير إلى إرساله أو انقطاعه أو عضله أو ذلك الراوي المختلف فيه فأقول رواه فلان من رواية فلان أو من طريق فلان أو في إسناده فلان أو نحو هذه العبارة. وإذا كان في الإسناد من قيل فيه: كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو ذاهب الحديث أو هالك أو ساقط أو ليس بشيء أو ضعيف جدا أو ضعيف فقط أو لم أر فيه توثيقا بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين صدرته بلفظة "روي" ولا أذكر ذلك الراوي ولا ما قيل فيه البتة فيكون للإسناد الضعيف دلالتان: تصديره بلفظة "روي" وإهمال الكلام عليه في آخره" وقد فصلت القول على كلامه هذا وما فيه من الإجمال والغموض والمؤاخذات في مقدمة "صحيح الترغيب" فراجعها فإنها مهمة جدا.

القاعدة العاشرة

القاعدة العاشرة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس على إطلاقه من المشهور عند أهل العلم أن الحديث إذا جاء من طرق متعددة فإنه يتقوى بها ويصير حجة وإن كان كل طريق منها على انفراده ضعيفا ولكن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند المحققين منهم بما إذا كان ضعف رواته في مختلف طرقه ناشيءا من سوء حفظهم لا من تهمة في صدقهم أو دينهم وإلا فإنه لا يتقوى مهما كثرت طرقه وهذا ما نقله المحقق المناوي في "فيض القدير" عن العلماء قالوا: "وإذا قوي الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه ومن ثم اتفقوا على ضعف حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا"1 مع كثرة طرقه لقوة ضعفه وقصورها عن الجبر خلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد". وراجع لهذا "قواعد التحديث" ص 90 و "شرح النخبة" ص 25. وعلى هذا فلا بد لمن يريد أن يقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على

_ 1 وهو مخرج في "الضعيفة" 4589

رجال كل طريق منها حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها ومن المؤسف أن القليل جدا من العلماء من يفعل ذلك ولا سيما المتأخرين منهم فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث لمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقا دون أن يقفوا عليها ويعرفوا ماهية ضعفها والأمثلة على ذلك كثيرة من ابتغاها وجدها في كتب التخريج وبخاصة في كتابي "سلسلة الأحاديث الضعيفة".

القاعدة الحادية عشرة

القاعدة الحادية عشرة لا يجوز ذكر الحديث الضعيف إلا مع بيان ضعفه لقد جرى كثير من المؤلفين ولا سيما في العصر الحاضر على اختلاف مذاهبهم واختصاصاتهم على رواية الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ينبهوا على الضعيفة منها جهلا منهم بالسنة أو رغبة أو كسلا منهم عن الرجوع إلى كتب المتخصصين فيها وبعض هؤلاء - أعني المتخصصين - يتساهلون في ذلك في أحاديث فضائل الأعمال خاصة! قال أبو شامة1: "وهذا عند المحققين من أهل الحديث وعند علماء الأصول والفقه خطأ بل ينبغي أن يبين أمره إن علم وإلا دخل تحت الوعيد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم. هذا حكم من سكت عن الأحاديث الضعيفة في الفضائل! فكيف إذا

_ 1 في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص 54.

كانت في الأحكام ونحوها؟ واعلم أن من يفعل ذلك فهو أحد رجلين: 1 - إما أن يعرف ضعف تلك الأحاديث ولا ينبه على ضعفها فهو غاش للمسلمين وداخل حتما في الوعيد المذكور. قال ابن حبان في كتابه "الضعفاء" 1 / 7 - 8: "في هذا الخبر دليل على أن المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي مما تقول عليه وهو يعلم ذلك يكون كأحد الكاذبين على أن ظاهر الخبر ما هو أشد قال صلى الله عليه وسلم: "من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب ... " - ولم يقل: إنه تيقن أنه كذب - فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر" ونقله ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" ص 165 - 166 وأقره. 2 - وإما أن لا يعرف ضعفها فهو آثم أيضا لإقدامه على نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم" دون علم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"1 فله حظ من إثم الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلملأنه قد أشار صلى الله عليه وسلم أن من حدث بكل ما سمعه - ومثله من كتبه - أنه واقع في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم محالة فكان بسبب ذلك أحد الكاذبين. الأول: الذي افتراه والآخر: هذا الذي نشره قال ابن حبان أيضا 1 / 9: " في هذا الخبر زجر للمرء أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم علم اليقين صحته".

_ 1 رواه مسلم رقم: 5 في مقدمة "صحيحه" وهو مخرج في "الصحيحة" 205.

وقد صرح النووي بأن من لا يعرف ضعف الحديث لا يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفا1وراجع "التمهيد" في مقدمة الضيفة ص 10 – 12.

_ 1 راجع "قواعد التحديث".

القاعدة الثانية عشرة

القاعدة الثانية عشرة ترك العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال اشتهر بين كثير من أهل العلم وطلابه أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في فضائل الأعمال ويظنون أنه لا خلاف في ذلك. كيف لا والنووي رحمه الله نقل الاتفاق عليه في أكثر من كتاب واحد من كتبه؟ وفيما نقله نظر بين لأن الخلاف في ذلك معروف فإن بعض العلماء المحققين على أنه لا يعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل. قال الشيخ القاسمي رحمه الله في "قواعد التحديث" ص 94: "حكاه ابن سيد الناس في "عيون الأثر" عن يحيى بن معين ونسبه في "فتح المغيث" لأبي بكر بن العربي والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضا.. وهو مذهب ابن حزم..". قلت: وهذا هو الحق الذي لا شك فيه عندي لأمور: الأول: أن الحديث الضعيف إنما يفيد الظن المرجوح ولا يجوز العمل به اتفاقا فمن أخرج من ذلك العمل بالحديث الضيف في الفضائل

لابد أن يأتي بدليل وهيهات! الثاني: أنني أفهم من قولهم: " ... في فضائل الأعمال" أي الأعمال التي ثبتت مشروعيتها بما تقوم الحجة به شرعا ويكون معه حديث ضعيف يسمى أجرا خاصا لمن عمل به ففي مثل هذا يعمل به في فضائل الأعمال لأنه ليس فيه تشريع ذلك العمل به وإنما فيه بيان فضل خاص يرجى أن يناله العامل به. وعلى هذا المعنى حمل القول المذكور بعض العلماء كالشيخ علي القاري رحمه الله فقال في "المرقاة" 2 / 381: "قوله: إن الحديث الضعيف يعمل به في الفضائل وإن لم يعتضد إجماعا كما قاله النووي محله الفضائل الثابتة من كتاب أو سنة". وعلى هذا فالعمل به جائز إن ثبت مشروعية العمل الذي فيه بغيره مما تقوم به الحجة ولكني أعتقد أن جمهور القائلين بهذا القول لا يريدون منه هذا المعنى مع وضوحه لأننا نراهم يعملون بأحاديث ضعيفة لم يثبت ما تضمنته من العمل في غيره من الأحاديث الثابتة مثل استحباب النووي وتبعه المؤلف إجابة المقيم في كلمتي الإقامة بقوله: "أقامها الله وأدامها" مع أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف كما سيأتي بيانه فهذا قول لم يثبت مشروعيته في غير هذا الحديث الضعيف ومع ذلك فقد استحبوا ذلك مع أن الاستحباب حكم من الأحكام الخمسة التي لا بد لإثباتها من دليل تقوم به الحجة وكم هناك من أمور عديدة شرعوها للناس واستحبوها لهم إنما شرعوها بأحاديث ضعيفة لا أصل لما تضمنته من العمل في السنة الصحيحة ولا يتسع المقام لضرب الأمثلة على ذلك وحسبنا ما ذكرته من هذا المثال وفي الكتاب أمثلة كثيرة سيأتي التنبيه عليها في مواطنها إن شاء الله.

على أن المهم ههنا أن يعلم المخالفون أن العمل بالحديث الضعيف في الفضائل ليس على إطلاقه عند القائلين به فقد قال الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب" ص 3 - 4: "اشتهر أن أهل العلم يتساهلون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا وأن لا يشهر ذلك لئلا يعمل المرء بحديث ضيف فيشرع ما ليس بشرع أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم": "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" فكيف بمن عمل به؟! ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع". فهذه شروط ثلاثة مهمة لجواز العمل به: 1 - أن لا يكون موضوعا. 2 - أن يعرف العامل به كونه ضعيفا. 3 - أن لا يشهر العمل به. ومن المؤسف أن نرى كثيرا من العلماء فضلا عن العامة متساهلين بهذه الشروط فهم يعملون بالحديث دون أن يعرفوا صحته من ضعفه وإذا عرفوا ضعفه لم يعرفوا مقداره وهل هو يسير أو شديد يمنع العمل به. ثم هم يشهرون العمل به كما لو كان حديثا صحيحا ولذلك كثرت العبادات التي لا تصح بين المسلمين وصرفتهم عن العبادات الصحيحة التي وردت بالأسانيد.

الثابتة. ثم إن هذه الشروط ترجح ما ذهبنا إليه من أن الجمهور لا يريد المعنى الذي رجحناه آنفا لأن هذا لا يشترط فيه شيء من هذه الشروط كما لا يخفى. ويبدو لي أن الحافظ رحمه الله يميل إلى عدم جواز العمل بالضعيف بالمعنى المرجوح لقوله فيما تقدم: " ... ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع". وهذا حق لأن الحديث الضعيف الذي لا يوجد ما يعضده يحتمل أن يكون كذبا بل هو على الغالب كذب موضوع وقد جزم بذلك بعض العلماء فهو ممن يشمله قوله "صلى الله عليه وسلم ": " ... يرى أنه كذب" أي يظهر أنه كذلك. ولذلك عقبه الحافظ بقوله: "فكيف بمن عمل به؟ " ويؤيد هذا ما سبق نقله عن ابن حبان في القاعدة الحادية عشرة. " فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح داخل في الخبر". فنقول كما قال الحافظ: "فكيف بمن عمل به ... ؟! ". فهذا توضيح مراد الحافظ بقوله المذكور وأما حمله على أنه أراد الحديث الموضوع وأنه هو الذي لا فرق في العمل به في الأحكام أو الفضائل كما فعل بعض مشايخ حلب المعاصرين فبعيد جدا عن سياق كلام الحافظ إذ هو في الحديث الضعيف لا الموضوع كما لا يخفى! ولا ينافي ما ذكرنا أن الحافظ ذكر الشروط للعمل بالضعيف كما ظن ذلك الشيخ لأننا نقول: إنما ذكرها الحافظ لأولئك الذين ذكر عنهم أنهم

يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل ما لم تكن موضوعة فكأنه يقول لهم: إذا رأيتم ذلك فينبغي أن تتقيدوا بهذه الشروط وهذا كما فعلته أنا في هذه القاعدة والحافظ لم يصرح بأنه معهم في الجواز بهذه الشروط ولاسيما أنه أفاد في آخر كلامه أنه على خلاف ذلك كما بينا. وخلاصة القول أن العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لا يجوز القول به على التفسير المرجوح إذ هو خلاف الأصل ولا دليل عليه ولا بد لمن يقول به أن يلاحظ بعين الاعتبار الشروط المذكورة وأن يلتزمها في عمله والله الموفق. ثم إن من مفاسد القول المخالف لما رجحناه أنه يجر المخالفين إلى تعدي دائرة الفضائل إلى القول به في الأحكام الشرعية بل والعقائد أيضا وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لكني أكتفي منها بمثال واحد. فهناك حديث يأمر بأن يخط المصلي ببن يديه خطا إذا لم يجد سترة ومع أن البيهقي والنووي هما من الذين صرحوا بضعفه فقد أجازا العمل به خلافا لإمامهما الشافعي وسيأتي مناقشة قولهما في ذلك عند الكلام على الحديث المذكور. ومن شاء زيادة بيان وتفصيل في هذا البحث الهام فليراجع مقدمة "صحيح الترغيب" 1 / 16 – 36.

القاعدة الثالثة عشرة

القاعدة الثالثة عشرة لا يقال في الحديث الضعيف: قال صلى الله عليه وسلم أو: ورد عنه ونحو ذلك قال النووي في "المجموع شرح المهذب" 1 / 63: "قال العلماء المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفا لا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: فعل أو: أمر أو: نهى أو: حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم وكذا لا يقال فيه: روى أبو هريرة أو: قال أو: ذكر ... وما أشبهه وكذا لا يقال ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفا فلا يقال في شيء من ذلك بصيغة الجزم وإنما يقال في هذا كله: روي عنه أو: نقل عنه أو: حكي عنه ... أو: يذكر أو: يحكى ... أو: يروى وما أشبه ذلك من صيغ التمريض وليست من صيغ الجزم. قالوا: فصيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن وصيغ التمريض لما سواهما. وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن يطلق إلا فيما صح وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه وهذا الأدب أخل به المصنف1 وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقا ما عدا حذاق المحدثين وذلك تساهل قبيح منهم فإنهم يقولون كثيرا في الصحيح: "روي عنه" وفي الضعيف: "قال" أو: روى فلان وهذا حيد عن الصواب". قلت: ومؤلفنا - جزاه الله خيرا - وإن كان قد حاد عن الصواب مع من حاد عنه من الجماهير - كما سيأتي بيان ذلك في مواضعه من التعليق عليه -

_ 1 أي: الشيرازي صاحب "المهذب".

فإن لي رأيا خاصا فيما حكاه النووي عن العلماء لا بد لي من الإدلاء به بهذه المناسبة فأقول: إذا كان من المسلم به شرعا أنه ينبغي مخاطبة الناس بما يفهمون ما أمكن وكان الاصطلاح المذكور عن المحققين لا يعرفه أكثر الناس فهم لا يفرقون بين قول القائل: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله: "روي عن رسول الله في صلى الله عليه وسلم" لقلة المشتغلين بعلم السنة فإني أرى أنه لا بد من التصريح بصحة الحديث أو ضعفه دفعا للإيهام كما يشير إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "دع ما يريبك إلى مالا يريبك". رواه النسائي والترمذي وهو مخرج في "إرواء الغليل" 2074 وغيره.

القاعدة الرابعة عشرة

القاعدة الرابعة عشرة وجوب العمل بالحديث الصحيح وإن لم يعمل به أحد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "رسالته" الشهيرة: "إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال: ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى هذا الحديث دلالتان: إحداهما قبول الخبر والأخرى قبول الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمض عمل أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا ودلالة على أنه لو مضى أيضا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد

عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله ودلالة على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده"1.

_ 1 "الرسالة" ص 422 تحقيق أحمد شاكر.

القاعدة الخامسة عشرة

القاعدة الخامسة عشرة أمر الشارع للواحد أمر لجميع أفراد الأمة إذا خاطب الشارع الحكيم فردا من الأمة أو حكم عليه بحكم فهل يكون هذا الحكم عاما في الأمة إلا إذا قام دليل التخصيص؟ أو يكون خاصا بذلك المخاطب؟. اختلف في ذلك علماء الأصول والحق الأول وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره من المحققين1 قال ابن حزم في "أصول الأحكام" 3 / 88 - 89: "وقد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الأرض من إنس أو جن وإلى من يولد بعده إلى يوم القيامة وليحكم في كل عين وعرض يخلقها الله إلى يوم القيامة فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به المبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة ولزومه الإنس والجن وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل لمشاهدته عليه السلام من يأتي بعده كان أمره صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع وفي واحد

_ 1 راجع أصول الفقه للشيخ محمد الخضرى ص 208 – 209.

من النوع أمرا في النوع كله وللنوع كله وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد ولقوم فقد بينه عليه السلام نصا وأعلمه أنه خصوص كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار وأخبره عليه السلام أنه لا تجزئ عن أحد بعده وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة وإقامة ابن عباس وجابر عن يمينه في الصلاة حكم على كل مسلم ومسلمة يصلي وحده مع إمامه. ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة. ثم شرع قي الرد على من خالف في ذلك تأصيلا أو تفريعا فراجعه. وهذا آخر ما اقتضت المصلحة إيراده الآن من القواعد الحديثية والفقهية ومن المؤسف أن مؤلف "فقه السنة" لم يتقيد بها أو - على الأقل - لم يرعها حق رعايتها مع وثيق اتصالها بموضوع الكتاب كما رأيت وسيأتي بيان هذا كله في مواضعه من هذا التعليق المفيد إن شاء الله تعالى أسأله تعالى أن يجعل الصواب حليفه وينفع به إخواني المسلمين في سائر الأقطار إنه سميع مجيب الدعاء. المؤلف دمشق 3 شوال 1373هـ

من المقدمة

من المقدمة قوله: "أما بعد: فهذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلامي مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة". قلت: هذه الدعوى غالبية وإلا ففي الكتاب كثير من الأحاديث الضعيفة بعضها سكت عليها والبعض الآخر ظنها صحيحة أو حسنة قلد في ذلك غيره وهو واهم في ذلك كله. وفيه أيضا غير قليل من المسائل لم يذكر الدليل عليها بل إن بعضها الدليل على خلافها وسيأتي تفصيل هذا الإجمال في مواضعه اللائقة به إن شاء الله تعالى.

من التمهيد

من التمهيد ... من تمهيد قوله تحت عنوان: عموم الرسالة: "وفي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "إن هذا الدين يسر ... " ". قلت: فيه أمران: الأول: أن الحديث ليس من حديث أبي سعيد الخدري لا عند البخاري ولا عند غيره. وإنما هو من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. وفي طبعة دار الكتاب العربي: "أبي سعيد المقبري" فهو خطأ آخر فإنه من حديث ابنه سعيد عن أبي هريرة انظر "فتح الباري" 1 / 94. والآخر: أن البخاري إنما رواه في "الإيمان" بلفظ: "إن الدين يسر ... " دون زيادة: "هذا". وإنما رواه بهذه الزيادة النسائي في "الإيمان" أيضا. وكذلك رواه ابن حبان وإسناده أصح كما بينه الحافظ في "الفتح" وله شواهد عنده منها عن بريدة وهو مخرج في "ظلال الجنة في تخريج كتاب السنة" 95 – 97.

قوله: وروي مرفوعا: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة". قلت: من المقرر عند المحدثين أن تصدير الحديث بصيغة "روي" إنما هو إشارة إلى أن الحديث ضعيف وعليه جرى المنذري في "الترغيب" كما سبق بيانه في قواعد الكتاب وما أعتقد إلا أن المؤلف حفظه الله تعالى يعلم هذا المقرر ويذكره1 وعليه نستطيع أن نقول: إنه يذهب إلى أن الحديث ضعيف وليس كذلك بل هو حديث حسن وكان يلزم المؤلف أن يحسن إسناده لأن الحافظ صرح بتحسينه في "الفتح" فلعله لم يقف عليه فإن قيل: لعل المؤلف وقف عليه ولم يره صوابا لأن الحديث من رواية محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه؟. قلت: هذا الجواب صحيح في الواقع ولكن عهدي بالمؤلف أنه يقدم رأي الحافظ على ما يقتضيه علم أصول الحديث علمت هذا منه حين كان ينشر فصول كتابه هذا في مجلة "الإخوان المسلمون المصرية فنشرت فيها ردا على مقال له احتج فيه بحديث علي الآتي في "ما يحرم على الجنب" بلفظ: "كان لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة" وقد بينت في الرد المشار إليه ضعف هذا الحديث حسبما يقتضيه علم الأصول فكتب فيها ردا علي خلاصته أن الحديث حسنه الحافظ ابن حجر فكتبت ردا آخر عليه خلاصته أن الجواب ليس على قواعد علم الحديث بل هو مجرد تقليد لا يفيد ولا ينفق في باب المناظرة ولكن المجلة لأمر ما لم تنشر ردي هذا ولذلك فإني ألزم المؤلف - حفظه الله تعالى - أن يحسن الحديث بالطريقين: التقليد والبحث حسب القواعد أما الأول فقد وضح مما سلف وهو تحسين الحافظ لإسناده

_ 1 ثم تبين لي بعد التتبع أنه لم يراع هذه القاعدة فكثيرا ما يصدر ما يصححه بقوله: "روي" فانظر مثلا ص 121.

وأما الآخر: فهو أن الحديث حسن لغيره لأن له شاهدا من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلا بلفظ: "يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثة لأن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة". أخرجه ابن سعد في "الطبقات" ج 3 ق 1 ص 287. ثم وجدت له شاهدا آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلا أخرجه أحمد في "الزهد" ص 289 و310 بسند صحيح. ثم رأيت المؤلف قد وقع في خطأ آخر غريب حول هذا الحديث حيث عزاه لمسلم في "الطبعة السادسة" سنة 76 هـ ولا أصل له في مسلم وإنما رواه البخاري معلقا ووصله في "الأدب المفرد" وقد خرجته في "الصحيحة" 881.

ومن التشريع الإسلامي أو الفقه

ومن التشريع الإسلامي أو: الفقه قوله تحت رقم 1 -: وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. قلت: الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوهم أن الحديث ثابت وليس كذلك فانه من رواية عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان. أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما وعبد الله هذا قال دحيم: "لا أعرفه". وقال أبو حاتم: "مجهول". وقال الساجي: "ضعفه أهل الشام". ولذلك أشار الحافظ في "التقريب" إلى أنه لين الحديث إذا تفرد. ولم أجد له متابعا على هذا الحديث فهو ضعيف وقد أعله المناوي في "فيض القدير بما نقلناه عن الساجي والذين قبله فلا يغتر بسكوت أبي داود عليه ولا برمز السيوطي له بالحسن لما ذكرناه في المقدمة: القاعدة السابعة والثامنة.

ومن المياه وأقسامها

ومن المياه وأقسامها قوله تحت رقم 3 -: لما روي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ رواه أحمد. قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أنه ليس من رواية أحمد وإنما هو من زوائد ابنه عليه 1 / 76. والأخرى: تصديره بصيغة روي المشعرة بالضعف ينافي القاعدة الثالثة عشرة المتقدمة لأن الحديث إسناده حسن كما في "إرواء الغليل" رقم 13 وصححه أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" 2 / 19 / 564 وقد صرح أنه من "الزوائد". قوله رقد ذكر حديث: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث": "رواه الخمسة فهو مضطرب سندا ومتنا ... ". وأقول: كلا بل هو حديث صحيح وقد صححه جمع منهم أبو جعفر الطحاوي الحنفي والاضطراب الذي أشار إليه إنما هو في بعض طرقه الضعيفة كما بينته في "صحيح أبي داود" 56 - 58 وأشرت إليه في "إرواء الغليل" 23 و 172. نعم مفهوم الحديث معارض لعموم حديث أبي سعيد: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وعليه الاعتماد في هذا الباب كما شرحه ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" فليراجعه من شاء التحقيق فإنه بحث عزيز هام وكذلك راجع له "السيل الجرار" للشوكاني 1 / 55.

ومن السؤر

ومن السؤر قوله تحت رقم 3 -: لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم وبما أفضلت السباع كلها". أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي وقال: له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية". قلت: هذا الحديث ضعيف كما قال النووي في "المجموع" 1 / 173 وتمام كلامه: " وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مشهورا في كتب الأصحاب وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه". جزاه الله خيرا. قلت: وأما قول البيهقي المذكور فالظاهر من تخريجه للحديث في "السنن الكبرى" 1 / 249 - 255 أنه يعني أسانيده الدائرة على داود بن الحصين عن أبيه ومع أن هذه الأسانيد كلها ضعيفة كما يشير إلى ذلك كلام البيهقي نفسه فإن مدارها على داود المذكور عن أبيه عن جابر. وداود مع كونه من رجال الشيخين فقد ضعفه بعضهم لكن أبوه الحصين لين الحديث كما في "التقريب" وقد أسقطه بعض الضعفاء فصار. الحديث عن داود عن جابر فصار سالما من ضعف أبيه لكن داود لم يدرك جابرا فعاد الحديث منقطعا! ثم إن متن الحديث منكر لمخالفته لحديث القلتين لأنه صدر جوابا لمن سأله عن الماء وما ينوبه من الدواب. والسباع؟ فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي رواية: "لا ينجس". قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" 1 / 250: "وظاهر هذا يدل على نجاسة سؤر السباع إذ لولا ذلك لم يكن لهذا الشرط

فائدة ولكان التقييد به ضائعا". وذكر النووي نحوه في "المجموع" 1 / 173. ثم قال السيد سابق: "وعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ... الحديث وفيه: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور". رواه الدارقطني". قلت: وهذا ضعيف أيضا فيه عند الدارقطني 1 / 26 أيوب بن خالد الحراني قال الحافظ: "ضعيف" وهو مع ضعفه قد اضطرب في إسناده فمرة قال: نا محمد بن علوان عن نافع عن ابن عمر ومرة قال: نا خطاب بن القاسم عن عبد الكريم الجزري عن نافع به. وابن علوان هذا قال الأزدي: "متروك". وخطاب بن القاسم ثقة لكنه اختلط قبل موته كما في "التقريب". على أن الراوي عن أيوب إسماعيل بن الحسن الحراني لم أعرفه. وقد أشار الحافظ في "التلخيص" إلى ضعف هذا الحديث وتبعه الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 60. ثم قال: "وعن يحيى بن سعيد أن عمر خرج في يهب فيهم عمرو بن العاص ... الخ وفيه: فقال عمر: "لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا" رواه مالك في "الموطأ" ". قلت: هذا الأثر في "الموطأ" 1 / 46 عن يحيى بن سعيد عن محمد بن

إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر ... الخ. فالأثر من رواية يحيى بن عبد الرحمن عن عمر وليس من رواية يحيى بن سعيد عنه كما وقع في الكتاب فلعله سبق قلم من المؤلف أو سقط من الطابع. وهكذا رواه البيهقي 1 / 250 من طريق مالك والدارقطني 1 / 22 من طريق حماد ابن زيد: نا يحيى بن سعيد به. ثم إن هذا الأثر ضعيف أيضا لا يثبت عن عمر لأن ابن حاطب هذا لم يدرك عمر فإنه ولد في خلافة عثمان رضي الله عنهما. ولذلك جزم النووي في "المجموع" 1 / 174 بأنه مرسل منقطع. ولكنه استدرك فقال: "إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه". قلت: يشير إلى حديث جابر وابن عمر المتقدمين وقد علمت ما فيهما من الضعف في السند والنكارة في المتن لمخالفتهما لحديث القلتين فتذكر.

ومن النجاسات

ومن النجاسات قوله تحت الفقرة ج: "عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلدها وكل ما هو من جنس ذلك طاهر لأن الأصل في هذه كلها الطهارة ولا دليل على النجاسة". فأقول: بلى قد قام الدليل على نجاسة جلد الميتة في أحاديث كثير معروفة كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" رواه مسلم وغيره. وغير مخرجة في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" 25 – 29. وفي "نيل الأوطار" 1 / 53 - 54 وغيره فلا أدري لم أعرض المؤلف عنها؟! ومن الغريب حقا أنه

ذكر في الباب حديث ابن عباس في قصة شاة مولاة ميمونة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ ". وهو صريح في أن الانتفاع به لا يكون إلا بعد الدبغ. ولعله منعه من الاحتجاج به قوله: "وليس في البخاري والنسائي ذكر الدباغ". وهذا ليس بشيء عند أهل العلم لأن الحكم للزائد ولا سيما إذا كان له شواهد كما سبق ولهذا قال الحافظ في شرح حديث البخاري 9 / 658: واستدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا سواء دبغ أم لم يدبغ لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ" ثم رأيت المؤلف قد رجع إلى الصواب في آخر هذا الباب عند عنوان: "تطهير جلد الميتة" واحتج بحديث مسلم المتقدم ولكنه قال: "رواه الشيخان" فوهم! ثم ذكر المؤلف من النجاسات الدم سواء كان دما مسفوحا أم دم حيض ... ثم قال: "وقال الحسن: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم. ذكره البخار ي ... " في هذا الفصل أمور لم يحقق المؤلف القول فيها لا من الناحية الحديثية ولا من الناحية الفقهية. 1 - أما الناحية الحديثية ففيها ما يأتي: الأول: قوله في أثر الحسن: ذكره البخاري فاوهم أنه موصول عنده لأنه المقصود اصطلاحا عند إطلاق العزو إليه وهو إنما رواه معلقا بغير إسناد وقد وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح كما في "الفتح ": 1 / 281. الثاني: قوله: "وكان أبو هريرة لا يرى بأسا بالقطرة والقطرتين في الصلاة".

سكت عليه فأوهم أنه ثابت عنه وليس كذلك فقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1 / 137 - 138 حدثنا شريك عن عمران بن مسلم عن مجاهد عن أبي هريرة. قلت: وهذا إسناد ضعيف لا يصح: شريك - وهو ابن عبد الله القاضي - ضعيف لسوء حفظه وشيخه عمران بن مسلم يحتمل أنه الفزاري الكوفي فقد ذكروا في الرواة عنه شريكا ولكنهم لم يذكروا في شيوخه مجاهدا والآخر: الأزدي الكوفي فقد ذكروا من شيوخه مجاهدا! ولكنهم لم يذكروا في الرواة عنه شريكا! فإن يكن الأول فهو ثقة. وإن يكن الآخر فرافضي خبيث. والله أعلم. ثم هو مع ضعفه مخالف لما صح عن أبي هريرة قال: لا وضوء إلا من حدث. رواه البخاري معلقا ووصله إسماعيل القاضي بإسناد صحيح كما قال الحافظ وقد جاء مرفوعا بلفظ: "إلا من صوت أو ريح" وهو مخرج في "المشكاة" 310 / التحقيق الثاني و "الإرواء" 1 / 145 و153 و "صحيح أبي داود" 196 ورواه مسلم بنحوه. ومخالف أيضا لحديث الأنصاري الذي قام يصلي في الليل فرماه المشرك بسهم فوضه فيه فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دما. كما علقه البخاري ووصله أحمد وغيره وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 193 وهو في حكم المرفوع لأنه يستبعد عادة أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فلو كان الدم الكثير ناقضا لبينه صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم من علم الأصول. وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفي ذلك عليه فما هو بخاف على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء

فلو كان ناقضا أو نجسا لأوحى بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر لا يخفى على أحد وإلى هذا ذهب البخاري كما دل عليه تعليقه بعض الآثار المتقدمة واستظهره في "الفتح" وهو مذهب ابن حزم 1 / 255 -. 2 - وأما من الناحية الفقهية ففيها: أولا: التسوية بين دم الحيض وغيره من الدماء كدم الإنسان ودم مأكول اللحم من الحيوان وهذا خطأ بين وذلك لأمرين اثنين: 1 - أنه لا دليل على ذلك من السنة بله الكتاب والأصل براءة الذمة إلا نص. 2 - أنه مخالف لما ثبت في السنة أما بخصوص دم الإنسان المسلم فلحديث الأنصاري الذي صلى وهو يموج دما وقد مضى قريبا. وأما دم الحيوان فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نحر جزورا فتلطخ بدمها وفرثها ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ. أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 1 / 125 وابن أبي شيبة 1 / 392 والطبراني في "المعجم الكبير" 9 / 28 4 بسند صحيح عنه ورواه البغوي في "الجعديات" 2 / 887 / 2503 وروى عقبه عن أبي موسى الأشعري: "ما أبالي لو نحرت جزورا فتلطخت بفرثها ودمها. ثم صليت ولم أمس ماء" وسنده ضعيف. ثانيا: تفريقه بين الدم القليل والكثير وهذا وإن كان مسبوقا إليه من بعض الأئمة فإنه مما لا دليل عليه من السنة بل حديث الأنصاري يبطله كما هو ظاهر. ولم يستدل المؤلف على هذا التفريق بغير أثر أبي هريرة المتقدم وقد عرفت

ضعفه وإن روي مرفوعا ففي إسناده متروك كما في "نيل الأوطار" وقد خرجته في "الضعيفة" 4386 وقد أجاد الرد على هذا التفريق ابن حزم رحمه الله في آخر الجزء الأول من "المحلى" فليراجعه من شاء وكذا القرطبي وابن العربي في تفسيريهما فانظر إن شئت "الجامع لأحكام القرآن" 8 / 263. ومن عجيب أمر المؤلف أنه سوى هنا في النجاسة بين الدماء ولم يستثن منها دماء الحيوانات المأكولة اللحم وفرق فيما يأتي بين بول الآدمي النجس وبول ما يؤكل لحمه من الحيوانات فحكم بطهارته تمسكا بالأصل واستصحابا للبراءة الأصلية فهلا تمسك بذلك هنا أيضا لأن الدليل واحد هنا وهناك؟!

ومن النجاسات

ومن النجاسات قوله في صدد عد النجاسات: "قئ الآدمي ... إلا أنه يعفى عن يسيره". قلت: لم يذكر المؤلف الدليل على ذلك اللهم إلا قوله: إنه متفق على نجاسته وهذه دعوى منقوضة فقد خالف في ذلك ابن حزم حيث صرح بطهارة قئ المسلم راجع "المحلى" 1 / 183 وهو مذهب الإمام الشوكاني في "الدرر البهية" وصديق خان في "شرحها" 1 / 18 - 20 حيث لم يذكرا في النجاسات قئ الآدمي مطلقا وهو الحق ثم ذكرا أن في نجاسته خلافا ورجحا الطهارة بقولهما: "والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه". وذكر نحوه الشوكاني أيضا في "السيل الجرار" 1 / 43. وهذا الأصل قد اعتمده المؤلف في غير ما مسألة مثل طهارة أبوال ما يؤكل

لحمه وطهارة الخمر فيما ذكر هو بعد وهو أصل عظيم من أصول الفقه فلا أدري ما الذي حمله على تركه هنا مع أنه ليس في الباب ما يعارضه من النصوص الخاصة؟ وأما قوله: "ويعفى عن يسير القيء" فمجرد دعوى لا دليل عليها ولو رجع إلى الأصل المذكور لاستراح ولم يحتج إليها. قوله تحت رقم 12 -: "وذهبت طائفة إلى القول بطهارتها" يعني: الخمر. قلت: يحسن أن أذكر هنا أسماء بعض الأئمة الذين اختاروا هذا القول مع شيء يسير من تراجمهم حتى لا يظن بهم أحد أن لا شأن لهم في العلم ولا قدم راسخة لهم في الفقه بينما لهم في ذلك القدح المعلى: 1 - ربيعه بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ "ربيعة الرأي" قال في "التهذيب ": "أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين وكان صاحب الفتوى بالمدينة وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة وكان يحضر في مجلسه أربعون معتما وعنه أخذ مالك". 2 - الليث بن سعد المصري الفقيه إمام مشهور اعترف بفضله كبار الأئمة منهم الإمام مالك في رسالة كتبها إليه بل قال الإمام الشافعي: "الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به". وقال ابن بكير: "الليث أفقه من مالك ولكن كانت الحظوة لمالك". 3 - إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي وهو إمام مجتهد منسوب إلى الشافعي كما قال النووي في "المجموع" 1 / 72. وغير هؤلاء كثيرون من المتأخرين من البغداديين والقرويين رأوا جميعا أن الخمر طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها كما في "تفسير القرطبي" 6 / 88 وهو الراجح وللأصل المشار إليه آنفا وعدم الدليل المعارض.

ومن فوائد تكثر الحاجة إليها

ومن فوائد تكثر الحاجة إليها قوله تحت رقم 5 -: "إذا انصرف الرجل من صلاته فرأى على ثوبه أو بدنه نجاسة لم يكن عالما بها ... فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه". قلت: والدليل على هذا القدر المذكور من كلامه حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا" وقال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما". رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح وهو مخرج في "الإرواء" 284 وقد ذكره المؤلف قبيل هذا الفصل ساكتا عليه!

ومن قضاء الحاجة قوله تحت رقم 3 -: الجهر بالتسمية لحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". رواه الجماعة. قلت: وهم المؤلف حفظه الله في عزو الحديث بهذا السياق للجماعة إذ ليس عندهم ولا عند أحد منهم: "بسم الله" وقد ساق الحديث مجد الدين ابن تيمية في "المنتقى" برواية "الجماعة" بلفظ: "كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم ... " ثم قال: ولسعيد بن منصور في "سننه ": كان يقول: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". فكأن المؤلف نقل الحديث من "المنتقى" وفي أثناء النقل لرواية الجماعة منه انتقل بصره إلى لفظة البسملة في رواية سعيد فيه فكتبها في روايتهم وليست منها! ورواية الجماعة مخرجة في "الإرواء" رقم 51 و "صحيح أبى داود" 3 وغيرهما. وثمة وهم آخر فإن المؤلف كأنه تسامح في رواية الحديث بالمعنى فانه قال: كان إذا أراد أن يدخل ... " فزاد لفظ: "أراد" من عنده وليس يحسن ذلك رواية. وأما رواية سعيد بزيادة البسملة فقد أخرجها ابن أبي شيبة أيضا في "المصنف" 1 / 1 من طريق أبي معشر نجيح عن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس نحوه.

ومن قضاء الحاجة

ومن قضاء الحاجة قوله تحت رقم 3 -: الجهر بالتسمية لحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". رواه الجماعة. قلت: وهم المؤلف حفظه الله في عزو الحديث بهذا السياق للجماعة إذ ليس عندهم ولا عند أحد منهم: "بسم الله" وقد ساق الحديث مجد الدين ابن تيمية في "المنتقى" برواية "الجماعة" بلفظ: "كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم ... " ثم قال: ولسعيد بن منصور في "سننه ": كان يقول: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". فكأن المؤلف نقل الحديث من "المنتقى" وفي أثناء النقل لرواية الجماعة منه انتقل بصره إلى لفظة البسملة في رواية سعيد فيه فكتبها في روايتهم وليست منها! ورواية الجماعة مخرجة في "الإرواء" رقم 51 و "صحيح أبى داود" 3 وغيرهما. وثمة وهم آخر فإن المؤلف كأنه تسامح في رواية الحديث بالمعنى فانه قال: كان إذا أراد أن يدخل ... " فزاد لفظ: "أراد" من عنده وليس يحسن ذلك رواية. وأما رواية سعيد بزيادة البسملة فقد أخرجها ابن أبي شيبة أيضا في "المصنف" 1 / 1 من طريق أبي معشر نجيح عن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس نحوه.

وكذا رواه ابن أبي حاتم في "العلل" 1 / 64. وأبو معشر ضعيف فلا تقبل منه هذه الزيادة. ويظهر لي أن الحافظ ابن حجر لم يقف على هذه الزيادة فقد قال في "الفتح ": "وقد روى المعمرى هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب - يعني عن أنس - بلفظ الأمر قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث". وإسناده على شرط مسلم وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية". قلت: وهي عندي شاذة لمخالفتها لكل طرق الحديث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس في "الصحيحين" وغيرهما ممن سبقت الإشارة إليهم. وقد رويت في حديث آخر عن أنس من طريق قتادة عنه بلفظ: "هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: بسم الله". لكنه ضعيف بهذا السياق اضطرب فيه بعض الرواة في سنده ومتنه والصواب أنه من مسند زيد بن أرقم مرفوعا بلفظ: "إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث". وإسناده صحيح على شرط البخاري كما بينته في "صحيح سنن أبي داود" برقم 4. وبالجملة فذكر البسملة في هذا الحديث من طريقين عن أنس شاذ أو منكر

لكن قد جاء ما يدل على مشروعية التسمية عند دخول الخلاء وهو حديث علي رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول: بسم الله". أخرجه الترمذي 2 / 504 - طبعة أحمد شاكر وابن ماجه 1 / 127 - 128 وضعفه الترمذي لكن مال مغلطاي إلى صحته كما قال المناوي وله شاهد من حديث أنس عند الطبراني من طريقين عنه فالحديث حسن على أقل الدرجات ثم خرجت الحديث وتكلمت على طرقه وبينت ما لها وما عليها في "الإرواء" 50 فليراجعه من شاء. ثم اعلم أنه ليس في شيء من هذه الأحاديث أو غيرها الجهر الذي ذكره المؤلف حفظه الله فاقتضى التنبيه. قوله تحت رقم 4 -: ... وحديث أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحديث بظاهره يفيد حرمة الكلام إلا أن الإجماع صرف النهي عن التحريم إلى الكراهة". قلت: الحديث ضعيف لا يصح إسناده وله علتان: الأولى: أنه من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عنه وقد طعن العلماء في رواية عكرمة عن يحيى خاصة فقال أبو داود: "في حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب". وقال الحافظ في "التقريب ": "صدوق يغلط وفي روايته عن يحيى اضطراب ولم يكن له كتاب".

قلت: ومن اضطرابه في هذا الحديث أنه مرة رواه عن يحيى عن هلال ومرة أخرى قال: عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وكأنه لهذا قال المنذري في "الترغيب" بعد أن ذكره من حديث أبي هريرة برواية الطبراني: "إسناده لين". الثانية: أن هلال بن عياض قال المنذري: "هو في عداد المجهولين". وقال الذهبي: "لا يعرف". وقال الحافظ في "التقريب ": "مجهول". ولذلك أوردت الحديث في كتابي "ضعيف سنن أبي داود" رقم 3 وقد تكلمت عليه فيه بتفصيل ولم يتنبه الشوكاني في "السيل" 1 / 68 للعلة الأولى وأجاب عن الأخرى بأن هلالا ذكره ابن حبان في "الثقات" وكأنه لم يستحضر كلام الحافظ وغيره في تساهل ابن حبان في التوثيق ولا تجهيل من ذكرنا لهلال هذا ويقال: عياض بن هلال. وهكذا أورده ابن حبان في "الثقات" 5 / 265 ولم يذكر له راويا غير يحيى بن أبي كثير! فإذا ثبت ضعف الحديث فلا يجوز إثبات الحكم به بل ولا إيراده إلا مع بيان ضعفه على أن الذي أفهمه من الحديث النهي عن التحدث مع الآخر حالة كشفهما عن عورتيهما وأما الحديث بدون كشف فما أرى الحديث يدل على النهي عنه لو صح فليتأمل. قوله في التعليق رقم 5 -: "وهذا الوجه أصح من سابقه". فأقول: هو كذلك لولا أنه لم يظهر في فعله صلى الله عليه وسلم المخالف لقوله أنه فعل

ذلك تشريعا للناس كيف وهو أمر لا يمكن الاطلاع عليه عادة كما لا يخفى؟! فالصواب القول بالتحريم مطلقا في الصحراء والبنيان وهذا الذي انتهى إليه الشوكاني في "نيل الأوطار" و "السيل الجرار" 1 / 69 قال فيه: "وحقيقة النهي التحريم ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصا به. وهذه المسألة مقررة في الأصول محررة أبلغ تحرير وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف. ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان خاصا بالعمران فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين". قلت: ويعني أنه لم يقم الدليل المشار إليه فبقي الحكم على عمومه والفعل خاص به صلى الله عليه وسلم. وأما قول ابن عمر في حديث مروان الأصفر الذي ذكره المؤلف عقب الحديث السابق: "إنما نهى عن هذا في الفضاء ... " فليس صريحا في الرفع بل يمكن أن يكون ذلك فهما منه لفعله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فلا ينهض دليلا للتخصيص بالصحراء كما بينه الشوكاني فليراجعه من شاء 1 / 73. وإن مما يؤيد العموم الأحاديث التي وردت في النهي عن البصق تجاه القبلة في المسجد وخارجه ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه". وهو مخرج في "الصحيحة" 222 و223 وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها وفي المسجد أو غيره كما نقلته عنه هناك وبه قال الصنعاني. فإذا كان البصق تجاه القبلة في البنيان منهيا عنه محرما أفلا يكون البول والغائط تجاهها محرما من باب أولى؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار!

قوله تحت رقم 7 -: ... لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر قالوا لقتادة: ما يكر من البول في الجحر؟ قال: "إنها مساكن الجن". رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن السكن. قلت: الحديث ضعيف وتصحيح من صححه تساهل أو خطأ منهم فإن له علة تمنع الحكم عليه بالصحة وهي عنعنة قتادة فإنه مدلس فقد أورده في "المدلسين" الحافظ برهان الدين الحلبي في "التبيين لأسماء المدلسين" وقال: "إنه مشهور بالتدليس" وكذلك قال الحافظ ابن حجر في "طبقات" المدلسين" وزاد: "وصفه به النسائي وغيره". وأورده الحافظ في "المرتبة الثالثة" وهى التي خصها كما قال في "المقدمة ": بـ "من أكثر من التدليس فلم يحتج به الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبلهم". هذا يقال فيما لوثبت سماع قتادة من ابن سرجس في الجملة وقد أثبته علي ابن المديني ونفاه غيره فقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص 111: "فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة....وأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس". فالحديث عنده منقطع ومع ذلك فقد أورده في "المستدرك" وصححه فكأنه ذهل عن علة الحديث ولهذا ضعف ابن التركماني الحديث فقال في "الجوهر النقي": "قلت: روى ابن أبي حاتم عن حرب بن إسماعيل عن ابن حنبل قال: ما

أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن أنس قيل له: فابن سرجس؟ فكأنه لم يره سماعا"1. قوله تحت رقم 9 -: ... لحديث عبد الله بن معقل كذا والصواب مغفل2 أن النبي صلى الله عليه وسلم لا قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فان عامة الوسواس منه". رواه الخمسة. قلت: القول في هذا الحديث كالقول في الذي قبله فإن مدار هذا عند جميع مخرجيه على الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل والحسن البصري على جلالة قدره فإنه من المشهورين بالتدليس كما قال برهان الدين الحلبي وقال الحافظ في "التقريب ": "كان يرسل كثيرا ويدلس" وقال الذهبي: "كان كثير التدليس فإذا قال في حديث: "عن فلان" ضعف احتجاجه ولا سيما بمن قيل: إنه لم يسمع منهم كأبي هريرة وغيره". وقد أشار الترمذي إلى ضعف الحديث فقال بعد أن خرجه: "حديث غريب" ولذلك أوردته في "ضعيف أبي داود" رقم 7. لكن في الباب حديث آخر بلفظ: نهى رسول الله أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله.

_ 1 تنبيه: وقع هذا الحديث سهوا في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم 150 فينقل إلى "ضعيف الترغيب والترهيب" وهو مخرج في "ضعيف أبى داود" أيضا رقم 6 و "إرواء الغليل" 1 / 93 / 55. 2 صححت في الطبعات التالية.

أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح صححه جمع كالعسقلاني وغيره وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 21 فلو أن المؤلف احتج به لأصاب! ثم ذكر في آداب قضاء الحاجة: "أن لا يبول في الماء الراكد أو الجاري". قلت: أما الماء الراكد فنعم لأن الحديث الوارد فيه صحيح أخرجه مسلم وغيره كما في الكتاب من حديث جابر. وله شاهد أقوى منه من حديث أبي هريرة رواه الشيخان وهو مخرج في "صحيح أبي داود" رقم 61 و62. أما الماء الجاري فلا لأن الحديث أورده عقب حديث جابر قائلا: وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري قال في "مجمع الزوائد ": رواه الطبراني ورجاله ثقات". كذا قال وفيه من لا يعرف وآخر متهم وعنعنة أبي الزبير وقد رواه الليث عنه بلفظ: "الدائم" رواه مسلم وغيره كما تقدم ورواية الليث عنه صحيحة لأنه لا يروي عنه إلا ما صرح له بالسماع كما هو معروف فهذا هو المحفوظ في حديث جابر. وأما لفظ: "الجاري" فهو منكر وقد بوب أبو عوانة لحديث الليث بقوله: "بيان حظر البول في الماء الراكد والدليل على إباحة البول في الماء الجاري". فسقط بهذا البيان إلحاق المؤلف الماء الجاري بالماء الراكد وحديثه الذي استدل به قد بسطت الكلام على نكارته في "الضعيفة" برقم 5227. تنبيه: ثم إن فيما عزاه المؤلف ل "مجمع الزوائد" أنه رواه الطبراني

اختصارا مخلا لأن من المصطلح عند العلماء أن إطلاق العزو للطبراني يعني أنه رواه في "المعجم الكبير" فإذا أرادوا غيره قيدوا العزو وهذا ما فعله الهيثمي في "المجمع" 1 / 204 فإنه قال: "رواه الطبراني في "الأوسط" ... " وكذلك قال المنذري في الترغيب. قوله تحت رقم 10 -: قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا جالسا رواه الخمسة إلا أبا داود وقال الترمذي: وهو أحسن شيء في هذا الباب وأصح. قلت: إسناده عن عائشة ضعيف فيه شريك - وهو ابن عبد الله القاضي - وهو ضيف لا يحتج بما تفرد به كهذا الحديث قال الحافظ في "التقريب ": "صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء". وقول الترمذي: "هو أحسن شيء ... " لا يفيد حسنه فضلا عن صحته وإنما يعطي حسنا أو صحة نسبيا كما هو معروف عند من لهم عناية بهذا العلم الشريف. ثم وجدت لشريك متابعا قويا فصح بذلك الحديث لكنه ناف وحديث حذيفة الذي بعد هذا في الكتاب مثبت ومن المعلوم أن المثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم فيجوز الأمران والواجب الاحتراز من رشاش البول فبأيهما حصل وجب وانظر إن شئت الإرواء" 1 / 95 و "الصحيحة". وأما حديث: "من الخطأ أن يبول الرجل قائما" فلا يصح مرفوعا. والصواب موقوف وبيانه في "الإرواء" 59.

وقول الشوكاني في "السيل" 1 / 67: "إن البول من قيام إذا لم يكن محرما فهو مكروه كراهة شديدة" مما لا يلتفت إليه. قوله تحت رقم 10 -: روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ... رواه الجماعة. قلت: الحديث صحيح بلا شك فتصديره بقوله: "روي" يشعر بأنه ضيف كما اتفق عليه المحدثون فكان الواجب أن يقال: "ورد" أو نحو ذلك مما يشعر بثبوت الحديث. انظر القاعدة 13. قوله تحت رقم 11 -: "أن يزيل ما على السبيلين من النجاسات وجوبا بالحجر ... أو بالماء فقط أوبهما معا". قلت: الجمع بين الماء والحجارة في الاستنجاء لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم فأخشى أن يكون القول بالجمع من الغلو في الدين لأن هديه صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بأحدهما "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ... ". وأما حديث جمع أهل قباء بين الماء والحجارة ونزول قوله تعالى فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فضعيف الإسناد لا يحتج به ضعفه النووي والحافظ وغيرهما وأصل الحديث عند أبي داود وغيره من حديث أبي هريرة دون ذكر الحجارة ولذلك أورده أبو داود في "باب الاستنجاء بالماء" وله شواهد كثيرة ليس في شيء منها ذكر الحجارة وقد بينت ذلك في "صحيح سنن أبي داود" رقم 34.

_ 1 وأما ما أخرجه البيهقي 1 / 106 من طريق عبد الملك بن عمر قال: قال علي بن أبي طالب: إنهم كانوا يبعرون بعرا وأنتم تثلطون ثلطا فأتبعوا الحجارة الماء. فهو مع أنه موقوف فلا يصح لأنه منقطع بين عبد الملك بن عمر وعلي فإنه ليس له رواية عنه ثم هو مدلس ولم يصرح بالسماع منه.

قوله تحت رقم 14 -: ... لحديث الحكم بن سفيان أو سفيان بن الحكم قال: كان النبي "صلى الله عليه وسلم "إذا بال توضأ وينتضح" قلت: هذا الحديث لا يصح متنه لأن فيه اضطرابا كثيرا على نحو عشرة وجوه لخصها الحافظ في "التهذيب" وفي ثبوت صحبة الحكم بن سفيان خلاف. لكن الحديث له شواهد أوردت بعضها في "صحيح أبي داود" رقم 159 منها حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة ونضح فرجه. أخرجه الدارمي والبيهقي وسنده صحيح على شرط الشيخين فلو أن المؤلف آثر هذا الحديث لصحة إسناده على ذلك أو على الأقل أشار إليه لكان أحسن. قوله تحت رقم 15 -: وروي من طرق ضعيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" وقوله: "الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في قوته وأذهب عني أذاه". فأقول: قوله: "من طرق ضعيفة" ليس دقيقا في التعبير عن حال هذين الحديثين فإن الأول من حديث أبي ذر ومن حديث أنس وهما مخرجان في "الإرواء" برقم 53 بإسنادين ضعيفين. والآخر من حديث ابن عمر وهو مخرج في "الضعيفة" برقم 4187. وقد فصلت القول في ذلك في "الأحاديث الضعيفة" برقم 5658 وبينت أن حديث أبي ذر في إسناده جهالة واضطراب واختلاف في المتن. ثم إن قوله: "من طرق ضعيفة" قد يشعر أن لكل من الحديثين أكثر من طريق واحد بحيث يتوارد على ذهن القارئ ما يقال من أن الحديث الضيف يتقوى بكثرة الطرق فيتوهم أن هذا الذي يعنيه المؤلف بقوله المذكور: "من طرق ضعيفة" ولعله لا يقصد ذلك لما سبق بيانه.

ومن سنن الفطرة

ومن سنن الفطرة قوله في التعليق: "أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح منها شيء". أقول: ليس هذا على إطلاقه فقد صح قوله صلى الله عليه وسلم لبعض الختانات في المدينة: "اخفضي ولا تنهكي فإنه أنضر للوجه وأحظى للزوج". رواه أبو داود والبزار والطبراني وغيرهم وله طرق وشواهد عن جمع من الصحابة خرجتها في "الصحيحة" 2 / 353 - 358 ببسط قد لا تراه في مكان آخر وبينت فيه أن ختن النساء كان معروفا عند السلف خلافا لبعض من لا علم بالآثار عنده. وإن مما يؤكد ذلك كله الحديث المشهور: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" وهو مخرج في "الإرواء" رقم 80. قال الإمام أحمد رحمه الله: "وفي هذا دليل على أن النساء كن يختن". انظر "تحفة المودود في أحكام المولود" لابن القيم ص 64 – هندية. ثم قال في الختان: "ولم يرد تحديد وقت ولا ما يفيد وجوبه". قلت: أما التحديد فورد فيه حديثان: الأول: عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام رواه الطبراني في "المعجم الصغير" ص 185 بسند رجاله ثقات لكن فيه محمد بن أبي السري العسقلاني وفيه كلام من قبل حفظه والوليد بن

مسلم يدلس تدليس التسوية1 وقد عنعنه. والحديث عزاه الحافظ في "الفتح" 10 / 282 لأبي الشيخ والبيهقي وسكت عليه الحافظ فلعله عندهما من طريق أخرى. الثاني: عن ابن عباس قال: سبعة من السنة في الصبي يوم السابع: يسمى ويختن ... الحديث. رواه الطبراني في "الأوسط" 1 / 334 / 562 وقال الهيثمي في "المجمع" 4 / 59: "رجاله ثقات" وأما الحافظ فقال في "الفتح" 9 / 483: "أخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده ضعف" قلت: وهو الصواب لأن في سنده رواد بن الجراح وفيه ضعف كما في الكاشف للذهبي لكن أحد الحديثين يقوي الآخر إذ مخرجهما مختلف وليس فيهما متهم وقد أخذ به الشافعية فاستحبوا الختان يوم السابع من الولادة كما في "المجموع" 1 / 307 وغيره

_ 1 هو شر أنواع التدليس وصورته أن يجئ المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالعنعة ونحوها فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هر بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل. كذا في "شرح علوم الحديث" للعراقي ص 78. وقد يسقط المدلس شيخ الشيح لا لضعفه بل لصغر سنه يفعل ذلك تحسينا للحديث بزعمه.

وأما الحد الأعلى للختان فهو قبل البلوغ قال ابن القيم: "لا يجوز للولي أن يترك ختن الصبي حتى يجاوز البلوغ". انظر "تحفة المودود في أحكام المولود" له ص 60 – 61. وأما حكم الختان فالراجح عندنا وجوبه وهو مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد واختاره ابن القيم وساق في التدليل على ذلك خمسة عشر وجها وهي وإن كانت مفرداتها لا تنهض على ذلك فلا شك أن مجموعها ينهض به ولا يتسع المجال لسوقها جميعا ههنا فأكتفي منها بوجهين: الأول: قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} والختان من ملته كما في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب وهذا الوجه أحسن الحجج كما قال البيهقى ونقله الحافظ 10 / 281. الثاني: أن الختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلف منهم. ومن شاء الاطلاع على بقية الوجوه المشار إليها فليراجع كتاب "التحفة" ص 53 – 60. ثم ذكر تحت رقم 7 - حديث عطاء بن يسار قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ... رواه مالك. قلت: عطاء هذا تابعي معروف فالحديث مرسل ضعيف وقد جاء موصولا من حديث جابر بلفظ آخر أتم منه وليس فيه ذكر اللحية. رواه أبو داود وغيره. وهو مخرج في "الصحيحة" 493.

ثم قال: وعن أبي قتادة: أنه كان له جمة ضخمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم رواه النسائي ورواه مالك في" الموطأ" بلفظ: قلت: إن لي جمة فأرجلها؟ قال: "نعم وأكرمها". فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم: "وأكرمها". فأقول: هذا الحديث لا يصح عن أبي قتادة لانقطاع إسناده واضطراب متنه. أما الانقطاع فهو أن النسائي رواه في "سننه" 2 / 292 من طريق عمر بن علي بن مقدم قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن أبي قتادة ... وهذا إسناد ظاهره الصحة فإن رجاله ثقات رجال الشيخين لكن له علة خفية وهي أن ابن مقدم هذا مع كونه ثقة فقد كان يدلس تدليسا غريبا بينه ابن سعد بقوله: "كان ثقة وكان يدلس تدليسا شديدا يقول: "سمعت" و "حدثنا" ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة والأعمش ... " ولذلك قال الحافظ في "مقدمة الفتح" ص 431: "وعابوه بكثرة التدليس ولم أر له في "الصحيح" إلا ما توبع عليه". ولم يوثقه في "التقريب" فإنه اقتصر على قوله فيه: "وكان يدلس شديدا". فمثله لا يحتج به ولو صرح بالتحديث إلا إذا توبع فكيف إذا خولف؟ فقد قال مالك في روايته 3 / 624:

" عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال ... " فذكره. فأسقط بين يحيى وأبي قتادة محمد بن المنكدر فصار منقطعا لأن يحيى ابن سعيد - وهو ابن قيس الأنصاري المدني - لم يدرك أبا قتادة ولهذا قال السيوطي في "تنوير الحوالك ": "هو منقطع وقد أخرجه البزار من طريق عمر بن علي المقدمي عن يحيى ابن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر". قلت: وهذه خلاف رواية النسائي فإنها عن أبي قتادة وهذه عن جابر فهذا اختلاف آخر في إسناده. وقد وجدت له طريقا أخرى عن كل من أبي قتادة وجابر. أما الطريق عن أبي قتادة فقال الطبراني في "الأوسط" رقم 4090: حدثنا علي بن سعيد الرازي قال: نا سليمان بن عمر بن خالد الرقي قال: ثنا يحيى ابن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عطاء عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اتخذ شعرا فليحسن إليه أو ليحلقه" وكان أبو قتادة يرجل شعره غبا. وقال الطبراني: "لم يروه عن ابن جريج إلا يحيى بن سعيد الأموي". قلت: وهو ثقة من رجال الشيخين وكذا من فوقه وإنما النظر فيمن دونهم وقد قال الهيثمي في "المجمع" 5 / 164: " رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه علي بن سعيد الرازي قال الدارقطني: ليس بالقوي وبقية رجاله رجال الصحيح". كذا قال! وسليمان بن عمر وأبوه ليسا من رجال "الصحيح" بل ولا من رجال

" السنن الأربعة" والأول له ترجمة في "الجرح والتعديل" 2 / 1 / 131 بكتابة أبي حاتم عنه وفي "ثقات ابن حبان" 8 / 280 وقال: "حدثنا عنه شيخنا الخضر بن أحمد بن قيدهوز بـ "حران" - وغيره مات سنة تسع وأربعين ومائتين". وأما أبو عمر بن خالد الرقي فلم أر له ترجمة إلا عند ابن حبان ترجمة موجزة جدا لا طائل تحتها فقد قال 8 / 444: " يروي عن موسى بن أعين. روى عنه ابنه سليمان بن عمر بن خالد". قلت: فهو في عداد المجهولين. والله أعلم. بقي الكلام على الطريق الأخرى عن جابر وهي في الحقيقة تعود إلى الطريق الأولى التي رواها النسائي فقال الطبراني في "الأوسط" أيضا 1 / 387 / 675 - المطبوعة: حدثنا أحمد قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان لأبي قتادة جمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيها؟ فقال: "أكرمها وادهنها". وقال الطبراني: "لم يروه عن يحيى إلا إسماعيل". قلت: إسماعيل ثقة ولكنه في روايته عن الحجازيين ضعيف وهذه منها. ولكنه قد تابعه ابن مقدم كما تقدم إلا أنه مدلس فمن الممكن أن يكون تلقاه عن إسماعيل ثم دلسه فلا قيمة حينئذ لهذه المتابعة ولعله لذلك جزم الطبراني بأنه لم يروه عن يحيى إلا إسماعيل. والله أعلم.

وأما اضطراب المتن فذلك ظاهر من الروايات المتقدمة ويمكن تلخيصها بالوجوه الآتية: الأول: رواية النسائي المرفوعة: وأن يترجل كل يوم. الثاني: رواية مالك: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين. الثالث: رواية عطاء: وكان أبو قتادة يرجل شعره غبا. الرابع: رواية إسماعيل المرفوعة: أكرمها وادهنها. فهذا - كما ترى - اضطراب شديد لا يمكن التوفيق بين هذه الوجوه إلا بترجيح وجه منها ولا سبيل إلى ذلك لضعف أسانيدها كما رأيت فلا بد من تلمس المرجح من خارجها. وقد وجدنا حديثين: الأول: نهى عن الترجل إلا غبا. والآخر: كان ينهانا عن الإرفاه: الترجل كل يوم. وهما مخرجان في "الصحيحة" 501 و502. ومن الواضح أن الأول يبطل الوجه الأول ويرجح عليه الوجه الثالث. وأن الحديث الآخر يؤكد بطلان الوجه الأول وأرجحية الوجه الثالث. والخلاصة أن الروايتين اللتين ذكرهما المؤلف عن أبي قتادة وجابر منكرتان سندا ومتنا فلا يعتمد عليهما ولا يجوز الأخذ بما فيهما مما يخالف الحديثين الصحيحين المذكورين آنفا. أما الأمر بإكرام الشعر فهو ثابت في عدة أحاديث وقد خرجت بعضها في المصدر السابق "الصحيحة" 500 و501 هو مقيد بالحديثين المشار إليهما كما هو ظاهر. وبالله التوفيق.

قوله في تغيير الشيب بالحناء: "قلت: وقد ورد ما يفيد كراهية الخضاب". قلت: لم أجد للمؤلف في هذه الدعوى سلفا ولا علمت لها أصلا ولعله يعني ورود ذلك عن الصحابة والذي نقله الشوكاني عنهم في "النيل" 1 / 103 إنما هو الاختلاف في الأفضل وليس الكراهة وعلى افتراض أنه روي ذلك عن أحد منهم فلا حجة فيه لأمرين: الأول: أن الصحابة لم يتفقوا على ذلك بل منهم من خضب كالشيخين رضي الله عنهما وهو في "صحيح مسلم" وغيره ومنهم من ترك والترك لا يدل على كراهة الخضاب بل على جواز تركه. الثاني: أنه مخالف للثابت عنه صلى الله عليه وسلم في قولا وفعلا. أما القول فقد ذكر المصنف فيه حديثين. وأما الفعل ففي "صحيح البخاري" وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها أخرجت من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوبا. وفي معناه أحاديث أخرى بوب لها الترمذي في "الشمائل المحمدية ": "باب ما جاء في خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" فراجعها إن شئت في كتابي "مختصر الشمائل" 41 / 37 – 41. وإن كان يعني ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر فنقول: إن كان يريد مطلق الورود - أعني سواء كان صحيحا أو ضعيفا فمسلم. وإن كان يريد الصحيح كما هو المتبادر من عبارته فمردود لأن غاية ما روي في ذلك حديثان: أحدهما ضعيف والآخر لا أصل له. أما الأول فحديث عبد الرحمن بن حرملة أن ابن مسود كان يقول: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال: الصفرة يعني الخلوق وتغيير الشيب

..الحديث" رواه أبو داود 2 / 197 وأحمد رقم 3605 3774 4179 وعبد الرحمن هذا قال ابن المديني فيه: "لا نعرفه من أصحاب ابن مسعود". وقال البخاري: "لا يصح حديثه". يعني هذا فقد ساقه الذهبي عقب عبارة البخاري هذه ثم قال الذهبي: "وهذا منكر". ثم سها الذهبي عن هذا فوافق في "التلخيص" الحاكم على تصحيحه للحديث في "المستدرك"! وأما توثيق ابن حبان لعبد الرحمن هذا فلا يعتد به لما ذكرته في "المقدمة" ولذلك لم يلتفت إلى توثيقه لهذا الرجل الذهبي في "الميزان" والحافظ في "التقريب" حيث أفاد أنه لين الحديث وعليه فلا يغتر بتصحيح الشيخ أحمد محمد شاكر لهذا الحديث لأنه بناه على توثيق ابن حبان للمذكور وكثيرا ما يفعل ذلك ويصحح أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها وقد كنت ناقشته في هذه المسألة في المدينة المنورة وهو في "الفندق" سنة 69 هـ بعد موسم الحج ولكني لم أصل معه إلى نتيجة مع الأسف والله يرحمنا وإياه. والحديث الثاني: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه بلفظ: "من شاب شيبة فهي نور إلا أن ينتفها أو يخضبها". هكذا أورده بعضهم وهو في "سنن أبي داود" والترمذي وحسنه وابن ماجه من هذا الوجه لكن دون قوله: "إلا أن ينتفها أو يخضبها" وكذلك هو في "المسند" 6672 6675 6937 6962 6989.

وفي رواية له: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب وقال: "هو نور". فهذا يدل على أن ذكر الخضاب في الحديث لا أصل له وتد قال الحافظ في "الفتح" بعد أن ساق الحديث باللفظ الأول: "أخرجه الترمذي وحسنه ولم أر في شيء من طرقه الاستثناء المذكور". قلت: ويستدرك عليه برواية أحمد التي فيها ذكر النتف. وثمة حديث ثالث ممكن أن يؤخذ حكم الخضاب من لفظه المطلق وهو: عن أم سليم مرفوعا: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا ما لم يغيرها". رواه الحاكم في "الكنى" كما في "الجامع الصغير" ورمز لحسنه كما قال المناوي في شرحه ولكن النفس لا تطمئن لتحسين السيوطي له لما عرف من تساهله فراجع "المقدمة: القاعدة الثامنة". ثم وقفت على سند الحديث وتبين لي أنني كنت على صواب في عدم الاعتماد على تحسينه وقد كشفت عن علته في "الصحيحة" تحت الحديث 1244 وحكمت بوضعه فأوردته في "ضعيف الجامع الصغير" 5651 وهو كتاب حافل بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لا مثيل له. والله الموفق. وخلاصة القول أنه لا يجوز معارضة الأحاديث الصحيحة المتضمنة لجواز الخضاب واستحبابه بهذه الأحاديث الضعيفة ولو صح شيء منها لوجب التوفيق بينها بوجه من وجوه الجمع بين الأحاديث وما أكثرها والوجه هنا أن يقال: إن التغيير المذكور في الحديث الأول والثالث هو النتف وهو منهي عنه صراحة في رواية أحمد للحديث الثاني. أو هو الخضب بالسواد فإنه منهي عنه. وبهذا شرح

الحديثان انظر الخطابي في "المعالم" والمناوي في "الفيض" وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" 6 / 103: "والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه فإن الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه. والثاني: خضابه بالسواد كما تقدم. والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره بغير السواد كالحناء والصفرة وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم". قال: "وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم وهو الصواب بلا ريب لما تقدم وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله. ورخص فيه آخرون ومنهم أصحاب أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن والحسين وفي ثبوته عنهم نظر ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أحق بالاتباع ولو خالفها من خالفها". قلت: وللأحاديث المتقدمة في الحض على الخضاب كثر اشتغال السلف بهذه السنة فترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون: "وكان يخضب" و "كان لا يخضب" ولا تزال هذه السنة معمولا بها في بعض البلاد الإسلامية ولا سيما التي لم تتأثر كثيرا بالمدنية الغربية وعاداتها السيئة. والحق أنها سنة ثابتة مستمرة وقد جرى عمل السلف عليها - كما تقدم - وتواردت الأحاديث في الحض على العمل بها فلا يجوز للمسلمين أن يحدثوا عرفا مخالفا لها ولاسيما مع بقاء علة الخضاب المنصوص عليها في حديث الجماعة: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". وهو مخرج في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" 104. ولذلك فإنا نقطع بأن ما ذهب إليه المؤلف من رجوع أمر الخضاب إلى

العرف والعادة خطأ واضح لا يجوز الاغترار به. والله الموفق. وأعتقد أن المؤلف - عفا الله عني وعنه - قد فتح بمذهبه هذا بابا واسعا من الشر لا يمكن غلقه إلا بإعطاء أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته التعبدية من التقدير والاعتبار ما تستحق فإنه إذا كان هو يرى ترك الخضاب مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا لمجرد مخالفة ذلك لعادة المسلمين اليوم فما الذي يمنع غير المؤلف - ممن ليس عنده من العلم بالسنة وقدرها ما عند المؤلف - أن يتجاوز هذه المسألة إلى غيرها ومنها إلى أخرى ويجيز تركها كلها على الرغم من أمره صلى الله عليه وسلم بها وحضه عليها كل ذلك لمخالفتها لعادة المسلمين وأذواقهم؟! وأي مسلمين؟ مسلمو القرن العشرين؟! لقد كنا ولا نزال نشكو من إعراض أكثر المسلمين عن العمل بالحديث تعصبا منهم لأئمتهم ونشكو من مخالفة بعض الصوفية للأوامر الشرعية لأنها - بزعمهم - لا تتفق مع أذواقهم وإذا بنا اليوم - ونحن ندعي الغيرة على الإسلام والعمل بالسنة - أمام تعصب جديد وصوفية حديثة نقدم أذواقنا وعاداتنا ونتعصب لها على هديه صلى الله عليه وسلم وأمره دون أن يكون لنافي ذلك قدوة فيمن سلف من إمام يوثق بعلمه وذوقه! قرأت منذ بضعة أيام كتاب "الإسلام المصفى"1 لأحد الكتاب الغيورين

_ 1 تأليف محمد عبد الله السمان وهو - والحق يقال كتاب قيم قد عالج فيه كثيرا من المسائل والقواعد التي تهم المسلم في العصر الحاضر ولكنه عفا الله عنه قد اشتط كثيرا في بعض ما تحدث عنه ولم يكن الصواب فيه حليفه مثل مسالة إعفاء اللحية الآتية ومثل إنكاره شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الذنوب وإنكاره نزول عيسى وخروج الدجال والمهدي. قد أنكر كل ذلك وزعم أنها "ضلالات مصنوعة" وأن الأحاديث التي وردت فيها أحاديث آحاد لم تبلغ حد التواتر. ونحن نقول للأستاذ كلمتين مختصرتين: =

على الإسلام - كما يبدو ذلك من كتابه - والحريصين على بقائه نقيا سليما كما كان في عهده صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول - بعد أن ساق أحاديث صحيحة في الأمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين - ما نصه: "والأمر بإعفائها لم يكن إلا من قبل الندب وشأنها شأن كل المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام ولا يفرضها على أتباعه بل يتركها لأذواقهم وما تتطلبه بيئاتهم وعصورهم"! فانظر لهذا الغيور على أحكام الإسلام كيف مهد لنسف الأمر بإعفاء اللحية بأن حمل الأمر بها على الندب أولا ثم زعم أن الإسلام ترك هذا الأمر المندوب لأذواق المسلمين وبيئاتهم فإذا استذوقوه فعلوه لا لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم بل لأنه موافق

_ = 1 - دعواك أن الأحاديث المشار إليها غير متواترة غير مقبولة منك ولا ممن سبقك إليها مثل الشيخ شلتوت وغيره لأنها لم تصدر من ذوي الاختصاص في علم الحديث ولا سيما وقد خالفت شهادة المتخصصين فيه كالحافط ابن كثير وابن حجر والشوكاني وغيرهم حيث صرحوا بأن حديث النزول متواتر وذلك يتضمن تواتر حديث خروج الدجال من باب أولى لأن طرقه أكثر؟ كما لا يخفى على المشتغلين بهذا العلم الشريف. وقد كنت جمعت في بعض المناسبات الطرق الصحيحة فقط لحديث النزول فجازوت العشرين طريقا عن تسعة عشر صحابيا فهل التواتر غير هذا؟ 2 - تقسيمك أنت وغيرك - أيا كان - الأحاديث الصحيحة إلى قسمين قسم يجب على المسلم قبولها ويلزمه العمل بها وهى أحاديث الأحكام ونحوها. وقسم لا يجب عليه قبولها والاعتقاد بها وهي أحاديث العقائد وما يتعلق منها بالأمور الغيبية. أقول: إن هذا تقسيم مبتدع لا أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه السلف الصالح بل عموم الأدلة الموجبة للعمل بالحديث تقتضي وجوب العمل بالقسمين كليهما ولا فرق فمن ادعى التخصيص فليتفضل بالبين مشكورا وهيهات هيهات!! ثم ألفت رسالتين هامتين جدا في بيان بطلان التقسيم المذكور الأولى: "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة" والأخرى: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام".

لذوقهم وعصرهم وإن لم يستذوقوه تركوه غير مبالين بمخالفتهم لأمره صلى الله عليه وسلم ولو فرض أنه للندب! وإني لأخشى أن يكون رأي المؤلف قريبا من هذا وإلا فما باله لم يتعرض لبيان حكم الإعفاء مع كثرة النصوص التي تتعلق به كما يأتي بيانه بينما نراه قد جزم ببيان حكم الختان مع أنه لا نص فيه كما أشار إليه فيما تقدم مع الرد عليه اللهم إلا تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم: "وفروا اللحى ... ": "حمل الفقهاء هذا الأمر على الوجوب وقالوا بحرمة حلق اللحية ... " فإنه ليس صريحا في التعبير عن رأيه الشخصي وبخاصة أنه يعلم أن مخالفة الإعفاء أكثر وأظهر من مخالفة الختان فإن كثيرا من خاصة العلماء والشيوخ قد ابتلوا بالوقوع فيها بل وبالتزين والتجمل بها بل إن بعضهم قد يتجرأ على الإفتاء بجواز حلقها ولاسيما في مصر التي يعيش فيها السيد سابق والأستاذ السمان فهذا وحده كان كافيا في أن يحمله على بيان حكم هذه المخالفة ولذلك فإني أهتبل هذه الفرصة لأبين حكم الشرع فيها وأستحسن أن يكون ذلك بالرد على تلك الفقرة التي نقلتها عن كتاب "الإسلام المصفى" لشديد صلتها بالموضوع فأقول: أولا: ذكر أن الأمر بإعفاء اللحية للندب وقد سمعنا هذا كثيرا من غيره وإبطالا لهذه الدعوى أقول: هذا خلاف ما تقرر في "علم الأصول": أن الأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم الوجوب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وغيره من الأدلة التي لا مجال لذكرها الآن والخروج عن هذا الأصل لا يجوز إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة وحضرة الكاتب لم يأت بأي دليل يسوغ

له خروجه عن هذا الأصل في هذه المسألة اللهم إلا ادعاؤه أن الإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية ... ومع أنها دعوى عارية عن الدليل فإنها منقوضة أيضا بأحاديث كثيرة وهو في قولنا: ثانيا: زعم أن كل المظاهر الشكلية لا يهتم بها الإسلام وأن اللحية منها. أقول: هذا الزعم باطل قطعا لا يشك فيه ذلك أي منصف متجرد عن اتباع الهوى بعد أن يقف على الأحاديث الآتية وكلها صحيحة: 1 - عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال. 2 - عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت وأنها مرضت فتمعط شعرها فأرادوا أن يصلوها فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة". 3 - عن ابن مسعود مرفوعا: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله". 4 - عن عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما". أخرج هذه الأحاديث الشيخان في "صحيحيهما ": إلا الأخير منها فتفرد به مسلم وهي مخرجة في "آداب الزفاف" و "حجاب المرأة المسلمة". وفي الباب أحاديث كثيرة جدا وهى مادة كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية فليراجعه من شاء. فهذه نصوص صريحة تبين أن الإسلام قد اهتم بالمظاهر الشكلية اهتماما

بالغا إلى درجة أنه لعن المخالف فيها فكيف يسوغ مع هذا أن يقال: إن كل المظاهر لا يهتم بها الإسلام ... ؟! إن كان حضرة الكاتب لم يطلع عليها فهو في منتهى الغرابة إذ يجرؤ على الكتابة في هذه المسألة التي لها ما وراءها من الفروع الكثيرة لون أن يراجع ولو مصدرا واحدا من مصادر الإسلام الأساسية! وإن كان اطلع عليها فإني أخشى أن يكون جوابه عنها أنها لا توافق الذوق! أو يقول: لا يقرها المنطق! كما قال ذلك في مسألة نزول عيسى عليه السلام ص 75 وحينئذ أعترف بأنه لا جواب إلا الشكوى إلى الله تعالى ... مما سبق من النصوص يمكن للمسلم الذي لم تفسد فطرته أن يأخذ منها أدلة كثيرة قاطعة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها: أولا: أمر الشارع بإعفائها والأصل في الأمر الوجوب فثبت المدعى. ثانيا: حرم تشبه الرجال بالنساء وحلق الرجل لحيته فيه تشبه بالنساء فيما هو من أظهر مظاهر أنوثتهن فثبت حرمة حلقها ولزم وجوب إعفائها. ثالثا: لعن النامصة - وهي التي تنتف شعر حاجبيها أو غير بقصد التجميل - وعلل ذلك بأنه تغيير لخلق الله تعالى والذي يحلق لحيته إنما يفعل ذلك للحسن - زعم - وهو في ذلك يغير خلقة الله تعالى فهو في حكم النامصة تماما ولا فرق إلا في اللفظ ولا أعتقد أنه يوجد اليوم على وجه الأرض ظاهري يجمد على ظاهر اللفظ ولا يمعن النظر في المعنى المقصود منه ولاسيما إذا كان مقرونا بعلة يقتضي عدم الجمود عليه كقوله عليه السلام ههنا: " ... للحسن المغيرات خلق الله". وثمة دليل رابع وهو أنه صلى الله عليه وسلم جعل إعفاء اللحية من الفطرة كما جعل منها

قص الأظفار وحلق العانة وغير ذلك مما رواه مسلم في "صحيحه" ففيه رد صريح على الكاتب ومن ذهب مذهبه أن اللحية من أمور العادات التي يختلف الحكم فيها باختلاف الأزمان والعصور ذلك لأن الفطرة من الأمور التي لا تقبل شرعا التبدل مهما تبدلت الأعراف والعادات: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. فإن خولفنا في هذا أيضا فإني لا أستبعد أن يأتي يوم يوجد فيه من الشيوخ والكتاب المتأثرين بالجو الفاسد الذي يعيشون فيه وقد سرت فيه عادة إعفاء شعر العانة مكان حلقه وإعفاء اللحية وإطالة الأظافر كالوحوش لا أستبعد أن يأتي يوم يقول فيه بعض أولئك بجواز هذه الأمور المخالفة للفطرة بدعوى أن العصر الذي هم فيه يستذوقها ويستحسنها وأنها من المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام بل يتركها لأذواقهم يقولون هذا ولو كان من وراء ذلك ضياع الشخصية الإسلامية التي هي من مظاهر قوة الأمة فاللهم هداك. قوله: "وكان بعضهم - يعني الصحابة - يخضب بالصفرة وبعضهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران وخضب جماعة منهم بالسواد". قلت: أما الصبغ بغير السواد فهو ثابت عنهم وهو الموافق لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله. وأما قوله: "وخضب جماعة منهم بالسواد". قلت: إن ثبت هذا عنهم فلا حجة في ذلك لأنه خلاف السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . ..الآية2. ومن الثابت عن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر الصبغ

_ 1 سورة الروم: 30. 2 سورة النساء: 59.

بالحناء والكتم كما تقدم فالأخذ به هو الواجب لموافقته للسنة دون فعل من خالفهما من الصحابة الذين أشار إليهم المؤلف ولا سيما وفي ثبوت ذلك عن بعضهم نظر كما تقدم عن ابن القيم رحمه الله تعالى ولذلك قال النووي في "المجموع" 1 / 294: "اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد وظاهر عبارات أصحابنا أنه مكروه كراهة تنزيه والصحيح بل الصواب أنه حرام وممن صرح بتحريمه صاحب "الحاوي" قال النووي: ودليل تحريمه حديث جابر ... ". ثم ذكر حديثه الآتي في الكتاب بلفظ: "وجنبوه السواد". ولكن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - تأوله تأويلا أبطل به دلالته ويأتي الرد عليه قريبا بإذنه عز وجل. قوله: "ذكر الحافظ في "الفتح" عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه حديدا فلما نفض الوجه والأسنان تركناه". فأقول: هذا إن ثبت إسناده إلى الزهري فلا حجة فيه لأنه مقطوع موقوف عليه ولو أنه رفعه لم يحتج به أيضا لأنه يكون مرسلا فالعجب من المؤلف كيف يتعلق بمثله ليرد دلالة حديث جابر الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى مع الرد عليه. ولقد أفصح الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه "الحلال والحرام" عن الغرض من ذكره لهذا الأثر في كتابه فإنه استشهد به على أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجنبوه السواد" خاص بالشيخ الكبير الذي عم الشيب رأسه ولحيته وقد رددت عليه في "غاية المرام" ص 83 - 84 فليراجعه من شاء.

قوله: وأما حديث جابر فقال: جئ بأبي قحافة والد أبى بكر يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن رأسه ثغامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشيء وجنبوه السواد". رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي فإنه واقعة عين ووقائع الأعيان لا عموم لها. قلت: لا أرى أن الحديث من "وقائع الأعيان التي لا عموم لها" بل هو من باب "الأمر للواحد أمر لجميع الأمة أم لا؟ " " والحق الأول كما سبق بيانه في "المقدمة: القاعدة 15". ولذلك لما حكى الشوكاني في "النيل" 1 / 105 تفصي بعضهم من الحديث بأنه ليس في حق كل أحد تعقبه بقوله: "بأنه مبني على أن حكمه على الواحد ليس حكما على الجماعة وفيه خلاف معروف في الأصول" واختار في مكان آخر ما رجحناه وقد نقلت كلامه في ذلك هناك ولذلك جرى العلماء على الاحتجاج بهذا الحديث على أنه ليس خاصا بأبي قحافة وتقدم كلام النووي في ذلك قريبا. ونحوه كلام الحافظ في "الفتح" 6 / 499 و10 / 354.فليراجعه من شاء. ويؤيد ما سبق أحاديث: 1 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة". أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والطبراني في "الكبير" بسند صحيح وقال الحافظ في "الفتح": "وصححه ابن حبان وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع ولهذا اختار النووي أن

الصبغ بالسواد يكره كراهة تحريم". والحديث أورده الهيثمي في "المجمع" 5 / 161 بلفظ: "يسودون أشعارهم لا ينظر الله إليهم" والباقي مثله ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد". وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا رواه أبو الحسن الإخميمي في "حديثه" 2 / 11 / 1. 2 - عن أبي الدرداء مرفوعا: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة". قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه الوضين بن عطاء وثقه أحمد وابن معين وابن حبان وضعفه من هو دونهم في المنزلة وبقية رجاله ثقات". وقال الحافظ 10 / 292 بعد أن عزاه للطبراني وابن أبى عاصم: "وسنده لين". 3 - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنا يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليهم اليهود فرآهم بيض اللحى فقال: "ما لكم لا تغيرون؟ " فقيل: إنهم يكرهون فقال في صلى الله عليه وسلم: "ولكنكم غيروا وإياي والسواد" قال الهيثمى: "رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات وهو حديث حسن".

4 - عن عبد الله بن عمر رفعه: "الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر" قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه". قلت: فهذه الأحاديث من وقف عليها لا يتردد في القطع بحرمة الخضاب بالسواد على كل أحد وهو قول جماعة من أهل العلم كما تقدم عن ابن القيم وقال: "إنه هو الصواب بلا ريب". وأما حديث: "إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد أرغب لنسائكم فيكم وأهيب لكم في صدور عدوكم". رواه ابن ماجه 2 / 382 فإنه ضعيف السند فيه راويان ضعيفان وبيان ذلك في "الأحاديث الضعيفة" 2972.

ومن الوضوء

ومن الوضوء قوله في فضل الوضوء: وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الخصلة الصالحة تكون في الرجل يصلح الله بها عمله كله وطهور الرجل لصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة". رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط". قلت: هذا حديث منكر كما قال ابن عدي وابن حبان وقد أساء المؤلف بإيراده إياه مرتين: الأولى: أنه خرجه موهما القراء ثبوته بسكوته عليه. والأخرى: أن هذا التخريج ليس منه - كسائر تخريج كتابه - وإنما نقله عن "ترغيب المنذري" 1 / 95 و "مجمع الهيثمي" 1 / 225 وقد بينا أنه

معلول بأنه من رواية بشار بن الحكم وهو متفق على أنه منكر الحديث لا يحتج به إذا تفرد كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" 2999 وبينت هناك أن الشطر الثاني من الحديث صحيح بشواهده ومنها حديث الصنابحي الذي في الكتاب قبيل هذا فلو أن المؤلف أعرض عن ذكره لأصاب وإلا وجب أن يبين علته وأن لا يكتمها. ثم قال في الفرض السادس من فرائض الوضوء: في الحديث الصحيح: "ابدأوا بما بدأ الله به". قلت: الحديث بهذا اللفظ شاذ غير صحيح والمحفوظ إنما بلفظ: "أبدأ" بصيغة الخبر وليس بصيغة الأمر هكذا رواه مسلم وغيره كما حققته في "إرواء الغليل" 4 / 316 - 319 / 1120 فراجعه. قوله في الفرض السادس: " ... فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا". قلت: تبع المؤلف في هذا ابن القيم رحمه الله حيث صرح به في "زاد المعاد" وقد تعقبته في "التعليقات الجياد" بما أخرجه أحمد ومن طريقه أبو داود عن المقدام بن معدي كرب قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مضمض واستنشق ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وغسل رجليه ثلاثا. وسنده صحيح. وقال الشوكاني: "إسناده صالح". وقد أخرجه الضياء في "المختارة" وهو يدل على عدم وجوب الترتيب وأزيد هنا فأقول: إن النووي والحافظ ابن حجر حسنا إسناده.

ومن سنن الوضوء

ومن سنن الوضوء قوله: "1 - التسمية في أوله ورد في التسمية للوضوء أحاديث ضعيفة لكن مجموعها يزيدها قوة تدل على أن لها أصلا". قلت: أقوى ما ورد فيها حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لا صلاة لمن لا وضؤ له ولا وضؤ لمن لم يذكر اسم الله عليه". له ثلاثة طرق وشواهد كثيرة أشرت إليها في "صحيح سنن أبي داود" رقم 90 فإذا كان المؤلف قد اعترف بأن الحديث قوي فيلزمه أن يقول بما يدل عليه ظاهره ألا وهو وجوب التسمية ولا دليل يقتضي الخروج عن ظاهره إلى القول بأن الأمر فيه للاستحباب فقط فثبت الوجوب وهو مذهب الظاهرية وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره صديق خان والشوكاني وهو الحق إن شاء الله تعالى وراجع له "السيل الجرار" 1 / 76 – 77. قوله تحت رقم 2 -: ... لحديث عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم. رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قلت: استدلاله بالحديث وسكوته عليه يوهم أنه حديث ثابت وليس كذلك لأن مدار سنده على عاصم بن عبد الله وهو ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب" وقد أشار البخاري في "صحيحه" إلى تضعيف الحديث حيث قال: "ويذكر عن عامر بن ربيعة ... ". وتناقض فيه كلام الحافظ في "التلخيص" ففي موضع حسنه وفي آخر ضعفه وهذا هو المناسب لجزمه في الكتاب الأول بضعف راوي الحديث وهو الحق إن شاء الله تعالى لذلك كنا نتمنى أن يستدل على ما ذهب إليه من استحباب السواك للصائم أول النهار وآخره بالبراءة الأصلية وإذا أورد الحديث أن يبين ضعفه.

وقوله: ... لحديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به ثم أغسله وأدفعه إليه. رواه أبو داود البيهقي" قلت: سكت عليه المؤلف تبعا لأبي داود ثم المنذري في "مختصره" وفي إسناده كثير بن عبيد رضيع عائشة ولم يوثقه أحد غير ابن حبان وروى عنه جماعة وفي "التقريب ": " مقبول " ... فالحديث محتمل للتحسين وقد حسنه النووي وقواه الحافظ فاحتج به كما بينته في "صحيح أبي داود" 41. والله أعلم. وقوله: ... لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: "نعم" قلت: كيف يصنع؟ قال: "يدخل أصبعه في فيه". رواه الطبراني. قلت: سكت عليه فأوهم بثبوته وليس بثابت فقد قال الهيثمي في "المجمع" 2 / 100: "رواه الطبراني في" الأوسط" وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري وهو ضعيف". وساق له الذهبي في ترجمته من "الميزان" أحاديث مما أنكر عليه هذا أحدها وقال الحافظ في "التلخيص" 1 / 383: "قلت: عيسى ضعفه ابن حبان وذكر له ابن عدي هذا الحديث من مناكيره". قلت: وإذا عرفت ذلك تبين لك أن قول المؤلف: "ويسن ... " منكر أيضا

كما لا يخفى. قوله: "ولم يصح مسح الرأس أكثر من مرة". قلت: بلى قد صح من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا أخرجه أبو داود بسندين حسنين وله إسناد ثالث حسن أيضا وقد تكلمت على هذه الأسانيد بشيء من التفصيل في "صحيح أبي داود" رقم 95 98 وقد قال الحافظ في "الفتح": "وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من الثقة مقبولة". وذكر في "التلخيص" أن ابن الجوزي مال في "كشف المشكل" إلى تصحيح التكرير. قلت: وهو الحق لأن رواية المرة الواحدة وإن كثرت لا تعارض رواية التثليث إذ الكلام في أنه سنة ومن شأنها أن تفعل أحيانا وتترك أحيانا وهو اختيار الصنعاني في "سبل السلام" فراجعه إن شئت. قوله تحت رقم 10 -: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلث مد فتوضأ.... رواه ابن خزيمة. قلت: الحديث في "بلوغ المرام" وغيره برواية ابن خزيمة بلفظ: "ثلثي" على التثنية وكذلك هو في "مستدرك الحاكم" و "سنن البيهقي" فالظاهر أن ما في الكتاب خطأ مطبعي فيصحح وقد قال الصنعاني: "فثلثا المد هو أقل ما ورد أنه توضأ به صلى الله عليه وسلم وأما حديث أنه توضأ بثلث مد فلا أصل له ثم طبع - والحمد لله - "صحيح ابن خزيمة" فرأيت الحديث فيه 1 / 6 2 / 118 بلفظ التثنية وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 84 وبالله التوفيق.

قوله تحت رقم 13 -: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". رواه أحمد والشيخان. قلت: قوله في الحديث: "فمن استطاع ... " مدرج فيه من أحد رواته ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره غير واحد من الحفاظ كما قال المنذري في "الترغيب" 1 / 92 والحديث عندهم من رواية نعيم بن المجمر عن أبي هريرة وقد بين أحمد في رواية له 2 / 334 - 523 أنه مدرج فقال في آخر الحديث: "فقال نعيم: لا أدري قوله: "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل" من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة؟ " وقال الحافظ في "الفتح ": "لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه". وكان ابن تيمية يقول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلامه صلى الله عليه وسلم فإن الغرة لا تكون في اليد لا تكون إلا في الوجه وإطالته غير ممكنة إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة كذا في "إعلام الموقعين" 6 / 316. ذكر تحت "سنن الوضوء ": "المضمضة ثلاثا والاستنشاق والاستنثار ثلاثا". فأقول: إن كان يعني التثليث فيهما فهو مسلم وإن كان يعني أصل المذكورات - كما هو الظاهر - فهو مرفوض لأنه خلاف الأوامر التي جاءت في الأحاديث التي ذكرها فإنها تدل على وجوبها ولذلك قال الشوكاني في "السيل

الجرار" 1 / 81: "أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه. وقد ثبت مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق. وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة ... ". ثم ذكر حديث لقيط بن صبرة. ثم ذكر مثل ذلك في تخليل اللحية تحت رقم 6 - وهو الصواب وينبغي أن يقال ذلك في تخليل الأصابع أيضا لثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم. وأقول تعقيبا على كلام الحافظ: قد رويت تلك الجملة من غير هذه الرواية المتقدمة فأخرجه الإمام أحمد 2 / 262 من طريق ليث عن كعب عن أبي هريرة مرفوعا به. إلا أن ليثا وهو ابن أبي سليم ضعيف لا يحتج به إذا تفرد فكيف إذا خالف؟! قوله تحت رقم 13 -: "عن أبي زرعة أن أبا هريرة دعا بوضوء فتوضأ وغسل ذراعيه حتى جارز المرفقين فلما غسل رجليه جاوز الكعبين إلى العقبين كذا وهو خطأ مطبعي والصواب: الساقين رواه أحمد والشيخان". قلت: فيه ملاحظتان: الأولى: أن اللفظ لأحمد 2 / 232 فكان ينبغي بيان ذلك وإسناده صحيح على شرط الشيخين. الثانية: أن مسلما لم يخرجه من رواية أبي زرعة فلا يجوز عزوها إليه

وإنما رواه من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مختصرا ومن طريق نعيم بن المجمر عنه أتم من الروايتين ولفظه: ... ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع ... الحديث". وهكذا أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" 1 / 243 ولكنه لم يصرح برفع الجملة الأخيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قوله في الدعاء تحت رقم 15 -: لم يثبت من أدعية الوضوء شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير حديث أبي موسى الأشعري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فسمعته يدعو يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي". فقلت: يا رسول الله سمعتك تدعو بكذا وكذا قال: "وهل تركن من شيء؟ ". رواه النسائي وابن السني بإسناد صحيح. قلت: لنا على هذا مؤاخذات: الأولى: أن الحديث ليس من أذكار الوضوء وإنما هو من أذكار الصلاة بدليل رواية الإمام أحمد في "المسند" وابنه عبد الله في "زوائده" من طريق عبد الله بن محمد بن أبى شيبة: ثنا معتمر بن سليمان عن عباد بن عباد عن أبي مجلز عن أبى موسى به مختصرا بلفظ: "فتوضأ وصلى وقال: اللهم ... " وقد قال الحافظ في "أماليه على الأذكار ":

"رواه الطبراني في "الكبير" من رواية مسدد وعارم والمقدمي كلهم عن معتمر ووقع في روايتهم: "فتوضأ ثم صلى ثم قال: ... " وهذا يدفع ترجمة ابن السني حيث قال: "باب ما يقوله بين ظهراني وضوئه" لتصريحه بأنه قاله بعد الصلاة ويدفع احتمال كونه بين الوضوء والصلاة. الثانية: أنه أطلق عزوه للنسائي فأوهم أن الحديث في "سننه" لأنه هو الذي يفهم عند المشتغلين بالسنة عند الإطلاق ولم يروه في "السنن" بل في "عمل اليوم والليلة" كما صرح بذلك النووي في "الأذكار" ص 38 فكان على المؤلف أن يقيده بذلك ولا سيما إنه نقل جل ما في هذا الفصل عن النووي وإن لم يصرح بذلك! ثم رأيته في "عمل اليوم والليلة" للنسائي 172 / 80 وترجم له بما ترجم له ابن السني في "كتابه" 7. ومثل هذا الإيهام قد تكرر من المؤلف كثيرا ولم أنبه عليه إلا نادرا لمناسبة ما لأنه لا فائدة كبرى في ذلك. الثالثة: جريه مع النووي على تصحيح إسناده وليس كذلك بل هو ضعيف لانقطاعه ما بين أبي مجلز وأبي موسى كما يأتي بيانه ولم يتنبه لذلك النووي ومن تبعه وقوفا منهم مع ظاهر إسناده فإنهم ثقات جميعا. قال الحافظ ابن حجر في "الأمالي": "وأما حكم الشيخ يعني الإمام النووي على الإسناد بالصحة ففيه نظر لأن أبا مجلز لم يلق سمرة بن جندب ولا عمران بن حصين فيما قال ابن المديني وقد تأخرا بعد أبي موسى ففي سماعه من أبي موسى نظر وقد عهد منه الإرسال

عمن يلقاه"1. وقد وجدت للحديث علة أخرى وهي الوقف فقد أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" 1 / 297 من طريق أبي بردة قال: كان أبو موسى إذا فرغ من صلاته قال: "اللهم اغفر لي ذنبي ويسر لي أمري وبارك لي في رزقي".وسنده صحيح وهذا يرجح أن الحديث أصله موقوف وأنه لا يصح رفعه وأنه من أذكار الصلاة لو صح. وقد غفل عن هذا التحقيق المعلق على "زاد المعاد" فإنه صرح بأن سنده صحيح تبعا للنووي ثم تعقب مؤلف "الزاد" الذي ذكر الحديث في أدعية الصلاة فقال: "ولم نر من ذكره في أدعية الصلاة كما ذكر المصنف"!! نعم الدعاء الذي في الحديث له شاهد ذكرته في "غاية المرام" ص 85 فالدعاء به مطلقا غير مقيد بالصلاة أو الوضوء حسن ولذلك أوردته في "صحيح الجامع" 1276 وغفل عن هذا بعض إخواننا فأورده فيما يقال في الوضوء أو الصلاة - والشك مني - فرسالته لا تطولها الآن يدي. قوله تحت رقم 16 -: "وأما دعاء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهي في رواية الترمذي وقد قال في الحديث: وفي إسناده اضطراب ولا يصح فيه شيء كبير". قلت: هذا الكلام يوهم أن الدعاء المذكور جاء في حديث تفرد بإخراجه الترمذي وأعله بالاضطراب والواقع أن الحديث أصله عند مسلم وغيره من حديث عمر وقد ذكره المؤلف قبيل هذا الكلام وكذلك رواه الترمذي وزاد فيه

_ 1 نقلته من "تحفة الأبرار بنكت الأذكار" للسيوطي وهى نسخة خطية في المكتبة العبيدية بدمشق.

بعد التهليل هذا الدعاء ثم أعله بالاضطراب كما نقله المصنف عنه وهولا يريد به الزيادة وحدها بل الحديث جملة وحينئذ يكون المصنف قد نقل نقلين متناقضين: تصحيح مسلم للحديث وتضيف الترمذي له ثم هو لم يرجح أحدهما على الآخر. والحق أن الحديث صحيح والاضطراب المشار إليه ليس من الاضطراب الذي يعل به الحديث ولا يتسع المجال لبيان ذلك فمن شاء التحقق مما نقول فليراجع تعليق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر على الترمذي 1 / 77 - 83 فقد جمع فيه طرق الحديث وبين أنه لا اضطراب فيها. فإن قيل: قد عرفنا أن الحديث صحيح فما حاله إسناد هذه الزيادة عند الترمذي؟. قلت: إسنادها صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير شيخ الترمذي جعفر بن محمد بن عمران التغلبي وهو صدوق كما قال أبو حاتم. ثم إن لها شواهد من حديث ثوبان عند ابن السني رقم 30 وابن عمر وأنس كما ذكره البيهقي في "سننه" 1 / 78 ولذلك جزم ابن القيم في "زاد المعاد" 1 / 69 بثبوت الحديث مع هذه الزيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم ... " الخ: "رواه الطبراني في "الأوسط" ورواته رواة الصحيح واللفظ له ورواه النسائي وقال في آخره: "ختم عليه بخاتم ... ". قلت: فيه مؤاخذات: الأولى: أطلق عزوه للنسائي فأوهم أنه في "سننه" وليس كذلك وإنما أخرجه في "عمل اليوم والليلة" كما قيده النووي والحافظ المزي في "التحفة" 3

/ 447 والعسقلاني وهو فيه برقم 81 و82 وأما عزو ابن القيم إياه في "الزاد" ل "سنن النسائي" فوهم محض لم يتنبه له المعلق عليه ثم قصر تقصيرا فاحشا في تخريجه فلم يعزه لغير ابن السني بسند ضعيف! الثانية: أن النسائي قال في المرفوع: "هذا خطأ والصواب موقوف". فكان ينبغي نقله عنه أداء للأمانة ثم الجواب عن هذا الإعلال كما فعل الحافظ بأنه في حكم المرفوع لأنه لا يقال بمجرد الرأي وبخاصة أنه جاء مرفوعا من طرق أخرى كما هو مبين في "الصحيحة" 2333. الثالثة: أن التخريج المذكور من رواية الطبراني ... نقله من كتاب "الترغيب" للمنذري 1 / 105 وقد قال في آخره: "وصوب وقفه على أبي سعيد". وكذلك قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1 / 239. وقد عرفت الجواب آنفا. وقد وقع لبعض العلماء حول هذا الحديث أخطاء عجيبة لا أطيل الكلام بذكرها هنا ومحل ذلك في المصدر السابق. والله تعالى هو الموفق. قوله: "وما بقي من تعاهد موقي العينين وغضون الوجه ومن تحريك الخاتم ومن مسح العنق لم نتعرض لذكره لأن الأحاديث فيها لم تبلغ درجة الصحيح وإن كان يعمل بها تتميما للنظافة". قلت: العنق ليس محلا للنظافة في الوضوء شرعا بخلاف المحال الأخرى التي ذكرت قبله ولذلك فإني لا أرى جواز مسحه في الوضوء إلا بدليل خاص يصلح الاحتجاج به وهو مفقود كما أشار إليه المصنف وخلاف هذا تشريع بالرأي لا يجوز. على أن تحريك الخاتم لا بد منه إذا كان ضيقا. والله ولي التوفيق.

ومن نواقض الوضوء

ومن نواقض الوضوء قوله في صدد عد النواقض: "4, 5, 6 - المني والمذي والودي لقول ابن عباس: أما المني فهو الذي منه الغسل وأما المذي والودي فقال: اغسل ذكرك أو مذاكيرك وتوضأ وضوءك للصلاة. رواه البيهقي في السنن". قلت: هذا موقوف والاستدلال به وحده - مع أنه مختلف في صلاحيته للاحتجاج به - يوهم أن ليس في المرفوع ما يدل على ما دل عليه الموقوف ولو بالنسبة لبعض النواقض وليس كذلك ففي المذي أحاديث أشهرها حديث علي ابن أبي طالب قال: استحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي من أجل فاطمة فأمرت رجلا فسأله فقال: "فيه الوضوء". أخرجه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 200 و "الإرواء" 108. قوله في النوم المستغرق: "فإذا كان النائم جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لا ينتقض وضوؤه وعلى هذا يحمل حديث أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون رواه الشافعي ومسلم وأبو داود والترمذي ولفظ الترمذي من طريق شعبة: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى لأسمع لأحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضؤون قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس". قلت: قد ذكر الحافظ في "الفتح" 1 / 251 نحو كلام ابن المبارك هذا ثم رده بقوله:

" لكن في "مسند البزار" بإسناد صحيح في هذا الحديث: فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة". قلت: وأخرجه أيضا أبو داود في "مسائل الإمام أحمد" ص 318 بلفظ: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضعون جنوبهم فينامون فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ. وإسناده صحيح على شرط الشيخين. فهذا اللفظ خلاف اللفظ الأول: "تخفق رؤوسهم" فإن هذا إنما يكون وهم جلوس كما قال ابن المبارك فإما أن يقال: إن الحديث مضطرب فيسقط الاستدلال به وإما أن يجمع بين اللفظين فيقال: كان بعضهم ينام جالسا وبعضهم مضطجعا فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ وهذا هو الأقرب وحينئذ فالحديث دليل لمن قال: إن النوم لا ينقض الوضوء مطلقا وقد صح ذلك عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وابن المسيب كما في "الفتح" وهو باللفظ الآخر لا يمكن حمله على النوم ممكنا مقعدته من الأرض وحينئذ فهو معارض لحديث صفوان بن عسال المذكور في الكتاب بلفظ: " ... لكن من غائط وبول ونوم" فإنه يدل على أن النوم ناقض مطلقا كالغائط والبول ولا شك أنه أرجح من حديث أنس لأنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك حديث أنس إذ من الممكن أن يكون ذلك قبل إيجاب الوضوء من النوم. فالحق أن النوم ناقض مطلقا ولا دليل يصلح لتقييد حديث صفوان بل يؤيده حديث علي مرفوعا: "وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ" وإسناده حسن كما قال المنذري والنووي وابن الصلاح وقد بينته في "صحيح أبي داود" رقم 198 فقد أمر صلى الله عليه وسلم كل نائم أن يتوضأ. ولا يعكر على عمومه - كما ظن البعض - أن الحديث أشار إلى أن النوم ليس

ناقضا في نفسه بل هو مظنة خروج شيء من الإنسان في هذه الحالة فإنا نقول: لما كان الأمر كذلك أمر صلى الله عليه وسلم كل نائم أن يتوضأ ولو كان متمكنا لأنه عليه السلام أخبر أن العينين وكاء السه فإذا نامت العينان انطلق الوكاء كما في حديث آخر والمتمكن نائم فقد ينطلق وكاؤه ولو في بعض الأحوال كأن يميل يمينا أو يسارا فاقتضت الحكمة أن يؤمر بالوضوء كل نائم. والله أعلم. وما اخترناه هو مذهب ابن حزم وهو الذي مال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام في قصة طريفة حكاها عنه ابن عبد البر في "شرح الموطأ" 1 / 117 / 2 قال: "كنت أفتي أن من نام جالسا لا وضؤ عليه حتى قعد إلى جنبي رجل يوم الجمعة فنام فخرجت منه ريح! فقلت: قم فتوضأ. فقال: لم أنم. فقلت: بلى وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء! فجعل يحلف بالله ما كان ذلك منه وقال لي: بل منك خرجت! فزايلت ما كنت أعتقد في نوم الجالس وراعيت غلبة النوم ومخالطته القلب". فائدة هامة: قال الخطابي في "غريب الحديث" ق 32 / 2: "وحقيقة النوم هو الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور الظاهرة. والناعس: هو الذي رهقه ثقل فقطعه عن معرفة الأحوال الباطنة". وبمعرفة هذه الحقيقة من الفرق بين النوم والنعاس تزول إشكالات كثيرة ويتأكد القول بأن النوم ناقض مطلقا. ولقد أنحرف قلم الشوكاني عن الصواب هنا في "السيل الجرار" فإنه بعد أن قرر وجه القول المذكور أحسن تقرير عقب عليه بقوله 1 / 96:

"ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوي بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي لـ "المنتقى" فتكون مقيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع"! وأنت إذا رجعت إلى الشرح المذكور وجدته قد ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول: عن ابن عباس: "ليس على من نام ساجدا وضوء ... " ومع أنه قد ذكر تضعيفه عن جمع كثير من الأئمة. وعن البيهقي أنه قال: أنكره جميع أئمة الحديث على أبي خالد الدالاني. فقد حاول تقويته بقول الذهبي في "المعني" في الدالاني: "مشهور حسن الحديث". وليس يخفى على العارف بهذا الفن أن مثل هذا القول لو سلم به فلا يفيد تقوية للحديث وقد أجمع المحدثون المتقدمون على إنكاره كما تقدم فكيف وقد قال الحافظ في الدالاني هذا: "صدوق يخطئ كثيرا وكان يدلس"؟! والذهبي نفسه قد ذكر هذا الحديث في ترجمته من "الميزان" في جملة ما أنكر عليه؟ فكيف وفي إسناده علل ثلاثة أخرى بينتها في كتابي "ضعيف أبي داود" 25 ذكر الشوكاني نفسه منها الوقف ولكنه مر عليها! الثاني: عن ابن عمرو مرفوعا نحوه. قال الشوكاني: "وفيه مهدي بن هلال وهو متهم بوضع الحديث. وعمر بن هارون البلخي وهو متروك ومقاتل بن سليمان وهو متهم".

الثالث: عن حذيفة مرفوعا: قال البيهقي: "تفرد به بحر بن كنيز وهو متروك لا يحتج به". فأنت ترى أن هذه الأحاديث شديدة الضعف فلا ينجبر ضعفها بمجموعها كما هو معلوم عند الشوكاني وغيره فلا أدري ما الذي حمله على المخالفة؟! قوله تحت رقم 4 -: ويرى الأحناف أن مس الذكر لا ينقض الوضوء لحديث طلق أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يمس ذكره هل عليه الوضوء؟ فقال: "لا إنما هو بضعة منك" رواه الخمسة وصححه ابن حبان. قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو بضعة منك" فيه إشارة لطيفة إلى أن المس الذي لا يوجب الوضوء إنما هو الذي لا يقترن معه شهوة لأنه في هذه الحالة يمكن تشبيه مس العضو بمس عضو آخر من الجسم بخلاف ما إذا مسه بشهوة فحينئذ لا يشبه مسه مس العضو الآخر لأنه لا يقترن عادة بشهوة وهذا أمر بين كما ترى وعليه فالحديث ليس دليلا للحنفية الذين يقولون بأن المس مطلقا لا ينقض الوضوء بل هو دليل لمن يقول بأن المس بغير شهوة لا ينقض وأما المس الشهوة فينقض بدليل حديث بسرة وبهذا يجمع بين الحديثين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه على ما أذكر. والله أعلم.

ومن لا ينقض الوضوء

ومن لا ينقض الوضوء ... ومن ما لا ينقض الوضوء قوله في صدد عد ما لا ينقضه: "أكل لحم الإبل وهو رأي الخلفاء الأربعة وكثير من الصحابة والتابعين إلا أنه صح الحديث بالأمر بالوضوء منه". ثم ذكره من حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب ثم قال: "وقال ابن خزيمة: لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه وقال النووي: هذا المذهب أقوى دليلا وإن كان الجمهور على خلافه انتهى. إلا أنه يقال: كيف خفي حديث جابر والبراء على الخلفاء الراشدين والجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين"! قلت: هذا الاستفهام لا طائل تحته بعد أن صح الحديث عنه صلى الله عليه وسلم باعتراف المؤلف فلا يجوز تركه مهما كان المخالفون له في العدد والمنزلة فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما "يثبت بنفسه لا بعمل غيره من بعده" كما قال الإمام الشافعي على ما سبق في "المقدمة: القاعدة 14". وإني لأستغرب جدا من المؤلف هذا القول لأنه لا يتفق في شيء مع الغرض الذي من أجله وضع كتابه هذا وهو "جمع المسلمين على الكتاب والسنة والقضاء على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب" كما نص هو عليه في "المقدمة" بل إن قوله هذا تأييد عملي للمقلدة الذين يردون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الدعوى في أئمتهم1.

_ 1 ثم رأيت المؤلف - جزاه الله خيرا - قد حذف من طبعته الجديدة للكتاب 1 / 55 هذا الاستفهام تجاوبا منه مع إنكارنا إياه. أثابه الله.

أقول: هذا على افتراض أن ما ذكره المؤلف عن الخلفاء الراشدين من مخالفة الحديث ثابت عنهم وإلا فإني أقول: أين السند الصحيح بذلك عنهم؟ وهذا أقل ما يجب على من يريد أن يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة غيره له؟! وليس للمؤلف أي دليل أو سند في إثبات ذلك إلا اعتماده على ما ذكره النووي في "شرح مسلم" أنه: "ذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء يعني أكل لحم الجزور وممن ذهب إليه الخلفاء الأربعة الراشدون ... ". وهذه الدعوى خطأ من النووي رحمه الله قد نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال في "القواعد النورانية" ص 9: "وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم إنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار وإنما المراد أن كل ما مست النار ليس سببا عندهم لوجوب الوضوء والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضؤ من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال: كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي". قلت: ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الطحاوي 1 / 41 والبيهقي 1 / 157 رويا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب أكلا خبزا ولحما فصليا ولم يتوضيا. ثم أخرجا نحوه عن عثمان والبيهقي عن علي. فأنت ترى أنه ليس في هذه الآثار ذكر للحم الإبل البتة وإنما ذكر فيها.

اللحم مطلقا وهذا لو كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب حمله على غير لحم الإبل دفعا للتعارض فكيف وهو عن غيره صلى الله عليه وسلم فحمله على غير لحم الإبل واجب من باب أولى حملا لأعمالهم على موافقة الشريعة لا على مخالفتها ولذلك أورد الطحاوي والبيهقي هذه الآثار في باب "الوضوء مما مست النار" ولم يوردها البيهقي في "باب التوضؤ من لحوم الإبل" وإنما قال فيه: "وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: الوضوء مما خرج وليس مما دخل وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار". ثم روى البيهقي فيه بسنده عن ابن مسعود أنه أكل لحم جزور ولم يتوضأ ثم قال: "وهذا منقطع وموقوف وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: وبخاصة أنه ثبت عن الصحابة خلافه فقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: كنا نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1 / 46 بسند صحيح عنه

ومن مايجب له الوضوء

ومن ما يجب له الوضوء قلت: ذكر فيه حديث: "لا يمس القرآن إلا طاهر" من طريقين ثم قال: "فالحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا ولكن الطاهر لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر ويطلق على المؤمن وعلى من ليس على بدنه نجاسة ولا بد لحمله على معين من قرينة فلا يكون الحديث نصا في منع المحدث حدثا أصغر من مس المصحف". قلت: هذا الكلام اختصره المؤلف من كلام الشوكاني على الحديث في "نيل الأوطار" 1 / 180 - 181 وهو كلام مستقيم لا غبار عليه إلا قوله في آخره: "فلا يكون الحديث نصا في منع المحدث حدثا أصغر من مس المصحف" فإنه من كلام المؤلف ومفهومه أن الحديث نص في منع المحدث حدثا أكبر من مس المصحف وهو على هذا غير منسجم مع سياق كلامه لأنه قال فيه: "ولا بد لحمله على معين من قرينة" فها هو قد حمله على المحدث حدثا أكبر فأين القرينة؟! فالأقرب - والله أعلم - أن المراد بالطاهر في هذا الحديث هو المؤمن سواء أكان محدثا حدثا أكبر أو أصغر أو حائضا أو على بدنه نجاسة لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا ينجس" وهو متفق على صحته والمراد عدم تمكين المشرك من مسه فهو كحديث: "نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو" متفق عليه أيضا وقد بسط القول في هذه المسالة الشوكاني قي كتابه السابق فراجعه إن شئت زيادة التحقيق. ثم إن الحديث قد خرجته من طرق في "إرواء الغليل" 122 فليراجعه من شاء.

ومن مايستحب له الوضوء

ومن ما يستحب له الوضوء قوله تحت رقم 1 -: وعن علي كرم الله وجهه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويكل معنا اللحم ولم يكن يحجزه عن القران شيء ليس الجنابة. رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن السكن. قلت: الترمذي معروف عند العلماء بتساهله في التصحيح حتى قال الذهبي في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف من "الميزان ": "ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه". وكذلك ابن السكن ليس تصحيحه مما إليه يركن ولذلك لا بد من النظر في سند الحديث إذا صححه أحد هذين أو من كان مثلهما في التساهل كابن خزيمة وابن حبان حتى يكون المسلم على بصيرة من صحة حديث نبيه صلى الله عليه وسلم وقد وجدنا في الأئمة ممن ضعف الحديث من هم أعلى كعبا في هذا العلم وأكثر عددا من الترمذي وابن السكن فقال النووي: "خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث". وقال المنذري في "مختصر السنن" 1 / 156: "وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة وحكى البخاري عن عمرو بن مرة: كان عبد الله - يعني: ابن

سلمة - يحدثنا فنعرف وننكر وكان قد كبر لا يتابع على حديثه. وذكر الإمام الشافعي هذا الحديث وقال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه. قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكر وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر قال شعبة: وذكر الخطابي أن الإمام أحمد كان يوهن حديث علي ويضعف أمر عبد الله بن سلمة". فهذا الإمام الشافعي وأحمد والبيهقي والخطابي قد ضعفوا الحديث فقولهم مقدم لوجوه: الأول: أنهم أعلم وأكثر. الثاني: أنهم قد بينوا علة الحديث وهي كون راويه قد تغير عقله وحدث به في حالة التغير فهذا جرح مفسر لا يجوز أن يصرف عنه النظر. الثالث: أنه قد عارضه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. رواه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما" فهو بعمومه يشمل حالة الجنابة وغيرها كما أن الذكر يشمل القرآن وغيره. وقد كنت قديما اعترضت على المؤلف لاحتجاجه بهذا الحديث واحتججت عليه بنحو ما ذكرت هنا ثم رد عل بأن الحافظ حسنه فتعجبت وقتئذ كيف قدم تحسين الحافظ على تضيف هؤلاء الأئمة مع كون هذا التضعيف موافقا لقواعد علم الحديث من رد حديث المختلط والمتغير كما تقدم بيانه في المقدمة.

والآن أعود فأذكر الأستاذ الفاضل بهذه الحقيقة {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقد زدت هذا البحت بيانا في "الإرواء" 485 فمن شاء رجع إليه قوله تحت رقم 6 -: وروي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. قلت: هذا يوهم أن الترمذي - الذي من عادته أن يتكلم على الحديث تصحيحا أو تضعيفا - قد سكت على هذا الحديث وليس كذلك بل صرح عقب تخريجه بأن إسناده ضعيف. وقد يعتذر عن المؤلف بأنه استغنى عن ذكره اختصارا مكتفيا بالإشارة إلى ضعف الحديث بتصديره إياه بقوله: "روي". فأقول: هذا لا يكفي فإنا مأمورون بمخاطبة الناس على قدر ما يفهمون والتصدير المذكور أمر اصطلاحي عند المحدثين قليل من قراء هذا الكتاب من يعلم المقصود منه أو يتنبه له حتى المؤلف نفسه قد ذهل عن هذه الحقيقة حين نقل بعض الأحاديث عن الترغيب للمنذري مصدرة بهذه اللفظة: "روي" وعقب ذلك بقوله: "سكت عنه المنذري" مع أن المنذري ضعفه بهذا التصدير فإذا خفي هذا على المؤلف نفسه فلأن يخفى على قراء كتابه أولى ولا سيما أنه لم ينص في "المقدمة" على أن له هذا الاصطلاح كما فعل المنذري في مقدمة كتابه وقد نقلت كلامه في مقدمة هذه التعليقات "القاعدة: 13" فراجعها بل أنا في شك من أن يكون المؤلف قد عنى تضعيف الحديث بهذا التصدير الذي تبع فيه المنذري لما ذكرته.

_ 1 راجع الصفحة الأولى من هذه التعليقات وانظر ما سيأتي من التعليق على ما يحرم على الجنب.

آنفا ولما سيأتي في "الغسل من غسل الميت". ثم إن الحديث متفق على تضعيفه عند المحدثين وقد ذكرت نصوصهم في ذلك في كتابي "ضعيف سنن أبي داود" رقم 9 ومنهم المنذري حيث صدره بصيغة روي وعنه نقله المؤلف بالحرف الواحد! هذا وتتميما للفائدة أذكر مواضع أخرى يستحب لها الوضوء لم يذكرها المؤلف وقد أوردتها في "الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب" ومنه نقلت الخلاصة الآتية: 1 - الوضوء عند كل حدث لحديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فدعا بلالا فقال: "يا بلال بما سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي؟ " فقال بلال: يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم: "لهذا". رواه الترمذي والحاكم وابن خزيمة في "صحيحه" وإسناده صحيح على شرط مسلم واقتصر المنذزي على عزوه لابن خزيمة وحده وهو قصور! 2 - الوضوء من القئ لحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له فقال: صدق أنا صببت له وضوءه. أخرجه الترمذي 1 / 142 - 143 وغيره بإسناد صحيح والاضطراب الذي وقع في سنده لا يعله لأن حسينا المعلم قد جوده كما قال الترمذي وأحمد راجع "نيل الأوطار" 1 / 164 وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على الترمذي.

وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموعة الرسائل الكبرى" على استحباب الوضوء من القئ لهذا الحديث 2 / 234. 3 - الوضوء من حمل الميت لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وهو حديث صحيح جاء من طرق بعضها صحيح وبعضها حسن كما ذكرته في "إرواء الغليل" رقم 144 وقواه ابن القيم وابن القطان وابن حزم والحافظ راجع "التلخيص الحبير" 2 / 134. ثم رأيت المؤلف قد احتج بالحديث على استحباب الغسل من غسل الميت فيما يأتي من كتابه فكأنه ذهل عن الاستدلال به لما ذكرته هنا.

ومن المسح على الخفين

ومن المسح على الخفين قوله تحت رقم 2 -: وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله في صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. رواه أحمد والطحاوي وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وضعفه أبو داود. قلت: قال أبو داود في "سننه" بعد أن ساق الحديث: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. قلت: فأنت ترى أن أبا داود إنما ضعفه لا لعلة في سند الحديث بل لمخالفته للمعروف عن المغيرة من مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين ولا يخفى على العاقل أن هذا ليس بعلة تقدح في صحة الحديث لأن ثبوت مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين لا

ينفي ثبوت مسحه صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين فإذا روى هذا عن المغيرة ثقة وجب الأخذ به لعدم منافاته لما رواه غيره عن المغيرة من المسح على الخفين والواقع أن رواة هذا الحديث كلهم رواة ثقات وإسناده صحيح على شرط البخاري وقد قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في" الإمام ": "ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس راويه عن هذيل على كونه ليس مخالفا لرواية الجمهور مخالفة معارضة بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه ولا سيما أنه طريق مستقل برواية هذيل عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها" وهذا هو تحقيق القول في الحديث حسبما تقتضيه قواعد علم الحديث فلا تغتر بما ينقل عن بعض العلماء من تضيفه فإنه مبني على علة غير قادحة كما بينا ومن شاء زيادة في التحقيق فليراجع تحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر على "سنن الترمذي" 2 / 167 - 168 و "الإروا" 101 و "صحيح أبي داود" 147 و148. قوله أيضا عقب الحديث السابق: "والمسح على الجوربين كان هو المقصود وجاء المسح على النعلين تبعا". قلت: قد يوهم هذا الكلام أن المسح على النعلين غير جائز ودفعا لذلك أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم المسح على النعلين استقلالا دون ذكر الجوربين من حديث علي بن أبي طالب وأوس بن أبي أوس الثقفي وابن عمر وصححه ابن القطان كما في "شرح علوم الحديث" للعراقي ص 12 وقد تكلمت على أسانيدها في "صحيح سنن أبي داود" رقم 150 و156.

فهذه الأحاديث تدل على جواز المسح على النعلين أيضا وقد ثبت ذلك عن بعض السلف أيضا كما يأتي قريبا ففيه دليل واضح على عدم اشتراط كون الخف ساترا لمحل الفرض كما نقله المؤلف عن شيخ الإسلام ص 106. قوله: "يبطل المسح على الخفين: 1 انقضاء المدة. 2 الجنابة. 3 نزع الخف". قلت: الأمر الثاني دليله حديث صفوان - بن عسال المتقدم في الكتاب في بحث نواقض الوضوء / النوم المستغرق. وأما الأمر الأول والثالث فلا دليل عليهما البتة ولذلك قال شيخ الإسلام في "الاختيارات" ص 9: "لا ينقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا بانقضاء المدة ولا يجب عليه مسح رأسه ولا شمل قدميه وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور". قلت: وما ذكره عن الحسن البصري علقه البخاري عنه في "صحيحه" 1 / 225 فقال: "وقال الحسن: إن أخذ من شعره وأظفاره أو خلع خفيه فلا وضوء عليه". قال الحافظ: "التعليق عنه للمسألة الأولى وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح وأما التعليق عنه للمسألة الثانية فوصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ووافقه على ذلك إبراهيم النخعي وطاوس وقتادة وعطاء وبه كان يفتي سليمان بن حرب وداود".

قلت: وهذا مذهب علي بن أبي طالب أيضا فقد أخرج البيهقي 1 / 288 والطحاوي في "شرح المعاني" 1 / 58 عن أبي ظبيان أنه رأى عليا رضي الله عنه بال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى زاد البيهقي: "فأم الناس". وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين. وفيه دليل على جواز المسح على النعلين وقد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث سبقت الإشارة إليها.

ومن الغسل

ومن الغسل قوله تحت الفقرة أمن موجباته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". قلت: أورده من حديث ابن عباس في قصة له مع بعض أصحابه من التابعين وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن عبد البر في "جامع العلم" عنه مرفوعا دون القصة وقال الترمذي: "حديث غريب" يعني ضعيف ونقل المناوي عن الحافظ العراقي أنه قال: "إسناده ضعيف جدا". وهو كما قال وبيانه في التعليق على "المشكاة" 217. وأما القصة فلم أقف الآن على سندها للنظر فيه وما أظنها تصح وفيها نكارة والله أعلم.

ومن مايحرم على الجنب

ومن ما يحرم على الجنب قوله: " ... ولا مانع من مس ما اشتمل على آيات من القرآن كالرسائل وكتب التفسير والفقه وغيرها فإن هذه لا تسمى مصحفا ولا تثبت لها حرمته". قلت: هذا الجواب مبني على القول بحرمة مس المصحف من الجنب والمصنف لم يذكر دليلا عليه ههنا ولكنه أشار في "فصل: ما يجب له الوضوء" أن الدليل هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" مع أنه صرح هناك بأن لفظة "طاهر" مشترك يحتمل معاني شتى وأنه لا بد من حمله على معنى معين من قرينة ثم حمله هو على غير الجنب بغير قرينة وقد رددنا عليه هناك بما فيه كفاية وبينا المراد من الحديث هناك وأنه لا يدل على تحريم مس القرآن على المؤمن مطلقا. فراجعه. والبراءة الأصلية مع الذين قالوا بجواز مس القران من المسلم الجنب وليس في الباب نقل صحيح يجيز الخروج عنها. فتأمل. قوله: "يحرم على الجنب أن يقرأ شيئا من القرآن عند الجمهور لحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره قال الحافظ في "الفتح": وضعف بعضهم بعض رواته والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة". قلت: كلا بل هو من قبيل الضعيف الذي لا تقوم به حجة لأنه تفرد به عبد الله بن سلمة وقد كان تغير بآخر عمره باعتراف الحافظ ابن حجر نفسه في "التقريب" وفي هذه الحالة كان قد حدث بهذا الحديث كما سبق بيانه في فصل

" ما يستحب له الوضوء" وهي علة قوية تورث شبهة في ثبوت الحديث تمنع من الاحتجاج به سيما وقد ثبت عن عائشة ما يعارضه وقد ذكرته ثم وليس له ما يشهد له من الطرق ما يصلح لتقويته مثل قول المؤلف عقبه: "وعنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال: "هكذا لمن ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية".رواه أحمد وأبو يعلى وهذا لفظه قال الهيثمي: رجاله موثقون". قلت: فإن لهذه الطريق علتين: الضعف والوقف. أما الضعف فسببه أن في سنده عامر بن السمط أبا الغريف ولم يوثقه غير ابن حبان وهو مشهور بالتساهل في التوثيق كما بينته في "المقدمة" وقد خالفه من هو أعرف بالرجال منه وهو أبو حاتم الرازي فقال في أبي الغريف هذا: "ليس بالمشهور ... قد تكلموا فيه من نظراء أصبغ بن نباتة". وأصبغ هذا لين الحديث عند أبي حاتم ومتروك عند غيره ومنهم الحافظ ابن حجر فثبت ضعفه. وأما الوقف فقد أخرجه الدارقطني وغيره عن أبي الغريف عن علي موقوفا عليه كما بينت ذلك في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 131. فقد عاد الحديث إلى أنه موقوف مع ضعف إسناده فلا يصلح شاهدا للمرفوع الذي قبله بل لعل هذا أصله موقوف أيضا أخطأ في رفعه ولفظه عبد الله ابن سلمة حين رواه في حالة التغير وهذا محتمل فسقط الاستدلال بالحديث على التحريم ووجب الرجوع إلى الأصل وهو الإباحة وهو مذهب داود وأصحابه واحتج له ابن حزم 1 / 77 - 80 ورواه عن ابن عباس وسعيد بن

المسيب وسعيد بن جبير وإسناده عن هذا جيد رواه عنه حماد بن أبي سليمان قال: سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ؟ فلم يربه بأسا وقال: أليس في جوفه القرآن؟ وقرن البغوي في "شرح السنة" 2 / 43 مع القائلين بالجواز عكرمة أيضا لكن لا يخفى أن الأمر لا يخلو من كراهة لحديث: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر". انظر "الصحيحة" 834.والله أعلم. قوله: "يحرم على الجنب أن يمكث في المسجد لحديث عائشة قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد ... فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب". رواه أبو داود. وعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب". رواه ابن ماجه والطبراني". قلت: سوق الحديث على هذه الصورة يوهم القارئ أنهما حديثان بإسنادين متغايرين أحدهما عن عائشة والآخر عن أم سلمة وليس كذلك بل هما حديث واحد بإسناد واحد مداره على جسرة بنت دجاجة اضطربت في روايته فمرة قالت: "عن عائشة" ومرة: "عن أم سلمة" والاضطراب مما يوهن به الحديث كما هو معروف عند المحدثين لأنه يدل على عدم ضبط الراوي وحفظه. يضاف إلى ذلك أن جسرة هذه لم يوثقها من يعتمد على توثيقه بل قال البخاري: "عندها عجائب" ولذلك ضعف جماعة هذا الحديث كما قال الخطابي. وقال البيهقي: " ليس بالقوي لما" وقال عبد الحق:

" لا يثبت" وبالغ ابن حزم فقال: "إنه باطل"1. وللحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته ودعمه لأن في أحدهما متروكا وفي الآخر كذابا وقد خرجتهما وفصلت القول فيهما في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 32 والقول عندنا في هذه المسألة من الناحية الفقهية كالقول في مس القرآن من الجنب للبراءة الأصلية وعدم وجود ما ينهض على التحريم وبه قال الإمام أحمد وغيره قال البغوي في "شرح السنة" 2 / 46: "وجوز أحمد والمزني المكث فيه وضعف أحمد الحديث لأن راويه أفلت مجهول وتأول الآية على أن عابري السبيل هم المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون وقد روي ذلك عن ابن عباس". قوله: "وعن يزيد بن حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم إلى المسجد فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ولا طريق إليه إلا من المسجد فأنزل الله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} رواه ابن جرير". قلت: كذا في الأصل: "ابن حبيب" ولعله خطأ مطبعي والصواب: "ابن أبي حبيب" كما في "تفسير ابن جرير" وكتب الرجال وهو أبو رجاء المصري وكان فقيها من ثقات التابعين إلا أنه كان يرسل فهذه الرواية معللة بالإرسال فلا يفرح بها.

_ 1 قلت: وقد خفي هذا التحقيق على الشوكاني فقوى حديث عائشة بحديث أم سلمة كما خفي عليه أن علة الحديث جسرة هذه فانظر "السيل الجرار" 1 / 109.

ومن الأغتسال المستحبة

ومن الأغتسال المستحبة ... ومن الأغسال المستحبة قوله تحت رقم 1 -: "وقد ذهب جماعة من العلماء إلى القول بوجوب الغسل للجمعة ... ". قلت: وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه لأن الأحاديث الدالة عليه أقوى إسنادا وأصرح في الدلالة من الأحاديث التي استدل بها المخالفون على الاستحباب فانظر مثلا استدلالهم بحديث عمر المذكور في الكتاب فإنه لا حجة لهم فيه بل هو عليهم لأن إنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع الحافل على مثل ذلك الصحابي الجليل وتقرير جميع الحاضرين من الصحابة وغيرهم لما وقع من ذلك الإنكار لهو من أعظم الأدلة القاضية بأن الوجوب كان معلوما عند الصحابة ولو كان الأمر عندهم على عدم الوجوب لما عول ذلك الصحابي في الاعتذار على غيره فأي تقرير من عمر ومن حضر بعد هذا الإنكار؟! وكذلك استدلالهم بحديث أبي هريرة: "من توضأ فأحسن الوضوء ... " فقد أجاب عنه الحافظ نفسه بقوله في "الفتح ": "ليس فيه نفي الغسل وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء". وجملة القول أن الأحاديث المصرحة بوجوب غسل الجمعة فيها حكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه فلا تعارض بينها والواجب الأخذ بما تضمن الزيادة منها وراجع تفصيل هذا البحث في "نيل الأوطار" للشوكاني و "المحلى" لابن حزم.

قوله تحت رقم 3 -: "لما روي عن عمر قال: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل رواه الخطيب بإسناد صحيح". قلت: لا شك أن إسناده صحيح لكن تصديره بقوله: "روي" لا يتفق مع ما اصطلح عليه المحدثون من أن هذه الصيغة ونحوها إنما يصدر بها الحديث الضعيف فهذا يدلنا على أن المؤلف لم يراع هذا الاصطلاح ههنا فهل يا ترى يرعاه حين يصدر الحديث بهذه الصيغة ويسكت عنه كما فعل في الحديث المتقدم ص 44؟ أنا في شك من ذلك كما ذكرته هناك. والله أعلم. ثم إن المؤلف تبع الحافظ ابن حجر في "التلخيص" أو من نقل ذلك عنه في اقتصار عزوه للخطيب يعني في "تاريخه" وذلك يوهم أنه ليس عند من هو أعلى طبقة منه وكتابه أشهر من كتابه وليس كذلك فقد أخرجه الدارقطني أيضا في "سننه" ص 191 وهي فائدة أحببت أن أنبه عليها. وقوله: "ولما غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين توفي خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل؟ قالوا: لا رواه مالك". قلت: جزمه بان أسماء غسلت زوجها ... الخ. يوهم أن القصة صحيحة الإسناد وليس كذلك لانقطاعه فإن مالكا أخرجها في "الموطأ" 1 / 222 - 223 عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي ثم خرجت ... وعبد الله بن أبي بكر هذا ليس هو ابن أبي بكر الصديق كما قد يتوهم بل

هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري وهو ثقة إمام من شيوخ مالك ولكنه لم يدرك أسماء بنت عميس فإن وفاتها قبل سنة خمسين وولادة عبد الله بعد سنة ستين كما يستفاد من "التهذيب" وغيره. ولو صح هذا الأثر لكان ظاهر الدلالة على وجوب هذا الاغتسال كما هو مذهب ابن حزم لأنهم إنما أفتوها بتركه لعذر البرد الشديد مع كونها صائمة فتأمل. فائدة: ههنا أغسال ثابتة لم يتعرض المؤلف لذكرها فرأيت من الفائدة أن لا نغفلها: 1 - الاغتسال عند كل جماع لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه قال: فقلت: يا رسول الله! ألا تجعله واحدا؟ قال: "هذا أزكى وأطيب وأطهر" رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن ولذلك أوردته في "صحيح أبي داود" وذكرت فيه أن الحافظ ابن حجر قواه واستدل به على ما ذكرنا. 2 - اغتسال المستحاضة لكل صلاة أو للظهر والعصر جميعا غسلا وللمغرب والعشاء جميعا غسلا وللفجر غسلا لحديث عائشة قالت: إن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة ... الحديث وفي رواية عنها: استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا واحدا وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا وإسناد هذه الرواية صحيح على شرط الشيخين والأولى صحيح فقط كما بينته في "صحيح السنن" رقم 300 و305.

3 - الاغتسال بعد الإغماء لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس؟ " فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب". قالت: ففعلت فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟ " فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي الماء في المخضب". قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال: "أصلى الناس؟ " فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله. فذكرت إرساله إلى أبي بكر وتمام الحديث. متفق عليه كما في "المنتقى" أورده في "باب: غسل المغمى عليه إذا أفاق". قال الشوكاني 1 / 212: "وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض فدل ذلك على تأكد استحبابه". 4 - الاغتسال من دفن المشرك لحديث علي بن أبي طالب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا طالب مات فقال: "اذهب فواره" فلما واريته رجعت إليه فقال لي: "اغتسل". أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح وله إسناد آخر صحيح أيضا وفيه زيادات وقد أوردته في "المبحث" 79 فقرة "ب" من كتابي "أحكام الجنائز" وقد فرغت منه قريبا. ثم طبع والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ومن غسل المرأة

ومن غسل المرأة قوله:"فعن عائشة أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض قال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر ... ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها". قالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ قال: "سبحان الله تطهري بها" ... وسألته عن غسل الجنابة فقال: "تأخذين ماءك" ... فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. رواه الجماعة إلا الترمذي". قلت: فيه وهمان: الأول: أن جماعة المذكورين لم يرووا الحديث بتمامه وإنما رواه كذلك من بينهم مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد 6 / 147 - 148 والسياق له. وأما بقية الجماعة وهم البخاري والنسائي فإنما أخرجا القسم الأول منه دون السؤال عن غسل الجنابة وهذا القدر هو الذي عزاه في "المنتقى" 1 / 217 - 218 بشرح الشوكاني لرواية الجماعة إلا الترمذي. وروى البخاري معلقا قول عائشة في آخره: "نعم النساء ... " فقال الحافظ في "شرحه" 1 / 84 ا: "هذا التعليق وصله مسلم ... عن عائشة في حديث أوله: أن أسماء بنت يزيد الأنصاري سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ... ". فهذا مما يدلك على وهم نسبته الحديث برمته إلى البخاري. وقد وقع في هذا الوهم الشيخ محمود السبكي أيضا في "الدين الخالص" 1 / 313 والظاهر أنهما قلدا غيرهما فيه.

الثاني: أنه ليس عند أحد المذكورين ممن روى الحديث مختصرا أو تاما أن السائلة هي أسماء بنت يزيد بل هي عندهم أسماء غير منسوبة وبعضهم لم يسمها مطلقا اللهم إلا في رواية لمسلم 1 / 180 فإنه سماها: "أسماء بنت شكل" وما تقدم عن الحافظ أنها عند مسلم: "أسماء بنت يزيد الأنصاري" وهم منه رحمه الله ولعله منشأ وهم المؤلف أو من نقل هو عنه والله أعلم. ثم إن الحديث صريح في التفريق بين غسل المرأة في الحيض وغسلها من الجنابة حيت أكد على الحائض أن تبالغ في التدليك الشديد والتطهير ما لم يؤكد مثله في غسلها من الجنابة كما أن حديث أم سلمة المذكور في الكتاب دليل على عدم وجوب النقض في غسلها من الجنابة وهو المراد في حديث عبيد بن عمير عن عائشة بقرينة اغتسالها مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا تعارض بين الأحاديث على هذا التفصيل فيجب النقض في الحيض ولا يجب في الجنابة خلافا لما ذهب إليه المصنف وعلى مذهبه يلزم رد حديث عائشة بدون حجة ولا يجوز. وقد ذهب إلى التفصيل المذكور الإمام أحمد وصححه ابن القيم في "تهذيب السنن" فراجعه 1 / 165 - 168 وهو مذهب ابن حزم 2 / 37 – 40.

ومن مسائل تتعلق بالغسل

ومن مسائل تتعلق بالغسل قوله: "1 - يجزئ غسل واحد عن حيض وجنابة أو عن جمعة وعيد أو عن جنابة وجمعة إذا نوى الكل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" ". قلت: الذي يتبين لي أنه لا يجزىء ذلك بل لا بد من الغسل لكل ما يجب الغسل له غسلا على حدة فيغتسل للحيض غسلا وللجنابة غسلا آخر أو للجنابة غسلا وللجمعة غسلا آخر لأن هذه الأغسال قد قام الدليل على وجوب كل واحد منها على انفراده فلا يجوز توحيدها في عمل واحد ألا ترى أنه لو كان عليه قضاء شهر رمضان أنه لا يجوز له أن ينوي قضاءه مع صيامه لشهر رمضان أداء وهكذا يقال في الصلاة ونحوها والتفريق بين هذه العبادات وبين الغسل لا دليل عليه ومن ادعاه فليتفضل بالبيان. واستدلال المصنف بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" لا وجه له ههنا وليس له العموم الذي نزع إليه المصنف إذ المعنى: له ما نوى من النية الصالحة أو الفاسدة في العمل المشروع بمعنى أن العمل المشروع لا يكون مقبولا عند الله إلا إذا كانت النية فيه صالحة بخلاف ما إذا كانت النية فاسدة. مثل أن يقصد به غير وجه الله تعالى فحينئذ لا يقبل عمله ويدلك على أن هذا هو المراد من الحديث تمامه وهو: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله وهذه هي النية الصالحة ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها وهذه هي النية الفاسدة فهجرته إلى ما هاجر إليه". وخلاصة القول أن الحديث إنما يدل على صلاح العمل الذي ثبت في

الشرع جوازه إذا اقترنت به النية الصالحة وأما أنه يدل على صلاح ما لم يثبت جوازه بدليل خاص لمجرد اقترانه بالنية الصالحة فلا دليل فيه البتة وهذا بين لا يخفى. وقد عكس ابن حزم فاستدل بالحديث على ما ذهبنا إليه فقال بعد أن ذكر أن من أجنب يوم الجمعة فلا يجزيه إلا غسلان غسل ينوي به الجنابة وغسل آخر ينوي به الجمعة ... الخ. قال 2 / 43: "برهان ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" فصح يقينا أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال فإذ قد صح ذلك فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر وصح يقينا أنه إن نوى أحد ما عليه من ذلك فإنما له بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة الذي نواه فقط وليس له ما لم ينوه فإن نوى بعمله ذلك غسلين فصاعدا فقد خالف ما أمر به لأنه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكرنا فلم يفعل ذلك والغسل لا ينقسم فبطل عمله كله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". ثم ذكر أنه ذهب إلى ما اختاره من عدم الإجزاء جماعة من السلف منهم جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران قال: "وهو قول داود وأصحابنا". وقد ساق الآثار بذلك عنهم فراجعها ويحسن أن يلحق بهم أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه فقد روى الحاكم 1 / 282 من طريق يحمص بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة قال:

دخل علي أبى وأنا أغتسل يوم الجمعة فقال: غسل من جنابة أو للجمعة؟ قال: قلت: من جنابة قال: أعد غسلا آخر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبي! فلو كان أبو قتادة يرى إجزاء الغسل الواحد عن الغسلين لما أمره بإعادة غسل واحد للجمعة بل لقال له: انو في غسلك من الجنابة الغسل للجمعة أيضا. لكن في صحة الإسناد المذكور نظر لأن يحيى بن أبي كثير مدلس وقد عنعنه ثم إن في الطريق إليه هارون بن مسلم العجلي وليس من رجال الشيخين بل ولا روى له أحد من الستة شيئا وقد قال فيه الحاكم عقب هذا الحديث: "ثقة روى عنه أحمد بن حنبل وعبد الله بن عمر القواريري". وروى عنه جماعة آخرون وذكره ابن حبان في "الثقات" وأخرج له هو وابن خزيمة في "صحيحيهما" كما في "التهذيب" وقال: قال أبو حاتم: "فيه لين". وقال في "التقريب ": "صدوق". فالظاهر أنه حسن الحديث على الأقل وقد رواه من طريقه الطبراني في "الأوسط" كما في "المجمع" 2 / 174 وقال: "وفيه هارون بن مسلم قال أبو حاتم: فيه لين. ووثقه الحاكم وابن حبان وبقية رجاله ثقات".

ثم خرجته في "الصحيحة" 2321. قوله: "2 - إذا اغتسل من الجنابة ولم يكن قد توضأ يقوم الغسل عن الوضوء قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل. وعن ابن عمر أنه قال لرجل قال له: إني أتوضأ بعد الغسل؟ فقال له: لقد تعمقت". قلت: في هذا الاستدلال نظر أما الأثر عن ابن عمر فموقوف ولا حجة فيه إن صح ثم الظاهر أن المراد منه ما يراد من الحديث وهو أن السنة الوضوء قبل الغسل لا بعده بدليل حديثها الآخر قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل ... الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما. ولا شك أن من توضأ قبل الغسل ثم بعده فهو تعمق ومن اقتصر على الوضوء بعده فهو مخالف للسنة فليس إذن في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ في الغسل مطلقا ولو كان كذلك لصح الاستدلال به وإذ لا فلا. فالأولى الاستدلال بحديث جابر بن عبد الله: أن أهل الطائف قالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض باردة فما يجزئنا من غسل الجنابة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا". رواه مسلم وغيره. وبه استدل البيهقي للمسألة فقال في "سننه" 1 / 177: "باب: الدليل على دخول الوضوء في الغسل ... " وهذا ظاهر من الحديث فإذا ضم إليه حديث عائشة الذي أورده المؤلف - وهو صحيح كما بينته في "صحيح سنن أبي داود" برقم 244 - ينتج منهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالغسل الذي لم يتوضأ فيه ولا بعده. والله أعلم.

قوله: "وقال أبو بكر بن العربي: لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث ... ". قلت: بلى قد اختلف العلماء في ذلك وابن العربي إنما قال ما علم, {وفوق كل ذي علم عليم} فقد قال الحافظ في "الفتح" 2 1 / 287: "ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل وهو مردود فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث". قال الشوكاني عقبه: "وهو قول أكثر العلماء وإلى القول الأول - أعني: عدم وجوب الوضوء مع الغسل ودخول الطهارة الصغرى تحت الكبرى - ذهب زيد بن علي ولا شك في مشروعية الوضوء مقدما على الغسل كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة وأما الوجوب فلم يدل عليه دليل والفعل بمجرده لا ينتهض للوجوب نعم يمكن تأييد القول الثاني بالأدلة القاضية بوجوب الوضوء". قلت: وعدم الوجوب هو مذهب ابن حزم خلافا لما قد يظن راجع المحلى 2 / 28. قوله: "4 - لا بأس بدخول الحمام إن سلم الداخل من النظر إلى العورات وسلم من نظر الناس إلى عورته". قلت: هذا الكلام بإطلاقه يشمل كل من يدخل الحمام ولو كان من النساء ولا سيما أن المؤلف لم يستثنهن من الحكم المذكور فعليه أقول: لا يجوز إشراك النساء في هذا الحكم بل الحمام - والمقصود به ما كان خارج الدار طبعا - حرام عليهن مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته

الحمام". رواه الترمذي وحسنه وله شواهد كثيرة تراجع في "الترغيب". وعن أبي المليح قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت: من أنتن؟ قلن: من أهل الشام قالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم قالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى". رواه أصحاب "السنن" الأربعة إلا النسائي وإسناده صحيح على شرط الشيخين وراجع "صحيح الترغيب" 1 / 141 / 157 - 165 - طبعة مكتبة المعارف الرياض وهي طبعة جديدة منقحة ومزيدة. وأما استثناء المريضة والنفساء كما جاء في حديث ابن عمرو عند أبي داود وغيره فلا يصح سنده كما هو مبين في "غاية المرام" 192 وغيره.

ومن التيمم

ومن التيمم قوله مستدلا على إباحة التيمم لجرح أو مرض: "لحديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه ... فقال صلى الله عليه وسلم: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده". رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السكن". قلت: هذا الحديث ضعفه البيهقي والعسقلاني وغيرهما لكن له شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إلى درجة الحسن لكن ليس فيه قوله: "ويعصر ... الخ" فهي زيادة ضعيفة منكرة لتفرد هذا الطريق الضعيف بها وراجع "التلخيص

الحبير" 2 / 292 و295 و "بلوغ المرام". ومن هذا يتبين أن احتجاج المؤلف بالحديث هنا متجه بخلاف احتجاجه به في "المسح على الجبيرة" ويأتي زيادة بيان هناك. قوله:" وإذا كان قادرا على استعمال الماء لكنه خشي خروج الوقت باستعماله في الوضوء أو الغسل فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه". قلت: والذي يتبين لي خلافه ذلك لأنه من الثابت في الشريعة أن التيمم إنما يشرع عند عدم وجود الماء بنص القرآن الكريم وتوسعت في ذلك السنة المطهرة فأجازته لمرض أو برد شديد كما ذكره المؤلف فأين الدليل على جوازه مع قدرته على استعمال الماء؟ فإن قيل: هو خشية خروج الوقت. قلت: هذا وحده لا يصلح دليلا لأن هذا الذي خشي خروج الوقت له حالتان لا ثالث لهما: إما أن يكون ضاق عليه الوقت بكسبه وتكاسله أو بسبب لا يملكه مثل النوم والنسيان ففي هذه الحالة الثانية فالوقت يبتدئ من حين الاستيقاظ أو التذكر بقدر ما يتمكن من أداء الصلاة فيه كما أمر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها". أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم فقد جعل الشارع الحكيم لهذا المعذور وقتا خاصا به فهو إذا صلى كما أمر يستعمل الماء لغسله أو وضوئه فليس يخشى عليه خروج الوقت فثبت أنه لا يجوز له أن يتيمم وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" ص 12 وذكر في "المسائل الماردينية" ص 65 أنه مذهب الجمهور. وأما في الحالة الأول فمن المسلم أنه في الأصل مأمور باستعمال الماء وأنه لا يتيمم فكذلك يجب عليه في هذه الحالة أن يستعمل الماء فإن أدرك الصلاة فبها وإن فاتته فلا يلومن إلا نفسه لأنه هو الذي سعى إلى هذه النتيجة. هذا هو الذي اطمأنت إليه نفسي وانشرح له صدري وإن كان شيخ الإسلام وغيره قالوا: إنه يتيمم ويصلي والله أعلم. ثم رأيت الشوكاني كأنه مال إلى هذا الذي ذكرته فراجع "السيل الجرار" 1 / 126 – 127.

ومن المسح على الجبيرة ونحوها

ومن المسح على الجبيرة ونحوها قوله: "يشرع المسح على الجبيرة ونحوها مما يربط به العضو المريض لأحاديث وردت في ذلك وهي وإن كانت ضعيفة إلا أن لها طرقا يشد بعضها بعضا تجعلها صالحة للاستدلال بها على المشروعية من هذه الأحاديث حديث جابر أن رجلا أصابه حجر فشجه في رأسه ... ". قلت: تبع المؤلف في تقوية الحديث الصنعاني والشوكاني وغيرهما وهو ذهول منهم جميعا عن القاعدة التي أوردتها في "المقدمة: القاعدة 10" والتي خلاصتها أن الحديث لا يقوى بكثرة الطرق إذا كان الضعف فيها شديدا وهذه الأحاديث من هذا القبيل وهي أربعة ولا بأس من أن نبين عللها بشيء من الاختصار: الأول: حديث جابر المذكور في الكتاب وموضع الشاهد منه قوله: "ويعصب أو يعصر على جرحه ... " وقد بينا فيما تقدم أن هذه الجملة منكرة فأغنى عن الإعادة. الثاني: عن علي قال: انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر. قال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام ": "رواه ابن ماجه بسند واه جدا". وقال شارحه الصنعاني:

"والحديث أنكره يحيى بن معين وأحمد وغيرهما قالوا: وذلك أنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي وهو كذاب ورواه الدارقطني والبيهقي من طريقين أوهى منه قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث: وقال الشافعي: لو عرفت إسناده بالصحة لقلت به وهذا مما أستخير الله فيه". وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: "هذا حديث باطل لا أصل له". الثالث: عن أبي أمامة رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 8 / 154 / 7597 بإسناده وقد ساقه في "نصب الراية" 1 / 186 وفيه اسحاق بن داود الصواف شيخ الطبراني ولم أجد له ترجمة وحفص بن عمر - وهو العدني - قال النسائي: "ليس ثقة". الرابع: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر. أخرجه الدارقطني وقال: "أبو عمارة يعني محمد بن أحمد بن المهدي أحد رواته ضعيف جدا ولا يصح هذا الحديث مرفوعا". وقد رواه البيهقي 1 / 228 عن ابن عمر موقوفا عليه بسند صحيح ثم قال: "هو عن ابن عمر صحيح". وقال البيهقي بعد أن ساق الحديث الثاني من طريق الأول وأشار إلى طرقه الأخرى وضعفها كلها: "ولا يثبت في هذا الباب شيء وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي تقدم - يعني حديث جابر - وليس بالقوي وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين

فمن بعدهم مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة". قلت: فأنت ترى البيهقي قد اعتمد في الباب على أقوال الفقهاء وأثر ابن عمر المشار إليه آنفا فلو كان الحديث قويا بهذه الطرق لاحتج البيهقي بذلك لأنه من القائلين بتقوية الحديث بكثرة الطرق ولكنه لم يفعل مع احتياجه للحديث وذلك لشدة ضعف طرقه كما بينا. ولذلك ذهب ابن حزم إلى أنه لا يشرع المسح على الجبيرة قال 2 / 74 - 75: "برهان ذلك قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء وكان التعويض منه شرعا والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله فسقط القول بذلك". ثم ذكر عن الشعبي ما يوافق قوله ومثله عن داود وأصحابه وهو الحق إن شاء الله. وأجاب عن أثر ابن عمر المتقدم بأنه فعل منه رضي الله عنه وليس إيجابا للمسح عليها وقد صح عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل ولا يشرع ذلك فضلا عن أن يكون فرضا!

ومن الحيض

ومن الحيض قوله في صدد سرد دماء الحيض:" د الكدرة: وهي التوسط بين لون البياض والسواد كالماء الوسخ لحديث علقمة بن أي علقمة عن أمه مرجانة مولاة عائشة رضي الله عنها قالت: كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. رواه مالك ومحمد بن الحسن وعلقه البخاري". قلت: مرجانة هذه لم يوثقها غير ابن حبان لكن قد تابعتها عمرة عن عائشة بمعناه أخرجه البيهقي 1 / 336 وإسناده حسن1. والحديث وإن كان موقوفا فله حكم المرفوع لوجوه أقواها أنه يشهد له مفهوم حديث أم عطية المذكور في الكتاب عقب هذا بلفظ: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا" فإنه يدل بطريق المفهوم أنهن كن يعتبرن ذلك قبل الطهر حيضا وهو مذهب الجمهور كما قال الشوكاني. وكنت قديما أرى أن الحيض هو الدم الأسود فقط لظاهر حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها المذكور في الكتاب ثم بدا لي وأنا أكتب هذه التعليقات أن الحق ما ذكره السيد سابق: أنه الحمرة والصفرة والكدرة أيضا قبل الطهر لهذا الحديث وشاهده وبدا لي أيضا أنه لا يعارضهما حديث فاطمة لأنه وارد في دم المستحاضة التي اختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة فهي تميز بين دم الاستحاضة ودم الحيض بالسواد فإذا رأته تركت الصلاة وإذا رأت غيره صلت ولا يحتمل الحديث غير هذا. والله أعلم.

_ 1 وانظر "إرواء الغليل" 1 / 218 / 198.

ومن الاستحاضة

ومن الاستحاضة قوله: "وعن عكرمة بن حمنة أنها كانت مستحاضة ... رواه أبو داود والبيهقي". قلت: كذا في الأصل: "عكرمة بن حمنة"1 وهو خطأ مطبعي عجيب! ولعل الأصل: "عكرمة عن حمنة" وهي بنت جحش لأنه كذلك في "سنن أبي داود" فإن كان هذا هو الأصل فما النكتة من ذكر عكرمة في سنده والابتداء من عنده ولا سيما أنه خلاف الاختصار الذي جرى عليه المؤلف في الكتاب؟! ثم إن "حمنة" كذا هو في الأصل أيضا بكسر الميم وكذلك تقدم في بحث الاستحاضة وهو خطأ والصواب: "حمنة" بسكون الميم كما في "المغني" للشيخ الفتني و "القاموس" وغيرهما.

_ 1 وفي طبعة الكتاب الجديدة 1 / 89: "عكرمة بت حمنة".

ومن الصلاة

ومن الصلاة قوله تحت عنوان "منزلتها في الإسلام ": "نقل عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب ... " رواه الطبراني". قلت: نقله المؤلف من "الترغيب" وهو فيه هكذا من مسند عبد الله بن قرط وخالفه الهيثمي في "المجمع" فجعله من مسند أنس بن مالك وتبعه عليه السيوطي في "الجامع" وهو الصواب فقد رواه بهذا اللفظ الضياء المقدسي في مسند أنس من "الأحاديث المختارة" من طريق الطبراني وغيره وقد خرجته في "الصحيحة" 1358 ثم رأيته كذلك في "المعجم الأوسط" للطبراني 3 / 100 - 101 - مصورة الجامعة الإسلامية رقم 2046 بترقيمي.

قوله تحت ذكر الأحاديث المصرحة بوجوب قتل تارك الصلاة: "1 - عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منها فهو كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان" رواه أبو يعلى بإسناد حسن". قلت: أنا في شك كبير من ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمصنف إنما حسنه تبعا للمنذري وقد كنت قلت في تعليقي عليه ما نصه: "وكذا قال الهيثمي في "المجمع" 1 / 48 قلت: وفيه عندي نظر لأنه من رواية عمرو بن مالك النكري ولم يذكروا توثيقه إلا عن ابن حبان ومع ذلك فقد وصفه ابن حبان بقوله: "يخطئ ويغرب" وقال أيضا: "يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه". وكل هذا يفيد أنه لا يحتج بما انفرد به ومنه تعلم قول الذهبي فيما نقله المناوي عن كتابه "الكبائر": "هذا حديث صحيح" أنه غير صحيح. ولعله إن صح إنما هو موقوف من قول ابن عباس ولا سيما وقد تردد في رفعه بعض التردد أحد رواته وهو حماد بن زيد حيث قال: "ولا أعلمه إلا قد رفعه" وجزم برفعه أخوه سعيد بن زيد ليس بحجة كما قال السعدي وقال النسائي وغيره: "ليس بالقوي". والله أعلم. وأزيد هنا فأقول: إن توثيق ابن حبان وحده للراوي مما لا يوثق به كما بيناه في "المقدمة" وهذا إذا اقتصر على توثيقه فكيف إذا وصفه بأنه "يخطئ "؟!

ولذلك فإنه يغلب على الظن إن كان للحديث أصل عن ابن عباس أنه موقوف عليه أخطأ النكري هذا فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم1.

_ 1 وانظر "الضعيفة" 94 ففيه زيادة فائدة عما هنا.

ومن صلاة الصبي

ومن صلاة الصبي قوله: "فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ... " رواه أحمد وأبو داود والحكم وقال: صحيح على شرط مسلم". قلت: فيه إيهام أن الحاكم صححه من هذا الطريق على شرط مسلم وليس كذلك وعمرو بن شعيب ... ليس من أسانيد مسلم والواقع أن للحديث إسنادين هذا أحدهما والآخر من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه. وهذا هو الذي قال فيه الحاكم: صحيح على شرط مسلم فلو أن المؤلف بين هذا لأفاد فائدتين: الأولى: دفع الوهم المذكور. والثانية: تقوية الحديث بمجيئه من الطريق الأخرى ولا سيما والطريق الأولى يضعفها بعض العلماء وإن كان التحقيق أنها طريق حسنة محتج بها عند أكابر العلماء كأحمد والبخاري وغيرهما. على أن الإسناد الثاني ليس على شرط مسلم لأن عبد الملك بن الربيع إنما روى له مسلم متابعة كما بينته في "صحيح سنن أبي داود" رقم 58.

ومن تأكيد تعجيلها في يوم الغيم

ومن تأكيد تعجيلها في يوم الغيم قوله: "عن بريدة الأسلمي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله". رواه أحمد وابن ماجه". قلت: إنما يصح من هذا الحديث مرفوعا قوله: "من فاتته ... الخ" كذلك أخرجه البخاري وغيره. وأما باقي الحديث فإنما هو من قول بريدة موقوفا عليه أخطأ أحد رواة الحديث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمحفوظ الأول كما قال الحافظ في "التهذيب" وقد أوضحت ذلك في "التعليق الرغيب" 1 / 169 ثم في "إرواء الغليل" رقم 255 وهو مطبوع.

ومن وقت العشاء

ومن وقت العشاء قوله: "وأما وقت الجواز والاضطرار يعني لصلاة العشاء فهو ممتد إلى الفجر لحديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى" رواه مسلم. والحديث يدل على أن وقت كل صلاة ممتد إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر فإنها لا تمتد إلى الظهر فإن العلماء أجمعوا على أن وقتها ينتهي بطلوع الشمس". قلت: تبع المصنف الشوكاني وغيره في هذا الاستدلال بهذا الحديث ولا دليل فيه على ما ذهبوا إليه إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة ولا سيق من أجل

ذلك وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عامدا عن وقتها مطلقا سواء كان يعقبها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب أو لا مثل الصبح مع الظهر ويدل على ذلك أن الحديث ورد في صلاة الفجر حين فاتته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وهم نائمون في سفر لهم واستعظم الصحابة رضي الله عنهم وقوع ذلك منهم فقال صلى الله عليه وسلم لهم: "أما لكم في أسوة؟ " ثم ذكر الحديث. كذلك هو في "صحيح مسلم" وغيره فلو كان المراد من الحديث ما ذهبوا إليه من امتداد وقمت كل صلاة إلى دخول الأخرى لكان نصا صريحا على امتداد وقت الصبح إلى وقت الظهر وهم لا يقولون بذلك ولذلك اضطروا إلى استثناء صلاة الصبح من ذلك وهذا الاستثناء على ما بينا من سبب الحديث يعود عليه بالإبطال لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح فكيف يصح استثناؤها؟ فالحق أن الحديث لم يرد من أجل التحديد بل لإنكار تعمد إخراج الصلاة عن وقتها مطلقا ولذلك قال ابن حزم في "المحلى" 3 / 178 مجيبا على استدلالهم المذكور: "هذا لا يدل على ما قالوه أصلا وهم مجمعون معنا أن وقت صلاة الصبح لا يمتد إلى وقت صلاة الظهر فصح أن هذا الخبر لا يدل على اتصال وقت كل صلاة بوقت التي بعدها وإنما فيه معصية من أخر صلاة إلى وقت غيرها فقط سواء أتصل آخر وقتها بأول الثانية أم لم يتصل وليس فيه أنه لا يكون مفرطا أيضا من أخرها إلى خروج وقتها وإن لم يدخل وقت أخرى ولا أنه يكون مفرطا بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نص على خروج وقت كل صلاة والضرورة توجب أن من تعدى بكل عمل وقته الذي حده الله تعالى لذلك العمل فقد تعدى حدود الله وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ". وإذ قد ثبت أن الحديث لا دليل فيه على امتداد وقت العشاء إلى الفجر فإنه

يتحتم الرجوع إلى الأحاديث الأخرى التي هي صريحة في تحديد وقت العشاء مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط ... ". رواه مسلم وغيره وقد مضى بتمامه في الكتاب ويؤيده ما كتب به عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: " ... وأن صل العشاء ما بينك وبين ثلث الليل وإن أخرت فإلى شطر الليل ولا تكن من الغافلين". أخرجه مالك والطحاوي وابن حزم وسنده صحيح. فهذا الحديث دليل واضح على أن وقت العشاء إنما يمتد إلى نصف الليل فقط وهو الحق ولذلك اختاره الشوكاني في "الدرر البهية" فقال: " ... وآخر وقت صلاة العشاء نصف الليل"1 وتبعه صديق حسن خان في "شرحه" 1 / 69 - 70 وقد روي القول به عن مالك كما في "بداية المجتهد" وهو اختيار جماعة من الشافعية كأبي سعيد الإصطخري وغيره. انظر المجموع 3 / 40. فائدة: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق وهو مذهب كافة العلماء كما في المصدر المذكور.

_ 1 وكذا في "السيل الجرار" أيضا 1 / 183.

ومن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

ومن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها قوله تعليقا على حديث عقبة بن عامر قال: "ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا ... " قال: "النهي عن الدفن في هذه الأوقات معنا تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات فأما إذا وقع الدفن بلا تعمد في هذه الأوقات فلا يكره". قلت: هذا نص كلام النووي في "شرح صحيح مسلم" فلو عزاه إليه كان أولى ثم إن الحديث مطلق وتخصيصه بالمتعمد لا دليل عليه كما بينته في "أحكام الجنائز" البحث 83 فالواجب تأخير دفن الجنازة حتى يخرج وقت الكراهة إلا إذا خيف تغير الميت. وهو قول الحنابلة كما ذكره المؤلف في كتاب الجنائز. ومن رأيهم في الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها قوله: "واستثنوا يعني الحنفية عصر اليوم وصلاة الجنازة". قلت: استثناء عصر اليوم صحيح وأما استثناء صلاة الجنازة فغير مسلم إذ لا دليل عليه بل إطلاق حديث عقبة المتقدم وما في معناه يشملها ويؤيده أن ابن عمر كان ينهى عن الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس كما في "الموطأ" وغيره والأولى أن يستثني الصلاة المنسية أو التي نام عنها فيصليها إذا ذكرها في وقت الكراهة لحديث الشيخين المذكور في الباب المتقدم من الكتاب. ثم إن ما ذكره المؤلف من استثناء بعض الأئمة التطوع يوم المجمعة وقت الاستواء صحيح أيضا وفيه أحاديث كثيرة تراجع في "زاد المعاد" و "أعلام أهل العصر بحكم ركعتي الفجر" للعظيم آبادي وغيرهما.

ومن الأذان

ومن الأذان قوله: "وهو واجب أو مندوب" قلت: لعل المؤلف حفظه الله تعالى لم تتح له الفرصة ليحقق القول ويبين الحق من القولين وإلا فإن القول بأن الأذان مندوب لا نشك مطلقا في بطلانه كيف وهو من أكبر الشعائر الإسلامية التي كان عليه الصلاة. والسلام إذا لم يسمعه في أرض قوم أتاهم ليغزوهم وأغار عليهم فإن سمعه فيهم كف عنهم كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما وقد ثبت الأمر به في غير ما حديث صحيح والوجوب يثبت بأقل من هذا فالحق أن الأذان فرض على الكفاية وهو الذي صححه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" 1 / 67 - 68 و4 / 20 بل وعلى المنفرد كما يأتي. وسنذكر دليلا آخر على الوجوب في بحث "صلاة الجماعة" وقد ذكره الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 196 - 197 مع أحاديث أخرى وختم ذلك بقوله: "والحاصل أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر من نار على علم وأدلتها هي الشمس المنيرة ثم هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعة بل لكل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائق الرجال والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكان لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال".

قوله في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في ابتداء شرع الأذان ص 201 - 202: "رواه أحمد"! قلت: هذا يوهم أنه لم يروه أحد من أهل السنن والصحاح وهو تقصير فاحش فقد أخرجه أبو داود والدارمي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"1 وإسناده حسن صحيح كما بينته في "صحيح أبي داود" 512 وانظر "المشكاة" 650. فائدة: قوله في هذا الحديث بعد أن ساق الأذان: "ثم استأخر غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة ... " الخ. قلت: في هذا دليل واضح على أن السنة في الإقامة في موضع غير موضع الأذان فقول ابن قدامة في "المغني" 1 / 427: "ويستحب أن يقيم في موضع أذانه قال أحمد: أحب إلي أن يقيم في مكانه ولم يبلغني فيه شيء إلا حديث بلال: لا تسبقني بآمين" يعني: لو كان يقيم في موضع صلاته لما خاف أن يسبقه بالتأمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبر بعد فراغه من الإقامة ولأن الإقامة شرعت للإعلام فشرعت في موضعه ليكون أبلغ في الإعلام. وقد دل على هذا حديث عبد الله بن عمر قال: كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة". فأقول: أما حديث ابن عمر فلا دلالة فيه لما ذكره مطلقا لأنه من الممكن سماعه للإقامة لقربه من المسجد وذلك لا يستلزم أن تكون الإقامة في موضع

_ 1 ثم رأيته في الطبعات الجديدة قد استدرك بعض هذه المصادر.

الأذان كما هو ظاهر. وإسناده حسن كما هو مبين في "صحيح أبي داود" 527 بخلاف حديث بلال فإنه منقطع بين أبي عثمان وبلال ولذلك أوردته في "ضعيف أبي داود" برقم 167 على أنه لو صح فلا دلالة فيه أيضا على الدعوى. وما نقله عن الإمام أحمد ففيه نظر لأنه لا يعني بقوله: "مكانه" الأذان وإنما المقيم يعني أنه يقيم حيث هو ولا يمشي قال عبد الله بن أحمد في "مسائله" 61 / 220: "قلت لأبي: الرجل يمشي في الإقامة؟ قال: أحب إلي أن يقيم مكانه ... " الخ. وقد وجدت بعض الآثار تشهد لحديث عبد الله بن زيد فروى ابن أبي شيبة 1 / 224 عن عبد الله بن شقيق قال: من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد وكان عبد الله يفعله. وسنده صحيح. وروى عبد الرزاق 1 / 506 أن عمر بن عبد العزيز بعث إلى المسجد رجالا: إذا أقيمت الصلاة فقوموا إليها وسنده صحيح أيضا وهو ظاهر في أن الإقامة كانت في المسجد. قوله: "ويشرع للمؤذن التثويب وهو أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم قال أبو محذورة: يا رسول الله علمني سنة الأذان فعلمه وقال: "فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم ... " رواه أحمد وأبو داود". قلت: إنما يشرع التثويب في الأذان الأول للصبح الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة تقريبا لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان في الأذان الأول بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين" رواه البيهقي 1 / 423 وكذا

الطحاوي في "شرح المعاني" 1 / 82 وإسناده حسن كما قال الحافظ. وحديث أبي مخذورة مطلق وهو يشمل الأذانين لكن الأذان الثاني غير مراد لأنه جاء مقيدا في رواية أخرى بلفظ: "وإذا أذنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم". أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وغيرهم وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 510 - 516 فاتفق حديثه مع حديث ابن عمر ولهذا قال الصنعاني في "سبل السلام" 1 / 167 - 168 عقب لفظ النسائي: "وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات. قال ابن رسلان: وصحح هذه الرواية ابن خزيمة قال: فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر لأنه لإيقاظ النائم وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة. اهـ من "تخريج الزركشي لأحاديث الرافعي". ومثل ذلك في "سنن البيهقي الكبرى" عن أبي محذورة: أنه كان يثوب في الأذان الأول من الصبح بأمره صلى الله عليه وسلم. قلت: وعلى هذا ليس "الصلاة خير من النوم" من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة والإخبار بدخول وقتها بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأول". قلت: وإنما أطلت الكلام في هذه المسألة لجريان العمل من أكثر المؤذنين في البلاد الإسلامية على خلاف السنة فيها أولا ولقلة من صرح بها من المؤلفين ثانيا فان جمهورهم - ومن ورائهم السيد سابق - يقتصرون على إجمال القول فيها ولا يبينون أنه في الأذان الأول من الفجر كما جاء ذلك صراحة في الأحاديث الصحيحة خلافا للبيان المتقدم من ابن رسلان والصنعافي جزاهما الله خيرا.

ومما سبق يتبين أن جعل التثويب في الأذان الثاني بدعة مخالفة للسنة وتزداد المخالفة حين يعرضون عن الأذان الأول بالكلية ويصرون على التثويب في الثاني فما أحراهم بقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . فائدة: قال الطحاوي بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وابن عمر المتقدمين الصريحين في التثوب في الأذان الأول: "وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى". قوله في أذان الفجر: "يشرع تقديمه على أول الوقت إذا أمكن التمييز بين الأذان الأول والثاني حتى لا يقع الاشتباه". قلت: ذلك ممكن بيسر إذا التزمت السنة التي ميزت الأذان الأول بزيادة جملة: "الصلاة خير من النوم مرتين " كما تقدم. على أن هناك سنة أخرى تزيد الأمر يسرا وهي أن يكون مؤذن الأذان الأول غير مؤذن الأذان الثاني كما في حديث ابن عمر الذي ذكره المؤلف أخرجه الشيخان وله شواهد كثيرة خرجتها في "الإرواء" 219 وهى سنة متروكة أيضا فهنيئا لمن وفقه الله تبارك وتعالى لإحيائها. قوله: "وروى الطحاوي والنسائي أنه لم يكن بين أذانه يعني ابن عمر وأذان ابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا". قلت: لقد أبعد النجعة وأخل بفن التخريج فإن هذه الرواية قد جاءت في "الصحيحين" في حديث ابن عمر المشار إليه آنفا من حديث نافع عنه. انظر "الإرواء" 1 / 236.

قوله: فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة" رواه أبو داود والنسائي والترمذي ... وزاد: قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة". قلت: الحديث صحيح كما قال الترمذي وأما الزيادة فضعيفة منكرة في سندها يحيى بن اليمان وزيد العمي وهما ضيفان وقد وقفت للحديث على أربعة طرق ذكرتها في "الثمر المستطاب" ثم في "إرواء الغليل" 244 وليس في شيء منها هذه الزيادة إلا في هذه الطريق الضعيفة فلا يشرع العمل بها ولا يغتر أحد بكلام الشوكاني في هذا المقام فإنه لم يعط الموضوع حقه من التتبع والبحث. قوله: وعن أم سلمة قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أذان المغرب: "اللهم هذا إقبال ليلك ... ". قلت: سكت عنه المصنف فأوهم ثبوته وليس كذلك فإنه حديث ضعيف وسكت عن تخريجه وليس بجيد وقد أخرجه الترمذي وغيره من طريق أبي كثير مولى أم سلمة عنها وقال الترمذي: "حديث غريب وأبو كثير لا نعرفه" ولذلك قال النووي: "رواه أبو داود والترمذي وفي إسناده مجهول". فمثل هذا الحديث لا يجوز نشره بين الأمة إلا مع بيان حاله من الضعف. قوله: "يستحب لمن يسمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول المقيم إلا عند قوله: "قد قامت الصلاة" فإنه يستحب أن يقول: أقامها الله وأدامها فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما قال: قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقامها الله وأدامها". قلت: بل المستحب أن يقول كما يقول المقيم: "قد قامت الصلاة" لعموم

قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ... ". وتخصيصه بمثل هذا الحديث لا يجوز لأنه حديث واه وقد ضعفه النووي والعسقلاني وغيرهم ولا يغتر بقول صاحب "التاج الجامع للأصول ": "سنده صالح" لأنه اغتر بسكوت أبي داود عليه وقد بينا قيمة سكوت أبي داود على الحديث في "المقدمة" فراجعها وقد بينت ما في سنده من العلل في "ضعيف أبي داود" 83 ثم في "الإرواء" 241. وبهذه المناسبة أقول: إن كتاب "التاج" هذا ملئ جدا بالأخطاء العلمية وقد كنت نقدت الجز الأول منه منذ أكثر من عشر سنين من تأليف هذا الكتاب ومسودته موجودة عندي ولو تسنى لنا نشره لفعلنا نصحا للأمة. قوله فيما يستحب للمؤذن: "4 - أن يلتفت برأسه وعنقه وصدره يمينا ... ". قلت: أما تحويل الصدر فلا أصل له في السنة البتة ولا ذكر له في شيء من الأحاديث الواردة في تحويل العنق ولعله سبق قلم من المؤلف وإن كان استمر عليه في كل طبعات الكتاب ويؤيد هذا الاحتمال قوله عقبه: "قال النووي في هذه الكيفية: هي أصح الكيفيات. قال أبو جحيفة ... ". فإن النووي قال في "المجموع" 3 / 104 بعد حديث الشيخين عن أبي جحيفة الذي ذكره المؤلف وفيه: "فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يمينا وشمالا". وفي رواية أبي داود: "فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر" وإسناده صحيح.

ثم قال 3 / 106 - 107: "والسنة أن يلتفت في الحيعلتين يمينا وشمالا ولا يستدير كما ذكره المصنف". ثم قال: "قال أصحابنا: والمراد بالالتفات: أن يلوي رأسه وعنقه ولا يحول صدره عن القبلة ولا يزيل قدمه عن مكانها وهذا معنى قول المصنف: "ولا يستدير" وهذا هو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور". هذا من الناحية الفقهية وأما من الناحية الحديثية فإن قوله في رواية أبي داود: "وإسناده صحيح" غير صحيح لأن فيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وتد تفرد بقوله: "ولم يستدر" كما بينته في "صحيح أبي داود" 533 وقد ثبتت الاستدارة من رواية جمع لكن المراد بها الالتفات يمينا ويسارا كما شرحته هناك فأغنى عن الإعادة. ومما يحسن التنبيه عليه أيضا أنه ليس في رواية البخاري قوله: "يمينا وشمالا" وإنما هو عند مسلم فقط كما كنت ذكرت ذلك في تخريج الحديث في "إرواء الغليل" 233 فعزو المؤلف تبعا للنووي للشيخين فيه تساهل واضح وانظر إن شئت "فتح الباري" 2 / 114 – 115. قوله: " ... وروى ابن المنذر عن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة". قلت: ينبغي تقييد ذلك بما إذا كان الإمام في المسجد وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة: إن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "صحيح أبي داود"

وأما إذا لم يكن في المسجد فلا يقومون حتى يروه قد خرج لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت". متفق عليه واللفظ لمسلم وهو مخرج في "صحيح أبى داود" 550 - 552 انظر الشوكاني 3 / 162. واعلم أنه لا علاقة لهذه المسألة بتكبيرة الإمام للإحرام فإن عليه بعد قيام الناس أن يأمرهم بسد الفرج وتسوية الصفوف كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عنه وسيأتي في الكتاب بعضها حتى إذا رأى الإمام أن الصفوف استوت كبر فما جاء في "الآثار" للإمام محمد ص 13: "عن إبراهيم قال: إذا قال المؤذن: حي على الفلاح فإنه ينبغي للقوم أن يقوموا فيصفوا فإذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإمام. قال محمد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة". قلت: وعلى هذا كثير من مقلدة الحنفية وبخاصة في البلاد الأعجمية فإن في ذلك إضاعة للسنة المحمدية كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفا وقريب منه اقتصار بعض الأئمة على قولهم: "استووا استووا" فقط!! وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين. قوله: " ... وعن معاذ الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادى يدعو إلى الفلاح ولا يجيبه". رواه أحمد والطبراني" قلت: سكت عن الحديث فأوهم صحته وليس بصحيح ولا حسن فإنه من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد وكلاهما ضعيف وإعلال الهيثمي له بالثاني منهما فقط قصور.

قوله: "قال ابن عمر: ليس على النساء أذان ولا إقامة رواه البيهقي بإسناد صحيح". قلت: هذا خطأ فاحش قلد فيه المؤلف الشوكاني في "نيل الأوطار" 2 / 27 وهذا قلد الحافظ ابن حجر في "التلخيص" 1 / 211 وذلك لأنه من رواية عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وعبد الله بن عمر هو العمري المكبر وهو ضعيف كما كنت بينت في "الضعيفة" 2 / 270 وخرجته من طريق "مصنف عبد الرزاق" أيضا من هذا الوجه فكأنهم توهموا أن عبد الله هو عبيد الله بن عمر فإنه ثقة وليس به. ثم هو بظاهره مخالف لما رواه ابن أبى شيبة في "المصنف" 1 / 223 بسند جيد عن وهب بن كيسان قال: سئل ابن عمر هل على النساء أذان؟ فغضب وقال: أنا أنهى عن ذكر الله؟! واحتج به الإمام أحمد كما ذكرت هناك وراجع كلام الشوكاني المتقدم قريبا. قوله: "وعن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء وتقف وسطهن رواه البيهقي". قلت: في "السنن الكبرى" 1 / 408 و3 / 131 من طريق الحاكم وهو في "المستدرك" 1 / 203 - 204 وفيه ليث وهو ابن أبي سليم ومن طريقه عبد الرزاق 3 / 126 وابن أبي شيبة 1 / 223 دون إمامة النساء. لكن هذه الزيادة تابعه عليها ابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة أخرجه ابن أبي شيبة 2 / 89 فأحدهما يقوي الآخر ولها طريق أخرى من حديث رائطة الحنفية أن عائشة أمت نسوة في المكتوبة فأمتهن بينهن وسطا. أخرجه عبد الرزاق 3 / 141 والدارقطني 1 / 404 والبيهقي 3 / 131 وقال النووي في "المجموع" 4 / 199:

" إسناده صحيح"! كذا قال وأقره الزيلعي في "نصب الراية" 2 / 31 وأما الحافظ فسكت عن إسناده في "التلخيص" 2 / 42 وهو أقرب فإن رائطة هذه لم أجد لها ترجمة وفي طبقتها ما في "التهذيب": "رائطة بنت مسلم روت عن أبيها وعنها ابنها عبد الله بن الحارث بن أبزى المكي". وقال الحافظ في "التقريب": "لا تعرف". فمن المحتمل أن تكون هي هذه أو غيرها فأنى لإسنادها الصحة؟! ولها شاهد من رواية حجيرة بنت حصين قالت: "أمتنا أم سلمة في صلاة العصر قامت بيننا". رواه عبد الرزاق أيضا وابن أبي شيبة 2 / 88 والبيهقي ورجاله ثقات غير حجيرة هذه فلم أعرفها ومع ذلك صححه النووي أيضا وسكت الحافظ عنه أيضا. لكن يقويه ما عند ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن أم الحسن أنها رأت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تؤم النساء تقوم معهن في صفهن. قلت: وهذا إسناد صحيح رواته ثقات معروفون من رجال الشيخين غير أم الحسن هذه وهو البصري واسمها خيرة مولاة أم سلمة وقد روى عنها جمع من الثقات ورمز لها في "التهذيب" بأنها ممن روى لها مسلم وذكرها ابن حبان في "الثقات" 4 / 216. وبالجملة فهذه الآثار صالحة للعمل بها ولا سيما وهي مؤيدة بعموم قوله

صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال" كما تقدم فيما نقلناه لك من كلام الشوكاني في "السيل الجرار" فتذكره فإنه مهم. قوله: " ... روى الأثرم وسعيد بن منصور عن أنس أنه دخل مسجدا قد صلوا فيه فأمر رجلا فأذن بهم وأقام فصلى بهم جماعة". قلت: قد علقه البخاري ووصله البيهقي بسند صحيح عنه وقد يستدل به بعضهم على جواز تعدد صلاة الجماعة في المسجد الواحد ولا حجة فيه لأمرين: الأول: أنه موقوف. الثاني: أنه قد خالفه من الصحابة من هو أفقه منه وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فروى عبد الرزاق في "المصنف" 2 / 409 / 3883 وعنه الطبراني في "المعجم الكبير" 9380 بسند حسن عن إبراهيم أن علقمة والأسود أقبلا مع ابن مسعود إلى المسجد فاستقبلهم الناس وقد صلوا فرجع بهما إلى البيت ... ثم صلى بهما. فلو كانت الجماعة الثانية في المسجد جائزة مطلقا لما جمع ابن مسعود في البيت مع أن الفريضة في المسجد أفضل كما هو معلوم. ثم وجدت ما يدل على أن هذا الأثر في حكم المرفوع فانه يشهد له ما روى الطبراني في "الأوسط" 4739 - بترقيمي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم. وقال: "لا يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد". قلت: وهو حسن وقال الهيثمي 2 / 45:

"رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" ورجاله ثقات". ولعل الجماعة التي أقامها أنس رضي الله عنه كانت في مسجد ليس له إمام راتب ولا مؤذن راتب فإن إعادتها في مثل هذا المسجد لا تكره لما يأتي وبذلك يتفق الأثران ولا يختلفان. وأحسن ما وقفت عليه من كلام الأئمة في هذه المسألة هو كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ولا بأس من نقله مع شيء من الاختصار ولو طال به التعليق نظرا لأهميته وغفلة أكثر الناس عنه قال رضي الله عنه في "الأم" 1 / 136: "وإن كان لرجل مسجد يجمع فيه ففاتته الصلاة فإن أتى مسجد جماعة غيره كان أحب إلي إن لم يأته وصلى في مسجده منفردا فحسن وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصلاة صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه وإنما كرهت ذلك لهم لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا بل قد عابه بعضهم وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرقة الكلمة وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام الجماعة فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا فيكون بهذا اختلاف وتفرق الكلمة وفيهما المكروه وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب ولا يكون له إمام راتب ويصلي فيه المارة ويستظلون فلا أكره ذلك لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة وأن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماما غيره قال: وإنما منعني أن أقول: صلاة الرجل لا تجوز وحده وهو يقدر على جماعة

بحال تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة على صلاة المنفرد ولم يقل: لا تجزي المنفرد صلاته وأنا قد حفظنا أن قد فاتت رجالا معه الصلاة فصلوا بعلمه منفردين وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوما فجاؤوا المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا وإنما كرهوا لئلا يجمعوا في مسجد مرتين". وما علقه الشافعي عن الصحابة قد جاء موصولا عن الحسن البصري قال: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد وقد صلي فيه صلوا فرادى". رواه ابن أبي شيبة 2 / 223. وقال أبو حنيفة: "لا يجوز إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب". ونحوه في "المدونة" عن الإمام مالك. وبالجملة فالجمهور على كراهة إعادة الجماعة في المسجد بالشرط السابق وهو الحق ولا يعارض هذا الحديث المشهور: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" وسيأتي في الكتاب ص 277 فإن غاية ما فيه حض الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الذين كانوا صلوا معه صلى الله عليه وسلم في الجماعة الأولى أن يصلي وراءه تطوعا فهي صلاة متنفل وراء مفترض وبحثنا إنما هو في صلاة مفترض وراء المفترض فاتتهم الجماعة الأولى ولا يجوز قياس هذه على تلك لأنه قياس مع الفارق من وجوه: الأول: أن الصورة الأولى المختلف فيها لم تنقل عنه صلى الله عليه وسلم لا إذنا ولا تقريرا مع وجود المقتضى في عهده صلى الله عليه وسلم كما أفادته رواية الحسن البصري.

الثاني: أن هذه الصورة تؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة يستعجلون فتكثر الجماعة وإذا علموا أنها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة وتقليل الجماعة مكروه وليس شيء من هذا المحذور في الصورة التي أقرها. رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبت الفرق فلا يجوز الاستدلال بالحديث على خلاف المتقرر من هديه صلى الله عليه وسلم. وبعد ... فإن هذا البحث يتطلب شرحا أوسع لا يتسع له هذا التعليق وفي النية أن أجمع في ذلك رسالة فعسى أن أوفق لتحريرها إن شاء الله تعالى. قوله: "الجهر بالصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ... محدث مكروه". قلت: مفهومه أن الإسرار بها سنة فأين الدليل على ذلك؟ فإن قيل: هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي ... " وقد مضى في الكتاب في فقرة الذكر عند الأذان فالجواب: ان الخطاب فيه للسامعين المأمورين بإجابة المؤذن ولا يدخل فيه المؤذن نفسه وإلا لزم القول بأنه يجيب أيضا نفسه بنفسه وهذا لا قائل به والقول به بدعة في الدين. فإن قيل: فهل يمنع المؤذن من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سرا؟ قلت: لا يمنع مطلقا وإنما يمنع من أن يلتزمها عقب الأذان خشية الزيادة فيه وأن يلحق به ما ليس منه ويسوى بين من نص عليه صلى الله عليه وسلم - وهو السامع - ومن لم ينص عليه - وهو المؤذن - وكل ذلك لا يجوز القول به. فليتأمل.

ومن شروط الصلاة

ومن شروط الصلاة قوله في بحث ستر العورة بعد أن ساق أدلة الفريقين: "وللناظر في هذا أن يختار أي الرأيين وإن كان الأحوط أن يستر المصلي ما بين سرته إلى ركبته ما أمكن ... ". قلت: فيه أمور لا بد من تحرير القول فيها: الأول: أن الأخذ بالأحوط ليس بالأمر الواجب وإنما هو من باب الورع وليس كل مكلف يرغب أن يكرن ورعا كما لا يخفى. الثاني: أن المؤلف قيد ذلك بالصلاة فمفهومه أن ذلك ليس من الأحوط خارج الصلاة وفيه ما سيأتي بيانه. الثالث: أن الاختيار الذي أشار إليه ينبغي أن يكون قائما على قواعد علم أصول الفقه لكي لا يكون الاختيار كيفيا تابعا للعادات والأهواء. ومن الواضح لدى كل ناظر في الأدلة التي ساقها المؤلف أن أدلة القائلين بأن الفخذ ليس بعورة فعلية من جهة ومبيحة من جهة أخرى وأدلة القائلين بأنه عورة قولية من جهة وحاظرة من جهة أخرى ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار بعيدا عن الهوى والغرض قاعدتان: الأولى: الحاظر مقدم على المبيح. والأخرى: القول مقدم على الفعل لاحتمال الخصرصية وغيرها مع أن الفعل في بعض الأدلة المشار إليها لا يظهر فيها أنه كان مقصودا متعمدا كحديث أنس وأثر أبي بكر. أضعف إلى ذلك أنها وقائع أعيان لا عموم لها بخلاف الأدلة القولية فهي شريعة عامة وعليها جرى عمل المسلمين سلفا وخلفا بحيث لا

نعلم أن أحدا منهم كان يمشي أو يجلس كاشفا عن فخذيه كما يفعل بعض الكفار اليوم ومن يقلدهم من المسلمين الذين يلبسون البنطلون الذي يسمونه بـ الشورت وهو التبان في اللغة. ولهذا فلا ينبغي التردد في كون الفخذ عورة ترجيحا للأدلة القولية فلا جرم أن ذهب إليه أكثر العلماء وجزم به الشوكاني في "نيل الأوطار" 2 / 52 - 53 و "السيل الجرار" 1 / 160 – 161. نعم يمكن القول بأن عورة الفخذين أخف من عورة السوأتين وهو الذي مال إليه ابن القيم في "تهذيب السنن" كما كنت نقلته عنه في "الإرواء" 1 / 301.وحينئذ فمس الفخذ الذي وقع في حديث أبي ذر والظاهر أنه من فوق الثوب ليس كمس السوأتين خلافا لما قعقع حوله ابن حزم ونقله المؤلف عنه وأقره! بقي شيء وهو أن المؤلف قرن الركبة والسرة مع الفخذ ثم لم يذكر الدليل عليهما والواقع أنه لا يصح في ذلك شيء كما بينه الشوكاني 2 / 55 بل ينفى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السرة والركبة عورة" وهو حديث حسن كما بينته في "الإرواء" 247 و271 إلى أحاديث أخرى بمعناه فراجع الشوكاني إن شئت. ثم قال في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : "أي ولا يظهرن مواضع الزينة إلا الوجه والكفين كما جاه ذلك صحيحا عن ابن عباس وابن عمر وعائشة". قلت: انظر "حجاب المرأة المسلمة" ص 23 - 25 وأزيد هنا فأقول: روى ابن أبي شيبة في "المصنف" 4 / 283 عن ابن عباس في تفسير الآية المذكورة: "قال: الكف ورقعة الوجه". وسنده صحيح. وروى نحوه عن ابن عمر

بسند صحيح أيضا. فهذان الأثران الصحيحان مما يتقوي حديث عائشة مرفوعا: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه". وقد شرحت ذلك في المصدر المذكور آنفا بما لا مزيد عليه وقد تجاهل ذلك كله بعض أهل الأهواء فنسبونا إلى ما الله يعلم أني برئ منه هداهم الله. ثم قال في حديث أم سلمة: أتصلي المرأة في درع وخمار ... الخ: "رواه أبو داود وصح الأئمة وقفه وله حكم المرفوع". قلت: لا يصح إسناده لا مرفوعا ولا موقوفا لأن مداره على أم محمد بن زيد وهي مجهولة لا تعرف وبيانه في "الإرواء" 274 و "ضيعف أبي داود" 97 - 98 وخفيت هذه الحقيقة على الشوكاني في "نيل الأوطار" 2 / 58 فرجح الرفع وغفل عن الجهالة وأما في "السيل" 1 / 161 فقال: "لا تقوم به حجة". فأصاب لكنه اضطرب كلامه في توجيهه ولا مجال الآن لبيانه. ثم قال: "وعن عائشة أنها سئلت في كم تصلي المرأة من الثياب ... الخ". قلت: كذا ذكره دون تخريج وبيان لحاله وقد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 3 / 128 و "ابن أبي شيبة" 2 / 224 من طريق مكحول عمن سأل عائشة في كم ... الخ. قلت: ورجاله ثقات لكنه فيه الرجل الذي لم يسم بين مكحول وعائشة. لكن روى عبد الرزاق من طريق أم الحسن قالت: رأيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تصلي في درع وخمار

وإسناده صحيح. والدرع: القميص. وروى مالك في "الموطأ" 1 / 160 وعنه ابن أبي شيبة والبيهقي 2 / 233 عن عبيد الله الخولاني - وكان يتيما في حجر ميمونة - أن ميمونة كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار. وإسناده صحيح أيضا. وفي الباب آثار أخرى مما يدل على أن صلاة المرأة في الدرع والخمار كان أمرا معروفا لديهم وهو أقل ما يجب عليهن لستر عورتهن في الصلاة ولا ينافي ذلك ما روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار". وإسناده صحيح. وفي طريق أخرى عن ابن عمر قال: "إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة". رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح أيضا. فهذا كله محمول على الأكمل والأفضل لها. والله أعلم. قوله تحت عنوان: ما يجب من الثياب وما يستحب منها: "وعن بريدة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في ... سراويل وليس عليه رداء. رواه أبو داود والبيهقي". قلت: وإسناده حسن كما حققته في "صحيح أبي داود" 646.

وفي الحديث دلالة على أنه يجب على المصلي أن يستر من بدنه ما ليس بعورة وهو القسم الأعلى منه وذلك إن وجد كما يدل عليه حديث ابن عمر وغيره وظاهر النهي يفيد بطلان الصلاة ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه وفي رواية: عاتقيه" وفي أخرى: منكبيه منه شيء". رواه الشيخان وأبو داود وغيرهم وهو مخرج في "الإرواء" 275 و "صحيح أبي داود" 637. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" 2 / 59: "وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه وعن أحمد: لا يصح صلاة من قدر على ذلك فتركه وعنه أيضا: تصح ويأثم." وأغرب ابن حزم كعادته في التمسك بظاهريته فقال 4 / 71: "وفرض على الرجل إن صلى في ثوب واسع أن يطرح منه على عاتقه أو عاتقيه فإن لم يفعل بطلت صلاته فإن كان ضيقا اتزر به وأجزأه كان معه ثوب غيره أو لم يكن". قلت: فوقف مع ظاهر الحديث ولم يوجب الرداء إذا استطاعه خلافا لحديث بريدة هذا وحديث ابن عمر أيضا فكأنه لم يقف عليهما. ومن غرائبه أنه ذكر في المسالة بعض الآثار التي يدعم بها رأيه وليس فيها شيء من ذلك بل أحدها على خلافه وهو ما ذكر عن محمد بن الحنفية: "لا صلاة لمن لم يخمر على عاتقيه في الصلاة". فهذا لو صح حجة عليه لأنه أطلق ولم يقيده بالثوب الواحد لكن في

سنده أشعث وهو ابن سوار الكندي وهو ضعيف كما في "التقريب" ولم يخرجه ابن حزم وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1 / 349. قوله: "كشف الرأس في الصلاة روى ابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه". قلت: الحديث لا يصح الاستدلال به على الكشف لوجهين: الأول: أنه حديث ضيف. ويكفي للدلالة على ذلك تفرد ابن عساكر به وقد كشفت عن علته في "الضعيفة" 2538. الثاني: أنه لو صح فلا يدل على الكشف مطلقا فإن ظاهره أنه كان يفعل ذلك عند عدم تيسر ما يستتر به لأن اتخاذ السترة أهم للأحاديث الواردة فيها. والذي أراه في هذه المسألة أن الصلاة حاسر الرأس مكروهة ذلك أنه من المسلم به استحباب دخول المسلم في الصلاة في أكمل هيئة إسلامية للحديث المتقدم في الكتاب: " ... فإن الله أحق أن يتزين له" وليس من الهيئة الحسنة في عرف السلف اعتياد حسر الرأس والسير كذلك في الطرقات والدخول كذلك في أماكن العبادات بل هذه عادة أجنبية تسربت إلى كثير من البلاد الإسلامية حينما دخلها الكفار وجلبوا إليها عاداتهم الفاسدة فقلدهم المسلمون فيها فأضاعوا بها وبأمثالها من التقاليد شخصيتهم الإسلامية فهذا العرض الطارئ لا يصلح أن يكون مسوغا لمخالفة العرف الإسلامي السابق ولا اتخاذه حجة لجواز الدخول في الصلاة حاسر الرأس. وأما استدلال بعض إخواننا من أنصار السنة في مصر على جوازه قياسا على حسر المحرم في الحج فمن أبطل قياس قرأته عن هؤلاء الإخوان كيف والحسر في الحج شعيرة إسلامية ومن مناسكه التي لا تشاركه فيها عبادة أخرى ولو كان

القياس المذكور صحيحا للزم القول بوجوب الحسر في الصلاة لأنه واجب في الحج وهذا إلزام لا انفكاك لهم عنه إلا بالرجوع عن القياس المذكور ولعلهم يفعلون. وكذلك استدلاله بحديث علي مرفوعا: "ائتوا المساجد حسرا ومعصبين فإن العمائم تيجان المسلمين". استدلال واه لأن الحديث ضعيف جدا أعتقد أنه موضوع لأنه من رواية ميسرة بن عبد ربه وهو وضاع باعترافه وقال العراقي: "متروك". وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير ": "ومن ثم رمز المؤلف لضعفه لكن يشهد له ما رواه ابن عساكر بلفظ: ائتوا المساجد حسرا ومقنعين فإن ذلك من سيما المسلمين". قلت: لم يسق المناوي إسناده لينظر فيه وهل يصلح شاهدا لهذا الحديث الموضوع أم لا؟ وجملة القول أنه حديث ضعيف جدا على أقل الأحوال فالاستدلال به غير جائز والسكوت عنه إثم. ثم تبين لي أن الحديث بلفظيه عند ابن عدي من طريق ذاك الوضاع ومن طريقه عند ابن عساكر باللفظ الآخر أورده السيوطي في "الجامع الصغير" باللفظ الأول من رواية ابن عدي وفي "الجامع الكبير" باللفظ الآخر من رواية ابن عدي وابن عساكر فتوهم المناوي بأنه حديث آخر بإسناد آخر فجعله شاهدا للأول! ومن الظاهر أنه لم يقف على إسناد ابن عساكر وإلا لم يقع منه هذا الخلط والخبط الذي قلدته فيه لجنة تحقيق "الجامع الكبير" بمجمع البحوث الإسلامية 1 / 31 / 32 و33 في مصر! ولو فرضنا أن اللفظ الثاني سالم من مثل هذا الوضاع فهو لا

يصلح شاهدا للأول لأن الشاهد لا ينفع في الموضوع بل ولا في الضعيف جدا وقد ذكر المناوي نفسه نحو هذا في غير هذا الحديث فجل من لا ينسى. والحديث قد خرجته في "الضعيفة" 1296. وأما استحباب الحسر بنية الخشوع فابتداع حكم في الدين لا دليل عليه إلا الرأي ولو كان حقا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو فعله لنقل عنه وإذ لم ينقل عنه دل ذلك أنه بدعة فاحذرها. ومما سلف تعلم أن نفي المؤلف ورود دليل بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة ليس صوابا على إطلاقه إلا إن كان يريد دليلا خاصا فهو مسلم ولكنه لا ينفي ورود الدليل العام على ما بيناه آنفا وهو التزين للصلاة بالزي الإسلامي المعروف من قبل هذا العصر والدليل العام حجة عند الجميع عند عدم المعارض. فتأمل.

ومن كيفية الصلاة

ومن كيفية الصلاة قوله تحت رقم 1 -: "عن عبد الله بن غنم أن أبا مالك الأشعري جمع قومه فقال: "قلت: فذكر حديثا طويلا فيه شيء من صفة صلاته صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصف الولدان خلف الرجال والنساء خلف الولدان وفيه ذكر مجالس المتحابين في الله وغبط الأنبياء لهم ... ". رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقال: صحيح الإسناد". قلت: هذا التخريج نقله المؤلف بالحرف من "الترغيب" 4 / 48 ولا نرى تحسينه صوابا لأن مدار الإسناد على شهر بن حوشب وهو ضعيف لسوء حفظه واضطرابه في رواياته كما يظهر ذلك لمن تتبعها أو اطلع على أقوال الأئمة فيه وقد لخصها الحافظ في "التقريب" بقوله:

"صدوق كثير الإرسال والأوهام" لذلك أوردت قطعة الصف منه وهي عند أبي داود في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 105 وسيأتي حديث آخر من رواية شهر يدل على ضعفه واضطرابه فانظر تعليقنا على "الأذكار والأدعية بعد السلام" فيما يأتي ص 228 – 229. ثم إن قوله: "عبد الله بن غنم" فيه خطأ1 والصواب: "عبد الرحمن بن غنم" كما في "المسند" وكذلك ذكره المؤلف في مكان آخر ولكنه قيد: "غنم" بالضم أيضا لإنما هو بالفتح كما في "التقريب".

_ 1 وكذا وقع في كتاب "الدين والصلاة على المذاهب الأربعة" ص 137 فلا أدري من المقلد ومن المقلد؟! وهذا ومثله من شؤم التقليد وعدم الرجوع إلى الأمهات والأصول.

ومن فرائض الصلاة

ومن فرائض الصلاة قوله في تخريج حديث: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن وفي رواية: بفاتحة الكتاب فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام": "رواه أحمد والشيخان". قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أطلق العزو للشيخين فأوهم أنه عند البخاري في "الصحيح" وهو خطأ فإنه مما تفرد به مسلم دون البخاري ولعل سبب الوهم أن البخاري أخرجه في "جزء القراءة" وفي "أفعال العباد" فعزاه إليه هو أو من نقله عنه عزوا مطلقا غير مقيد ب "الجزء" و "الأفعال" فحصل الخطأ لأن العزو إليهما لا يعنى الصحة بخلاف العزول "صحيح البخاري" وهو المراد عند إطلاق العزو للبخاري في اصطلاح العلماء.

والأخرى: أن لفظ: "فهي خداج هي خداج" هو رواية لأحمد 2 / 285 وفي رواية أخرى له: "فهي خداج ثم هي خداج ثم هي خداج". وهى المطابقة لرواية مسلم 2 / 10 بلفظ: "فهي خداج يقولها ثلاثا" وأخرجه أبو داود وبقية أصحاب "السنن" وغيرهم وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 779. قوله: "وأقوى دليل لهذا المذهب يعني الجهر بالبسملة حديث نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن ... الحديث. وفي آخره قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان قال الحافظ في "الفتح": وهو أصح حديث ورد في الجهر بالبسملة". قلت: ينبغي أن يعلم أن عبارة الحافظ هذه لا تفيد عند المحدثين أن الحديث صحيح وإنما تعطي له صحة نسبية قال النووي رحمه الله: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون: "هذا أصح ما جاء في الباب" وإن كان ضعيفا ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا" قلت: ولعل الحافظ رحمه الله لم يصحح الحديث لأن بعض المحدثين قد أعل ذكر البسملة فيه بالشذوذ ومخالفة جميع الثقات الذين رووا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكروها فيه كما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وقد أطال في بيان ذلك الزيلعي في "نصب الراية" فراجعه 1 / 335 – 337. وأقول الآن: إنه عند ابن خزيمة وغيره من طريق ابن أبي هلال واسمه سعيد وكان اختلط وبه أعللت الحديث في التعليق على "صحيح ابن خزيمة" رقم 499 - طبع المكتب الإسلامي.

ثم إن الحديث لو صح فليس فيه التصريح بالجهر بها ولا برفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي هريرة في آخره: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم" لا يلزم منه رفع كل ما فعله أبو هريرة فيه كما فصل ذلك شيخ الإسلام في "الفتاوى" 1 / 81 فراجعه. والحق أنه ليس في الجهر بالبسملة حديث صريح صحيح بل صح عنه صلى الله عليه وسلم الإسرار بها من حديث أنس وقد وقفت له على عشرة طرق ذكرتها في تخريج كتابي "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" أكثرها صحيحة الأسانيد وفي بعض ألفاظها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها وسندها صحيح على شرط مسلم وهو مذهب جمهور الفقهاء وأكثر أصحاب الحديث وهو الحق الذي لا ريب فيه ومن شاء التوسع في هذا البحث فليراجع "فتاوى شيخ الإسلام" ففيها مقنع لكل عاقل منصف. قوله تحت عنوان: من لم يحسن فرض القراءة: "حديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلا الصلاة فقال: "إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمده وكبره وهلله ثم اركع". رواه أبو داود والترمذي وحسنه". قلت: هذا طرف من حديث المسيء صلاته من رواية رفاعة رضي الله عنه وروايته لمن ذكرهم المؤلف وتحسين الترمذي إياه دون ما يستحق إسناده فإنه صحيح لا غبار عليه كما كنت نبهت على ذلك في "صحيح أبي داود" 807. ثم هو شاهد قوي لحديث ابن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني فقال: قل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله".

رواه أبو داود وغيره وصححه جمع وإسناده حسن كما هو مبين في "إرواء الغليل" 303. وقد احتج الإمام أحمد بحديث رفاعة في هذه المسألة كما رواه عنه ابنه عبد الله في "مسائله" 81 / 287. قوله عند ذكره أعضاء السجود: "وقال غيرهم: لا يجزئه حتى يسجد على الجبهة والأنف". قلت: وهذا هو الحق لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لا يمس أنفه الأرض ما يمس الجبين". وهو حديث صحيح على شرط البخاري كما قال الحاكم والذهبي وقد ورد من طرق عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا كما بينته في تخريج "صفة الصلاة". قوله في القعود الأخير وقراءة التشهد فيه: "وأنه قال للمسيء في صلاته: فإذا رفعت رأسك من آخر سجدة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك". قلت: لم أجد هذا اللفظ في شيء من طرق حديث المسئ صلاته وقد كنت جمعتها في أول "التخريج" وإنما جاء في بعض طرقه بلفظ: "فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد" أخرجه أبو داود 1 / 137 بسند حسن وفيه دليل على وجوب التشهد في الجلوس الأول ولازمه وجوب الجلوس له لأن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب وهذا بخلاف رواية الكتاب فإنها قيدت تمام الصلاة بالقعود قدر التشهد في الجلوس الأخير ومفهومه عدم وجوب قراءة التشهد لكن هذا المفهوم - إن صح الحديث - غير مراد لحديث ابن عباس الذي بعده:

قوله: "قال ابن قدامة: وقد روي عن ابن عباس أنه فقال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ... ". قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أن الحديث من مسند ابن مسعود لا ابن عباس كذلك أخرجه النسائي والدارقطني والبيهقي وإسناده صحيح على شرط الشيخين وصححه الدارقطني وكذا الحافظ في "الفتح". الثانية: تصدير الحديث بقوله: "روي" المشعر بإن الحديث ضيف وقد علمت أنه صحيح وهو مخرج في "الإرواء" 319. قوله في السلام: "وعن وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" وعن شماله: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". قال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام": رواه أبو داود بإسناد صحيح". قلت: هو كما قال الحافظ رحمه الله لكن ليس في النسخ التي وقفت عليها من "سنن أبي داود" زيادة: "وبركاته" في التسليمة الثانية وإنما هي في التسليمة الأولى فقط وكذلك أخرجه الطيالسي من حديث ابن مسعود موقوفا بسند رجاله ثقات والطبراني في "الكبير" 10191 مرفوعا ولذلك رجحت في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" أن لا تزاد هذه الزيادة في التسليمة الثانية حتى تثبت بطريق تقوم به الحجة. وقد خرجت الحديث في "الإرواء" 2 / 30 - 32 و "صحيح أبي داود" 915

ومن سنن الصلاة

ومن سنن الصلاة قوله: "يستحب أن يرفع يديه في أربع حالات: الأولى: عند تكبيرة الإحرام ... الثانية والثالثة: عند الركوع والرفع منه ... الرابعة: عند القيام إلى الركعة الثالثة". قلت: قد ثبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضا أما الرفع عند الهوي إلى السجود والرفع منه ففيه أحاديث كثيرة عن عشرة من الصحابة قد خرجتها في "التعليقات الجياد" منها عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. أخرجه النسائي وأحمد وابن حزم بسند صحيح على شرط مسلم وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" كما في "الفتح" للحافظ ثم قال: "وهو أصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود". وأما الرفع من التكبيرات الأخرى ففيه عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند كل تكبيرة. ولا تعارض بين هذه الأحاديث وبين حديث ابن عمر المتقدم في الكتاب بلفظ " ... ولا يرفعهما بين السجدتين" لأنه ناف وهذه مثبة والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في علم الأصول. وقد ثبت الرفع بين السجدتين عن جماعة من السلف منهم أنس رضي الله عنه بل منهم ابن عمر نفسه فقد روى ابن حزم من طريق نافع عنه أنه كان يرفع يديه إذا سجد وبين الركعتين. وإسناده قوي. وروى البخاري في جزء "رفع اليدين" ص 7 من طريق سالم بن عبد الله أن أباه كان إذا رفع رأسه من السجود

وإذا أراد أن يقوم رفع يديه. وسنده صحيح على شرط البخاري في الصحيح. وعمل بهذه السنة الإمام أحمد بن حنبل كما رواه الأثرم وروي عن الإمام الشافعي القول به وهو مذهب ابن حزم فراجع "المحلى". قوله: "وقد جاء في حديث مالك بن الحويرث بلفظ: كبر ثم رفع يديه رواه مسلم وهذا يفيد تقديم التكبيرة على رفع اليدين. ولكن الحافظ قال: لم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع". قلت: بلى هو قول في مذهب الحنفية وبعد صحة الحديث فلا عذر لأحد في التوقف عن العمل به ولا سيما وللحديث شاهد من رواية أنس عند الدارقطني ص 113 فالحق العمل بهذه الهيئات الثلاثة تارة بهذه وتارة بهذه وتارة بهذه لأنه أتم في إتباعه عليه السلام. قوله في أدعية الاستفتاح:" 2 وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال: "وجهت وجهي ... وأنا من المسلمين ... الخ رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم". قلت: ولفظ الترمذي في "الدعوات" 3419: " ... الصلاة المكتوبة ... ". وقال: "حديث حسن صحيح". وكذلك رواه أبو عوانة في "صحيحه" 2 / 112 و205 والدارقطني 1 / 297 وسنده صحيح ورواته كلهم ثقات كما قال أبو الطيب العظيم آبادي في تعليقه عليه وهو على شرط مسلم. واما قول الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" بعد أن ساق رواية مسلم

المطلقة وهي المذكورة عند المؤلف: "وفي رواية له أن ذلك في صلاة الليل". وتبعه على ذلك الشوكاني فقال في "نيل الأوطار" 2 / 161: "وأما مسلم فقيده بصلاة الليل وزاد لفظ: من جوف الليل". قلت: وهذا وهم كله فليس عند مسلم 2 / 185 - 186 القيد المذكور ولا الزيادة المذكورة وإنما هي في حديث ابن عباس الذي ساقه قبل هذا الحديث بحديث بلفظ: "كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: اللهم لك الحمد ... " وهو النوع السابع في الكتاب فكان الشوكاني انتقل بصره إليه حين الكتابة فوقع في الخطأ. وأما الحافظ فلعل سبب وهمه أن مسلما رحمه الله أورد الحديث في زمرة أحاديث قيام الليل! ويبدو أن مثل هذا الوهم قديم فقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر كلامه على هذا الحديث من "الكلم الطيب" ص 58 - بتحقيقي فإنه قال: "ويقال: إن هذا كان في قيام الليل". وقد علقت عليه ثمة بإيجاز منبها على رواية الترمذي هذه وغيره وعلى وهم الحافظ والصنعاني والشوكاني. ولقد أغرق هذا في الخطأ في كتابه الآخر "السيل الجرار" 1 / 224 فقال في حديث مسلم: "إنه مقيد في "صحيح مسلم" بصلاة الليل وإن أطلقه غيره فحمل

المطلق على المقيد متعين! " فكأنه كتب هذا من ذاكرته ولم يراجع "النيل" فإنه قال فيه: "وأخرجه أيضا ابن حبان وزاد: "وإذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضا بالمكتوبة وكذا غيرهما وأما مسلم فقيده بصلاة الليل ... ". الخ ما سبق نقله عنه آنفا. والخلاصة أن الحديث مقيد بالصلاة المكتوبة عند غير مسلم ممن سبق ذكره فتكون روايته مقيدة بالمكتوبة لا بصلاة الليل كما قال الشوكاني. وإذا كان ذلك مشروعا في الفريضة ففي النافلة من باب أولى كما لا يخفى على أولي النهى. ثم إن في رواية لأبي عوانة وابن خزيمة في "صحيحه" رقم 462 وهي رواية أبي داود وغيره بلفظ: "وأنا أول المسلمين". وعليه أكثر روايات الحديث كما نبهت على ذلك في تعليقي على "صفة الصلاة" ص 84 ويزداد قوة بوروده في حديث آخر مخرج هناك. وإنما نبهت على هذا لأني رأيت كلام أحمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث في "الروضة" بأن هذا اللفظ لم يرد فاقتضى التنبيه. وبناء عليه فلا حرج على المصلي أن يقول في توجهه: "وأنا أول المسلمين" لا إخبارا عن نفسه وإنما اقتداء به عليه الصلاة والسلام الذي اقتدى بأبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع إمكان أن يكون المعنى بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به كما بينته هناك فراجعه أو "زاد المعاد".

قوله في الاستعاذة: وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". قلت: لم أقف على هذا في شيء من كتب السنة المعروفة إلا ما في "مراسيل أبي داود" عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ فذكره. وهذا مع ضعفه لأنه من مراسيل الحسن البصري فليس فيه أن هذه الصيغة كانت في الصلاة فالأفضل أن يستعيذ بما في حديث جبير بن مطعم وأن يزيد أحيانا: "السميع العليم" كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي وغيرهما بسند حسن وهما مخرجان في "الإرواء" 342 ولم يذكر البيهقي في الباب غيرهما. قوله في مشروعية الاستعاذة في الركعة الأولى دون سائر الركعات: "الأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط". قلت: السنة المشار إليها ليست صريحة فيما ذكره المؤلف لان قول أبي هريرة في حديثه المذكور في الكتاب: "ولم يسكت" ليس صريحا في أنه أراد مطلق السكوت بل الظاهر أنه أراد سكوته السكتة المعهودة عنده وهي التي فيها دعاء الاستفتاح المتقدم في الكتاب ص 266 وهي سكتة طويلة فهي المنفية في حديثه هذا وأما سكتة التعوذ والبسملة فلطيفة لا يحس بها المؤتم لاشتغاله بحركة النهوض للركعة وكان الإمام مسلما رحمه الله أشار إلى ما ذكرنا من أن السكتة المنفية في هذا الحديث هي المثبتة في حديث أبي هريرة المتقدم فإنه ساق الحديث المشار إليه ثم عقبه بهذا وكلاهما عن أبي هريرة والسند إليه واحد فأحدهما متمم للآخر حتى لكأنهما حديث واحد وحينئذ يظهر أن الحديث

ليس على إطلاقه وعليه نرجح مشروعية الاستعاذة في كل ركعة لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وهو الأصح في مذهب الشافعية ورجحه ابن حزم في "المحلى". والله أعلم. قوله في التأمين: "يسن لكل مصل ... أن يقول: آمين بعد قراءة الفاتحة يجهر بها في الصلاة الجهرية ويسر بها في السرية فعن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ: {وَلا الضَّالِّينَ} فقال: آمين. وقال الناس: آمين ... ". قلت: تقدم الحديث في البسملة وكما قلنا هناك أنه ليس فيه التصريح بالجهر بالبسملة فكذلك نقول ههنا أنه ليس فيه الجهر بالتأمين فهو دليل على مطلق التأمين لا على الجهر بها. قوله: "أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة". قلت: ليس في تأمين المؤتمين جهرا سوى هذا الأثر ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت أحاديث كثيرة في جهر النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها جهر الصحابة بها وراءه صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن التأمين دعاء والأصل فيه الإسرار لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فلا يجوز الخروج عن هذا الأصل الا بدليل صحيح وقد خرجنا عنه في تأمين الإمام جهرا لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ووقفنا عنده بخصوص المقتدين ولعله لذلك رجع الشافعي عن قوله القديم فقال في "الأم" 1 / 65: "فإذا فرغ الإمام من قراءة القرآن قال: آمين ورفع بها صوته ليقتدي بها من خلفه فإذا قالها قالوها وأسمعوا أنفسهم ولا أحب أن يجهروا بها فإن فعلوا

فلا شيء عليهم". ثم خرجت أثر ابن الزبير المذكور وبينت صحته عنه تحت الحديث 952 في "الضعيفة" وأتبعته بأثر آخر صحيح أيضا عن أبي هريرة أنه كان يجهر ب آمين وراء الإمام ويمد بها صوته فملت ثمة إلى اتباعهما في ذلك ثم رأيت الإمام أحمد قال به فيما رواه ابنه عبد الله عنه في "مسائله" 72 / 259. ثم إن قوله: "يسن لكل مصل ... " ينافي ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا ... " وما في معناه مما يأتي عند المؤلف فإنه يدل على وجوب التأمين على المأموم واستظهره الشوكاني في "النيل" 2 / 187 لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الإمام وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط. قال: "وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم بوجوبه على المأموم عملا بظاهر الأمر وأوجبته الظاهرية على كل مصل". قلت: ابن حزم من أئمتهم كما هو مشهور ولم يوجبه مطلقا بالقيد المذكور قال في "المحلى" 2 / 262: "وأما قول آمين فإنه كما ذكره يقوله الإمام والمنفرد ندبا وسنة ويقولها المأموم فرضا ولا بد". قلت: فيجب الاهتمام به وعدم التساهل بتركه ومن تمام ذلك موافقة الإمام فيه وعدم مسابقته وهذا أمر قد أخل به جماهير المصلين في كل البلاد التي أتيح لي زيارتها ويجهرون فيها بالتأمين. فإنهم يسبقون الإمام يبتدئون به قبل ابتداء الإمام ويعود السبب في هذه المخالفة المكشوفة إلى غلبة الجهل عليهم وعدم قيام أئمة المساجد وغيرهم من المدرسين والوعاظ بتعليمهم وتنبيههم حتى أصبح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا ... " نسيا منسيا عندهم إلا من عصم الله وقليل

ما هم. والله المستعان. وقوله في "التأمين" أيضا: "وقال عطاء: أدركت مائتين من الصحابة في هذا المسجد إذا قال الإمام: ولا الضالين. سمعت لهم رجة آمين". قلت: هو بهذا اللفظ ضعيف أخرجه البيهقي 2 / 59 من طريق خالد ابن أبي أنوف عنه وخالد في عداد المجهولين لأنه لم يوثقه غير ابن حبان وقد علمت قيمة توثيقه ويأتي قريبا تجهيل ابن القطان لرجل وثقه ابن حبان. ولكنه قد صح عن ابن الزبير مختصرا كما ذكرت آنفا. ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة بعد الفاتحة قوله في كيفية القراءة بعد الفاتحة: "وعن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة رواه الدارقطني بإسناد قوي". قلت: أنى له القوة وفيه عند الدارقطني في "سننه" 1 / 338 سهل بن عامر البجلي وهو ضعيف جدا قال البخاري في "التاريخ الصغير" ص 226: "منكر الحديث لا يكتب حديثه". وقال ابن أبي حاتم 2 / 1 / 202 عن أبيه: "ضعيف الحديث روى أحاديث بواطيل أدركته بالكوفة وكان يفتعل الحديث". وأورده الذهبي في "الضعفاء" وقال: "رماه أبو حاتم بالكذب". وخفي حاله على ابن حبان فذكره في "الثقات" 8 / 290!

وقوله فيها: "حبك إياها أدخلك الجنة". قلت: هذا آخر قول البخاري الذي علقه في "صحيحه" وكان ينبغي على المؤلف أن يبينه وقد خرجت هذه المعلقات في "مختصر صحيح البخاري" 1 / 192 قوله: "وصلاها يعني الفجر بـ الروم ". قلت: نقله عن "زاد المعاد" كما صرح في مقدمة الفصل وقد قلت في التعليق عليه ما نصه: "قلت: لم يثبت هذا أخرجه النسائي 1 / 151 وأحمد 5 / 363 و364 من طريق عبد الملك بن عمير عن شبيب أبى روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم فالتبس عليه فلما صلى قال: "ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟ فإنما يلبس علينا القرآن أولئك". وشبيب هذا هو ابن نعيم ويقال: ابن أبي روح وكنيته أبو روح الحمصي ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن القطان: لا تعرف عدالته. وفيه علة أخرى فأنظر "المشكاة" 295 ومن ذلك نعلم أن من حسن سنده قديما وحديثا فما أحسن مع مخالفة متنه لظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} .والله أعلم. قوله في القراءة بعد المغرب: "ذكر أبو داود في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة". قلت: هو من رواية محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق

مدلس وقد عنعنه فالسند ضعيف. وهو في "ضعيف أبي داود" 144 وقد غفل عن عنعنته المعلق على "زاد المعاد" فحسن إسناده. قوله في قراءة سورة بعينها: "وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه". قلت: هذا بالنسبة لأوساط السور مسلم أما الأواخر فلا ولذلك قلت في "التعليقات الجياد": "يستدرك عليه بما ذكره المؤلف نفسه أعني ابن القيم في "رسالة الصلاة" ص 207 حيث قال: "ولم ينقل أحد عنه أنه قرأ آية من سورة أو بآخرها إلا في سنة الفجر فإنه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية". قلت: أخرجه مسلم 2 / 161 وغيره من حديث ابن عباس". قلت: وقد ذكر هذا الحديث المؤلف في الجزء الثاني من القطع الصغير تحت عنوان سنة الفجر ما يقرأ فيها فكان عليه أن يستدرك به على ما ذكره عن ابن القيم ولو أن يشير إليه على الأقل.

ومن لإطالة الركعة الاولى في "الصبح"

ومن لإطالة الركعة الاولى في "الصبح" ... ومن إطالة الركعة الأولى في "الصبح" قوله: "كان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية ومن كل صلاة وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم". قلت: هذا لم يرو بخصوص ركعة الفجر ولا في كل صلاة وإنما في صلاة الظهر فقط رواه أبو داود وأحمد عن رجل عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. ثم هو ضعيف لجهالة الرجل الذي لم يسم وراجع "نيل الأوطار" 3 / 117 ثم خرجته في "الإرواء" 513 وفي "ضعيف أبي داود" 143. قوله: "وهذا لأن قرآن الفجر مشهود يشهده الله تعالى وملائكته". قلت: أما شهود الملائكة فصحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وأما شهود الله تعالى فلم يرد إلا في حديث أبي الدرداء مرفوعا أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" ص 36 وابن جرير في "التفسير" وفي سنده زيادة عن محمد بن كعب القرظي وزيادة منكر الحديث كما قال البخاري وغيره. وقد ذكر الحافظ ابن كثير 3 / 54 أنه تفرد بهذا الحديث وساقه الذهبي في ترجمة زيادة ثم عقبه بقوله: "فهذه ألفاظ منكرة لم يأت بها غير زيادة". قوله: " ... النزول الإلهي هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح أو إلى طلوع الفجر؟ وقد ورد فيه هذا وهذا". يعني بـ "النزول الإلهي" قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟ ". وهو حديث صحيح متواتر جاء عن جمع من

الصحابة خرجت قسما طيبا منها في "الإرواء" 450 و "صحيح أبي داود" 1118 زاد بعضهم: "حتى ينفجر وفي رواية: يطلع الفجر".وقد كنت قلت في "التعليقات الجياد على زاد المعاد ": "لكن معظم الرواة اتفقوا على أنه يدوم إلى طلوع الفجر كما قال الحافظ في "الفتح" 3 / 24 وأما دوامه إلى صلاة الفجر فلم أجد رواية صريحة تؤيد ذلك نعم في رواية للنسائي من حديث أبي هريرة بلفظ: "حتى ترجل الشمس" فهي تتضمن ما ذكره المصنف أي ابن القيم لكنها رواية شاذة كما قال الحافظ". وأقول الآن: لعل الخطأ فيها من محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فإنه عند النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 486 وابن خزيمة في "التوحيد" ص 86 - 87 من طريقه: حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن نافع ابن جبير عن أبي هريرة فإن ابن أبي فديك وإن كان ثقة محتجا به في "الصحيحين" فقد قال فيه ابن سعد: "كان كثير الحديث وليس بحجة" ومن المحتمل أن يكون الخطأ من شيخه القاسم بن عباس فإنه مع كونه ثقة من رجال مسلم أيضا فقد لينه محمد ابن البرقي الحافظ وقال ابن المديني: "مجهول" كما في "الميزان". ولعل هذا هو الأقرب فقد خالفه عمرو بن دينار - وهو الثقة الثبت - إسنادا ومتنا فقال عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا بلفظ: "حتى يطلع الفجر" أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص 88 وأحمد 4 / 81 وغيرهما وهو مخرج في كتابي "ظلال الجنة في تخريج السنة" 507.

ثم وجدت روايتين أخريين: الأولى: بلفظ: "حتى تطلع الشمس". أخرجه ابن خزيمة أيضا من طريق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص رفعه. قلت: وهذا مع كونه مرسلا فهو ضعيف من أجل إبراهيم هذا وهو ابن مسلم. قال الحافظ في "التقريب ": "لين الحديث رفع موقوفات". والأخرى بلفظ: "حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الفجر". أخرجه الدارمي 346 - 347 وابن خزيمة وأحمد 2 / 504 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به. قلت: وهذا مع كونه قد شك فيه الراوي فهو مما لا قيمة له فكيف ومحمد ابن عمرو فيه كلام من قبل حفظه فكيف وقد خالفه الزهري ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بلفظ: "حتى الفجر". بغير شك. رواه مسلم وغيره. وبالجملة فلا يصح في الحديث إلا هذا اللفظ الأخير وعليه كل الروايات الصحيحة فيه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومن مايستحب أثناء القراءة

ومن ما يستحب أثناء القراءة قوله: "قال النووي: يسن لكل من قرأ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله وإذا مر ... ". قلت: هذا إنما ورد في صلاة الليل كما في حديث حذيفة المذكور في الكتاب بعد قليل فمقتضى الاتباع الصحيح الوقوف عند الوارد وعدم التوسع فيه بالقياس والرأي فإنه لو كان ذلك مشروعا في الفرائض أيضا لفعله صلى الله عليه وسلم ولو فعله لنقل بل لكان نقله أولى من نفل ذلك في النوافل كما لا يخفى. واعلم أنه لا يناقض هذا الذي ذكرته هنا الأصل الذي بنيت عليه فيما يأتي شرعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول كما ظن بعض إخواننا المجتهدين في خدمة الحديث الشريف - جزاه الله خيرا - في جملة ما كتب إلي بتاريخ 2 / 8 / 1397 وذلك لقيام دليل الفرق هنا وهو ما أشرت إليه بقولي: "فإنه لو كان ذلك مشروعا في الفرائض أيضا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ... " الخ وذلك لأن الهمم والدواعي تتوفر على نقل مثله فلما لم ينقل دل على أنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم. فوقفنا مع الدليل المانع هنا من الأخذ بالأصل المشار إليه فظهر أنه لا تناقض والحمد لله وإنما هو التمسك بالدليل الملزم بالتفريق بين المسألتين. والله أعلم. قوله: "ويستحب لكل من قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: بلى أشهد. وإذا قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} قال: آمنت بالله. وإذا قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى".

قلت: لم يبين ما إذا كان ذلك واردا أم لا وما إذا كان ثابتا أم لا؟ ولذلك أقول: أما جملة التسبيح منه فصحيح ثابت من حديث ابن عباس وغيره وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 826. وأما ما قبله فهو من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى ... " الخ. أخرجه أبو داود وغيره وفيه رجل لم يسم وبيانه في "ضعيف أبي داود" 156 و "المشكاة" 860. لكن صح منه قوله: "بلى" في آية القيامة رواه موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: سبحانك فبلى فسألوه عن ذلك؟ فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود بسند صحيح عن الرجل وهو صحابي وجهالته لا تضركما هو معروف عند العلماء ولذلك خرجته في "صحيح أبي داود" رقم 827. قوله في تعداد سنن الصلاة:" 7 تكبيرات الصلاة". قلت: عد هذه التكبيرات من السنن ينافي أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بها كما جاء في رواية لأبي داود وغيره من حديث رفاعة بن رافع وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 803 - 805 فهي إذن واجبة ومؤيدة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

وقد قرر الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" 2 / 222 - 224 ثم في "السيل الجرار" أن الأصل في جميع الأمور الواردة في حديث المسئ صلاته الوجوب وقد نص الشوكاني نفسه في "النيل" أن هذه التكبيرات مما جاء فيه في بعض الروايات ثم نسي ذلك في "السيل" فذكرها 1 / 227 - 228 في جملة السنن فسبحان ربي لا يضل ولا ينسى وقد ذهب إلى الوجوب الإمام أحمد رحمه الله كما حكاه النووي في "المجموع" 3 / 397 عنه واحتج له بالعموم السابق وخفي عليه حديث المسيء فإنه قال محتجا عليه لمذهبه: "ودليلنا على أحمد حديث المسئ صلاته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بتكبيرات الانتقال وأمره بتكبيرة الإحرام"! فلم يتنبه لرواية أبي داود وغيره.

ومن القراءة خلف الإمام

ومن القراءة خلف الإمام قوله: " ... السكوت لا يلزمها الإمام ... ". قلت: هذا التعبير قد يوهم مشروعية سكوت الإمام عقب الفاتحة بقدر ما يقرأها من وراءه لان عدم اللزوم لا يستلزم عدم المشروعية مطلقا كما لا يخفى ودفعا لذلك الإيهام أقول: إن السكتة المذكورة بدعة في الدين إذ لم ترد مطلقا عن سيد المرسلين إنما ورد عنه سكتتان إحداهما بعد تكبيرة الإحرام من أجل دعاء الاستفتاح وقد مضى حديثها في الكتاب عن أبي هريرة. والسكته الثانية رويت عن سمرة بن جندب واختلف الرواة في تعيينها فقال بعضهم: هي عقب الفاتحة. وقال الأكثرون: هي عقب الفراغ من القراءة كلها وهو الصواب كما بينته في "التعليقات الجياد" وغيره وراجع "رسالة الصلاة" لابن القيم.

على أن هذا الحديث معلل عندي بالانقطاع لأنه من رواية الحسن عن سمرة وهو وإن كان سمع منه في الجملة فهو مدلس وقد عنعنه ولم يصرح بسماعه لهذا الحديث منه فثبت ضعفه. ثم إنه ليس فيه التصريح بأن السكتة كانت طويلة بذلك القدر فلا متمسك فيه البتة للشافعية فتأمل. وأما ما ذكره الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 225 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد فراغه من قراءة الفاتحة يسكت سكتة طويلة ثم يقرأ السورة. فليس في شيء من روايات الحديث زيادة طويلة. وكأنه اختلط عليه نص الحديث بتفسير الخطابي إياه بقوله: "إنما كان يسكت ... ليقرأ من خلفه" نقله عنه الشوكاني في النيل" 2 / 200 ومن المحتمل أنه تفسير منه لرواية لأحمد: "وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} سكت أيضا هنية". وقد عرفت أن محل السكتة الثانية بعد الفراغ من القراءة كلها على ضعف الإسناد ثم فصلت القول في ذلك في "إرواء الغليل" 2 / 284 – 288.

ومن هيئات الركوع

ومن هيئات الركوع قوله فيها: "الواجب في الركوع مجرد الانحناء بحيث تصل اليدان إلى الركبتين ولكن السنة فيه ... ". قلت: هذا لا يكفي بل لا بد من الاطمئنان الذي جاء الأمر به في حديث المسئ صلاته وغيره ومن العجيب أن المؤلف ذكر هذا فيما تقدم ص 25 من كتابه وذكر بعض الأحاديث المشار إليها فكأنه نسي ذلك كله عندما نقل هذا وهو في "المهذب وشرحه" 31 / 406.والله المستعان.

وبهذه المناسبة أقول: يجب أن يعلم أن الاطمئنان الواجب لا يحصل إلا بتحقيق ما يأتي: 1 - وضع اليدين على الركبتين. 2 - تفريج أصابع الكفين. 3 - مد الظهر. 4 - التمكين للركوع والمكث فيه حتى يأخذ كل عضو مأخذه. وهذا كله ثابت في روايات عديدة لحديث المسئ صلاته وهو مخرج في "صفة الصلاة" ص 133 - 134 - طبع المكتب الإسلامي. وقوله: "فعن عقبة بن عمرو أنه ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج أصابعه من وراء ركبتيه وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي رواه أحمد وأبو داود والنسائي". قلت: مدار هذا الحديث على عطاء بن السائب وكان قد اختلط ولم أجد أحدا من الرواة رواه عنه قبل الاختلاط وفي الباب ما يغني عنه مثل حديث أبي حميد الذي أورده المؤلف بعد هذا فإن فيه عند أبي داود والترمذي وصححه بلفظ: "فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ... " وثبت التفريج بين الأصابع من فعله وأمره صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم".

ومن الذكر فيه

ومن الذكر فيه قوله: "فعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم". رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد جيد". كذا قال ونحوه قول النووي في "المجموع" 3 / 413: "رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن"! وسكت عنه الحافظ في "التلخيص" 1 / 242 وفي إسنادهم جميعا عم موسى بن أيوب واسمه إياس بن عامر الغافقي وليس بالمعروف كما حققته في "ضعيف أبي داود" 152 - 153 ثم في "إرواء الغليل" 334 ولو صح الحديث لدل على وجوب التسبيح وهذا خلاف ما قاله المؤلف من الاستحباب وللحديث تتمة سيذكرها المؤلف في السجود! ثم قال: "يستحب للمصلي إماما أو مأموما أو منفردا أن يقول عند الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائما ... فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد". رواه أحمد والشيخان". قلت: وهر مخرج في "الإرواء" 331 بزيادة كثيرة في المصادر. وتأكيدا لما ذكره من شمول الاستحباب للمأموم أقول: من الواضح أن في هذا الحديث ذكرين اثنين: أحدهما: قوله: "سمع الله لمن حمده" في اعتداله من الركوع. والآخر: قوله: "ربنا ولك الحمد" إذا استوى قائما.

فإذا لم يقل المقتدي ذكر الاعتدال فسيقول مكانه ذكر الاستواء وهذا أمر مشاهد من جماهير المصلين فإنهم ما يكادون يسمعون منه: "سمع الله لمن حمده" إلا وسبقوه بقولهم: ربنا ولك الحمد وفي هذا مخالفة صريحة للحديث فإن حاول أحدهم تجنبها وقع في مخالفة أخرى وهي إخلاء الاعتدال من الذكر المشروع فيه بغير حجة. قال النووي رحمه الله 3 / 420: "ولأن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها فإن لم يقل بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر". بل إنني أقول: إن التسميع في الاعتدال واجب على كل مصل لثبوت ذلك في حديث المسئ صلاته فقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... ثم يكبر ... ويركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يقول: سمع الله لمن حمده ثم يستوي قائما حتى يقيم صلبه ... " الحديث. أخرجه أبو داود والنسائي والسياق له وغيرهما بسند صحيح. وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 804. فهل يجوز لأحد بعد هذا أن يقول بأن التسميع لا يجب على كل مصل؟!

ومن أذكار الرفع من الركوع والاعتدال

ومن أذكار الرفع من الركوع والاعتدال قوله:"وعن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: وفي لفظ: يدعو إذا رفع رأسه من الركوع: "اللهم لك الحمد ملء السماء ... اللهم طهرني بالثلج والبرد ... " رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه". قلت: فيه ملاحظتان: الأولى: أنه ليس عند أبي داود وابن ماجه قوله: "اللهم طهرني ... " وإنما هي زيادة في بعض طرقه عند الآخرين. الثانية: أن هذه الزيادة ليس في شيء من طرقها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها بعد الرفع من الركوع بل هي مطلقة ولفظها عند مسلم وأحمد: "كان يقول: اللهم لك الحمد ... اللهم طهرني ... ". وهكذا أخرج هذه الزيادة الترمذي 4 / 272 وصححه. فتقييدها بما بعد الركوع يحتاج إلى دليل وقد جاءت الجملة الأولى من هذا الحديث عن جماعة من الصحابة بطرق صحيحة وليس في شيء منها هذه الزيادة ولذلك نرجح أنها ليست من أذكار ما بعد الركوع بخلاف ما قبلها بل هي دعاء مطلق ولذلك لم أوردها في أذكار الركوع من كتابي "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" خشية أن أزيد فيها ما ليس منها وإن كان ابن القيم قد فعل ذلك ولم يتنبه لذلك المعلقان على "زاده" 1 / 221 كالمؤلف فتأمل.

ومن كيفية الهوي إلى السجود والرفع منه

ومن كيفية الهوي إلى السجود والرفع منه قوله وقد ذكر حديث وائل الآتي قريبا: "قال ابن القيم: هذا هو الصحيح ... ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك". كذا قال وهذا النفي من أوهامه رحمه الله فقد ذكر هو نفسه بعد نحو صفحتين حديث ابن عمر الآتي وقال: "رواه الحاكم في "المستدرك" وقال: على شرط مسلم". وسكت عنه وهذا معناه أنه سلم بصحته فالعجب منه كيف ينفي وروده؟ وقد غفل عن هذا أو تغافل عنه المعلق على كتابه فقال متعقبا عليه نفيه بقوله: "بل ثبت ذلك فيما رواه الحاكم ... ". ولقد كان الأولى به أن يرد نفيه المذكور بما أثبته هو نفسه بعد فإنه أقوى للحجة وأبعد عن التشوف وهوى النفس وبخاصة أنه أعاد تخريج الحديث هناك أيضا! وأما تصحيح ابن القيم لحديث شريك فلا وجه له من الناحية الحديثية كما يأتي بيانه ولا من الناحية الفقهية لمعارضته لحديث ابن عمر الصحيح من فعله ولحديث أبي هريرة المرفوع من أمره كما يأتي بيانه. قوله: "وهو يعني وضع اليدين قبل الركبتين عند الهوى قول أصحاب الحديث". قلت: وهو الصواب لأنه الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا: أما الفعل فمن حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه. أخرجه جماعة منهم الحاكم.

وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وصححه أيضا ابن خزيمة 1 / 318 / 627 وهو مخرج في "الإرواء" 2 / 77 – 78. وأما الأمر فمن حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه". أخرجه أبو داود والنسائي وجماعة وإسناده جيد كما قال النووي والزرقاني وقواه الحافظ ابن حجر كما يأتي وهو مخرج أيضا في المصدر المذكور آنفا 2 / 78 وفي "صحيح أبي داود" 789. وليس لهذين الحديثين ما يعارضهما إلا حديث وائل بن حجر الذي نقله المؤلف عن ابن القيم وهو حديث ضعيف لأنه من حديث شريك وهو ابن عبد الله القاضي وهو ضعيف سيئ الحفظ فلا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف؟ ولذلك قال الحافظ في بلوغ المرام: "إن حديث أبي هريرة هذا أقوى من حديث وائل". وذكر نحوه عبد الحق الاشبيلي فانظر "صفة الصلاة" ص 147. ولقد أخطأ ابن القيم في "زاد المعاد" خطأ بينا حين رجح حديث وائل على حديث ابن عمر وأبي هريرة كما أخطأ أخطاء أخرى في هذه المسألة قد قمت بالرد عليه مفصلا في "التعليقات الجياد على زاد المعاد" وغيرها ويحسن بي هنا أن أضرب على ذلك مثلا واحدا لأنه شديد الاتصال بما نحن فيه وبه يتضح معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه". زعم ابن القيم رحمه الله أن الحديث انقلب على الراوي وأن أصله: "وليضع ركبتيه قبل يديه" وإنما حمله على هذا زعم آخر له وهو قوله: "إن

البعير يضع يديه قبل ركبتيه". قال: "فمقتضى النهي عن البروك كبروك البعير أن يضع المصلي ركبتيه قبل يديه"! وسبب هذا كله أنه خفي عليه ما ذكره علماء اللغة كالفيروز آبادي وغيره: "أن ركبتي البعير في يديه الأماميتين". ولذلك قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1 / 150: "إن البعير ركبتاه في يديه وكذلك في سائر البهائم وبنو آدم ليسوا كذلك فقال: لا يبرك على ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه ولكن يبدأ فيضع أولا يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه ثم يضع ركبتيه فيكون ما يفعل في ذلك بخلاف ما يفعل البعير". وبهذا ظهر معنى الحديث ظهورا لا غموض فيه. والحمد لله على توفيقه. ثم إن ظاهر الأمر بهذه السنة يفيد وجوبها وقد قال به ابن حزم في "المحلى" 4 / 128 وما نقله المؤلف عنه من الاستحباب خطأ واضح. ولازم القول بالوجوب أن العكس لا يجوز ففيه رد للاتفاق الذي نقله شيخ الإسلام في "الفتاوى" 1 / 88 على جواز الأمرين! قلت: وهنا سنة مهجورة ينبغي التنبيه عليها للاهتمام بفعلها وهي ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ... يهوي إلى الأرض مجافيا يديه عن جنبيه ثم يسجد. وقالوا جميعا: صدقت هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. رواه ابن خزيمة في "صحيحه" 1 / 317 - 318 بسند صحيح وغيره. إذا عرفت هذا وتأملت معي معنى الهوي الذي هو السقوط مع مجافاة

اليدين عن الجنبين تبين لك بوضوح لا غموض فيه أن ذلك لا يمكن عادة إلا بتلقي الأرض باليدين وليس بالركبتين ففيه دليل آخر على ضعف حديث وائل ... والله تعالى هو الهادي. قوله: "وأما كيفية الرفع من السجود حين القيام إلى الركعة الثانية فهو على الخلاف أيضا. فالمستحب عند الجمهور أن يرفع يديه ثم ركبتيه وعند غيرهم يبدأ برفع ركبتيه قبل يديه". قلت: الحق هذا الثاني لحديث مالك بن الحويرث أنه كان يقول: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي في غير وقت الصلاة فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول ركعة استوى قاعدا ثم قام فاعتمد على الأرض. أخرجه البخاري والشافعي في "الأم" والسياق له. فهذا نص قي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتمد بيديه على الأرض وبه قال الشافعي. قال البيهقي: "وروينا عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا نهض وكذلك كان يفعل الحسن وغير واحد من التابعين". قلت: وحديث ابن عمر رواه البيهقي بسند جيد عنه موقوفا ومرفوعا كما بينته في "الضعيفة" تحت الحديث 967 وفي "صفة الصلاة" ويأتي لفظه قريبا بإذن الله تعالى. ورواه أبو إسحاق الحربي بسند صالح مرفوعا عنه يرويه الأزرق بن قيس: رأيت ابن عمر يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام. فقلت له؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وهو حديث عزيز - كما ذكرت هناك - لم يذكره أحد من المخرجين المتقدمين منهم والمتأخرين ثم سرقه المعلق على "الزاد" فنقله بالحرف الواحد من "الصفة" متشبعا بما لم يعط وكم له من مثل ذلك في

تعليقه هذا وغيره! هدانا الله وإياه. قلت: ولازم هذه السنة الصحيحة أن يرفع ركبتيه قبل يديه. إذ لا يمكن الاعتماد على الأرض عند القيام إلا على هذه الصفة. وهذا هو المناسب للأحاديث الناهية عن التشبه بالحيوانات في الصلاة وبخاصة حديث أبي هريرة المتقدم في النهي عن البروك كبروك الجمل فإنه ينهض معتمدا على ركبتيه كما هو مشاهد فينبغي للمصلي أن ينهض معتمدا على يديه مخالفة له. فتأمل منصفا. وفي هذا الحديث مشروعية جلسة الاستراحة ويأتي الكلام عليها قريبا إن شاء الله تعالى. تنبيه: ثم رأيت لبعض الفضلاء المعاصرين جزءا في كيفية النهوض في الصلاة ضعف فيه حديث العجن ويؤسفني أن أقول: لقد كان في بحثه بعيدا عن التحقيق العلمي والتجرد عن التعصب المذهبي على خلاف ما كنا نظن به فإنه غلب عليه نقل ما يوافقه وطي ما يخالفه أو إبعاده عن موضعه المناسب له إن نقله بحيث لا ينتبه القارئ لكونه حجة عليه لا له وتوسعه في نقد ما يخالفه وتشدده والتشكيك في دلالته وتساهله في نقد ما يؤيده وإظهاره الحديث الضعيف مظهر القوي بطرقه وليس له سوى طريقين واهيين أوهم القراء أنها خمسة ثم يطيل الكلام جدا في ذكر مفردات ألفاظها حتى يوصلها إلى عشرة دون فائدة تذكر سوى زيادة في الإيهام المذكور إلى غير ذلك مما يطول البحث بالإشارة إليه ولا يتحمل هذا التعليق بسط الكلام فيه وضرب الأمثلة عليه! ولكن لا بد من ذكر بعضها حتى يتيقن القراء مما ذكرته فأقول: 1 - حديث مالك بن الحويرث اتفق العلماء جميعا على صحته وعلى

دلالته على الاعتماد على اليدين عند النهوض حتى الذين لم يأخذوا به فإنهم سلموا بدلالته لكنهم لم يعملوا به ظنا منهم أنه كان لسنه صلى الله عليه وسلم وشيخوخته انظر "المغني" لابن قدامة المقدسي 1 / 569 وأما الفاضل المشار إليه فجاء بشيء لم يأت به الأوائل فقال ص 16: "فهذا الحديث الصحيح غير صريح بالاعتماد على الأرض باليدين فهو يحمل لذلك وللاعتماد على الركبتين عند النهوض"! يقول هذا من عنده توهينا منه لدلالته وهو يعلم أن الأئمة جميعا فهموه على خلاف زعمه من عمل به منهم ومن لم يعمل كما تقدم فهذا هو الإمام الشافعي العربي القرشي يقول في كتابه "الأم" 1 / 101 بعد أن ساق الحديث: "وبهذا تأخذ فنأمر من قام من سجود أو جلوس في الصلاة أن يعتمد على الأرض بيديه معا اتباعا للسنة". بل هذا هو الإمام أحمد الذي يقول بالنهوض على صدور القدمين لما ذكر حديث ابن الحويرث في "مسائل ابنه" ص 81 / 286 ذكره بلفظ يبطل به الاحتمال الثاني وهو: " ... جلس قبل أن يقوم ثم قام ولم ينهض على صدور قدميه". وهذا هو الذي لا يفهم سواه كل عربي أصيل لم تداخله لوثة العجمة!! 2 - قال بعد أن خرج ألفاظ حديث ابن الحويرث: "ليس في شيء من ألفاظه لفظ: "بيديه" أي: فاعتمد بيديه على الأرض. وقد جزم بعض المحققين بأن هذه اللفظة ليست في شيء من روايات الحديث كما استقرأه عبد الله الأمير على ما ذكره الألباني في "الضعيفة" 2 / 392". قلت: الذي ذكرته هناك حجة عليه لو أنه ساقه بتمامه ولكنه يأخذ منه ما

يشتهي ويعرض عن الباقي! وهذا هو نص كلام الأمير هناك: "وعند الشافعي: واعتمد بيديه على الأرض ولكني لم أجد هذه الزيادة: "بيديه" عند الشافعي ولا عند غيره وإن كان معناها هو المتبادر من الاعتماد ". فتأمل كيف أخذ من كلام الأمير بعضه وترك البعض الآخر الذي قال به جميع العلماء الموافقون منهم والمخالفون كما تقدم تركه لأنه ينقض احتماله الثاني الذي أيده بحديث وائل الذي اعترف هو ص 24 بضعفه وانقطاعه مع أنه تفرد به الطريق الثاني دون طرقه الخمسة عنده! وبقية ألفاظه العشرة لديه وبحديث علي الذي اعترف أيضا ص 29 بضعفه لكنه جعله شاهدا لحديث وائل ولا يصلح للشهادة لشدة ضعفه فإن فيه زيادا السوائي وهو مجهول العين لم يرو عنه غير عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي وهو ضعيف اتفاقا كما قال النووي ولذا قال البيهقي فيه: "متروك". أي: شديد الضعف وهو الذي روى عنه هذا الشاهد المزعوم. وأيضا فهو خاص بالقيام من الركعتين الأوليين أي: التشهد وحديث وائل في النهوض من السجود!! مع ضعفه ولكنه عاد فقال ص 99 فيه: "حديث صحيح صريح وحديث مالك صحيح غير صحيح" وهذا مما لم يسبق إليه من أحد من أهل العلم مع تناقضه في شطريه كما تقدم ويأتي. 3 - في الوقت الذي يحشر الأحاديث الضعيفة كما رأيت لتأييد الاحتمال الثاني بزعمه لتفسير "الاعتماد على الأرض" في حديث مالك بن الحويرث يتجاهل ما يرجح الاحتمال الثاني للاعتماد فيقول ص 17: "ويتأيد الاحتمال الأول بحديث ابن عمر في العجن - لو صح -

وبفعله ... " الخ. حديث العجن تقدم لفظه قريبا ويأتي الكلام عليه إن شاء الله والمقصود هنا أنه يوهم القراء أنه لا يوجد فيما صح من المرفوع عن ابن عمر ما يؤيد الاحتمال الأول والواقع خلافه وهو على علم به ومع ذلك فهو يشير إليه ص 38 بعيدا عن موضعه المناسب له وأما هنا فهو لا يسوق لفظه بل يوهم أنه موقوف فإنه ذكر اعتماد ابن عمر على يديه برواية العمري الضعيف ثم قال: "وعند البيهقي 2 / 135 اعتماده على الأرض بيديه. قال الألباني: إسناده جيد رجاله ثقات كما في "الضعيفة" 2 / 392". ولم يسق لفظه هنا أيضا بل ساقه بعيدا عن البحث ص 85 تشتيتا لدلالته الصريحة المؤيدة لحديث مالك بن الحويرث! فإن لفظه من رواية الأزرق بن قيس قال: "رأيت ابن عمر إذا قام من الركعتين اعتمد على الأرض بيديه فقلت لولده ولجلسائه: لعله يفعل هذا من الكبر؟ قالوا: لا ولكن هكذا يكون". ثم نقل الفاضل المشار إليه عني قولي عقبه: "قلت: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات كلهم فقوله: "هكذا يكون" صريح في أن ابن عمر كان يفعل ذلك اتباعا لسنة الصلاة وليس لسن أو ضعف". نقل هذا عني تحت بحثه في حديث العجن فأجاب عنه بقوله: "هذا يفيد الاعتماد فحسب وهذا قد أفاده ... حديث مالك بن الحويرث في وصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسألة ليست في مشروعية الاعتماد على الأرض ولكن في هيئته وصفته العجن". فأقول: بلى هما مسألتان: مشروعية الاعتماد باليدين على الأرض

ومسألة العجن بهما وكلتاهما داخلتان تحت عنوان جزئك: "في كيفية النهوض في الصلاة" ولولا ذاك لم تسود من "جزئك لما صفحات في سرد حديث مالك وألفاظه وحديث وائل وطرقه الخمسة عندك وألفاظه العشرة وفي أحدها الاعتماد على الركبتين والفخذين خلافا لحديث مالك مما حملك على التصريح بالشك في دلالة حديث مالك على الاعتماد على اليدين كما تقدم نقله عنك فها أنت قد رجعت من حيث تدري أو لا تدري إلى الاعتراف بدلالة حديث مالك على الاعتماد على اليدين وأنه في ذلك مثل حديث ابن عمر هذا وأقررت قولنا بأنه صريح في أن ابن عمر كان يفعل ذلك اتباعا للسنة وليس لسن أو ضعف فالحمد لله الذي ألهمك الرجوع إلى الصواب بعد التشكيك والجهد الجهيد! ولكن هل ثبت الأستاذ الفاضل على صوابه بعد أن وفقه الله إليه؟ يؤسفني أن أقول: لقد رجع فيما بعد إلى القول بأن ابن عمر فعل ذلك اضطرارا لشيخوخته ص 72 و92 فأنكر ما كان أقره من قبل كما تقدم من شهادة ولد ابن عمر وجلسائه: "أنه لم يفعل ذلك من الكبر ولكن هكذا يكون". والله المستعان. لذلك فنحن نطالب المؤلف - مخلصين - بالثبات على دلالة حديث مالك على الاعتماد على اليدين وأن ذلك لم يكن لعجز أو ضعف أو كبر وإنما لأنه السنة كما في حديث ابن عمر الذي أقر بصحته وصحة دلالته وبخاصة أنني وقفت له على طريق أخرى عن الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر في الصلاة يعتمد إذا قام فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه الطبراني في "الأوسط" 3489 – بترقيمي.

وأما حديثه الآخر في العجن فنحن نبين خطأه في تضعيفه إياه بيانا لا يدع لعارف بهذا الفن شكا في خطئه فإنه قد أعله بعلتين: الأولى: يونس بن بكير. والأخرى: الهيثم بن عمران العبسي. أما العلة الأولى فتمسك فيها باختلاف العلماء في يونس توثيقا وتجريحا ونقل أقوالهم في ذلك واعتمد منها قول الحافظ ابن حجر: "صدوق يخطئ". وفهم منه أنه ضعيف إن لم يتابع وأعرض عن أقوال الموثقين من الأئمة تقليدا منه لابن حجر. والعجيب من أمره أنه قال بعد أن حكى عن ابن عدي أنه قال: "وثقه الأئمة ... " قال: "وانظر "الميزان" ومقدمة "الفتح" و "العبر" ... ". فنظرنا وإذا في خاتمة ترجمته من "الميزان" يقول الذهبي: "وهو حسن الحديث"! فهذا حجة عليه لا له كما هو ظاهر فماذا قصد في إحالته عليه؟! ويقول الحافظ في "المقدمة ": "مختلف فيه وقال أبو حاتم: محله الصدق". وهذا كالذي قبله فإن كونه مختلفا فيه ومحله الصدق يعني أنه حسن الحديث في علم المصطلح ويؤيد ذلك أن الحافظ سكت عن أحاديث له كثيرة يحضرني منها حديث عائشة في أكل القئاء بالرطب فإنه سكت عنه في "الفتح"

9 / 573 والمؤلف يحتج بسكوت الحافظ كما ذكر ص 27 من "جزئه"!! ثم رجعت إلى العبر فإذا بالذهبي يتبنى فيه قول ابن معين: "صدوق". وهو أيضا بالمعنى المتقدم أي أنه حسن الحديث ومن أجل ذلك أورده الذهبي في كتابه "معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد" ص 192 / 383 وقال فيه: "صدوق قال ابن معين: مرجئ يتبع السلطان". يشير إلى أن ما قيل فيه فليس طعنا في صدقه وروايته وإنما لإرجائه وتردده على السلطان وذلك مما لا يطعن به على حديثه كما هو معروف في "المصطلح" وقد أشار إلى ذلك أبو زرعة حين سئل عنه: أي شيء ينكر عليه؟ فقال: "أما في الحديث فلا أعلمه". والخلاصة: أن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - لم يستفد شيئا من النقول المتضاربة التي نقلها عن الأئمة في يونس بن بكير هذا ولا هو بين وجه اختياره تضعيفه إياه تقليدا لابن حجر في "التقريب" على أن قوله فيه: "صدوق يخطئ" ليس نصا في تضعيفه للراوي به فإننا نعرف بالممارسة والتتبع أنه كثيرا ما يحسن حديث من قال فيه مثل هذه الكلمة وحديث عائشة مثال صالح لذلك فلو أنه كان على معرفة بعلم المصطلح لبين وجه اختياره كأن يقول مثلا: "الجرح مقدم على التعديل" فيقال: هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما إذا كان مفسرا وجارحا وقد أشار الذهبي في كلمته المنقولة عن "المعرفة" أن ما جرح به لا يضره فتأمل هذا أيها القارئ يتبين لك خطأ الرجل في تضعيفه ليونس وأنه لم يصدر

ذلك منه عن علم ومعرفة بهذا العلم الشريف. ويؤكد لك ذلك ما سأذكره فيما يأتي في الرد على علته الثانية وهي: العلة الأخرى عنده: الهيثم بن عمران العبسي. لقد سود صاحبنا حولها عشر صفحات دون فائدة تذكر واستطرد أحيانا - كعادته في "جزئه" - في ذكر أمور لا علاقة لها بالعلة المزعومة. وخلاصة كلامه فيها أن الهيثم هذا روى عنه خمسة فهو مجهول الحال عنده وجل ما أورده أخذه من بعض مؤلفاتي. ثم ذكر كلام الحافظ في "اللسان" في نقد مسلك ابن حبان في توثيق الراوي ولو لم يرو عنه إلا واحد ثم نقل عني مثل ذلك من مواضع من كتبي. وهذا حق ولكنه لم يستطع لحداثة عهده بهذا العلم أن يفرق بين هذا المسلك المنتقد وبين ما سلكته في تقوية حديث الهيثم هذا لرواية الثقات الخمسة عنه. وقدم للقراء مثلا ليبين لهم تناقضي - بزعمه - في هذا المجال حديث معاذ في القضاء وأني حكمت بنكارته بأمور منها جهالة الحارث بن عمرو مع توثيق ابن حبان إياه. فهو يتوهم أن كل من وثقه ابن حبان فهو مجهول إما عينا وإما حالا. وهنا يكمن خلطه وخطؤه الذي حمله على القول ص 56 بأنني جاريت ابن حبان في مسلكه المذكور. والآن أقدم الشواهد الدالة على صواب مسلكي وخطئه فيما رماني به من أقوال أهل العلم. 1 - قال الذهبي في ترجمة مالك بن الخير الزبادي: "محله الصدق ... روى عنه حيوة بن شريح وابن وهب وزيد بن الحباب ورشدين. قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته ... يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة ... والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح"

وأقره على هذه القاعدة في "اللسان" وفاتهما أن يذكرا أنه في "ثقات ابن حبان" 7 / 460 وفي "أتباع التابعين" كالهيثم بن عمران هذا! وبناء على هذه القاعدة - التي منها كان انطلاقنا في تصحيح الحديث - جرى الذهبي والعسقلاني وغيرهما من الحفاظ في توثيق بعض الرواة الذين لم يسبقوا إلى توثيقهم مطلقا فانظر مثلا ترجمة أحمد بن عبدة الآملي في "الكاشف" للذهبي و "التهذيب" للعسقلاني. وأما الذين وثقهم ابن حبان وأقروه بل قالوا فيهم تارة: "صدوق" وتارة: "محله الصدق" وهي من ألفاظ التعديل كما هو معروف فهم بالمئات فأذكر الآن عشرة منهم من حرف الألف على سبيل المثال من "تهذيب التهذيب" ليكون القراء على بينة من الأمر: 1 - أحمد بن ثابت الجحدري. 2 - أحمد بن محمد بن يحيى البصري. 3 - أحمد بن مصرف اليامي. 4 - إبراهيم بن عبد الله بن الحارث الجمحي. 5 - إبراهيم بن محمد بن عبد الله الأسدي. 6 - إبراهيم بن محمد بن معاوية بن عبد الله. 7 - إسحاق بن إبراهيم بن داود السواق. 8 - إسماعيل بن إبراهيم البالسي. 9 - إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي. 10 - الأسود بن سعيد الهمداني. كل هؤلاء وثقهم ابن حبان فقط. وقال فيهم الحافظ ما ذكرته آنفا من عبارتي التوثيق ووافقه في ذلك غيره من الحفاظ في بعضهم وفي غيرهم من أمثالهم

ومن عادته أن يقول في غيرهم ممن وثقهم ابن حبان ممن روى عنه الواحد والاثنان: "مستور" أو: "مقبول". كما حققته في موضع آخر. فأخشى ما أخشاه أن يبادر بعض من لا علم عنده إلى القول: إن الحافظ قد جارى ابن حبان في تساهله في توثيق المجهولين كما قال مثله مؤلف "الجزء في كاتب هذه السطور" لأنه لا يعرف - ولو تقليدا - الفرق بين راو وآخر ممن وثقهم ابن حبان وحده إن عرفه لم يدرك وجه التفريق المذكور وهو ما كنت أشرت إليه في تقوية الهيثم بن عمران راوي حديث العجن ونقله المؤلف المشار إليه في "جزئه" بقوله ص 58. "إنه جعل رواية أولئك الخمسة عنه سببا لاطمئنان النفس لحديثه". ثم رده بقوله: "والأحاديث لا تصحح بالوجدان كالشأن في الرؤيا"!! كذا قال - سامحه الله - فإني لم أصحح الحديث بمجرد الوجدان - كما قال - وإنما بالبحث الدقيق عن أصل الحديث وإسناده الذي فات على جميع من ألف في تخريج الأحاديث كما اعترف به المؤلف ص 40 و41 وفي حال رواته وبخاصة منهم الهيثم والرواة عنه حتى قام في النفس الاطمئنان لحديثه وحسن الظن به كما يدل عليه قول الحافظ السخاوي في بحث "من تقبل روايته ومن ترد" مبينا وجه قول من قبل رواية مجهول العدالة 1 / 298 - 299: "لأن الأخبار تبنى على حسن الظن بالراوي" قلت: ولا سيما إذا كثر الرواة الثقات عنه ولم يظهر في روايتهم عنه ما ينكر

عليه كما هو الشأن في الهيثم قال السخاوي: "وكثرة رواية الثقات عن الشخص تقوي حسن الظن به". فهذا هو وجه توثيق الذهبي والحافظ لمن سبق ذكر هم ممن تفرد بتوثيقهم ابن حبان وهم من جهة أخرى لا يوثقون غيرهم من "ثقاته"!! وللعلامة المعلمي اليماني في رده على الكوثري كلام نفيس في من وثقهم ابن حبان وأنهم على خمس درجات كلها معتمدة لديه إلا الأخيرة منها فمن شاء التفصيل رجع إليه في "التنكيل" مع تعليقي عليه 1 / 437 – 438. وجملة القول أن صاحب "الجزء" أخطأ خطأ ظاهرا في تضعيفه لحديث ابن عمر في العجن لأنه اعتمد فيه على بعض ما قيل في توثيق ابن حبان ولم يعرف تفصيل القول في ذلك الذي جرى عليه عمل الحفاظ كالذهبي والعسقلاني وعلى نقول متناقضة لم يجد له مخرجا منها إلا باعتماده على ما يناسب تضعيفه للحديث منها! وأفحش منه تشكيكه في سنية الاعتماد على اليدين عند النهوض مع ثبوته في حديثين مرفوعين غير حديث العجن في أحدهما التصريح بالاعتماد على اليدين والآخر يلتقي معه عند العلماء ويؤيده. وبعد فإن مجال نقد "الجزء" تفصيليا وإظهار ما فيه من المخالفات لأقوال العلماء وأصولهم وتقويته ما لا يصح من الحديث واستشهاده ببعض الأقوال ووضعها في غير موضعها ومبالغته في بعض الأمور والتهويل فيها مجال واسع جدا يتطلب بيان ذلك من الوقت ما لا أجده الآن فإن وجدته فيما يأتي من الأيام بادرت إلى بيانه في كتاب خاص والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان. ثم قال في هيئة السجود: "يستحب للساجد أن يراعي في سجوده ما يأتي: 1 تمكين أنفه وجبهته ويديه من الأرض مع مجافاتهما عن جنبيه". قلت: بل هذا كله من الواجبات التي جاء ذكرها في حديث المسئ صلاته وفي غيره كما تراه موضحا مخرجا في "صفة الصلاة" ص 148 – 153.

ومن مقدار السجود وأذكارة

ومن مقدار السجود وأذكاره قوله في حديث عقبة: " ... اجعلوها في سجودكم". وسنده جيد. قلت: هو تمام الحديث المتقدم وقد بينا هناك أن إسناده ضعيف فتذكر. وقوله: "عن أنس قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغلام - يعني عمر بن عبد العزيز - فخررنا في الركوع عشر تسبيحات وفي السجود عشر تسبيحات رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد". قلت: فيه نظر لأن مدار إسناده على وهب بن مأنوس ولم يوثقه غير ابن حبان ولذلك قال ابن القطان: "مجهول الحال". وقال الحافظ في "التقريب ": "مستور". قوله: "3 - وعن عائشة أنها فقدت الرسول صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها وهو ساجد وهو يقول: "رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها" رواه أحمد". قلت: وإسناده ضعيف لأن فيه "المسند" 6 / 209 صالح بن سعيد لم يرو عنه غير نافع بن عمر فهو في عداد المجهولين وإن وثقه ابن حبان

والصحيح عن عائشة في هذا الباب النوع 5 6 مما في الكتاب. والدعاء المذكور صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم مطلقا غير مقيد بالسجود وكذلك أخرجه مسلم 8 / 81 في حديث لزيد بن أرقم في دعائه صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به. قوله: 7 - وكان صلى الله عليه وسلم يقول وهو ساجد: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ... " قلت: هكذا ذكره المؤلف دون عزو لأحد وكأنه تبع في ذلك ابن القيم حيث أورده كذلك في "زاد المعاد" ولا أعتقد أن أحدا رواه هكذا من أدعية السجود ولم أجد أحدا أورده فيها غير ابن القيم وأعتقد أنه من أوهامه رحمه الله فقد أخرج الحديث الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء. فذكره بتمامه إلا أنه قال: "أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير" بدل قوله: "أنت إلهي لا إله إلا أنت" هكذا أخرجاه مطلقا غير مقيد بالسجود وقد قال الحافظ في شرحه 11 / 164: "لم أر في شيء من طرقه محل الدعاء بذلك". وقد جاء القسم الأخير منه من حديث علي مقيدا بما بعد السلام وفي رواية: "بين التشهد والتسليم" وقد ذكره المؤلف في محله ص 321. وفي الباب أذكار وأدعية أخرى تجدها في "صفة الصلاة" ص 153 – 156. قوله في صفة الجلوس بين السجدتين: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى رواه البخاري ومسلم. قلت: عزوه للبخاري خطأ فإنه من أفراد مسلم وهو مخرج في "الإرواء" 316 و "صحيح أبي داود" 752 وله علة بينتها وأجبت عنها هناك.

ومن جلسة الاستراحة

ومن جلسة الاستراحة قوله: "وقد اختلف العلماء في حكمها تبعا لاختلاف الأحاديث ونحن نورد ما لخصه ابن القيم في ذلك ... " ثم ساقه. قلت: هذا يوهم أن في هذه المسألة أحاديث متعارضة وليس كذلك بل كل ما ورد فيها مثبت لها ولم يرد مطلقا أي حديث ينفيها غاية الأمر أنها لم تذكر في بعض الأحاديث وهذا لا يوجب الاختلاف المدعى وإلا للزم ادعاء مثله في كل سنة لم تتفق عليها الأحاديث وهذا لا يقول به أحد. وقوله: "أن أبا أمامة سئل عن النهوض؟ فقال: على صدور القدمين على حديث رفاعة". قلت: الظاهر من سياق هذا الكلام في "الزاد" أن المراد بـ "أبا أمامة" هو الإمام أحمد رحمه الله ولم أجد في شيء من كتب التراجم أنه يكنى بأبي أمامة أو أن له ولدا يدعى أمامة. ثم وجدت في هامش النسخة الهندية من "الزاد": أن في نسخة: أبا عبد الله. فلعله الصواب. ثم إن قوله: "على حديث رفاعة". يعني به حديث رفاعة بن رافع قال عبد الله بن الإمام أحمد في مسائله 81 / 286: "سمعت أبي يقول: إن ذهب رجل إلى حديث مالك بن الحويرث - تقدم قريبا - فأرجوا أن لا يكون به بأس". قلت: ثم ذكر جلسة الاستراحة قال:

"وكان حماد بن زيد يفعله." قال: "وأذهب أنا إلى حديث رفاعة بن رافع من طريق ابن عجلان: ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم قم". قلت: وهذا لا حجة فيه على نفي ما ثبت في حديث ابن الحويرث وغيره إذ غاية ما فيه أن الجلسة لم تذكر فيه وهي سنة وليست بواجب فكيف تذكر في حديث المسئ صلاته الذي علمه صلى الله عليه وسلم فيه الواجبات دون السنن والمستحبات. راجع "المجموع" 3 / 443. وكأنه لضعف هذه الحجة رجع الإمام أحمد رحمه الله إلى العمل بحديث ابن الحويرث وهو الحق الذي لا شك فيه. قوله: "وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه". قلت: إن كان يعني حديث ابن عجلان عن رفاعة المذكور في رواية عبد الله عن أحمد المتقدمة فليس فيها ما ذكر من النهوض ثم هو من تعليمه صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته وليس من فعله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وإن كان يعني غيره فلم أعرفه وعلى الأول فالعبارة مشكلة لأنها تفيد أن حديث رفاعة غير حديث ابن عجلان مع أنهما حديث واحد. فتأمل. قوله أيضا: "وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث". قلت: حديث أبي حميد فيه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - وفيها الجلسة - بحضرة عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر: قالوا: صدقت هكذا كان يصلي صلى الله عليه وسلم.

أخرجه أصحاب السنن وغيرهم وهو مخرج في "الإرواء" 305 فليس الحديث من رواية أبي حميد وابن الحويرث فقط كما يوهمه الكلام المذكور عن ابن القيم وإنما معهما عشرة آخرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاهدوا صلاته صلى الله عليه وسلم وقليل من السنن يتفق على روايتها مثل هذا الجمع الغفير من الصحابة رضي الله عنهم. وإذ الأمر كذلك فيجب الاهتمام بهذه الجلسة والمواظبة عليها رجالا ونساء وعدم الالتفات إلى من يدعي أنه صلى الله عليه وسلم فعلها لمرض أوسن لأن ذلك يعني أن الصحابة ما كانوا يفرقون بين ما يفعله صلى الله عليه وسلم تعبدا وما يفعله لحاجة وهذا باطل بداهة. قوله عن الإمام ابن القيم: "ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائما لذكرها كل واصف لصلاته". قلت: هذا الكلام غريب جدا من مثل هذا الإمام فإن لازمه التهوين من شأن السنن كلها لأنه ليس فيها سنة يمكن أن يقال: "اتفق على ذكرها كل واصف لصلاته" يعلم ذلك من له عناية خاصة بتتبع السنن وطرقها ولا أدري - والله - كيف ينقل المؤلف هذا الكلام ويمر عليه دون أن يعلق عليه بشيء يدل على ما فيه من الخطأ مما يدل على ارتضائه له وموافقته عليه فانظر ما يلزمه من توهين السنن التي ساقها المؤلف في كتابه فإن وضع اليمين على الشمال مثلا ودعاء التوجه والاستعاذة والتأمين والقراءة والذكر في الركوع والذكر في السجود والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه السنن التسع لم يذكرها أبو حميد ومن معه من الصحابة في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم وكذلك لم يذكرها غيرهم أفيلزم من ذلك رد هذه السنن؟ اللهم لا ولذلك رد الحافظ قول ابن القيم هذا بقوله في "الفتح ":

" فيه نظر فإن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف وإنما أخذ مجموعها من مجموعهم". وذكر مثله الشوكاني 2 / 226 وهو الحق الذي لا ريب فيه. قوله: "ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة إلا إذا علم أنه فعلها سنة فيقتدى به فيها ... ". قلت: قد علمنا أنه فعلها سنة وتشريعا من وجوه: الأول: أن الأصل عدم العلة فمن ادعاها فعليه إثباتها. الثاني: أن أحد رواة هذه السنة مالك بن الحويرث وهو راوي حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فحكايته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة تحت الأمر. انظر "الفتح" و "نيل الأوطار". الثالث: أنه رواها جماعة من الصحابة كما تقدم في حديث أبي حميد ويستحيل عادة أن يخفى عليهم أنه إنما فعلها للحاجة لو كان الأمر كذلك ولو سلمنا بإمكان ذلك عادة فإنه لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم خفاء ذلك عليهم وحينئذ كان ينبههم على ذلك فإذ لم يكن شيء مما ذكرنا فهو دليل واضح على أنه إنما فعلها للعبادة لا للحاجة. والله هو الموفق.

ومن صفة الجلوس للتشهد

ومن صفة الجلوس للتشهد قوله: وقد ذكر حديث وائل بن حجر: فرأيته يحركها يدعو بها: "رواه أحمد". قلت: هذا تقصير فاحش يوهم أنه لم يروه أحد من أهل "السنن" وأهل "الصحاح" الذين التزموا الصحة في مصنفاتهم وليس كذلك فقد أخرجه أبو داود والنسائي وابن الجارود في "المنتقى" وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" كما تراه مخرجا في "صفة الصلاة" ص 169 وصححه ابن الملقن والنووي وابن القيم وهو مخرج في "صحيح أبي داود" أيضا 717. تنبيه: رأيت بعضهم يحرك إصبعه بين السجدتين وعمدته في ذلك أن ابن القيم ذكره في "زاد المعاد" كما ذكر التحريك في التشهد ولا أعلم له فيه مستندا سوى رواية شاذة في حديث وائل هذا فوجب تحرير القول في ذلك فأقول: اعلم أن هذا الحديث يرويه عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل. ويرويه عن عاصم جمع من الثقات وقد اتفقوا جميعا على ذكر رفع السبابة فيه لكنهم انقسموا إلى ثلاث فئات من حيث تعيين مكان الرفع. الأولى: أطلق ولم يحدد المكان منهم زائدة بن قدامة وبشر بن المفضل وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإن كان ظاهر سياقهم يدل على أنه في التشهد. الثانية: صرحوا بأنه في جلسة التشهد منهم ابن عيينة في رواية للنسائي 1 / 173 وشعبة عند ابن خزيمة في "صحيحه" رقم 697 وأحمد 4 / 319

وأبو الأحوص عند الطحاوي 1 / 152 والطبراني في "المعجم الكبير" 22 / 34 / 80 وخالد عند الطحاوي وزهير بن معاوية وموسى بن أبي كثير وأبو عوانة ثلاثتهم عند الطبراني رقم 84 و89 و90. وخالف هؤلاء جميعا عبد الرزاق في روايته عن الثوري فقال في "المصنف" 2 / 68 / 2522 وعنه أحمد 4 / 317 والطبراني في "المعجم الكبير" 22 / 34 / 81: عن الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فرفع يديه ني الصلاة حين كبر ... [وسجد فوضع يديه حذو أذنيه] ثم جلس فافترش رجله اليسرى ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى ثم أشار بسبابته ... ثم سجد فكانت يداه حذو أذنيه. قلت: والسياق للمصنف والزيادة لأحمد. فذكره السجدة الثانية بعد الإشارة بالسبابة خطأ واضح لمخالفته لرواية كل من سبق ذكره من الثقات فإنهم جميعا لم يذكروا السجدة بعد الإشارة وبعضهم ذكرها قبلها وهو الصواب يقينا وإنما لم يذكروا معها السجدة الثانية اختصارا. وقد ذكرها زهير بن معاوية فقال: " ... ثم سجد فوضع يديه حذاء أذنيه ثم سجد فوضع يديه حذاء أذنيه ثم تعد فافترش رجله اليسرى ... ثم رأيته يقول هكذا ورفع زهير أصبعه المسبحة". رواه الطبراني بالرقم المتقدم آنفا 84. وقد يقول قائل: لقد ظهر بهذا التحقيق خطأ ذكر التحريك بين السجدتين

ظهورا لا يدع ريبا لمرتاب. ولكن ممن الخطأ؟ أمن الثوري الذي خالف جميع الثقات أم من عبد الرزاق الذي أخطأ هو عليه؟ فأقول: الذي أراه - والله أعلم - أن الثوري برئ من هذا الخطأ وأن العهدة فيه على عبد الرزاق وذلك لسببين: الأول: أن عبد الرزاق وإن كان ثقة حافظا فقد تكلم فيه بعضهم ولعل ذلك لما رأوا له من الأوهام وقد قال الحافظ في آخر ترجمته من "التهذيب": "ومما أنكر على عبد الرزاق روايته عن الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوبا فقال: أجديد هذا أم غسيل؟ الحديث. قال الطبراني في "الدعاء ": رواه ثلاثة من الحفاظ عن عبد الرزاق وهو مما وهم فيه عن الثوري". قلت: وممن أنكر هذا على عبد الرزاق يحيى بن معين كما رواه ابن عدي في "الكامل" 5 / 1948 فليكن حديث وائل من هذا القبيل ويؤيده السبب التالي: والآخر: أنه خالفه عبد الله بن الوليد عند أحمد 4 / 318 ومحمد بن يوسف الفريابي فروياه عن الثوري - سماعا منه - به دون ذكر السجدة بعد الإشارة. فاتفاق هذين الثقتين على مخالفة عبد الرزاق مما يرجح أن الخطأ منه وليس من الثوري ولا سيما والفريابي كان من تلامذة الثوري الملازمين له فهو أحفظ لحديثه من عبد الرزاق وبخاصة ومعه عبد الله بن الوليد وهو صدوق. تنبيه: لقد أخطأ في حديث عبد الرزاق هذا رجلان:

أحدهما: المعلق على "المصنف" فإنه قال في تخريجه: "أخرجه الأربعة إلا الترمذي وهق". قلت: فغفل عما في سياق "المصنف" من الشذوذ ثم أوهم أنه عند المذكورين بهذا اللفظ الشاذ الذي اعتمد عليه ابن القيم فأورد الحديث في الجلسة بين السجدتين كما تقدم. والآخر: المعلق على "زاد المعاد" فإنه غفل أيضا عن صنيع ابن القيم المشار إليه آنفا وتجاوب معه حين خرج الحديث معلقا عليه بين السجدتين فعزاه لبعض من عزاه الرجل الأول وزاد فقال: "وصححه ابن خزيمة وابن حبان" ومن غفلته البالغة أن ابن القيم لما أعاد ذكر التحريك في التشهد 1 / 242 لم يخرجه المعلق مطلقا فكأنه اكتفى بتخريجه السابق ولو أنه صاحبه التوفيق لعكس ما صنع ولوضع التخريج في الموضع الثاني دون الأول ولنبه القراء على ما في صنيع ابن القيم من الخطإ ولكنها العجلة وقلة التحقيق إلا فيما تيسر له من التقليد! ثم قال:" قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها ليكون موافقا لرواية ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها. رواه أبو داود بإسناد صحيح. وذكره النووي" قلت: بل الإسناد غير صحيح والاحتمال المذكور خلاف ظاهر الحديث ولو ثبت لكان يمكن العمل به مع الإبقاء على ظاهر حديث وائل ويجمع بينهما بأنه كان تارة يحرك وتارة لا يحرك أو يقال: المثبت مقدم على النافي.

وقد ضعف الحديث ابن القيم في "الزاد" وحققت القول فيه في "تخريج صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" وفي "ضعيف أبي داود" 175 بما لا يدع مجالا للشك في ضعفه وخلاصة ذلك: أن الحديث من رواية محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير وابن عجلان متكلم فيه وقد رواه عنه أربعة من الثقات دون قوله: "لا يحركها" وكذلك رواه ثقتان عن عامر فثبت بذلك شذوذ هذه الزيادة وضعفها وحسبك دلالة على وهنها أن مسلما أخرج الحديث 2 / 90 دونها من طريق ابن عجلان أيضا ولقد تغافل عن هذا كله المعلق على "زاد المعاد" فجرى مع ظاهر الإسناد فحسنه وقواه في تعليقه على "شرح السنة" 3 / 178 ومع أنه ذكر عقبه حديث وائل في التحريك وصححه فإنه لم يحاول التوفيق بين الحديثين كأنه لا يهمه الناحية الفقهية ولذلك فهو لا يحرك إصبعه في تشهده! وأضيف هنا فائدة جديدة في هذا الموضوع فأقول: لقد رأيت في الآونة الأخيرة الشيخ أحمد الغماري يذهب في كتابه الذي صدر حديثا: "الهداية في تخريج أحاديث البداية "؛ "بداية المجتهد " يذهب فيه 3 / 136 - 140 إلى تضعيف حديث وائل هذا مدعيا أن هذا اللفظ التحريك. إنما هو من تصرف الرواة لأن أكثرهم ذكر فيه الإشارة فقط دون التحريك! وفي سفرتي الأخيرة للعمرة أول جمادى الأولى سنة 1408 هـ قدم إلى أحد الطلبة - وأنا في جدة - رسالة مصورة عن "مجلة الاستجابة" السودانية بعنوان: "البشارة في شذوذ تحريك الإصبع في التشهد وثبوت الإشارة" لأحد الطلبة اليمانيين وهو في الجملة موافق للشيخ الغماري فيما تقدم ذكره لكنه تميز بالتوسع في تخريج أحاديث الإشارة عن بعض الصحابة والروايات الكثيرة فيها

عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل خاصة ومنها رواية زائدة بن قدامة عن عاصم المصرحة بالتحريك وقد أفرغ جهدا ظاهرا في تخريجها كلها مقرونة ببيان أجزاء وصفحات مصادرها مما يرجى له الأجر والمثوبة بالحسنى عند الله تبارك وتعالى. إلا أنني أرى - والعلم عند الله تعالى - أن تفرد زائدة بالتصريح بالتحريك مما لا يسوغ الحكم على روايته بالشذوذ للأسباب الآتي بيانها. أولا: تلقي العلماء لها بالتسليم بصحتها وقبولها حتى من الذين لم يعملوا بها كالبيهقي والنووي وغيرهما فإنهم اتفقوا جميعا على تأويلها وتفسيرها سواء في ذلك من صرح بالتصحيح أو من سلم به وليس يخفى على أحد أن التأويل فرع التصحيح ولولا ذلك لما تكلف البيهقي تأويل التحريك بالإشارة بها دون تحريكها كما تقدم ولاستغنى عن ذلك بإعلالها بالشذوذ كما فعل الأخ اليماني! وبخاصة أن البيهقي إنما حمله على التأويل حديث ابن الزبير المصرح بعدم التحريك بينما يرى اليماني أن حديث ابن الزبير شاذ وهو الحق كما تقدم بيانه فبقي حديث زائدة دون معارض سوى الروايات المقتصرة على الإشارة ويأتي الجواب عنها. ثانيا: الإشارة في تلك الروايات ليست نصا في نفي التحريك لما هو معهود في الاستعمال اللغوي أنه قد يقترن معها التحريك في كثير من الأحيان كمثل لو أشار شخص إلى آخر بعيد عنه أن اقترب إلي أو أشار إلى ناس قاموا له أن اجلسوا فلا أحد يفهم من ذلك أنه لم يحرك يده! ومالنا نذهب بعيدا فإن خير مثال نقدمه للقارئ حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة الصحابة خلفه صلى الله عليه وسلم قياما وهو قاعد فأشار إليهم أن اجلسوا. متفق عليه. "الإرواء" 2 / 119 وكل ذي لب يفهم منه أن إشارته هذه لم تكن بمجرد رفعه يده صلى الله عليه وسلم ما هو الشأن

في رده السلام على الأنصار وهو يصلي! بل إنها كانت مقرونة بالتحريك فإذن لا ينبغي أن نفهم من تلك الروايات أنها مخالفة لرواية التحريك بل قد تكون موافقة لها. وفي اعتقادي أن هذا هو ملحظ من صحح الحديث وعمل به أو من سلم بصحته لكنه تأوله ولم يقل بشذوذه. وإن مما يؤكد ذلك أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير بإصبعه السبابة في خطبة الجمعة كما رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "الإرواء" 3 / 77 ومن المتبادر منه أن المقصود أنه كان يحركها إشارة للتوحيد وليس مجرد الإشارة دون تحريك ويشهد لذلك رواية ابن خزيمة في "صحيحه" 2 / 351 بسند فيه ضعف عن سهل بن سعد نحو حديث عمارة بلفظ: "وأشار بإصبعه السبابة يحركها". وترجم له ابن خزيمة بقوله: "باب إشارة الخاطب بالسبابة على المنبر عند الدعاء في الخطبة وتحريكه إياها عند الإشارة بها". والخلاصة: أن الإشارة بالمسبحة لا ينافي تحريكها بل قد يجامعها كما تقدم فنصب الخلاف بينهما غير سليم لغة وفقها. ومن ذلك تعلم خطأ الأخ اليماني في جزمه بأن الإشارة تنفي التحريك فقال في حديث ابن عمر رضي الله عنه: "لهي أشد على الشيطان من الحديد يعني السبابة". "هذا الحديث ليس فيه تحريك بل أقول: أنحن أدرى بمعنى الحديث أم ابن عمر؟ فقد وصف نافع صلاة ابن عمر بالإشارة لا التحريك". فأقول: نعم ليس فيه تحريك ولا عكسه أيضا وكلاهما محتمل هذا

هو الحق والله يحب الإنصاف. فحمله على أحدهما بحاجة إلى دليل وهو معنا كما قدمنا. نعم لو جاء صراحة عن ابن عمر أنه لم يحرك إصبعه لكان مرجحها لقوله وهيهات! ثالثا: وعلى افتراض أنه صح عن ابن عمر أو غيره التصريح بعدم التحريك فإننا نقول في هذه الحالة بجواز الأمرين: التحريك وعدمه كما هو اختيار الصنعاني في "سبل السلام" 1 / 290 - 291 وإن كان الأرجح عندي التحريك للقاعدة الفقهية: "المثبت مقدم على النافي" ولأن وائلا رضي الله عنه كان له عناية خاصة في نقل صفة صلاته صلى الله عليه وسلم ولاسيما كيفية جلوسه صلى الله عليه وسلم في التشهد فقد قال: "قلت: لأنظرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي؟ ... " الحديث. ثم قال: "ثم قعد فافترش رجله اليسرى فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض [اثنتين] من أصابعه فحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها. ثم جئت في زمان فيه برد فرأيت الناس عليهم الثياب تحرك أيديهم من تحت الثياب من البرد". رواه أحمد وغيره وهو في "الإرواء" كما تقدم. فقد تفرد وائل رضي الله عنه بهذا الوصف الدقيق لتشهده صلى الله عليه وسلم فذكر فيه ما لم يذكره غيره من الصحابة وهو: أولا: مكان المرفق على الفخذ. ثانيا: قبض إصبعيه والتحليق بالوسطى والإبهام. ثالثا: رفع السبابة وتحريكها. رابعا: الاستمرار بالتحريك إلى آخر الدعاء.

خامسا: رفع الأيدي تحت الثياب في الانتقالات. أقول: فمن الخطأ الجلي رد التحريك المذكور فيها لتفرد زائدة بن قدامة به دون سائر أصحاب عاصم بن كليب وذلك لأمرين: الأول: أنهم رووا الإشارة وهي لا تنافي التحريك كما تقدم. الأخر: ثقة زائدة وشدة تثبته في روايته عن شيوخه فإن الأئمة مع إجماعهم على توثيقه واحتجاج الشيخين به فقد قال ابن حبان فيه في "الثقات" 6 / 340: "كان من الحفاظ المتقنين وكان لا يعد السماع حتى يسمعه ثلاث مرات وكان لا يحدث أحدا حتى يشهد عنه عدل أنه من أهل [السنة] ". وقال الدارقطني: "من الأثبات الأئمة". والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. قوله: "فعن نمير الخزاعي قال: رأيت رسول الله وهو قاعد في الصلاة ... رافعا إصبعه السبابة وقد حناها شيئا وهو يدعو. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة بإسناد جيد" قلت: كلا بل هو ضعيف الإسناد لأن فيه مالك بن نمير الخزاعي وقد قال فيه ابن القطان والذهبي: "لا يعرف حال مالك ولا روى عن أبيه غيره". وأشار الحافظ في "التقريب" إلى أنه لين الحديث.

ولم أجد حني الأصبع إلا في هذا الحديث فلا يشرع العمل به بعد ثبوت ضعفه والله أعلم. قوله: "ورأى الشافعية أن يشير بالإصبع مرة واحدة وعند الحنفية ... ". قلت: هذه التحديدات والكيفيات لا أصل لشيء منها في السنة وأقربها للصواب مذهب الحنابلة لولا أنهم قيدوا التحريك عند ذكر الجلالة ويبدو أنه ليس من أحمد نفسه فقد ذكر ابن هانئ في "مسائله" ص 80 أن الإمام سئل: هل يشير الرجل بإصبعه في الصلاة؟ قال: نعم شديدا. وظاهر حديث وائل المتقدم الاستمرار في التحريك إلى آخر التشهد دون أي قيد أو صفة وقد أشار إلى نحو هذا الطحاوي في "شرح المعاني" 1 / 153. فائدة: لم يذكر المؤلف كيف يجلس المصلي في التشهد في الصلاة الثنائية كالصبح أيفترش كما يقول أحمد أم يتورك كما يقول الشافعي؟ الصواب عندي الأول لحديث وائل بن حجر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ... وإذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى ونصب اليمنى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ونصب إصبعه للدعاء ووضع يده اليسرى على رجله اليسرى. أخرجه النسائي 1 / 173 بسند صحيح. فهذا ظاهر في أن الصلاة التي وصفها كانت ثنائية ويقويه حديث عائشة وابن عمر اللذين تقدما عند المؤلف في صفة الجلوس بين السجدتين فثبت ما قلنا والحمد لله.

ومن التشهد الاول

ومن التشهد الأول قوله في استحباب التخفيف فيه: "قال ابن القيم: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وعلى آله في التشهد الأول ... ومن استحب ذلك فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير". قلت: لا دليل تقوم به الحجة يصلح لتقييد العمومات والمطلقات المشار إليها بالتشهد الأول فهي على عمومها وأقوى ما استدل به المخالفون حديث ابن مسعود المذكور في الكتاب وهو غير صحيح الإسناد لانقطاعه كما ذكره المؤلف وقد استوفى ابن القيم رحمه الله أدلة الفريقين وبين ما لها وما عليها في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" فراجعه يظهر لك صواب ما رجحناه. ثم وقفت على ما ينفي مطلق قول ابن القيم: "لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وعلى آله في التشهد الأول" وهو قول عائشة رضي الله عنها في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل: "كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره فيبعثه الله فيما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فيدعو ربه ويصلي على نبيه ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيقعد ثم يحمد ربه ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويدعو ثم يسلم تسليما يسمعنا الحديث. أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" 2 / 324 وهو في "صحيح مسلم" 2 / 170 لكنه لم يسق لفظه. ففيه دلالة صريحة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ذاته صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول كما صلى في التشهد الآخر وهذه فائدة عزيزة فاستفدها وعض عليها بالنواجذ ولا يقال: إن هذا في صلاة الليل لأننا نقول: الأصل أن ما شرع في صلاة شرع في غيرها دون تفريق بين فريضة أو نافلة فمن ادعى الفرق فعليه الدليل.

ومن الدعاء بعد التشهد الأخير وقبل السلام

ومن الدعاء بعد التشهد الأخير وقبل السلام قوله: 6 وعن شداد بن أوس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: "اللهم اني أسألك الثبات في الأمر" ... رواه النسائي". قلت: ظاهر إسناده الصحة ولكن فيه علة قادحة فقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن شداد. فهذا رجاله كلهم ثقات إلا أنه قد رواه يزيد بن هارون والثوري عن الجريري فأدخلا بين أبي العلاء وشداد رجلا من بني حنظلة وهو مجهول وهو علة الحديث فتبين. ثم إن الحديث مطلق ليس مقيدا بالتشهد فتأمل. قوله:" 9 وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول هذا الدعاء: "اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا" ... رواه أبو داود". قلت: عزوه لأبي داود خطأ فليس هو في "سننه" ولا ذكره النابلسي في أحاديث ابن مسعود من "ذخائره" والسيوطي لما أورده في "الجامع الصغير" عزاه للطبراني والحاكم فقط ولو كان في "السنن" لعزاه إليه ولما أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" لأنه لا يورد فيه ما رواه أحد الستة من الحديث. ثم إن الهيثمي قال 10 / 179: "رواه الطبراني في "الكبير" والأوسط" وإسناد "الكبير" جيد". وقد راجعت له كتاب "الدعاء" من المستدرك وكذا ترجمة ابن مسعود من "المناقب" منه فلم أجده فليراجع.

ثم وجدته في "التشهد" من "سنن أبي داود" وفي "كتاب الصلاة" من "المستدرك" 1 / 265 عن ابن مسعود بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات كما يعلمنا التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا ... الخ" وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي! قلت: وفيه نظر لأن في إسناده شريك بن عبد الله القاضي وهو ضعيف لسوء حفظه. وقال الحافظ فيه: "صدوق يخطئ كثيرا" ومن طريقه أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 10 / 236 / 10426 فتجويد الهيثمي لإسناده ليس بجيد وهو مخرج في "ضعيف أبي داود" 172. قوله:" 11 وعن عمير بن سعد قال: كان ابن مسعود يعلمنا التشهد ... رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور". قلت: كذا وقع فيه "سعد" في كل الطبعات وهو خطأ والصواب: "سعيد" كما في كتب الرجال و "المصنف" لابن أبي شيبة 1 / 296 - 297 وهو عمير ابن سعيد النخعي الصهباني وأما عمير بن سعد وهو الأنصاري فهو صحابي وليس به. ثم إن عمير بن سعيد ثقة من رجال الشيخين وكذلك من دونه فالإسناد صحيح. ثم إنه يبدو أن السياق لسعيد بن منصور فإنه ليس عند ابن أبي شيبة قوله: "قال: لم يدع نبي ... " الخ فلينظر ما حال إسناده. وزاد ابن أبي شيبة. {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ , رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .

ومن الأذكار والأدعية بعد السلام

ومن الأذكار والأدعية بعد السلام قوله تحت رقم 6: "وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى" رواه الطبراني بإسناد حسن". كذا قال تقليدا منه للمنذري والهيثمي وتبعهم المعلق على "الزاد" 1 / 304 وقال الحافظ في "نتائج الأفكار": "حديث غريب وفي سنده ضعف". قلت: وقد بينت ذلك في "الضيفة" 5135. قوله:" 10 وصح أيضا أن يسبح خمسا وعشرين ويحمد مثلها ويكبر مثلها ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مثلها". قلت: أخذ هذه الصفة من "زاد المعاد" ولم يعزها لأحد وهو يشير بذلك إلى حديث زيد بن ثابت قال: أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ويحمدوا ثلاثا وثلاثين ويكبروا أربعا وثلاثين فأتي رجل من الأنصار في منامه فقيل له: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا ... ؟ الحديث. قال: نعم قال: فاجعلوها خمسا وعشرين واجعلوا فيها التهليل فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له قال: "اجعلوها كذلك". أخرجه النسائي 1 / 198 عنه وعن ابن عمر نحوه بسندين صحيحين

وصحح الأول الترمذي 3410 وابن خزيمة 752 والحاكم 1 / 253 والذهبي. فقوله: التهليل لا يتبادر منه إلا قوله: لا إله إلا الله فإنه المراد من اللغة كما في "لسان العرب" والزيادة عليه تحتاج إلى نص هنا وهو مفقود وهذا مما لم يتنبه له المعلق على "الزاد" فساق الحديث وخرجه وكفى. فالظاهر أن المقصود من الحديث أن يقول: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" خمسا وعشرين لا يضره بأيهن بدأ. والله أعلم. قوله:" 13 وعن عبد الرحمن بن غنم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ... " رواه أحمد وروى الترمذي نحوه دون ذكر: بيده الخير". قلت: وقال الترمذي: "حسن غريب صحيح". وفي تصحيحه نظر لأنه من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم - بالفتح على الصحيح كما تقدم عن الحافظ ص 59 - وقد اضطرب شهر في إسناده ومتنه على ابن غنم: أما الإسناد فمرة يقول: عن ابن غنم مرفوعا. وابن غنم مختلف في صحبته فهو مرسل وهو رواية أحمد 4 / 227. ومرة يقول: عنه عن أبي ذر مرفوعا وهو رواية الترمذي وكذا النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 12. وتارة يقول: عنه عن معاذ. وهو رواية للنسائي 126. وأخرى يقول: عنه عن فاطمة رضي الله عنها وهو رواية لأحمد 6 /

298. فهذا اضطراب شديد من شهر يدل على ضعفه كما تقدم ولذلك قال النسائي عقبه: "وشهر بن حوشب ضيعف سئل ابن عون عن حديث شهر؟ فقال: إن شهرا نزكوه أي طعنوا عليه وعابوه وكان شعبة سيئ الرأي فيه وتركه يحيى القطان". وأما المتن فتارة يذكر صلاة الفجر دون المغرب كما في حديث أبي ذر. وتارة يجمع بينهما كما في حديث ابن غنم المرسل وحديث فاطمة وأخرى يذكر العصر مكان المغرب وذلك في حديث معاذ وتارة يذكر "يحيى ويميت" وتارة لا يذكرها وتارة يزيد قبلها: "بيده الخير" وتارة لا يذكرها وتارة يذكر: "قبل أن ينصرف ويثني رجليه" وتارة لا يذكرها. وتارة يضطرب في بيان ثواب ذلك بما لا ضرورة لبيانه الآن. وبالجملة فهذا الاضطراب في إسناده ومتنه لو صدر من ثقة لم تطمئن النفس لحديثه فكيف وهو من شهر الذي بالضعف اشتهر؟! ومع هذا كله فقد وجدت لحديث ابن غنم هذا شواهد تقويه وتطمئن النفس للعمل به مع كل الزيادات التي سبق بيانها جاءت في أحاديث متفرقة أوردتها في "صحيح الترغيب والترهيب" 1 / 262 / 469 - 472 / طبعة مكتبة المعارف - الرياض وخرجت بعضها في "الصحيحة" 2563 والله تعالى ولي التوفيق. ثم قال:" 15 وروى أبو حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري" ... الخ". أقول: فيه أمور: الأول: أنه عزاه لأبي حاتم وهذه الكنية إذا أطلقت فالمراد بها الإمام أبو

حاتم الرازي واسمه محمد بن إدريس ووالد عبد الرحمن صاحب "الجرح والتعديل" وليس هو مخرج هذا الحديث وإنما هو أبو حاتم ابن حبان البستي فكان على المؤلف أن يصفه بشيء يرفع اللبس ولا سيما وهو قد نقل هذا التخريج من "زاد المعاد" لابن القيم وهو قد فعل ذلك فإنه قال: "وقد ذكر أبو حاتم في "صحيحه" ... ". فقوله: "في صحيحه" اختصره المؤلف فوقع اللبس! الثاني: أنه قد رواه من هو أعلى طبقة وأشهر من ابن حبان ألا وهو النسائي في "السنن" 1 / 197 - 198 وفي "اليوم والليلة" 137 وابن خزيمة في "صحيحه" 745 من طريق ابن وهب: أخبرني حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب أن صهيبا حدثه به مرفوعا: الثالث: أن ابن حبان رواه 541 - موارد من طريق ابن أبي السري قال: قرئ على حفص بن ميسرة وأنا أسمع: حدثني موسى بن عقبة ... به. قلت: وابن أبي السري - واسمه محمد بن المتوكل - ضعيف لكثرة أوهامه بخلاف ابن وهب وهو عبد الله الإمام الحافظ الثقة فكان ذكر الحديث من رواية هؤلاء الذين رووه من طريقه أولى من عزوه لابن حبان كما لا يخفى وهذا من شؤم التقليد وعدم الرجوع إلى الأصول! ولذلك أعل المعلق على "زاد المعاد" 1 / 302 هذا الحديث بابن السري المذكور وخفيت عليه الطريق السالمة منه عند أولئك الأئمة ولو أنه أمعن النظر لوجد العلة من تابعي الحديث وهو أبو مروان والد عطاء قال النسائي: "ليس بالمعروف". وأعتمده الذهبي في "الميزان" و "الضعفاء" لكن

انقلب عليه الأمر فقال: "روى عطاء بن أبي مروان عن موسى بن عقبة عنه وهو والد عطاء"! فأدخل بين الابن والأب موسى وهو الراوي عن الابن عن أبيه كما رأيت. وأما في "الكاشف" فقال فيه: "ثقة". وكأنه تبع في ذلك العجلي فإنه أورده في "ثقاته" 510 - 2038 وكذلك ابن حبان 5 / 585 ولم تطمئن النفس لتوثيقهما لما هو معروف من تساهلهما فنحن مع قول النسائي الذي اعتمده الذهبي في كتابه حتى نجد ما ينقلنا منه. وقد وجدت للحديث شاهدا من حديث أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح - قال: ولا أعلمه إلا قال في سفر - رفع صوته حتى يسمع أصحابه: "اللهم أصلح ... " الحديث. أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" 124 و509 من طريق إسحاق ابن يحيى بن طلحة: حدثني ابن أبي برزة وفي الموضع الآخر: ابن بريدة الأسلمي عن أبيه به. قلت: وهذا إسناد ضعيف جدا إسحاق هذا تركه جمع وأشار أبو حاتم إلى أنه لا يعتبر بحديثه. يعني لشدة ضعفه فلا يصلح للاستشهاد به. نعم الحديث كدعاء مطلق قد جاء من حديث أبي هريرة إلى قوله: "معاشي" عند مسلم وقوله: "إني أعوذ برضاك ... إلى: وأعوذ بك منك". هو من أدعية السجود. وقد مضى في الكتاب والباقي من أدعية الاعتدال من الركوع كما تقدم ودبر الصلاة أيضا.

قوله: 17 وروى أبو داود والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: "اللهم عافني في بدني ... ". قلت: لا أدري من أين جاء المؤلف بهذا التخريج فإني لم أجده بهذا القيد: "دبر كل صلاة" عند المذكورين ولا بهذا التمام عند الحاكم وإليك البيان: أولا: أخرج أبو داود في "الأدب" 5090 من طريق جعفر بن ميمون قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال لأبيه: يا أبة! إني أسمعك تدعو كل غداة: "اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت" تعيدها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأنا أحب أن أستن بسنته وتقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت" تعيدها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسي فتدعو بهن فأحب أن أستن بسنته. ومن هذا الوجه أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 22 572 وعنه ابن السني رقم 67 وأحمد 5 / 42 وقال النسائي: "جعفر بن ميمون ليس بالقوي". قلت: وهو مختلف فيه وقال الحافظ: "صدوق يخطئ". قلت: فالإسناد حسن أو قريب من الحسن. ثانيا: أخرجه الحاكم 1 / 35 مختصرا جدا من طريق أخرى: عن حماد ابن سلمة عن عثمان الشحام عن مسلم بن أبى بكر عن أبي بكرة قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وقد أخرجه النسائي 1 / 198 و2 / 315 وعنه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" 109 والحاكم أيضا 1 / 252 - 253 وأحمد 5 / 44 و36 بأتم منه عن مسلم بن أبي بكرة قال: "كان أبي يقول في دبر الصلاة فذكره فكنت أقولهن فقال أبي: أي بني عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن دبر الصلاة". قلت: فتبين بهذا التخريج والتحقيق أنه ليس عند الحاكم من الحديث إلا الاستعاذة هن الكفر والفقر وعذاب القبر. وأن هذه الثلاث هي التي كان صلى الله عليه وسلم يقولها دبر الصلاة بخلاف الدعاء بالمعافاة الذي عند أبي داود وغيره فليس مقيدا بالصلاة. والله أعلم. قوله:" 19 وروى أحمد وابن [أبي] شيبة وابن ماجه بسند فيه مجهول عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: "اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وعملا متقبلا". قلت: لكن أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" بإسناد جيد ليس فيه المجهول كما بينته في "الروض النضير" 1199. تنبيه: سقطت أداة الكنية أبي من طبعات الكتاب وهو في "مصنف ابن أبي شيبة" 10 / 234 من طريق المجهول.

ومن التطوع

ومن التطوع قوله في مشروعيته: "وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما ... ". رواه أحمد والترمذي وصححه السيوطي". قلت: إنما صححه السيوطي في "الجامع الصغير" بالرمز وقد ذكرت في المقدمة أنه لا يعتمد عليه في رموزه وبينت السبب في ذلك فراجعه. وهذا الحديث من الشواهد على ما ذكرت فإن إسناده ضعيف لأنه من رواية بكر بن خنيس وفيه ضعف عن ليث بن أبي سليم وقد ضعفه مخرجه الترمذي فقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وبكر بن خنيس تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره". ثم بسطت القول على الحديث في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1957. وقوله: وقال مالك في "الموطأ": بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". قلت: لم يحسن المصنف صنعا حيث عزاه لمالك بلاغا دون سند وذلك يوهم أن الحديث ضعيف لا سند له مع أنه حديث صحيح جاء مسندا عن ثوبان رضى الله عنه أخرجه أحمد من ثلاثة طرق عنه فلو أنه نسبه إليه لكان أصاب

ثم خرجت هذه الطرق مع شواهد للحديث في "إرواء الغليل" 412. قوله في استحباب صلاته في البيت: 2 وعند أحمد عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل في بيته تطوعا نور فمن شاء نور بيته". قلت: إسناد الحديث ضيف فيه مجهول وقد بينت ذلك في "التعليق الرغيب" 1 / 159 ثم في "تخريج الأحاديث المختارة" 248 – 249. وقوله:" 3 وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" رواه أحمد وأبو داود". قلت: لقد أبعد المصنف النجعة فالحديث في "الصحيحين" أيضا عن ابن عمر! وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1027.

ومن أقسام التطوع

ومن أقسام التطوع قوله: "وروى البيهقي بإسناده أن أبا ذر رضي الله عنه صلى عددا كثيرا فلما سلم قال له الأحنف بن قيس: هل تدري انصرفت على شفع أم على وتر؟ قال: ... إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة". رواه الدارمي في "مسنده" بسند صحيح إلا رجلا اختلفوا في عدالته". قلت: ليت المصنف حفظه الله تعالى سكت عن إسناد الدارمي بعد أن عزاه للبيهقي فإن إسناده صحيح ليس فيه الرجل المختلف فيه وكذلك أخرجه أحمد. ثم خرجته مع شواهد له في "الإرواء" 457.

ومن سنة الفجر

ومن سنة الفجر قوله في فضلها:" 2 وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل". رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي". قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: سكت عن الحديث وهو ضيف الإسناد كما صرح بذلك عبد الحق الإشبيلي وتبعه ابن القطان وأشار إليه البيهقي حيث ذكره في السنن الكبرى" تعليقا بدون إسناد فقال 2 / 471: "وروى عن أبي هريرة ... ". فذكر الحديث ولو صح لكان بظاهره دليلا لمن يقول بوجوب سنة الفجر. الثانية: أطلق عزوه للبيهقي فأوهم أنه موصول عنده وليس كذلك بل هو عنده دون إسناد كما عرفت آنفا فينبغي أن يقال في مثله: "والبيهقي تعليقا" ثم إن حقه أن يؤخر عن الطحاوي لأن هذا أعلى طبقة منه. ثم تكلمت على الحديث وبينت علته في "الإرواء" 438 و "الضعيفة" 1533. قوله في تخفيفها: " 2 وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل الغداة فيخففهما حتى إني لأشك أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا؟ رواه أحمد وغيره". قلت: من هذا "الغير "؟! الشيخان في "صحيحيهما" فلو أن المصنف عزاه

لهما ثم أشار لرواية غيرهما لأصاب. والحديث مخرج في "صحيح أبي داود" 1141. ثم قال:" 3 وعنها قالت: كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين قبل صلاة الفجر قدر ما يقرأ فاتحة الكتاب. رواه أحمد والنسائي والبيهقي ومالك والطحاوي". قلت: عليه مؤاخذات: الأولى: ليس هو بهذا اللفظ عند النسائي والبيهقي ومالك بل باللفظ الذي قبله! الثانية: أنه بهذا اللفظ ضعيف لانقطاعه وبه أعله مخرجه الطحاوي لأنه من رواية محمد بن سيرين عن عائشة ولم يسمع منها كما قال أبو حاتم. الثالثة: تأخيره لمالك عن النسائي والبيهقي خطأ أوضح من الذي سبق لجلالة مالك وشهرته وعلو طبقته ومثل هذا الإخلال من المؤلف كثير بحيث يصعب التتبع. قوله في ما يقرأ فيها:" 1 عن عاثشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وكان يسر بهما. رواه أحمد والطحاوي". قلت: إسناده ضعيف لأنه منقطع كالذي قبله وهو في "مسلم" من حديث أبي هريرة دون قوله: "وكان يسر بهما" وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1142.

ثم قال:" 2 وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "نعم السورتان هما كان يقرأ بهما في الركعتين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " رواه أحمد وابن ماجه". قلت: كذا وقع في كل الطبعات: "كان يقرأ ... " وهو خطأ والصواب حذف فعل كان فإن ما بعده من تمام قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم السورتان هما يقرأ بهما ... " هكذا الحديث عند ابن ماجه 1 / 351 - التازية وأحمد 6 / 239 وابن خزيمة أيضا في "صحيحه" 1114 وابن حبان 610 – موارد. تنبيه: وقع في "ابن خزيمة" زيادة قبل الحديث بلفظ: "كان يصلي أربعا قبل الظهر وركعتين قبل العصر لا يدعهما قالت: وكان يقول:" فذكر الحديث وهي عند أحمد أيضا لكنه قال: "قبل الفجر" وهو الصواب وما في ابن خزيمة خطأ مطبعي والله أعلم. قوله في الدعاء بعد الفراغ منها: "قال النووي في "الأذكار": روينا في كتاب ابن السني عن أبي المليح ... عن أبيه أنه صلى ركعتي الفجر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قريبا منه ركعتين خفيفتين ثم سمعه يقول وهو جالس: "اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار" ثلاث مرات. وروينا فيه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله تعالى ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". قلت: الحديثان ضعيفان جدا لا يجوز العمل بهما حتى عند القائلين بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لشدة ضعفهما فيستنكر على النووي وبالتالي على المؤلف إيرادهما لهما ساكتين عليهما الموهم لجواز العمل بهما

وإلا فما فائدة ذكرهما؟! أما الحديث الأول فإنه عند ابن السني رقم 101 من طريق يحيى بن أبي زكريا النسائي - قال ابن حبان: "لا تجوز الرواية عنه" - عن عباد بن سعيد - قال الذهبي: "لا شيء" - عن مبشر بن أبي المليح - اتهمه الحافظ ابن حجر بحديث منكر - فهو إسناد ظلمات بعضها فوق بعض! وأما الحديث الثاني فهو عنده رقم 81 من طريق اسحاق بن خالد بن يزيد البالسي - قال ابن عدي: "روى غير حديث منكر يدل على ضعفه" - عن عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي - اتهمه الإمام أحمد - عن خصيف - وهو ضيف لسوء حفظه واختلاطه في آخره.

ومن سنة الظهر

ومن سنة الظهر قوله في فضل الأربع قبل الظهر تحت رقم 2: "وإذا صلى أربعا قبلها أو بعدها فالأفضل أن يسلم بعد كل ركعتين وإن كان يجوز أن يصليهما متصلة بتسليم واحد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". رواه أبو داود بسند صحيح". قلت: من شروط الحديث الصحيح أن لا يشذ راويه عن رواية الثقات الآخرين للحديث وهذا الشرط في هذا الحديث مفقود لأن الحديث في "الصحيحين" وغيرهما من طرق عن ابن عمر دون ذكر "النهار" وهذه الزيادة تفرد بها علي بن عبد الله الأزدي عن ابن عمر دون سائر من رواه عن ابن عمر وقد قال الحافظ في" الفتح "ما مختصره: " إن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر

لم يذكروها عنه وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها وروى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. موقوف. فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعا أربعا".وهذا في "المصنف" 2 / 274 بسند صحيح. قلت: فإن لم تثبت هذه الزيادة فمفهوم الحديث الصحيح: "صلاة الليل مثنى مثنى ... " يدل على أن صلاة النهار ليست كذلك فتصلى أربعا متصلة كما قال الحنفية قال الحافظ 2 / 283: "وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح". قلت: ويؤيده صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلاة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود 1 / 203 بإسناد صحيح على شرطهما وهو في "الصحيحين" دون التسليم. وقال الحافظ في "الفتح" 3 / 41: "أخرجه ابن خزيمة وفيه رد على من تمسك به في صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل". قلت: فهذا الحديث يستأنس به على أن الأفضل التسليم بعد كل ركعتين في الصلاة النهارية. والله أعلم. ثم وجدت للحديث طرقا أخرى وبعض الشواهد أحدها صحيح خرجتها في "الروض النضير" 522 فصح الحديث والحمد لله ولذلك أوردته في "صحيح أبي داود" 1172.

قوله في قضاء سنتي الظهر: "وروى ابن ماجه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر". قلت: سكت عليه فأوهم صحته وليس بصحيح. لأنه من رواية قيس بن الربيع قال الحافظ في "التقريب ": "صدوق تغير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به! قلت: وقد تفرد بقوله في الحديث: "بعد الركعتين" فهي زيادة منكرة لأن الحديث رواه الترمذي دونهما من طريق أخرى بسند صحيح عنها وهو الذي في الكتاب قبيل هذا. ثم أكدت نكارة الحديث في "الضعيفة" 4208 ونبهت فيه على غفلة المعلق على "الزاد" الذي حسن حديث ابن ماجه بحديث الترمذي بدل أن يضعفه به!!

ومن السنن غير المؤكدة

ومن السنن غير المؤكدة قوله تحت رقم 1 -: وأما الاقتصار على ركعتين فقط يعني قبل العصر فدليله عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة". قلت: خفي على المؤلف ما أخرجه أبو داود في "باب الصلاة قبل العصر" ومن طريقه الضياء المقدسي في "المختارة" 1 / 187 من نسخة الظاهرية الخطية عن علي رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين". وقد قال النووي في "المجموع" 4 / 8: "إسناده صحيح". وأقول: هو كذلك لولا أنه شاذ بهذا اللفظ والمحفوظ بلفظ: "أربع ركعات". وبيانه في "ضعيف أبي داود" 235 و "الروض النضير" 691.

قوله تحت رقم 2 -: "وفي رواية لابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين". قلت: هذه الرواية منقطعة الإسناد منكرة المتن والمحفوظ الرواية الأولى التي في الكتاب من حديث البخاري بلفظ: "صلوا قبل المغرب ... " ولذلك جزم ابن القيم في "زاد المعاد" وابن حجر في "فتح الباري" بأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الركعتين قبل المغرب وغفل عن هذا كله المعلق على "الزاد" فقال في حديث ابن حبان وقد ذكره في التعليق 1 / 312: "وإسناده صحيح". وقد كنت قلت مثله في "الصحيحة" 233 ولعلي كنت السبب في وقوعه في هذا الخطإ لأنه كثير الاستفادة من كتبي وتحقيقاتي وتخريجاتي الكثيرة وقد ينقل بعضها بالحرف الواحد دون أن يشير إلى ذلك أدنى إشارة أو أن يذكرني بخير ولو لمرة واحدة كأنه لم يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" بل هو كثير التعرض لنقدي لأدنى مناسبة تعرض له وأنا أرجو أن يكون الباعث له على ذلك حب الخير للمسلمين والنصح لهم وليس الغيرة والحسد نسأل الله السلامة. لكني كنت أشرت هناك إلى شذوذ هذه الرواية ومع ذلك فقد بدا لي أن فيها انقطاعا فرأيت أن أبين ذلك بيانا شافيا أودعته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 5662.

ومن الوتر

ومن الوتر قوله تحت عنوان القنوت في الوتر: "يشرع القنوت في الوتر في جميع السنة. لما رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت ... تباركت ربنا وتعاليت وصلى الله على النبي محمد". قلت: عليه مؤاخذتان: الأولى: عزوه بهذا التمام لهؤلاء المذكورين خطأ إذ إن قوله في آخره: "وصلى الله على النبي محمد" ... تفرد به النسائي وحده دونهم! الثانية: أن هذه الزيادة في آخره ضعيفة لا تثبت كما قال الحافظ ابن حجر والقسطلاني والزرقاني وفي سندها جهالة وانقطاع. فراجع بيان ذلك إن شئت في "التلخيص" و "شرح المواهب". لكننا لا نرى مانعا منها لجريان عمل السلف بها كما ذكرت في "تلخيص صفة الصلاة". قوله: "القنوت في صلاة الصبح غير مشروع إلا في النوازل ففيها يقنت وفي سائر الصلوات ... ومذهب الشافعية أن القنوت في صلاة الصبح ... سنة". قلت: ثم ساق لهم حديثين أحدهما صحيح لكنه حمله على قنوت النوازل وهو الحق والآخر صريح في استمراره عليه السلام في القنوت في الفجر حتى فارق الدنيا. ولكنه ضعفه وقد أصاب في هذا كله ولكنه كأنه تراجع عن ذلك حيث ختم هذا البحث بقوله: "ومهما يكن من شيء فإن هذا من الاختلاف المباح الذي يستوي فيه الفعل والترك "! " وإن كان خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم".

قلت: إن لم يكن هذا تراجعا - وهذا ما نرجوه - فهو اضطراب شديد جدا إذ يقرر في أول البحث عدم مشروعية القنوت في الفجر دائما ويؤكده أخيرا بأن هديه صلى الله عليه وسلم ترك هذا القنوت فكيف يقول مع هذا وهو حق بلا ريب: "يستوي فيه الفعل والترك" فليت شعري كيف يستوي الفعل وهو غير مشروع مع الترك وهو المشروع؟! وسيأتي للمؤلف نحوها في "الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف والإسرار بها" فانظر ص 263. وهذا مما يجعلني أقطع بأن المؤلف لا يعيد النظر فيما يكتب وهو من أسباب وقوع الأخطاء الكثيرة في كتابه هذا وإلا فأقل الناس علما وفهما يتبين له هذا التناقض الواضح.

ومن قيام الليل

ومن قيام الليل قوله فيما جاء في فضله من السنة: 2 وقال سلمان الفارسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد". قلت: يؤخذ عليه أمران: عدم تخريجه إياه وسكوته عن بيان ضعفه وهو من رواية الطبراني عن عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجوف عن الأعمش عن أبي العلاء النوري عن سلمان. وعبد الرحمن هذا قال أبو حاتم:

"لا يحتج به". وقال ابن عدي: "عامة أحاديثه مستقيمة وفي بعضها إنكار". ثم ساق له هذا الحديث مشيرا إلى أن فيه نكارة قال الذهبي: "وأبو العلاء لا أعرفه". والحديث أخرجه الترمذي من طريق أخرى من حديث بلال وقال: "ولا يصح من قبل إسناده". قلت: وعلته أنه من رواية محمد بن سعيد وهو المصلوب وهو كذاب قال أحمد بن صالح: "وضع أربعة آلاف حديث". نعم الحديث دون الجملة الأخيرة منه: "ومطردة للداء عن الجسد" حسن أو صحيح فقد أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما من حديث أبي أمامة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه البغوي والحافظ العراقي فلو أن المؤلف آثره لكان أصاب وهو مخرج في "الإرواء" 452 و "المشكاة" 1227. قال: 3 وقال سهل بن سعد: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت ... واعلم أن شرف المرء من قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس". قلت: القول في هذا كالذي قبله وقد رواه الطبراني وفي سنده زافر بن سليمان وهو صدوق كثير الأوهام كما في "التقريب" وقد قال العقيلي في هذا الحديث:

"ليس له أصل مسند". لكن روي من حديث جابر أيضا وعلي بن أبي طالب فهو بهما حسن كما بينته في "الصحيحة" 831. قوله في آدابه تحت رقم 2: ثم يدعو يعني عند الاستيقاظ بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "لا إله إلا أنت سبحانك ... وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب". قلت: فيه ما في الحديثين قبله وكأن المؤلف اغتر بقول النووي في "الأذكار ": "رويناه في "سنن أبي داود" بإسناد لم يضعفه عن عائشة". قلت: وقد بينا في المقدمة أنه لا يجوز أن يغتر بسكوت أبي داود على الحديث فراجعها وهذا الحديث من الشواهد على ذلك فإن فيه عبد الله بن الوليد وهو لين الحديث كما قال الحافظ في "التقريب" وعمدته في ذلك الدارقطني. فإنه قال: "لا يعتبر بحديثه" وضعفه وأما ابن حبان فوثقه فتوسط الحافظ بينهما فلينه فالعجب منه كيف حسنه في "النتائج" ق 24 / 1! وقوله: "ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ... ". قلت: هذا من أدعية الاستفتاح في صلاة الليل وقد صرحت بذلك رواية أبي عوانة في "صحيحه" وأبي داود لهذا الدعاء وهو من حديث ابن عباس. وقد جاء مطلقا في "الصحيحين" فأخذ به المصنف ههنا وأخذ برواية أبي داود المقيدة في "التوجه" 1 / 270 وهو الصواب لأن المقيد يقضي على المطلق كما تقرر

في علم الأصول فالأخذ به ههنا غير صواب فلعله ظن أنه حديث آخر! قوله في عدد ركعاته:" 1 فعن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي من الليل ما قل أو كثر. ونجعل آخر ذلك وترا. رواه الطبراني والبزار". قلت: نقله المؤلف عن "مجمع الزوائد" 2 / 252 وإن لم يشر إلى ذلك ولا أدري لم لم ينقل تمام كلامه عليه المبين لحاله وهو قوله: "وإسناده ضعيف "؟ أو نقله من "الترغيب" 1 / 217 وقد صدره بقوله: "روي" مشعرا بضعفه كما نص عليه في المقدمة وفي إسناد البزار والطبراني متهم بالوضع وضعفه البزار نفسه عقب الحديث. لكني وجدت له متابعا وطريقا أخرى لا يتقوى الحديث بها لوهائها وقد بينت ذلك في "الضعيفة" 5284. قوله:" 2 وروي عن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي تعدل بعشرة آلاف صلاة ... وأكثر من ذلك كله الركعتان يصليهما العبد في جوف الليل". رواه أبو الشيخ ابن حيان في "كتاب الثواب" وسكت عليه المنذري في الترغيب والترهيب ". قلت: كلا بل ضعفه بتصديره إياه بقوله: "روي" كما قد نص عليه في المقدمة ونقلت كلامه في ذلك في "المقدمة" فراجعه. وفي الحديث نفسه ما يدل على ضعفه فإن فيه أن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف والثابت في الأحاديث الصحيحة أنها بألف صلاة. ولذلك فالحديث منكر.

قوله:" 3 وعن إياس بن معاوية المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا بد من صلاة بليل ولو حلب شاة وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل". رواه الطبراني ورواته ثقات إلا محمد بن إسحاق". قلت: نقله المؤلف من "الترغيب" وفي كلامه إشارة إلى إعلال الحديث لأن ابن إسحاق مدلس فالظاهر أنه قد عنعنه فإن كان صرح بالتحديث فليس بعلة. لكن في الحديث علة أخرى وهي الإرسال فإن إياس بن معاوية ليس صحابيا بل هو من صغار التابعين توفي سنة 122 س فالحديث ضعيف بهذا اللفظ وهو بظاهره يفيد وجوب ما قل من صلاة الليل! ويغني عنه في الحض عليها حديث ابن عباس الذي يتلوه في الكتاب فقد قواه المنذري والهيثمي. ثم تأكدت مما استظهرته حين رأيت الحديث في "معجم الطبراني الكبير" 1 / 271 / 787 من طريق محمد بن إسحاق معنعنا. والله ولي التوفيق. وقد طبع هذا المجلد بهمة وتحقيق الأخ الشيخ حمدي السلفي جزاه الله سبحانه وتعالى خيرا. وأما حديثه الآخر رقم 5 فقد ضعفاه. وقد رواه أحمد أيضا في "الزهد" ص 16 بسند ضعيف كما بينته في "الضعيفة" 3912 وخرجت تحته حديث ابن عباس القوي من رواية أبي يعلى

قوله تحت رقم 5 -: "والأفضل المواظبة على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهو مخير بين أن يصلها وبين أن يقطعها قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ... رواه البخاري ومسلم. ورويا أيضا عن القاسم بن محمد قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة". قلت: وتمام حديث القاسم عنها عندهما: "ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة". فيؤخذ على المؤلف أمور: الأول: أنه خير بين الوصل والفصل وهو يفيد أن لا تفاضل بين الأمرين مع أنه فضل فيما سبق الفصل على الوصل في الصلاة النهارية بدليل: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" فهذا يلزمه نفس التفضيل فتأمل. مع أن ذكر النهار في الحديث شاذ لولا الطرق والشواهد التي سبق بيانها. الثاني: أنه لم يذكر الدليل على الثلاث عشرة ركعة وهو من حديث عائشة أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين. رواه البخاري 3 / 35 بشرح الفتح من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. وكذلك أخرجه أحمد 6 / 178 وفي رواية له 6 / 230: "ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها". وإسنادها على شرط الشيخين.

لكني أرى أن قوله: "ثلاث عشرة" خطأ من هشام لأنه قد خالفه الزهري عند مالك 1 / 141 ومن طريقه مسلم 2 / 165 وأبو عوانة 2 / 326 فقال: عن عروة ... "إحدى عشرة". وكذلك أخرجه البخاري 3 / 6 ومسلم وأبو عوانة من طرق أخرى عن الزهري به. وقد تابعه عمران بن ما لك ويأتي لفظه ومحمد بن جعفر بن الزبير عن عروة به. بل هو رواية عن هشام نفسه فقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام ابن عروة بن الزبير ومحمد بن جعفر بن الزبير كلاهما حدثني عن عروة بن الزبير عن عاثشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة بركعتين بعد الفجر قبل الصبح إحدى عشرة ركعة من الليل ست مثنى مثنى ويوتر بخمس لا يقعد فيهن. أخرجه أحمد 6 / 276 وسنده جيد. فهذه الرواية تدل على أن هشاما كان يضطرب في رواية الحديث فتارة يجعل ركعتي سنة الفجر زيادة على "الثلاث عشرة" وتارة يجعلهما منها وهذا هو الصواب لأمرين: الأول: أنه موافق لرواية الثقات الآخرين عن عروة. الثاني: أنه موافق للطرق الأخرى عن عائشة مثل رواية القاسم عنها فإنها صريحة بأنها ثلاث عشرة بركعتي الفجر وقد تقدمت ومثلها رواية أبي سلمة عنها بلفظ: "كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر". أخرجه مسلم 2 / 167.ونحوه رواية عمران عن عروة بلفظ: "كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر".

أخرجه مسلم 2 / 166 وأحمد 6 / 222. نعم قد يعارض هذا ما روى عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وعشر وثلاث ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ركعة ولا أنقص من سبع". أخرجه أحمد 6 / 149 وأبو داود 1 / 214 وسنده صحيح كما قال العراقي في "تخريج الإحياء". وجمع بين هذه الرواية والروايات المتقدمة عنها بأنها أخبرت فيها عن حالته صلى الله عليه وسلم المعتادة الغالبة وفي هذه الرواية أخبرت عن زيادة وقعت في بعض الأوقات أو ضمت فيها ما كان يفتتح به صلاته من ركعتين خفيفتين قبل الإحدى عشرة. قلت: ويؤيد هذا حديث زيد بن خالد الجهني قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة. أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما" وابن نصر في "قيام الليل" ص 48 وما بين القوسين ساقط من أبي عوانة والسياق له. قلت: ويحتمل أن تكون الضميمة ركعتي سنة العشاء البعدية أحيانا فإني لا أذكر حديثا صريحا ذكر فيه صلاته عليه السلام للعشاء ثم سنتها ثم الوتر بإحدى عشرة ركعة بله ثلاث عشرة ركعة بل وقفت على ما يؤيد هذا الاحتمال وهو ما روى شرحبيل بن سعد أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية حتى إذا كنا بالسقيا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجابر إلى جنبه فصلى العتمة ثم صلى ثلاث عشرة سجدة. رواه ابن نصر ورجاله ثقات إلا أن شرحبيل بن سعد كان اختلط بآخره. والله أعلم.

ومن قيام رمضان

ومن قيام رمضان قوله في عدد ركعاته: "وصح أن الناس كانوا يصلون على عهد عمر وعثمان وعلي عشرين ركعة". قلت: أما عن عثمان فلا أعلم أحدا روى ذلك عنه ولو بسند ضعيف وأما عمر وعلي فقد روي ذلك عنهما بأسانيد كلها معلولة كما فصلت القول في ذلك تفصيلا لا أعلم أني سبقت إليه في كتابي "صلاة التراويح" وبينت فيه أن الروايات الواردة في ذلك هي من النوع الذي لا يقوي بعضه بعضا وأنه لو صح شيء منها فإنما كان ذلك لعلة وقد زالت لأنه لم يبق في الأئمة من يطيل في القراءة تلك التي كان عليها السلف حتى يعدلوا عنها إلى تقصير القراءة وتكثير الركعات بدل التطويل وأنه لا إجماع على العشرين وأن الذي صح عن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد مطابق لسنته صلى الله عليه وسلم التي روتها عائشة في حديثها المذكور في الكتاب فقد روى مالك في "الموطأ" عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر". وأثبت فيه أن التزامه صلى الله عليه وسلم بإحدى عشرة ركعة طيلة حياته المباركة دليل قاطع على أن الصلاة في الليل ليس نفلا مطلقا كما يدعي الكثيرون وأنه لا فرق بين صلاة الليل من حيث إثبات كونها صلاة مقيدة وبين السنن الرواتب وصلاة الكسوف

ونحوها فإن هذه إنما ثبت كونها صلاة مقيدة بملازمته صلى الله عليه وسلم لها وليس بنهيه عن الزيادة عليها وأن التمسك بالأحاديث المطلقة أو العامة في الحض على الإكثار من الصلاة لا يجوز الزيادة على العدد الذي لم يجر عليه عمله صلى الله عليه وسلم كما حققته في "صلاة التراويح" في بحث هام دعمته ببعض النقول عن بعض الأئمة الفحول مؤداها أنه لا يجوز التمسك بالمطلقات التي جاءت مقيدة بعمله صلى الله عليه وسلم وقلت هناك: "وما مثل من يفعل ذلك إلا كمن يصلي صلاة يخالف بها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ... كما وكيفا محتجا بتلك المطلقات كمن يصلي مثلا سنة الظهر خمسا1 وسنة الفجر أربعا وكمن يصلى بركوعين وسجدات وفساد هذا لا يخفى على عاقل" ونقلت قبل هذا الكلام عن الفقيه الهيتمى أنه لا يجوز الزيادة والنقص في الوتر وسنة الظهر فراجع هذا وما لخصته لك في الكتاب المذكور فإنه مهم جدا. وبهذه المناسبة أقول: لقد ألف الشيخ إسماعيل الأنصاري رسالة في الرد على الكتاب المشار إليه لم يكن فيها مع الأسف عند حسن الظن به إنصافا وعلما فإنه مع تكلفه في الرد واحتجاجه بما يعلم هو أنه غير ثابت ومكابرته في رد الأدلة الكثيرة التي احتججت بها في عدم الزيادة على الإحدى عشرة ركعة ولم يتعرض لها بجواب مطلقا تسليكا منه لواقع الناس في صلاة التراويح وإرضاء منه للجمهور وغيرهم! فإنه زاد على ذلك أنه افترى علي ما لم أقل تماما كما يفعل أهل الأهواء والبدع

_ 1 سقطت من الطابع لفظة: "سنة" ففسره بعض المغرضين بأن المقصود فرض الظهر وبنى عليه ما أوحى إليه هواه من التهويل والتشهير وعطف سنة الفجر يؤكد السقط ولا سيما وسنة الظهر قد ذكرت قبل ذلك فيما نقلته عن الهيتمي كما ذكرت أعلاه.

مع أهل السنة! فلا بأس من ذكرها تنبيها وتحذيرا: أولا: ذكر ص 5 أنني أنكرت الزيادة المذكورة تقليدا للمباركفوري وهذه الفرية يغني حكايتها عن تكلف الرد عليها وإبطالها لأن القراء جميعا من الموافقين والمخالفين والمحبين والمبغضين يعلمون جميعا أنني لا أقلد أحدا في منهجي العلمي بل هو السبب في ثوران بعض الناس علي وفيهم بعض أهل العلم مع الأسف حسدا وبغيا. ثانيا: نسب إلي ص 15 أنني ضعفت يزيد بن خصيفة راوي عدد العشرين عن عمر وبناء عليه سود عدة صفحات من رسالته ليثبت لي - زعم - بأقوال الأئمة أنه ثقة وهو يعلم أنني غير مخالف لهم في ذلك فقد قلت في كتابي المذكور في صدد بيان وجوه ضعف العدد الذي رواه عن ابن عمر: "الأول: أن ابن خصيفة وإن كان ثقة فقد قال فيه الإمام أحمد في رواية عنه: منكر الحديث ... ". ثم أكدت كونه ثقة عندي في تمام كلامي المشار إليه فلا داعي لنقله فمن شاء رجع إليه ليتأكد من افتراء الشيخ علي. ثالثا: نسب إلي أيضا ص 22 أنني احتججت برواية عيسى بن جارية عن جابر مثل حديث عائشة في عدد ركعات التراويح والواقع في كتابي يكذبه فإني قلت فيه بالحرف الواحد: "وسنده حسن بما قبله"! ولقد حاولت في نفسي أن أبرئ الشيخ من هذه الفرية بأنه لا يفهم قيد "بما قبله" ولكني استعظمت أن اجزم بذلك خشية أن أقع أنا فيما وقع هو فيه!

فاعتبروا يا أولي الأبصار! رابعا: نسبني أيضا ص 41 إلى تجهيل السلف الصالح. وهذا في الواقع أعظم فرياته علي لأن سابقاتها تتعلق بعلمي ومن الممكن أن أخطئ في بعض جوانبه ويكون هو مصيبا فيما نسب إلي وإن كنت أثبت كذبه فيه وأما هذه الفرية فتتعلق بعقيدتي وديني وفهمي إياه على منهج السلف الصالح فأنا - والحمد لله - معروف بين الناس جميعا أنني سلفي أدعو إلى اتباع السلف الصالح لسانا وقلما ومن ذلك قولي في هذا الكتاب: "صلاة التراويح ": "لو ثبتت الزيادة على الإحدى عشرة ركعة عن أحد الخلفاء الراشدين أو غيرهم من فقهاء الصحابة لما وسعنا إلا القول بجوازها لعلمنا بفضلهم وفقههم وبعدهم عن الابتداع في الدين ... ". فإذا لم تثبت الزيادة بها عنهم عندي فتمسكت فقط بما ثبت عن نبيي صلى الله عليه وسلم أفيكون جزائي أن أتهم بتجهيل السلف؟! تالله إنها لإحدى الكبر: والله تعالى هو المستعان. فائدة: قال الإمام ابن خزيمة في "صحيحه" 2 / 194 بعد أن ذكر الأحاديث الصحيحة في عدد ركعاته صلى الله عليه وسلم في الليل من تسع إلى ثلاث عشرة ركعة: "وهذا الاختلاف من جنس المباح فجائز للمرء أن يصلي أي عدد أحب من الصلاة مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاهن وعلى الصفة التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها لا حظر على أحد في شيء منها". فقوله: "مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ... " واضح أنه لا يجيز الزيادة التي لم ترو

عن النبي صلى الله عليه وسلم ومما يؤيد ذلك من صنيعه أنه في أبواب قيام رمضان قال في أحدها 3 / 341: "باب ذكر عدد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان والدليل على أنه لم يكن يزيد في رمضان على عدد الركعات التي كان يصليها في غير رمضان". ثم ساق حديث عائشة بلفظين أحدهما: "كانت صلاته ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر".

ومن صلاة الضحى

ومن صلاة الضحى قوله بعد أن ذكر في فضلها حديث: "قال الله عز وجل: ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ": "رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن نعيم الغطفاني بسند جيد ولفظ الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ". قلت: هذا يوهم أن جميع المذكورين رووه عن نعيم وليس كذلك وإنما رواه عنه منهم أحمد وأبو داود وإسناده صحيح على شرط مسلم كما في "الإرواء" 462 وصححه ابن حبان 634. وأما الترمذي فأخرجه باللفظ الذي ذكره المؤلف من حديث أبي الدرداء وأبي ذر وإسناده حسن صحيح وهو مخرج في "الإرواء" 465. وأما النسائي فلم يخرج الحديث في "سننه الصغرى" المطبوعة فإذا كان العزو إليه صحيحا فلعله رواه في "سننه الكبرى" أو في "عمل اليوم والليلة" ثم تبين أنه ليس فيه بعد أن طبع فلم يبق إلا أنه في الكبرى وقد عزاه إليه المزي في "تحفة الأشراف" 9 / 34.

فتبين أن المؤلف اختصر تخريج الحديث اختصارا مخلا فأوهم أن له طريقا واحدا بينما له أكثر ويكثر من هذا النوع من الاختصار المخل مؤلف كتاب "التاج الجامع للأصول" والأمثلة عندي على ذلك كثيرة جدا وهذا الحديث منها حتى لأكاد أقول: إن المؤلف نقل تخريجه منه. قوله:" 4 وعن عبد الله بن عمرو قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... من توضأ ثم غدا إلى المسجد بسمته المضي فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة". رواه أحمد والطبراني وروى أبو يعلى نحوه". قلت: في هذا التخريج من الاختصار المخل نحو ما ذكرته آنفا فإن أبا يعلى إنما رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو أخرجه عن شيخه ابن أبي شيبة وهذا رواه في "المصنف" وسنده صحيح على شرط مسلم فكان من الواجب أن يضاف عقب قوله: نحوه: "من حديث أبي هريرة". وهو مخرج في "التعليق الرغيب" 1 / 235 وانظر "صحيح الترغيب" رقم 663 و664. قوله:" 6 وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال: "إني صليت صلاة رغبة ورهبة ... ". رواه أحمد والنسائي والحاكم وابن خزيمة وصححاه". قلت: فيه شيئان: الأول: أن الحديث ليس في "سنن النسائي الصغرى" وهي المقصودة عند إطلاق العزو للنسائي فكان الواجب تقييد العزو إليه ب "السنن الكبرى" فإنه أخرجه فيه كما في "تعجيل المنفعة" للحافظ أبن حجر وليس له وجود في النسخة المطبوعة في المغرب من "عمل اليوم والليلة" له.

الثاني: أن إسناده لا يصح وإن صححه من ذكرهما المؤلف لأن فيه الضحاك بن عبد الله القرشي وهو في عداد المجهولين كما يبدو لمن راجع ترجمته في "التعجيل" فلينظرها من شاء لكن الحديث صحيح لشواهده دون الركعات فانظر "الصحيحة" 1724. قوله في حكمها: "فعن أبي سعيد الخدري قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى حتى نقول: لا يدعها ويدعها حتى نقول: لا يصليها. رواه الترمذي وحسنه". قلت: لكن في سنده عطية العوفي وهو ضعيف لكثرة خطئه وتدليسه وهو مخرج في "الإرواء" 460. قوله في عدد ركعاتها: "وعن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين".رواه أبو داود بإسناد صحيح". قلت: كذا قال النووي في "المجموع" 3 / 39 وزاد: "على شرط البخاري" وتبعه على هذا الحافظ ابن حجر في "التلخيص" وهو من أوهامهما فإن في إسناده عياض بن عبد الله وهو الفهري المدني نزيل مصر قال الحافظ نفسه في "التقريب ": "فيه لين". ورمز له أنه من رجال مسلم دون البخاري وكذلك رمز له الذهبي في "الكاشف" وأشار إلى ضعفه بقوله: "وثق. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي". وكذا قال في كتابه "الضعفاء".

ومن طريقه أخرجه ابن خزيمة أيضا 1234 وإليه عزاه الحافظ في "الفتح" 3 / 53 وسكت عنه ولكنه دعمه بقوله: "وفي الطبراني من حديث ابن أبي أوفى أنه صلى الضحى ركعتين فسألته امرأته؟ فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين. وهو محمول على أنه رأى من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ورأت أم هانئ بقية الثمان وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة. والله أعلم". قلت: لكن في إسناد الطبراني الشعثاء قال الهيثمي 2 / 238: "ولم أجد من وثقها ولا جرحها". قلت: هي مجهولة. وقد أشار إلى ذلك الذهبي بقوله في "الميزان ": "تفرد عنها سلمة بن رجاء". وصرح بذلك الحافظ نفسه فقال في "التقريب ": "لا تعرف". فدعمه بحديثها لحديث أم هانئ واه. ومن طريقها أخرجه البزار أيضا 1 / 357 / 748 - كشف الأستار.

ومن صلاة الصبح

ومن صلاة الصبح ... ومن صلاة التسبيح قال بعد أن ساق حديثها: "قال الحافظ: وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة ... إلى قوله: وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي رحمهم الله". قلت: المصطلح عليه عند العلماء أنه إذا أطلق "الحافظ" فإنما المراد به أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله وعليه جرى المؤلف في غير ما موضع وليس هو المراد به ههنا بل الحافظ المنذري فإن الكلام المذكور هو كلامه في "الترغيب" 1 / 238 فكان على المؤلف أن يقيده به دفعا للإيهام وسيأتي له مخالفة أخرى من هذا النوع في أول "الزكاة" ص 357.

ومن صلاة الحاجة

ومن صلاة الحاجة قوله: روى أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتممهما أعطاه الله ما سأل معجلا أو مؤخرا". قلت: أنى له الصحة وفي سنده رجل مجهول؟! فإنه في "المسند" 6 / 442 - 443 من طريق ميمون أبي محمد المرائى المميمي قال ابن معين: "لا أعرفه". قال ابن عدي: "فعلى هذا يكون مجهولا". ولذلك قال الذهبي: "لا يعرف". وراجع إن شئت "الميزان" و "اللسان" و "مجمع الزوائد" 2 / 278.

ومن صلاة الكسوف

ومن صلاة الكسوف قوله: "اتفق العلماء على أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة في حق الرجال" والنساء". قلت: فيه أمران: الأول: دعوى الاتفاق منقوضة فقد قال أبو عوانة في "صحيحه" 2 / 398: "بيان وجوب صلاة الكسوف". ثم ساق بعض الأحاديث الصحيحة في الأمر بها كقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتموها فصلوا". وهو ظاهر صنيع ابن خزيمة في "صحيحه" فإنه قال فيه 2 / 308: "باب الأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر ... ". وذكر أيضا بعض الأحاديث في الأمر بها ومن المعلوم من أسلوب ابن خزيمة في "صحيحه" أنه حين يكون الأمر عنده لغير الوجوب يبين ذلك في أبواب كتابه فالمسألة فيها خلاف ولذلك قال الحافظ في "الفتح" 2/ 527: "فالجمهور على أنها سنة مؤكدة وصرح أبو عوانة في "صحيحه" بوجوبها ولم أره لغيره إلا ما حكي عن ما أنه أجراها مجرى الجمعة ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة". قلت: وهو الأرجح دليلا لما يأتي:

والآخر: أن القول السنية فقط فيه إهدار للأوامر الكثيرة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة دون أي صارف لها عن دلالتها الأصلية ألا وهو الوجوب. ومال إلى هذا الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 323 وأقره صديق خان في "الروضة الندية" وهو الحق إن شاء الله تعالى. والعجب من ابن حزم أنه لم يتعرض في كتابه "المحلى" لبيان حكم هذه الصلاة العظيمة وإنما تكلم فقط عن كيفية صلاتها بتفصيل بالغ ولعله جاء فيه بما لم يسبق إليه فشغله ذلك عن بيان مذهب في حكمها. قوله: "وذهب أبو حنيفة إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة لحديث النعمان بن بشير قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين ويسأل الله حتى تجلت الشمس. وفي حديث قبيصة الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة". رواه أحمد والنسائي". قلت: هذا المذهب غير صحيح لأن الحديث ليس بصحيح فإنه مضطرب كما يأتي ومخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في الباب وقد ذكر المؤلف منها اثنين فلا يلتفت إلى ما يعارضهما. وقد حققت القول في ذلك في كتاب "كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف" ألفته منذ سنين وقد جمعت فيه جميع أحاديث الكسوف التي وقفت عليها وتتبعت طرقها وألفاظها وبينت ما يصح منها وما لا يصح ثم ختمته بأن ذكرت خلاصة ما صح منها ممزوجا بعضها ببعض على نسق كتابي "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم" يسر الله لي تبييضه وطباعته. وقد حققت في جملة ما حققت فيه أن حديث النعمان وقبيصة هما حديث

واحد - خلافا لما يبدو من سياق المصنف لهما - اضطرب في روايته أبو قلابة فكان تارة يقول: عن النعمان بن بشير وتارة: عن قبيصة الهلالي وتارة: عن النعمان ابن بشير أو غيره وتارة: عن قبيصة الهلالي أو غيره. وقد اضطرب في متنه أيضا من ذلك قوله: "ركعتين ركعتين" زاد في رواية: "وشمال عنها". وفي أخرى: "ويسلم" بدل: "ويسأل عنها". انظر "إرواء الغليل" 3 / 131. ومن المقرر في علم مصطلح الحديث أن الاضطراب دليل على ضعف الحديث وعدم ضبط راويه له فكيف يصلح إذن أن يعارض به الأحاديث الصحيحة؟! قوله: "ويجوز الجهر بالقراءة والإسرار بها". قلت: المتقرر أن صلاة الكسوف إنما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وقد صح أنه جهر بها كما في البخاري ولم يثبت ما يعارضه ولو ثبت لكان مرجوحا فكيف إذن يسوي المؤلف بين ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الجهر وما لم يصح عنه من الإسرار؟ وقد سبق له مثل هذا القول في القنوت في النوازل فتذكره.

ومن صلاة الاستسقاء

ومن صلاة الاستسقاء قوله تحت رقم 1: "يجهر في الأولى بالفاتحة وسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بالغاشية بعد الفاتحة". قلت: أما الجهر فيها فصحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد المذكور في الكتاب وهو مخرج في "الإرواء" 3 / 133. وأما تعيين السورتين المذكورتين فلا يصح عنه صلى الله عليه وسلم لأن في سنده محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري وهو ضعيف جدا. انظر "تلخيص المستدرك" للذهبي و "نصب الراية" للزيلعي و "إرواء الغليل" 3 / 134 و "الضعيفة" 5631. فالصواب أن يقرأ ما تيسر لا يلتزم سورة معينة. ثم قوله: "فإذا انتهى من الخطبة حول المصلون جميعا أرديتهم ... رافعي أيديهم مبالغين في ذلك". قلت: في هذا الكلام مسألتان لم يذكر المؤلف دليلهما: الأولى: تحويل المصلين أرديتهم. الثانية: رفعهم الأيدي. والدليل على الأولى حديث عبد الله بن زيد قال: قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسالة قال: ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن وتحول الناس معه أخرجه أحمد بسند قوي لكن ذكر تحول الناس معه شاذ كما حققته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 5629. والدليل على الثانية حديث أنس الآتي في الكتاب برقم 2 فقد قال في

رواية: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ورفع الناس أيديهم يدعون. أخرجه البخاري تعليقا ووصله البيهقي وغيره وليس فيه أنهم بالغوا في رفع الأيدي وإنما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده كما في حديث عائشة في الكتاب وحديث أنس في "الصحيحين" فأرى مشروعية المبالغة في الرفع للإمام دون المؤتمين. قوله تحت رقم 1: " ... عن عمر بن عبد الله بن زيد المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما ... الحديث. أخرجه الجماعة". قلت: في هذا التخريج مسامحة فإن الجهر بالقراءة في الحديث لم يخرجه مسلم وقد صرح بذلك الزيلعي في "نصب الراية" 2 / 239 وكذلك لم يخرجه ابن ماجه. انظر "الإرواء" 664. قوله تحت رقم 3: "لما رواه ابن ماجه وأبو عوانة أن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فحمد الله ثم قال: "اللهم اسقنا غيثا مريئا طبقا غدقا عاجلا غير رائث" ثم نزل ... رواه ابن ماجه وأبو عوانة ورجاله ثقات وسكت عليه الحافظ في التلخيص". قلت: رجاله ثقات كما قال ولكن لا يلزم منه صحة الإسناد لما ذكرناه في "المقدمة" فإن فيه علة تقدح في صحته وهي أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس وحبيب هذا كثير التدليس كما قال الحافظ في "التقريب" والمدلس لا يحتج بحديثه إذا عنعنه كما بيناه في المقدمة أيضا فمن صحح هذا

الحديث فقد ذهل عن علته واغتر بظاهر إسناده فتنبه. قوله تحت الأدعية الواردة في الاستسقاء:" 1 قال الشافعي: وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا ... اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا". قلت: الذي في كتاب "الأم" 1 / 222: "وروى سالم ... بحذف: عن " والمؤلف أثبته تبعا لابن القيم في "الزاد" والإسناد منقطع كما ترى ولم أجد من وصله لينظر فيه. قوله تحت رقم 3: "ويقول: إذا زادت المياه وخيف من كثرة المطر: "اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا لا علينا". فكل ذلك صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أما الدعاء الأول فغير صحيح لأن الشافعي رواه عن إبراهيم بن محمد بسنده عن المطلب بن حنطب مرسلا. أخرجه البيهقي 3 / 356 وقال: "هذا مرسل". وبهذا أعله في "المنتقى" وتبعه شارحه الشوكاني 4 / 9 وهو إعلال قاصر جدا لأن إبراهيم بن محمد - وهو ابن أبي يحيى الأسلمي المدني - متروك متهم بالكذب ولعله لذلك لم يذكره أحد ممن جمع في الأذكار والأوراد كالنووي والجزري وابن القيم وغيرهم. وأما ما بعده فهو في "الصحيحين" من حديث أنس المذكور في الكتاب وهو مخرج في "الإرواء" 2 / 144 - 145 قلت فيه:

" ... من طرق كثيرة عن أنس" وما ذاك إلا لأن شريكا الذي ذكره المؤلف من طريقه فيه ضعف من قبل حفظه أشار إلى ذلك الحافظ في "التقريب" بقوله: "صدوق يخطئ". وهو شريك بن عبد الله بن أبي نمير المدني وهو غير شريك بن عبد الله النخعي الكوفي وهو مثله في الضعف أو أشد. ولذلك فإني آخذ على المؤلف أنه سماه في تخريجه للحديث لأنه يوهم من لا علم عنده بطرق الحديث أن فيه ضعفا من أجل شريك هذا فتأمل.

ومن سجود التلاوة

ومن سجود التلاوة قوله: "عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا. رواه أبو داود والبيهقي والحكم وقال: صحيح على شرط الشيخين". قلت: فيه ملاحظتان: الأولى: أن الحديث ضعيف لأن في سنده عند أبي داود - وعنه رواه البيهقي - عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف كما قال الحافظ في "التلخيص" ولذلك قال في "بلوغ المرام": "سنده فيه لين". وقال النووي في "المجموع": "إسناده ضعيف". وقد روى جمع من الصحابة سجوده صلى الله عليه وسلم للتلاوة في كثير من الآيات في مناسبات مختلفة فلم يذكر أحد منهم تكبيره عليه السلام للسجود ولذلك نميل إلى عدم مشروعية هذا التكبير. وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

الثانية: أن الحاكم ليس في روايته: "كبر" وهو موضع الشاهد من الحديث وهو إنما رواه من طريق عبيد الله بن عمر العمري وهو المصغر وهو ثقة بخلاف أخيه عبد الله المكبر فهو ضعيف كما تقدم. والحديث في "الصحيحين" أيضا وغيرهما من طريق عبيد الله المصغر لا المكبر فهو من أدلة ضعفه وانظر "الإرواء" 471 و472. وقوله: "وقال عبد الله بن مسعود: إذا قرأت سجدة فكبر واسجد وإذا رفعت رأسك فكبر". كذا ذكره دون أن يعزوه لأحد وما وجدت من عزاه لابن مسعود وإنما علقه البيهقي 2 / 325 لغيره فقال: ويذكر عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري أنه قال: فذكره. والربيع هذا قال الحافظ: "صدوق سيئ الحفظ". وقد وجدت له أصلا عن ابن مسعود من فعله. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2 / 2 من طريق عطاء بن السائب قال: كنا نقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ونحن نمشي فإذا مر بالسجدة كبر وأومأ وسلم وزعم أن ابن مسعود كان يصنع ذلك. لكن عطاء بن السائب كان اختلط. وروي عن أبي الأشهب والحسن أنهما قالا: "إذا قرأ الرجل السجدة فليكبر إذا رفع رأسه وإذا سجد". ورجاله ثقات لكن فيه هشيم عن مغيرة وهما مدلسان.

وأخرج عن أبي قلابة وابن سيرين أنهما قالا: "إذا قرأ الرجل السجدة في غير الصلاة قال: الله أكبر". قلت: وإسناده صحيح ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 3 / 349 / 5930 بإسناد آخر صحيح عنهما نحوه. ثم روى التكبير عند سجود التلاوة هو والبيهقي عن مسلم بن يسار. وإسناده صحيح. قوله: "مواضع السجود في القرآن خمسة عشر موضعا فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان. رواه أبو داود و ... و ... و ... وحسنه المنذري والنووي". قلت: كلا ليس بحسن لأن فيه مجهولين فقد قال الحافظ في "التلخيص" بعد أن نقل تحسين المنذري والنووي للحديث: "وضعفه عبد الحق وابن قطان وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي وهو لا يعرف أيضا. وقال ابن ماكولا: ليس له غير هذا الحديث". ولذلك اختار الطحاوي أن ليس في الحج سجدة ثانية قرب آخرها وهو مذهب ابن حزم في "المحلى" قال: "لأنه لم يصح فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع عليها وصح عن عمر ابن الخطاب وابنه عبد الله وأبي الدرداء السجود فيها". ثم ذهب ابن حزم إلى مشروعية السجود في السجدات الأخرى المذكورة في

الكتاب وذكر أن العشر الأولى متفق على مشروعية السجود فيها عند العلماء. وكذلك حكى الاتفاق عليها الطحاوي في "شرح المعاني" 1 / 211 إلا أنه جعل سجدة فصلت بدل سجدة ص. ثم أخرجا كلاهما بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد في ص والنجم والانشقاق واقرأ. وهذه الثلاث الأخيرة من المفصل التي أشير إليها في حديث عمرو هذا. وبالجملة فالحديث مع ضعف إسناده قد شهد له اتفاق الأمة على العمل بغالبه ومجيء الأحاديث الصحيحة شاهدة لبقيته إلا سجدة الحج الثانية فلم يوجد ما يشهد لها من السنة والاتفاق إلا أن عمل بعض الصحابة على السجود فيها قد يستأنس بذلك على مشروعيتها ولا سيما ولا يعرف لهم مخالف. والله أعلم. قوله فيما يشترط له: "وأما ما رواه البيهقي عنه يعني ابن عمر بإسناد قال في "الفتح ": إنه صحيح أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر فيجمع ... ". قلت: في سنده عند البيهقي 2 / 325 أبو سهل بشر بن أحمد: ثنا داود ابن الحسين البيهقي ولم أجد لداود ترجمة فيما وقفت عليه من كتب التراجم فلعله في بعض الكتب التي لم تصل إلينا. نعم قد جاء ذكره في إسنادين ساقهما الجرجاني في "تاريخ جرجان" ص 355 و503 - طبع بيروت ثم طبع "سير أعلام النبلاء" للذهبي فوجدته قد أورده فيه 13 / 579 وقال فيه: "المحدث الإمام الثقة مسند نيسابور ... توفي سنة 273". وهذا الأثر لم يصححه الذهبي في "المهذب" مختصر سنن البيهقي وإنما سكت عليه فالله أعلم.

قوله في السجود في الصلاة: "وروى الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ تنزيل السجدة". قلت: هذا الحديث غير صحيح وإن صححه الحاكم ووافقه الذهبي وتبعه الحافظ في "الفتح" والقسطلاني والزرقاني والسبب في هذا أنهم نظروا إلى ظاهر إسناده فصححوه فقد رواه الحاكم من طريق يحيى بن سعيد عن سليمان التيمي عن أبي مجلز - عن ابن عمر. فهذا إسناد صحيح في الظاهر لكنه منقطع بين ذلك غير يحيى بن سعيد فقال يزيد بن هارون: أنبأ سليمان التيمي عن أبي مجلز - قال: ولم أسمعه من أبي مجلز - عن ابن عمر. أخرجه البيهقي وأحمد وأبو داود والطحاوي. وقد بين معتمر بن سليمان أن الواسطة بين سليمان التيمي وأبي مجلز رجل مجهول فقال معتمر: عن أبيه عن رجل يقال له: أمية عن ابن عمر. أخرجه البيهقي وأبو داود. وأمية هذا مجهول اتفاقا فعاد الحديث إلى أنه عن مجهول ولا حجة في رواية المجهول عند المحدثين. وقد تنبه الحافظ لهذه العلة في كتابه "التلخيص" فقال بعد أن ذكر الحديث من طريق أمية: "لكنه عند الحاكم بإسقاطه ودلت رواية الطحاوي على أنه يعني سليمان التيمي مدلس". قلت: ولهذا لم يأخذ الإمام أحمد بالحديث فقال أبو داود في "مسائله"

ص 38: "سمعت أحمد وسئل عن الإمام يقرأ في الظهر السجدة؟ فقال: لا فذكر له حديث ابن عمر فقال: لم يشمعه سليمان عن أبي مجلز وقال: بعضهم لا يقول فيه عن ابن عمر". وهذه علة ثانية قد أشار إليها الإمام أحمد رحمه الله وهي الإرسال. وجملة القول أن الحديث غير صحيح فلا يجوز الاستدلال به على جواز السجود في السرية. فالحق ما ذهب إليه أبو حنيفة من الكراهة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد المذكور آنفا.

ومن سجود السهو

ومن سجود السهو قوله في صدد بيان المواطن التي يشرع فيها السجود:" 3 عند نسيان التشهد الأول أو نسيان سنة من سنن الصلاة لما رواه الجماعة عن ابن بحينة أن النبي في صلى الله عليه وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم". قلت: لم يذكر الدليل على مشروعية السجود لنسيان سنة من سنن الصلاة وإلحاق هذه السنن بالتشهد الأول في هذا الحكم لا يسوغ لأمرين: الأول: أن التشهد مختلف في وجوبه كما سبق بيانه في محله من التشهد فلا يجوز أن يلحق به ما هو متفق على سنيته دون وجوبه. الثاني: أن الصواب فيه أنه واجب لأنه أمر به المسئ صلاته فقال صلى الله عليه وسلم له: "فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد". أخرجه أبو داود بسند حسن.

فثبت أنه لا يجوز الإلحاق المذكور فلا بد إذن من دليل آخر لمشروعية السجود في السنن وقد استدل له صديق خان في "الروضة" بحديث: "لكل سهو سجدتان" وهو حديث حسن عندي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما. ثم ذهب إلى أنه لا فرق في المشروعية بين المسنون والمندوب فراجعه 1 / 129 - 130 وسبقه إلى ذلك الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 274 – 275.لكنه صرح بالتفريق بين السجود لترك واجب فيجب وترك سنة فيسن فراجعه فإنه مهم. قوله بعد أن ذكر حديثين في بناء الشاك على اليقين: "وفي هذين الحديثين دليل لما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا شك المصلي في عدد الركعات بنى على الأقل المتيقن له ثم يسجد للسهو". قلت: لكن قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الحديثين المشار إليهما ليسا على إطلاقهما بل هما مقيدان بمن لم يغلب على رأيه شيء فهذا هو الذي يبني على الأقل وأما من ظهر له الصواب ولو كان الأكثر فإنه يأخذ به ويبني عليه وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب في رواية: فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب. وفي أخرى: فلينظر الذي يرى أنه الصواب. وفي أخرى: فليتحر أقرب ذلك من الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين". أخرجه الشيخان وأبو عوانة في "صحاحهم" والرواية الثانية والثالثة لهم إلا البخاري والرابعة للنسائي وهو عندهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقد سلم النووي رحمه الله بأن الحديث ظاهر الدلالة على الأخذ بغالب الظن وعدم الاقتصار على الأقل كما هو مذهب أبي حنيفة. ولكن النووي رحمه

الله تأول الحديث وأخرجه عن ظاهره حتى يتفق مع مذهبه فحمل قوله فيه: "فليتحر" على الأخذ باليقين الذي هو الأقل ولا يخفى على المنصف بعد هذا التأويل بل بطلانه إذا أمعن النظر في الروايات التي ذكرتها للحديث مثل قوله: "فلينظر الذي يرى أنه الصواب" فإنه كالصريح في الأخذ بما يغلب على رأيه ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد: "فلم يدر كم صلى" فإن مفهومه أن من تحرى الصواب بعد الشك حتى درى كم صلى - أنه ليس له أن يبني على الأقل بل حكم هذه المسألة مسكوت عنه في هذا الحديث وقد تولى بيانه حديث ابن مسعود حيث أمر صلى الله عليه وسلم فيه بالأخذ بما يظن أنه أقرب إلى الصواب سواء كان الأقل أو الأكثر ثم يسجد بعد التسليم سجدتين. وأما في حالة الحيرة وعدم الدراية فإنه يبني على الأقل ويسجد قبل التسليم وفي هذا إشارة إلى اختلاف ما في الحديثين من الفقه فتأمل. وبعد فإن هذه المسألة تحتاج إلى كثير من البسط والشرح والتحقيق والمجال لا يتسع لذلك ولعل ما ذكرته ههنا يكفي في بيان ما أردته من إثبات وجوب الأخذ بالظن الغالب إذا وجد وهو خلاصة رسالة كنت ألفتها في هذه المسألة رددت فيها على النووي بتفصيل وبينت فيها معنى الشك المذكور في حديث أبي سعيد ومعنى التحري الوارد في حديث ابن مسعود وقد أوردت فيها من الفوائد ما لا يكاد يوجد في كتاب منها أن راوي حديث البناء على الأقل أبو سعيد رضى الله عنه كان يفتى بالأخذ بالتحري ويرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت ذلك من الأدلة الكثيرة على صواب ما ذهب إليه الحنفية ولكنه لم يفتني أن أنبه على أن ما ذهبوا إليه من إبطال صلاة من عرض له الشك لأول مرة باطل وأن الصواب دخوله في عموم الحكم وغيرها من الفوائد التي وفقني الله تعالى إليها وله الحمد والمنة.

ومن صلاة الجماعة

ومن صلاة الجماعة قوله: "صلاة الجماعة سنة مؤكدة". قلت: لقد تساهل المؤلف في هذا الحكم فإن معنى كونها سنة مؤكدة عند الفقهاء أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها فكيف يصح هذا في حق المتخلفين عن صلاة الجماعة وقد هم صلى الله عليه وسلم بحرق بيوتهم عليهم كما في الحديث الرابع في الكتاب. وقد قال ابن القيم: "ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر". بل كيف يصح هذا مع قوله في صلى الله عليه وسلم للأعمى: "أجب" مع أنه فوق كونه أعمى ليس له قائد يقوده إلى المسجد كما في الحديث الثالث بل وفي طريقه الأشجار والأحجار كما في بعض الروايات الصحيحة في الحديث فهل هناك حكم اجتمع فيه مثل هذه القرائن المؤكدة للوجوب ومع ذلك يقال: هو ليس بواجب؟! وكذلك قوله في الحديث السادس: " ... إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ... " فهو من الأدلة على وجوبها إذ إن من ترك سنة بل السنن كلها مع المحافظة على الواجبات لا يقال فيه: "استحوذ عليه الشيطان" كما يشير إلى ذلك حديث الأعرابي: "دخل الجنة إن صدق" وهذا بين لا يخفى. ويغلب على ظني أن المؤلف حين كتب هذه المسألة كان متأثرا بما قرأه في "نيل الأوطار" للشوكاني في هذا البحث فإنه عفا الله عني وعنه قد أجاب عن الأحاديث المقيدة للوجوب بأجوبة تصرفها إلى الندب في زعمه ولكن من يمعن النظر في تلك الأجوبة يعلم ضعفها وتكلفها ولا سيما والشوكاني لم يتعرض للإجابة عن كل أدلة الوجوب التي منها الحديث السادس ومنها حديث: "من

سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر" وقد أورده المؤلف في الجمعة وعلقت عليه هناك بما فيه كفاية بل سلم في "أبواب الأذان" أنه دليل على وجوب الأذان والإقامة قال: "لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه". قلت: رواية أبي داود تدل على أن المراد بقوله: "لا تقام فيهم الصلاة" أي: صلاة الجماعة والشوكاني فهم من الحديث ما ذكرناه عنه لرواية أحمد له بلفظ: "ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة ... " وأنا لا أفهم منه إلا الجماعة ولو سلمنا أن المراد الإعلام عنها ب "الله أكبر الله أكبر ... الخ" فنقول للشوكاني: إذا سلمت بأن الحديث دليل على وجوب الأذان والإقامة فهو دليل على وجوب الجماعة من باب أولى لأن الأذان والإقامة بالنسبة للجماعة كالوسيلة مع الغاية فإذا وجبت الوسيلة فمن باب أولى أن تجب الغاية فتأمل. ومن أدلة الوجوب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ... } الآية. وذلك من وجهين: أحدهما: أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في حال الخوف وذلك دليل على وجوبها حال الخوف وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن. الثاني: أنه سن صلاة الخوف جماعة وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر كاستدبار القبلة والعمل الكثير فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور وكذلك التخلف عن متابعة الإمام كما يتخلف الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم. وهذه الأمور مما تبطل الصلاة بها لو فعلت لغير عذر فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد

التزم فعل محظور مبطل للصلاة وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب! مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة. ذكر هذا الدليل في أدلة أخرى من الكتاب والسنة شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" 2 / 363 - 369 فمن شاء الزيادة من الإيضاح فليرجع إليها وإلى "المسائل الماردينية" ص 90 – 92. واعلم أنه لا ينافي القول بالوجوب ما تفيده بعض الأحاديث من صحة صلاة المنفرد مثل الحديث الأول والثاني في الكتاب إذ أفادا أن صلاة المنفرد صحيحة حيث جعلا له درجة واحدة لأن هذا لا ينافي الوجوب الذي من طبيعته أن يكون أجره مضاعفا على أجر ما ليس بواجب. كما هو واضح. ثم قال السيد سابق في تعليقه على قوله السابق: "هذا في الفرض وأما الجماعة في النفل فهي مباحة سواء قل الجمع أو كثر ... ". قلت: لكن عامة تنفله صلى الله عليه وسلم إنما كان يصليها منفردا ولذلك أرى أنه لا بد من تقييد الإباحة المذكورة ببعض الأحيان وإلا فاعتياد الاجتماع في النفل بدعة مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم الغالب كما حققه شيخ الإسلام في "الفتاوى" 2 / 2 – 3. قوله تحت عنوان: انعقاد الجماعة بواحد مع الإمام بعد أن ساق حديث من يتصدق على هذا فيصلي معه: "وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلي فيه". قلت: الحديث أخص من الدعوى وقد سبق بيان ذلك فيما قدمناه من التعليق في "الأذان" ص "157 " وذكرت هناك نص كلام الشافعي في كراهة الجماعة الثانية فراجعه.

قوله تحت عنوان: الأحق بالإمامة:" 2 وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ... ". قلت: الصواب: "أبي مسعود" واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري البدري فالحديث من مسنده عند جميع من خرجه. وقوله أيضا: "فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الأخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم". رواه أبو داود". قلت: إسناده ضعيف مضطرب فقيل فيه: "عن أبي هريرة" وقيل: "عن ثوبان". وقد ذكره المؤلف من حديثه فيما سيأتي متوهما أنه حديث آخر وسنشير إلى هذا هناك. ثم إن في السند رجلا في عداد المجهولين وقد بينت ذلك كله في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 12 13. وقد حكم ابن خزيمة على الشطر الثاني من الحديث بالوضع وأقره ابن تيمية وابن القيم وذلك لأن عامة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة - وهو الإمام - بصيغة الإفراد وقد سبق بعضها في الكتاب 1 / 321 فكيف يصح أن يكون ذلك خيانة لمن أمهم؟! وأما الشطر الأول منه فقد جاء معناه في أحاديث أخرى صحح بعضها ابن خزيمة نفسه في "صحيحه" 3 / 11 وأوردها المنذري في "الترغيب" 1 / 175 - 171 ويأتي بعضها في الكتاب. وقد وجدت تصريحه بتضعيف الشطر الثاني منه في الباب 128 3 / 63 وذكر تحته حديث السكتة المتقدم عند المؤلف 1 / 266 ثم أشار إلى حديث علي المتقدم هناك بعده ثم قال ابن خزيمة:

"وهذا باب طويل قد خرجته في كتاب الكبير". قلت: فالظاهر أن الوضع الذي عزاه ابن القيم إليه إنما ذكره في كتابه هذا "الكبير" وهو أصل "صحيح ابن خزيمة" كما يشتسعر بذلك قوله هذا وغيره في غير موضع من "صحيحه". وقد فات هذا الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على "زاد المعاد" 1 / 264 فقال: "لم نجد كلام ابن خزيمة هذا في "صحيحه" عقب الحديث الذي ذكره المصنف فلعله في مكان آخر فإن ثبت عنه فإنه مما جانبه فيه الصواب فإن سند الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن كما يعلم من كتب الجرح والتعديل"! قلت: الإحالة في التعرف على رتبة الحديث على الكتب المشار إليها أمر عجيب غريب لا يصدر إلا ممن لا معرفة له بهذا العلم الشريف فإنه من المتفق عليه بين العارفين به أنه لا بد مع ذلك من الرجوع إلى قواعد "مصطلح الحديث" التي تمكن الباحث من كشف العلل التي لا تعرف عادة من كتب الرجال ومنها الاضطراب الذي هو من أقسام الحديث الضعيف وقد يكون راويه ثقة فكيف إذا كان غير مشهور بالحفظ والعدالة كما هو الحال في راوي هذا الحديث؟! ثم رأيت الرجل كأنه كتب ما تقدم وهو غافل أيضا عما كتبه في تعليقه على "شرح السنة" 3 / 130 فإنه قال في قول الترمذي في حديث ثوبان: "حديث حسن": "وهو كما قال إن شاء الله تعالى فإن له شواهد تقويه دون قوله: "ولا يؤم قوما فيخص نفسه بالدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم". فهذا هو الصواب أن هذه الزيادة لا تصح بل هي منكرة لمخالفتها

لأدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يدعو بها في الصلاة وهو إمامهم وتقدم بعضها وانظر بقيتها في "مجموع فتاوى ابن تيمية" 23 / 116 – 119. قوله فيمن لا تصح إمامتهم: "لا تصح إمامة معذور لصحيح ولا لمعذور مبتلى بغير عذر عند جمهور العلماء وقالت المالكية: تصح إمامته للصحيح مع الكراهة". قلت: لا وجه للكراهة بله عدم الصحة إذا توفرت فيه شروط الأحق بالإمامة ولا نرى فرقا بينه وبين الأعمى الذي لا يمكنه الاحتراز من البول احتراز البصير والقاعد العاجز عن القيام وهو ركن لأن كلا منهما قد فعل ما يستطيع و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وللإمام الشوكاني بحث هام في صحة الصلاة وراء المسلم الفاسق والصبي غير البالغ وناقص الصلاة والطهارة وغيرهم فراجعه في كتابه "السيل الجرار" 1 / 247 - 255 فإنه نفيس جدا. قوله تحت عنوان: استحباب انحراف الإمام ... : "وعند أحمد والبخاري عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرا قبل أن يقوم قالت: فنرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال". قلت: كذا وقع فيه: "قالت" أي أم سلمة وكذلك وقع في "منتقى الأخبار" 2 / 265 - بشرح الشوكاني ومنه نقله المؤلف وهو خطأ والصواب: "قال".كذا هو عند البخاري في هذه الرواية 2 / 350 / 870 وهي من طريق إبراهيم ابن سعد عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة. ومن هذا الوجه رواه أحمد 6 / 296 دون قوله: "قال ... " الخ. وكذا

رواه النسائي 1 / 196 ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" 4 / 261 وهو رواية للبخاري 866 وأبي يعلى 4 / 1644. ورواه بتمامه الطيالسي في "مسنده" 1604 ومن طريقه ابن خزيمة في "صحيحه" 1719 وصرح بالقائل فقال: "قال الزهري ... ". وكذا رواه أبو يعلى في "مسنده" 4 / 1669 والبغوي في "شرح السنة" 3 / 708 وهو رواية للبخاري 837 و849 وأدرجه معمر عن الزهري عند عبد الرزاق في "المصنف" 2 / 245 وعنه أحمد 6 / 310 وكذا أبو داود في "سننه" 955 - صحيحه والبيهقي 2 / 183 وهو من أوهام عبد الرزاق أو شيخه معمر. وبالجملة فهذه الزيادة ليست من قول أم سلمة رضي الله عنها وإنما هي من قول الزهري ظنا منه رحمه الله. ثم إن قوله في رواية الكتاب: "وهو يمكث" مما انقلب على صاحب "المنتقى" وانطلى أمره على الشوكاني وقلده المؤلف والصواب: "ويمكث هو" كما في رواية البخاري الأولى وليس في رواية أحمد المختصرة قوله: "هو". قوله تحت عنوان: علو الإمام أو المأموم: - "فعن أبي مسعود الأنصاري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه يعني أسفل. رواه الدارقطني وسكت عنه الحافظ في التلخيص". قلت: وإسناده حسن وورد بسند صحيح عند أبي داود وغيره وهو الذي في كتاب المؤلف عقب هذا وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 610 وانظر "المشكاة" 1112. قوله بعد أن ذكر بعض الآثار في الصلاة على ظهر المسجد وخارجه مقتديا بالإمام: "الأصل الجواز حتى يقوم دليل المنع". نقله عن الشوكاني.

وأقول: يقابل هذه الآثار آثار أخرى عن عمر والشعبي وإبراهيم عند ابن أبي شيبة 2 / 223 وعبد الرزاق 3 / 81 - 82: أنه ليس له ذلك إذا كان بينه وبين الإمام طريق ونحوه. ولعل ما في الآثار الأولى محمول على العذر كامتلاء المسجد كما قال هشام بن عروة: "جئت أنا وأبي مرة فوجدنا المسجد قد امتلأ فصلينا بصلاة الإمام في دار عند المسجد بينهما طريق". رواه عبد الرزاق 3 / 82 بسند صحيح عنه وليس بخاف على الفقيه أن إطلاق القول بالجواز ينافي الأحاديث الآمرة بوصل الصفوف وسد الفرج فلا بد من التزامها والعمل بها إلا لعذر ولهذا قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" 23 / 410: "ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد ومن فعل ذلك استحق التأديب ولمن جاء بعده تخطيه ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة فإن هذا لا حرمة له. قال: فإن امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم. وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فإنه لا تصح صلاتهم في الأظهر وكذلك من صلى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول فالأول".

قوله تحت عنوان: اقتداء المأموم بالإمام ... : "وقد تقدم حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون به من وراء الحجرة يصلون بصلاته". قلت: يشير إلى حديث عائشة المتقدم عنده في أول "قيام رمضان" لكن ليس فيه ذكر "الحجرة" وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1243 وإنما ذلك في رواية للبخاري. وإن مما ينبغي التنبيه عليه أنه ليس المقصود من لفظ "الحجرة" ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة وهو بيته صلى الله عليه وسلم وإنما الحصير الذي كان صلى الله عليه وسلم يحتجره بالليل في المسجد كما أفاده الحافظ استنادا إلى بعض الروايات في هذا الحديث فانظر كتابي "مختصر صحيح البخاري" رقم 398 والتعليق عليه. وتحت عنوان: من أم قوما يكرهونه ذكر حديث: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا ورجل اعتبد محرره" رواه أبو داود وابن ماجه. قلت: هذا إسناده ضعيف فيه مجهول وآخر ضيف كما تراه مبينا في "المشكاة" 1123 و "ضعيف أبي داود" 92 لكن الفقرة الأولى منه صحيحة لها شواهد عدة خرجتها في "صحيح أبي داود" 607 منها حديث ابن عباس الذي هو في الكتاب قبله.

ومن الإمام والمأموم

ومن الإمام والمأموم ... ومن موقف الإمام والمأموم قوله تحت رقم 2: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل". رواه أبو داود". قلت: وإسناده ضعيف فيه مجهولان وضعفه عبد الحق الإشبيلي وللشطر الثاني شاهد من حديث ابن عمر انظره إن شئت في "الترغيب" 1 / 173 ثم خرجته في "صحيح أبي داود" 672 والأول في "ضعيف أبي داود" 106. ثم قال: "وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون ... رواه أحمد وأبو داود". قلت: عزوه لأبي داود خطأ إذ لم يروه في "سننه" والمؤلف إنما نقل أحاديث هذا الفصل من "المنتقى" وقد قال في تخريجه: "رواه أحمد وابن ماجه". وهذا هو الصواب وإسناد الحديث صحيح. قوله:" 3 موقف الصبيان والنساء من الرجال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان. رواه أحمد وأبو داود". قلت: وإسنادهما ضعيف فيه شهر وهو ضعيف كما سبق غير مرة. وفي صف النساء لوحدهم وراء الرجال أحاديث صحيحة وأما جعل الصبيان وراءهم فلم أجد فيه سوى هذا الحديث ولا تقوم به حجة فلا أرى بأسا من وقوف الصبيان مع الرجال إذا كان في الصف متسع وصلاة اليتيم مع أنس وراءه صلى الله عليه وسلم حجة في ذلك.

قال تحت رقم 4 - في التعليق تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد": "قيل: لا تعد في تأخير المجيء إلى الصلاة وقيل: لا تعد إلى دخولك في الصف وأنت راكع وقيل: لا تعد إلى الإتيان إلى الصلاة مسرعا". قلت: أقرب هذه الأقوال إلى الصواب القول الأخير لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ولا تأتوها وأنتم تسعون فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". متفق عليه. وأما القول الذي قبله فلا يصح ما يؤيده بل هو مخالف لحديث عطاء بن أبي يسار أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعا حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة قال عطاء: وقد رأيته هو يفعل ذلك. أخرجه ابن خزيمة 1571 والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا على ما بينته في "الصحيحة" 229 وجرى عليه عمل السلف كأبي بكر وزيد بن ثابت وابن مسعود وقد خرجت آثارهم في ذلك هناك. وأما الحديث المخالف له فهو ضعيف وله علة خفية بينتها في "الضعيفة" 977 ولهذا لم يأخذ به الإمام أحمد بل أخذ بحديث ابن الزبير كما يأتي قريبا. قوله تحت رقم 4 -: "قال ابن الهمام: وحمل أئمتنا حديث وابصة على الندب وحديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا حديث أبي بكرة إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها". قلت: لا تعارض بين الحديثين من جهة وحديث أبي بكرة من جهة أخرى

لأن أبا بكرة لم يصل في الصف وحده فلم يأمره بالإعادة والرجل المذكور في الحديثين صلى وراء الصف وحده فأمره بالإعادة فلا معارضة وبهذا جمع الإمام أحمد رحمه الله فقال أبو داود في "مسائله" ص 35: "سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف؟ قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة". قوله تحت رقم 5 -: "وعن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصفوف ... فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". رواه الخمسة وصححه الترمذي" قلت: فيه عند أبي داود زيادة كان يحسن بالمؤلف نقلها لأنها تبين سنة طالما غفل أكثر المصلين عنها وهي قول النعمان عقب الحديث: "فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه". وإسناده صحيح وعلقه البخاري في "صحيحه" وأسند نحوه عن أنس. وقوله: "روى البزار بسند حسن عن ابن عمر قال: ما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها". قلت: فيه ثلاثة أخطاء: الأول: الحديث مرفوع وهو أوقفه! الثاني: عزاه للبزار ولم يخرجه غير الطبراني! الثالث: - حسن إسناده وهو ضعيف!

ومنشأ الخطأين الأخيرين أنه لم يتأمل تمام كلام الهيثمي في تخريج الحديث فإنه أورده هكذا: "عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة وما من خطوة ... " ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط كما ههنا والبزار خلا قوله: "وما من خطوة ... " إلى آخره. وإسناد البزار حسن وفي إسناد الطبراني ليث بن حماد ضعفه الدارقطني". وذكر المنذري نحوه في "الترغيب" وعزا رواية البزار لابن حبان في "صحيحه". فهذا الكلام منهما صريح في أن الشطر الثاني من الحديث وهو الذي أورده المؤلف لم يخرجه البزار وأن سنده ضعيف. فتأمل. نعم قد وجدت للحديث شاهدين يرتقي بهما إلى مرتبة الحسن كما بينته في "الصحيحة" 2533 ولذلك أوردته في صحيح الترغيب والترهيب 501 و504. ثم ذكر حديث جابر بن سمرة هكذا: "ألا تصفون كما تصف الملائكة ... ". كذا وقع في طبعات الكتاب بضم التاء في الفعلين على البناء للمجهول ولا أعلم له وجها فالرواية في "صحيح مسلم" و "المنتقى" وغيرهما بفتحها بيد أن الشوكاني قيده على الوجهين فقال في "النيل" 4 / 164: "بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد وبضم أوله مبني للمفعول والمراد الصف في الصلاة".

قوله تحت رقم 6 -: وروى أبو داود وابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون على ميامن الصفوف". قلت: الحديث بهذا اللفظ غير محفوظ عن عائشة كما قال البيهقي والصواب عنها بلفظ: "على الذين يصلون الصفوف" وقد فصلت القول في بيان علة الحديث في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 104 وقد غفل عن علته كل من حسنه من المتقدمين والمتأخرين كالمعلق على "شرح السنة" للبغوي 3 / 374 مع أنه نقل معنى قول البيهقي المذكور فكان عليه أن يدفعه بالحجة لا أن يجمع بين النقيضين! وقوله: "وعند أحمد والطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول". قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني ... ". قلت: لا وجه البتة لتصحيح إسناده لأنه - كما في "المسند" - من طريق فرج: ثنا لقمان عن أبي أمامة وفرج ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب" ولا سيما أنه يرويه عن لقمان فقد سئل الدارقطني عن رواية فرج بن فضالة عن لقمان ابن عامر عن أبي أمامة؟ فقال: "هذا كله غريب" ولذلك لم يصححه المنذري ولا الهيثمى فقال الأول: "رواه أحمد بإسناد لا بأس به والطبراني وغيره". كذا قال. وقال الآخر. "رواه أحمد والطبراني في "الكبير" ورجال أحمد موثقون". ففيه إشارة إلى أن توثيق بعض رجاله توثيق لين وليس هو إلا فرج بن فضالة. ويغني عنه حديث البراء بن عازب في "صحيحي ابن خزيمة وابن حبان". انظر "صحيح الترغيب" 490.

ومن المساجد

ومن المساجد قوله في فضل بنائها: 2 وروى أحمد وابن حبان والبزار بسند صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة" قلت: كلا ليس سنده صحيحا فإن فيه عند أحمد والبزار جابرا الجعفي وهو ضعيف كما في "المجمع" وابن حبان إنما رواه رقم 301 - موارد من حديث أبي ذر مرفوعا بهذا اللفظ دون قوله: "لبيضها" وكذلك أخرجه البزار أيضا والطحاوي في "مشكل الآثار" والطبراني في "المعجم الصغير" بسند صحيح. فالظاهر أنه اشتبه على المؤلف أحد الحديثين بالآخر. وقد جاء الحديث عن جماعة من الصحابة بنحو هذا وقد خرجتها في "الثمر المستطاب" وليس في شيء منها هذه الزيادة فهي منكرة. قوله تحت عنوان: الدعاء عند التوجه إليها: د وروى أحمد وابن خزيمة وابن ماجه وحسنه الحافظ عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ... ". قلت: بل إسناده ضعيف فإنه من رواية عطية العوفي وهو ضعيف وقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من "التقريب": "صدوق يخطئ كثيرا كان شيعيا مدلسا". قلت: وهو قد عنعن هذا الحديث عن أبي سعيد ولم يصرح بسماعه منه فهي علة ثانية فأنى لحديثه الحسن؟!

ثم وقفت له على علة ثالثة وهي الوقف فقد ذكر ابن أبي حاتم في "العلل" أنه رواه بعضهم عن عطية عن أبي سعيد موقوفا. وقال أبو حاتم: "إنه أشبه". يعني بالصواب ولذلك ضعف المنذري هذا الحديث في "الترغيب" 1 / 130. وقول المؤلف: "وحسنه الحافظ" أظنه يعني أبا الحسن المقدسي. انظر "الترغيب" 2 / 265. قوله في دعاء الدخول إلى المسجد والخروج منه: "اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي". قلت: لنا على هذا ملاحظتان: الأولى: ينبغي أن يضاف إلى الصلاة على النبي في صلى الله عليه وسلم هنا السلام عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت الأمر به في حديث أبي هريرة الذي منه نقل المؤلف الدعاء بالعصمة عند الخروج وكذلك ثبت الأمر المذكور من حديث أبي حميد وأبي أسيد في "صحيح أبي عوانة". الثانية: أن الدعاء بالمغفرة في الموضعين لم يرد في حديث صحيح وإنما روي من حديث فاطمة رضي الله عنها وهو مع أنه منقطع كما بينه مخرجه الترمذي فإن الدعاء المذكور فيه تفرد بذكره في الحديث ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد تابعه على رواية أصل الحديث إسماعيل بن علية وهو ثقة جليل ولكنه لم يذكر فيه هذا الدعاء فدل ذلك كله على أنه لا يصح فيه وأنه منكر. ولذلك فإني أرى أنه لا يشرع التزامه مع الأدعية الصحيحة ولا إيراده فيها ولاسيما مع القطع بأنه من السنة فتأمل وراجع لهذا "تخريج الكلم الطيب" 63 - 66 و "المشكاة" 703 و731 و749 و "صحيح أبي داود" 484.

قوله في فضل السعي إليها ... : 1 روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له الجنة نزلا كلما غدا أو راح" قلت: هذا لفظ أحمد في "المسند" 2 / 509 ويبدو لي أنه قد وقع فيه اختصار يسير من بعض رواة "المسند" أخل بالمعنى المقصود منه فإن لفظه عند مسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح". وهكذا أخرجه أحمد أيضا بالحرف الواحد في "كتاب الزهد" ص 3 وهو أول حديث منه وسنده سنده في "المسند" ورواية البخاري نحوه. ولا يخفى أن إعداد الجنة نزلا هو غير إعداد نزل فيها كلما غدا أو راح فإن اللفظين يفيدان ضمان الجنة لمن غدا أو راح لكن اللفظ الثاني يزيد على الأول أن له منازل فيها على عدد غدوه ورواحه. فتأمل. ولهذا ينبغي لمن يشتغل بكتب السنة أن يجعل عمدته على "الصحيحين" لاتفاق الأمة عليهما واعتنائها بروايتهما أكثر من غيرهما من كتب السنة الأخرى. وقوله: ب وروى أحمد و ... و ... والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ... ". قلت: ليس بصحيح ولا حسن الإسناد لأنه من طريق دراج أبي السمح عن أي الهيثم عن أبي سعيد ودراج هذا قال الحافظ في "التقريب": "صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف". ولذلك تعقب الذهبي الحاكم بقوله:

"قلت: دراج كثير المناكير". قلت: ومن مناكيره حديث: "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون"! أخرجه أحمد عقب هذا الحديث عنه بإسناده المذكور. وقوله: د وروى الطبراني والبزار بسند صحيح عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسجد بيت كل تقي وتكفل الله ... ". قلت: لم أقف على سنده لأنظر فيه ولم أجد من صرح بصحته والمنذري نقل عن مخرجه البزار أنة قال: "إسناده حسن" فمن أين له الصحة؟ ولعل المؤلف استلزم صحته من قول الهيثمي في "المجمع": "قلت: ورجال البزار كلهم رجال الصحيح" وليس ذلك بلازم لأسباب كثيرة ذكرتها في المقدمة فراجعها. ثم تبين لي بعد الوقوف على سنده في "زوائد البزار" 434 أن إسناده صحيح لكن ليس عنده قوله: "المسجد بيت كل تقي" وإنما هو عند الطبراني وغيره وهو مخرج في "الصحيحة" 716 وأوردته في "صحيح الترغيب" 326. وفي أفضل المساجد ذكر رواية البيهقي عن جابر مرفوعا: "صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة وصلاة في مسجدي ألف صلاة وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة". حسنه السيوطي. قلت: فيه مؤاخذات: الأولى: اعتماده على تحسين السيوطي للحديث وهو إنما حسنه بالرمز له

كما صرح بذلك المناوي في "الفيض" ورموزه مما لا يعتمد عليها كما نبهنا على ذلك مرارا لأسباب ذكرتها في المقدمة فراجعها إن شئت وإن مما يؤكد ذلك أن هذا الحديث بالذات قد ضعفه السيوطي نفسه صراحة في "الجامع الكبير" وكشف فيه عن علته فقال - جزاه الله خيرا -: "وفيه إبراهيم بن أبي حية واه". يعني أنه شديد الضعف كما بينته في "الإرواء" 4 / 343 نقلا عن أئمة الجرح والتعديل. والثانية: أنه سكت عنه فأوهم ثبوته وهو ضعيف جدا كما ذكرت عن السيوطي آنفا. والثالثة: أن في معناه حديثا آخر من رواية أبي الدرداء إسناده أحسن حالا من هذا حتى إن الهيثمي قال فيه: "حديث حسن"! فكان الأجدر بالمؤلف أن ينقل هذا دون ذاك وإن كان تحسينه لم يسلم به المنذري في "ترغيبه" والحافظ الناجي في تعقيبه عليه ق 135 / 1 وذلك لأن فيه ضعيفا وآخر يهم كما بينته في "الإرواء" 1130 فيبقى الحديث ضعيفا لا يتقوى برواية البيهقي لشدة ضعفها كما علمت. وأما قول المناوى في "التيسير" عقب رواية البيهقي عن جابر: "وكذا الطبراني عنه بإسناد حسن". فهو من أوهامه بسبب عجلته في تلخيص كلام الهيثمي فإن هذا إنما عزاه للطبراني من حديث أبي الدرداء وقال فيه: "حديث حسن" وقد ردوه عليه كما تقدم واغتر به الشيخ الغماري فأورده في "كنزه" 329 / 2061!

ويزداد ضعفا أنه مخالف لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم جوابا لمن سأله عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أو مسجده صلى الله عليه وسلم؟: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى ... ". أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا وهو مخرج في "التعليق الرغيب" 2 / 138. وأما حديث: إن الصلاة في بيت المقدس بألف صلاة فهو حديث منكر كما قال الذهبي وهو مخرج في "تحذير الساجد" ص 198 و "ضعيف أبي داود" 68. ومن: زخرفة المساجد قوله تحت رقم 1: "ولفظ ابن خزيمة: يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا". قلت: هو بهذا اللفظ ضعيف وإن كان معناه مطابقا للواقع اليوم وعلته أبو عامر الخراز وهو ضعيف لكثرة أوهامه والصحيح اللفظ الذي قبله وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 475. ومن: تنظيفها وتطييبها قوله تحت رقم 2: "عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة". قلت: إسناده ضعيف وله علتان وقد ضعفه البخاري والترمذي والقرطبي وغيرهم وبيان ذلك في "ضعيف أبي داود" 71 وانظر "المشكاة" 720.

قوله تحت عنوان: صيانتها: وعند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تنخم أحدكم فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه". قلت: اقتصر الحافظ على تحسينه وهو الصواب لأن في إسناده محمد ابن إسحاق وهو متكلم فيه والمتقرر أنه حسن الحديث إذا صرح بالتحديث كما فعل هنا ولعل المؤلف أخذ تصحيحه من قول الهيثمي فيه: "رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون". وليس ذلك بلازم كما سبقت الإشارة إليه آنفا. قوله في التعليق: "يتحتم على من أكلها يعني الثوم ونحوه البعد عن المسجد ومجتمعات الناس حتى تذهب رائحتها ويلحق بها الروائح الكريهة كالدخان والتجشؤ والبخر". قلت: هذا الإلحاق فيه نظر لأن البخر ونحوه علة سماوية لا إرادة ولا كسب للمرء فيها ولا هو يملك إزالتها فكيف يلحق بالروائح الكريهة التي هي بإرادته وكسبه وبإمكانه الامتناع من تعاطي أسبابها أو القضاء عليها؟ والشارع الحكيم إنما منع آكل الثوم وغيره من حضور المساجد والحصول على فضيلة الجماعة: عقوبة له على عدم مبالاته بإيذاء المؤمنين والملائكة المقربين فلا يجوز أن يحرم من هذه الفضيلة الأبخر ونحوه لما ذكرناه من الفارق. ومن: إباحة الأكل والشرب والنوم قوله: "وقال عبد الله بن الحارث: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم. رواه ابن ماجه بسند حسن". قلت: بل إسناده صحيح وكان المؤلف تبع في تحسينه صاحب "الزوائد" حيث قال:

" إسناده حسن ورجاله ثقات ويعقوب مختلف فيه". قلت: ولو أن يعقوب تفرد به لكان حسنا كما قال ولكن ابن ماجه رواه عنه مقرونا مع حرملة بن يحيى وحرملة ثقة وبه يصير الإسناد صحيحا. ذكر حديث معاوية بن قرة عن أبيه قال: "كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا. رواه ابن ماجه وفي إسناده رجل مجهول". قلت: نقله عن "النيل" للشوكاني 3 / 163 وتمام كلامه: "كما قال أبو حاتم" وهو يعني هارون بن مسلم. فأقول: إنما قال أبو حاتم ما قال لأنه لم يعرف له راويا غير عمر بن سنان الصغدي ولذلك لم يذكر له غيره ولكن الواقع أنه روى عنه أيضا ثلاثة من الثقات وكلهم رووا هذا الحديث عنه. فقال أبو داود الطيالسي في "مسنده" 1073: حدثنا هارون أبو مسلم قال: حدثنا قتادة عن معاوية بن قرة به. ومن طريق الطيالسي أخرجه الدولابي في "الكنى" 2 / 113 والبيهقي 3 / 104. وكذلك رواه ابن ماجه لكنه قرن معه الثقة الثاني فقال في "سننه" 1002: حدثنا زيد بن أخزم أبو طالب: ثنا أبو داود وأبو قتيبة قالا: ثنا هارون بن مسلم به. وأبو قتيبة اسمه سلم بن قتيبة وقد رواه عنه ابن خزيمة أيضا ولكنه قرن به الثقة الثالث فقال في "صحيحه" 1567: نا يحيى بن حكيم: ثنا أبو قتيبة

ويحيى بن حماد عن هارون أبي مسلم به. ومن طريق ابن خزيمة أخرجه ابن حبان 400 - موارد الظمآن والحاكم 1 / 218 من طريق أخرى عن سلم بن قتيبة وحده وقال: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي. فثبت بهذا التخريج والتحقيق أن هارون بن مسلم هذا معروف ليس بمجهول وأن إسناده صحيح أو حسن على الأقل وهو صحيح قطعا بما قبله من حديث أنس والله أعلم.

ومن المواضع المنهي عن الصلاة فيها

ومن المواضع المنهي عن الصلاة فيها قوله تحت رقم 1 - الصلاة في المقبرة: "وعندهما عن جندب بن عبد الله البجلي ... الخ". قلت: عزوه إليهما - ويعني الشيخين - خطأ فإن الحديث مما تفرد به مسلم دون البخاري كما في "تحفة الأشراف" وغيره ك "النيل" 2 / 114 وهو مخرج في "الإرواء" 1 / 318. وقوله: وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قلت: هذا الحديث على شهرته ضعيف الإسناد فإنه من رواية أبي صالح باذام عن ابن عباس وباذام ضعفه الجمهور بل اتهمه بعضهم بالكذب كما ذكرته في "أحكام الجنائز" وفصلته في "التعليقات الجياد" ويراجع له "تهذيب السنن" و "التلخيص".

نعم الحديث صحيح لغيره بلفظ: " ... زوارات ... " لأن له شواهد غير "السرج" فلم أجد له شاهدا فيبقى على ضعفه. وقوله: "وعند الحنابلة كذلك إذا كانت تحتوى على ثلاثة قبور فأكثر أما ما فيها قبر أو قبران فالصلاة فيها صحيحة مع الكراهة إن استقبل القبر وإلا فلا كراهة". قلت: هذا قول بعض الحنابلة ولم يرتضه شيخ الإسلام ابن تيمية بل رده وذكر عن عامة أصحاب أحمد أنه لا فرق بين المقبرة فيها قبر أو أكثر قال في "الاختيارات العلمية": "ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهى عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة لأنه لا يتناوله اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور وهو الصواب. والمقبرة كل ما قبر فيه لا أنه جمع قبر وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفناءه المضاف إليه وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد". قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام في "الفتاوى" وغيرها اتفاق العلماء على كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور وحكى بطلانها فيها في مذهب أحمد وذلك مستفاد من أحاديث النهى عن اتخاذ القبور مساجد وبنائها عليها وهى مسألة هامة قد أغفلها عامة الفقهاء ولذلك أحببت أن أنبه عليها وأن لا أخلى هذه

التعليقات منها وقد فصلت القول فيها في "التعليقات الجياد" و "أحكام الجنائز" و "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد". قوله: "3 - الصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق وأعطان الإبل والحمام وفوق الكعبة فعن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن ... ". قلت: فذكر المواضع المذكورة ثم نقل عن الترمذي تضعيفه الحديث وأقره على ذلك وهو الصواب كما هو مبين في "الإرواء" 287 فعادت الدعوى بدون دليل صحيح فكان على المؤلف أن يورد أحاديث أخرى صحيحة تشهد للحديث ولو في بعض مفرداته: فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم وإسناده عند بعضهم صحيح على شرط الشيخين وهو مخرج في المصدر السابق. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فلم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". أخرجه أحمد والدارمي وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أبي هريرة وفي معناه أحاديث أخرى خرجتها في "الثمر المستطاب". ولا أعلم حديثا صحيحا في النهي عن الصلاة في المواطن الأخرى ولا يجوز القول ببطلانها فيها إلا بنص عنه صلى الله عليه وسلم فليعلم.

ومن السترة أمام المصلي

ومن السترة أمام المصلي قوله في حكمها: "يستحب للمصلي أن يجعل بين يديه سترة ... ". أقول: القول بالاستحباب ينافي الأمر بالسترة في عدة أحاديث ذكر المؤلف أحدها وفي بعضها النهي عن الصلاة إلى غير سترة وبهذا ترجم له ابن خزيمة في "صحيحه" فروى هو ومسلم عن ابن عمر مرفوعا: "لا تصل إلا إلى سترة ... ". وإن مما يؤكد وجوبها أنها سبب شرعي لعدم بطلان الصلاة بمرور المرأة البالغة والحمار والكلب الأسود كما صح ذلك في الحديث ولمنع المار من المرور بين يديه وغير ذلك من الأحكام المرتبطة بالسترة وقد ذهب إلى القول بوجوبها الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 2 و "السيل الجرار" 1 / 176 وهو الظاهر من كلام ابن حزم في "المحلى" 4 / 8 – 15. قوله تحت رقم 1 -: "وعن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا فإن لم يكن من عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه". رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وصححه كما صححه أحمد وابن المديني وقال البيهقي: لا بأس بهذا الحديث في هذا الحكم إن شاء الله". قلت: الحديث ضعيف الإسناد لا يصح وإن صححه من ذكرهم المؤلف فقد ضعفه غيرهم وهم أكثر عددا وأقوى حجة ولا سيما وأحمد قد اختلفت الرواية عنه فيه فقد نقل الحافظ في "التهذيب" عنه أنه قال: "الخط ضعيف". وذكر في "التلخيص" تصحيح أحمد له نقلا عن "الاستذكار" لابن عبد البر ثم عقب على ذلك بقوله: "وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم".

وفي "التهذيب" أيضا: "وقال الدارقطني: لا يصح ولا يثبت. وقال الشافعي في سنن حرملة: ولا يخط المصلي بين يديه خطا إلا أن يكون ذلك في حديث ثابت فيتبع". قلت: وقال مالك في "المدونة": "الخط باطل". وضعفه من المتأخرين ابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم وهو الحق لأن له علتين تمنعان من الحكم بحسنه فضلا عن صحته وهما الاضطراب والجهالة ونفي الاضطراب كما ذهب إليه الحافظ في "بلوغ المرام" لا يلزم منه انتفاء الجهالة كما لا يخفى فكأنه ذهل عنها حين حسن الحديث وإلا فقد اعترف هو في "التقريب" بجهالة راوييه أبي عمرو بن محمد بن حريث وجده حريث والمعصوم من عصمه الله. وقد فصلت القول في علتي الحديث وذكرت أقوال العلماء الذين ضعفوه في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 107 وقد مضى تمثيل ابن الصلاح به للحديث الشاذ في المقدمة فراجع القاعدة الأولى. وفي قول البيهقي الذي نقله المؤلف إشارة لطيفة إلى تضعيف الحديث حيث قيد قوله: "لا بأس به" بـ "في هذا الحكم". فكأنه يذهب إلى أن الحديث في فضائل الأعمال فلا بأس بالحديث فيها وكأن هذا هو مستند النووي في قوله في "المجموع": "المختار استحباب الخط لأنه وإن لم يثبت الحديث ففيه تحصيل حريم للمصلي وقد قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام وهذا من نحو فضائل الأعمال".

قلت: ويرد عليه وعلى البيهقي قول الشافعي المنقول عن "التهذيب" فإنه صريح بأنه رضي الله عنه لا يرى مشروعية الخط إلا أن يثبت الحديث وهذا يدل على أحد أمرين: إما أنه يرى أن الحديث ليس في فضائل الأعمال بل في الأحكام وهذا هو الظاهر من كلامه. وإما أنه لا يرى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وهذا هو الحق الذي لا شك فيه وقد بينت ذلك في "المقدمة". قوله في تحريم المرور بين يدي المصلي وسترته: "وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه". رواه البزار بسند صحيح". قلت: كلا ليس بصحيح لأن شروط الصحة لم تكتمل فيه فإن منها السلامة من الشذوذ ولم يسلم بل أخطأ أحد رواته وهو ابن عيينة في موضعين منه: الأول: جعل الحديث من مسند زيد بن خالد والصواب أنه من مسند أبي جهيم كما في رواية الجماعة المذكورة في الكتاب قبل هذا وفيها التصريح بأن زيد بن خالد أرسل إلى أبي جهيم يسأله عن هذا الحديث فزيد سائل فيه وليس براو له. الثاني: قوله: "أربعين خريفا" فهذه الزيادة: "خريفا" خطأ من ابن عيية فإنه رواه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد وخالفه مالك وسفيان الثوري فقالا: قال أبو النضر: "لا أدري أقال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟ " وهو رواية الجماعة وهو رواية أحمد عن ابن عيينة أيضا فهي تقوي خطأ رواية البزار عنه.

قال الحافظ في "الفتح": "فيبعد أن يكون الجزم يعني قوله: خريفا والشك وقعا معا في راو واحد في حال واحدة". ولعل مستند المؤلف في التصحيح قول المنذري والهيثمي في الحديث: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". ولا متكأ له في هذا البتة كما نبهناك مرارا وفصلنا ذلك في المقدمة. ثم قال: "قال ابن حبان وغيره: التحريم المذكور في الحديث إنما هو إذا صلى الرجل إلى سترة فأما إذا لم يصل إلى سترة فلا يحرم المرور بين يديه واحتج أبو حاتم هو ابن حبان على ذلك بما رواه في "صحيحه" عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت النبي حين فرغ من طوافه في حاشية المطاف فصلى ركعتين وليس بينه وبين الطوافين أحد ... ". قلت: الحديث المذكور ضعيف لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب وقد اختلف عليه في إسناده فقال ابن عيينة: عنه عن بعض أهله أنه سمع جده المطلب. وقال ابن جريج: أخبرني كثير بن كثير عن أبيه عن جده. قال سفيان: فذهبت إلى كثير فسألته قلت: حديث تحدثه عن أبيك؟ قال: لم أسمعه من أبي حدثني بعض أهلي عن جدي المطلب. أخرجه أبو داود والبيهقي وقال: "وقد قيل عن ابن جريج عن كثير عن أبيه قال: حدثني أعيان بني المطلب عن المطلب. ورواية ابن عيينة أحفظ". قلت: ومرجع هذه الرواية على بعض أهل كثير ولم يسم فهو مجهول

وسماه ابن جريج: "كثير بن المطلب وهو أيضا مجهول وتوثيق ابن حبان له لا يخرجه عن الجهالة وقد أشار الحافظ في "التقريب" إلى أنه لين الحديث. ثم إن الحديث لو صح لم يكن نصا فيما استدل له ابن حبان لأنه يحتمل أن يكون جواز المرور بين يدي المصلي الذي ليس أمامه سترة خاصا بالمسجد الحرام وقد استدل بعض العلماء به على ذلك. والله أعلم. قوله في حكمها: "ويرى الحنفية والمالكية أن اتخاذ السترة إنما يستحب للمصلي عند خوف مرور أحد..لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم. صلى في فضاء وليس بين يديه شيء. رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وقال: وله شاهد أصح من هذا عن الفضل بن عباس". فأقول: فيه مؤاخذات. الأولى: أن التعليل المذكور مجرد رأي لا دليل عليه وفيه إهدار للنصوص الموجبة لاتخاذ السترة - وقد سبق ذكر بعضها - بمجرد الرأي وهذا لا يجوز وبخاصة أنه يمكن أن يكون المار من الجنس الذي لا يراه الإنسي وهو الشيطان وقد جاء ذلك صريحا من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام فقد صح عنه أنه قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته". وهو مخرج في "الصحيحة" 1373 وتأويل "الشيطان" بالإنسي المار مجاز لا مسوغ له إلا ضعف الإيمان بالغيب! وقد صح أن الشيطان أراد أن يفسد على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فمكنه الله منه وخنقه حتى وجد برد لعابه بين إصبعيه وقال:

"والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به أهل المدينة". والقصة في مسلم 2 / 73 وعبد الرزاق 2 / 24 / 2338 وأحمد 1 / 413 و3 / 82 و5 / 104 و105 والطبراني في "الكبير" 2 / 224 و227 و251 عن غير واحد من الصحابة بألفاظ متقاربة. انظر "صفة الصلاة" 74. الثانية: أن حديث ابن عباس الذي استدل به لا يصح من قبل إسناده فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس وقد عنعنه. وهو مخرج عندي في "الأحاديث الضعيفة" 5814 مع أحاديث أخرى بمعناه. الثالثة: أنه عزاه لأبي داود وهو خطأ فليس هو عنده وإنما رواه نحوه من حديث الفضل بن عباس الذي يأتي الكلام عليه بعده. الرابعة: قوله: وقال البيهقي: وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس. قلت: هذا من تساهل البيهقي رحمه الله لأنه من رواية عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن عباس. وقد قال الحافظ في "التهذيب": "أعله ابن حزم بالانقطاع قال 4 / 13: إن عباسا لم يدرك عمه الفضل. وهو كما قال. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله". وغفل عن هذه العلة الانقطاع الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 8 وتبعه المعلق على "شرح السنة" 2 / 461!

قوله:" 7 لا يقطع الصلاة شيء ... لحديث أبي داود عن أبي الوداك قال: مر شاب من قريش بين يدي أبي سعيد وهو يصلى فدفعه ثم عاد فدفعه ثم عاد فدفعه ثلاث مرات. فلما انصرف قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء ولكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان". قلت: الحديث ضعيف لا يحتج به لأنه من رواية مجالد بن سعيد عن أبي الوداك ومجالد ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره كما قال الحافظ في "التقريب" وقد اضطرب في رواية هذا الحديث فمرة أوقف قوله فيه: "إن الصلاة لا يقطعها شيء" ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية الكتاب ومرة رفعها إليه صلى الله عليه وسلم كما في رواية أخرى لأبي داود ولذلك ضعف الحديث ابن حزم والنووي. ويؤيد ضعف هذه الجملة منه مرفوعة وموقوفة أن قصة أبي سعيد مع الشاب في "الصحيحين" من طريق أخرى عن أبي سعيد دون هذه الجملة فثبت أنها منكرة في هذا الحديث. نعم رويت هذه الجملة من طرق أخرى عن بعض الصحابة ولكنها كلها ضعيفة خلافا لبعض المحدثين المعاصرين وقد بينت ذلك في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 116 و117 وفي "الضعيفة" 5661. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذه الأحاديث الضعيفة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يقطع صلاة الرجل - إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل - الحمار والكلب الأسود والمرأة". أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي ذر وهو في كتابي "صحيح سنن أبي داود" رقم 699. ولو أن تلك الأحاديث صحت لأمكن التوفيق بينها وبين هذا.

الحديث الصحيح بصورة لا يبقى معها وجه للتعارض أو دعوى النسخ وذلك بأن يقيد عموم تلك الأحاديث بمفهوم هذا فنقول: "لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديه سترة وإلا قطعها المذكورات فيه" بل إن هذا الجمع قد جاء منصوصا عليه في رواية عن أبي ذر مرفوعا بلفظ: "لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديه كآخر الرحل وقال: يقطع الصلاة المرأة ... ". أخرجه الطحاوي بسند صحيح. وبهذا اتفقت الأحاديث ووجب القول بأن الصلاة يقطعها الأشياء المذكورة عند عدم السترة. وهو مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقد قال في خاتمة بحث له في هذه المسألة: "والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقطع الصلاة شيء". أو بما روي في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسالة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة". انظر كتابه "القواعد النورانية" 9 - 12 و "زاد المعاد" 1 / 111.

وما يباح في الصلاة

وما يباح في الصلاة ... ومن ما يباح في الصلاة قوله تحت رقم 2 -: "وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا: يا أيها الناس إياكم والالتفات فإنه لا صلاة للملتفت فإن غلبتم في التطوع فلا تغلبن في الفرائض". رواه أحمد" قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أن الحديث في "المسند" 6 / 442 - 443 موقوف غير مرفوع وسبب هذا الخطأ أن أحمد ساق بسنده عن أبي الدرداء حديثا مرفوعا تقدم الكلام عليه ص 262 وجاء عقبه: "قال أبو الدرداء: يا أيها الناس إياكم والالتفات ... " فلم ينتبه المؤلف لقوله: "قال أبو الدرداء" وظن مقولة هذا من تمام حديثه المرفوع فتأمل. والأخرى: أن إسناد الحديث ضعيف فيه رجل مجهول اتفاقا وقد ذكرت أقوال العلماء فيه عند الكلام على الحديث المشار إليه. نعم قد أورد الحديث المنذري والهيثمي برواية الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا ولكنهما ضعفاه! قوله أيضا: "وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة". رواه الترمذي وصححه". قلت: فيه مؤاخذتان: الأولى: أن الترمذي لم يصححه وليس تصحيحه في أية نسخة من "سنن" الترمذي كما قال محققه الفاضل أحمد محمد شاكر بل في بعض نسخه قال:

"هذا حديث حسن" وفي بعضها: "هذا حديث غريب" وفي أخرى: "هذا حديث حسن غريب". والمصنف إنما نقل تصحيحه عن "المنتقى" وهو وهم منه فيما يظهر ثم رأيت المنذري ذكر في "الترغيب" أن التصحيح في بعض نسخ الترمذي. الثانية: أن الحديث ليس بصحيح ولا حسن لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك ... وهذا الإسناد ضعيف فيه علتان: 1 - ضعف علي بن زيد. 2 - الانقطاع بين ابن المسيب وأنس. وقد أشار إلى ذلك المنذري في "ترغيبه". وقد أعل الحديث ابن القيم في "الزاد" بالعلتين فلا يغتر بقول من قال من المعاصرين: "الإسناد صحيح"! قوله: "وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه". رواه أحمد وأبو داود وقال: صحيح الإسناد". قلت: فيه ملاحظتان: الأولى: أن أبا داود لم يصححه وليس ذلك من عادته والتصحيح المذكور إنما هو للحاكم فقد أخرج الحديث في "المستدرك" وقال: "صحيح الإسناد" فالظاهر أنه سقط من الطابع أو غيره: "والحاكم" من التخريج وسيأتي سقط آخر يشبه هذا قريبا. الثانية: أن إسناد الحديث غير صحيح لأن فيه أبا الأحوص وفيه جهالة

كما قال النووي في "المجموع" وأعل الحديث به. قوله: "ويؤيد هذا ما جاء عنها أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا استفتح إنسان الباب فتح الباب ما كان في القبلة أو عن يمينه أو عن يساره ولا يستدبر القبلة. رواه الدارقطني". قلت: هو بهذا اللفظ ضعيف جدا لأنه عند الدارقطني ص 194 من طريق محمد بن حميد - وهو الرازي - وهو متهم بالكذب مع أنه حافظ وقد صح بلفظ آخر عند النسائي وغيره وفيه المشي الذي استدل له به وهو الذي ذكره المؤلف قبل هذا وهو مخرج في "الصحيحة" 2716 فلو أنه اقتصر عليه لكان أولى. قوله: " 6 إلقاء السلام على المصلي ومخاطبته وأنه يجوز له أن يرد بالإشارة على من سلم عليه أو خاطبه فعن جابر بن عبد الله قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال بيده هكذا ... رواه أحمد ومسلم". قلت: وفي رواية لمسلم 2 / 71: "فسلمت عليه فأشار إلي" فهي أصرح في الدلالة على المطلوب فإيرادها كان هو الأولى. قوله تحت رقم 7 -: "فعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله ... " رواه أحمد وأبو داود والنسائي". قلت: الحديث في "الصحيحين" أيضا في حديث طويل عن سهل وقد مضى في الكتاب بتمامه في بحث "صلاة الجماعة" جواز انتقال الإمام والمأموم فكأن المؤلف ذهل عنه.

قوله:" 10 فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقى بفضوله حر الأرض وبردها. رواه أحمد بسند صحيح". قلت: كلا ليس بصحيح ولا حسن فإن مدار طرقه على حسين بن عبد الله ابن عبيد الله بن عباس وهو ضعيف كما في "التقريب" راجع "المسند" 2320 و2385 و2760 و2940 و3327. والظاهر أن المؤلف استلزم صحة إسناده - كعادته - من قول الهيثمي في تخريجه 2 / 48: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" و "الأوسط" ورجال أحمد رجال الصحيح". وليس ذلك بلازم كما نبهت عليه مرارا وبينته في المقدمة هذا لو صح قول الهيثمي إن: "رجال أحمد رجال الصحيح". وهو غير صحيح لما ذكرته آنفا أن مداره على حسين وليس هو من رجال "الصحيح" البخاري أو مسلم. قوله تحت رقم 11 -: "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فمر بين يديه غلام فقال بيده هكذا فرجع ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هن أغلب". ذكره الإمام أحمد وهو في السنن". قلت: هكذا خرجه ابن القيم في "الزاد". وعنه نقله المؤلف ولنا عليهما مؤاخذتان: الأولى: أن عزوه لـ "السنن" يوهم أنها السنن الأربعة والواقع أنه لم يروه منهم غير ابن ماجه! الثانية: أن إسنادهما ضعيف فيه من لا يعرف ولذلك ضعفه ابن القطان والبوصيري.

ثم قال: "وكان يتنحنح في صلاته قال علي بن أبي طالب: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته ... يصلي تنحنح ... ذكره النسائي وأحمد". قلت: هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة وله ثلاث علل: ضعف راويه واضطراب إسناده ومتنه ففي رواية: "سبح" بدل "تنحنح" ولذلك ضعفه البيهقي وغيره وقال النووي في "المجموع": "وضعفه ظاهر بين". وقد أوضحت كلامه هذا فيما انتقدته على كتاب "التاج" وراجع "التلخيص" 4 / 116 وتعليقي على "صحيح ابن خزيمة" 2 / 54. وقوله: وروى البزار عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ... ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة". قلت: سكت عليه المؤلف فأوهم صحته وليس كذلك بل هو ضعيف جدا فقد ذكر المنذري والهيثمي أن في سنده عبد الله بن واقد الحراني قال الحافظ في "التقريب": "إنه متروك وكان أحمد يثني عليه وقال: لعله كبر واختلط وكان يدلس". قلت: وقد روي موقوفا في "تاريخ البخاري" بإسناد فيه جهالة كما بينته في "التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب" 1 / 186 فيحتمل أن يكون من الإسرائيليات رفعه بعض الضعفاء. والله أعلم.

ومن مكروهات الصلاة

ومن مكروهات الصلاة قوله تحت رقم 1 -: "وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى". أخرجه أحمد وأصحاب السنن". قلت: وفيه عندهم أبو الأحوص وهو مجهول. نعم: أخرجه الطياسى في "مسنده" عن أبي ذر مختصرا قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى عن مسح الحصى؟ فقال: "واحدة". وسنده صحيح. وهو في "المسند" رقم 470 ولم يورده مرتبه الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في بابه من "منحة المعبود" فكأنه ذهل عنه أو استغنى عنه بالرواية الأولى حيث أوردها 1 / 108 فإن كان فعل هذا فهو عيب كبير في هذا الكتاب لأنه من باب {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ! وقوله: "وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلام له يقال له: يسار وكان قد نفخ في الصلاة: "ترب وجهك الله". رواه أحمد بإسناد جيد". قلت: كلا ليس بجيد فإن فيه عند أحمد وغيره أبا صالح مولى آل طلحة ولا يعرف كما قال الذهبي وأشار الحافظ إلى أنه لين الحديث. ثم إن الصواب في ضبط الحديث: "ترب وجهك لله" كما في "المسند". ولعل ما في الكتاب خطأ مطبعي وقد صححه المؤلف في الطبعة الجديدة 1 / 268.

قوله تحت رقم 9 -: وعن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن فإن فعل فقد دخل ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف". قلت: ليس بحسن لأن إسناده ضعيف مضطرب وقد سبق بيان ذلك لكن الجملة الأخيرة منه لها شواهد أشرت إليها في "ضعيف أبي داود" 11 و12 وبعضها في "سنن ابن ماجه" 616 – 618.

ومن صلاة المريض

ومن صلاة المريض قوله: "وعن جابر قال: عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضا فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: "صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومئ إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك". رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه". قلت: لكن قد تعقب أبا حاتم الحافظ في "التلخيص" بأن ثلاثة من الثقات رووه مرفوعا يشير إلى أن الصواب رفعه وهو كما قال. لكن للحديث علة أخرى وهي تدليس أبي الزبير عن جابر كما ذكرته في "تخريج صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" إلا أن له طرقا أخرى وشاهدا بسند صحيح عن ابن عمر. فلا شك في صحة رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما بينته هناك ثم خرجته في "الصحيحة" 323.

ومن صلاة الخوف

ومن صلاة الخوف قوله تحت رقم 2 -: "فعن ابن مسعود قال: ثم سلم وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا" قلت: لم يخرجه المؤلف وهو من رواية أبي داود وأحمد. ثم هو ضعيف الإسناد لأنه من طريق خصيف وهو ضعيف عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ولم يسمع منه وهو مخرج في "الإرواء" 3 / 49 و "ضعيف أبي داود" 229 – 230. قوله تحت رقم 3 - بعد أن ذكر حديث جابر: "وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... ". قلت: هذه الرواية ليست من حديث جابر عند من عزاها إليهم بل من رواية أبي بكرة وكذلك ذكره المجد في "المنتقى" وأبو داود لم يسند حديث جابر مطلقا لا بهذا اللفظ ولا بغيره واللفظ الأول لأحمد وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1135. قوله بعد أن ذكر حديث عبد الله بن أنيس في صلاة الطالب وقال: "رواه أحمد وأبو داود وحسن الحافظ إسناده". قلت: وفي تحسينه نظر لأنه من رواية ابن عبد الله بن أنيس ولم يسم ولعبد الله هذا أبناء عدة منهم الثقة وغيره وقد ذكر المنذري أنه عبد الله بن عبد الله بن أنس فإذا صح هذا فهو في عداد المجهولين كما بينته في "ضعيف أبي داود" 232 ولا وجدت له شاهدا لتقويته له وانظر "إرواء الغليل 589 والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومن صلاة السفر

ومن صلاة السفر قوله في قصر الصلاة الرباعية: "فعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب ... فقال: عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". رواه الجماعة". قلت: الحديث لم يروه البخاري مطلقا وقد صرح بذلك في "المنتقى" فقال: "رواه الجماعة إلا البخاري" فلعل استثناء سقط من الطابع أو غيره. وقوله: "وعن عائشة قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين الا المغرب فإنها وتر النهار وصلاة الفجر لطول قراءتها وكان إذا سافر صلى الصلاة الأولى". رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وابن خزيمة ورجاله ثقات". قلت: إنما يصدق هذا التوثيق - وقد نقله من "مجمع الزوائد" 2 / 154 وعزاه لأحمد - على إسناد أحمد 6 / 241 و265 وأحد إسنادي البيهقي 3 / 145 ولكنه منقطع بين عامر الشعبي وعائشة. نعم رواية ابن خزيمة 355 وابن حبان 544 موصولة فإنها عن الشعبي عن مسروق عن عائشة. لكن في إسنادها محبوب بن الحسن وهو غير محبوب في الرواية وهذا لقبه واسمه محمد قال الحافظ في "التقريب": "صدوق فيه لين". ولا ينفعه أنه تابعه بكار بن عبد الله بن محمد بن سيرين عند البيهقي 1 / 363 لأنه ضعيف جدا كما يدل على ذلك ترجمته في "الميزان" و "اللسان"

ومنها قول أبي زرعة فيه: "ذاهب الحديث روى أحاديث مناكير". وفيه علة أخرى وهي الراوي عنه محمد بن سنان وهو القزاز البصري وهو ضعيف أيضا كما في "التقريب" ولذلك فإن الحافظ لم يصب حين أورد الحديث في "الفتح" 1 / 464 ساكتا عليه من رواية ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وقلده في ذلك الشوكاني 1 / 250 كما هي غالب عادته! ولا سيما وابن خزيمة قد ضعفه بالانقطاع الذي سبق بيانه فقال عقب الحديث: "هذا حديث غريب لم يسنده أحد أعلمه غير محبوب بن الحسن رواه أصحاب داود فقالوا: عن الشعبي عن عائشة خلا محبوب بن الحسن". لكني وجدت لمحبوب متابعا قويا وشاهدا حسنه الحافظ فبادرت إلى إخراج الحديث في "الصحيحة" 2814 وقد رواه الشيخان من طريق عروة عن عائشة مختصرا بلفظ: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1082. قوله بعد أن ذكر الخلاف في حكم قصر الصلاة في السفر: "وقالت المالكية: القصر سنة مؤكدة آكد من الجماعة فإذا لم يجد المسافر مسافرا يقتدي به صلى منفردا على القصر ويكره اقتداؤه بالمقيم". قلت: هذه الكراهة مع كونها عارية عن الدليل فهي خلاف السنة التي رواها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال موسى بن سلمة: "كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم".

أخرجه أحمد بسند صحيح ورواه مسلم وأبو عوانة وغيرهما مختصرا وهو مخرج في "الإرواء" 571. ثم إن المؤلف لم يبين الراجح من تلك الأقوال في الحكم كما هو شأنه في كثير من المسائل والذي أقطع به أن الصواب قول من قال بوجوب القصر لأدلة كثيرة لا معارض لها ذكرها الشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 306 - 307 منها حديث عائشة الذي ذكرته قريبا: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" الحديث. أخرجه الشيخان. قال الشوكاني: "فمن زاد فيها فهو كمن زاد على أربع في صلاة الحضر ولا يصح التعلق بما روي عنها أنها كانت تتم فإن ذلك لا تقوم به الحجة بل الحجة في روايتها لا في رأيها". وقال الحافظ في "التلخيص" 2 / 44: "وذكر عروة أنها تأولت كما تأول عثمان كما في "الصحيح" فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت وقد ثبت في "الصحيحين" خلاف ذلك". قلت: يشير إلى ضعف حديث الدارقطني عنها بلفظ: "قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأتم". فإنه مع ضعف إسناده مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة في قصره صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر وقد ذكرت بعضها في "الإرواء" 3 / 3 - 9 وبينت علة الحديث المذكور فليرجع إليه من شاء.

تنبيه: حديث عائشة المشار إليه آنفا من رواية الشيخين من الأحاديث الصحيحة التي تجرأ بل تهور الشيخ الغماري في رسالته: "الصبح السافر في أحكام المسافر" فضعفها مع اتفاق المسلمين على صحته وقد رددت عليه ذلك مفصلا في المجلد المشار إليه من "الصحيحة" آنفا. قوله في مسافة القصر: "والتردد بين الأميال والفراسخ يدفعه ما ذكره أبو سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. رواه سعيد ابن منصور وذكره الحافظ في "التلخيص" وأقره بسكوته عليه". وأقول: لقد اغتر المؤلف بسكوت الحافظ عليه! وسبقه إلى ذلك الصنعاني في "سبل السلام" والشوكاني في "السيل الجرار" 1 / 357 وأما في "نيل الأوطار" فقد شك في صحته فقال عقبه 3 / 176: "أورده الحافظ في "التلخيص" ولم يتكلم عليه فإن صح كان الفرسخ هو المتيقن ولا يقصر فيما دونه إذا كان يسمى سفرا لغة أو شرعا". وأقول: أنى له الصحة وفيه أبو هارون العبدي قال الحافظ في "التقريب": "متروك ومنهم من كذبه". وقد خرجت الحديث في "الإرواء" 3 / 15 من رواية جمع من المصنفين عنه فليرجع إليه من شاء. وفي ذلك ما يؤكد أنه لا يجوز الاغترار بسكوت الحافظ عن الحديث وأن ذلك لا يعنى ثبوته عنده حتى ولو كان ذلك في الفتح على أنه أنظف مصنفاته من الأحاديث الضعيفة ولعله من أجل ذلك لم يورد هذا الحديث فيه ... والله أعلم.

ومن السفر يوم الجمعة

ومن السفر يوم الجمعة ذكر أثرا: "عن عمر: إن الجمعة لا تحبس عن سفر. وآخر عن أبي عبيدة أنه سافر يوم الجمعة. وحديث عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة". قلت: وقد أخرجها كلها ابن أبي شيبة 2 / 105 - 106 وعبد الرزاق 3 / 250 - 251 وأثر عمر له طريقان عنه أحدهما صحيح وهو مخرج في "الضعيفة" تحت الحديث 219.وأثر أبي عبيدة منقطع. وحديث الزهري مرسل ومعناه صحيح ما لم يسمع النداء فإذا سمعه وجب عليه الحضور والله أعلم.

ومن الجمع بين الصلاتين

ومن الجمع بين الصلاتين قوله تحت عنوان: الجمع في المطر: "وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة". قلت: عزوه للبخاري خطأ لا رب فيه بل أشك أن يكون له أصل في شيء من كتب السنة المتداولة اليوم فإني لا أذكر أني رأيت حديثا بهذا المعنى وقد راجعت الآن مظانه فلم أجده ولو كان له أصل لكان العلماء المحدثون أوردوه في "باب جمع المقيم بمصر" ولما لجؤوا إلى الاحتجاج بغيره مما ليس في صراحته كحديث ابن عباس الآتي في الكتاب في الجمع للحاجة. ويستحيل عادة أن يخفى عليهم مثل هذا الحديث لو كان له أصل فلا أدرى كيف تسرب هذا الخطأ إلى المؤلف؟ وغالب الظن أنه نقله من بعض كتب الفقه التي لا علم

عندها بالحديث وروايته وعندي في ذلك أمثلة كثيرة أقربها إلى ما نحن فيه قول الرافعي في شرح الوجيز: "وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر للمطر" فرد عليه الحافظ في تخريجه 4 / 471 بقوله: "ليس له أصل وإنما ذكره البيهقي عن ابن عمر موقوفا عليه وذكره بعض الفقهاء عن يحيى بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عنه مرفوعا". فهذا يؤيد أن الحديث لا أصل له مطلقا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون له أصل في البخاري ويخفى على شارحه العسقلاني وغيره؟! هذا لا يكون أبدا. نسأله تعالى العصمة من الخطأ. ثم بدا لي احتمال آخر وهو أن الحديث في "البخاري" دون قوله: "ليلة مطيرة" لكن في آخره: "فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة قال: عسى". والقائل الثاني هو أبو الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس. وهذا كما ترى إنما قاله له أبو الشعثاء احتمالا فلعل المصنف نقل الحديث من حفظه دون أن يرجع فيه إلى كتاب فوقع في الخطإ وأدخل هذا القول في صلب الحديث فهو مدرج على اصطلاح - المحدثين ويحتمل أنه ترجح عنده صواب هذا الاحتمال فكان ذلك مسوغا عنده لهذا الإدراج وهذا وإن كان لا يسوغ عند أهل العلم فإنه يبطل ترجيحه أن مسلما روى الحديث عن ابن عباس بلفظ: "من غير خوف ولا مطر". قال الحافظ: "فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر".

قوله تحت عنوان: السفر في السفينة و ... و ... : "وعن عبد الله بن أبي عتبة قال: صحبت جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدرى وأبا هريرة في سفينة فصلوا قياما في جماعة أمهم بعضهم وهم يقدرن على الجد الشاطئ. رواه سعيد بن منصور". قلت: ورواه أيضا عبد الرزاق 5 / 582 وابن أبي شيبة 2 / 266 والبيهقي 3 / 155 إسناده صحيح.

ومن أدعية السفر

ومن أدعية السفر قوله:" 3 عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر قال: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من الضبنة1 ... " رواه أحمد والطبراني والبزار بسند رجاله رجال الصحيح" قلت: رووه جميعا من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس. وقال البزار: "لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس". قلت: وسماك - وهو ابن حرب - صدوق من رجال مسلم ولكن روايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بأخرة كما في "التقريب". فهو إسناد ضعيف. وهو عند أحمد 1 / 256 و300 والبزار 4 / 33 والطبراني 11 / 280 / 11735 وكذا ابن أبي شيبة 10 / 358 و360 لكن أكثره صحيح بما قبله.

_ 1 الضبنة والضبنة: ما تحت يدك من مال وعيال ومن تلزمك نفقته. ووقع في "كشف الأستار": "المصيبة" وأظنها محرفة عن "الضبنة".

قوله:" 5 وعن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: "يا أرض! ربى وربك الله ... " رواه أحمد وأبو داود" قلت: في إسناده من لا يعرف وبيانه في "الضعيفة" 4837 وفي التعليق على "الكلم الطيب" رقم 180 وزعم المعلق على "شرح السنة" 5 / 147 أن له شاهدا من حديث عائشة وهم محض لأنه متن آخر وهو الآتي بعد حديث مع بيان ضعفه والمعصوم من عصمه الله. قوله:" 7 وعن عطاء بن أبي مروان عن أبيه ... أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ... " رواه النسائي وابن حبان والحاكم وصححاه". قلت: الحديث صحيح لكن من غير هذه الطريق فإن أبا مروان هذا ليس بالمعروف كما قال النسائي نفسه وكما كنت ذكرته في التعليق على "الكلم الطيب" 178 ثم وجدت النسائي قد أخرجه أيضا في "عمل اليوم والليلة" 543 من غير هذه الطريق بسند صحيح ولذلك أودعته في "الصحيحة" رقم 2759 وذكرت خلاصة ذلك في تحقيقي الثاني لـ "الكلم الطيب" والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. قوله: "9 وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: "اللهم إني أسالك من خير هذه وخير ما جمعت فيها ... ". رواه ابن السني" قلت: وإسناده ضعيف فيه عيسى بن ميمون وهو مولى القاسم بن محمد قال الحافظ: "ضعيف". ولكنه قواه في "تخريج الأذكار" بحديث ابن عمر الذي هو قبل هذا في الكتاب ساقه من طريقين: أحدهما طريق "الأوسط" الذي جود إسناده المؤلف وهو قول الهيثمي في "المجمع" 10 / 134 وانظر "ابن علان" 5 / 158 - 159 و "الصحيحة" 2759.

ومن الجمعة

ومن الجمعة قوله تحت رقم 3 -: "أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة وليلة الجمعة". قلت: ذكر الحديث ولم يخرجه ولا بين مرتبته. وقد أخرجه ابن عدى والبيهقي من حديث أنس وروى من حديث ابن عمر وعن صفوان بن سليم مرسلا وهو بمجموع ذلك حسن كما بينته في "الصحيحة 1407 وهو صحيح دون ذكر "ليلة الجمعة" لحديث أوس الذي قبله وهو مخرج في المصدر المذكور برقم 1527. قوله تحت رقم 4 -: "وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين". رواه ابن مردويه بسند لا بأس به". قلت: هكذا قال المنذرى في "الترغيب" 1 / 261 وهو مردود بقول الحافظ ابن كثير في "التفسير" 1 / 70: "إسناده غريب". قلت: وذلك لأن فيه خالد بن سعيد بن أبي مريم وهو مجهول العدالة قال في "التهذيب" بعد أن نقل عن ابن حبان أنه ذكره في "الثقات":

"وقال ابن المديني: لا نعرفه وساق له العقيلي خبرا استنكره وجهله ابن قطان". ولذلك قال الحافظ: "مقبول". يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث. وفي نقدي أن هذا الحديث منكر أيضا لمخالفته لحديث أبي سعيد الذي قبلة وإسناده صحيح كما بينت في "الصحيحة" 2651. قوله تحت رقم 6 - بعد أن ذكر حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات ... ": "رواه ابن ماجه والمنذري". كذا وقع في هذه الطبعة وغيرها وهو تخريج غريب ويغلب على الظن أن فيه سقطا ولعل الصواب: " ... وحسنه المنذري" فقد قال في "الترغيب" 1 / 225: "رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم وإسنادهما حسن". وهو في نقدي غير حسن لأن مداره على عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وفيه ضعف من قبل حفظه وفي "التقريب": "صدوق يخطئ وكان مرجئا أفرط ابن حبان فقال: متروك". قلت: وقد اضطرب عبد المجيد في تعيين شيخه في هذا الحديث فقال مرة: "عن معمر" ومعمر ثقة ومرة قال: "عن مروان بن سالم" ومروان هذا متروك متهم بالوضع. ومعلوم أن الاضطراب علة في الحديث - ولو من ثقة - تمنع الحكم عليه بالحسن فكيف إذا كان ضعيفا؟ فتحسينه والحالة هذه أبعد ما يكون

عن الصواب ولم يتنبه لهذه العلة القادحة المعلق على "الزاد" 1 / 409 فقلد من حسنه وقد خرجت الحديث وبسطت الكلام عليه في "الضعيفة" 2810 وأوجزته في "ظلال الجنة في تخريج السنة" لابن أبي عاصم 620. قوله تحت عنوان: مشروعية التنفل قبلها: "1 فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. رواه أبو داود". قلت: وإسناده صحيح لكن عنده بعد قوله ركعتين: "في بيته" يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته ولا يصليهما في المسجد وهذا هو المرفوع من الحديث كما يدل عليه روايات أخرى للحديث تأتي في الكتاب. وأما صلاة ابن عمر قبل الجمعة فموقوف عليه كما بينه أبو شامة في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وابن القيم في "زاد المعاد" وغيرهما وسيأتي في الكتاب كلام ابن تيمية في أنه ليس للجمعة سنة قبلية فانظره وراجع له رسالتي "الأجوبة النافعة".

ومن من تجب عليه ومن لاتجب عليه

ومن من تجب عليه ومن لا تجب عليه قوله:" 5, 6 المدين المعسر الذي يخاف الحبس والمختفي من الحكم الظالم فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر". قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض". رواه أبو داود بإسناد صحيح". قلت: فيه خطآن: الأول: أن إسناد أبي داود غير صحيح لأن فيه أبا جناب وهو ضعيف ومدلس وقد عنعنه كما قال الحافظ في "التلخيص" وضعفه المنذرى أيضا في "مختصر السنن". الثاني: أن اللفظ المذكور ليس هو لأبي داود بل هو ملفق من روايتين إحداهما رواية أبي داود ولفظها: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى". وبهذا اللفظ والسد أخرجه الدارقطني أيضا والحاكم في رواية. والرواية الأخرى لفظها: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر". أخرجه ابن ماجه وغيره والحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وما أعتقد أن المؤلف يستجيز هذا التلفيق بين روايتين ولاسيما وإحداهما

صحيحة والأخرى ضعيفة وإنما هو التقليد وعدم الرجوع إلى الأصول. تنبيه: هذا الحديث اقتصر المؤلف على إيراده ههنا في "الجمعة" وكان يلزمه أن يورده أيضا في "الجماعة" لأن لفظ "النداء" يشملهما معا وعليه نقول: والحديث كما يدل على وجوب الجمعة وأنه لا يجوز التخلف عنها إلا لعذر فكذلك هو يدل على وجوب حضور صلاة الجماعة وأنه لا يجوز تركها إلا لعذر فهو حجة على المؤلف حيث ذكر هناك أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة ووجه ذلك أن الحديث صريح أنه لا يجوز التخلف عنها إلا لعذر وليس هذا شأن السنة فإنه يجوز تركها بدون عذر البتة اكتفاء بالقيام بالفرائض فقط كما يدل على ذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي على قوله: "والله لا أزيد عليهن ولا أنقص" وقوله: "أفلح الرجل إن صدق" أو: "دخل الجنة إن صدق" فثبت من ذلك أن صلاة الجماعة واجبة لا يجوز تركها إلا لعذر وهو الحق كما سبق بيانه هناك. وأما تأويل بعض العلماء لقوله في الحديث: "فلا صلاة له" أي: كاملة فإن أرادوا بذلك نفي الوجوب كما هو الظاهر فهو باطل من وجهين: الأول: قوله عقبه: "إلا من عذر" فإن هذا لا يقال في غير الواجب كما سبق بيانه. الثاني: أن هذا التأويل غير معروف في الشرع كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولا بأس من أن أنقل كلامه مختصرا لأهميته قال رحمه الله في "القواعد النورانية" ص 26: "وأما ما يقوله الناس: إن هذا نفي للكمال. كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" قلت: هذا ليس له إسناد ثابت. فيقال له: نعم هو لنفي

الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات؟ فأما الأول فحق وأما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسول الله قط وليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه؟! وأيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين والآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور. وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته كقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. وقوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ونظائر ذلك كثيرة. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له" و "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" و "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له". ولا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي إلى الصلاة في جماعة من الواجبات. لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على فعله من الصلاة أم يقال: إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يصلها؟ هذا فيه نزاع بين العلماء". اهـ. قلت: واختار شيخ الإسلام في غير هذا الكتاب البطلان واخترنا عدمه لحديث التفضيل على ما بينا في صلاة الجماعة. وحمله هو على المعذور وهو غير متبادر عندي. والله أعلم.

قوله تحت رقم 7: "وعن أبي مليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة وأصابهم مطر لم تبتل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم. رواه أبو داود وابن ماجه". قلت: السياق لأبي داود ولكنه زاد بعد قوله شهد النبي صلى الله عليه وسلم: "زمن الحديبية" وهي عند ابن ماجه أيضا فهي تدل على أن القصة كانت في السفر وقد صرح بذلك البيهقي في رواية له ومن المعلوم أن لا جمعة في السفر وحينئذ فالحديث لا يدل على أن المطر عذر لترك الجمعة بل للجماعة. قوله في آخر بحث وقت الجمعة مرجحا مذهب الجمهور أنه بعد الزوال نقلا عن الحافظ: "فروى ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس. وإسناده قوي". قلت: صدق سويد رحمه الله وأخطأ الحافظ ومن قلده كالمؤلف ومن قبله الشوكاني 3 / 221 في استدلالهم بهذا الأثر على ما ذكرنا مع أنه ليس فيه ذكر لصلاة الجمعة لا تصريحا ولا تلويحا وهذا بناء على السياق الذي ذكره الحافظ ونقلوه عنه وهو في "الفتح" 2 / 387 كما نقلوا وهو من أخطائه العجيبة التي لا أستطيع تصور صدورها من مثله فإن هذا الأثر لا تعلق له هنا البتة وإنما بصلاة الظهر كذلك وقع. التصريح به عند ابن أبي شيبة أخرجه بسنده الصحيح عن ميمون بن مهران: أن سويد بن غفلة كان يصلي الظهر حين تزول الشمس فأرسل إليه الحجاج: لا تسبقنا بصلاتنا. فقال سويد: قد صليتها مع أبي بكر وعمر هكذا والموت أقرب إلي من أن أدعها. أورده 1 / 322 - 323 تحت باب: من كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس ولا يبرد بها". إذا عرفت هذا فلا يصلح للمعارضة المدعاة لكن الحافظ ذكر عقبه آثارا

أخرى بمعناه عن عمر وغيره من الصحابة لكن الحقيقة أنه لا تعارض بينها وبين أثر ابن سيدان كما لا تعارض بين الأحاديث الموافقة لها وبين الأحاديث الموافقة له فالصحابة رضي الله عنهم تلقوا الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا - كما كان عليه السلام - يفعلون تارة هذا وتارة هذا كما ذكرته في رسالتي "الأجوبة النافعة" وقد خرجت فيها الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في الأمرين وهي مطبوعة فليراجعها من شاء. بقي شيء وهو جزم المؤلف بأن أثر ابن سيدان ضعيف وأيده بقول ابن حجر فيه: "تابعي كبير غير معروف العدالة". وقد رددت عليه في الرسالة المذكورة آنفا بما خلاصته أنه روى عنه أربعة من الثقات وذكره ابن حبان في "الثقات" 5 / 31 وأزيد هنا: والعجلي أيضا في "الثقات" 258 / 820 وقلت ثمة: "إنه حسن الحديث على طريقة بعض العلماء كابن رجب وغيره". بل هي طريقة الحافظ أيضا كما تقدم بيانه ص 204 – 207.والله أعلم. قوله في العدد الذي تنعقد به الجمعة: "تصح باثنين فأكثر لقوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة". قلت: لا يصح الاستدلال به لعدم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم كما بينته في "الإرواء" 489 و "المشكاة" 1081 فالاعتماد على ما ذكره المؤلف بعد عن الشوكاني. وراجع له "السيل الجرار" 1 / 297 - 298 فإنه بحث هام قد لا تجده في غيره.

قوله في أثر عمر: أن جمعوا حيثما كنتم: "وهذا يشمل المدن والقرى". قلت: كذا قال الحافظ في "الفتح" 4 / 380 وتبعه الشوكاني 3 / 198 أيضا وهو أعم من ذلك فيشمل أهل المياه أيضا فقد روى ابن أبي شيبة أيضا 2 / 102 عقب أثر عمر قال: حدثنا ابن إدريس عن مالك قال: "كان أصحاب محمد في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون". ويشهد له أثر ابن عمر المذكور في الكتاب آخر هذا البحث وقال فيه: "رواه عبد الرزاق بسند صحيح". قلت: كذا قال الحافظ وذكره الشوكاني دون أن ينسبه إليه كغالب تخاريجه واستشهد به المؤلف وفيه ما لا يخفى. وهو في "مصنف عبد الرزاق" 3 / 170 / 5185 عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ... فذكره. كذا وقع فيه: "عبد الله" مكبرا وهو ضعيف فلعل الأصل "عبيد الله مصغرا وهو ثقة بدليل تصحيح الحافظ لإسناده. والله أعلم. قوله في آخر بحث حكم الخطبة نقلا عن الشوكاني: "فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط". قلت: بل الصواب وجوبها وما أجاب به الشوكاني مردود وقد نحا نحوه صديق خان في "الروضة الندية" وفي "الموعظة الحسنة" فرددت عليه في رسالتي "الأجوبة النافعة" بما لا يدع إشكالا على القول بوجوبها فراجعه فإنه مهم جدا. ثم ذكر حديث جابر مرفوعا: كان إذا صعد المنبر سلم وضعفه بابن لهيعة ثم ذكره من مرسل الشعبي وعطاء. فأقول: هذان المرسلان أخرجهما ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وهما يقويان

حديث جابر ولا سيما وقد جرى عمل الخلفاء عليه كما حققته في "الصحيحة" 2076 بما لا تراه في مكان آخر إن شاء الله تعالى. قوله في حديث: كان إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم: "رواه ابن ماجه وهو وإن كان فيه مقال إلا أن الترمذي قال: العمل على هذا ... ". وأقول: الحديث صحيح لأن له شواهد مرفوعة وموقوفة خرجتها في "الصحيحة" أيضا 2080 وأحدها في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري قال: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله". وهذه من السنن المتروكة فعلى المحبين لها إحياؤها حياهم الله تعالى وبياهم وجعل الجنة مأوانا ومأواهم بفضله وكرمه. قوله في حديث أبي هريرة: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم": "رواه أبو داود وأحمد بمعناه". قلت: الحديث ضعيف أسنده عن أبي هريرة أحد من لا يوثق بحفظه وخالفه جمع من الثقات فأرسلوه بل أعضلوه وقد أعله بذلك أبو داود نفسه فقال عقبه 4840: "رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا". فكان على المؤلف أن يذكر هذا عقب الحديث أداء للأمانة العلمية ولكن هذا من شؤم التقليد وعدم الرجوع إلى الأصول ولكن إذا كان لم يرجع إلى الأصل فما باله لم ينقل ما ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 224 أن النسائي والدارقطني أعلاه أيضا بالإرسال وهو إنما نقل الحديث وتخريجه منه أو

من متنه؟! وقد خرجت الحديث وتكلمت عليه بتفصيل في أول "إرواء الغليل" رقم 2 وذكرت له فيه علة أخرى وهي اضطراب ذاك الضعيف في متنه على وجوه بينتها فراجع إن شئت تمام التحقيق. قوله: "وفي رواية: "الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد الجذماء". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: تشهد بدل شهادة". قلت: رواية أبي داود 4841 مثل رواية الترمذي وهي أصح وقال: "حديث حسن صحيح غريب" وسنده صحيح وهو في "مسند أحمد" 2 / 302 و343. هذا وكنت أود أن لا يخلي المؤلف كتابه من خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه ولا سيما وفيها نص التشهد المشار إليه في هذا الحديث وغيره كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك ... ". رواه مسلم 3 / 11. ونص الخطبة كما جاء في عدة أحاديث كنت جمعتها في رسالة خاصة فيها يأتي الإشارة إليها إن شاء الله: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً , يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . أما بعد. وكان أحيانا لا يذكر هذه الآيات الثلاث. وينبغي أن يقول أحيانا بعد قوله: "أما بعد": "فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "الإرواء" 608. قوله: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: "الحمد لله نستعينه ونستغفره ... من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا". وعن ابن شهاب أنه سئل عن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال: "ومن يعصهما فقد غوى". رواهما أبو داود". قلت: إسنادهما ضعيف. أما الأول ففيه أبو عياض وهو مجهول وقد أعله المنذري وابن القيم والشوكاني بغيره. والحق ما ذكرته.

وأما الآخر فعلته أنه من مرسل ابن شهاب والمرسل ليس بحجة عند الجمهور. ثم إن في الحديثين جملة قد صح عنه صلى الله عليه وسلم النهي عنها وهي قوله فيهما: "ومن يعصهما ... ". فروى مسلم وغيره عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى". فقال صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت قل: ومن يعص الله ورسوله". وحديث ابن مسعود قد جاء من طرق ثلاثة أخرى عنه وليس في شيء منها هذه الجملة فدل ذلك على نكارتها فيه ولي في بيان ذلك رسالة لطيفة بعنوان: "خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه" أوردت فيها النص الصحيح الكامل لهذه الخطبة المباركة وخرجت أحاديثها مع فوائد أخرى تناسبها وقد طبعت مرارا والحمد لله. قوله في استحباب رفع الصوت بالخطبة وتقصيرها والاهتمام بها: "وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت صلاة رسول صلى الله عليه وسلم قصدا وخطبته قصدا. رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود". قلت: استثناء أبي داود خطأ قلد فيه صاحب "المنتقى" ولم ينبه عليه الشوكاني 3 / 228 فقد أخرجه في "سننه" برقم 1101 وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1009. قوله تحت عنوان: قطع الإمام الخطبة للأمر يحدث: "وعن أبي بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران. رواه الخمسة". قلت: فيه:

أولا: قوله: "أبي بريدة". خطأ متكرر هنا وفي الطبعة الجديدة والصواب: "بريدة" بحذف أداة الكنية وهو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. ثانيا: المقصود بـ الخمسة الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة ومنهم الترمذي وقد قال عقب الحديث: "حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد". والحسين هذا قال الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 233: "هو أبو علي قاضي مرو احتج به مسلم في" صحيحه"وقال المنذري: ثقة". قلت: فكان على المؤلف أن ينقل عنه ما يدل على صحة الحديث ولا يقتصر على التخريج لأن التخريج بالنسبة لدرجة الحديث كالوسيلة مع الغاية فما الفائدة من الإتيان بالوسيلة دون الغاية وهذه مصيبة عامة لم ينج منها أكثر المؤلفين قديما وحديثا والله المستعان. والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1016. قوله تحت عنوان: حرمة الكلام أثناء الخطبة في حديث ابن عباس مرفوعا: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا. والذي يقول له: أنصت لا جمعة له". قال: "رواه أحمد وابن أبي شيبة والطبراني قال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده لا بأس به". وأقول: كيف لا وفيه عندهم جميعا مجالد بن سعيد والحافظ نفسه يضعفه في "التقريب" بقوله:

"ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره". وبه أعله الهيثمي 2 / 184 ولذلك أشار المنذري في "الترغيب" 1 / 257 إلى ضعف الحديث بتصديره إياه بقوله: "روي" كما نص عليه في المقدمة ولذلك خرجته في "الضعيفة" 1760 برواية من ذكرهم الحافظ وغيرهم. وقد صح معنى الحديث عن ابن عمر موقوفا عند ابن أبي شيبة 2 / 125. ولعل الحافظ قوى حديثه هذا للشاهد الذي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفا ولكني لا أرى أن الموقوف يصلح شاهدا لتقوية المرفوع هنا. والله أعلم. ثم ذكر حديث أبي الدرداء وفيه قول أبي له حين سأله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب: ما لك من جمعتك إلا ما لغوت. وقوله صلى الله عليه وسلم: "صدق أبى" ... الحديث قال: "رواه أحمد والطبراني". قلت: رجاله موثقون كما قال الهيثمي لكن أعله المنذري والعسقلاني بالانقطاع كما بينته في "التعليق الرغيب" 1 / 258 لكن الحديث صحيح فإنه رواه ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي نفسه وفيه أن أبا ذر هو الذي كلم أبيا. وكذلك رواه الطحاوي 1 / 215 والطيالسي عن أبي هريرة وإسناده حسن كما في "الإرواء" 2 / 80 وابن خزيمة في "صحيحه" 1807 عن أبي ذر نفسه. وقوله: "وقال الشافعي: لو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه لأن السلام سنة ورده فرض". قلت: ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 232 نقلا عن مختصر البويطي وهو في "الأم" للشافعي 1 / 175 وفي "مختصر المزني" 1/

138. والتفريق بين التشميت ورد السلام غير ظاهر عندي إذ حكمهما في الأصل واحد إما السنة كما في كلام الشافعي أو الوجوب كما هو الراجح عند كثير من العلماء فينبغي التسوية بينهما في المنع أو الجواز وفي ذلك عند الشافعية ثلاثة وجوه ذكرها النووي في "المجموع" 4 / 524 وقال: "الصحيح المنصوص تحريم تشميت العاطس كرد السلام". قلت: وهذا هو الأقرب لما ذكرته في "الضعيفة" تحت الحديث 5665. ثم قوله: "فعن ثعلبة بن أبي مالك قال: كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد ... رواه الشافعي في مسنده". قلت: وهو في "الأم" 1 / 175: وحدثني ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال: حدثني ثعلبة به وزاد في أوله: "أن قعود الإمام يقطع السبحة وأن كلامه يقطع الكلام". وأخرجه مالك في "الموطأ" 1 / 126 ومن طريقه الشافعي عن ابن شهاب به نحوه إلا أنه جعل الزيادة في آخره من كلام الزهري وهو أصح لأن مالكا أوثق من ابن أبي فديك واسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك. وقال النووي في "المجموع" 4 / 220: "وحديث ثعلبة صحيح رواه الشافعي في "الأم" بإسنادين صحيحين"! كذا قال وهو يعني طريق ابن أبي فديك ومالك عن ابن شهاب وهذا

اصطلاح خاص بالنووي انتقده عليه العسقلاني وغيره لما فيه من الإيهام لمن لا معرفة له أن له طريقا أخرى عند الشافعي عن ثعلبة وهو خلاف الواقع فإنه عن ابن شهاب وحده. نعم قد وجدت له متابعا قويا أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2 / 124 من طريق يزيد بن عبد الله عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: "أدركت عمر وعثمان فكان الإمام إذا خرج يوم الجمعة تركنا الصلاة فإذا تكلم تركنا الكلام". وهذا إسناد صحيح ويزيد هذا هو ابن الهاد الليثي المدني. فائدة: في هذا الأثر دليل على عدم وجوب إجابة المؤذن لجريان العمل في عهد عمر على التحدث في أثناء الأذان وسكوت عمر عليه وكثيرا ما سئلت عن الدليل الصارف للأمر بإجابة المؤذن عن الوجوب؟ فأجبت بهذا. والله أعلم. قوله تحت عنوان: إدراك ركعة من الجمعة أو دونها: "قال ابن مسعود: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا. رواه الطبراني بسند حسن". قلت: نقله من "مجمع الهيثمي" 2 / 192 وحقه أن يصححه لأن الطبراني أخرجه في "الكبير" من طرق عن أبى إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود 9 / 358 - 359 / 9545 - 9549 وأخرجه غيره فراجع" الإرواء" 621 و "الأجوبة النافعة". وأما أثر ابن عمر المذكور بعد هذا من رواية البيهقي فهو قوي كما بينته ثمة.

قوله تحت عنوان: الصلاة في الزحام: "روى أحمد والبيهقي عن سيار قال: سمعت عمر وهو يخطب يقول ... " الحديث. وفيه قول عمر: "فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه". قلت: هو في "المسند" 1 / 32 و "سنن البيهقي" 3 / 182 - 183 من طريق سليمان بن داود أبي داود بسنده عن سيار. وأبو داود هذا هو الطيالسي صاحب "المسند" المعروف به وقد أخرجه فيه برقم 70. ثم إن سيارا هذا - وهو ابن معرور - قال ابن المديني: مجهول. وبه أعله الهيثمي 2 / 10 وقال: "وقيل: فيه مغرور بالمعجمة والمهملة". قلت: لكن هذه الفقرة من قول عمر قد أخرجها عبد الرزاق 5465 و5469 من طريقين آخرين عنه الأول فهما صحيح والآخر منقطع لكن وصله البيهقي وإسناده صحيح. قوله في سنة الجمعة البعدية: "قال ابن القيم: قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في المسجد صلى أربعا وإن صلى في بيته صلى ركعتين". قلت: هذا التفصيل لا أعرف له أصلا في السنة إلا ما سيذكره من حديث ابن عمر ويأتي قريبا بيان ما فيه وقوله في الحديث الصحيح المتقدم: "من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا". رواه. مسلم وغيره وهو في "الإرواء" 625 لا دليل فيه على أن الأربع في المسجد والحديث الصحيح المعروف: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" فإذا صلى بعد الجمعة ركعتين أو أربعا

في المسجد جاز أو في البيت فهو أفضل لهذا الحديث الصحيح. قوله في تمام كلام ابن القيم المتقدم: "وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه [إذا] صلى في المسجد [صلى] أربعا وإذا صلى في بيته صلى ركعتين". قلت: الجملة الأولى من هذا الأثر اختصرها ابن القيم رحمه الله اختصارا مخلا بالمعنى وانطلى أمره على المؤلف ولا غرابة في ذلك فإن من عادته عدم الرجوع إلى الأصول وإنما الغريب أن يخفى ذلك على من علق على "زاد المعاد" وزعم أنه "حقق نصوصه وخرج أحاديثه ... "! فإنه قال في تخريج هذا الحديث 1 / 440: "رواه أبو داود 1130 في الصلاة: باب الصلاة بعد الجمعة". فإن لفظه في المكان الذي أشار إليه: "عن عطاء عن ابن عمر قال: كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". وهكذا رواه البيهقي 3 / 240 - 241 وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 1035. فأنت ترى أن رواية أبي داود تختلف عما عزاه إليه ابن القيم من وجهين: الأول: أن فيها أنه كان يصلي ست ركعات وهو يقول: أربعا! الثاني: فيها أن ذلك كان في مكة وهو يعني المسجد الحرام وابن القيم قال: "المسجد" أي المسجد النبوي بدليل ما بعده "وإذا صلى في بيته" يعني

في المدينة لأن ابن عمر مدني كما هو معلوم. فإذا عرفت هذا فراويه أبي داود هذه لا تدل على التفصيل الذي ادعاه ابن تيمية وزعم ابن القيم أن الحديث يدل عليه وذلك لأمور: الأول: أن الدعوى أنه يصلى ستا. الثاني: أنه خاص بالمسجد الحرام والدعوى عامة. الثالث: أنه موقوف فليس بحجة ومن المحتمل أنه فعل ذلك لأمر يتعلق به أو لغير ذلك من الأسباب التي ذكرها الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 239.

ومن اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد

ومن اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد قوله: "فعن زيد بن أرقم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن يصلي فليصل". رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة والحاكم". قلت: فيه خطآن: الأول: من الخمسة الترمذي ولم يروه ولذلك استثناه الحافظ في "بلوغ المرام" فقال: "رواه الخمسة إلا الترمذي". ولم يعزه إليه في "التلخيص" 2 / 88 وقد خرجته في "صحيح أبي داود" 982. والآخر: قوله: "وصححه ابن خزيمة". وهو فيه مقلد للأمير الصنعاني في "سبل السلام" وسبب هذا الوهم منه هو

أنه رأى الحديث في "صحيح ابن خزيمة" 1464 فتوهم أن كل أحاديثه صحيحة وليس الأمر كذلك عنده فكثيرا ما يخرج الحديث تحت بابه ويصرح فيه بعلته ويشكك في صحته وهذا ما فعله في هذا الحديث فإنه قال أثناء ترجمته عنه في الباب 3 / 359: "إن صح الخبر فإني لا أعرف إياس بن أبي رملة بعدالة ولا جرح". لكن الحديث صحيح بشواهده الآتية في الكتاب وقد صححه ابن المديني والحاكم والذهبي وهي مخرجة في "صحيح أبي داود" أيضا 983 – 984.

ومن باب صلاة العيدين

ومن باب صلاة العيدين قوله: "وهي سنة مؤكدة واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليها وأمر الرجال والنساء أن يخرجوا لها". قلت: فالأمر المذكور يدل على الوجوب وإذا وجب الخروج وجبت الصلاة من باب أولى كما لا يخفى فالحق وجوبها لا سنيتها فحسب ومن الأدلة على ذلك أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد كما سبق في كتاب المؤلف قريبا وما ليس بواجب لا يسقط واجبا كما قال صديق خان في "الروضة الندية" وراجع تمام هذا البحث فيه وفي "السيل الجرار" 1 / 315. قوله تحت رقم 1 -: "فعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد. رواه الشافعي والبغوي". قلت: فيه أمور: الأول: أن الشافعي رواه في "الأم" من طريق إبراهيم عن جعفر به

وإبراهيم هو ابن محمد بن أبي يحيى المدني وهو متروك متهم بالكذب. وجعفر هو ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فيكون جده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فيكون الإسناد معلولا بعلتين: الإرسال والضعف الشديد. والآخر: أن البغوي لم يروه بإسناده إنما علقه تعليقا فقال في "شرح السنة" 4 / 352: "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ... ". فقد أشار إلى تضعيفه بتصديره إياه بقوله: "روي" فكان على المؤلف أن يبين ذلك كله نصحا للقراء. وقد رواه الحجاج بن أرطاة المدلس عن محمد بن علي لم يجاوزه. ومرة قال: عن جابر بن عبد الله به نحوه فأسنده وقد خرجت هذا مفصلا في "الضعيفة" 2455. لكن للحديث شاهدا من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: "كان يلبس يوم العيد بردة حمراء". وهو مخرج في "الصحيحة" 1279 فلو أن المؤلف آثره لكان خيرا له. وروى الحاكم 4 / 230 من طريق الليث بن سعد عن إسحاق بن بزرج عن زيد بن الحسن بن علي عن أبيه رضي الله عنهما قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد ... ". الحديث وقال: "لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة".

قلت: وضعفه الأزدي وأما ابن حبان فذكره في "ثقات التابعين" 1 / 24 وقال: "يروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب. روى عنه الليث بن سعد". يشير إلى هذا الحديث فقد رواه البخاري في "التاريخ" 1 / 1 / 1222 هكذا ليس فيه ذكر لزيد ولا قوله: عن أبيه. ولعله الصواب. قوله تحت رقم 4 -: "وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج نساءه وبناته في العيدين. رواه ابن ماجه والبيهقي". قلت: في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو مدلس وقد عنعنه وقد اضطرب في إسناده فمرة قال: عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبابس ومرة قال: عن عطاء عن جابر. أخرجه أحمد 3 / 363. ومع أن البوصيري أصاب في "زوائده" في قوله: "هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج" فإنه جعل رواية أحمد عنه شاهدا له فكأنه لم يستحضر إسناده وإلا فكيف يسوغ ذلك والشاهد له هو عين المشهود؟! قوله تحت رقم 5 -: "فعند أبي داود والحكم ... عن بكر بن مبشر قال: كنت أغدو مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم الفطر ... فنسلك بطن بطحان ... ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا. قال ابن السكن: إسناده صالح". قلت: كلا ليس بصالح لأنه من طريق إسحاق بن سالم عن بكر وهما مجهولان ولذلك تعقب الذهبي في "الميزان" قول ابن السكن هذا بقوله:

"قلت: لا يعرف إسحاق وبكر بغير هذا الحديث". وقال الحافظ في ترجمة إسحاق المذكور: "مجهول الحال". والمجهول لا يحتج بحديثه بحال. قوله في وقت صلاة العيد: "أخرجه أحمد بن حسن البناء من حديث جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح. قال الشوكاني: هذا الحديث أحسن ما ورد في تعيين وقت صلاة العيد". وأقول: نعم لولا أنه لا يصح وقد نقله الشوكاني عن "التلخيص الحبير" للحافظ ثم قال 3 / 248: "ولم يتكلم عليه". قلت: لكنه قد ساق من إسناده ما يتمكن به العارف بهذا الفن أن يحكم عليه بما يستحقه من صحة أو ضعف وقد كنت نقلته عنه في "الإرواء" 3 / 101 وعقبت عليه بقولي: "لكن المعلى بن هلال الذي في إسناده اتفق النقاد على تكذيبه كما قال الحافظ في تقريبه". ثم إن الشوكاني قد انقلب عليه اسم البناء مخرج الحديث فقال كما ترى: "أحمد بن حسن" وقلده المؤلف والصواب: "الحسن بن أحمد" كما في "التلخيص" 2 / 83 وكتب الرجال وهو فقيه حنبلي له ترجمة حسنة في "شذرات الذهب" توفي سنة 471.

وفي الباب حديث صحيح عن عبد الله بن بسر أنه خرج مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال: "إنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح". أخرجه أبو داود وغيره وعلقه البخاري بصيغة الجزم وصححه الحاكم والنووي والذهبي وهو مخرج في "الإرواء" 3 / 101. و "صحيح أبي داود" 1040. قوله تحت رقم 7 -: "وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ... كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة. رواه البزار". قلت: سكوت المؤلف يوهم صحته وليس بصحيح ولا حسن فقد قال الهيثمي: "رواه البزار وجادة وفي إسناده من لم أعرفه". قلت: وفيه عبد الله بن شبيب شيخ البزار وهو واه كما قال الذهبي فكان على الهيثمي أن يعله به ولا سيما أن البزار قد قال عقبه: "لا نعلمه إلا بهذا الإسناد". كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" 1 / 315. وقد أشار المؤلف إلى ضعف الحديث فراجع كلامه عن خطبة العيد. قوله في التكبير في صلاة العيدين: "يسن ... رفع اليدين مع كل تكبيرة". قلت: الصواب أن يقال: لا يسن ذلك لأنه لم يثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وكونه روي عن عمر وابنه لا يجعله سنة ألا ترى أن المؤلف قال بمثل قولنا في تكبيرات

الجنائز1 واحتج بمثل حجتنا مع أنه قد صح عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه فيها؟ فإن كان هذا يجعل التكبيرات سنة فليقل بسنيتها وإلا فليقل بعدم المشروعية في الموضعين وهو الحق ولا سيما أن رواية عمر وابنه ههنا لا تصح. أما عن عمر فرواه البيهقي بسند ضعيف. وأما عن ابنه فلم أقف عليها الآن وقد قال مالك: "لم أسمع فيه شيئا". انظر "الإرواء" 640. وقوله: "ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ذكر معين بين التكبيرات ولكن روى الطبراني والبيهقي بسند قوي عن ابن مسعود من قوله وفعله أنه كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم". قلت: قوى إسناده تبعا للحافظ في "التلخيص" وفيه عندي نظر لأن في سند الطبراني انقطاعا كما قال الهيثمي في "المجمع" وأما إسناد البيهقي فأعله ابن التركماني في "الجوهر النقي" بأن: "فيه من يحتاج إلى كشف حاله". قلت: ولعل الرجل المشار إليه هو محمد بن أيوب ولم أعرفه وفي الرواة جماعة بهذا الاسم وقد أشار ابن القيم في الزاد" إلى ضعف هذا الأثر عن ابن مسعود وهو الأرجح ويقويه قول ابن التركماني أيضا: "قد ذكر البيهقي قول ابن مسعود في الباب الذي قبل هذا من عدة طرق وذكره ابن أبي شيبة من طرق أكثر من ذلك وكذا ذكره غيرهما ولا ذكر في شيء منها للذكر بين التكبيرات ولم يرو ذلك في حديث مسند ولا عن أحد من السلف

_ 1 انظر 4 / 88 من "فقه السنة" و 4 / 53 من "نيل الأوطار".

فيما علمنا إلا في هذه الطريق الضعيفة وفي حديث جابر المذكور بعد هذا وفي سنده من يحتاج إلى كشف حاله وفيه أيضا علي بن عاصم قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب ... قال: ولو كان ذلك مشروعا لنقل إلينا ولما أغفله السلف رضي الله عنهم". ثم وقفت لأثر ابن مسعود هذا على طريق أخرى لما قمت بتحقيق كتاب: "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" للإمام إسماعيل القاضي وذكرت هناك أن إسناده حسن وصححه الحافظ السخاوي في "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" ص 151 - هندية فانظر "فضل الصلاة" 37 / 38 - طبع المكتب الإسلامي وانظر "الإرواء" 642. قوله في خطبة العيد: "وعن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب". رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه". قلت: إسناده ضعيف أعله أبو داود والدارقطني وابن معين بالإرسال. وأقول: فيه ابن جريج وهو مدلس وقد عنعنه. ثم ترجح عندي الوصل على الإرسال وأن عنعنة ابن جريج هنا لا تضر كما بينته في "الإرواء" 629 فراجعه وعليه أوردته في "صحيح أبي داود" 1048 وصححه الحاكم والذهبي وابن خزيمة أيضا 1462 فالحديث صحيح.

وقوله في خطبة العيد أيضا: "وإنما روى ابن ماجه في "سننه" عن سعيد مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر بين أضعاف الخطبة ... ". قلت: ومع أنه لا يدل على مشروعية افتتاح خطبة العيد بالتكبير فإن إسناده ضعيف فيه رجل ضعيف وآخر مجهول فلا يجوز الاحتجاج به على سنية التكبير في أثناء الخطبة. قوله تحت عنوان: اللعب واللهو والغناء والأكل في الأعياد: قال الحافظ في "الفتح": وروى ابن السراج من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "لتعلم يهود المدينة أن في ديننا فسحة: إني بعثت بحنيفية سمحة". قلت: الذي في "الفتح ": "السراج" بدون: "ابن" وهو الصواب وهو الحافظ الإمام الثقة أبو العباس محمد بن إسحاق النيسابوري صاحب "المسند" والتاريخ له ترجمة واسعة في "تذكرة الحفاظ" 2 / 168 – 272. ثم إن اقتصار الحافظ على عزوه للسراج يوهم أنه لا يوجد عند من هو أشهر منه وليس كذلك فقد أخرجه الإمام أحمد 6 / 166 و233 من طريق عبد الرحمن يعني ابن أبي الزناد قال: قال لي عروة ... قلت: وعبد الرحمن هذا فيه ضعف من قبل حفظه. وقال الحافظ في "التقريب ": "صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد". قلت: والظاهر لي أن هذا الحديث حدث به في حالة التغير فإنه تفرد به

دون غيره ممن رواه عن عروة وهم جماعة من الثقات وتابع عروة على رواية أصل القصة أربعة من الثقات فلم يذكر أحد منهم هذا الذي رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد فدل على ضعفه. ثم استدركت فقلت: وجدت له طريقا أخرى من رواية يعقوب بن زيد التيمي عن عائشة أخرجه الحميدي في "مسنده" 1 / 123 ورجاله ثقات فهو صحيح إن سلم من الانقطاع بين التيمي وعائشة وإلا فهو شاهد قوي. ولجملة: "الحنيفية السمحة" شواهد منها عن أبي أمامة وقد خرجته مع ما في معناه في "الصحيحة" 2924. وقد أوردت طرق الحديث الخمسة وذكرت ألفاظه وما في طرقه من الزيادات في "كتاب المساجد" من "الثمر المستطاب" ثم في "آداب الزفاف" 163 – 169. قوله تحت عنوان: فضل العمل الصالح ... : "وعند أحمد والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ... من هذه الأيام العشر فكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". قلت: عزوه للطبراني من حديث ابن عمر خطأ فإنما رواه من حديث ابن عباس كما في "الترغيب" و "المجمع" وقان الأول: "إسناده جيد". وقال الآخر: "ورجاله رجال الصحيح".

وفيما قالاه نظر فإنه عند الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق خالد - وهو ابن الحارث البصري أو ابن عبد الله الواسطي - عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس. ويزيد هذا هو الهاشمي مولاهم وإنما روى له مسلم مقرونا ولم يحتج به ثم إن فيه ضعفا قال الحافظ: "ضعيف كبر فتغير صار يتلقن". ومما يدل على ضعفه في هذا الحديث أنه اضطرب في روايته فمرة رواه هكذا: "عن مجاهد عن ابن عباس" ومرة قال: "عن مجاهد عن ابن عمر". أخرجه أحمد رقم 1154. وقد تابعه على هذا الوجه موسى بن أبي عائشة. رواه أبو عوانة يعني في "صحيحه" كما في "الفتح" وهذه متابعة قوية تدل على ان للحديث أصلا عن ابن عمر فهو شاهد قوي لحديث ابن عباس الذي في الكتاب قبل هذا لكن لينظر هل توجد في رواية ابن أبي عائشة هذه الزيادة التي في آخره: "فأكثروا فيهن"؟ فإن وجدت فهي صحيحة وإلا في ضعيفة لتفرد يزيد بن أبي زياد بها والظاهر من كلام الحافظ في "الفتح" الأول فإنه بعد أن ذكر هذه الرواية من طريق أبي عوانة قال بعد صفحتين في آخر شرحه للحديث: "وقد وقع في رواية ابن عمر من الزيادة في آخره: فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد". فإن المتبادر منه أنه يعني تلك الرواية التي كان عزاها قبل لأبي عوانة ثم ذكر الحافظ أن هذه الزيادة رويت في بعض طرق حديث ابن عباس. ولكنه ضعفها. والله أعلم.

وقوله: "وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر". رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي". قلت: إسناده ضعيف. والمؤلف نقله عن "الترغيب" للمنذري 2 / 125 وهو وإن كان قد ضعفه بتصديره إياه بقوله: "روي" كما هو اصطلاحه الذي نبه عليه في المقدمة ولكنه - جزاه الله خيرا - لم يكتف بذلك بل أتبعه ببيان علته فقال بعد تخريجه المذكور: "وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس بن قهم وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه". قلت: ولذلك كنت أود لو أن المؤلف نقل تمام كلام المنذري هذا أداء للأمانة العلمية وبيانا صريحا لضعف الحديث لأن المؤلف لم يلتزم الاصطلاح المشار إليه من جهة كما تقدم بيانه في المقدمة ولأن عامة قرائه لا علم عندهم على الغالب بالمصطلحات العلمية. ثم إن الحديث قد تكلمت عليه مفصلا في "الضعيفة" 5142. وفي استحباب التهنئة بالعيد قوله: "عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك. قال الحافظ: إسناده حسن". قلت: المراد بـ "الحافظ" عند الإطلاق ابن حجر العسقلاني ولم أقف على هذا التحسين في شيء من كتبه وإنما وجدته للحافظ السيوطي في رسالته: "وصول الأماني في أصول التهاني" ص 109 من الجزء الأول من "الحاو

للفتاوي" وقد عزاه لزاهر بن طاهر في "كتاب تحفة عيد الفطر" وأبي أحمد الفرضي. ورواه المحاملي في "كتاب صلاة العيدين" 2 / 129 / 2 بإسناد رجاله كلهم ثقات رجال "التهذيب" غير شيخه المهنى بن يحيى وهو ثقة نبيل كما قال الدارقطني وهو مترجم في "تاريخ بغداد" 13 / 266 - 268 فالإسناد صحيح لكن خالفه حاجب بن الوليد في إسناده فلم يرفعه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن صفوان بن عمرو السكسكي قال: "سمعت عبد الله بن بسرو عبد الرحمن بن عائذ وجبير بن نفير وخالد بن معدان يقال لهم في أيام الأعياد: تقبل الله منا ومنكم. ويقولون ذلك لغيرهم". أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في كتابه "الترغيب والترهيب" ق 41 / 2 - 42 / 1. فإن صح السند بهذا إلى الحاجب فإن في الطريق إليه من يحتاج إلى الكشف عن حاله فلعل مبشر بن إسماعيل حدث بهذا وهذا وبخاصة أن عبد الله بن بسر هذا - وهو المازني - صحابي صغير ولأبيه صحبة فيبعد أن يقول هو والتابعون المذكورون معه شيئا دون أن يتلقوه عن الصحابة فتكون الروايتان صحيحتين فالصحابة فعلوا ذلك فاتبعهم عليه التابعون المذكورون. والله سبحانه وتعالى أعلم. ويؤيد الرواية الأولى ما ذكره ابن التركماني في "الجوهر النقي" 3 / 320 من رواية محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا

يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك. قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد. ولم يذكر من رواه وقد عزاه السيوطي لزاهر أيضا بسند حسن عن محمد بن زياد الألهاني قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه: تقبل الله منا ومنكم. ثم كتب بعض إخواننا الطلاب تعليقا على نفيي المتقدم فقال: بل قال الحافظ في "الفتح" 2 / 446: "وروينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير ... ". ثم ذكره. قوله في تكبيرات العبد: "ووقته في عيد الأضحى من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق". قلت: صح هذا عن علي وابن عباس وقد خرجتهما في "الإرواء" 3 / 125 ورواه الحاكم عن ابن مسعود. قوله في صيغة التكبير: "وجاء عن عمر وابن مسعود: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله اكبر ولله الحمد". قلت: كذا رواه ابن أبي شيبة بتشفيع التكبير في رواية وفي أخرى له بتثليث التكبير والمعروف الأول. انظر "الإرواء" 3 / 125 – 126.

ومن الزكاة

ومن الزكاة قوله تحت عنوان: 1 تعريفها: "روى الطبراني في "الأوسط" و "الصغير" عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ... " قال الطبراني: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد: قال الحافظ: وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيره وبقية رواته لا بأس بهم". قلت: فيه مؤاخذات: أولا: أطلق كلمة الحافظ فأوهم أنه الحافظ ابن حجر لأنه هو المقصود عند الإطلاق وليس به بل هو المنذري فإن قوله المذكور هو كلامه بالحرف في "الترغيب" 1 / 268 وقد مضى له مثل هذا الخطأ في صلاة التسبيح ص 260. ثانيا: أن ما نقله من كلام المنذري يوهم أن المنذري يذهب إلى تقوية الحديث مرفوعا وليس كذلك بل تمام كلامه يوهنه فإنه قال عقب ذلك: "وروي موقوفا على علي رضي الله عنه وهو أشبه". قلت: وهذا هو الصواب لأنه روي من وجوه موقوفا عليه كما قال الطبراني في "المعجم الصغير" ص 91 وقد رواه كذلك أبو عبيد رقم 1909 وسيأتي لفظه في الكتاب في آخر بحث الزكاة نقله المؤلف عن "المحلى" لابن حزم. ثالثا: من رواته كما في "الطبراني الصغير" حارث بن سريج قال ابن معين: "ليس بشيء" ووثقه في رواية. وقال النسائي: "ليس بثقة".

وقال موسى بن هارون: "متهم في الحديث". وقال ابن عدي: "ضعيف يسرق الحديث". فهذا الكلام من مثل هؤلاء الأئمة يسقط حديثه ويجعله واهيا ولا سيما أنه قد روي عن غيره موقوفا! رابعا: أن ثابت بن محمد الزاهد - وإن روى له البخاري - فقد ذكره هو نفسه في الضعفاء وضعفه غيره من قبل حفظه ولذلك قال الحافظ في "التقريب": "صدوق يخطئ". قوله تحت عنوان: 2 الترغيب في أدائها: وروى أحمد بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ... كيف أصنع؟ وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل". قلت: لم أر من صرح بتصحيحه والمصنف صححه بناء على قول المنذري: "ورجاله رجال الصحيح". وكذا قال الهيثمي ولا يلزم منه أن يكون صحيحا لاحتمال فقد شرط من شروط الصحة الأخرى كما ذكرناه في المقدمة والواقع هنا كذلك لأن شرط الاتصال فيه مفقود فالحديث في "المسند" 3 / 136 من طريق سعيد بن أبي هلال عن أنس وسعيد هذا لم يسمع من أنس كما في "التهذيب" فهو منقطع

والمنقطع من أقسام الحديث الضعيف. قوله في التعليق: "لو باع النصاب في أثناء الحول أو أبدله بغير جنسه انقطع حول الزكاة واستأنف حولا آخر". قلت: ينبغي أن يقيد هذا بما إذا وقع ذلك اتفاقا لا لقصد الخلاص من الزكاة كما يروى عن بعض الحنفية أنه كان إذا قارب انتهاء حول النصاب وهب المال لزوجته حتى إذا انتهى الحول استرده منها لأن العود بالهدية جائز عندهم على تفصيل فيه فمن احتال هذه الحيلة - التي يسميها بعضهم حيلة شرعية - فإني أرى أن يؤخذ منه الزكاة وشطر ماله على حديث بهز بن حكيم المذكور في الكتاب فإن المحتال أولى بهذا الجزاء من الممتنع دون حيلة فتأمل. وراجع ما سيأتي في الكتاب تحت عنوان: " الفرار من الزكاة". قوله تحت عنوان: 10 أداؤها وقت الوجوب: روى الشافعي والبخاري في" التاريخ" عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته". قلت: إسناده ضعيف فقد قال الشافعي 1 / 242 من بدائع المنن: "أخبرنا محمد بن عثمان بن صفوان الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه عنها". ومحمد بن عثمان قال في "الميزان": "شيخ للحميدي قال أبو حاتم: منكر الحديث". ثم عد من مناكيره هذا الخبر. وقد ضعف الحديث المنذري في "الترغيب" والهيثمي في "المجمع"

والمناوي في "شرح الجامع الصغير" وغيرهم وإن شئت المزيد من التحقيق فراجع "تخريج أحاديث المشكلة" 63 ثم "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 5069. قوله تحت عنوان: 12 الدعاء للمزكي: "وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بصدقة قال: "اللهم صل عليهم" وإن أبي أتاه بصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". رواه أحمد وغيره". قلت: لقد أبعد المؤلف النجعة فالحديث في "الصحيحين" كما في "المنتقى" وغيره ولا يجوز عزو الحديث إذا كان في "الصحيحين" أو في أحدهما إلى غيرهما إلا تبعا أو لزيادة فيه لما فيه من إيهام أنه ليس مقطوعا بصحته وهو مخرج في "إرواء الغليل" 853 و "صحيح أبي داود" 1415. قوله تحت عنوان ضم النقدين: "من ملك من الذهب أقل من نصاب ومن الفضة كذلك لا يضم أحدهما إلى الآخر ليكمل منهما نصابا لأنهما جنسان لا يضم أحدهما إلى الثاني كالحال في البقر والغنم ... ". قلت: والاحتجاج لهذا بالحديث خير من القياس قال ابن حزم - بعد أن رد على القائلين بالضم وأبطل رأيهم بالنظر 6 / 83: "وحجتنا في أنه لا يحل الجمع بينهما في الزكاة هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فكان من جمع بين الذهب والفضة قد أوجب الزكاة في أقل من خمس أواق وهذا خلاف مجرد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وشرع لم يأذن الله تعالى به وهم يصححون الخبر في إسقاط الزكاة في أقل من عشرين دينارا ثم يوجبونها في أقل وهذا عظيم جدا! "

قوله تحت عنوان: زكاة الحلي: "فذهب إلى وجوب الزكاة فيه يعني: الحلي أبو حنيفة وابن حزم إذا بلغ نصابا استدلالا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأتان في أيديهما أساور من ذهب ... ". قلت: ابن حزم لم يستدل على ما ذهب إليه بهذا الحديث لأنه ضعيف عنده كما صرح بذلك في "المحلى" 6 / 78 - 79 وإنما احتج بالعمومات وقد قال ص 80: "لو لم يكن إلا هذه الآثار لما قلنا بوجوب الزكاة في الحلي لكن لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" 1 "وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم" وكان الحلي ورقا وجب فيه حق الزكاة لعموم هذين الأثرين الصحيحين وأما الذهب فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها" فوجبت الزكاة في كل ذهب بهذا النص ... ". قلت: نقلت هذا لبيان الحقيقة ولكي لا ينسب لأحد ما لم يقله وإلا فإني لا أوافق ابن حزم على تضعيف عمرو بن شعيب بل هو حسن الحديث إذا صح الإسناد إليه وهذا منه. والعمومات التي ساقها ابن حزم تشهد له. قوله تحت عنوان: زكاة الحلي: "وعن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاته؟ " قالت: فقلنا: لا. قال: "أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ أديا زكاته".

_ 1 رواه البخاري وهو مخرج في "الإرواء" 814 والذي بعده صحيح جاء من طريق مخرجة في "الإروء" 3 / 289 – 292.

قال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن". قلت: كلا ليس بحسن فإن إسناده في "المسند" 6 / 461 هكذا: ثنا علي بن عاصم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عنها. وهذا سند ضعيف من أجل شهر وقد سبق القول فيه وعلي بن عاصم قال في "التقريب": "صدوق يخطىء ويصر". قلت: وقد أخطأ في هذا الحديث على ضعفه فزاد فيه ذكر الزكاة فقد أخرج الحديث أحمد أيضا 6 / 453 و454 و455 و459 و460 من طرق عن شهر به دون هذه الزيادة فالحديث وارد في تحريم أساور الذهب على النساء لا في إيجاب زكاة الحلي. فتأمل. والتحريم له شواهد كثيرة وقد جمعتها في فصل خاص ذهبت فيه تبعا لبعض السلف إلى استثناء الذهب المحلق من عموم حل الذهب للنساء وقد أودعته في رسالتي "آداب الزفاف في السنة المطهرة" وقد أجبت فيه عن شبهات المخالفين والمقلدين فراجعه فإنه هام جدا ص 132 – 168.

ومن زكاة التجارة

ومن زكاة التجارة قوله في التعليق تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي البز صدقته": "البز: متاع البيت". قلت: في "القاموس": "البز: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها" فتفسيره بالثياب هو المناسب للمقام وإلا فمتاع البيت لا زكاة عليه اتفاقا. ثم اعلم أن هذا الحديث وحديث سمرة الذي قبله ضعيفان ليس لهما إسناد ثابت1 وحسن الحافظ بعض طرق الثاني وظاهره كذلك وجريت عليه مدة من الزمن ثم ظهر لي أن فيه موسى بن عبيدة الضعيف كما بينته رواية الدارقطني والمخلص لكنه سقط من إسناد الحاكم فصححه هو وحسنه الحافظ وهما معذوران. ثم إن الحديث فيه لفظة اختلفت النسخ فيها وهي: "البز" فهي في بعضها البز بفتح الموحدة والزاي المعجمة وقد صرح بذلك موسى بن عبيدة وقد علمت ضعفه وفي بعضها "البر" بالباء المضمومة والراء المهملة ولم يتبين لنا ولا لكثيرين قبلنا أيهما الأرجح وهذا كما قال صديق خان في "الروضة": "مما يوجب الاحتمال فلا يتم الاستدلال". قلت: هذا لو صح الحديت فكيف به وهو ضعيف؟! والحق أن القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة مما لا دليل عليه في الكتاب والسنة الصحيحة مع منافاته لقاعدة "البراءة الأصلية" التي يؤيدها هنا قوله

_ 1 والأول في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 1178 المجلد الثالث وقد تم طبعه والحمد لله. والحديث الآخر مخرج في "إرواء الغليل" 827.

صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد ... ". الحديث. رواه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في "الإرواء" 1458. ومثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها أو على الأقل تخصيصها ببعض الآثار ولو صحت كقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة". أخرجه الإمام الشافعي في "الأم" بسند صحيح. ومع كونه موقوفا غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس فيه بيان نصاب زكاتها ولا ما يجب إخراجه منها فيمكن حمله على زكاة مطلقة غير مقيدة بزمن أو كمية وإنما بما تطيب به نفس صاحبها فيدخل حينئذ في عموم النصوص الآمرة بالإنفاق كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْْ ... } وقوله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا". رواه الشيخان وغيرهما. وهو مخرج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم 920. وقد صح شيء مما ذكرته عن بعض السلف فقال ابن جريج: قال لي عطاء:

"لا صدقة في اللؤلؤ ولا زبرجد ولا ياقوت ولا فصوص ولا عرض ولا شيء لا يدار أي لا يتاجر به وإن كان شيئا من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع". أخرجه عبد الرزاق 4 / 84 / 7061 وابن أبي شيبة 3 / 144 وسنده صحيح جدا. والشاهد منه قوله: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع". فإنه لم يذكر تقويما ولا نصابا ولا حولا ففيه إبطال لادعاء البغوي في "شرح السنة 6 / 53 الإجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة إذا كانت نصابا عند تمام الحول كما زعم أنه لم يخالف في ذلك إلا داود الظاهري! وإن مما يبطل هذا الزعم أن أبا عبيد رحمه الله قد حكى في كتابه "الأموال" 427 / 1193 عن بعض الفقهاء أنه لا زكاة في أموال التجارة. ومن المستبعد جدا أن يكون عنى بهذا البعض داود نفسه لأن عمره كان عند وفاة الأمام أبي عبيد أربعا وعشرين سنة أو أقل ومن كان في هذا السن يبعد عادة أن يكون له شهرة علمية بحيث يحكي مثل الإمام أبي عبيد خلافه وقد توفي سنة 224 وولد داود سنة 200 أو 202 فتأمل. ولعل أبا عبيد أراد بذاك البعض عطاء بن أبي رباح فقد قال إبراهيم الصائغ: "سئل عطاء: تاجر له مال كثير في أصناف شتى حضر زكاته أعليه أن يقوم متاعه على نحو ما يعلم أنه ثمنه فيخرج زكاته؟ قال: لا ولكن ما كان من ذهب أو فضة أخرج منه زكاته وما كان من بيع أخرج منه إذا باعه". أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" 3 / 946 / 1703 بسند حسن

كما قال المعلق عليه الدكتور شاكر ذيب فياض وهو شاهد قوي لرواية ابن جريج المتقدمة. وجملة القول أن المسألة لا يصح ادعاء الإجماع فيها لهذه الآثار وغيرها مما ذكره ابن حزم في "المحلى" الأمر الذي يذكرنا بقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "من ادعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعلهم اختلفوا". وصدق - جزاه الله خيرا - فكم من مسالة ادعي فيها الإجماع ثم تبين أنها من مسائل الخلاف وقد ذكرنا أمثلة منها في بعض مؤلفاتنا مثل "أحكام الجنائز" و "آداب الزفاف" وغيرها. وقد أشبع ابن حزم القول في مسألتنا هذه وذهب إلى أنه لا زكاة في عروض التجارة ورد على أدلة القائلين بوجوبها وبين تناقضهم فيها ونقدها كلها نقدا علميا دقيقا فراجعه فإنه مفيد جدا في كتابه "المحلى" 6 / 233 – 240. وقد تبعه فيما ذهب إليه الشوكاني في "الدرر البهية" وصديق حسن خان في شرحه "الروضة الندية" 1 / 192 - 193 ورد الشوكاني على صاحب "حدائق الأزهار" قوله بالوجوب في كتابه "السيل الجرار" 2 / 26 - 27 فليراجعه من شاء. وقد رد عليه أيضا قوله بوجوب الزكاة على "المستغلات"1 الذي تبناه بعض الكتاب في العصر الحاضر فقال الشوكاني رحمه الله 2 / 27: "هذه مسألة لم تطن على أذن الزمن ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه وإنما هي من الحوادث

_ 1 كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدواب ونحوها.

اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية عنى اختلاف أقوالهم وتباعد أقطارهم ولا توجد عليها أثارة من علم ولا من كتاب ولا سنة ولا قياس. وقد عرفناك أن أموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل أخذها إلا بحقها وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة". وراجع لها "الروضة الندية" 1 / 194 تزدد فقها وعلما. فائدة هامة: قد يدعي بعضهم أن القول بعدم وجوب زكاة عروض التجارة فيه إضاعة لحق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء والمثرين. والجواب من وجهين: الأول: أن الأمر كله بيد الله تعالى فليس لأحد أن يشرع شيئا من عنده بغير إذن من الله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ألا ترى أنهم أجمعوا على أنه لا زكاة على الخضروات على اختلاف كثير بينهم مذكور عند المصنف وغيره واتفقوا على أنه لا زكاة على القصب والحشيش والحطب مهما بلغت قيمتها فما كان جوابهم عن هذا كان الجواب عن تلك الدعوى على أن المؤلف قد جزم أنه لم تكن تؤخذ الزكاة من الخضروات ولا من غيرها من الفواكه إلا العنب والرطب. فأقول: فهذا هو الحق وبه تبطل الدعوى من أصلها. والآخر: أن تلك الدعوى قائمة على قصر النظر في حكمة فرض الزكاة أنها لفائدة الفقراء فقط والأمر على خلافه كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ... } الآية. فإذا كان الأمر كذلك ووسعنا النظر في الحكمة قليلا وجدنا أن الدعوى المذكورة باطلة لأن طرح

الأغنياء أموالهم ومتاجرتهم بها أنفع للمجتمع - وفيه الفقراء - من كنزها ولو أخرجوا زكاته ولعل هذا يدركه المتخصصون في علم الاقتصاد أكثر من غيرهم والله ولي التوفيق. وأما الأثر الذي أورده المؤلف في حكم زكاة التجارة عن عمر فهو ضعيف لأن أبا عمرو بن حماس ووالده مجهولان كما قال ابن حزم ولا يخدج فيه توثيق ابن حبان للوالد لما نبهنا عليه مرارا أن توثيق ابن حبان لا يوثق به لتساهله في ذلك ولذلك لم يعتد الحافظ به فصرح في "بلوغ المرام" بأن إسناده لين! وأما ما نقله المؤلف عقب ذلك عن "المغني" قال: "وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا"! فيقال: أثبت العرش ثم انقش على أنه لو ثبتت القصة فليس فيها ما يدل على الإجماع البتة يوضحه قول ابن رشد بعد أن أشار إلى هذه القصة وقول ابن عمر المتقدم: "ولا مخالف لهم من الصحابة وبعضهم يرى أن مثل هذا إجماع من الصحابة أعني إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه وفيه ضعف". قلت: وفيه الخلاف الذي شرحته آنفا؟! قوله في "زكاة الزروع": "وأن مذهب الحسن البصري والشعبي أنه لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب لأن ما عداه لا نص فيه واعتبر الشوكاني هذا المذهب الحق". قلت: وهو الذي يجب الوقوف عنده لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن:

"لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر". أخرجه البيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا على ما بينته في "إرواء الغليل" 801 وهو اختيار أبي عبيد في كتابه "الأموال" فراجع كلامه فيه رقم 1381 1409 وبه يرتاح المسلم من الأقوال المختلفة المتضاربة مما سينقله المؤلف والتي ليس عليها دليل سوى الرأي! لكن هنا ملاحظات دقيقة يجب التنبيه عليها وهي: أولا: أن في حديث معاذ: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة ... " فذكرها وليس فيها الذرة وبها تصبح الأربعة خمسة وهي عندي منكرة لأنها مع مخالفتها لهذا الحديث الصحيح فليس لها طريق تقوم بها الحجة وهي: الأولى: رواية ابن ماجه التي ذكرها المؤلف آنفا وأفاد أن فيها العرزمي المتروك وهي في "ابن ماجه" 1815 من روايته عن عمرو بن شعيب عن آبائه. الثانية: رواية البيهقي 4 / 129 من طريق عتاب الجزري عن خصيف عن مجاهد قال: "لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة أشياء ... " فذكر الأربعة وزاد: "والذرة". وهذا مع كونه مرسلا فهو ضعيف لأن عتابا وخصيفا ضعيفان. الثالثة: رواية البيهقي أيضا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: فذكر نحو حديث مجاهد لكن قال ابن عيينة:

"أراه قال: والذرة". وهذا مع شكه في هذه الزيادة ففيه أمران: الأول: أن شيخه عمرو بن عبيد - وهو شيخ المعتزلة - قال الذهبي في "الضعفاء": "سمع الحسن كذبه أيوب ويونس وتركه النسائي". قلت: فمثله لا يستشهد به ولا كرامة هذا لو ثبت ذلك عنه فكيف وفيه ما يأتي: والآخر: أن سفيان لم يثبت على شكه المذكور ففي رواية أخرى للبيهقي عن سفيان بلفظ: "السلت" ولم يذكر "الذرة". و"السلت": ضرب من الشعير أبيض لا قشر له كما في "النهاية" وحينئذ فهو صنف من الأصناف الأربعة فلا اختلاف بين هذه الرواية والحديث الصحيح كما لا يخفى. ويبدو أنه خفي على الإمام الشوكاني رحمه الله مثل هذا التحقيق فإنه بعد أن ذكر رواية عمرو بن شعيب التي فيها المتروك استدرك فقال في "النيل" 4 / 122: "ولكنها معتضدة بمرسل مجاهد والحسن"! وكأنه رحمه الله لم يتتبع أسانيدها وإلا لم يقل هذا كيف ومرسل الحسن فيه المتروك أيضا مع الشك الذي في إحدى الروايتين عنه؟! والأخرى - لو صحت - تشهد للحديث الصحيح وليس لهذه الزيادة المنكرة!

ومرسل مجاهد ضعيف كما سبق بيانه ولا يشهد له رواية العرزمي لشدة ضعفه مع مخالفته للحديث الصحيح وشواهده. ولعل الشوكاني غره قول البيهقي عقب الشواهد المشار إليها ومرسل مجاهد والحسن المذكورين وساق شاهدا ثالثا بسنده عن الشعبي بمعنى الحديث الصحيح قال البيهقي عقبها: "هذه الأحاديث كلها مراسيل إلا أنها من طرق مختلفة فبعضها يؤكد بعضا ومعها رواية أبي بردة عن أبي موسى ومعها قول بعض الصحابة". فهو يعني ما اتفقت عليه الروايات مع رواية أبي بردة عن أبي موسى وهي صحيحة كما تقدم وليس يعني مطلقا ما تفرد به بعض الضعفاء والمتروكين فتنبه. وقد ترتب من خطأ تصحيح هذه الزيادة المنكرة خطأ آخر فقهي وهو حشر الشوكاني الذرة في جملة الأصناف الأربعة التي تجب عليها الزكاة! في كتابه "الدرر البهية" وتبعه على ذلك شارحه في كتابه "الروضة الندية" 2 / 195 واستدل عليها بحديث أبي موسى والمراسيل المذكورة آنفا وأتبعها بكلام البيهقي الذي مر آنفا دون أن يتنبه لمقصوده الذي ذكرته قريبا. ولعله تنبه له فيما بعد فقد أعاد ذكر حديث أبي موسى مع الإشارة إلى الروايات الأخرى ولكنه أتبعها بقوله 1 / 200: "وفي بعضها ذكر الذرة ولكن من طريق لا تقوم بمثلها حجة". وهذا هو الصواب فكان عليه أن يعود إلى متن شرحه ويرفع منه لفظة: "الذرة" ليطابق ذلك ما انتهى إليه من الصواب. ولعل الشوكاني رجع إلى الصواب أيضا فإنه لم يذكر في كتابه "السيل

الجرار" سوى الأصناف الأربعة فلم يذكر "الذرة" مطلقا وذكر 2 / 43 أن الأحاديث الواردة فيها تنهض بمجموعها للعمل بها كما أوضحناه في شرحنا للمنتقى. هذا كله فيما يتعلق بقولنا أولا. وثانيا: إن حشر "الذرة" في مذهب الحسن البصري خطأ لأنه قد صح من طرق عنه: أنه كان لا يرى العشر إلا في ... فذكر الأصناف الأربعة فقط. أخرجه أبو عبيد 469 / 1379 - 1380 وابن زنجويه 1030 / 1899 بأسانيد صحيحة عنه. ثالثا: قول المؤلف: "لأن ما عداه لا نص فيه". يشعر بأن الصنف الخامس "الذرة" فيه نص يعتد به وقد عرفت ما فيه وزيادة في الإفادة أقول: إن قول الحسن هذا هو الذي ينبغي اعتماده لمطابقته للحديث الصحيح وكنت أرجو للمؤلف أن يلفت النظر إليه كي لا يضيع القارئ في غمرة الأقوال المختلفة التي ساقها في هذا الباب كما كنت أستحب له أن يروي لهم قول عبد الله بن عمر الذي رواه أبو عبيد 469 / 1378 بسنده الصحيح عنه في صدقة الثمار والزرع قال: "ما كان من نخل أو عنب أو حنطة أو شعير". لما فيه من زيادة اطمئنان لصحة قوله رحمه الله ولهذا قال أبو عبيد وابن زنجويه في كتابيهما: "والذي نختاره في ذلك الاتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بها: أنه لا

صدقة في شيء من الحبوب إلا في البر والشعير ولا صدقة في شيء من الثمار إلا في النخل والكرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسم إلا إياها مع قول من قال به من الصحابة والتابعين ثم اختيار ابن أبي ليلى وسفيان إياه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خص هذه الأصناف الأربعة للصدقة وأعرض عما سواهما قد كان يعلم أن للناس أموالا وأقواتا مما تخرج الأرض سواها فكان تركه ذلك وإعراضه عنه عفوا منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق". قلت: وهذه الحجة الأخيرة تنسحب أيضا على عروض التجارة فإنها كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت في القرآن والأحاديث مرارا كثيرة وبمناسبات شتى فسكوته صلى الله عليه وسلم عنها وعدم تحدثه عنها بما يجب عليها من الزكاة التي ذهب إليها بعضهم فهو عفو منه أيضا لحكمة بالغة سبق لفت النظر إلى شيء منها مما ظهر لنا والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله تحت عنوان: تقدير النصاب في النخيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ... ". قلت: إسناده ضعيف فيه من لا يعرف عند الذهبي وغيره ولا عبرة بتصحيح من ذكرهما المؤلف لأنهما من المتساهلين وحسبك دليلا على ذلك أن الترمذي - على تساهله الذي عرف به - لما أخرج الحديث سكت عنه ولم يحسنه ولذلك خرجته في "الضعيفة" 2556 و "ضعيف أبي داود" 281. والأثر الذي ذكره المؤلف بعده عن بشير بن يسار قال: بعث عمر بن الخطاب ... الخ. رواه أبو عبيد في "الأموال" 486 / 1449 وابن أبي شيبة 3 / 194 بسند رجاله ثقات لكنه منقطع بين بشير وعمر فإنهم لم يذكروا له رواية إلا عن صغار الصحابة كأنس وغيره.

والأثر الذي بعده عن مكحول مرسل أيضا. رواه أبو عبيد 1453 ورجاله ثقات. قوله تحت عنوان: زكاة العسل: "قال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح". أقول: ليس هذا على إطلاقه فقد روي فيه أحاديث أحسنها حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وأصح طرقه إليه طريق عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب ... بلفظ: "جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا يقال له: سلبته فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سلبته وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء". قلت: وهذا إسناد جيد وهو مخرج في "الإرواء" رقم 810 وقواه الحافظ في "الفتح" فإنه قال عقبه 3 / 348: "وإسناده صحيح إلى عمرو وترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر ابن الخطاب". وسبقه إلى هذا الحمل ابن زنجويه في "الأموال" 1095 - 1096 ثم الخطابي في "معالم السنن" 1 / 208 وهو الظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم. ولدقة المسألة حديثيا وفقهيا اضطرب فيه رأي الشوكاني فذهب في "نيل الأوطار" 4 / 125 إلى عدم وجوب الزكاة على العسل وأعل أحاديثه كلها وأما

في "الدرر البهية" فصرح بالوجوب وتبعه شارحه صديق خان في "الروضة الندية" 1 / 200 وأيد ذلك الشوكاني في "السيل الجرار" 2 / 46 - 48 وقال: "وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضا". فلم يتنبه إلى الفرق واختلاف دلالة بعضها عن بعض فهذه الطريق الصحيحة دلالتها مقيدة بالحمى كما رأيت والأخرى مطلقة ولكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها كما قال هو نفسه في "النعل" ثم تبنى العمل بها في المصدرين المشار إليهما ونسي قاعدة "حمل المطلق على المقيد" التي يكررها في كثير من المسائل التي تتعارض فيها الأدلة فيجمع بينها بها. إذا تبين هذا فنستطيع أن نستنبط مما سبق أن المناحل التي تتخذ اليوم في بعض المزارع والبساتين لا زكاة عليها اللهم إلا الزكاة المطلقة بما تجود به نفسه على النحو الذي سبق ذكره في عروض التجارة. والله أعلم.

ومن زكاة الركاز والمعدن

ومن زكاة الركاز والمعدن قوله: "وقال أبو حنيفة: هو يعني: الركاز اسم لما ركزه الخالق أو المخلوق". قلت: الصواب أن يقال: "وقال الحنفية المتأخرون ... " لأن أبا حنيفة وأصحابه القدامى يحددون الركاز فيما خلقه الله تعالى في الأرض من الذهب والفضة فقط فقال أبو يوسف في "الخراج" ص 26: "وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت فيه". وذكر نحوه الإمام محمد في "الموطأ" ص 174 ثم قال: "فيها الخمس وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا". واحتج الإمام محمد وغيره بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس" قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت". أخرجه البيهقي وضعفه جدا ونقل تضعيفه عن الشافعي وضعفه أيضا الزيلعي الحنفي في "نصب الراية" فراجعه 2 / 380. وعلته أن فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري وضعف اتفاقا وقد ظن صديق خان أنه والده سعيد بن أبي سعيد فقال: إنه ثقة محتج به في "الصحيحين". فلذلك احتج به. وقد نقلت كلامه في ذلك ورددت عليه وعلى غيره ممن خفي عليهم حال الحديث في رسالتي "أحكام الركاز". وقد حققت في هذه الرسالة أن الركاز لغة: المعدن والمال المدفون كلاهما وشرعا: هو دفين الجاهلية وقد أوردت فيها الشواهد والأدلة على ذلك

وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب: " ... وفي الركاز الخمس" وهو مخرج في "الإرواء" 812 عنه من طرق. قوله تحت عنوان: صفة الركاز الذي يتعلق به وجوب الزكاة: "وله يعني: الشافعي قول آخر أن الخمس لا يجب في الأثمان: الذهب والفضة". قلت: وهو الذي استظهره الصنعاني فقال: "الركاز في الأظهر: الذهب والفضة". وهذا خطأ مخالف للغة فإن الركاز فيها: "المال المدفون في الأرض" كما سبق آنفا و "المال" لغة: "ما ملكته من شيء" فيستنتج من هاتين المقدمتين أن الركاز كل ما دفن من المال فلا يختص بالنقدين وهو مذهب الجمهور واختاره ابن حزم ومال إليه ابن دقيق العيد وكان مالك يتردد في ذلك ثم استقر رأيه آخر الأمر على هذا القول المختار كما في "المدونة" وقد ذكرت نص كلامه في الرسالة السابقة الذكر. قوله تحت عنوان: الواجب في الركاز: "وعند الشافعي في الجديد: يعتبر النصاب فيه". يعني الركاز. قلت والظاهر من إطلاق الحديث: "وفي الركاز الخمس عدم اشتراط النصاب وهو مذهب الجمهور واختاره ابن المنذر والصنعاني والشوكاني وغيرهم وقد احتج الشافعي في قوله الجديد بحجة نقلية واهية أوردتها في الرسالة المذكورة وبينت ضعفها. قوله: "مصرف الخمس". قلت: ذكر فيه قولين مشهورين:

أحدهما: أن مصرفه مصرف الزكاة. والآخر: مصرفه مصرف الفيء. وليس في السنة ما يشهد صراحة لأحد القولين على الآخر ولذلك اخترت في "أحكام الركاز" أن مصرفه يرجع إلى رأي إمام المسلمين يضعه حيثما تقتضيه مصلحة الدولة وهو الذي اختاره أبو عبيد في "الأموال". وكأن هذا هو مذهب الحنابلة حيث قالوا في مصرف الركاز: "يصرف مصرف الفيء المطلق للمصالح كلها". قوله تحت عنوان: المال المستفاد: "فمن كان عنده من عروض التجارة أو الحيوان ما يبلغ نصابا فربحت العروض وتوالد الحيوان أثناء الحول وجب إخراج الزكاة عن الجميع: الأصل والمستفاد وهذا لا خلاف فيه". قلت: لعله يعني بين المذاهب الأربعة وإلا فقد خالف فيه ابن حزم فقال: "كل فائدة فإنما تزكى لحولها لا لحول ما عنده من جنسها وإن اختلطت عليه الأحوال". انظر تفصيل كلامه هذا في "المحلى" 6 / 83 - 86 وهذا المذهب أقرب إلى ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول" لولا أن فيه حرجا في بعض الأحوال فالأقرب في مثل هذه الحالة أن يلحق بالأصل ويزكى وراجع "الأموال" لأبي عبيد.

قوله تحت عنوان: هلاك المال ... : "وقال الشافعي و ... و.... إن تلف النصاب قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة وإن تلف بعده لم تسقط ورجح ابن قدامة هذا الرأي ... ". قلت: وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد منهم شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات العلمية" ص 58. قوله تحت عنوان: دفع القيمة بدل العين: "وقد روى البخاري معلقا بصيغة الجزم أن معاذا قال لأهل اليمن: ايتوني بعرض1 ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة". قلت: في هذا الكلام إشعار بأن الأثر المذكور عن معاذ صحيح وليس كذلك فإنما علقه البخاري هكذا: "قال طاوس: قال معاذ ... " وهذا منقطع بين طاوس ومعاذ قال الحافظ في شرحه: "هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ فهو منقطع فلا يغتر بقول من قال: "ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده" لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه وأما باقي الإسناد فلا؟ إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده". ثم لو صح هذا الأثر لم يدل على قول أبي حنيفة أنه لا فرق بين القيمة والعين بل يدل لقول من يجوز إخراج القيمة مراعاة لمصلحة الفقراء والتيسير على الأغنياء وهو اختيار ابن تيمية قال في "الاختيارات": "ويجوز إخراج القيمة في الزكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل

_ 1 هو ما عدا النقدين.

أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري تمرا أو حنطة فإنه قد ساوى الفقير بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل وليس عنده شاة فإخراج القيمة كاف ولا يكلف السفر لشراء شاة أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفع لهم فهذا جائز". قوله تحت عنوان: هل يعطى القوي المكتسب من الزكاة؟: "قال النووي: سئل النزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء؟ فقال: نعم وهذا صحيح جار على أن المعتبر حرفة تليق به". قلت: الحرفة مهما تدنت فهي أشرف للمسلم وخير له من البطالة ومن أن يتكفف أيدي الناس أعطوه أو منعوه والاعتبار المذكور لا يجوز في نظري أن يخصص به قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة ... لذي مرة سوي". فتأمل. قوله تحت عنوان: وفي سبيل الله: "والحج ليس من سبيل الله التي تصرف فيها الزكاة". قلت: بلى هو من سبيل الله بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: أراد رسول الله الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي ما أحجك عليه قالت: أحجني على جملك فلان قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله لأنها سألتني الحج معك قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ... فقالت: أحجني على جملك فلان فقلت: ذاك حبيس في سبيل

الله فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله" الحديث. أخرجه أبو داود بسند حسن والطبراني في "الكبير" والحاكم وصححه وابن خزيمة في "صحيحه" وله شاهد من حديث أبي طلق أخرجه الدولابي في "الكنى" بسند صحيح وقواه المنذري والحافظ. ولذلك قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية المشار إليها: "وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق الحج من سبيل الله للحديث". يريد هذا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في "الاختيارات العلمية": "ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير أعطي ما يحج به وهو إحدى الروايتين عن أحمد". وقد رواه أبو عبيد في "الأموال" رقم 1976 عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: أما إنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" 3 / 258. وروى أبو عبيد رقم 1784 و1965 بسند صحيح عن ابن عباس: "أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق الرقبة" وإعلال أبي عبيد له بأن أبا معاوية انفرد به ليس بشيء لأن من رواية أبا معاوية ثقة وهو أحفظ الناس لحديث الأعمش كما في "التقريب" وهذا من روايته عنه وقد تابعه عنه عبدة بن سليمان كما في "الفتح" فزالت شبهة تفرد أبي معاوية به وانظر "إرواء الغليل" 3 / 376 – 377.

ومن الغرائب أن ينكر حضرة المؤلف ما جاء به النص وهو كون الحج من سبيل الله ثم هو يسلم بما نقله بعد هذا عن السيد رشيد في "المنار": أن من سبيل الله بناء المستشفيات الخيرية العامة وإعداد الدعاة إلى الإسلام ... والنفقة على المدارس الشرعية وغيرها ... الخ. مع أن تفسير الآية بهذا المعنى الواسع الشامل لجميع الأعمال الخيرية مما لم ينقل عن أحد من السلف فيما ع لمت وإن كان جنح إليه صديق حسن خان في "الروضة الندية" فهو مردود عليه ولو كان الأمر كما زعم لما كان هناك فائدة كبرى في حصر الزكاة في المصارف الثمانية في الآية الكريمة ولكان يمكن أن يدخل في سبيل الله كل أمر خيري مثل بناء المساجد ونحوها ولا قائل بذلك من المسلمين بل قال أبو عبيد في "الأموال" فقرة 1979: "فأما قضاء الدين عن الميت والعطية في كفنه وبنيان المساجد واحتفار الأنهار وما أشبه ذلك من أنواع البر فإن سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء مجمعون على أن ذلك لا يجزي من الزكاة لأنه ليس من الأصناف الثمانية". وسيذكر المؤلف نحو هذا فيما يأتي. قوله تحت عنوان: من الذي يقوم بتوزيع الزكاة؟: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث نوابه ليجمعوا الصدقات ويوزعها على المستحقين وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك لا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة فلما جاء عثمان سار على هذا النهج زمنا إلا أنه لما رأى كثرة الأموال الباطنة ووجد أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا بأربابها فوض أداء زكاتها إلى أصحاب الأموال". قلت: فيه ملاحظات:

الأولى: لم أجد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يجمع الصدقات من الأموال الباطنة وهي عروض التجارة والذهب والفضة والركاز كما ذكر المؤلف نفسه ولا وجدت أحدا من المحدثين ذكر ذلك بل صرح ابن القيم بنفي ذلك بل إنه نفى أن يكون البعث المذكور في الكتاب في الأموال الظاهرة على عمومه حيث قال في "الزاد": "كان صلى الله عليه وسلم يبعث سعاته إلى البوادي ولم يكن يبعثهم إلى القرى ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث سعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار". ولو صح ما ذكره المؤلف لكان دليلا من السنة على وجوب الزكاة على عروض التجارة. فتأمل. وقال أبو عبيد رقم 1644: "سنة الصامت خاصة أن يكون الناس فيه مؤتمنين عليه". ثانيا: لم أجده كذلك عن الخلفاء الثلالة بل روى أبو عبيد رقم 1805 والبيهقي 4 / 114 عن أبي سعيد المقبري قال: "أتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه زكاة مالي - قال: وأتيته بمائتي درهم - فقال: أعتقت يا كيسان؟ فقلت: نعم فقال: فاذهب بها أنت فاقسمها". إسناده جيد. فهذا عمر رضي الله عنه قد أولج تفريق الزكاة إلى صاحبها خلافا لما نقله المؤلف عنه وقد ترجم البيهقي لهذا الأثر بـ "باب الرجل يتولى تفرقة زكاة ماله الباطنة بنفسه". ثالثا: ما نقله عن عثمان أنه سار على ذلك النهج ... الخ لم أجد له أصلا

في شيء من كتب الآثار ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما علمت. والظاهر أن المؤلف نقله - وكذا ما قبله - من بعض كتب الفقه أو غيرها التي لا تتحرى الثابت مما يروى. والله أعلم. قوله تحت عنوان: براءة رب المال بالدفع إلى الإمام ... : "1 - فعن أنس قال: أتى رجل من بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك ... رواه أحمد". قلت: هو من تمام الحديث المتقدم في أول كتاب "الزكاة" وقد بينا هناك أنه ضعيف لانقطاعه وأن المؤلف اغتر بقول من قال: "رجاله رجال الصحيح"! قوله تحت عنوان: نهي المزكي أن يشتري صدقته وقد ذكر قول من رخص بشرائها: "ورجح هذا الرأي ابن حزم واستدل بحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله ... ". قلت: الذي يتبادر لي من الحديث أن المراد به صدقة تصدق بها رجل على فقير ثم اشتراها منه غير المتصدق عليه ولو سلمنا أنه يشمل المتصدق عليه أيضا فهو مخصوص بحديث عمر: "لا تبتعه" فلا يحل له ذلك. ويؤيد هذا الجمع قوله في تمام حديث عمر: "لا تعد في صدقتك" فإن حديث أبي سعيد على التفسير الذي ذهبت إليه ليس فيه العود في الصدقة. فتأمل قوله تحت عنوان: نقل الزكاة: "وعن أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني قلوصا. رواه الترمذي وحسنه". قلت: في إسناده عند الترمذي 652 أشعث عن عون بن أبي جحيفة

وأشعث هذا هو ابن سوار الكوفي قال الحافظ في "التقريب": "ضعيف". ولعل تحسين الترمذي إياه إنما هو لشواهده كحديث معاذ الذي ذكره المؤلف قبله وحديث عمران الذي بعده. قوله: "وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف فان صدقته وعشره في مخلاف عشيرته. رواه الأثرم في سننه". قلت: هذا منقطع بين طاوس ومعاذ فإنه لم يسمع منه كما قال الحافظ في متن آخر تقدم تحت عنوان: "دفع القيمة بدل العين" وهذا أخرجه ابن زنجويه 1193 نحوه. ثم قال المؤلف: "فعن عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... رواه أبو عبيد". هذا الإسناد منقطع فإن عمرو بن شعيب لم يدرك معاذا وبين وفاتيهما مائة سنة. فائدة: "جند" بفتحتين بلد باليمن كما في "القاموس" وغيره.

ومن زكاة الفطر

ومن زكاة الفطر قوله تحت عنوان: قدرها: "قال أبو سعيد الخدري: كنا إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نخرج زكاة الفطر ... صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب ... رواه الجماعة". استدل المؤلف بهذا على أن الواجب في القمح صاع لقوله فيه: "صاعا من طعام" وذلك يناء على ما حكاه الخطابي أن المراد بـ "الطعام" هنا الحنطة لكن رد ذلك ابن المنذر بأن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره ثم أورد حديث أبي سعيد عند البخاري بلفظ: "كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر". قال الحافظ: "وهي ظاهرة فيما قال" وأخرجه الطحاوي نحوه وقال فيه: "ولا يخرج غيره". ثم ذكر الحافظ لحديث أبي سعيد طرقا وألفاظا أخرى ثم قال: "وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة فيحتمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن وهي قوت غالب لهم". قلت: فتبين أنه لا دليل في الحديث على ما ذكره المؤلف ثم إن صنيعه يشير إلى أنه ليس لمذهب أبي حنيفة القائل بإخراج نصف صاع من القمح دليل غير ما جاء في حديث أبي سعيد من تعديل معاوية مدين من القمح بصاع من تمر وليس الأمر كذلك بل فيه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصحها حديث عروة بن

الزبير: "أن أسماء بنت أبي بكر كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها - الحر منهم والمملوك - مدين من حنطة أو صاعا من تمر بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به". أخرجه الطحاوي واللفظ له وابن أبي شيبة وأحمد وسنده صحيح على شرط الشيخين. وفي الباب آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضا كما قال ابن القيم في "الزاد" وقد ساقها فيه فليراجعها من شاء وخرجتها أنا في "التعليقات الجياد". فثبت من ذلك أن الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" ص 60 وإليه مال ابن القيم كما سبق وهو الحق إن شاء الله تعالى. قوله تحت عنوان: مصرفها: "مصرف زكاة الفطر مصرف الزكاة أي أنها توزع على الأصناف الثمانية المذكورة في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} 1" قلت: ليس في السنة العملية ما يشهد لهذا التوزيع بل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: " ... وطعمة للمساكين" يفيد حصرها بالمساكين والآية إنما هي في صدقات الأموال لا صدقة الفطر بدليل ما قبلها وهو قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وله في ذلك فتوى مفيدة ج 2 - ص 81 - 84 من "الفتاوى" وبه قال

_ 1 التوبة: 60.

الشوكاني في "السيل الجرار" 2 / 86 - 87 ولذلك قال ابن القيم في "الزاد ": "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ... ". قوله تحت عنوان: "مصرفها": "ولما رواه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم في هذا اليوم". قلت: صنيع المؤلف يوهم أن البيهقي خرجه وسكت عليه وليس كذلك بل أشار إلى تضعيفه بقوله 4 / 175: "أبو معشر هذا - يعني أحد رواته - نجيح السندي المديني غيره أوثق منه". وقال الحافظ في ترجمته من "التقريب": "ضعيف أسن واختلط". ولذلك جزم الحافظ بضعف الحديث في "بلوغ المرام" وسبقه النووي في "المجموع" 6 / 126 ويغني عنه حديث ابن عباس الذي قبله. قوله تحت عنوان: إعطاؤها للذمي: "أجاز الزهري وأبو حنيفة ومحمد وابن شبرمة إعطاء الذمي من زكاة الفطر لقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1". قلت: لا يظهر في الآية دليل على الجواز لأن الظاهر منها الإحسان إليهم على وجه الصلة من الصدقات غير الواجبة فقد روى أبو عبيد رقم 1991 بسند صحيح عن ابن عباس قال: "كان ناس لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا

_ 1 الممتحنة 80.

عليهم ويريدونهم على الإسلام فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} " فهذه الآية مثل التي قبلها. ثم روى بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم". وروى عن الحسن - وهو البصري - قال: "ليس لأهل الذمة في شيء من الواجب حق ولكن إن شاء الرجل تصدق عليهم من غير ذلك". فهذا هو الذي ثبت في الشرع وجرى عليه العمل من السلف وأما إعطاؤهم زكاة الفطر فما علمنا أحدا من الصحابة فعل ذلك وفهم ذلك من الآية فيه بعد بل هو تحميل للآية ما لا تتحمل. وما رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال: "كانوا يجمعون إليه صدقة الفطر فيعطيها أو يعطي منها الرهبان". رواه أبو عبيد 613 / 1996 وابن زنجويه 1276. فهو مع كونه مقطوعا موقوفا على أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل فلا يصح عنه لأن أبا إسحاق هو السبيعي مختلط مدلس وقد عنعنه. ويؤيد اختصاص زكاة الفطر بالمسلمين الحديث المتقدم: " ... وطعمة للمساكين" فإن الظاهر منه أنه أراد مساكين المسلمين لا مساكين الأمم كلها. فتأمل.

ومن صدقة التطوع

ومن صدقة التطوع قوله: "1 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء". رواه الترمذي وحسنه". قلت: لكن العلماء تعقبوه ولم يرتضوا منه تحسينه لأنه رواه 2 / 23 من طريق عبد الله بن عيسى الخزاز عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس مرفوعا وقال: "حديث حسن غريب". وعبد الله هذا كنيته أبو خلف وهو ضعيف اتفاقا ولم يوثقه أحد ولذلك أنكر العلماء على الترمذي تحسينه لهذا الحديث ففي "فيض القدير" قال عبد الحق: "ولم يبين المانع من صحته وعلته ضعف راويه أبي خلف يعني الخزاز هذا إذ هو منكر الحديث قال ابن القطان: فالحديث ضعيف لا حسن. انتهى. وجزم العراقي بضعفه قال ابن حجر: أعله ابن حبان والعقيلي وابن طاهر وابن القطان وقال ابن عدي: لا يتابع عليه". كذا في "فيض القدير". وللحديث علة أخرى وهى عنعنة الحسن البصري فإنه كان مدلسا وقد أورده في "المدلسين" الحافظ العسقلاني وكذا الحافظ برهان الدين بن العجمي وقال: "إنه من المشهورين بالتدليس". وهو مخرج في "إرواء الغليل" 885 وقد قلت فيه:

" أما الشطر الأول من الحديث فهو قوي لأن له شواهد كثيرة خرجتها في "الصحيحة" 1908 - المجلد الرابع وهو مطبوع. قوله: 2 - وروى كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب الله بها الكبر والفخر". قلت: هذا الحديث لم يروه الترمذي ولم يحسنه وكأن المؤلف - حفظه الله تعالى - أخذ ذلك من قول المنذري في تخريج الحديث: "رواه الطبراني من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عند جده عن عمرو بن عوف وقد حسنها الترمذي وصححها ابن خزيمة لغير هذا المتن". ولكن هذا صريح في أن الترمذي لم يخرجه وإنما حسن هذه الطريق في غير هذا الحديث فكأنه - من استعجاله في النقل - لم يقع بصره على قول المنذري: "لغير هذا المتن". فتأمل. ثم إن الحديث ضعيف أو ضعيف جدا لأن كثيرا هذا متروك كما قال الدارقطني وغيره وقال أبو داود: "ركن من أركان الكذب"! وتحسين الترمذي لحديثه من تساهله الذي عرف به وقد قال الذهبي في ترجمة كثير هذا: "وأما الترمذي فروى من حديثه: "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي"! لكن الجملة الأولى من الحديث ثابتة في حديث آخر كما سيأتي.

قوله: "4 - وقال صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة وأول من يدخل الجنة أهل المعروف". رواه الطبراني في "الأوسط" وسكت عليه المنذري". قلت: كلا لم يسكت عليه المنذري بل ضعفه حيث صدره بقوله: "وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... فذكره". انظر المقدمة ... وقد بين الهيثمي علة الحديث فقال في "المجمع" 3 / 115: " ... وفيه عبد الله بن الوليد الوصافي وهو ضعيف". ولذلك صرح العزيزي في "شرح الجامع الصغير" بأنه ضعيف فلا يغتر برمز السيوطي له بالصحة لما بيناه في المقدمة. نعم يظهر أن الحديث غالبه ثابت من طرق أخرى فإن أوله إلى قوله: "تزيد في العمر" رواه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة وحسن إسناده المنذري والهيثمي ورواه في "الأوسط" من حديث معاوية بن حيدة قال الهيثمي 8 / 194: "وفيه أصبغ غير معروف وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف". وروى الشيخان وغيرهما من حديث أنس مرفوعا: "من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" وقوله فيه: "كل معروف صدقة" حديث صحيح رواه جماعة من الصحابة

منهم جابر عند البخاري وغيره وحذيفة عند مسلم وغيره. وبقية الحديث له طرق كثيرة يشد بعضها بعضا انظر "الروض النضير" 1020 - 1082 إلا أن عندي وقفة في قوله في آخره: "وأول من يدخل الجنة أهل المعروف" فإني لم أجد له الآن غير شاهد واحد من حديث أبي أمامة رواه الطبراني قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفه". والله أعلم. ثم وقفت على إسناده وخرجته في "الضعيفة" 5815 وتبينت لي ثمة حقيقة مرة وهي أن سند هذا هو عين الإسناد الذي حسنه المنذري والهيثمي آنفا! قوله تحت عنوان: جواز التصدق بكل المال: "فعن جابر قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم قال: "يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ثم يجلس بعد ذلك يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى". رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وفيه محمد بن إسحاق". قلت: يعني أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه وكذلك رواه الدارمي والبيهقي معنعنا. قال النووي في "المجموع" 6 / 236: "ومحمد بن إسحاق مدلس والمدلس إذا قال: "عن" لا يحتج به". قلت: فالحديث من أجل ذلك ضعيف لكن موضع الشاهد منه وهو قوله: "إنما الصدقة عن ظهر غنى" صحيح فإن له طريقا أخرى عن جابر. أخرجه أحمد 3 / 346 وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره وهو مخرج في "الإرواء" 3 / 316.

ومن الصيام

ومن الصيام قوله تحت عنوان: فضله: "3 - وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ... ". رواه أحمد بسند صحيح". قلت: بل إسناد أحمد ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف من قبل حفظه وإنما نشأ هذا الخطأ من اختصار المؤلف لتخريج المنذري للحديث اختصارا مخلا فقد قال في "الترغيب": "رواه أحمد والطبراني في "الكبير" ورجاله محتج بهم في الصحيح". ففهم المؤلف أن الضمير في قوله: "ورجاله" راجع إلى الحديث وبناء عليه استجاز عزوه لأحمد عندما اختصر الطبراني وليس كذلك بل الضمير راجع إلى الطبراني لأنه أقرب مذكور وقد صرح به الهيثمي فقال: "رواه أحمد والطبراني في "الكبير" ورجال الطبراني رجال الصحيح". ثم استلزم المؤلف من قول المنذري: "ورجاله محتج بهم في الصحيح" أن الإسناد صحيح فصرح هو بذلك وليس بلازم لما حققناه في المقدمة. نعم الحديث لم يتفرد به ابن لهيعة كما يفيده صريح كلام الهيثمي وهو الواقع فقد تابعه عبد الله بن وهب عند ابن نصر في "قيام الليل" ص 13 والحاكم 1 / 554 وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي وقد وهما فإن شيخ ابن وهب وكذا ابن لهيعة فيه حيي بن عبد الله ولم يخرج له مسلم شيئا ثم إنه تكلم فيه بعضهم بما لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن إن شاء الله تعالى.

وجملة القول أن الحديث حسن الإسناد. والله أعلم. قوله تحت عنوان: فضل شهر رمضان وفضل العمل فيه: "1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما حضر رمضان -: "قد جاءكم شهر مبارك ... . فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم". رواه أحمد والنسائي والبيهقي". قلت: هو منقطع فإنهم أخرجوه من طريق أبي قلابة عنه قال المنذري: "ولم يسمع منه فيما أعلم". قلت: لكنه صحيح لغيره فإن قضية فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النيران وغل الشياطين ثابتة في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أيضا وهو مخرج في "الصحيحة" برقم 1307 وباقيه عند ابن ماجه من حديث أنس بسند حسن وقد حسنه المنذري. قوله: "4 - وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله". رواه أحمد والبيهقي بسند جيد". قلت: كذا قال وفيه نظر لأن في سندهما عبد الله بن قريط قال الهيثمي: "ذكره ابن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا". قلت: فهو في عداد المجهولين وتوثيق ابن حبان له لا يدفع الجهالة عنه لما بينا مرارا أن من مذهبه توثيق المجهول ولذلك قال الحسيني في "رجال المسند": "مجهول". كما في "التعجيل" وهو مخرج في "الضعيفة" 5083. قوله: "5 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه أحمد وأصحاب السنن". قلت: لقد أبعد المؤلف النجعة فالحديث عنه في "الصحيحين" بهذا اللفظ تماما وهو مخرج في "الإرواء" 906.

ومن الترهيب من الفطر في رمضان

ومن الترهيب من الفطر في رمضان قوله: "1 - عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عرى الإسلام ... ". قلت: ذكره المؤلف في حكم ترك الصلاة وقد بينت ضعفه هناك فأغنى عن الإعادة. قوله: "2 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه". رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال البخاري: ويذكر عن أبي هريرة رفعه ... ". قلت: الحديث ضعيف وقد أشار لذلك البخاري بقوله: "ويذكر" وضعفه ابن خزيمة في "صحيحه" 3 / 238 والمنذري والبغوي والقرطبي والذهبي والدميري فيما نقله المناوى والحافظ ابن حجر وذكر له ثلاث علل: الاضطراب والجهالة والانقطاع راجع لها "فتح الباري" 4 / 161 ولكنه اخطأ في قوله: "وصححه ابن خزيمة" والصواب أن يقال: رواه في صحيحه وضعفه في الترجمة بقوله: "إن صح الخبر فإني لا أعرف ابن المطوس ولا أباه". وكذلك أخطأ خطأ فاحشا أحد إخواننا - رحمه الله - في تأليفه "الأحاديث الصحيحة" اختارها من "صحيح البخاري" لأنه لم يعلم أنه معلق عنده وأن معلقاته ليست كلها صحيحة عنده فضلا عن غيره وأن هذا مما ضعفه هو نفسه إشارة كما ذكرت آنفا. وقد كنت لفت نظره إلى ذلك في طبعة الكتاب الأولى فوعد خيرا فلا أدري إذا كان قد تمكن من إعاده طبعه وحذفه منه وفاء بوعده؟ فإني كنت أظن فيه خيرا.

ومن اختلاف المطالع

ومن اختلاف المطالع تحت هذا العنوان ذكر المؤلف ثلاثة مذاهب: الأول: مذهب الجمهور أنه لا عبرة باختلاف المطالع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". متفق عليه وهو مخرج في "إرواء الغليل" 902 من طرق عن أبي هريرة وغيره. الثاني: أن لكل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم ... واحتج لهم بحديث ابن عباس عند مسلم وغيره. الثالث: لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها. واختار المؤلف هذا المذهب الأخير معلقا عليه بقوله:

"هذا هو المشاهد ويتفق مع الواقع". قلت: وهذا كلام عجيب غريب لأنه ان صح أنه مشاهد موافق للواقع فليس فيه أنه موافق للشرع أولا ولأن الجهات - كالمطالع - أمور نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا عندها ثانيا. وأنا - والله - لا أدري ما الذي حمل المؤلف على اختيار هذا الرأي الشاذ وأن يعرض عن الأخذ بعموم الحديث الصحيح وبخاصة أنه مذهب الجمهور كما ذكره هو نفسه وقد اختاره كثير من العلماء المحققين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المجلد 25 والشوكاني في "نيل الأوطار" وصديق حسن خان في "الروضة الندية" 1 / 224 - 225 وغيره فهو الحق الذي لا يصح سواه ولا يعارضه حديث ابن عباس لأمور ذكرها الشوكاني رحمه الله ولعل الأقوى أن يقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين أو يروا هلالهم. وبذلك يزول الإشكال ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلا كما قال ابن تيمية في "الفتاوى" 25 / 157 وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هـ معلوم ولكنه يتطلب شيئا من اهتمام الدول الإسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء الله تبارك وتعالى. وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها ممن تقدمت في صيامها أو تأخرت لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين. والله

المستعان. ومن من رأى الهلال وحده: وتحت هذا العنوان الجانبي قال: "واتفقت أئمة الفقه على أن من أبصر هلال الصوم وحده - أن يصوم". فأقول: هذا ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له فقال 25 / 114: "إذا رأى هلال الصوم وحده أو هلال الفطر وحده فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد". ثم ذكرها والذي يهمنا ذكره منها ما وافق الحديث وهو قوله: "والثالث: يصوم مع الناس ويفطر مع الناس وهذا أظهر الأقوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون". رواه الترمذي وقال: حسن غريب. قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس". وهذا الحديث مخرج في "الصحيحة" 224 و "الإرواء" 905 من طرق عن أبي هريرة فمن شاء رجع إليها. ثم قال ابن تيمية 117: "لكن من كان في مكان ليس فيه غيره إذا رآه صام فإنه ليس هناك غيره".

قوله تحت عنوان: من يرخص لهم في الفطر ويجب عليهم القضاء: "وعن عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع - ثم قرب غداءه ثم قال: اقترب فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات". قلت: كذا قال المؤلف تبعا للشوكاني وفيه نظر من وجهين: الأول: أن عبيد بن جبير مجهول وقيل في اسم أبيه: "حنين" فإن كان ابنه فهو ثقة. والآخر: الراوي عنه كليب بن ذهل قال ابن خزيمة: "لا أعرفه بعدالة". وأفاد الحافظ في "التقريب" أنه لين الحديث. لكن يشهد له الحديث الآتي بعده وحديث آخر عن أنس وسنده صحيح كما حققته في رسالتي "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر" وهي مطبوعة. وقوله: "وقد روى أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي عن منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر عقبة من الفسطاط في رمضان ثم إنه أفطر ... وجميع رواة الحديث ثقات إلا منصور الكلبي وقد وثقه العجلي". قلت: توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان ولذلك لم يعتمده ههنا الذهبي وغيره من المحققين فقال الذهبي في ترجمته من "الميزان":

" ما روى عنه سوى مرثد المزني هذا الحديث ولم يصححه عبد الحق". وقال ابن المديني: "مجهول لا أعرفه". وقال ابن خزيمة: "لا أعرفه". والحافظ مع ذكره لتوثيق العجلي له في "التهذيب" لم يتبنه في "التقريب" حيث قال: "مستور". ولهذا ضعف الحديث الخطابي في "المعالم" فقال: "ليس بالقوي وفي إسناده رجل ليس بالمشهور". لكن يقويه الحديث الذي قبله وحديث أنس الذي أشرت إليه آنفا.

ومن الأيام المنهي عن صيامها

ومن الأيام المنهي عن صيامها قوله تحت عنوان: 1 النهي عن صيام يومي العيدين: "لقول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الفطر ... رواه أحمد والأربعة". قلت: هو في "الصحيحين" أيضا بمعناه وهو مخرج في "الإرواء" 962. قوله تحت عنوان: 2 النهي عن صوم أيام التشريق: "وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل صائحا يصيح: "أن لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال". قلت: لنا عليه مؤاخذتان: الأولى: أن الحديث نقله عن "مجمع الزوائد" فأساء العزو أو النقل لأن الهيثمي قال عقبه 3 / 203: "رواه الطبراني في "الكبير" وفي رواية له في "الأوسط" و "الكبير" أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء وإسناد الأول حسن". أقول: من الواضح أن هذا اللفظ هو في "المعجم الكبير" للطبراني دون "الأوسط" له فعزو المؤلف إياه ل "الأوسط" خطأ على الهيثمي وعلى الطبراني أما أنه خطأ على الهيثمي فواضح من تخريجه الذي نقلته آنفا. وأما أنه خطأ على الطبراني فلأنه لم يروه في "الأوسط" بهذا اللفظ له وإنما بلفظ آخر مخالف لهذا في طرف منه وقد أشار الهيثمي إلى مخالفته في طرفه الأول وليته ساقه بتمامه ليتبين للقارئ الفرق الجوهري بينه وبين اللفظ الأول ولو أنه فعل لم يقع المؤلف في هذا الخطأ إن شاء الله تعالى.

والمؤاخذة الأخرى: أن الحديث بهذا السياق الذي في آخره زيادة: "وبعال" ضعيف الإسناد وإن حسنه الهيثمي لأن الطبراني أخرجه في "المعجم الكبير" 11 / 232 / 1587 من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس به. وإبراهيم هذا ضعفه الجمهور من قبل حفظه حتى قال البخاري وأبو حاتم فيه: "منكر الحديث" والترمذي مع تساهله. المعروف لما روى له حديثين قال عقب كل منهما: "يضعف في الحديث". قلت: وإن مما يدلك على ضعفه روايته في الحديث زيادة: "وبعال". فإنها لم ترد في الإسناد الآخر الذي ذكر الهيثمي طرف متنه الأول فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضا 11 / 110 / 203 وفي "المعجم الأوسط" 2 / 142 / 7198 من طريق أبي جميلة المفضل ووقع في مطبوعة "الكبير": الفضل وهو خطأ مطبعي بن صالح عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء بـ منى فنادى: "إن هذه أيام أكل وشرب فلا تصوموها". وهذا إسناد ضعيف أيضا المفضل بن صالح ضعيف أيضا كما في "التقريب" لكن المتن دون الزيادة صحيح لأنه جاء عن جمع من الصحابة

دونها خرجت الكثير الطيب منها في "الإرواء" 4 / 128 - 131 بعضها من حديث نبيشة عند أحمد ومسلم. نعم وقعت هذه الزيادة في طريقين آخرين عند الطحاوي 1 / 428 - 429 في الأولى منهما محمد بن أبي حميد وفي الأخرى موسى بن عبيدة وكلاهما ضعيف. وبالجملة فهذه الزيادة منكرة رواية ومعنى أما الرواية؟ فقد عرفتها مما سبق وأما المعنى فلمخالفتها لما في بعض الطرق الصحيحة بلفظ: "وذكر الله" ولأن "البعال" لا يمكن تحقيقه عمليا في أيام التشريق تحت الخيام الكثيرة المزدحمة المتلاصقة كما هو ظاهر. والله أعلم. تنبيه هام: في "النهاية" لابن الأثير: "البعال: النكاح وملاعبة الرجل أهله". إذا عرفت هذا فقد أخطأ الشيخ عبد الله الغماري في كتابه الذي كان أسماه ب "الكنز الثمين في أحاديث النبي الأمين" خطأ فاحشا في حديث نبيشة المشار إليه آنفا. فإنه أورده بزيادة: "وبعال" برواية "حم م" عنه. وهذا باطل من وجوه: أولا: أن هذه الزيادة: "وبعال" مع ضعفها كما تقدم فلم يروها المذكوران ولا غيرهما عن نبيشة فهو خطأ عليهم جميعا. ثانيا: أنه خطأ على السيوطي أيضا فإن الحديث عنده في "الجامع الصغير" برواية المذكورين عنه دون الزيادة.

ثالثا: كأنه لاحظ ما أشرت إليه من نكارة هذه الزيادة ولذلك اقتصر من معناها اللغوي على المقدار الذي لا نكارة فيه ففسرها في التعليق بقوله: "ملاعبة الرجل زوجه" فحذف لفظ "النكاح" الذي هو الغاية عادة من الملاعبة لأنه مستنكر فلو أنه كان على معرفة بالأحاديث الصحيحة ومتونها وما يصح وما لا يصح من ألفاظها لما كان به حاجة إلى أن يقع في هذا الخطأ اللغوي أيضا. وللغماري هذا أخطاء عديدة وتصحيح لأحاديث كثيرة في "كنزه" وغيره نبهت على أنواع كثيرة منها في المجلد الثالث والرابع من "الأحاديث الضعيفة" وراجع مقدمتهما. قوله تحت عنوان: النهي عن صوم يوم الجمعة منفردا: "فعن عبد الله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث وهي صائمة في يوم الجمعة فقال لها: "أصمت أمس؟ " فقالت: لا قال: "أتريدين أن تصومي غدا؟ " قالت: لا قال: "فأفطري إذن". رواه أحمد والنسائي بسند جيد". قلت: وقد رواه البخاري من حديث جويرية نفسها والحديث واحد ولكن الرواة اختلفوا فبعضهم رواه من مسند ابن عمرو وبعضهم من مسند جويرية وهو الذي رجحه الحافظ في "الفتح" انظر تعليقي على "صحيح ابن خزيمة" 2162 و "صحيح أبي داود" 2093. قوله تحت عنوان: النهي عن إفراد يوم الست بصيام: "عن بسر السلمي عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ... ". رواه أحمد وأصحاب السنن والحكم وقال: صحيح على شرط مسلم وحسنه الترمذي". قلت: اختلف العلماء في هذا الحديث فقواه من ذكر المؤلف وقال

مالك: "هذا كذب". وضعفه الإمام أحمد كما في "تهذيب السنن" وقال النسائي: "هو حديث مضطرب" وبه أعله الحافظ في "بلوغ المرام" فقال: "ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك". وقد بين الاضطراب فيه الحافظ في "التلخيص" 6 / 472 فليراجعه من شاء. ثم تبين لي أن الحديث صحيح وأن الاضطراب المشار إليه هو من النوع الذي لا يؤثر في صحة الحديث لأن بعض طرقه سالم منه وقد بينت ذلك في "إرواء الغليل" 960 بيانا لا يدع مجالا للشك في صحته. وتأويل الحديث بالنهي عن صوم السبت مفردا يأباه قوله: "إلا فيما افترض عليكم" فإنه كما قال ابن القيم في "تهذيب السنن": "دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفردا أو مضافا" لأن الاستثناء دليل التناول وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الأفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده كما قال في الجمعة فلما خص الصورة المأذون فيها صومها بالفريضة علم تناول النهي لما قابلها". قلت: وأيضا لو كانت صورة الاقتران غير منهي عنها لكان استثناؤها في الحديث أولى من استثناء الفرض لأن شبهة شمول الحديث له أبعد من شموله لصورة الاقتران فإذا استثني الفرض وحده دل على عدم استثناء غيره كما لا

يخفى. وإذ الأمر كذلك فالحديث مخالف للأحاديث المبيحة لصيام يوم السبت كحديث ابن عمرو الذي قبله ونحوه مما ذكره ابن القيم تحت هذا الحديث في بحث له قيم أفاض فيه في ذكر أقوال العلماء فيه وانتهى فيه إلى حمل النهي على إفراد يوم السبت بالصوم جمعا بينه وبين تلك الأحاديث وهو الذي ملت إليه في "الإرواء". والذي أراه - والله أعلم - أن هذا الجمع جيد لولا أمران اثنان: الأول: مخالفته الصريحة للحديث على ما سبق نقله عن ابن القيم. والآخر: أن هناك مجالا آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أردنا أن نلتزم القواعد العلمية المنصوص عليها في كتب الأصول ومنها: أولا: قولهم: إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح. ثانيا: إذا تعارض القول مع الفعل قدم القول على الفعل. ومن تأمل في تلك أحاديث المخالفة لهذا وجدها على نوعين: الأول: من فعله صلى الله عليه وسلم وصيامه. الآخر: من قوله صلى الله عليه وسلم كحديث ابن عمرو المتقدم. ومن الظاهر البين أن كلا منهما مبيح وحينئذ فالجمع بينها وبين الحديث يقتضي تقديم الحديث على هذا النوع لأنه حاظر وهي مبيحة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجويرية: "أتريدين أن تصومي غدا" وما في معناه مبيح أيضا فيقدم الحديث عليه.

هذا ما بدا لي فإن أصبت فمن الله وله الحمد على فضله وتوفيقه وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفره من ذنبي. قوله تحت عنوان: النهي عن صوم الدهر: "فإن أفطر يومي العيد وأيام التشريق وصام بقية الأيام انتفت الكراهة". قلت: هذا التأويل خلاف ظاهر الحديث: "لا صام من صام الأبد" وقوله: "لا صام ولا أفطر" وقد بين ذلك العلامة ابن القيم في "زاد المعاد" بما يزيل كل شبهة فقال رحمه الله: "وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرمة ... ". وذكر نحوه الحافظ في "الفتح" 4 / 180. قوله في تمام بحثه السابق: "وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة الأسلمي على سرد الصيام وقال له: "صم إن شئت وأفطر إن شئت" وقد تقدم". قلت: نعم تقدم الحديث تحت الكلام عمن يرخص لهم في الفطر ... ولكن بلفظ آخر وليس فيه السرد جاء ذلك في رواية لمسلم بلفظ: "قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم؟ أفأصوم في السفر؟ قال: "صم إن شئت وأفطر إن شئت". ورواه ابن خزيمة 2153. ولا دليل في الحديث على ما ذهب إليه المؤلف لأنه لا تلازم بين السرد وصوم الدهر وقد ذكر الحافظ في "الفتح" استدلال بعض العلماء على الجواز بحديث حمزة هذا ثم عقب عليه بقوله:

"وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر فقد قال أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال: "لا يفطر". أخرجه أحمد1 ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر". ثم قوله أيضا: "والأفضل أن يصوم يوما ويفطر يوما فإن ذلك أحب الصيام إلى الله". قلت: فهذا من الأدلة على كراهة صوم الدهر مع استثناء الأيام المحرمة إذ لو كان صوم الدهر هذا مشروعا أو مستحبا لكان أكثر عملا فيكون أفضل إذ العبادة لا تكون إلا راجحة فلو كان عبادة لم يكن مرجوحا كما تقدم عن ابن القيم.

_ 1 في "المسند" 5 / 201 وسنده حسن.

ومن صيام التطوع

ومن صيام التطوع قوله تحت عنوان: صوم عشر ذي الحجة: "4 - عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله عن صوم يوم عرفة بعرفات". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه". قلت: وإسناده ضعيف ومداره عند الجميع على مهدي الهجري وهو مجهول كما قال النووي 6 / 380 والحافظ في "التلخيص" 6 / 469 ولذلك ضعفه ابن القيم والشوكاني وغيرهما وهو مخرج في "الأحاديث الضعيفة" 404. قوله تحت عنوان: التوسعة يوم عاشوراء: "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته". رواه الب يهقي في "الشعب" وابن عبد البر وللحديث طرق أخرى كلها ضعيفة ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض ازدادت قوة كما قال السخاوي". قلت: هذا رأي السخاوي ولا نراه صوابا لأن شرط تقوي الحديث بكثرة الطرق وهو خلوها من متروك أو متهم لم يتحقق في هذا الحديث فانظر مثلا حديث جابر هذا فإن له طريقين: الأول: عن محمد بن يونس: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري: حدثنا عبد الله بن أبي بكر ابن أخي محمد بن المنكدر عن محمد بن المنكدر عنه. أخرجه البيهقي. فهذا إسناد موضوع من أجل محمد بن يونس - وهو الكديمي - فإنه كذاب قال ابن عدي:

"قد اتهم الكديمي بالوضع". وقال ابن حبان: "لعله قد وضع أكثر من ألف حديث". وشيخه عبد الله بن إبراهيم الغفاري قال الذهبي: "وهو عبد الله بن أبي عمرو المدني يدلسونه لوهنه نسبه ابن حبان إلى أنه يضع الحديث وذكر له ابن عدي في فضل أبي بكر وعمر حديثين وهما باطلان تال الحاكم: يروي عن جماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة". قلت: وهذا منها فإن شيخه عبد الله بن أبي بكر ابن أخي محمد بن المنكدر ضعيف كما في "الميزان". وأما الطريق الثاني؟ فأخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" من طريق أبي الزبير عنه وهذه الطريق مع أنها أصح طرق الحديث - كما قال السيوطي في "اللآلئ" 2 / 63 - فقد قال فيها الحافظ ابن حجر: "هذا حديث منكر جدا". كما نقله السيوطي نفسه عنه ولم يتعقبه بشيء وقد حمل فيه الحافظ على الفضل بن الحباب وقال: "لعله حدث به بعد احتراق كتبه". قلت: وفيه علة أخرى وهي عنعنة أبي الزبير فإنه مدلس وقد أورده في "المدلسين" الحافظ وابن العجمي وقالا: "إنه مشهور بالتدليس". وهكذا سائر طرق الحديث مدارها على متروكين أو مجهولين ومن

الممكن أن يكونوا من أعداء الحسين رضي الله عنه الذين وضعوا الأحاديث في فضل الإطعام والاكتحال وغير ذلك يوم عاشوراء معارضة منهم للشيعة الذين جعلوا هذا اليوم يوم حزن على الحسين رضي الله عنه لأن قتله كان فيه. ولذلك جزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن هذا الحديث كذب وذكر أنه سئل الإمام أحمد عنه فلم يره شيئا وأيد ذلك بأن أحدا من السلف لم يستحب التوسعة يوم عاشوراء وأنه لا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة وقد فصل القول في هذا في "الفتاوى" 2 / 248 - 256 فراجعه وقد نقل المناوي عن المجد اللغوي أنه قال: "ما يروى في فضل صوم يوم عاشوراء والصلاة فيه والإنفاق والخضاب والادهان والاكتحال بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه". قوله تحت عنوان: صيام أكثر شعبان:" وعن أسامة قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه ... ". رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة". قلت: تبع المؤلف في عزوه لأبي داود الحافظ في "الفتح" والصنعاني في "سبل السلام" والشوكاني في "نيل الأوطار" وهو وهم منهم جميعا تتابعوا عليه فليس هو عند أبي داود وإنما له عن أسامة حديث آخر في صوم الاثنين والخميس ولذلك اقتصر المنذري في "الترغيب" والحافظ في "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب على عزوه للنسائي فقط وكذلك النابلسي في "الذخائر" ثم الحديث إسناده عند النسائي حسن.

قوله تحت عنوان: صوم الأشهر الحرم: "فعن رجل من باهلة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا الرجل الذي جئتك عام الأول فقال: " ... صم من الحرم واترك". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند جيد". قلت: ليس بجيد الإسناد لأنه اضطرب راويه فيه على وجوه ذكرها الحافظ في "التهذيب" ومن قبله المنذري في "مختصر السنن" ثم قال: "وقد وقع فيه هذا الاختلاف كما تراه وأشار بعض شيوخنا إلى تضعيفه لذلك وهو متوجه". قلت: وفيه علة أخرى وهي الجهالة كما بينته في "ضعيف أبي داود" 419. قوله تحت عنوان: صوم يومي الاثنين والخميس: "عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له؟ فقال: "إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس ... ". رواه أحمد بسند صحيح". قلت: الحديث صحيح لكن إسناد أحمد غير صحيح فقد أخرجه هو 2 / 329 والترمذي أيضا وابن ماجه من طريق محمد بن رفاعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه. ومحمد بن رفاعة هذا قال الأزدي: "منكر الحديث". وأما ابن حبان فذكره في "الثقات" على قاعدته! ولذلك أفاد ابن حجر في "التقريب" أنه لين الحديث وكل من صحح هذا السند أو وثق هذا الراوي فإنما

عمدته على توثيق ابن حبان وحده وليس بعمدة. ويدل على ضعف ابن رفاعة هذا أنه قد خالفه في متنه مالك وجرير والدراوردي عند مسلم 7 / 11 ومعمر عند أحمد 2 / 268 أربعتهم عن سهيل به إلا أنهم لم يذكروا صيامه صلى الله عليه وسلم للاثنين والخميس وسؤاله عنه. وكذلك رواه مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح به رواه مسلم أيضا وهو مخرج في "الإرواء" 4 / 105. وإنما صححت الحديث لأن شطره الثاني صحيح كما ترى وشطره الأول له شواهد منها عن أسامة بن زيد وزاد: "قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". أخرجه النسائي وأحمد بسند حسن ورواه أبو داود من طريق ثان وابن خزيمة من طريق ثالث انظر "الترغيب" وقد جعل من طريق النسائي وطريق أبي داود واحدا وهو من أوهامه فتنبه. قوله تحت عنوان: صيام ثلاثة أيام من كل شهر: "وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس". قلت: الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر فإنه من رواية سفيان عن منصور عن خيثمة عن عائشة قالت ... أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه".

قال الحافظ في "الفتح": "وهو أشبه". قلت: وله علة أخرى فقد ذكر في "التهذيب" في ترجمة خيثمة هذا - وهو ابن عبد الرحمن - أنه روى عن ابن مسعود وعمر ولم يسمع منهما ثم قال: "وقال ابن القطان: ينظر في سماعه من عائشة رضي الله عنها". قوله عطفا على ما سبق: "وأنه عليه السلام كان يصوم الخميس من أول الشهر والاثنين الذي يليه والاثنين الذي يليه". قلت: لم أجد هذا في شيء من كتب السنة ولم يذكره ابن القيم في "هديه صلى الله عليه وسلم في صيامه". فأخشى أن يكون هذا الحديث انقلب على المؤلف أو غيره فإن المعروف في السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الاثنين من أول الشهر والخميس الذي يليه ثم الخميس الذي يليه. أخرجه النسائي 1 / 328 وغيره وهو مخرج في "صحيح أبي داود" 2017 / 1 من حديث ابن عمر وهو وأبو داود وأحمد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسنده حسن. قوله تحت: الدعاء عند الفطر ... : "روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" وكان عبد الله إذا أفطر يقول: اللهم إني ... ". قلت: سكت عليه فأوهم أنه صحيح وليس كذلك فإن في سنده إسحاق ابن عبيد الله المدني ولا يعرف كما قال المنذري في "الترغيب" ولذلك أشار ابن القيم في "الزاد" إلى تضعيف الحديث وقد خرجته وتكلمت عليه بشيء من

التفصيل في "التعليقات الجياد" ثم في "إرواء الغليل" 921. قوله أيضا: وروى الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر والإمام العادل والمظلوم". قلت: كأنه استلزم حسن إسناده من تحسين الترمذي للحديث ولا تلازم بينهما فقد يكون الحديث حسنا عند الترمذي وغيره لشواهده ولا يكون إسناده الذي ساق الحديث به حسنا وفي مثل هذا يقول المتأخرون: إنه حسن لغيره. فتأمل. ثم إن مدار الحديث عند الترمذي وغيره على أبي مدلة وقد قال ابن المديني: "مجهول". وقال الذهبي: "لا يكاد يعرف". ثم خرجته في "الضعيفة" 1358 وذكرت فيه أنه مخالف لحديث آخر مخرج في "الصحيحة" 596.

ومن مباحات الصيام

ومن مباحات الصيام قوله تحت هذا العنوان: " ... فإذا طلع الفجر وفي فمه طعام وجب عليه أن يلفظه ... ". قلت: هذا تقليد لبعض الكتب الفقهية وهو مما لا دليل عليه في السنة المحمدية بل هو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه هو والذهبي وأخرجه ابن حزم وزاد: "قال عمار يعني: ابن أبي عمار راويه عن أبي هريرة: وكانوا يؤذنون إذا بزغ الفجر". قال حماد يعني: ابن سلمة عن هشام بن عروة: كان أبي يفتي بهذا. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وله شواهد ذكرتها في "التعليقات الجياد" ثم في "الصحيحة" 1394. وفيه دليل على أن من طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده أنه يجوز له أن لا يضعه حتى يأخذ حاجته منه فهذه الصورة مستثناة من الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1 فلا تعارض بينها وما في معناها من الأحاديث وبين هذا الحديث ولا إجماع يعارضه بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى أكثر مما أفاده الحديث وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر وينتشر البياض في الطرق راجع "الفتح 4 / 109 – 110. لأن من فوائد هذا الحديث إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة؟ لأنهم إنما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحرون ولو علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة. فتأمل.

_ 1 البقرة 187.

ومن مايبطل الصيام

ومن ما يبطل الصيام قوله: "الاستمناء إخراج المني سواء أكان سببه تقبيل الرجل لزوجته أو ضمها إليه أو كان باليد فهذا يبطل الصوم ويوجب القضاء". قلت: لا دليل على الإبطال بذلك وإلحاقه بالجماع غير ظاهر ولذلك قال الصنعاني: "الأظهر أنه لا قضاء ولا كفارة إلا على من جامع وإلحاق غير المجامع به بعيد". وإليه مال الشوكاني وهو مذهب ابن حزم فانظر "المحلى" 6 / 175 - 177 و205. ومما يرشدك إلى أن قياس الاستمناء على الجماع قياس مع الفارق أن بعض الذين قالوا به في الإفطار لم يقولوا به في الكفارة قالوا: "لأن الجماع أغلظ والأصل عدم الكفارة". انظر "المهذب" مع "شرحه" للنووي 6 / 368. فكذلك نقول نحن: الأصل عدم الأفطار والجماع أغلظ من الاستمناء

فلا يقاس عليه. فتأمل. وقال الرافعي 6 / 396: "المني إن خرج بالاستمناء أفطر لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل فالإنزال بنوع شهوة أولى أن يكون مفطرا". قلت: لو كان هذا صحيحا لكان إيجاب الكفارة في الاستمناء أولى من إيجابها على الإيلاج بدون إنزال وهم لا يقولون أيضا بذلك. فتأمل تناقض القياسيين! أضف إلى ذلك مخالفتهم لبعض الآثار الثابتة عن السلف في أن المباشرة بغير جماع لا تفطر ولو أنزل وقد ذكرت بعضها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" تحت الأحاديث 219 - 221 ومنها قول عائشة رضي الله عنها لمن سألها: ما يحل للرجل من امرأته صائما؟ قالت: "كل شيء إلا الجماع". أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" 4 / 190 / 8439 بسند صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" واحتج به ابن حزم. وراجع سائرها هناك. وترجم ابن خزيمة رحمه الله لبعض الأحاديث المشار إليها بقوله في "صحيحه" 2 / 243: "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم والدليل على أن اسم الواحد قد يقع عل فعلين: أحدهما مباح والآخر محظور إذ اسم المباشرة قد أوقعه الله في نص كتابه على الجماع ودل الكتاب على أن الجماع في الصوم محظور قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن الجماع يفطر الصائم" والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم قد دل بفعله على أن المباشرة التي هي دون الجماع مباحة في الصوم غير

مكروهة". وإن مما ينبغي التنبيه عليه هنا أمرين: الأول: أن كون الإنزال بغير جماع لا يفطر شيء ومباشرة الصائم شيء آخر ذلك أننا لا ننصح الصائم وبخاصة إذا كان قوي الشهوة أن يباشر وهو صائم خشية أن يقع في المحظور الجماع وهذا سدا للذريعة المستفادة من عديد من أدلة الشريعة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه" وكأن السيدة عائشة رضي الله عنها أشارت إلى ذلك بقولها حين روت مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم: "وأيكم يملك إربه؟ ". والأمر الآخر: أن المؤلف لما ذكر الاستمناء باليد فلا يجوز لأحد أن ينسب إليه أنه مباح عنده لأنه إنما ذكره لبيان أنه مبطل للصوم عنده. وأما حكم الاستمناء نفسه فلبيانه مجال آخر وهو قد فصل القول فيه في "كتاب النكاح" وحكى أقوال العلماء واختلافهم فيه وإن كان القارئ لا يخرج مما ذكره هناك برأي واضح للمؤلف كما هو الغالب من عادته فيما اختلف فيه. وأما نحن فنرى أن الحق مع الذين حرموه مستدلين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ , فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع في الزنا إلا إذا استعمل الطب النبوي وهو قوله صلى الله عليه وسلم للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج: "فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". ولذلك فإننا ننكر أشد الإنكار على الذين يفتون الشباب بجوازه خشية الزنا دون أن يأمروهم بهذا الطب النبوي الكريم. قوله: "قال الشوكاني: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير يعني في كفارة الإفطار بالجماع والذين رووا الترتيب أكثر ومعهم الزيادة". قلت: قد ذكر ابن القيم لرواية الترتيب مرجحات ستة إحداها ما ذكره الشوكاني ومن وقف عليها لا يشك في أرجحيتها فراجعها في "تهذيب السنن" 3 / 269 – 272.

ومن قضاء رمضان

ومن قضاء رمضان قوله: "قضاء رمضان لا يجب على الفور بل يجب وجوبا موسعا في أي وقت وكذلك الكفارة". قلت: هذا يتنافى مع قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] فالحق وجوب المبادرة إلى القضاء حين الاستطاعة وهو مذهب ابن حزم 6 / 260 وليس يصح في السنة ما يعارض ذلك. وأما استدلال المؤلف على عدم الوجوب بقوله: "فقد صح عن عائشة أنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان. رواه أحمد ومسلم ولم تكن تقضيه عند قدرتها على القضاء". فليس بصواب لأنه ليس في حديث عائشة أنها كانت تقدر أن تقضيه فورا بل فيه عكس ذلك فإن لفظ الحديث عند مسلم 3 / 154 - 155:

"كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم". وهكذا أخرجه البخاري أيضا في "صحيحه" خلافا لما أوهمه تخريج المصنف وفي رواية لمسلم عنها قالت: "إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان". فالحديث بروايتيه صريح في أنها كانت لا تستطيع ولا تقدر على القضاء قبل شعبان وفيه إشعار بأنها لو استطاعت لما أخرته فهو حجة على المؤلف ومن سبقه ولذلك قال الزين بن المنير رحمه الله: "وظاهر صنيع عائشة يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما منعها من الشغل فيشعر بأن من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير". واعلم أن ابن القيم والحافظ وغيرهما قد بينا أن قوله في الحديث: "الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم مدرج في الحديث ليس من كلام عائشة بل من كلام أحد رواته وهو يحيى بن سعيد ومن الدليل على ذلك قول يحيى في رواية لمسلم: "فظننت أن ذلك لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم". ولكن هذا لا يخدج فيما ذكرنا لأننا لم نستدل عليه بهذا المدرج بل بقولها: "فما أستطيع ... والمدرج إنما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة وهذا لا يهمنا في الموضوع ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في خاتمة شرح الحديث: "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأن الزيادة كما بيناه مدرجة ... "؟!

فخفي عليه أن عدم استطاعتها هو العذر. فتأمل. قوله: "وروى الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قضاء رمضان: "إن شاء فرق وإن شاء تابع". قلت: لو صح هذا لكان دليلا قاطعا للنزاع ولكنه لم يصح فإنه عند الدارقطني ص 244 من طريق سفيان بن بشر بسنده عنه ثم قال الدارقطني: "لم يسنده غير سفيان بن بشر". قلت: وهو في عداد المجهولين فإني لم أجد له ذكرا في شيء من كتب الرجال التي عندي وكأنه لذلك صرح بتضعيف إسناده البيهقي في "السنن" 4 / 258 وأشار لتضعيفه الحافظ في "التلخيص" 6 / 434 حيث قال بعد أن عزا الحديث للدارقطني: "قال: ورواه عطاء عن عبيد بن عمير مرسلا. قلت: وإسناده ضعيف أيضا". وأما قول الشوكاني: "وقد صحح الحديث ابن الجوزي وقال: ما علمنا أحدا طعن في سفيان ابن بشر". قلت: هذا القدر لا يكفي في تصحيح الحديث فإن مثل هذا القول يمكن أن يقال في كل مجهول ونقول على سبيل المعارضة: ما علمنا أحدا وثق سفيان ابن بشر. وهذا أقرب إلى القواعد الحديثية لأن صحة الحديث يشترط فيها ثبوت ثقة رجاله بشهادة الأئمة وأما ضعفه فيكفي أن لا تثبت أو لا تعرف الثقة ولو في بعض رواته كما هو معروف عند المشتغلين بعلم السنة ثم نقول: كيف يصح هذا الحديث وقد ضعفه أحد أئمة الحديث ونقاده وهو الإمام البيهقي؟!

ثم هو معارض بما هو أقوى منه وهو حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان ومن كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه". أخرجه الدارقطني ص 243 وعنه البيهقي من طريق حبان بن هلال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم القاص - وهو ثقة -: ثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه. وقال الدارقطني: "عبد الرحمن بن إبراهيم ضعيف الحديث". قلت: وهو مختلف فيه وقد وثق في إسناد الدارقطني كما ترى وقد وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما ولذلك قال ابن القطان: "فهو مختلف فيه والحديث من روايته حسن" كما في "الجوهر النقي". ونقل الحافظ عن ابن القطان أنه قال: "ولم يأت من ضعفه بحجة والحديث حسن". ثم تعقبه الحافظ بقوله: "قلت: قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن". قلت: وجملة القول "أنه لا يصح في هذا الباب شيء لا سلبا ولا إيجابا والأمر القرآني بالمسارعة يقتضي وجوب المتابعة إلا لعذر وهو مذهب ابن حزم أيضا 6 / 261 قال: "فإن لم يفعل فيقضيها متفرقة وتجزيه لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يحدد تعالى في ذلك وقتا يبطل القضاء بخروجه وهو قول أبي

حنيفة". فائدة: لم يتعرض المؤلف لقضاء رمضان ممن أفطره عامدا متعمدا هل يشرع له قضاؤه أم لا؟ والظاهر الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في "الاختيارات" ص 65: "لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ولا صلاة ولا تصح منه وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في رمضان بالقضاء ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه". وهو مذهب ابن حزم و - رواه عن أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة فراجع "المحلى" 6 / 180 – 185. لكن تعليل ابن تيمية ضعف حديث أمر المجامع في رمضان بالقضاء بعدول البخاري ومسلم عنه ليس بشيء عندي فكم من حديث عدل الشيخان عنه وهو صحيح والحق أنه ثابت صحيح بمجموع طرقه كما قال الحافظ ابن حجر وأحدها صحيح مرسل كما كنت بينته في تعليقي على رسالة ابن تيمية في "الصيام" ص 25 - 27 ثم في "إرواء الغليل" 4 / 90 - 92 فقضاء المجامع من تمام كفارته فلا يلحق به غيره من المفطرين عمدا ويبقى كلام الشيخ في غيره سليما. أما الصلاة فهو مختار المصنف أيضا تبعا لابن حزم وقد كان نقل كلامه في ذلك ملخصا في "الصلاة" قبيل "الجمعة" وكان يلزمه أن يختار مثله في الصوم فإن دليل عدم القضاء فيه مثله في الصلاة ولا سيما أنه مذهب ابن حزم أيضا فقد قال: "برهان ذلك أن وجوب القضاء في تعمد القئ قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قبل ولم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو الشرب أو الوطء نص

بإيجاب القضاء لأنما افترض تعالى رمضان لا غيره على الصحيح المقيم العاقل البالغ فإيجاب صيام غيره بدلا منه إيجاب شرع لم يأذن الله تعالى به فهو باطل ولا فرق بين أن يوجب الله تعالى صوم شهر مسمى فيقول قائل: إن صوم غيره ينوب عنه بغير نص وارد في ذلك وبين من قال: إن الحج إلى غير مكة ينوب عن الحج إلى مكة والصلاة إلى غير الكعبة تنوب عن الصلاة إلى الكعبة وهكذا في كل شيء قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ". ثم شرع يرد على المخالفين قياسهم كل مفطر بعمد على المفطر بالقئ وعلى المجامع في رمضان. ثم روى مثل قوله عن الخلفاء الراشدين حاشا عثمان وعن ابن مسعود وأبي هريرة فراجعه. قلت: لكن المجامع في رمضان قد صح أنه أمره صلى الله عليه وسلم بالقضاء أيضا.

ومن مات وعلية صيام

ومن مات وعلية صيام ... ومن من مات وعليه صيام قوله: "وكذلك أجمعوا على أن من عجز عن الصيام لا يصوم عنه أحد أثناء حياته". قلت: الظاهر أن لا إجماع في هذه المسالة فقد خالف فيها ابن تيمية فقال في "الاختيارات" ص 64: "وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكبره ونحوه أو عن ميت وهما معسران توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذاك". وقد نقلته على سبيل الاطلاع لا التبني فإني لا أراه صوابا لمنافاته لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] , وأما هو فقد أول الآية بما لا يتعارض مع مذهبه ولا يتسع المقال لتفصيل ذلك فليرجع إليه من شاء زيادة المعرفة. قوله في مذهب الشافعية المختار: أنه يستحب لولي الميت أن يصوم عنه: "واستدلوا بما رواه أحمد والشيخان عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" , زاد البزار لفظ: "إن شاء" وقال في التعليق: سندها حسن". قلت: كلا بل هذه الزيادة ضعيفة منكرة فإن مدارها على ابن لهيعة وهو ضعيف وقد تفرد بها كما قال الحافظ في "الفتح" وقال في "التلخيص": "وهي ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة". والمؤلف كأنه تبع في تحسينها صديق خان في "الروضة" وهو تبع الهيثمي

في "المجمع" وهو خطأ أو تساهل منهم جميعا. ثم إن هذا الحديث حمله الحنابلة على صوم النذر فهو الذي يصومه الولي عنه وأما صوم الفرض فلا يصومه أحد عن أحد وهو مذهب راوية الحديث عائشة وكذا ابن عباس راوي الحديث الآتي بعده وقد ذكرت أقوالهما في ذلك في "أحكام الجنائز" في المبحث 106 وهو الذي تقتضيه أصول الشريعة وحكمتها وقد انتصر لهذا ابن القيم في "تهذيب السنن" وكذا في "إعلام الموقعين" ونقلت كلامه منه في الكتاب المشار إليه وهو نفيس فليراجع. قوله: "وروى أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ ... قال: "نعم" ... ". قلت: هذا يوهم أنه لم يخرجه من هو أرقي في الصحة من المذكورين وليس كذلك فقد أخرجه الشيخان في "الصوم" عن ابن عباس وفي رواية لهما: "ماتت وعليها صوم نذر". فهذا الحديث إذن وارد في صوم النذر فلا يجوز الاستدلال به على صوم الفرض كما فعل المؤلف وبعبارة أخرى الحديث دليل للحنابلة لا للشافعية فتنبه! انتهى تسويد الجزء الثالث بتاريخ 19 / 8 / 73 هـ وهو آخر ما عندي من التعليق على "فقه السنة" والله أسأل أن يجعله معينا لطلاب العلم ومنهجا يسيرون عليه للتفقه في الدين وأن يتقبله مني انه هو السميع العليم.

§1/1