تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
ابن كَمَال باشا
مقدمة
تلوين الخطاب لابن كمال باشا: دراسة وتحقيق إعداد: د. عبد الخالق بن مساعد الزهراني الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية المقدمة الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على صفوة خلق الله سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه: أما بعد: فإن الله قد هيّأ للغة العربية رجالاً، سبروا أغوارها العميقة، وفهموا أسرارها، واستخرجوا دررها، وتنافسوا في خدمتها، فملأت مؤلفاتهم الصحائف، وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، وبين الحين والآخر نجد مؤلّفاً قشيباً، نفض عنه غبار النسيان، فبدأ بهيّ الطلعة، وليد اللحظة، تتطلع إليه الأنظار، وتهفو إليه الأفئدة، ومع هذا الدأب في إخراج كنوز التراث، والجهد المتواصل في تحقيقها، فما زالت المكتبات تخبّئ في زواياها نفائس، تضنّ بها على محبيها، والمتعطشين إلى ورود حياضها، على الرغم من سعيهم الحثيث إليها، وتنقيبهم الدؤوب عنها في كلّ مكان. و"تلوين الخطاب" من نفائس المخطوطات، رسالة صغيرة الحجم، جليلة القدر، عثرت على مصورتين منها في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهي للعالم المشهور ابن كمال باشا رحمه الله تعالى. وقد أغراني عنوانها، فهو عنوان جذاب، ينبئ عن اختيار أديب بارع، وعالم متمكن، وحين قلّبت صفحاتها، وجدتها رسالة قيّمة، حقيقة بأن يبذل فيها الجهد والوقت، وقد عثرت على مصوّرتين لها، فشرعت في نسخها، ومقابلة نُسختيها، وحين استعصى عليّ اختيار إحدى النسختين أصلاً عمدت إلى اختيار ما أراه صواباً منهما، وما ترجّح لديّ من خلال قرائن السياق، وأثبت في الهامش ما يخالفه. وإذا تبيّن لي أنّ في النسختين خطأ ظاهراً، فإنَّني أجعل ما أراه صواباً في المتن وأضعه بين معكوفتين، وأذكر في الهامش ما هو موجود فيهما، وإن كان ما
أظنَّه خطأ منقولاً عن أحد المصادر، فإني أستعين بهذا المصدر في التصويب، فأجعل الصواب في المتن، وأذكر في الهامش ما يخالفه. وقد خدمت النصّ؛ فخرّجت الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيه، فبينت سورها وأرقامها، وخرّجت الأبيات الشعريّة وعزوتها إلى أصحابها، وذكرت مصادرها في الهامش. وتتتبعت الأقوال التي أوردها المؤلف، فعزوتها إلى أصحابها، ووثّقتها من مؤلفاتهم، سوى نقلين لم أجدهما في المصادر التي أشار المؤلف إلى أنه نقلهما عنها، ونبّهت على ذلك في موضعه من الرسالة. كما أنه نقل عن الكشف مرتين، والكشف لا يزال مخطوطاً، وقد بحثت عنه في المدينة فلم أجده، وسألت بعض المهتمين بكتب التفسير فلم أجد له خبراً لديهم، ولذا فقد اكتفيت بالتوثيق من حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي لأن الشهاب ينقل عن الكشف كثيراً في حاشيته هذه. وجعلت مدخلاً قبل الرِّسالة، تحدثت فيه عن المؤلف؛ مولده، ونشأته، وطلبه للعلم، ومؤلفاته، وأعماله، ووفاته. واتضح لي جهده وكفاحه في سبيل تحصيله العلم، حتى أصبح عالماً لا يجارى، يتبوأ أعلى المناصب العلمية في عصره، ويخلّف ثروة كبيرة من المؤلفات في كثير من الفنون. وتحدثت - أيضاً - عن الرِّسالة؛ فبيّنت عنوانها ووثّقت نسبتها إلى مؤلفها، وعرضت محتواها، وبيّنت قيمتها العلميّة، فذكرت ما فيها من مزايا وحسنات، والمآخذ التي ظهرت لي. ثم قدّمت وصفاً للنسخ المخطوطة التي اعتمدت عليها في التحقيق وأوردت نماذج منها. ولا يخفى ما في تحقيق المخطوطات من مشقة وعناء، ولا
قدّر ذلك حقّ قدره إلا من مارسه، ورأي الجهد الذي يتكبّده الباحث في سبيل إقامة عبارة أو تصحيح كلمة، أو تخريج بيت، أو توثيق نقل ... وغير ذلك مما يعترض الباحث من عقبات يقف أمامها الساعات الطّوال حتى ييسّر الله له تجاوزها. وكل جهد مهما عظم في عين صاحبه، يكون يسيراً وينقلب متعةً حين تتحقّق الفائدة المرجوّة من ورائه، وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله لبنة بنّاءة في خدمة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، وأن يجعلنا جنداً مخلصين في سبيل إعلائها والمحافظة عليها، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
التعريف بالمؤلف
التعريف بالمؤلف1 اسمه ونسبه: هو: أحمد2 بن سليمان بن كما باشا، الملقب شمس الدين. اشتهر بابن كمال باشا. تركي الأصل، مستعرب.
حياته
حياته: كانت لأسرته مكانة عالية إضافة إلى ما عرفت به من علم وفضل فقد كان جدّه من أمراء الدولة العثمانية، ولذا فقد نشأ ابن كمال في بيت جاهٍ وسلطان، وهذا يجعل حياته مرفّهة ومنعمّة، ولكنه التحق بالجيش وهو شاب، فكان لهذا أثر في تكوين شخصيته، من حرصٍ على الوقت، وجدٍّ، وتحمّلٍ للشدائد، والصبر على الصعوبات.
وأراد الله له الخير والذّكر الحسن، فرأى منظراً صرفه عمّا هو فيه من عملٍ إلى طلب العلم، وقد وصف ذلك المنظر، فذكر أنه كان مسافراً مع السلطان بايزيد خان ووزيره إبراهيم باشا، ثم صادف أن كان في حضرة الوزير أمير ليس في الأمراء أعظم مكانةً منه؛ لا يتصدّر عليه أحد من الأمراء، وبينما ابن كمال في هذا الموقف العسكري، الذي يقف فيه كل إنسان عند حدود رتبته، ولا يتطلّع إلى أعلى منها؛ إذا هو يشاهد رجلاً رثّ اللباس؛ لا تدلّ هيئته على علوّ منزلة، يخطو خطوات واثقة، فيتصدّر المجلس، ويتبوأ مكاناً أعلى من الأمير، فتدخل الدهشة والحيرة نفس ابن كمال، ويتساءل: لماذا لم يمنعه أحد؟! ولماذا رضي الأمير بهذا الأمر؟! وهمس إلى بعض رفقائه: من هذا الذي تصدّر على مثل هذا الأمير؟!. فأخبره: إن هذا عالم، يقال له: المولى لطفي. ولكن ابن كمال لم يقتنع بهذا الجواب، فهو لا يزال يزن الأمور بميزان مادّيّ بحتٍ، ولذا فقد سأل رفيقه أيضاً: كم وظيفته؟ أي ما مقدار ما يتقاضاه من الأجر؟ فأجابه رفيقه: ثلاثون درهماً. ويدهش دهشة كبيرةً، لهذه المكانة التي أتيحت لهذا الرجل؛ إذ كيف يقدّم على الأمير ووظيفته بهذا المقدار الضّئيل؟ ولكن رفيقه بيّن له حقيقة الأمر، فقال: العلماء معظّمون لعلمهم، فإنه لو تأخّر لم يرض بذلك الأمير ولا الوزير. وكان له في هذا القول تفكير وتأمّل، دفع به إلى طلب العلم، فهو يريد علوّ المنزلة، ولا يمكن أن يصل إلى منزلة الأمير، ولكنه لو طلب العلم، فأصبح عالماً، فإنّه سيصل إلى منزلة أعلى، ولهذا فقد قرّر أن يكون تلميذاً؛ وكانت هذه بداية انطلاقه نحو تحصيل العلوم المتنوّعة، وبذل في سبيلها أقصى جهده، ووجّه
كلّ طاقاته، فحصل له خير كثير، وجمع فنوناً عديدةً، برع فيها كلها وقد وصفه صاحب الشقائق النعمانية وصفاً رائعاً حين قال: "كان رحمه الله تعالى من العلماء الذين صرفوا جميع أوقاتهم إلى العلم، وكان يشتغل به ليلاً ونهاراً، ويكتب جميع ما لاح بباله.. وقد فتر الليل والنهار ولم يفتَّر قلمه"1. وأثمر هذا الجهد عن مكانة عالية، وعلم متدفّق، جعلت ابن كمال باشا يتولّى التدريس في عدد من المدارس، حتى وصل إلى أرقاها؛ فدرّس في مدرسة علي بك بمدينة أدرنة، ثم بمدرسة أسكوب، ثم درّس بإحدى المدارس الثمان2، ثم بمدرسة السلطان بايزيد بأدرنة. وتولّى بعد ذلك القضاء بأدرنة. ثم قضاء العسكر الأناضولي. وانتهى به المطاف ليستقرّ في الإفتاء بالقسطنطينية إلى أن توفي سنة 940هـ3 رحمه الله تعالى.
مؤلفاته
مؤلفاته: كان ابن كمال باشا باحثاً موسوعياًّ، خاض غمار التأليف في فنون شتّى، ولو تصفّحنا عناوين مؤلفاته التي ذكرت في المصادر لوجدناه عالماً فذاًّ محيطاً بكثير من العلوم، فقد صنّف في: التفسير، والفقه، والفرائض، والأصول، وعلم
الكلام، والبلاغة، واللغة، ولم يقف عند التأليف بالعربيّة، ولكنه ألّف بالفارسيّة والتركيّة، كما كان بارعاً في النظم والإنشاء أيضاً، فهو رجل موهوب، وقد وهب نفسه للعلم، فأثمر جهده عن حصيلة متميّزة، وليس من اليسير حصر مؤلفاته، خاصة أنه كان يعمد إلى اختيار الموضوعات الدقيقة، فيصنف فيها، ولذا كثرت رسائله، فقال عنه صاحب الشقائق "وصنّف رسائل كثيرة في المباحث المهمّة الغامضة، وكان عدد رسائله قريباً من مائة"1. وشبّهه د/ناصر الرشيد في كثرة تأليفه "بالسيوطي وابن الجوزي وابن حزم وابن تيمية ممن اشتهر في تاريخ الإسلام بكثرة التأليف"2. وسأشير هنا إلى ما وقفت عليه من مؤلفاته: 1- أسرار النحو. وقد حققه د. أحمد حسن حامد3. 2- إصلاح الإيضاح، أو إيضاح الإصلاح4 في الفقه وهو شرح لمتن للمؤلف. 3- تاريخ آل عثمان5. 4- تجريد التجريد6 في علم الكلام. 5- تغيير التنقيح7 في الأصول وهو شرح لمتن للمؤلف. 6- تفسير القرآن العزيز8.
وقد حقق الباحث يونس عبد الحي ما سورتي الفاتحة والبقرة منه في رسالة علمية لنيل درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وذكر أن هذا التفسير من أول سورة الفاتحة إلى نهاية سورة الصافات. 7- حواشٍ على التلويح1. 8- حواشٍ على التهافت للمولى خواجة زاده2. 9- حواشٍ على شرح المفتاح للسيد الشريف3. 10- حواشٍ على الكشاف4. 11- رجوع الشيخ إلى صباه5. 12- شرح بعض الهداية6. 13- شرح مشكاة المصابيح7. 14- شرح مفتاح العلوم للسكاكي8. 15- طبقات الفقهاء9. 16- طبقات المجتهدين10. 17- كتاب في الفرائض11 وهو شرح لمتن للمؤلف.
18- محيط اللغة1. 19- المهمات في فروع الفقه الحنفي2. وله عدد من الرسائل طبع منها مجموعة تضم ستاً وثلاثين رسالة3، ومنها مجموعة مخطوطة تضم ثماناً وعشرين رسالة في الخزانة التيمورية، ومجموعة خطيّة أخرى في أربع وعشرين رسالة فيها أيضاً4. ومن الرسائل التي نشرت - فيما وقفت عليه: 1- رسالة في تحقيق معنى كاد. 2- رسالة في تحقيق التغليب. 3- رسالة أن التوسع شائع. 4- رسالة في تحقيق المشاكلة. 5- رسالة في رفع ما يتعلق بالضمائر من الأوهام5. 6- رسالة في الفرق بين "من" التبعيضية و"من" التبيينية. 7- رسالة في بيان ما إذا كان صاحب علم المعاني يشارك اللغوي في البحث عن مفردات الألفاظ6.
8- رسالة في تحقيق تعريب الكلمة الأعجمية1. 9- التنبيه على غلط الجاهل والنّبية2. 10- رسالة في الكلمات المعرّبة3. 11- رسالة في بيان الأسلوب الحكيم4. 12- المزايا والخواص في الأسلوب البلاغي5. 13- تحقيق معنى النظم والصياغة6. وهذا ما استطعت أن أصل إليه، وهناك من الباحثين من ذكر أن عدد رسائله تفوق ما ذكره صاحبا الشقائق والكواكب السائرة فقد ذكرا أن رسائله قريبة من مائة رسالة، بينما أشار د. محمد حسين: أبو الفتوح إلى أن لابن كمال باشا
"عدة رسائل في اللغة، قيل إنها تزيد على ثلاثمائة رسالة في اللغة"1. وهذا تراث ضخم أسأل الله أن يدلّ الباحثين على مواطنه كي يخرجوه إلى اللغة العربية ليفيدوا منه، وينهلوا من معينه.
التعريف بالرسالة
التعريف بالرِّسالة: عنوانها - توثيق نسبتها إلى المؤلف - بيان محتواها - قيمتها العلميّة - المآخذ عليها عنوانها: لم أجد صعوبة في تحديد عنوان الرِّسالة، لأنّ المؤلّف نصّ عليه في مقدمّته، فقال: "وبعد فهذه رسالة مرتّبة في بيان تلوين الخطاب، وتفصيل شعبه....". ووجدت في إحدى النسخ التي اعتمدتها عنواناً بارزاً هو: "رسالة تلوين الخطاب". وذكر هذا العنوان - أيضاً - الباحث يونس عبد الحي ما، فقال: "رسالة في الالتفات، وتسمّى برسالة في تلوين الخطاب"1. وإن كان قد وهم في جعلها في الالتفات، لأن المؤلّف نصّ على أنها في تلوين الخطاب، والالتفات إحدى شعبه.
توثيق نسبتها إلى المؤلف
توثيق نسبتها إلى المؤلف: رسائل ابن كمال باشا كثيرة ومتنوّعة، ولذا كان المترجمون له يذكرون أنّ له رسائل كثيرةٌ وقد تربو على الثلاثمائة عند بعضهم2. وأمام هذا العدد الهائل من الرسائل أحجم الباحثون عن تتبُّعها وبيان عناوينها وفنونها، واكتفوا بذكر ما اطلعوا عليه منها فقط، حتّى هيّأ الله باحثاً جادّاً، تتبّع مصنّفات ابن كمال جميعها، وفصّل فيها، فذكر عناوينها وموضوعاتها، وهو الباحث: يونس عبد الحي ما، وقد أورد مصنفات المؤلف
باللغة العربية في (44) صفحة1 وهذا جهد يُشكر عليه، وتتبّع دقيق يحمد له. وكان ممّا أورده من هذه المصنّفات، الرِّسالة التي نحن بصددها، وقد أسماها: - رسالة في الالتفات، وتسمّى برسالة في تلوين الخطاب2. ومن عرف أسلوب ابن كمال باشا، أو قرأ بعض رسائله، فإنه لن يجد مشكلة في معرفة ما هو له، أو ليس له من الرسائل، فمما يميّز رسائله، أنه درج على نمط معين في التعريف بموضوعها، إذ يقول بعد التحميد: "فهذه رسالة رتبناها"، أو "فهذه رسالة مرتبة في.." وانظر ما قاله في الرسائل الآتية: - وبعد فهذه رسالة مرتّبة في وضع كاد وتوضيح طريق استعماله3. - وبعد فهذه رسالة رتّبناها في تحقيق المشاكلة وتفصيل ما يتعلق بها..4. - وبعد فهذه رسالة رتبناها في رفع ما يتعلق بالضمائر من الأوهام..5. - وبعد فهذه رسالة رتّبناها في تحقيق معنى النظم والصياغة..6. وهنا نجد أنّ هذه الرسالة تسير وفق ما ألفناه من قبل في الرسائل السابقة فقد جاء فيها: - وبعد فهذه رسالة مرتّبة في تلوين الخطاب وتفصيل شعبه.... وممّا يوثّق نسبة الرِّسالة إلى صاحبها، أننا نجد علماء يكثر دورانهم في
رسائله، ينقل عنهم، أو يناقشهم ويعترض عليهم، وهؤلاء هم: 1- الزمخشري، ويشير إليه كثيراً بقوله: صاحب الكشاف1. 2- صاحب الكشف2. 3- البيضاوي3. 4- الشريف الفاضل4. 5- الفاضل التفتازاني5. 6- صدر الأفاضل في ضرام السقط6. وهؤلاء هم الذين تردّد ذكرهم كثيراً في هذه الرسالة، ويبدو أنَّ المؤلّف قد ألفهم واعتاد مناقشتهم أو النقل عنهم في كثير من رسائله.
محتوى الرسالة
محتوى الرسالة: في هذه الرسالة يبحث ابن كمال باشا تلوين الخطاب، فيبيّن أهميته وعناية العرب به أكثر من عنايتهم بقرى الأضياف، وما ذاك إلا لأنَّه قرىً للأرواح، ولذا فقد أولوه عنايتهم. ثم ذكر أن تلوين الخطاب يكون بأحد هذه الأمور: 1- العدول عن الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، وقد مثّل له بقوله
تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } 1 والشاهد من هذه الآيات في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بعد قوله {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} . 2- صرف الخطاب عن مخاطب إلى مخاطب. ومثّل له بقول جرير2: ثِقِيْ بِاللهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ وَمِنْ عِنْدِ الْخَلَيْفَةِ بِالنَّجَاحِ أَغِثْنِيْ يَا فِدَاكَ أَبِيْ وَأُمِّي بِسَيْبٍ مِنْكَ إِنَّك ذُو ارْتِياحِ فهو يرى أن الشاعر انتقل من خطاب زوجته إلى خطاب الخليفة، وبناءً على ذلك فليس فيه التفات عنده، وإنما هو من قبيل تلوين الخطاب، لأن من شرط الالتفات أن يكون المخاطب في الحالين واحداً، وقد بيّنت أنّ في هذين البيتين التفاتاً خلاف ما ذهب إليه المؤلف3. وسواء كان فيهما التفات أو لم يكن كما قرّر ذلك المؤلف، فهما داخلان تحت تلوين الخطاب. 3- العدول عن صيغة من الصيغ الثلاث وهي: صيغة التكلم، وصيغة الخطاب، وصيغة الغيبة، إلى الأخرى منها. وهذا النوع لم يمثّل له. 4- الالتفات: وذكر أنه: تغيير أسلوب الكلام بنقله من إحدى الصيغ الثلاث المذكورة سابقاً إلى الأخرى؛ بشرط أن يكون الكلام بعد النقل مع من كان قبله.
والفرق بين هذا وما قبله، أنّ هذا خاصّ فيما إذا كان المخاطب قبل النقل وبعده واحداً، بينما الذي قبله عامّ لا يشترط فيه استمرار الكلام بعد النقل مع من كان قبله. وقد أسهب في هذا النوع، واستغرق منه معظم صفحات الرسالة، ولا غرابة في ذلك فالالتفات مما اعتنى ببحثه البلاغيون. 5- تغيير الأسلوب دون النقل. وهذا أيضاً لم يمثّل له، وأرى أنه باب واسع، يشمل كثيراً من الأمور التي يكون فيها تغيير للأسلوب عن مقتضى ظاهر المقام، ويمكن حينئذٍ أن يدخل فيه ما أورده ابن الأثير في الالتفات مثل: الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، والإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي1. وحين نمعن النظر في تلوين الخطاب لدى ابن كمال باشا، نجده يحاول استقصاء الأساليب التي تلفت الانتباه، حين تتغيّر من حال إلى حال، وتخرج عن مقتضى الظاهر، فيجعلها داخلة في فروعه، وذلك لأنه رأى أن علماء البلاغة لا يعدّونها من الالتفات بعد أن تحدّد مفهومه، ووضعت له الشروط التي تخرج كثيراً من الأساليب الخارجة عن مقتضى الظاهر، وخاصة عند متأخري علماء البلاغة حيث ذكروا أن الالتفات هو: "التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها"2 وإن كان السّكاكي أكثر تسامحاً منهم: فلا يشترط
تحقّق التعبير أوّلاً، بل يكتفي بأن يكون التعبير قد عدل عمّا يتطلبه مقتضى الظاهر إلى خلافه1. وكان الالتفات عند السابقين من علماء البيان مصطلحاً عائماً يدخل فيه ما ليس منه، وهذا ما وجد لدى ابن قتيبة، وابن المعتز، وقدامة بن جعفر، وأبي هلال العسكري، وابن رشيق، وغيرهم فالالتفات لديهم غير محدّد، بل أدخل فيه بعضهم التذييل2 والاعتراض والاستدراك3، وكذلك نجد التوسّع فيه عند ابن الأثير من بعد، حيث جعل منه التعبير بالأمر عن المضارع أو الماضي، والتعبير
بالمضارع عن الماضي، وبالماضي عن المضارع1. وحين وجد ابن كمال الانفتاح لدى بعض البلاغيين في مفهوم الالتفات، والانغلاق والتضييق لدى بعضهم الآخر، اختار تلوين الخطاب فجمع فيه بين رؤية السابقين واللاحقين، وحافظ على مصطلح الالتفات محدّداً دقيقاً وجعله نوعاً من أنواع تلوين الخطاب.
قيمتها العلمية
قيمتها العلمية ... قيمة الرسالة العلمية تأتي أهميّة الرسالة من كونها تتناول موضوعاً، لم أجد من أفرد له بحثاً مستقلاً، وهو تلوين الخطاب، ولم أقف على مؤلفٍ - فيما اطلعت عليه - يتحدث عنه، أو يشير إليه سوى عند الشهاب الخفاجي، فقد وردت إشارة خاطفة إليه1، ولذا فقد خلت منه المعاجم الأدبية والنقدية الحديثة التي تهتمّ برصد المصطلحات الواردة في القديم والحديث2. ومع هذه الأهميّة، فإنّ للمؤلف وقفاتٍ رائعة، ومناقشات لمن سبقه من العلماء تدلّ على سعة علمه، ودِقَّته، وتفصح عن مكانة الرسالة العلمية، ومن ذلك: 1- اعتراضه على الزمخشري في استنباط النكتة البلاغية من الالتفات في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} 3. حيث قال: "ولذلك صرّح الإمام البيضاوي على وفق إشارة صاحب الكشاف بوجود الالتفات في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإن العدول فيه عن مقتضى ظاهر الكلام، حيث كان سباقه، وهو قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} على صيغة الغيبة، لا عن مقتضى ظاهر المقام، لأن مقتضاه الخطاب في الموضعين، ونكتة العدول عن مقتضى الظاهر بحسب المقام، التعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، والتلطيف في تأديبه بالعدول عن الخطاب في مقام
العتاب، والإباء عن المواجهة بما فيه الكراهة". وعقَّب على هذا بقوله: "وأمَّا ما قيل: في الإخبار عمّا فرط منه ثم الإقبال عليه، دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ، وإلزام الحجة -فوهم لا ينبغي أن يذهب إليه فهم"1. وهذا القول الذي أشار إليه بقوله: "وأما ما قيل" ورد عند الزمخشري في الكشاف2. 2- اعتراضه على اشتراط "أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر"3 في الالتفات ويرى أنه "لا حاجة إلى ذكره، واعتباره شرطاً زائداً على ما ذكرنا، لأن أسلوب الكلام لا يتغيّر إلا إذا كان كذلك، بناءً على أن المراد من مقتضى الظاهر هنا، ظاهر الكلام لا مقتضى ظاهر المقام"4. وهذا الذي ذكره وجيه، إذ إن الالتفات في الأصل لا يكون إلا إذا كان التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر، فكأنّ اشتراطه لا داعي له، فهو متحقّق، ومن الأولى تركه. 3- وقد انتقد الزمخشري في عدم تفصيله لأنواع الالتفات، وأعجب بما أورده السكاكي في هذا الأمر، فقال: "وقد أفصح عن هذا صاحب المفتاح بقوله: بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحدٍ منها إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء المعاني، وإن قصر عنه بيان صاحب
الكشاف بقوله: هذا يسمّى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، حيث اقتصر على ذكر أنواعه الثلاثة"1. وهذا التقصير واضح من الزمخشري، فإن كلامه يوهم أن أنواع الالتفات ثلاثة فقط، بينما هي ستة، وهي ظاهرة في قول السكّاكي. وفي موضع آخر وجدناه يقدّم الزمخشري على السكاكي في توضيح الالتفات في أبيات امرئ القيس: تطاول ليلك بالإثمد ... فقال: "وقال صاحب المفتاح: فالتفت - يعني امرأ القيس - في الأبيات الثلاثة، أراد أنه التفت في كل بيت، وكلام صاحب الكشاف في هذا المعنى أظهر، حيث قال: التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات، فإنه نصّ في الثلاث وظاهر في التوزيع"2. وهذا مما يدلّ على إنصافه، وميله مع الحق، وتتبّعه للأمانة العلميّة في نقده واستحسانه. 4- وانتقد السكّاكي، لأنه لم يأت بمثالٍ على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، واستدرك عليه بمثالٍ من القرآن الكريم، ورأى أن المثال وإن لم يكن موجوداً في الشعر الجاهلي، فإنه موجود فيما هو أفضل منه وأتمّ، وعلى هذا فلا عذر للسكّاكي في عدم التمثيل له، يقول: «ومثال النوع المذكور من الشعر لم يوجد في أشعار الجاهلية، ولذلك لم يورد صاحب المفتاح مثالاً له، إلا أنه لم يصب في ذلك؛ لأن وجود مثاله في التنزيل كان كافياً، فلا وجه لاقتصاره على
إيراد المثال للأقسام الخمسة"1. ومثال هذا النوع الذي ذكره، هو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. ومما يدلّ على اهتمامه بالاستشهاد بالقرآن وعنايته به، استدراكه أيضاً على التفتازاني حين نفى وجود التعبير عن الغائب أو المخاطب بلفظ الجمع المتكلم، وذلك في قوله: "وقد كثر في الواحد من المتكلم لفظ الجمع تعظيماً له، لعدّهم المعظّم كالجماعة، ولم يجيء ذلك للغائب والمخاطب في الكلام القديم، وإنما هو استعمال المولّدين ... "3. حيث قال المؤلف بعد إيراده هذا القول -: "وفيه نظر؛ لأنه قد جاء ذلك للغائب والمخاطب أيضاً في الكلام القديم"4 ومثّل للغائب بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 5 فقد نقل عن البيضاوي في تفسير هذه الآية: "أي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه قضاء الله تعالى، وجمع الضمير الثاني للتعظيم"6. ومثّل للمخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا..} 7
في قراءة من جمع لفظ (راعونا) ونقل ذلك عن الزمخشري فقال: "وأما الثاني فقد قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {لا تقُولُوا راعِنَا} وقرأ ابن مسعود (راعونا) على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير"1. 5- وانتقد التفتازاني في شرحه للتلخيص حين قال: "لأنا نعلم من إطلاقاتهم واعتباراتهم، أن الالتفات هو انتقال الكلام من أسلوب من التكلم والخطاب والغيبة، إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه المخاطب؛ ليفيد تطرئةً لنشاطه، وإيقاظاً في إصغائه"2. فقال: "ولما عرفت أن فائدة التطرئة والإيقاظ مدارها على نقل الكلام من أسلوب إلى آخر مطلقاً، فقد وقفت على ما في كلام الفاضل التفتازاني.... من الخلل، حيث اعتبر في ترتّب الفائدة المذكورة قيداً في الأسلوب المنقول إليه، لا دخل له فيه"3. فالمؤلف يرى أن التفتازاني أخطأ هنا، لأنه جعل هذه الفوائد محصورة في الالتفات، بينما هي في الواقع أعم، فهي صالحة لكل انتقال دون تقييد؛ ولذا فقد ذكر التفتازاني التكلم والخطاب والغيبة، والانتقال إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه السامع، يعني لديه: الانتقال من صيغة إلى أخرى من هذه الصيغ، وابن كمال لا يريد هذا التقييد في الأسلوب المنقول إليه، لأنّ الفائدة تشمل ما قيّد بهذا القيد الذي ذكره التفتازاني وما لم يقيّد. ويلحق بهذا انتقاده السكّاكي ومن تابعه لذكرهم "السامع" حين ذكروا فوائد الالتفات، وكان الأولى أن يذكروا "المخاطب" حتى ينصرف الذهن إلى
الالتفات خاصة، فأمّا ذكرهم «السامع» فإنّه لا يفهم منه اقتصار الفوائد على الالتفات فقط، بل يكون الأمر عاماًّ فيه وفي غيره من الأساليب التي يكون فيها انتقال من حالٍ إلى حال. ورأيه هذا صائب؛ خاصة إذا استحضرنا شرط الالتفات: وهو أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً وقد اختار المؤلف هذا الشرط، ونقله عن صدر الأفاضل1. يقول في ذلك: "واعلم أنّ مدار تلك الفوائد على تلوين الخطاب مطلقاً، سواء كان المخاطب بالكلام في الحالين واحداً، فيوجد شرط الالتفات، أو لا يكون واحداً، فلا يكون من باب الالتفات فحق من يريد ترتّبها على الالتفات خاصة؛ أن يذكر المخاطب بدل السامع، فصاحب المفتاح ومن حذا حذوه من الذين ذكروا السامع، عند تقريرهم الفوائد المذكورة، مرتبة على الالتفات المشروط بالشرط المزبور، لم يكونوا على بصيرة"2. 6- وتعقّب السيد الشريف في مسألة نحوية، حين شرح السيد الشريف قول السكّاكي - بعد إيراد أمثلة الالتفات – "وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم"3. فقد قال المؤلف: "قوله: أكثر من أن يضبطها القلم، مما أخطأ فيه الشارح الفاضل، حيث زعم أن المذكور (من) التفضيلية"4 وردّ عليه مبيّناً خطأه فقال:
«ومبنى ما ذكره أوّلاً وآخراً، الغفول عن أصل في هذا الباب، ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وصاحب المغرّب، وغيرهما، وهو: أنّ أفعل التفضيل إذا وقع خبراً تحذف عنه أداة التفضيل قياساً، ومنه: الله أكبر وقول الشاعر: دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ فكلمة (من) في أمثال ما ذكر متعلقة بما يتضمنه اسم التفضيل"1. 7- وانتقد السيد الشريف في فهم قول السكّاكي: "قد يختص مواقعه بلطائف"2 أي مواقع الالتفات، حيث فهم السيد الشريف أن (قد) هنا معناها التقليل، ولذا ردّ عليه المؤلف هذا الفهم، داعماً ردّه بالشواهد، فقال: "لفظة (قد) تستعار للتكثير، كما في قوله تعالى: {قدْ نرَى تقلُّبَ وجْهِكِ في السِّماءِ} 3 وقول الشاعر: قَدْ أَتْرُكُ مُصْفَراًّ أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ والشارح الفاضل لغفوله عن استعارة (قد) للتكثير في أمثال هذا المقام، قال في شرحه: ولفظة (قد) إشارة إلى أن الفائدة العامة كافية لحسن الالتفات في مواقعها كلها، لكن ربّما اشتمل بعضها على فائدة أخرى، فيزداد حسنه فيه"4.
ولعلّ هذه الأمثلة توضّح أهميّة هذه الرسالة، وتفصح عن قيمتها العلميّة، وتلقي الضوء على منزلة المؤلف العلميّة، وأمانته ودقّته.
المآخذ عليها
المآخذ عليها ... المآخذ على الرسالة: الرّسالة في مجملها عمل جادّ، وجهد مثمر من عالمٍ متمكن، وقد مرّ معنا مزايا كثيرة لها، من خلال تلك الأمثلة التي عرضت جهد المؤلف، ومناقشاته، ولكن البشر مهما بلغوا في درجات الترقي والتجويد، فإنه لابد لهم من كبوة تنبئ عن بشريّتهم، وعدم عصمتهم من الخطأ والزّلل، ومن رحمة الله أن جعل أجراً على ذلك الخطأ من العالم إذا اجتهد قدر طاعته وتحرّى الحق والعدل، وأرجو أن يكون ابن كمال باشا ممّن ينال الأجر والمثوبة من الله فيما اجتهد فيه، وحسبت أن فيه تقصيراً أو خطأ، ومن ذلك: 1- عدم تعريفه تلوين الخطاب، فالرسالة تحمل هذا العنوان، ومع ذلك فهو لا يحدّده تحديداً دقيقاً، كما صنع في الالتفات، ولعلّ السبب في ذلك، أن تلوين الخطاب باب واسع، يشمل أنواعاً كثيرة من الأساليب، ومع ذلك لم يتناوله العلماء من قبل، أمّا الالتفات فقد وجد السبيل فيه ممهّداً، ولذا فقد أطال في تناوله، وناقش ما وجد من آراء قيلت فيه. 2- ومما يؤخذ عليه: أنه لم يمثِّل لبعض أنواع تلوين الخطاب فقد ذكر أنه يقع في خمسة أضرب، ومثّل لثلاثةٍ منها فقط وأهمل ضربين. 3- أنه كان يأتي ببعض الأمثلة غير تامّة، فلا يتبيّن القارئ موضع الشاهد، ومن الأمثلة على ذلك، إيراده لقوله تعالى {ثمَّ توليتُم إلا قليلاً مِنْكُم} شاهداً على عدم وجود الالتفات، فقال: "فلا التفات في قوله تعالى: {ثمَّ توليتُم إلا قليلاً مِنْكُم} لأن الكلام قبله مع أسلاف المخاطبين به، نعم هو على طرزه
وطريقته.."1. وإيراده لهذا المثال لا يبيّن موطن الالتفات أو عدمه، بل لابدّ من إيراد الآية تامّة، وعند ذلك يتضح ما قاله فيوافقه القارئ أو يخالفه فيما ذهب إليه، والآية تامّة هي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} 2. 4- وقد وهم المؤلف حين تابع التفتازاني، فألحق بالالتفات أمرين فقال: "وقد يطلق الالتفات على معنيين آخرين؛ أحدهما: أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شيءٌ فتلتفت إلى ما يزيل اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك كقول ابن ميّادة: فلا صَرْمُهُ يبدو وفي اليأس راحةٌ ولا وصلُهُ يصفو لنا فنكارمُه3 فإنه لمّا قال: (فلا صرمه يبدو) واستشعر أن يقول السامع: وما نصنع به؟ فأجاب بقوله: (وفي اليأس راحة) ثم عاد إلى المقصود. والثاني: تعقيب الكلام بجملة مستأنفة متلاقية له في المعنى، على طريق المثل أو الدعاء، أو نحوهما، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 4 وقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 5.... وفي قول جرير:
مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ سُقِيْتِ الْغَيْثَ أَيَّتُهَا الخِيَامُ أَتَنْسَى يَوْمَ تَصْقُلُ عَارِضَيْها بِفَرْعِ بشامةٍ سُقِيَ البَشَامُ1 وهذا الذي ذكره يكاد يكون مطابقاً لما ذكره التفتازاني في المطوّل2. وأمّا وهمه هنا، فإن هذه الأمثلة التي أوردها ليست من الالتفات، ولا ينطبق عليها شرطه الذي حدّده في الرسالة، وإن كان قد ورد بيت ابن ميّادة وبيت جرير الثاني عند العلماء القدامى، وجعلوهما من الالتفات3، فإن المؤلف جاء متأخراً فكان الأجدر به ألا يخلط بين المصطلحات، خاصة أنه سار على نهج السكّاكي ومن تابعه في الالتفات بعد أن تحدّد مفهومه، وأولئك الأقدمون لهم عذرهم، إذ لم تكن المصطلحات قد حدّدت، ولكن المؤلف لا يعذر في هذا، وقد قال د/نزيه عبد الحميد بعد أن أورد بيت جرير الثاني: "ومن المعروف أن المتأخرين من البلاغيين جعلوا هذا النوع من التذييل، وهو نوع من الإطناب، وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد، وهو الصواب"4 كما قال بعد أن أورد بيت ابن ميّادة «وهذا من الاعتراض، يذكره قدامة في الالتفات ... والاعتراض نوع من أنواع الإطناب أيضاً، مثله في ذلك مثل التذييل، وعرفه البلاغيون ب: أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى؛ بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب، لنكتة"5. ولا أدري كيف غاب عن المؤلف هذا الأمر، مع سعة اطّلاعه، وغزارة
علمه، وتدقيقه في المسائل؟. 5- تخطئته للسابقين مع إمكان قبول ما قالوه: ومن ذلك أنه لم يقرّ بصحة نسبة تحديد الالتفات إلى الجمهور، كما قرّره الخطيب، وأوضحه التفتازاني، فقد قال الخطيب: "والمشهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة، بعد التعبير بآخر منها"1 وقال التفتازاني في شرحه: "هذا هو المشهور عند الجمهور"2. فردّ المؤلف هذا وقال: "لا يقال المشهور في تفسير الالتفات ما هو المذكور في التلخيص وعليه الجمهور على ما نصّ عليه الفاضل التفتازاني في شرحه، وما ذكرته تفسير محدث له، قلت: بل ما ذكرته على وفق إشارة صاحب المفتاح ... ويوافقه ما في الكشاف، وكفى بنا ذانك الشيخان قدوة"3. فظهر أنه يتابع الزمخشري والسكّاكي في رأيهما في الالتفات، وأنه لا يشترط فيه تحقّق التعبير بصيغةٍ ما أوّلاً، ثم الانتقال إلى التعبير عنها بصيغة أخرى، بل يكتفي بالعدول عن صيغة يقتضيها أسلوب الكلام إلى أخرى على خلافها. وهذا اختياره الذي لا ينكره أحد عليه، فله ذلك، ولكن لا ينبغي أن ينفي صحة ما نسبه التفتازاني إلى جمهور البلاغيين في قوله "وبما قررناه تبيّن أن الجمهور لا يرتضي تحديد الالتفات بما ذكر في التلخيص، وأنّ ما ذكر في شرحه من نستبه إليهم فرية ما فيها مرية"4.
فإن التفتازاني لم ينفرد بذلك، وإنما هو أحد من نسبه إلى الجمهور1، فمخالفة المؤلف لهم لا يستدعي إنكار نسبة القول إليهم. إلا إذا كان يرى أنَّ رأي الجمهور قد انتقض بمخالفة الزمخشري والسكاكي لهم، فيكون لاعتراضه وجه. ومن ذلك - أيضاً - اعتراضه على السيد الشريف في جعله مثل: أنا الذي سمّتني أمي حيدرة2، وأنت الذي أخلفتني، ونحن قوم فعلنا، وأنتم قدم تجهلون - من باب الالتفات، حيث يرى أنه لم يتحقق النّقل فيها، ولو تحقّق لكانت منه. مع أنّنا نجد أن كلام السيد الشريف مقبول، خاصة وأنه لم يجزم بكونها من الالتفات؛ وإنما قال: "لا يبعد أن يجعل مثل: أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة.... الخ من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب"3. فيمكن توجيه كلامه، بأن هذا احتمال جائز، وهو وارد لأن فيه عدولاً عن صيغة إلى أخرى. فالصيغة التي هي على الظاهر: أن يقول: أنا الذي سمته أمه حيدرة ... الخ لأن الاسم الموصول اسم ظاهر، والاسم الظاهر بمنزلة الغائب، فكان مجرى الظاهر أن يأتي بغائب بعده، ولكنه عدل عنه إلى التكلم. ومذهب السكّاكي يقبل مثل هذه الأمثلة التي أوردها السيد الشريف. وهنا نجد تذبذباً في تطبيق المؤلف، لأنه ذكر أنه يرتضي رأي السكّاكي في تفسير الالتفات سابقاً، ثم يشترط تحقق النقل هنا من صيغة إلى أخرى كما هو
رأي الجمهور. وهذا التناقض ظاهر إذا نظرنا في قوله: "ومن هنا وما تقدم بيانه تبيّن أن كلاًّ من تغيير الأسلوب والنّقل عن صيغة إلى أخرى، أعم من الآخر من وجه، ولذلك جمعنا بينهما في تفسير الالتفات"1. فهو إذن يجمع رأيي السكاّكي والجمهور، ويأخذ بهما جميعاً في الالتفات، فكان من الواجب عليه ألاّ يعترض على السيد الشريف في تلك الأمثلة التي أوردها، وأن يقبل ما قاله فيها، وذلك بناءً على أخذه برأي السكّاكي في الالتفات. هذه بعض المآخذ التي تبّدت لي من خلال هذه الرِّسالة، وأسأل الله أن يعفو عني وعن المؤلف، وأن يتجاوز عن تقصيرنا، وأن يكتب لنا أجر المجتهد. إنه غفورٌ رحيم.
وصف النسخ
وصف النسخ ونماذج منها: عثرت على مصوّرتين لتلوين الخطاب، وهما: المصوّرة الأولى: عدد أوراقها (7.5) سبع ورقات ونصف، في الورقة صفحتان، وفي الصفحة الواحدة (25) خمسة وعشرون سطراً، وفي السطر الواحد (13) ثلاث عشرة كلمة تقريباً. وكتبت بخط فارسي، وفي بعض صفحاتها تعليقات يسيرة. ولا يعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها. ويوجد منها صورة فلمية، بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (7313) فيلم وهي مصورة عن المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة. وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (م) . المصوّرة الثانية: عدد أوراقها (14) أربع عشرة ورقة. في كل ورقة صفحتان. وفي الصفحة الواحدة (19) تسعة عشر سطراً. وفي السطر الواحد: (10) عشر كلمات تقريباً. وكتبت بخط فارسي، وفي بعض صفحاتها تعليقات يسيرة جداً، أقلّ من التعليقات التي وردت على النسخة الأولى. ولا يعرف ناسخها، ولا تاريخ نسخها. ويوجد منها صورة فلمية بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم (2440) فيلم وهي مصورة عن دار الكتب المصرية. ورمزت لهذه النسخة بالحرف: (د) .
نماذج منها
نماذج منها ... اللوحة الأولي من (د) ويتضح منها أن الرسالة تقع ضمن مجموعة رسائل
اللوحة الخيرة من (د) وبعدها رسالة أخرى للمؤلف
بداية نسخة م وهي تقع ضمن مجموعة رسائل
اللوحة الثانية من (م)
نهاية نسخة (م) وبعدها رسالة أخري للمؤلف
نص الرسالة
نص الرسالة الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبياناً، وجعل الخطاب ألواناً، والصلاة على محمد أولى من نطق بالصواب، وفصل الخطاب، وعلى آله وصحبه خير آل وأصحاب، وبعد: فهذه رسالة مرتبة في بيان تلوين الخطاب، وتفصيل شعبه التي منها الالتفات الذي هو أسلوب متكاثر الفوائد، متناثر الفرائد. والمراد من الخطاب هنا: توجيه الكلام نحو السامع. اعلم أنهم يحسنون قرى الأشباح1، فيخالفون2 فيه بين لون ولون، وطعم وطعم كذلك يحسنون قرى3 الأرواح، فيخالفون4 فيه أيضاً بين أسلوب وأسلوب وإيرادٍ وإيراد، بل اعتناؤهم بهذا القرى5 أكثر، واهتمامهم فيه أوفر6. ومرجع7 التلوين المذكور إلى تغيير الأسلوب، وذلك قد يكون بالعدول عن الخطاب الخاصّ إلى الخطاب العام، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ} 8 فإنَّ الخطاب فيما قبله وهو قوله تعالى: {واتَّبِع مَا أُوْحِيَ إليْكَ مِنْ رَبِّكَ} 9 الآية كان خاصاًّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلّ النكتة فيه التجنب عن مواجهته عليه الصلاة والسلام وحده بالنهي عن خلاف ما هو
عليه1 من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن عليه الصلاة والسلام فحّاشاً ولا سبَّاباً، كما في قوله تعالى2: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَليٍّ وَلاَ نَصِيْرٍ} 3. وخصوص الخطاب4 قد يكون صورة لا معنى، فإنّ الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} وإن كان خاصاً بحسب الصيغة، لكنه عامّ معنى، فإن المخاطب به كلّ واحد ممن يقدر على الاستدلال من المصنوع على5 الصانع. وقد يكون بصرف الخطاب عن مخاطب إلى مخاطب6، كما في قول جرير7: ثِقِيْ بِاللهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ وَمِنْ عِنْدِ الخَلِيْفَةِ بِالنَّجَاحِ أَغِثْنِيْ يَا فِدَاكَ أَبِيْ وَأُمِّيْ بِسَيْبٍ مِنْكَ إِنَّك ذُو ارْتِيَاحِ8 فإن [المخاطب] 9 بالبيت الأوّل امرأته، وبالبيت الثاني الخليفة 10، وليس هذا
من قبيل الالتفات، كما سبق إلى بعض الأوهام1؛ لأنّ من2 شرطه أن يكون الخطاب في الحالين لواحد، فلا يوجد فيه صرف الخطاب حقيقة وإن وجد ظاهراً، بسبب العدول عن صيغة إلى أخرى، صرّح بذلك صدر الأفاضل3 حيث قال في شرح سقط الزّند: «قوله: (سقيت الغيث) بمعزل عن الالتفات، لأن قوله:
بيانه. فلا التفات في قوله تعالى: {ثُمَّ تولَّيْتُمْ إلاّ قَلِيْلاً مِنْكُمْ} 1 لأن الكلام قبله مع أسلاف المخاطبين به، نعم هو على طرزه وطريقته، ولذلك قال صاحب الكشاف2: " {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقة الالتفات"3 فإن قلت: هلاّ يجدي نفعاً اعتبار التغلب الذي ذكره البيضاوي4 حيث قال في تفسيره: "ولعلّ الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب"5؟ قلت:
بيانه. فلا التفات في قوله تعالى: {ثُمَّ تولَّيْتُمْ إلاّ قَلِيْلاً مِنْكُمْ} 1 لأن الكلام قبله مع أسلاف المخاطبين به، نعم هو على طرزه وطريقته، ولذلك قال صاحب الكشاف2: " {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على طريقة الالتفات"3 فإن قلت: هلاّ يجدي نفعاً اعتبار التغلب الذي ذكره البيضاوي4 حيث قال في تفسيره: "ولعلّ الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب"5؟ قلت:
لا، لأنّ اعتباره لا يحقق الشرط المذكور، لأنّ الكلام قبل النّقل مع البعض، وبعده مع الكل حينئذٍ1، والكلّ غير البعض. وقد نبّه على هذا صاحب الكشف2، حيث قال في شرح القول المذكور لصاحب الكشاف: "وهو كذلك سواء حمل على تغليب الموجودين في عصره عليه الصلاة والسلام، أو لا"3 وكلام صاحب المفتاح4 خلو عن اعتبار هذا الشرط في الالتفات5، والشارح الفاضل لم يتعرض له في شرحه.
وأمّا الشرط الآخر المذكور في كتب القوم، وهو أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر1، واعتباره كيلا يدخل في حدّ الالتفات أشياء ليست منه، منها: أنا زيد وأنت عمرو2، ونحن رجال وأنتم رجال، وأنت الذي فعل كذا، و: نَحْنُ اللَّذُوْنَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا3 ونحو ذلك ممّا عبّر عن معنى واحد، تارة بضمير المتكلم4 أو المخاطب، وتارة بالاسم المظهر أو ضمير الغائب. ومنها: يا زيد قم. ويا رجلاً له بصر5 خذ بيدي، لأن الاسم المظهر طريق غيبته فلا حاجة إلى ذكره، واعتباره شرطاً زائداً على ما ذكرنا، لأن أسلوب الكلام لا يتغيّر إلاّ إذا كان كذلك، بناءً على أن المراد من مقتضى ظاهر الكلام،لا مقتضى ظاهر المقام، ولذلك صرّح الإمام البيضاوي
على وفق إشارة1 صاحب الكشاف2، بوجود الالتفات في قوله تعالى3: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} 4 فإنَّ العدول فيه عن مقتضى5 ظاهر الكلام، حيث كان سباقه، وهو قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} 6 على صيغة الغيبة، لا عن مقتضى ظاهر المقام، لأن مقتضاه7 الخطاب في الموضعين، ونكتة العدول عن مقتضى الظاهر بحسب المقام، التعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، والتلطيف في تأديبه بالعدول عن الخطاب في مقام العتاب، والإباء عن المواجهة بما فيه الكراهة. وأمّا ما قيل: "في الإخبار عمّا فرط منه، ثم الإقبال عليه دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ، وإلزام الحجة"8 فوهم، لا ينبغي أن يذهب إليه فهم.
ومن تأمل في طريق عتابه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مواضع العتاب - كقوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1 فإنْ فيه ما لا يخفى من لطف الكناية عن خطئه عليه الصلاة والسلام في الإذن تعظيماً لشأنه - لا يخطر بباله مثل ذلك الوهم، وإنّما قلنا على ما ذكرنا، إذ لابدّ من اعتباره شرطاً زائداً على ما ذكروا في تفسير الالتفات2. قال صاحب التلخيص3: والمشهور أن الالتفات هو التعبير عن4 معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها5. وقال الفاضل التفتازاني6 - في شرحه، "بشرط أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر"7 وفي المفتاح: "ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء علم المعاني"8.
وقال الفاضل الشريف1 في شرحه: "ثم إن الالتفات من إحدى2 الطرق الثلاثة إلى آخر3 منها إنما يسمّى التفاتاً إذا كان على خلاف مقتضى الظاهر، كما يشعر به لفظ النقل، وإيراده في الإخراج لا على مقتضاه، وما ذكر من فائدته العامة"4 ويردّ عليه أن النقل الذي أشير إليه، هو النقل من صيغة إلى أخرى، وهذا ظاهر عن التأمّل في سياق الكلام المنقول، فلا إشعار فيه بما ذكر، وتعليله على ما نقل عنه في الحاشية "بأن الجاري على مقتضى الظاهر لا يقال فيه: نقل5" مردود6 أيضاً، لأنه [إن] أريد: أنه لا يقال فيه نقل على الإطلاق، فمسلّم ولكن لا يجدي نفعاً، لأن الواقع ههنا النقل المقرون بالإشارة7 الصارفة عن المتبادر عند الإطلاق فلا صحة له كما لا يخفى، ثم إن قوله: "يتحقق الإشعار في إيراد الالتفات في الإخراج لا على مقتضى الظاهر بما
ذكر"1 مبناه عدم الفرق بين ظاهر المقام وظاهر2 الكلام؛ فإنّ صاحب المفتاح قد أورد الالتفات في الإخراج على خلاف الظاهر3 بحسب اقتضاء أسلوب الكلام، وقد نبّهت فيما تقدّم على هذا وعلى الفرق بين الإخراجين. فإن قلت: قد أثبت صاحب المفتاح في أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىقول امرئ القيس4: تَطَاوَلَ لَيلُكَ بِالأَثْمُدِ التفاتاً، وهذا بناءً على أنّ كلاً من المتكلم5 والخطاب والغيبة، إذا كان مقتضى الظاهر فعدل عنه 6 إلى الآخر فهو التفات7 عنده، قلت: نعم، أثبت فيه التفاتاً8 على خلاف ما عليه الجمهور9، ومع ذلك لم ينكر
قد يكون مخالفاً للقديم، كما إذا كان المقام مقام الخطاب، وشرع1 في الكلام على أسلوب الغيبة، وقد مرّ مثاله من التنزيل، فلو اعتبر في مثل ذلك الحادث بعد الشروع يلزم أن يكون الكلام على مقتضى الظاهر من وجه وعلى خلافه من وجه، ولا وجه لترجيح الحادث على القديم، وإسقاطه على2 حيّز الاعتبار بالكليّة؛ إذ يلزم حينئذٍ3 أن لا يتحقق مقتضى المقام من جهة الكلام قبل الشروع بل عنده أيضاً، ما لم يتقرر أسلوبه، ولا مجال لأن يقال: أنهم اعتبروا القديم قبل حدوث 4 المعارض، وأسقطوا [ما] بعده، إذ لا مستند لهذا التفصيل من جهة السلف، كما لا يخفى على من تتبّع وأنصف، وبالتجنب عن التعسف5 اتّصف. ثمّ إنّ ما زعمه من الإشعار فيما ذكره6 من الفائدة العامة للالتفات بكونه على مقتضى الظاهر -مردود أيضاً؛ لأن مدار تلك الفائدة على العدول من أسلوب إلى آخر سواء كان العدول عنه على مقتضى الظاهر أو لا، على ما تقف على ذلك بإذن الله تعالى. لا يُقال: المشهور في تفسير الالتفات ما هو المذكور في التلخيص، وعليه الجمهور على ما نصّ عليه الفاضل التفتازاني في شرحه7، وما ذكرته8 تفسير
قد يكون مخالفاً للقديم، كما إذا كان المقام مقام الخطاب، وشرع1 في الكلام على أسلوب الغيبة، وقد مرّ مثاله من التنزيل، فلو اعتبر في مثل ذلك الحادث بعد الشروع يلزم أن يكون الكلام على مقتضى الظاهر من وجه وعلى خلافه من وجه، ولا وجه لترجيح الحادث على القديم، وإسقاطه على2 حيّز الاعتبار بالكليّة؛ إذ يلزم حينئذٍ3 أن لا يتحقق مقتضى المقام من جهة الكلام قبل الشروع بل عنده أيضاً، ما لم يتقرر أسلوبه، ولا مجال لأن يقال: أنهم اعتبروا القديم قبل حدوث 4 المعارض، وأسقطوا [ما] بعده، إذ لا مستند لهذا التفصيل من جهة السلف، كما لا يخفى على من تتبّع وأنصف، وبالتجنب عن التعسف5 اتّصف. ثمّ إنّ ما زعمه من الإشعار فيما ذكره6 من الفائدة العامة للالتفات بكونه على مقتضى الظاهر -مردود أيضاً؛ لأن مدار تلك الفائدة على العدول من أسلوب إلى آخر سواء كان العدول عنه على مقتضى الظاهر أو لا، على ما تقف على ذلك بإذن الله تعالى. لا يُقال: المشهور في تفسير الالتفات ما هو المذكور في التلخيص، وعليه الجمهور على ما نصّ عليه الفاضل التفتازاني في شرحه7، وما ذكرته8 تفسير
محدث له، قلت: بل ما1 ذكرته على وفق إشارة صاحب المفتاح حيث قال: «والعرب يستكثرون منه، ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرئة لنشاطه2، وأملأ3 باستدرار إصغائه» 4 ويوافقه ما في الكشّاف5، وكفى بنا ذانك الشيخان قدوةً، وقد وقفت فيما سبق على أن ما ذكر في التلخيص لا يطّرد إلا باعتبار شرط من الخارج، وذلك خارج6 عن قانون الحدّ، وما ذكرنا سالم عن المحذور المذكور، وذلك لأن الاختلاف في الأسلوب أخصّ من الاختلاف في التعبير؛ فإنّ الثاني يتحقّق في نحو7 قوله تعالى: {يا أَيُّها الَّذِيْن آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاة} 8 دون الأوّل؛ لأن حق الضمير العائد إلى الموصول أن يكون غائباً، فلا يتغيّر به الأسلوب وإن تغيّر9 التعبير حتى احتيج إلى اعتبار قيد زايد للاحتراز عن مثله. وبما قررناه10 تبيّن أن الجمهور لا يرتضي تحديد11 الالتفات بما ذكر في التلخيص، وأن ما ذكر12 في شرحه من نسبته إليهم فرية ما فيها مرية. ومما يظنّ أنّه من قبيل الالتفات وليس منه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ} 1 أما وجه الظنّ فهو أن الاسم الظاهر غائب فلما عدل عنه إلى الخطاب في تجهلون تحقق الالتفات، وأمّا أنه ليس منه فلأنّ في عبارة القوم [جهتا غيبة] 2 وخطاب؛ وذلك لأنّها اسم ظاهر غائب وقد حمل على {أَنْتُمْ} فصار عبارة عن المخاطب، ثم إنّه3 وصف {تَجْهَلُوْنَ} اعتباراً لجانب خطابه المستفاد من حمله على {أَنْتُمْ} 4 وترجيحاً له على جانب غيبته الثابت في نفسه؛ لأن الخطاب أشرف وأدل وجانب المعنى أقوى وأكمل5، فهو بالحقيقة اعتبار لجانب المعنى، وتغليب له على جهة اللفظ، فإنّ الغيبة في لفظ (القوم) ومعناه الخطاب6، وبهذا القدر من الاعتبار لا يتغير7 الأسلوب، ولا يتحقق النقل من طريق إلى آخر، وعلى هذا القياس قول علي رضي الله عنه: "أنا الَّذي سمّتْنِي أمِّي حَيْدَرَة"8.
قال المرزوقي1 في شرح قول2 الحماسة3: [وَإِنَّا] 4 لَقَوْمٌ مَا نَرَى5 القَتْلَ سُبَّةً6 إِذا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ "كان الوجه أن يقول: ما يرون القتل سبَّةً7؛ حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تَعْرى منه، لكنّه لما علم أن المراد بالقوم هم قال: ما نرى، وقد جاء في الصلة مثل هذا وهو فيه أفظع، قال: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّيْ حَيْدَرَهْ أَكِيْلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ والوجه سمّته حتى لا تعرى8 الصلة من ضمير الموصول، قال أبو عثمان
المازني1: لولا صحة مورده وتكرره لرددته» 2 والشريف الفاضل3 لغفوله عمّا قررناه قال4 في شرحه للمفتاح: «لا يبعد أن يجعل مثل5: أنا الذي سمّتني أُمِّي حيدرة، وأنت الذي أخلفتني، ونحن قوم فعلنا، وأنتم قوم تجهلون - من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب"6. وممّا يشبه الالتفات وليس منه: ما في قوله تعالى: {فَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} 7 من تغيُّر8 الأسلوب والعدول عن مقتضى ظاهر الكلام؛ وذلك أن موجب طرد الكلام على أسلوب ما سبق من قوله تعالى: {قُلْ أَطِيْعُوا الله وَأَطِيْعُوا الرَّسُوْلَ} 9 وسوقه10 على مقتضى الظاهر هو أن يقال: فإن تولّوا11 فإنّما12 عليهم ما حمّلوا وعليك ما حمّلت، وإنّما قلنا إنّه
ليس منه؛ لعدم النقل عن أحد الطرق الثلاثة إلى الآخر منها؛ فإن المتحقق1 في قوله تعالى2: {قُلْ أَطِيْعُوا اللهَ} تنزيلهم منزلة الغائبين3، لا سوق الكلام4 معهم على طريق الغائبة، والفرق واضح وإن خفي على صاحب الكشف حيث قال: "هو5 التفات حقيقي؛ لأنّه6 جعلهم غُيّباً، حيث أمر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بخطابهم في7 قوله {قُلْ أَطِيْعُوا اللهَ} ثم خاطبهم بقوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} 8. وقد نبّه صاحب الكشاف9 على ما ذكرنا من عدم الالتفات حقيقة فيما ذكر لفقد شرط النقل حيث قال: "صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات"10 يعني أن مقتضى الظاهر نظم الكلام على الغيبة، ولما صرف عنها كان على طريقة الالتفات وإن لم يكن منه لعدم تحقّق النّقل عن الغيبة، حيث لم يوجب11 سوق الكلام على صيغتها12، ففي إقحام عبارة الطريقة وذكر الصرف دون النّقل تنبيه على ما ذكرنا، فافهم.
ومن ههنا وما1 تقدم بيانه تبيّن أنّ كلاً من تغيير الأسلوب والنّقل عن صيغة2 إلى أخرى - أعمّ من الآخر من وجهٍ؛ ولذلك جمعنا بينهما في تفسير3 الالتفات، وظهر لك شعبة أخرى لتلوين الخطاب، وهي: ما يوجد فيه تغيير الأسلوب دون النّقل. فاعلم أن أنواع الالتفات بحسب النّقل من كل واحدة من الصيغ الثلاث4 إلى إحدى الأخريين ستّة5، وقد أفصح عن هذا صاحب المفتاح بقوله: "بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل6 كل واحد منها إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتاً عند علماء علم المعاني7" وإن قصر عنه بيان صاحب الكشاف بقوله: "هذا يسمّى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم"8 حيث اقتصر على9 ذكر أنواعه الثلاثة، وقوله: "في علم البيان" لا ينافي قول صاحب المفتاح "عند علماء المعاني" لأنه أراد بالبيان علم البلاغة الشامل10 للمعاني والبيان11،
وإنما كان الالتفات من علم المعاني لأن ما يترتب1 عليه من الفوائد من جملة خواصّ التراكيب التي يبحث عنها في العلم المذكور. وأمّا ما قيل: "يُبحث عنه في علمي2 البلاغة والبديع، أمّا في المعاني فباعتبار كونه على خلاف مقتضى الظاهر، وأمّا في البيان فباعتبار أنَّه إيراد لمعنى واحد في طرق مختلفة في الدلالة عليه جلاء، [وخفاء] 3 وبهذين الاعتبارين يفيد الكلام حسناً ذاتياً للبلاغة، وأمّا في البديع فمن حيث إنّ فيه جمعاً بين صورٍ متقابلة في معنى واحد فكان من محسّناته المعنوية4" - ففيه نظر؛ أمّا أوّلاً: فلأن مجرد كونه على خلاف مقتضى الظاهر لا يكفي في دخوله في علم المعاني، وهذا ظاهر5 عند من له أدنى تأمل في حدّ العلم المذكور. وأمّا ثانياً: فلأن اعتبار أنّه إيراد لمعنى واحد في طرق مختلفة في الدلالة عليه جلاء [وخفاء] ، غير كافٍ في دخوله في علم البيان؛ بل لابدّ معه أن يكون ذلك الاختلاف بحسب الدلالة العقلية، وهو مفقود6 في الالتفات، ولذلك لم يورده صاحب المفتاح في البيان واقتصر على إيراده في7 المعاني والبديع 8.
وعدّه خلاف مقتضى الظاهر من الكناية1 لا يجدي نفعاً في كونه من البيان؛ لأنه ليس منها حقيقة؛ كيف وهي من أقسام اللفظ، والخلاف المذكور ليس من جنس اللفظ، وكذا إخراج الكلام عليه ليس منه، وإنّما عدّه من الكناية لما بينهما من المشابهة، والشريف الفاضل لغفوله عن هذا قال في شرح المفتاح في حاشيته "وكونه من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر المندرج تحت الكناية؛ لا يوجب كونه من مباحث البيان كسائر الجزئيات المندرجة تحت 2 قواعده؛ لأن الأحكام الجزئية المندرجة تحت3 قواعد علم [البيان4] فروعٌ وثمراتٌ لمسائله، إذ ليست مبحوثاً عنها بخصوصيّاتها"5. ثم إن موجب تعليله بقوله: "لأن الأحكام" الخ. على تقدير تمامه هو إيجاب ما ذكر من الاندراج عدم كونه من مباحث البيان لا عدم إيجاب كونه منها، وإنّما قلنا: "على تقدير تمامه" لأنه محل نظر، فتدبّر. وهذا الكلام قد وقع في البيان6 استطراداً7، فلنعد إلى ما كنّا فيه من تفصيل أنواع الالتفات الحاصلة من ضرب الثلاث في الاثنين8، فنقول: أحدها:
الالتفات من التكلم إلى الخطاب: ومثاله من التنزيل {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} 1 وذلك أن المراد بقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} المخاطبون، والمعنى: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم فالمعبّر عنه في الجميع هو المخاطبون، ولمّا عبّر عنهم بصيغة التكلم كان مقتضى2 الظاهر أن لا يغيّر أسلوب الكلام، بل يجري اللاحق على سنن السابق، ويقال: وإليه3 أرجع، فلمّا عدل عنه إلى ما4 ذكر تحقق الالتفات5. ومن الشعر: تَذَكَّرْتَ والذِّكْرَى تَهِيْجُكَ زَيْنَبَا وَأَصْبَحَ باقِي وَصْلِها قَدْ تَقضَّبا6
إن قُرئ (تذكرتَ) بالفتح كما هو الرواية، فالالتفات فيه على رأي صاحب المفتاح؛ حيث كان الظاهر ضمّها على التكلم 1 فعدل عنه إلى الخطاب، وإن قُرِئ بالضمّ فالالتفات في (يهيجك) وهذا باتفاق2. وثانيها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة: ومثاله من التنزيل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ} 3 كان الظاهر أن يقال: فصلّ لنا. قال الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص: "وقد كثر في الواحد من المتكلم4 لفظ الجمع تعظيماً له لعدّهم5 المعظّم كالجماعة، ولم يجيء ذلك للغائب والمخاطب في الكلام القديم، وإنّما هو استعمال المولّدين كقوله: بِأَيِّ نَوَاحِي الأَرْضِ أَبْغِي وِصَالَكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوْكٌ مَا لِمَقْصَدِكُمْ نَحْوُ6 تعظيماً للمخاطب وتواضعاً من المتكلم7 وفيه نظر؛ لأنّه قد جاء ذلك للغائب والمخاطب أيضاً في الكلام القديم، أمّا الأول: فقد قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {و8مَا كَانَ لِمُوْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ ورَسُوْلُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 9 "أي قضى رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأنّ قضاءَه قضاءُ الله، تعالى1 وجمع الضمير الثاني للتعظيم"2. وأمّا الثاني فقد قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {لا تَقُوْلُوا3 رَاعِنَا4} : "وقرأ5 ابن مسعود: (راعونا6) على7 أنهم كانوا8 [يخاطبونه] 9 بلفظ الجمع للتوقير"10 والفاضل المذكور اعترف11 بما أنكره ههنا - في بحثه12: أن الأمر13 للوجوب من التلويح. ومثال النوع المذكور من الشعر لم يوجد في أشعار الجاهلية، ولذلك لم يورد
صاحب المفتاح مثالاً له1 إلاّ أنَّه لم يصب في ذلك، لأن وجود مثاله في التنزيل كان كافياً، فلا وجه لاقتصاره على إيراد المثال للأقسام الخمسة2. وثالثها: الالتفات من الخطاب إلى التكلم، ومثاله لم يوجد في التنزيل، وأمّا مثاله من الشعر فقوله3: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ بُعيْدَ4 الشَّبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيْبُ5 يُكَلِّفُنِي لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها6 وَعَادتْ عَوَادٍ بَيْنَناَ وخُطُوبُ التفت من الخطاب في (طحابك) إلى التكلم؛ حيث لم يقل يكلّفك، وفاعل يكلفني ضميرُ القلب، وليلى مفعوله الثاني، والمعنى: يكلفني ذلك القلب ليلى ويطالبني بوصلها. ورابعها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة؛ ومثاله من التنزيل: {حَتَّى إِذَا
كنتم الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} 1 كان الظاهر أن يقال: وجرين بكم. ومن الشعر قوله2: إنْ تَسْأَلوا الحقَّ نُعطِ3 الحقَّ سائِلَهُ والدِّرْعُ مُحْقَبَةٌ والسَّيْفُ مَقْرُوبُ4 التفت في (سائله) من الخطاب إلى الغيبة. وخامسها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب؛ ومثاله من التنزيل: {مالكِ يومِ الدِّيْن. إيَّاكَ نَعْبُدُ5} كان الظاهر أن يقول: إيّاه نعبد. ومن الشعر: طَرَقَ الخَياَلُ ولا كَلَيْلَةِ مُدْلجِ سَدِكاً6 بِأَرْحُلِنَا وَلَمْ يَتَعَرَّجِ أنَّى اهْتَدَيْتِ7 وَكُنْتِ [غير] رجِيْلَةٍ8 والقومُ قَدْ9 قَطَعُوا متان10السَّجْسَجِ11
التفت في البيت الثاني من الغيبة إلى الخطاب، حيث قال: (اهتديت) وكان الظاهر أن يقول: اهتدى1. وسادسها: الالتفات2 من الغيبة إلى التكلم، ومثاله من التنزيل: {والله الَّذِيْ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} 3 كان الظاهر أن يقال: فساقه4. ومن الشعر قوله5: تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ ونَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ وبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ كَلَيْلةِ ذِيْ العَائِر الأرْمَدِ وَذَلِكَ مِنْ نَبإٍ جاءَنِيْ وخُبِّرْتُه6 عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ التفت في (جاءني) 7 من الغيبة إلى التكلم، وكان الظاهر أن يقول: جاءه. وقال صاحب المفتاح8: "فالتفت - يعني امرأ القيس - في الأبيات [الثلاثة] "9 أراد أنه التفت في كل بيت. وكلام صاحب الكشاف في هذا المعنى أظهر؛ حيث
قال: "التفت [امرؤ] 1 القيس ثلاث التفاتات في [ثلاثة] 2 أبيات"3 فإنه نصّ في الثلاث4 وظاهر5 في التوزيع؛ أمّا في الأول: فمن التكلم إلى الخطاب؛ إذا القياس: (تطاول ليلى) . وأمّا في الثاني: فمن الخطاب إلى الغيبة؛ حيث قال: (وبات) والقياس: (وبتَّ) على الخطاب. وأمّا6 في الثالث: فقد مرّ بيانه7. وهذا القول من صاحب الكشاف صريح8 في أنَّ سَبْقَ طريق آخر تحقيقاً ليس بشرطٍ في9 الالتفات. فالمخالفة10 للجهمور في هذا الخصوص ليست من
خصائص صاحب المفتاح، بل هو1 مقلّد فيها لصاحب الكشّاف2، فحقُّ ذلك المذهب أن يُنسب إليه لا إلى صاحب المفتاح؛ لأن القول حقُّه أن ينسب إلى من سبق به3. لا يقال: إن في لفظ4 (ذلك) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب؛ فيكون في تلك الأبيات5 ثلاثة التفاتات6 على مذهب الجمهور أيضاً، فلا ضرورة7 إلى8 حمل قول صاحب الكشاف9 على خلاف ما عليه الجمهور، لأنّا نقول: الالتفات10 فيما ذكر غير متعين، إذ يجوز أن يكون الكاف خطاباً لغيره لا لنفسه؛ على أن قول صاحب الكشاف على ما نبهت فيما تقدم - صريحٌ في
توزيع الالتفاتات1 على الأبيات الثلاثة2، وعلى ما ذكر لا يصح ذلك. اعلم أنه قد دار في ألسنة أرباب البلاغة أن [امرأ] 3 القيس التفت ثلاث مرات4 في [ثلاثة] 5 أبيات، واستغربوا ذلك غاية6 الاستغراب وزعموا أنه ثمرة الغراب7، وقد وقع في كلامه تعالى8 التفاتان في مقدار نصف مصراع البيت؛ وذلك أغرب، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوْا إِلى اللهِ} 9 فإنَّ في {رُدُّوا} التفاتاً من الخطاب إلى الغيبة، وفي قوله: {إِلى اللهِ} 10 التفاتاً11 من التكلم إلى الغيبة؛ لأن سياقه قوله تعالى: {حَتَّى12 إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُوْنَ} 13.
وقوله تعالى: {بَارَكْنَا حَوْلَه لِنُرِيَهُ1 مِنْ آيَاتِنَا} 2 على قراءة {لِيُرِيَه} 3 بياء الغيبة، فإن فيه التفاتاً من التكلم إلى الغيبة ثم من الغيبة إلى التكلم. ومن ههنا تبيّن فساد ما قيل: شرط الالتفات أن يكون التعبيران في [كلامين] 4.
والفوائد العامّة لأنواع الالتفات هي: حسن التطرئة1 لأسلوب الكلام، تنشيطاً للسامع2، فإن الطبع قد يملّ من أسلوب معين، فإذا خرج عنه الكلام [تتجدّد] 3 له الرغبة إلى الإصغاء ولطف الإيقاظ للسامع4، وذلك أن الكلام إذا جرى على سنن واحدٍ ربّما يذهل5 لكونه جرياً على العادة المعهودة، فيفوته المقصود، وزيادة6 التقرير للمعنى في ذهن السامع، وذلك أن الكلام اللاحق إذا صرف عن أسلوب السابق تستغربه7 النّفس فتتنبه له، وتنبعث8 للنظر فيه وتدبّره9، فيشتد10 وقعه فيها، وقال الفاضل التفتازاني في شرحه
للمفتاح: "الفائدة العامة1 في مطلق الالتفات وجهان يرجع أحدهما إلى المتكلم، وهو قصد التفنّن2 في الكلام والتصرف فيه بوجوه مختلفة من غير اعتبار لجانب السامع. وثانيهما3: إلى السامع، وهو حسن تنشيطه4 ولطف إيقاظه"5. ويردّ عليه أن القصد المذكور لا يصلح6 فائدة للالتفات. وكان الشريف الفاضل تنبّه لذلك فعدل عنه إلى قوله: "وهي التصرف والافتنان في وجوه الكلام، وإظهار القدرة من التمكن فيها"7. ويتّجه عليه أيضاً أنه: إن أريد مطلق التصرف والافتنان8 حسناً كان أو قبحاً؛ فلا وجه لعدّه9 القدرة عليه فضيلة، وإن أريد التصرف والافتنان على وجه يتضمّن10 الخاصية والمزية فترجع الفائدة إلى تلك الخاصية11، فينقلب خاصّة فتدبّر.
ولا يذهب عليك أن الفوائد المذكورة إنما تترتب على الالتفات إذا كان فيه انتقال عن أسلوب إلى آخر تحقيقاً لا تقديراً، وما قيل في توجيه قول صاحب المفتاح: بالتعميم للانتقال التقديري - مع تصريحه لعموم تلك الفوائد من1 الالتفات إذا ورد على السامع خلاف ما يترقبه من الأسلوب الظاهر، كان له مزيد نشاطٍ، ووفور رغبة في الإصغاء إلى الكلام2 - تعسُّف ظاهر. فإن المذكور في الفوائد: تطرية النشاط، لا تقويته، ولا شبهة في أن التطرئة لا [تتصور] 3 في ابتداء4 المخاطبة. واعلم أن مدار تلك الفوائد على تلوين الخطاب مطلقاً، سواء كان المخاطب بالكلام في الحالين واحداً؛ فيوجد شرط الالتفات، أو لا يكون واحداً؛ فلا يكون من باب الالتفات، فحق من يريد ترتبها على الالتفات خاصّة، أن يذكر المخاطب بدل السامع، فصاحب المفتاح ومن حذا حذوه من الذين ذكروا السامع عند تقريرهم الفوائد المذكورة مرتبة على الالتفات المشروط5 بالشرط المزبور6 لم يكونوا على بصيرة7.
ولما عرفت أن فائدة التطرئة1 والإيقاظ مدارها على نقل الكلام من أسلوب إلى آخر مطلقاً، فقد وقفت [على2] ما في كلام الفاضل التفتازاني؛ حيث قال في شرح التلخيص: "لأنا نعلم قطعاً من إطلاقاتهم واعتباراتهم أن الالتفات هو انتقال الكلام من أسلوب من التكلم والخطاب والغيبة إلى أسلوب آخر غير ما يترقبه المخاطب، ليفيد تطرئة لنشاطه3، وإيقاظاً في إصغائه"4 من الخلل5؛ حيث6 اعتبر في ترتّب7 الفائدة المذكورة قيداً في الأسلوب المنقول إليه لا دخل له فيه، ثم إنّه لم يصب في قوله: هو انتقال الكلام، لأنه نقل الكلام على ما اختاره صاحب المفتاح8. والتعبير9 عن معنى واحد بطريقين، على ما هو المشهور، والانتقال المذكور أثره لا نفسه، وما10 عدّ من المحسنات البديعيّة إنّما هو أثره11.
واعلم1 أن المراد من المعنى المشترك بين الطريقين المذكورين في التعريف المشهور للالتفات؛ إنّما2 هو3 المعنى الثاني لذينك الطريقين، لا معنى الكلام؛ لأنّه متعدد قطعاً، وإنَّما قيّدنا المعنى بالثاني؛ لأن معناهما4 الأول -أيضاً- متعدد، فإن الكلام إذا نقل عن طريق الخطاب إلى طريق الغيبة مثلاً؛ يكون المعنى الأول للطريق المنقول عنه (الخطاب) ، وللطريق المنقول5 إليه (الغيبة) ، وهما معنيان مختلفان6 إنما الاتحاد فيما هو المقصود بهما، فإنّ الَّذي عبّر عنه بطريق الغيبة هو الَّذي قصد بطريق الخطاب، فمرجع ما ذكر إلى اعتبار الشرط الَّذي ذكره صدر الأفاضل، ومن ههنا تَبَيّن أنّ الحاجة إلى اعتبار الشرط المذكور على تقدير تفسير7 الالتفات بنقل الكلام عن أسلوب إلى آخر، وتغيير أسلوب الكلام بنقله عن صيغة إلى أخرى، وأمّا إذا فُسِّر8 بالتعبير9 عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها10، فلا حاجة إليه، بل لا وجه له؛ إذ حينئذٍ يلزم اعتبار مدلول الشيء شرطاً زائداً عليه11، وكأن الفاضل
التفتازاني1 غافل عن دلالة التعبير2 المذكور على الشرط المزبور3، حيث قال في شرحه للتلخيص - بعد التفصيل المشبع في الالتفات على التفسير4 المذكور -: "وذكر صدر الأفاضل في ضرام السقط "أن5 من شرط الالتفات أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً"6، فإن الظاهر منه اعتبار الشرط المزبور على التفسير المشهور أيضاً. قال صاحب المفتاح - بعد الإكثار في إيراد الأمثلة للالتفات – "وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم7، وهذا النوع قد8 يختص9 مواقعه10 بلطائف معانٍ قلّما11 تتضح12 إلاّ لأفراد بلغائهم، أو13 للحذّاق المهرة في هذا الفن، والعلماء النّحارير"14. قوله: "أكثر من أن يضبطها القلم" مما أخطأ فيه الشارح الفاضل15 حيث
زعم أن المذكور (من) التفضيلية، فقال: "يرد عليه أنّ ما بعد (من) لا يصلح أن يكون مفضّلاً عليه، إذ ليس مشاركاً لما قبلها في أصل الفعل؛ أعني الكثرة ونظيره قولهم: أكثر من أن يحصى، [وقولهم] 1: الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ما لم يروا عنده آثار إحسان، وهو كثير في كلام المولّدين فقيل: كلمة (من) متعلقة بفعل يتضمّنه اسم التفضيل؛ أي: متباعدة في الكثرة من ضبط القلم، ومن الإحصاء، ومتباعدون في الكياسية من مدح الرجل الخالي عن الإحسان، وردّ بأنّ (من) إذالم تكن2 تفضيليّة [فقد] 3 استعمل أفعل التفضيل بدون الأشياء الثلاثة، ولاشك أن التفضيل مراد، فالمعنى أكثر4 مما يمكن أن يضبط5بالقلم، ومما يمكن أن يحصى، وأكيس [ممّن] 6 يتأتى منه أن يمدح الخالي عن الإحسان، إلا أنه سومح في العبارة اعتماداً على ظهور المراد"7. إلى هنا كلامه. ومبنى ما ذكره أولاً وآخراً الغفول عن أصلٍ في هذا الباب، ذكره الإمام المرزوقي في شرح الحماسة، وصاحب المغرِّب8، وغيرهما، وهو: أن أفعل
التفضيل إذا وقع خبراً تحذف1 عنه أداة التفضيل قياساً2، ومنه: الله أكبر، وقول الشاعر: دعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ 3 فكلمة (من) في أمثال ما ذكر متعلقة بما يتضمنه اسم التفضيل، وقوله (قد يختص مواقعه بلطائف) 4 لفظة (قد) فيه تستعار5 للتكثير، كما في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السِّمَاء} 6 وقول الشاعرِ7:
قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنامِلُهُ كأنَّ أثوابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصادِ1 والشارح الفاضل لغفوله عن استعارة (قد) للتكثير في أمثال هذا المقام، قال في شرحه: "ولفظة (قد) إشارة إلى أن2 الفائدة العامة كافية لحسن الالتفات في مواقعه كلها، لكن3 ربما اشتمل بعضها على فائدة أخرى، فيزداد حسنه فيه"4 ثم إن معنى التبعيض5 لا يتحمله الكلام المذكور، لأن فحواه الإخبار عن أن مواقع6الالتفات لا ينفك7عن لطائف أخر على معنى أنّ8 كلاً منها يلزمه لطيفة مخصوصة زيادة على الفائدة العامة، كما هو9 مقتضى مقابلة الجمع بالجمع، فالباء داخلة على المقصور لا على المقصور عليه، كما في تحصّك بالعبادة، واختصّ [بها] 10، إذ لا صحة للإخبار11 عن أن لطائف أخر12
لا تنفك1 عن مواقع الالتفات. ومن اللطائف المخصوصة ما ذكره صاحب المفتاح، وصاحب الكشاف، في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} 2. وله وجه آخر، ذكره الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص وهو أنَّ "ذكر لوازم الشيء وخواصه، يوجب3 ازدياد وضوحه، وتميزه4، والعلم به، فلما ذكر الله تعالى توجه النفس إلى الذات الحقيق بالعبادة5، وكلما6 أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام ازداد ذلك، وقد وصف أوّلاً بأنه المدبّر للعالم، وثانياً بأنه المنعم بأنواع النعم الدنيوية والأخروية، لينتظم لهم أمر المعاش، ويستعدوا لأمر المعاد7. وثالثاً8: بأنه المالك لعالم9 الغيب، وإليه معاد10 العباد، فانصرفت
النفس بالكلية إليه1 لتناهي وضوحه، وتميّزه بسبب هذه الصفات، فخوطب تنبيهاً2 على أنّ من هذه صفاته، يجب أن يكون معلوم التحقق عند العبد متميزاً3 عن سائر الذوات، حاضراً في قلبه، بحيث يراه ويشاهده4 حال العبادة، وفيه تعظيم لأمر العبادة وإنها5 ينبغي أن تكون6 عن قلب حاضر، كأنه يشاهد ربّه ويراه، ولا يلتفت إلى ما سواه"7 إلى هنا كلامه8 وبعبارته. ولا يذهب عليك أنه لم يصبْ في إطلاق المدبّر على الله تعالى، أمّا على أصل من قال: إن أسماء الله توقيفية9 فظاهر، وأمّا على10 أصل المخالف فيه، فلأنه شرط فيه أن لا يكون موهماً لما لا يليق بشأنه11 تعالى12، وفي المدبّر ذلك الإيهام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وقد فسّر الفاضل التفتازاني في شرح التلخيص القول المذكور على وفق ما ذكرناه1، حيث قال: "أي قد يكون لكل التفات سوى هذا2 الوجه العام لطيفة، ووجه مختص به بحسب مناسبة المقام"3 إلا أنّه يتجه عليه أن يقال: لم لا يجوز أن يكون ما يترتب على التفات4، بحسب مناسبة المقام من الوجه الخاص، مترتباً5 على التفات آخر في مثل ذلك6 المقام، ولا دليل على انفراد كل فرد، بل كل نوع منه بوجه خاص، لا يشاركه فيه غيره، ولاستقراء القاصر لا يجدي نفعاً7. وقد يطلق الالتفات على معنيين آخرين8؛ أحدهما: أن تذكر معنى،
[فتتوهم] 1 أنّ السامع اختلجه2 شيء، فتلتفت3 إلى ما يزيل اختلاجه، ثم ترجع4 إلى مقصودك، كقول ابن ميادة5: فَلا صَرْمُهُ يَبْدو وفي الْيأْسِ راحةٌ ولا وَصْلُهُ6 يَصْفو لنا7 فَنُكَارِمُهْ8 فإنَّه لما قال: (فلا صرمه يبدو) واستشعر أن يقول السامع: وما نصنع به؟ فأجاب9 بقوله: (وفي اليأس راحة) 10، ثم عاد إلى المقصود. والثاني: تعقيب الكلام بجملة مستأنفة11 متلاقية له في12 المعنى، على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ13 اليَهُوْدُ يَدُ اللهِ
مَغْلُوْلَةَ غُلَّتْ أَيْدِيْهِمْ} 1 وقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوْا صَرَفَ الله قُلُوبَهُمْ} 2 وفي كلامهم: قصم الفقر ظهري، والفقر قاصمات الظهر، وفي قول جرير: مَتَى كان الخِيَامَ بِذِي طلُوْحٍ سُقِيْتِ3 الغَيْثَ أَيَّتُها الخِيامُ [أَتَنْسَى] 4 يَوْمَ تَصْقُل عارِضَيْهَا5 بِفَرْعِ6 بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ تمت7 بعونه تعالى وكرمه.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع القرآن الكريم. كتاب الاختيارين. صنعة الأخفش تحقيق: فخر الدين قباوة. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1404هـ. أسلوب الالتفات، دراسة تاريخية فنية، د. نزيه عبد الحميد، مطبعة دار البيان، بمصر ط1، 1403هـ. الأصمعيات، اختيار الأصمعي. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون. دار المعارف. ط7. الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط6، 1984م. إنباه الرواة على أنباه النحاة. للقفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1406هـ. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي، مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر ط2، 1388هـ. الإيضاح في علوم البلاغة. للخطيب القزويني شرح وتعليق د/محمد عبد المنعم خفاجي دار الكتاب اللبناني - بيروت ط5، 1400هـ. البحر المحيطفي التفسير، لأبي حيان الأندلس. المكتبة التجارية، مكة المكرمة. بدائع الفوائد. لابن قيم الجوزية. مطبعة الفجالة الجديدة، ط2، 1392هـ. البديع لابن المعتز. شرحه وعلق عليه: د. محمد عبد المنعم خفاجي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
بغية الوعاة للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر، ط2، 1399هـ. تاريخ آداب اللغة العربية. جرجي زيدان. دار الهلال، د. ت. تأويل مشكل القرآن. لابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر. دار الكتب العلمية، بيروت. ط3، 1401هـ. تحقيق ودراسة سورتي الفاتحة والبقرة من تفسير ابن كمال باشا. إعداد: يونس عبد الحي ما. رسالة ماجستير، بالجامعة الإسلامية. تلخيص المفتاح. للخطيب القزويني. مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر. الطبعة الأخيرة. تيسير البيضاوي، تعليقات وشروح على أنوار التنزيل من أسرار التأويل للبيضاوي. تأليف: محمد أبو الحسن. دار الأنصار. مصر، ط4. ثلاث رسائل في اللغة. لابن كمال باشا، تحقيق: د. محمد حسين أبو الفتوح. مكتبة الحياة، بيروت. ط1، 1993م. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب. للثعالبي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف. القاهرة. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. دار الكتب العلمية بيروت. ط1، 1408هـ. حاشية الشهاب المسماة بعناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي. للشهاب الخفاجي نسخة لا يوجد عليها معلومات عن الطبع. خزانة الأدب وغاية الأرب، لابن حجة الحموي، طبعة قديمة، لا يوجد عليها معلومات عن الطبع. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب. للبغدادي. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي، القاهرة.
الدرّ المصون في علوم الكتاب والمكنون. للسَّمين الحلبي، تحقيق: د. أحمد الخراط. دار القلم، دمشق، ط1، 1406هـ. ديوان امرئ القيس. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف. ط4. ديوان الحارث بن حلّزة. جمع وتحقيق: د. إميل بديع يعقوب. دار الكتاب العربي، بيروت. ط1، 1411هـ. ديوان عبيد بن الأبرص. شرح أشرف أحمد عدرة. دار الكتاب العربي، بيروت. ط1، 1414هـ. رسائل ابن كمال باشا اللغوية. تحقيق: د. ناصر الرشيد، النادي الأدبي. الرياض. 1401هـ. رسالتان في المعرَّب لابن كمال والمنشي. تحقيق: د. سليمان إبراهيم العائد. جامعة أم القرى، مكة المكرمة. شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لابن العماد الحنبلي. دار الفكر، د. ت. شرح أسماء الله الحسنى للرازي، قدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة، 1396هـ. شرح التلخيص المعروف بمختصر المعاني. للتفتازاني. مطبوع بهامش التلخيص. شرح ديوان جرير. لمحمد إسماعيل الصاوي. الشركة اللبنانية. بيروت. شرح ديوان الحماسة. للمرزوقي. نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون. مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة. ط2، 1387هـ. شرح ديوان علقمة الفحل للأعلم الشنتمري. تقديم: د. حنّا نصر الحتي. دار الكتاب العربي. بيروت، ط1، 1414هـ.
شرح القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي، السيد الشريف. مخطوط بمكتبة عارف حكمت، تحت رقم 86/416 بلاغة. شروح التلخيص. دار الكتب العلمية، بيروت. شروح سقطالزند. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. 1383هـ. شعر ابن ميَّادة، جمع وتحقيق: د. حنا جميل حداد. من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 1402هـ. الشعر والشعراء لابن قتيبة، طبعة محققة ومفهرسة، دار الثقافة، بيروت 1964م. الشقائق النعمانية. طاشكبري زادة. دار الكتاب العربي. بيروت، 1975م. كتاب الصناعتين. لأبي هلال العسكري. تحقيق: علي محمد البجاوي. ومحمد أبو الفضل إبراهيم. دار إحياء الكتب العربية. القاهرة، ط1، 1371هـ. طبقات الشعراء. لابن المعتز، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج. دار المعارف ط4. طبقات فحول الشعراء. لابن سلام. قرأه وشرحه محمود شاكر. مطبعة المدني. القاهرة. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز. العلوي اليمني. دار الكتب العلمية. بيروت. العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق. تحقيق: د. محمد قرقزان. دار المعرفة، بيروت، ط1، 1408هـ. فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب. للطيبي. تحقيق: صالح عبد الرحمن الفائز، رسالة دكتوراة، بالجامعة الإسلامية.
الكتاب: كتاب سيبويه. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي بالقاهرة. ط2، 1403هـ. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. للزمخشري، حقق الرواية محمد الصادق قمحاوي مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، للشيخ نجم الدين الغزي، تحقيق: د. جبرائيل سليمان جبُّور. منشورات دار الآفاق الحديثة، بيروت، ط2، 1979م. لسان العرب. لابن منطور. دار صادر. بيروت. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. لابن الأثير، تحقيق: د. أحمد الحوفي. ود. بدوي طبانة. دار نهضة مصر. القاهرة. ط2. مجلة الجامعة الإسلامية. العددان. 71، 72، 1406هـ. مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الخامس عشر، شعبان، 1416هـ. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي. دار العربية بيروت. ط1، 1399هـ. مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع لابن خالويه. مكتبة المتنبي، القاهرة. المطوّل على التلخيص للتفتازاني. مطبعة أحمد كامل، 1330هـ معاهد التنصيص على شواهد التلخيص. عبد الرحيم العباسي. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. عالم الكتب. بيروت. المعجم الأدبي. جبّور عبد النور. دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1984م.
معجم البلاغة العربية د/بدوي طبانة. دار العلوم للطباعة والنشر - الرياض 1402هـ. المعجم المفصل في الأدب. د. محمد التونجي. دار الكتب العلمية. بيروت ط1، 1413هـ. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة. دار إحياء التراث العربي. بيروت. معجم النقد العربي القديم. د. أحمد مطلوب. دار الشؤون الثقافية العامة بغداد. ط1، 1989م. المغرّب في ترتيب المعرَّب. للمطرزي، دار الكتاب العربي. بيروت. مفتاح العلوم. للسكاكي. ضبطه وكتب هوامشه، نعيم زرزور. دار الكتب العلمية. بيروت. المفضليات. اختيار المفضل الضبّي. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. دار المعارف. ط7. نقد الشعر. لقدامة بن جعفر. تحقيق: كمال مصطفى. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط3، 1398هـ. النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري. دار الكتاب العربي. بيروت. ط2، 1387هـ. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لابن خلّكان. تحقيق: إحسان عباس. دار الفكر. بيروت.