تلخيص السفسطة

ابن رشد الحفيد

الغرض من الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله الغرض من الكتاب قال: الغرض فى هذا الكتاب هو القول في التبكيتات السوفسطائية التي يظن بها أنها تبكيتات حقيقية، وإنما هي مضللات.

ونحن مبتدئون بالنظر في ذلك من المقدمات المعروفة بالطبع في هذا الجنس، فنقول: إن من المعلوم أن من القياسات ما هو قياس في الحقيقة، ومنه ما يغلط، فيظن به أنه قياس، من غير أن يكون كذلك في الحقيقة. وما عرض في القياس من ذلك هو شبيه بما عرض في سائر الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وذلك أنه كما أن من الناس من هو عابد بالحقيقة، ومن يظن

به أنه عابد، وهو مرائى؛ ومنهم من هو جميل بالحقيقة، ومنهم من يظن به أنه جميل لمكان الزى واللباس، وليس هو في الحقيقة جميلا؛ ومن الفضة أيضاً

والذهب ما هو في الحقيقة وذهب، ومنه ما يظن به أنه ذهب وفضة، كذلك الأمر في القياسات. وإنما يخفى هذا الصنف من القياس، أعنى الذي يوهم أنه قياس، وليس بقياس، على من لم يجرب الأقاويل، ولا اختبرها؛ لأن من لم يجرب الأشياء يشبه الذي ينظر إلى الأشياء من بعد. فأما القياس بإطلاق، فقد قيل فيه إنه قول، إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عنها بذاتها، لابالعرض، شيء آخر غيرها اضطراراً.

وأما القياس المبكت فهو القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيض النتيجة التي وضعها المخاطب. وذلك أنه إذا لزمت عن المقدمات التي اعترف بها المخاطب، فيلزمه عن ذلك أن يكون الشيء بعينه موجوداً كذا، وغير موجود كذا. والتبكيت السوفسطائى هو القياس الذي يوهم أنه بهذه الصفة، من غير أن يكون كذلك. وقد يقع مثل هذا القياس لأسباب نذكرها بعد. وأشهر هذه الأسباب هو ما يعرض للمعانى من قبل الألفاظ. وذلك أنه لما لم تكن مخاطبة إلا بألفاظ، أقيمت الألفاظ مقام المعانى، فأوهم ما يعرض في الألفاظ أنه يعرض في المعانى مثل ما يعرض للحساب من الغلط في العدد، في حين إقامتهم

العقد في الأصابع مقام العدد، فيظنون أن ما عرض في العقد في الأصابع هو شىء عرض في العدد. وإنما عرض ذلك للمعانى مع الألفاظ، لأن الألفاظ ليس يمكن أن تجعل مساوية للمعانى، ومتعددة بتعددها، إذ كانت المعانى تكاد أن تكون غير متناهية، والألفاظ متناهية. فلو جعلت الألفاظ معادة للمعانى، لعسر ذلك عند النطق بها، أو الحفظ لها، أو لم يمكن. ولذلك اضطر الواضع أن يضع الكلمة الواحدة دالة على معان كثيرة. وكما أن من كان من الحساب ليست عنده الجملة التى تسمى طرح الحساب

فليس يمكنه الوقوف على الصواب من الخطأ في المسائل العددية، كذلك مَنْ لم تكن عنده معرفة بطبائع الألفاظ فهو جدير أن يغلط إن هو تكلم بشىء، وإن هو أيضاً سمعه. فلهذا السبب ولغيره من الأسباب عرض أن يكون القياس والتبكيت السوفسطائى شيئاً موجوداً بالطبع.

ولأن كثيراً من الناس أيضاً يحبون أن يوصفوا بالحكمة ويعظموا بتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلا لذلك، إذا كانوا ممن لا يمكن فيهم تعلم الحكمة، كان ذلك سبباً لأن يعتمد هذا الجنس من القول كثير من الناس يراءون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء، ولذلك سموا باسم الحكمة المرائية وهو الذي يعنى باسم السفسطة والسوفسطائيين فى لسان اليونانيين. وبين أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يظن بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، من غير أن يعملوا عملهم.

وعمل الحكيم بالحقيقة هو أن يكون، إذا قال، قال صواباً، وإذا سمع كلام غيره ميز الكذب منه من الصواب. وهاتان الخصلتان الموجودتان فى الحكيم إحداهما هى فيما يقوله، والآخرى فيما يسمعه. ومن اللازم لمن أراد السوفسطائية طلب معرفة هذا الجنس من الكلام. فان بذلك يقوون على أن يراءون أنهم حكماء من غير أن يكونوا كذلك. إلا بحسب هواهم.

أجناس المخاطبات

فأما أن هذا الجنس من الكلام شىء موجود، فمعروف بنفسه. وإنما الذى يفحص عنه هنا كم أنواع هذا الكلام السوفسطائى، وبكم من شىء تحصل هذه الملكة، وبالجملة: كم أجزاء هذه الصناعة، وما الأشياء التى تتم بها هذه الصناعة. وهذا هو قصد الذى قصد الفحص عنه هاهنا فنقول: أجناس المخاطبات إن أجناس المخاطبات الصناعية التى يمكن أن تتعلم بقول أربعة أجناس: المخاطبة البرهانية.

والمخاطبة الجدلية. والمخاطبة الخطبية. والمخاطبة السوفسطائية. وهذه المخاطبة إذا بها مستعملها بالحكماء خصت بهذا الاسم، وإذا تشبه بها بالجدليين، سميت مشاغبية. فالمخاطبة البرهانية هى التى تكون من المبادىء الأول الخاصة بكل تعليم، وهى التى تكون بين عالم ومتعلم بشأن أن يقبل ما يلقى إليه المعلم، لا أن يفكر فيما يبطل قول المعلم، مثل ما يفعله السوفسطائيون.

والمخاطبة الجدلية هى التى تأتلف من المقدمات المشهورة المحمودة عند الجميع أو الأكثر. والمخاطبة الخطبية هى التىتكون من المقدمات المظنونة التى فى بادىء الرأى. والمخاطبة المشاغبية هى المخاطبة التى توهم أنها جدلية من مقدمات محمودة، من غير أن تكون كذلك فى الحقيقة. فأما المخاطبة البرهانية فقد قيل فى كتاب البرهان؛ وكذلك الجدلية قد قيل فيها فى كتاب الجدل؛ والخطبية فى كتاب الخطابة. والتى يقال فيها ها هنا هى المخاطبة المشاغبية، أى المغلطة.

فلنقل أولا فى أغراض هذه المخاطبة، فنقول: إن مقصد هذا الجنس من الكلام هو أحد خمسة مقاصد: إما أن يبكت المخاطب. وإما أن يلزمه شنعة وأمراً هو فى المشهور كاذب. وإما أن يشككه. وإما أن يصيره بحيث يأتى بكلام مستحيل المفهوم.

وإما أن يصيره إلى أن يأتى بهذر من القول يلزم عنه مستحيل من المفهوم بحسب الظن. فهذه الأغراض الخمسة هى التى يؤمها السوفسطائيون. وأشهر هذه الأغراض الخمسة إليهم، وأكثرها مقصوداً عندهم هو التبكيت، ثم يتلو ذلك التشنيع على المخاطب، ثم يتلو ذلك التشكيك، ثم يتلو ذلك استغلاق الكلام واستحالته، ثم يتلو ذلك سوقه إلى الهذر والتكلم بالهذيان. والتبكيت والتغليط منه ما يكون من قبل الألفاظ من خارج، ومنه ما يكون من قبل المعانى.

والذي يكون من قبل الألفاظ ستة أصناف: أحدها اشتراك اللفظ المفرد، والثانى اشتراك التأليف، والثالث الذي من قبل الإفراد، والرابع الذي من قبل القسمة، والخامس اشتراك شكل الألفاظ، والسادس من قبل الإعجام.

وهذه القسمة تعرف من القياس والاستقراء. فمثال اشتراك الاسم المفرد قول القائل: المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم. ووجه المغالطة فى هذا أن لفظة (يعلم) تقال على الزمان المستقبل، وتقال على الحاضر، فهى تصدق على العالم فى الحاضر، وعلى المتعلم فى المستقبل.

وكذلك قول القائل أيضاً: بعض الشر واجب، والواجب خير، فبعض الشر خير. والمغالطة فى هذا أن اسم) الواجب (دل فى قولنا:) بعض الشر واجب (على ما يدل عليه اسم) الضرورى (، ودل فى قولنا:) والواجب خير (على ما يدل عليه) المؤثر والشىء الذى ينبغى (. وأما اشتراك التأليف فهو أصناف، وذلك أنه قد يكون من قبل التقديم والتأخير، كمن يقول: الشريف هو العالم، إذا أراد أن العالم هو الشريف،

فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول فى هذا القول هو العالم، والشريف هو الموضوع. وقد يكون اشتراك التركيب من قبل تردد الضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسان الحجر، فالحجر إذن يعرف. وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ) يعرف (قد يقع على العارف والمعروف. ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقال الإنسان صخرة، فالإنسان صخرة.

والسبب فى ذلك أن لفظة) هو (مرة تعود على الإنسان، ومرة تعود على القول. وقد يكون الاشتراك من قبل الإضافة مثل قولك: أعجبنى ضرب زيد. فإنه يحتمل أن يكون زيد مضروباً وضارباً.

وقد يكون من قبل الحذف والنقصان، مثال ذلك أن يقول القائل: إن الذى لا يمشى، يستطيع أن يمشى. والذى لا يكتب، يستطيع أن يكتب. فيكون ذلك صادقاً. فإذا حذفت لفظة) يستطيع (فقال: الذى لا يمشى، يمشى؛ والذى لا يكتب، يكتب، أوهم أن الذي ليس بماش ماش، والجاهل بالكتابة كاتب. ويشبه أن يعد هذا فى باب الإفراد والتركيب. وذلك أن النقصان هو تصير المركب مفرداً.

وأما الموضع الذي يكون من قبل إفراد اللفظ المركب، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراط إذن عالم. وذلك أنه قد يصدق على سقراط أن عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالم بإطلاق. وإنما كان ذلك كذلك، أنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شىء أن تصدق أجزاؤه مفردة على ذلك الشىء. وأما الموضع الذي من القسمة: فهو أن تكون أشياء إذا حملت مفردة على أجزاء الشىء صدقت، أو على الشىء بأسره صدقت. فإذا ركب بعضها إلى بعض، كذبت. فيوهم المغالط أنها إذا صدقت مفردة أنه يلزم أن تصدق مركبة. وهو عكس الموضع الأول.

فمثال التى تصدق على أجزاء الشىء مفردة، ولا تصدق على كلمه مجموعة، قول القائل: الخمسة منها زوج، والخمسة منها فرد، فالخمسة إذن زوج وفرد. وذلك كذب. فإن الزوجية والفردية إنما صدق كل واحد منهما على جزء من الخمسة غير الجزء الذي صدق عليه الآخر. فإذا حمل على الكل، كان كذباً. ومثال المحمولات التى تصدق مفردة على كل الشىء، ولا تصدق عليه مركبة، قول القائل: أنت عبد، وأنت لى، فأنت عبد لى. وذلك مما قد يكذب.

وأما الموضع الذى من الإعجام فمثل أن يتغير إعراب اللفظ، فيتغير مفهومه، أو يغير من المد إلى القصر، أو من التشديد إلى التخفيف، أو من الوصل إلى الوقف، أو يهمل إعرابه، أو يبدل لفظه وإعجامه. والذي يكون من قبل النقط إنما يكون من قبل المكتوب فقط، مثل ما يعتذر به جالينوس عن أبقراط فى مواضع انتقدت عليه. وأمثلة تغير المفهوم بتغير الإعراب، أو لإهماله كثيرة موجودة، مثل قول القائل: ضرب زيد عمراً. إذا كان زيد هو المضروب، وعمرو هو الضارب. وذلك كثير. وكذلك ما يعرض عند تغير النقط أو إهماله، وهو الذي يسمى التصحيف.

وأما الموضع الذى من شكل الألفاظ فمثل أن تكون صيغة لفظ المذكر صيغة لفظ المؤنث، أو صيغة لفظ المفعول صيغة لفظ الفاعل، فيوهم أن المذكر مؤنث، مثل قول القائل: عاصم بمعنى معصوم. قال: فهذه هي المضللات التي تكون من قبل الألفاظ، وقد يظهر أنها ستة بطريق القسمة. وذلك أن اللفظ إنما يغلط إذا لم يطابق المعنى. وإذا لم يطابق المعنى: فظاهر أنه دل على معنى أكثر من واحد. لأنه لا يخلو أن يدل على

ذلك المعنى وعلى معنى زائد عليه، أو على ذلك المعنى وعلى معنى ناقص عنه. وإذا كان ذلك كذلك، فقد دل على معنى أكثر من واحد إما بزيادة منه على المعنى، أو نقصان منه. وإذا كان ذلك كذلك، فلا تخلو دلالته على معنى أكثر من واحد إما من قبل ما يؤخذ مفرداً، وإما من قبل ما يؤخذ مضموماً إلى غيره. ثم إذا كان من جهة ما هو مفرد، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام: إما أن يكون ذلك لا من قبل صيغته الأولى الموضوعة، وهذا هو الاسم المشترك. وإما أن يكون ذلك له من قبل زيادة أو نقصان فى حروفه، أو تبدل ترتيبها. وهو التغليط الذي قيل فيه إنه من قبل الشكل. وإما أن يكون فى أحواله الخارجة وهو التغليط الذى يعرض من قبل الإعراب، والتثقيل، والتشديد، وغير ذلك من الأشياء التى جرت بها العادة فى الألسنة. وإذا عرض له ذلك من قبل ما هو مضموم إلى غيره. فلا يخلو أن يعرض

له ذلك فى نفس التركيب؛ وإما أن يعرض له عند تغيره من إفراد إلى تركيب، وهو موضع القسمة، وإما من تركيب إلى إفراد وهو موضع التركيب. وإذا كان من المعروف بنفسه أن ليس هاهنا قسمة سابعة للفظ يدل بها على أكثر من معنى واحد من جهة ما هو مغلط بذاته، لا من جهة ما هو مغلط بالعرض، مثل التغليط الذي يعرض عنه عند الإبدال، أعنى إبدال لفظ مكان لفظ. فظاهر أن المواضع المغلطة من الألفاظ هى هذه الستة.

القول من المغلطات من المعاني

القول من المغلطات من المعاني قال: والمواضع المغلطة من المعاني سبعة مواضع: أحدها: إجراء ما بالعرض مجرى ما بالذات؛ والثانى: أخذ المقيد مطلقاً، بأن يؤخذ ما سبيله أن يصدق مقيداً فقط، على أنه صادق بإطلاق. وأعنى ما كان مقيداً بصفة، أعنى بصفة ما، إما بزمان، أو بمكان، أو غير ذلك من أنواع التقييدات؛ والثالث: الغلط الذي يقع من قلة العلم بشروط التبكيت، وإنتاج مقابل ما اعترف الخصم بوجوده؛ والرابع: موضع اللاحق؛ والخامس: المصادرة على المطلوب؛ والسادس: أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب؛ والسابع: أخذ المسائل الكثيرة على أنها مسألة واحدة.

فالمغلطات التى تكون مما بالعرض تقع متى اتفق أن يحمل شىء على شىء بالذات، ويتفق لأحد الشيئين أمر بالعرض، فإنه يظن أن ما بالعرض يوجد لأحد ذينك الشيئين بالذات. ومثال ذلك قول القائل: زيد المشار إليه غير الإنسان، وزيد إنسان، فالإنسان غير الإنسان. وذلك أن حمل الإنسانية على زيد هو بالذات. وعرض لزيد من جهة ما هو شخص أن كان غير الإنسان الذي هو نوع كلى، فظن لذلك أنه يلز

ومثال ذلك أيضاً قول القائل: زيد غير عمرو، وعمرو إنسان، فزيد غير إنسان.

وأما التغليط الذي يعرض من أخذ المقيد مطلقاً، فمثل أن يقول قائل: إن كان ما ليس بموجود فهو متوهم، والمتوهم موجود، فما ليس بموجود فهو موجود. أو يقول: إن كان ما هو موجود متوهماً ليس بموجود، فما هو موجود، فليس بموجود. وهذا إنما يصدق إذا قيد، لا إذا أطلق. وذلك أن ما ليس بموجود خارج الذهن، فهو موجود فى الوهم لا بإطلاق. وكذلك ما هو موجود فى الوهم، فهو غير موجود خارج الوهم لا بإطلاق. وأعنى أن يكون الشىء يصدق لا بإطلاق، فيلزم منه أن يصدق، وإنما يعرض الغلط فى هذا الموضع إذا عرض أن يكون الخلاف بين المطلق والمقيد فى المعنى يسيراً وخفياً. وكلما كان الخلاف أخفى، كان الغلط فيه أكثر، والوقوف على وجه الغلط فيها أعسر. وكلما كان أظهر، كان الغلط فيه أقل، والوقوف عليه أسهل. وذلك يختلف بحسب المواد. وفى بعض المواضع يمكن أن يعرض فيه غلط ليس يسهل حله. وفى بعض المواضع يعرض فيه غلط بسهل حله. ومثال ذلك أن يقول قائل: الزنجى أسود، والزنجى أبيض الأسنان، فالزنجى إذاً أسود أبيض معاً. فإنه قد يمكن أن يعرض فى مثل هذا هذا الغلط، إذ كان الخلاف الذي بين سواد الزنجى وبياض أسنانه خفي. ولذلك يمكن أن يسلم إنسان ما أن الزنجى

أسود، ويسلم أنه أبيض من قبل بياض أسنانه، وذلك أنه ليس يخفى جداً. ولذلك قد يسهل على كثير من الناس حله.

وفى بعض المواضع لا يقع فى ذلك غلط لظهور الخلاف بينهما، مثل أن يقول قائل: الزنجى إنسان أسود، والإنسان أبيض. فإنه ليس يعرض عن هذا القول أن يظن أن الإنسان الأسودأبيض، إذ كان الأبيض والأسود صنفين من الناس معلومين، واخلاف بينهما ظاهر جداً، ومكشوف للجميع. ولذلك ليس يمكن أحد أن يسلم أن الإنسان الزنجى أسود، والإنسان أبيض. ويمكن أن يسلم أن الزنجى أسود وأبيض من قبل أسنانه. وأما الموضع الذي يعرض الغلط فيه من إغفال أحد شروط التبكيت، فلذلك يقع من عدم المعرفة بشروط القياس المنتج للتبكيت، وعدم معرفة شروط النقيض. وذلك أن النقيض ليس هو الذي يناقض فى اللفظ فقط، بل وفى المعنى،

أعنى أن يكون المعنى بعينه فى القضية الموجبة هو بعينه المعنى فى القضية السالبة التى تقابلها من جميع الجهات. وإنما يكون كذلك، إذا كان المعنى المحمول فيهما واحداً والموضوع واحداً، وتكون سائر الشرائط التى تشترط بعينها فى إحدى القضيتين المتقابلتين هى بعينها مشترطة فى الثانية: من زمان، ومكان، وجهة، وغير ذلك مما قيل فى الكتاب المسمى) بارى أرميناس (. وإنما كان هذا الموضع مغلطاً، لأن بعض الناس يرى أنهم إذا نقضوا القضية التى يدعيها الخصم أنهم قد بكتوا، من غير أن ينقضوها على الشروط التى حددت فيما سلف، مثل أن يضع واضع أن هذا ضعف لهذا، فبين مبين أنه ليس بضعف. ويكون قولنا فيه إنه ليس بضعف، يصدق عليه بجهة غير الجهة التى تصدق بها أنه ضعف، فيظن الفاعل لهذا أنه قد بكت، مثل أن يصدق أن الخط ضعف للحظ من جهة الطول، وغير ضعف من جهة العرض، إذا الخط طول لا عرض له.

وأما التغليط الذي يعرض من قبل المصادرة على المطلوب الأول، فلذلك يقع على عدد الأنحاء التى يمكن أن يؤخذ فيها مقابل الشىء عند السؤال على أنه غير المقابل، أعنى مقابل الشىء الذى يقصد إبطاله، فيقع بذلك التبكيت، وذلك إذا قرن بالشىء نفسه، على ما تبين فى المقاييس التى تركب من المتقابلات، وهى صنفان: مصادرة على المطلوب، وهى التى ذكرها أرسطو هاهنا، لأنها التى يعرض فيها التبكيت أكثر ذلك.

ومصادرة على المطلوب نفسه. وقد قيل فى الأنحاء التى يمكن أن يعرض منها هذا العارض حقيقة فى كتاب القياس، وفى الأنحاء التى يظن أنه قد عرض هذا، ولم يعرض، فى كتاب الجدل. وأما الموضع الذى يعرض فيه التغليط فى التبكيت من قبل اللاحق فالسبب فيه توهم عكس الموجبة الكلية كلية. مثال ذلك: أنه إذا كان عند الإنسان أن كل حامل منتفخة الجوف، فقد يغلب على ظنه أن كل منتفخة الجوف حامل.

ومن هذا الموضع يعرض كثيراً الغلط للحس، حتى يظن بالمرار مثلا أنه عسل، لأنه أحس أن الأرض الممطورة مبلولة. وهذا ليس بصحيح. ولذلك قيل إنه لا ينتج قياس من موجبتين فى الشكل الثانى. وقياس العلامة الذي يكون فى الخطابة قد يكون من موجبتين فى الشكل الثانى، لأن أمثال هذه الأقيسة قد تستعمل فى الخطابة من الأمور التى تلحق الطرفين، مثل إذا أراد الخطيب أن يبين أن هذا زان، أخذ الذى يلحق الزانى، وهو التزين مثلا، والمشى بالليل، فيقول: هذا متزين، والزانى متزين فهذا زان. وهذا ليس بصحيح. فإن الزينة قد توجد للزانى ولغير الزانى وكذلك المشى بالليل.

ومن هذا الموضع غلط مالسيس حين قال: إن الكل ليس له مبدأ. وذلك أنه لما وجد صادقاً أن كل متكون فله مبدأ، ظن أن كل ما له مبدأ فمتكون. ولما ظن هذا، صح له عكس نقيضه: وهو أن ما ليس بمتكون، فليس له مبدأ. والعالم ليس بمتكون. فأوجب ألا يكون له مبدأ، وأن يكون

غير متناه. وليس إن كان كل مكون له مبدأ، فواجب أن يكون له مبدأ مكوناً. كما أنه كان كل محموم حار البدن، فليس واجباً أن يكون كل حار البدن محموماً.

وأما الموضع الذي يعرض فيه التبكيت المغالطى من أخذ ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة، فلذلك يكون إذا أخذ فى القياس مقدمة ما مع

مقدمات تلزم عنها نتيجة كاذبة، فأوهم الآخذ أن النتيجة إنما لزمت عن تلك المقدمة. وهذا يعرض فى القياس السائق إلى المحال، وهو قياس الخلف. فإن هذا القياس لما كان يرفع بعض المقدمات الموضوعة فيه بما ينتج من الكذب والاستحالة، يعرض فيه كثيراً أن تدخل المقدمة التى يقصد المغالط إبطالها فى جمل المقدمات الكاذبة التى يعرض عنها الكذب. فإذا عرض الكذب، أوهم أنه إنما عرض عن تلك المقدمة التى غلط فى إبطالها. والكذب نفسه لازم لا عن تلك المقدمة بل عن ما عاداها من المقدمة أو المقدمات الكاذبة التى وضعها. مثال ذلك أن يقول قائل: إنه ليس النفس والحياة شيئاً واحداً، لأنه إن كانت النفس والحياة شيئاً واحداً، وكانت جميع أصناف الكون مضادة لجميع أصناف الفساد، فلصنف صنف من أصناف الفساد صنف صنف من أصناف الكون يخصه، هو له ضد. والموت فساد ما، فله صنف من أصناف الكون هو ضده. والذي يضاد الموت هو الحياة. والموت فساد ما، فالحياة كون ما. وإذا كانت الحياة كوناً، والحياة ما كان وفرغ، والكون ما يتكون، فما يتكون فقد كان. هذا خلف لا يمكن. فإذاً ليست النفس والحياة شيئاً واحداً. فإن هذا المحال يلزم عن هذا القول وإن لم نضع أحد مقدماته أن النفس والحياة شىء واحد. ولذلك لا نقول إنه غير منتج على الإطلاق، لكن نقول

إنه غير منتج بالقياس إلى ما قصد إنتاجه.

وفى نفس هذا المثال مغالطة ما، لكنها لم يعرض لها هنا. ومن أجل هذا صار هذا المثال مضللا كثيراً. والتضليل الذي يعرض فيه من موقع اللاحق، ومن أخذ ما ليس بعلة للإنتاج على أنه علة، هكذا يكون. فأما التضليل الذي يعرض من أخذ مسئلتين كمسئلة واحدة فإنه يعرض من جهة أن ما يحتمل جوابين مختلفين يرد فيه جواب واحد. وإنما يعرض هذا الغلط إذا أخذ بدل المحمول الواحد فى القضية أكثر من محمول واحد، أو بدل الموضوع الواحد أكثر من موضوع واحد. فمثال أن يأخذ بدل المحمول الواحد محمولين قول القائل: هل الأرض بر أو ماء؟ فإن هذه قضيتان ومسئلتان، لا واحدة. ومثال أخذ الموضوع اثنين قول القائل: هل هذا وهذا إنسان؟ فإن هذه أيضاً قضيتان، لا قضية واحدة. فمن الناس من إذا سُئل فى أمثال هذه المسائل الكثيرة على أنها مسئلة واحدة، ربما شعر بالكثرة التى في السؤال فتوقف وانقطع. وربما أجاب بجواب واحد،

فيلحقه التبكيت والتشنيع، مثل أن يقول: إن كان هذا وهذا إنسان، فمن ضرب هذا وهذا، فإنما ضرب إنساناً واحداً، لا إنسانين. وأكثر ما يعرض الغلط فى هذا الموضع إذا اتفق أن كانت الأشياء التى يسئل عنها سؤالا واحداً محمولاتها متضادة، مثل أن تكون جماعة أشياء فيها خير، وفيها ما ليس بخير، فسأل عن جميعها سؤالا واحداً: هل هى خير، أو ليس بخير. فأى الجوابين أجيب فيها كان كاذباً إلا أن يفصل الأمر فيها ويأتى الجواب فيها على عدد المسائل التى فيها.

مثل أن يسأل سائل: هل لذة المحسوسات ولذة المعقولات خير أو بخير. فإنه إن قال: خير، أخطأ، لأن اللذات المحسوسة ليست بخير، وإن قال: شر، أخطأ، لأن اللذات المعقولة خير ومحمودة.

وإنما يكون هذا غير مضلل إذا كانت الأشياء الكثيرة حكمها حكم واحد. وذلك بأن يكون حكم الجميع منها حكم الواحد بعينه. فإن السؤال حينئذ عن جميعها هو كالسؤال عن واحد منها، مثل أن يقول: هل هذا وهذا أعمى؟ وهل هذا وهذا مبصر؟ إذا اتفق أن كان كلاهما أعمى أو كلاهما يبصر. فإن الأعمى لا يخالف الأعمى من جهة ما هو أعمى، إذ كان العمى فقد البصر؛ ولا البصير يخالف البصير من جهة ما هو بصير. ففى مثل هذا الموضع يكون الجواب عن القضية الواحدة بعينها جواباً عن القضايا الكثيرة. وأما متى كان أحدهما أعمى، والآخر مبصراً، فليس يمكن أن يكون الجواب واحداً.

قال: وهذه المواضع التى عددناها، وإن كان عدد أنحائها هى هذه التى ذكرناها فهى كلها راجعة إلى قلة العلم بالتبكيت، أعنى إغفال شىء من شروط التبكيت الحقيقى. وذلك أنه لما كان التبكيت الحقيقى قياساً منتجاً لنقيض النتيجة المعترف بها، فإنه من البين أن جميع هذه المواضع يظهر تغليطها من حد القياس على الإطلاق، ومن أجزاء حده، ومن حد النقيض. أما من حد القياس: فلأنه قد قيل فى ذلك إنه قول إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عن تلك الأشياء شىء آخر غيرها باضطرار. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنه إذا كان اللازم ليس باضطرار، بل مما يظن أنه باضطرار، من غير أن يكون باضطرار، فليس هو تبكيتا حقيقياً. وأما من أجزاء حده: فلأنه قد قيل إن الأشياء التى توضع فيه هى مقدمتان وثلثة حدود تشترك فى حد واحد وهو الذي يسمى الأوسط. فمتى لم يكن الحد الأوسط واحداً فيهما، أو كان أحد الطرفين فى المقدمتين غير أحد الطرفين فى النتيجة، فهو بين أن ذلك ليس قياساً فى الحقيقة.

وكذلك إذا أخذ أحد الطرفين فى المقدمات بشرط غير مأخوذفى النتيجة. وإذا كان هذا هكذا، فجميع المغلطات التى تكون من اشتراك اسم الالفاظ المفردة، واشتراك التركيب، وشكل اللفظ كلها راجعة إلى كون الحد الأوسط غير واحد فى القياس، بل اثنين، أو إلى كون أحد الطرفين فى المقدمات غيره فى النتيجة.

والذي يكون من القسمة والتركيب هو راجع إلى أخذ المقدمات بجهة غير الجهة التى هى بها مأخوذة فى النتيجة، فلا تكون واحدة فى العدد أيضاً، لا فى القياس، ولا فى النتيجة.

وأما التغليط الذي يكون مما بالعرض، فهو راجع إلى إغفال شرط من شروط القياس البرهانى. وذلك أن من شرطه أن تكون مقدماته ضرورية وكلية. ومابالعرض فليس ضرورياً ولا كلياً، بل جزئياً. فإنه إذا وجد شىء ما أبيض بالعرض فليس يلزم أن يكون كل ما كان من ذلك الشىء أبيض، ولا حيث كان، ولا متى كان. وبالجملة: فمتى اقترن شىء بشىء عند شىء ما فيلزم أن يوجد ذلك الشىء مقترناً بذلك الشىء فى كل موضع. مثال ذلك: أنه لما اقترن فى وجود المثلث أنه شكل، وأنه ذو خطوط مستقيمة، وأنه ذو زوايا مساوية لقائمتين، فليس يلزم متى وجد

شكل أن يكون ذا خطوط مستقيمة، وأن تكون زواياه مساوية لقائمتين. فمتى تحفظ أن تكون المقدمات ذاتية، وأن تكون المقدمتان المأخوذتان من فى القياس اثنتين فقط فى المعنى، تشتركان بحد أوسط فى المعنى، لا فى اللفظ، فهو بين أنه لا يعرض للمتحفظ بهذا، العالم به، هذا النحو من الغلط، أعنى

الذى يكون من قبل اللفظ، أو من قبل ما بالعرض. ولذلك كان العالم بالقياس قد يمكن أن يغلط ما ليس عالماً بالقياس، كما أن العالم بالتبكيت، المفصل لهذه المواضع التى عددناها أحرى ألا يغلط من العالم بها، الغير المفصل لها، ولا قادر على قسمتها إلى هذه الأقسام.

وأما الغلط الذي يعرض من قبل أخذ الشىء المقيد مطلقاً، فهو راجع إلى قلة العلم بشروط النقيض، لأن الشىء الذى هو أبيض بالجزء ليس نقيضه أنه ليس بأبيض مطلقاً، بل أنه ليس بأبيض ذلك الجزء الذي قد وضع أبيض. وكذلك ما وضع أنه أبيض بإطلاق ليس نقيضه أنه ليس بأبيض ما، بل أنه ليس بأبيض بإطلاق. ولكن يظن بمثل هذا أنه مناقض لقلة العلم بالتبكيت، ولقرب ما بينهما من االاختلاف. وأكثر ما يلحق من إغفال شروط النقيض الموضع الذى يخص باسم التبكيت: وهو أن يأخذ المبطل مقابل النتيجة ما ليس بمقابل. وكأن موضع المطلق والمقيد من هذه الجهة هو جزء من هذا الموضع. ومن جهة أنه يعرض منه أن تكون المقدمة فيه مأخوذة بجهة غير الجهة التى أخذت بها فى النتيجة هو موضع مفرد برأسه، ويكون الخلل الداخل من قبله من هذه الجهة راجعاً إلى إغفال أن تكون الحدود المأخوذة فى المقدمات هى بعينها المأخوذة فى النتيجة.

وأما التغليط الذى يكون من قبل المصادرة ومن قبل أخذ ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة فهو بين أنه إتما يعرض من إغفال ما أخذ فى القياس. أما المصادرة فإنها تعرض إذا أغفل أن يكون اللازم شيئاً آخر غير النتيجة، وذلك أن اللازم فى المصادرة هو المقدمة نفسها. وكذلك أخذ ما ليس بعلة، إنما يعرض لمن أغفل أن يكون اللازم عن القياس باضطرار. وأما موضع اللاحق فإنه راجع إلى ما بالعرض، وداخل بجهة ما تحته، إلا أن الفرق بينهما أن هاهنا ظن بالواحد أنه كثير. مثال ذلك: أنه لما عرض للأصفر المشار إليه أنه عسل، ظن أن كل أصفر عسل، وهناك

ظن بالكثير أنه واحد، وذلك أنه لما عرض للكاتب أن يكون أبيض، ظن أن الكاتب هو الأبيض. ومن هذ الموضع، أعنى من موضع اللاحق، ظن مالسيس أن كل ما له

مبدأ فله كون، لأنه ظن أن ما عرض للمبدأ من أن وجد للمتكون، أنه عرض لكل ما له مبدأ، أعنى أن يكون متكوناً. وأما التغليط الذى يعرض من قبل أخذ المسائل الكثيرة مسئلة واحدة، فسببه إغفال ما قيل فى حد المناقصة من أنه ينبغى أن يكون المحمول فيهما واحداً، والموضوع واحداً، وألا يكون للإيجاب الواحد إلا سلب واحد، ولا للسلب الواحد إلا إيجاب واحد. فإنه متى كان واحداً، كانت المناقصة صحيحة. ومتى ظن به أنه واحد، وليس بواحد، كانت مباكتة سوفسطائية.

فجميع هذه الأنحاء إنما ترجع إلى قلة العلم بالتبكيت: وذلك هو قياس صحيح الشكل، منتج لنقيض الشىء المقصود إبطاله. فمتى أغفل شىء من شروط القياس الصحيح الشكل، أو من شروط النقيض، عرضت هذه المواضع المغلطة. فقد تبين من هذا أن جميع هذه المواضع الثلاثة عشر: الستة اللفظية، والسبعة المعنوية، هى راجعة إلى إغفال حد التبكيت الصحيح، أو أجزاء حده، أعنى إغفال حد القياس، أو إغفال حد النقيض، وأن منها ما يرجع إلى إغفال حد النقيض، ومنها ما يرجع إلى إغفال حد القياس، وأن منها ما يرجع إلى الأمرين جميعاً. والمواضع المغلطة من الألفاظ تشترك كلها فى أنها تخيل فى الشىء الذى ليس بنقيض أنه نقيض. والمواضع المغلطة من المعانى تشترك كلها فى أنها تخيل فيما ليس بقياس أنه قياس. وسبب الضلالة العارضة من قبل اشتراك الألفاظ هو العجز عن تفصيل المعانى الكثيرة التى يقال اللفظ الواحد، وبخاصة فى الألفاظ المفردة التى يكثر وجود المعانى الواقعة عليها، ويعسر تمييزها وتفصيلها، مثل تفصيل المعانى التى يقع عليها اسم الواحد والموجود. وأما سبب الضلالة التى تعرض من قبل قسمة اللفظ وتركيبه: فهو قلة الشعور بالاختلاف الذى يقع فى مفهوم اللفظ إذا قسم تارة، ثم ركب أخرى. وكذلك الغلط الذى يدخل من قبل اشتراك الشكل واختلاف الإعجام: السبب فيه العجز عن تفصيل

المعانى التى تدل عليها تلك الأشكال واختلاف أحوال الإعراب والنقط فى دلالته. قال: ومن كانت عنده قوة على تمييز الأغاليط العارضة من قبل اللفظ، فقد قارب ألا يغالط فى الأشياء، ولا يغلط إلا غلطاً يسيراً. وذلك أنه يبادر فيميز المعنى الذى يصدق عليه ذلك الوصف، أو يكذب، لأنه يتخيل جميع تلك المعانى التى يدل عليها ذلك اللفظ، كأنها محسوسة عنده ومشار إليها، فيبادر ويقضى على المعانى اللائق بها ذلك الوصف قضاء صواب. مثال ذلك: أنه إذا سمع أن الشىء الموجود واحد، قضى على أن ذلك الشىء هو شخص الجوهر المشار إليه، لأن الشىء والموجود إنما يقالان أكثر ذلك على الجوهر المشار إليه، الواحد بالعدد. ولهذا ما يظهر لنا أولاً أن التغليط العارض لنا إنما هو من قبل الألفاظ. وإن كان يظهر أيضاً وقوع الغلط من قبل المعانى المغلطة التى عددت. وذلك أن الغلط الذى يكون من قبل مناظرة الغير والسماع منه السبب فيه تغليط تلك المواضع اللفظية. والغلط الذى يكون عندما يفكر الإنسان

فى نفسه السبب فيه تلك المواضع المعنوية. وإن كان قد يعرض عند الفكرة الغلط من قبل الألفاظ فيه. وذلك أن الإنسان إذا فكر، كثيراً ما يخاطب نفسه، كما يفعل مع من يناظره، ويتخيل الألفاظ مع المعانى. وبالجملة فسبب الغلط فى هذه المواضع هو الاشتباه وقلة الاقتدار على التفصيل بين ما هو غير، وبين

ما هو هو. فسبب تغليط الألفاظ هو العجز عن التفريق بينها وبين المعانى، وأخذ ما هو مغاير على أنه هو هو. وهذا هو بعينه سبب التغليط فيما بالعرض، وذلك ألا يفصل المرء ما يلحق واحداً واحداً من المحمولات الذاتية من الأمور التى بالعرض.

ومن هذا السبب بعينه عرض تغليط موضع اللاحق، لأن هذا الموضع، كما قلنا، داخل فيما بالعرض بجهة ما، وجزء منه. والغلط الذى يعرض من قبل المطلق والمقيد سببه أن يظن أن الغير هو هو، وذلك يعرض لقلة الاختلاف الذى بينهما. وكذلك الغلط الذى سببه المصادرة، والذى سببه أخذ ما ليس بعلة علة، والذى سببه أخذ المسائل الكثيرة على أنها واحدة السبب فيه قلة الشعور

بالاختلاف الذى بينها، وذلك لقلة الاختلاف الذى بينها فى نفسه. أما أخذ علة ما ليس بعلة، فلقلة الاختلاف الذى بينه وبين ما هو علة فى الحقيقة. وأما المصادرة فالسبب فيه قلة الاختلاف الذى يكون هنالك بين صورة القياس الذى وضع فيه المطلوب نفسه وبين القياس الحقيقى، إذ كانت صورته صورة القياس. وإذ كان الأمر كذلك، فالسبب فى تغليط هذه المواضع يرجع فى الجملة إلى شيئين: أحدهما أن يظن ما ليس بقياس أنه قياس الاختلاف بينهما، وأن يظن بما ليس بنقيض أنه لقلة الاختلاف أيضاً بينهما، وذلك يعرض

إذا لم تعرف حدود كل واحد منهما على التمام، ولم يتحفظ بهما، أعنى القياس والنقيض. ولأنه إن تبين لنا من كم سبب تكون القياسات السوفسطائية المغلطة، فبين أنه يظهر لنا من ذلك كم أنحاء القياسات السوفسطائية، والمباكتات السوفسطائية المغلطة. وأعنى بالتبكيتات السوفسطائية ليس كل تبكيت يظن به أنه تبكيت، وليس هو بالحقيقة مناقضة ولا تبكيتا، بل التبكيتات العامة الغير المناسبة التى لا تخص صناعة صناعة من الصنائع البرهانية، وهى التبكيتات التى يظن بها أنها تبكيتات من لم يرتض بتلك الصناعة مثل أن يكون التبكيت فى الصنائع البرهانية تبكيتات صادقة غير مناسبة. فإن غير المناسبة إنما تستعمله صناعة الجدل، وإنما يغلط فى هذا المبرهنون الذين لا يعلمون أن هذا الجنس هو خاص بصناعة الجدل، أعنى إن استعمل

غير المناسب. وذلك أن هذه الصناعة قد تستعمل الكاذب إذا كان مشهوراً، فضلاً عن غير المناسب، وكذلك تستعمل التبكيتات الكاذبة العامة التى تستعملها هذه الصناعة، كما تستعمل الصنائع البرهانية التبكيتات الخاصة. والفرق أيضاً بين استعمال هذه الصناعة التبكيتات العامة وبين استعمال صناعة الامتحان الجدلية لها أن صناعة الامتحان تستعمل هذه لتبصر وتعلم، وهذه لتغلط. فإذن هذه الصناعة هى بجهة ما جزء من صناعة الجدل. وكما أن التبكيت الذى يكون فى الصنائع البرهانية من مقدمات صادقة غير مناسبة هى سوفسطائية، كذلك التبكيتات التى تكون فى صناعة الجدل من مقدمات يظن بها أنها مشهورة، وهى غير مشهورة، هى سوفسطائية، وإن كانت صادقة، فإذن المباكتة السوفسطائية اثنتان: منها مباكتة يظن بها أنها صادقة، وهى كاذبة. ومنها ما يظن يها أنها من تلك الصناعة، وليست من تلك الصناعة، سواء كانت صادقة أو كاذبة. وإذ قد تبين هذا، فنرجع فنقول:

إن جميع القياسات المغلطة إما أن يكون جميعها يتولد عن هذه المواضع، إن كانت هذه المواضع هى جميع المعانى المغلطة، وإما أن يكون بعضها يتولد وينشأ من هذه - إن لم تكن هذه التي ذكرت هى جميع المعانى المغلطة. وقد يضهر أن هذه جميع المعانى المغلطة من أنه قد تبين أن جميع التبكيتات والمناقضات المغلطة إنما هى التبكيتات والمناقضات التى يظن بها أنها تبكيتات صحيحة، وليست تبكيتات صحيحة، لأنه ينقصها شىء يسير من حدود التبكيتات الصحيحة. وإذا كان الأمر هكذا، فواحب أن يكون عدد أصناف التبكيتات الغير الصحيحة عدد أصناف النقصان الداخل على التبكيتات الصحيحة. وواجب أن يكون عدد النقصان الداخل على أجزائها، أعنى على أجزاء التبكيتات الصحيحة، على عدد أجزائها. ولما كان قد تبين أن التبكيت الصحيح هو قياس منتج لنقيض الأمر الذى يعترف بوجوده، وكان قد تبين أن هذا التبكيت إنما يكون صادقاً إذا كان فيه ثلثة شروط: أحدها أن يكون صحيح الشكل، والثانى أن يكون صادق المقدمات، والثالث أن يكون النقيض المنتج نقيضاً بالحقيقة للشىء المعترف به، أعني للنتيجة المقصود إبطالها، فبين أنه يجب أن تكون المواضع المغلطة المبكتة من المعانى ما عدا مواضع الألفاظ، راجعة إلى هذه الثلاثة. وهذا، كما ترى، برهان واضح، لا خفاء به. فأما التوهم فيما ليس بنقيض أنه نقيض، فإن أرسطو يرى أنه ليس يعرض فيه من المواضع المغلطة إلا موضعان:

أحدهما إغفال الشرائط التى ذكرت فى باب النقيض، والثانى أخذ مسئلتين فى مسألة واحدة. وأما التوهم العارض من قبل الظن فيما ليس بقياس أنه قياس فإنه ذكر أيضاً أنه ليس يعرض فيه إلا موضعان فقط: أحدهما القياس الذى يسمى مصادرة، والثانى الذى يسمى أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب. وأما التوهم العارض من قبل أجزاء القياس، وهى المقدمات، أعنى أن يظن فيما ليس بصادق منها أنه صادق، فإنه ذكر أيضاً فيه ثلاثة مواضع: أحدها موضع ما بالعرض، والثانى موضع الإطلاق والتقييد، والثالث موضع اللاحق، وهو العكس. فإن لم يوجد فى هذه الثلاثة الأجزاء التى تقدمت من القول التبكيتى مغلطات إلا هذه، فهذه المواضع سبعة ضرورة، كما ذكر أرسطو، لا يمكن أن يزاد فيها ولا أن ينقص منها، فنقول: أما كون المعانى المغلطة منحصرة إلى هذه الأجزاء التى ينتج منها التبكيت فأمر بين بنفسه. وأما كون هذه الأجزاء لا يوجد منها إلا ما ذكره أرسطو فأمر يحتاج إلى تأمل. ويشبه أن يكون ترك القول فيه ووضعه وضعاً لنتمه نحن، أعنى من يأتى بعده، فإن فى ذلك موضع فحص ونظر. ونحن نجد أبا نصر فى كتابه قد زاد فى هذه المواضع موضعاً ثامناً، وهو موضع الإبدال والنقلة،

أعنى أن يؤخذ بدل الشىء شبيهه أو لاحقه أو المقارن له، فهل أغفل أرسطو هذا الموضع أم لم يغفله؟ وإن كان أغفله، فهل أغفل معه مواضع أخر غيرها؟ أو كيف الأمر فى ذلك؟ والسبيل إلى الوقوف على ذلك يكون من هذه الجهة التى شرع أرسطو فى بيان عدد المواضع المغلطة منها، فنقول نحن: أما أن الأسباب التى توهم فيما ليس بنقيض أنه هى أكثر من هذه التى عددها هنا أرسطو، فذلك شىء قد تبين فى كتاب بارى أرميناس، مثل أن يؤخذ الضد مكان النقيض فى المادة الممكنة، أو تؤخذ الأضداد مكان الموجبة والسالبة، إلى غير ذلك مما قيل فى ذلك الكتاب. وكذلك قد تبين أيضاً فى كتاب القياس يكون فاسد الصورة من أسباب كثيرة غير السببين اللذين عددها هنا، مثل أن يكون عن مسألتين أو جزئيتين، إلى غير ذلك من أصناف المقدمتين الغير المنتجة. وكذلك تبين أنه يعرض لنا أن نصدق بالمقدمات الكاذبة من قبل أشياء أخر غير هذه، مثل الشهادات والأمور التى من خارج. وقد يعرض لنا ذلك أيضاً من قبل الاستقراء والتمثيل، إلا أن هذه عددت فى صنائع أخر، ولم تعد فى صناعة السفسطة، أعنى أنه جعل الاستقراء خاصاً بالجدل، ومفيداً للتصديق الجدلى، والتمثيل خاصاً بالخطابة، ومفيداً للتصديق البلاغى، وكذلك التصديق الذى يكون من الشهادات والأشياء التى من خارج جعل خاصاً بصناعة الجدل وصناعة الخطابة على الشرائط التى قيل فيها هنالك. وهذا كله مما يوجب النظر فيه، فنقول: إنه يظهر من أرسطو فى هذا كله - إذ كان هو المفيد لنا جميع هذه

المواضع - أنه ليس يرى أن المواضع المغلطة المنسوبة إلى هذه الصناعة هى جميع المواضع التى يعرض منها الغلط لنا كيف ما اتفق. بل وبشرطين: أحدهما: أن يكون تغليطها ذاتياً، أعنى أن يكون الغلط فيها عارضاً لنا بالطبع كثيراً، مثل الأوضاع التى توجب بطبعها من غلط الحواس فيها، لأنه إنما استنبط هذه المواضع من استقراء الغلط فى نظر النظار فى الأشياء الموجودة، كالحال فى استنباطه سائر قوانين هذه الصنائع. والشرط الثانى: أن يكون الموضع يفيد الكذب دائماً أو على الأكثر، ولا يكون جزءاً من صناعة غيرها من الصنائع المنطقية. وإذا كان ذلك كذلك، فإنما لم يعدد فى الأشياء التى توهم فيما ليس بنقيض أنه نقيض إلا ذينك الموضعين فقط، لأنهما سبب الغلط الواقع بالطبع للجميع أو للأ كثر فى هذا الجزء من التبكيت. وسائر المواضع - فإنما تغلط فى الأقل. وما كان فعله أقلياً، فليس يجب أن يعد جزءاً من هذه الصناعة، إذا قصد أن تكون هذه الصناعة صناعة فاعلة للتغليط. وذلك أنه كما أن الصناعة المعتنية بفعل السموم ليس تضع جزءاً من صناعتها ماهو سم فى الأقل، بل ماهو سم على الأ كثر أو بالضرورة، كذلك الأمر فى الأشياء التى تتنزل من هذه الصناعة منزلة الاسطقسات. فإذن المواضع التى ينبغى أن تعد جزءاً من هذه الصناعة هى التى تكون قلة شعورنا بها أكثرياً، وتكون مع ذلك إفادتها الكذب إما دائماً، وإما أكثرياً.

ولهذا المعنى قال قدماء المفسرين إن المقدمات الكاذبة إما دائماً وإما فى الأ كثر هى خاصة بهذه الصناعة، كما أن الصادقة فى الأ كثر خاصة بالجدل، والصادقة دائماً خاصة بالبرهان، والكاذبة والصادقة على التساوى خاصة بالخطابة. وإذ كان ذلك كذلك، فيشبه إذا استقريت المواضع المغلطة التى تضمنتها هذه الصناعة، أعنى صناعة السوفسطائية، ألا يوجد بهذه الصفة إلا هذه السبعة فقط. وذلك أن سائر الأشياء التى يدخل منها الفساد على صورة القياس، ما عدا السببين اللذين ذكروا فى هذا الكتاب، يشبه ألا تكون قلة شعورنا بها أكثرياً. فإنا لا نجد من النظار من قد غلط من قبل استعمال سالبتين فى الأشكال الحملية، ولا من قبل جزئيتين، إلا قليلا. وكذلك يشبه أن تكون سائر لمواضع المغلطة فى النقيض، ما عدا ما ذكرها هنا، منها فقط. وأما الأشياء التى تغلط فى المقدمات فتوهم أنها صادقة، فإن الذى عدد أيضاً منه ها هنا هو ما كان قلة شعورنا به أكثرياً. وأما الذى يفعل الغلط أقلياً فهو خاص بالجدل، والذى يفعله على السواء فيشبه أن يكون خاصاً بصناعة الخطابة. وهذه هى حال المثال. ولذلك ليس ينبغى أن يعد تغليطه جزءاً من هذه الصناعة، كما لا يعد تغليط الاستقراء. لكن قد يتشكك فى هذا القول، فيقال،: إنا نجد أرسطو قد استعمل موضع اللاحق فى هذا الكتاب، واستعمل قياس العلامة فى الخطابة، فكيف الأمر فى ذلك؟ فنقول: إنه إنما استعمل موضع اللاحق هنا من حيث هو مغلط فى المقدمات أنفسها، وقلة الشعور به هو أكثرى، وفعله الغلط أيضاً أكثرى. وأما إذا

أخذ من حيث يأتلف منه الشكل الثانى فقط، فهو معدود فى المقنعات لأنه لا يستعمل فيه العكس من حيث هو فى الشكل الثانى. ولذلك لم يعدد هاهنا من أصناف المواضع التى تغلط فى صورة القياس استعمال موجبتين فى الشكل الثانى. ولهذا السبب لم يعدد أرسطو موضع الإبدال هنا، لأنه موضع شعرى، والغلط العارض عنه هو ما يعرض لا بالذات، والمقصود هنا المغلطات بالذات. وموضع الإبدال إنما يفيد بالذات التمثيل. وإذ قد تبين هذا، فلنرجع إلى ما كنا فيه من تلخيص كليات معانى هذا الكتاب. قال: فإذ قد تبين هذا، فقد تبين من كم وجه تكون الأمور المغلطة العامة، وأنها تكون من هذه، لا من غيرها. فأما أن يكون لنا من هاهنا علم بكل تبكيت واقع فى كل صناعة من الصنائع البرهانية، فذلك شىء ليس فى قوة هذه القوانين المعطاة هاهنا. ولا ينبغى أن يتعاطى علم ذلك من هاهنا، بل إنما يقدر على معرفة ذلك فى صناعة صناعة من أحاط علماً بالأشياء الموجودة فى تلك الصناعة. ولذلك ما ترى التبكيتات العارضة فى صناعة صناعة غير متناهية، كما أن المطلوبات فيها غير متناهية. فإن عدد التبكيتات فيها هو على عدد المطالب، وحلها هو لها. وذلك أن الذى يحل التبكيت الذى يوجب

أن يكون ضلع المربع مشاركاً للقطر هو الذى يبرهن أنه غير مشارك. لأن هذه التبكيتات، كما قلنا، هى من الأمور الذاتية. والأمور الذاتية إنما تحصل فى الصنائع أكثر من قبل التجربة، وحلها إنما يكون لمن أحاط علماً بذلك المطلوب. فمعرفة هذه التبكيتات الجزئية، أعنى الخاصة بصناعة صناعة، ليس لصناعة واحدة، بل لصنائع كثيرة. فتكون معرفة حل التبكيتات الهندسية المناسبة لصاحب صناعة الهندسة، والطبية للطبيب. ولذلك ما نرى أن هذه التبكيتات ليس لها غاية، وأما التبكيتات العامة فمعرفتها لصناعة عامة، إلا أن هذه الصناعة، إذ كان ليس من شأنها أن تبصر، أعنى صناعة السفسطة،

فمعرفتها إذن وحلها يكون لصناعة معلمة عامة، وتلك هى صناعة الجدل. ولذلك ما نرى أن الذى قيل من ذلك فى هذا الكتاب هو، من جهة، جزء من صناعة الجدل. فقد تبين من هذا أنه ليس لهذه الصناعة حل المغلطات الجزئية، ولا العامة، إلا من جهة أنها جزء من صناعة الجدل. لكن أرسطو لما نظر فى هذه الصناعة من جهة أنها جزء من صناعة الجدل، أعطى هاهنا القوانين التى بها تحل هذه المغلطات، وجعلها جزءاً من هذا الكتاب. قال: وليس الكلام ينقسم قسمين: فيكون منه ما يدل بحسب ضمير المتكلم واعتقاده، وهى الدلالة الى تخص المتكلم، ومنه ما يدل بنحو الاسم، وهى الدلالة التى تخص السامع، وأن الخطأ العارض من قبل دلالة المسموع، لا من قبل دلالة الضمير، بحسب ما اعتقد فى ذلك قوم - يشير به إلى أفلاطون.

قال: فإنه خطأ أن يظن أن اللفظ ينقسم هذين القسمين، بما هو لفظ، حتى يكون منه ما يدل بحسب ضمير المتكلم، ومنه ما يدل بحسب الاسم المشترك عند السامع. فإن اللفظ الواحد بعينه نجده مرة تكون دلالته بحسب ضمير المتكلم هى بعينها دلالته عند السامع.

فأما متى تكون دلالته بحسب مسموع الاسم، لا بحسب ضمير المتكلم، فعندما يسئل السائل المجيب عن مقدمة ما باسم مشترك، فيفهم المجيب من ذلك الاسم معنى واحداً من المعانى التى يدل عليها، فيلقاه السائل على معنى غير ذلك المعنى ويغالطه به، فإن دلالته بحسب المسموع عند السائل تكون غير دلالته بحسب ضمير المجيب واعتقاده. فأما إذا كان الاسم لا يفهم المجيب منه ولا السائل إلا معنى واحداً، فإن دلالته عند ضمير المتكلم هى دلالته عند السامع، وسواء كان الاسم مشتركاً يدل على كثيرين، أو كان واحداً، إذا لم يفهم منه السائل والمجيب إلا معنى واحداً، كانت دلالته بحسب المعنى الذى فى النفس هى دلالته بحسب المسموع. وقد يعرض للاسم أن يقال على معان كثيرة، وتكون الدلالتان فيه واحدة، أعنى دلالته من حيث هو مسموع، ودلالته من حيث يعبر به عن المعنى الذى فى النفس، وذلك إذا فهم السائل والمجيب من ذلك اللفظ جميع المعانى التى يقال عليها ذلك الاسم، مثل إن سأل سائل زينن فى اعتقاده أن الموجود واحد، مع أنه كثير عنده فى الحس، والسائل يفهم من لفظ الموجود والكثرة الذى يفهم

منها زينن، ومن معنى الواحد أيضاً المعنى الذى يفهمه منه زينن، فأجابه بأن الموجود واحد، فإن دلالة المسموع هى بعينها دلالة ما فى ضمير المتكلم. وأيضاً فإن قسمنا الألفاظ، فقلنا: إن منها بحسب الاسم، ومنها بحسب الضمير الذى هو المفهوم على ما تقتضيه القسمة الذاتية للشىء، حتى لا تكون قسمة متداخلة، فقد نفينا الدلالة عن اللفظ المسموع. لأن الدلالة للفظ إنما

هى على ما فى النفس والضمير. وإذا انتفت الدلالة التى بحسب الضمير، فلا يوصف حينئذ اللفظ بأنه مغلط، ولا بأنه غير مغلط، لأن هذين الوصفين إنما لحقا اللفظ من قبل أنه دال على ما فى النفس. فقسمتنا الألفاظ إلى ما هو دال على ما فى الضمير، وإلى ما هو دال بحسب المسموع هو شبيه بقسمة من قسمها إلى ما هو دال، وإلى ما هو مسموع فقط غير دال. واللفظ من حيث هو مسموع فلا مدخل له فى التغليط، ولا فى عدم التغليط. فهذا ما يلزم من الشناعة من قسم الألفاظ هذه القسمة، فأوجب لها الغلط من جهة المسموع.

على أن هؤلاء مختلفون: هل الغلط كله فى المعانى من جهة الاسم المشترك فقط، أو من جهة الألفاظ المسموعة فقط، سواء كان اللفظ اسماً مشتركاً أو غيره. فإن ضروب تغليط الألفاظ كثيرة. وذلك أن هؤلاء يرون أن التغليط فى القياس يكون من قبل الاشتراك فى التركيب. ويكون فى الأمور المفردة التى هى أجزاء القياس من قبل اشتراك الاسم المفرد، وكلهم يرون أن تغليط الاشتراك إنما هو من قبل اللفظ المسموع. ولذلك من قصر التغليط وجعله من قبل اشتراك الاسم المسموع، كما فعل أفلاطون، فهو فى غاية الخطأ. فإنه يظهر أن هاهنا مضللات كثيرة من الألفاظ، غير الاسم المشترك المفرد، ومن المعانى أنفسها، من غير أن يكون هنالك تغليط من قبل اللفظ. قال: وقد أساء أفلاطون فى التعليم حين رام أن يعلم التبكيتات السوفسطائية قبل أن يعلم القياس الصحيح ما هو، والنقيض الحقيقى ما هو. فان المباكتة

السوفسطائية إنما هى: إما قياس يظن به أنه قياس، وليس بقياس، أو نقيض يظن به أنه نقيض وليس بنقيض. والمغلطات تكون من قبل الغلط فى القياس، أو من قبل الغلط فى النقيض، أو من قبل الأمرين جميعاً. فمن لم يعلم ما هو القياس الصحيح والنقيض الصحيح فليس يمكنه أن يقف على تغليط أمثال هذه المواضع، وإن كان التغليط الواقع فيها من قبل الألفاظ فقط، كما يقولون. فمثال الغلط الواقع من قبل اللفظ فى النقيض قول القائل:) الساكت يتكلم، والمتكلم ليس بساكت، فالساكت ليس بساكت (، فإن هذين ليسا بمتناقضين. فإن الساكت بالفعل ليس ساكتاً فيما يستقبل. ومثال الغلط الواقع من قبل اللفظ فى شكل القياس قول من قال: إن الوزن دائرة، والدائرة شكل يحيط به خط واحد فى داخله نقطة، كل الخطوط

الخارجة منها إلى المحيط متساوية، فالوزن شكل بهذه الصفة. فإن المقدمتين المأخوذتين فى هذا القياس صادقتان، لكنهما لا تشتركان فى حد واحد، إلا فى اللفظ فقط. فمن لا يعلم أن القياس إنما يكون بأن تشترك المقدمتان فيه بحد واحد فى المعنى، لا فى اللفظ، لم يقف على وجه الغلط من قبل اللفظ فى هذا اللفظ فى هذا القول. ومثال ما وقع التغليط فيه من قبل اللفظ فى الوجهين جميعاً، أعنى فى النقيض وفى القياس، قول القائل:) الإنسان يعطى الشىء المعطى، والمعطى ليس له، فالإنسان يعطى ما ليس له (.

فإذا أخذ أن الإنسان يعطى ما ليس له، وأضاف إلى ذلك: أن ما ليس له يذم على إعطائه، أنتج من ذلك أن الإنسان يعطى ما يذم على إعطائه. فمن سلم هذا القياس، فقد غلط من قبل اللفظ فى موضعين: أحدهما: أنه أخذ) ما ليس له (الصادق على المعطى هو المناقض لما هو الصادق على المعطى. والثاني: أنه ظن أن) ما ليس له (المأخوذ محمولا فى المقدمة الصغرى هو بعينه) ما ليس له (الموضوع فى المقدمة الكبرى. وليس الأمر كذلك. فإن ما يعطى المرء هو له قبل أن يعطيه، وليس له بعد ما أعطاه. فإذن من لا يعرف القياس ولا النقيض لا ينتفع بمعرفة اشتراك الاسم. فإذن واجب على من رام أن يتعلم هذه الصناعة أو يعلمها أن يعلم ما هو القياس، وما هو النقيض. وسواء كان الغلط واقعاً من قبل اللفظ، كما يرى ذلك أفلاطون، أو من قبل الأمرين جميعاً، كما تبين قبل. قال: ويلزم من قال إن الخطأ إنما يعرض من قبل الاسم المسموع، لا من قبل المفهوم، أن يكون المهندس، إذا غلط فى التعليم، فظن أن المثلث المتساوى

الساقين ليس بمثلث، أن يكون غلطه من قبل الاسم المشترك المسموع، لا من قبل المفهوم. وهو بين أن الغلط إنما وقع منه بحسب المعنى الذى فى ضميره المفهوم. ولو سلمنا أن المثلث اسم مشترك لأن المعلم ليس فى حقه لفظ مسموع. وأيضاً إن كان الاسم يدل على كثيرين، وكان المجيب لا يفهم دلالة ذلك الاسم وعلى كم من معنى يدل، فهو إذاً جاوب، لم يجاوب بحسب أنه فهم معنى ما، وإنما سلم لفظاً لا يدرى ما يدل عليه. ولا يمكن أيضاً هذا المجيب أن يقسم المعانى التى يدل عليها ذلك اللفظ، ويستفهم السائل أى معنى من تلك المعانى هو الذى قصده. مثال ذلك: أنه إذا سأل سائل: هل الساكت يتكلم؟ وكان هذا يصدق على الساكت فيما يستقبل، ويكذب عليه فى حين سكوته، فإنه إن لم يفهم المجيب هذين المعنيين، فأجاب بأنه يتكلم مطلقاً، أخطأ؛ وإن أجاب بأنه لا يتكلم مطلقاً، أخطأ. فهذا الخطأ ليس هو من قبل أن ما فى ضمير المتكلم من ذلك مخالف لمفهوم السامع، لأن السامع لم يفهم منه شيئاً محصلا. فإذن ليس الألفاظ جنسين:

جنس يدل بحسب ما فى ضمير السائل وهو الذى يكون الصواب من قبله، وجنس يدل بحسب مفهوم السامع، ومنه يكون الغلط دائماً. ولا أيضاً جميع المغلطات تكون من قبل الألفاظ. فإنه قد تبين أنه هاهنا مغلطات من المعانى، مثل تغليط ما بالعرض، وغير ذلك من المواضع التى عددناها. ولا استعمال القسمة التى تحفظ المجيب من الغلط مع السائل فى جميع المواضع المغلطة على ما كان يذهب إليه أفلاطون فى جميع هذه الأشياء. لأنه إن سلم إنسان أن للمجيب أن يقسم المعانى التى يدل عليها الاسم المشترك، ويستفهم السائل عن المعنى الذى أراد من بينها، حتى لا يغلط فى الاسم المشترك، فماذا يقول فى الموضع الذى لا يشعر المجيب فيه بأن اللفظ مشترك، ولا يفهم له دلالة؟ فانه إن استفهمه عما يدل عليه اللفظ، عاد متعلماً، لا مجيباً. وكذلك إن قسم له السائل تلك المعانى، عاد معلماً، لا سائلا. وأيضاً إن جاز له، أى للمجيب، أن يستفهم السائل فى مثل هذا الموضع، أعنى فى الموضع الذى لا يفهم فيه دلالة الاسم المشترك حتى يبصره السائل، فكيف لا يجوز له أن يسأله عن وجه الغلط الذى لزمه من قلة شعوره بشروط القياس، مثل أن يسأل سائل: هل الآحاد التى فى الثنائية مخالفة للآحاد التى فى الرباعية؟ فإن قال: هى مخالفة لها، قال له: فالرباعية تخالف نفسها، لأنها إنما تركبت من الآحاد التى فى الثنائية. وإن قال: هى غير مخالفة، قال له: فالرباعية موافقة للثنائية ومساوية لها. فإن سبب التغليط فى هذا إنما هو الجهل بأن

المقدمتين اللتين يأتلف منهما القياس يجب أن تشترك بحد واحد فى المعنى، لا فى اللفظ. وهذا ليس يوقف عليه من المعرفة بطريق القسمة. فإن جاز له أن يستفهم عن الاسم المشترك فى الموضع الذى يجهل فيه أنه دال، فيجوز له أن يستفهم السائل فى الموضع الذى غلط فيه وجاز عليه الغلط من أجل أنه لم يعلم شروط القياس. ولذلك كان السائل يظن به أنه يجب أن يكون غير معلم، والمجيب يظن به أنه قد يجب أن يكون غير متعلم، لأن السائل يفحص لأن يعلم، والمتعلم قد علم. وبالجملة: فإن عقد القول الكاذب العام ثم حله، ليس للمبرهن، وإنما هذا للممتحن. وصناعة الامتحان العامة جزء من صناعة الجدل. وهذه الصناعة هى من جهة من صناعة

القياس المغالطي

غير مبصرة ليس للمجيب فيها أن يسأل عما جهل، ولا للسائل أن يعلم. فإذن ليست القسمة نافعة فى حل الأقاويل المغالطية إلا عند المعلمين والمتعلمين فقط. ولو كانت نافعة، لم تكن فى كل موضوع، لأن مواضع الغلط كثيرة. القياس المغالطي قال: والقياس المغالطى منه مرائى ومشاغبى، ومنه سوفسطائى. والمشاغبى: هو القياس الذى يوهم أنه قياس جدلى، من غير أن يكون كذلك بالحقيقة، وهو الذى يتشبه صاحبه بصناعة الجدل، ويطلب به غاية صاحب الجدل، وهى الغلبة. والقياس السوفسطائى: هو الذى يتشبه صاحبه بالمبرهن، فيوهم أنه حكيم، من غير أن يكون كذلك. وهذا القياس أصناف:

منه ما يكون من الأمور الكاذبة الخاصة بجنس جنس، وهو الذى حله لصاحب تلك الصناعة، مثل ما فعل رجل من قدماء المهندسين يقال له بقراط. فإنه لما عمل مربعاً مساوياً للشكل الهلالى، ظن أنه وجد مربعاً مساوياً للدائرة، بأن ظن أن الدائرة تنقسم إلى أشكال هلالية حتى تفنيها.

فهذا الغلط هو خاص بصناعة الهندسة، وحله على المهندس. ومنه ما يكون من الأمور الكاذبة التى هى أعم من ذلك الجنس، مثل من زعم من المهندسين أنه إذا عمل مربعاً ثم قسم القوس التى تحيط بكل واحد من أضلاع المربع بنصفين، وأخرج منها خطين إلى طرفى الضلع، ثم قسم القوس المحيطة بذينك الخطين بنصفين، وأخرج، وفعل ذلك دائماً، فإنه ينتهى بذلك الفعل إلى أن تنطبق أضلاع الشكل المستقيم الخطوط الذى داخل الدائرة على محيط الدائرة، فيوجد شكل مستقيم الخطوط مساوياً للدائرة. فإن هذا جحد المبادىء

التى يستعمل المهندس وهو أن القسمة تمر فى الخطوط إلى غير نهاية، وأنه ليس ينطبق خط مستقيم على مستدير. فهذا القياس هو سوفسطائى من جهة تشبه بالمبرهن، وهو مشاغبى من جهة أن مقدماته الكاذبة عامة. ولذلك كان لصناعة الجدل حل أمثال هذه المقاييس. فعلى هذا يكون القياس المشاغبى هو القياس الكاذب الذى تكون نسبته إلى صناعة الجدل نسبة القياس الذى يضع رسوماً وأشكالا كاذبة إلى صناعة الهندسة. لكن الفرق بينهما أنه ليس لصناعة الجدل موضوع محدود، لا عام على ما عليه الفلسفة الأولى، ولا خاص على ما عليه الصنائع البرهانية الجزئية. وقد يظن أنه قد يكون نوع من القياس صادق، إلا أنه إذا استعمل فى الصنائع البرهانية على أنه خاص بذلك الجنس، نسب إلى صناعة السفسطة.

وذلك أن البراهين ليس من شرطها أن تكون مقدماتها صادقة فقط، بل وأن تكون مناسبة، وهى الخاصة بذلك الجنس. وذلك مثل ما ربع به بروسن الدائرة. فإنه لما عمل شكلا مستقيم الخطوط أعظم من كل شكل مستقيم الخطوط واقع فى الدائرة، وأصغر من كل شكل مستقيم الخطوط محيط بالدائرة، قال إن هذا الشكل هو مساو للدائرة، لأن الدائرة هى أصغر من كل شكل مستقيم الخطوط يحيط بها، وأعظم من كل شكل مستقيم الخطوط تحيط به. وإذا كان شيئان كلاهما أصغر من شىء واحد بعينه، وأكبر من شىء واحد بعينه، فهما متساويان. فإن هذا يوهم أنه برهانى، وليس ببرهانى. فهو مرائى.

فإذن لا يحيط علماً بأنواع القياسات المغلطة إلا من وقف على القياس الجدلى الصحيح والقياس البرهانى الصحيح، وهو الذى مقدماته، مع أنها صادقة، مناسبة. والصناعة البرهانية لما كانت تقتصر على إثبات أحد النقيضين، وهو الصادق، وإبطال النقيض الآخر الذى هو الكاذب. لم يضع مقدماتها من جهة السؤال. لأن المجيب قد يسلم ما ليس هو صادقاً. وأما صناعة الجدل فلما كانت معدة معرضة لأن تثبت كل واحد من النقيضين وتبطله كانت مقدماتها مأخوذة بالسؤال، ولم يكن قصدها تبيين شىء من الأشياء إلا إذا استعملت فى تبيين المبادىء الأول مع من يجحدها، على ما تبين فى كتاب الجدل. والصناعة الامتحانية الجدلية تستعمل من أجناس المقاييس السوفسطائية الجنس الذى يكون من المقدمات العامة الكاذبة التى ليست بخاصة بجنس من الأجناس، إذ كانت ليس لها موضوع خاص، لأنها جزء من صناعة الجدل. وليس صناعة الامتحان الجدلية، ولا بالجملة صناعة الجدل عند من يتعاطاها، كصناعة الهندسة، وغيرها من الصنائع البرهانية. فإن صناعة الامتحان الجدلية، والجدل نفسه، لما كان ليس لها موضوع خاص، وكانت المقدمات المشهورة مشتركة المعرفة للجميع أمكن أن يشارك العوام ومن لا علم له بصناعة الجدل والامتحان من عنده علم بهذه الصناعة، بخلاف الأمر فى صناعة الهندسة، أعنى أنه ليس يوجد أحد يشارك المهندس فى صناعته. لكنهم وإن شاركوا أهل هذه الصناعة، فمشاركتهم هى مشاركة يسيرة. ولما كانت صناعة الامتحان الجدلى تستعمل التبكيت العام المغالطى من جهة أنها

ليس لها موضوع محدود، وكانت هذه الصناعة، أعنى السوفسطائية، بهذه الحال، لأنه ليس لها جنس مخصوص، فبين أن معرفة المباكتات المغلطة تشترك فيها صناعة الامتحان الجدلى، وصناعة المشاغبية. ويتبين من هذا أنه ليس السوفسطائى الذى نت أهل هذه الصناعة هو الذى يبكت ويغلط المغالطة الخاصة بجنس جنس من أجناس العلوم البرهانية كما تقدم. وأيضاً فإن صناعة الجدل قد يجب عليها أن تعرف أصناف المباكتات المغلطة العامة ليتحفظ منها، كما يجب على صاحب صناعة صناعة من الصنائع الخاصة أن يعرف أصناف المغالطات التى فى تلك الصناعة. ولهذا كله وجب أن تشترك هاتان الصناعتان، أعنى الجدل والسفسطة. فأما من كم وجه وموضع تكون المباكتات السوفسطائية فقد تبين ذلك. لكن لما كان قصد هذه الصناعة ليس التبكيت المغالطى، بل وسائر تلك الأغراض التى قيلت، وكان أحد تلك الأغراض الذى هو ثان للغرض الذى

هو التبكيت هو سوق المخاطب إلى الكذب الشنيع، أو سوقه إلى الشك والحيرة، فقد ينبغى أن ننظر فى الأشياء التى بها تفعل هذه الصناعة هذا الفعل. وأول المواضع التى يقتدر بها السائل على سوق الكلام إلى التشنيع، هو ألا يجعل سؤاله للمخاطب على وضع محدود ويروم إبطاله بأن ينتج عن وضعه شنيعاً، كما يفعل السائل والمجيب فى الجدل، بل يجعل سؤاله لا على وضع محدود، بل كيف ما اتفق، وعلى غير وضع يتضمن المجيب نصرته. فإنه إذا كان الأمر بهذه الصفة، أمكن السائل أن يشنع فى وجود المقدمات التى يلزم عن وضعها شنيع ما، لأن المقدمات التى تفعل هذا، لا بالإضافة إلى وضع محدود، أغزر وأكثر من التى تفعلها بالإضافة إلى وضع محدود. وذلك أمر بين بنفسه، لأنه إذا رام أن ينتج الشنيع بحسب وضع محدود ضاق عليه وجود المقدمات التى تسوق إلى القول الشنيع بحسب ذلك الوضع، ولم يمكنه النقلة إلى مقدمات أخر، إذا لم يسلم الخصم تلك المقدمات التى بينها وبين الوضع مناسبة. ولذلك إذا سئل السائل المجيب عن أمثال هذه المقدمات كيف ما اتفق، أعنى التى تلزم عنها الشنعة، فتسلمها المجيب، أنتج عليه من حينه الشنيع. وإن امتنع من تسليمها - مثل أن يسئله موجبة، فيسلم سالبة؛ أو يسئله السالبة، فيسلم الموجبة - فإنه يمكن أن ينتقل معه فى السؤال إلى أن يعثر على ما يسوقه إلى التشنيع مما يسلمه. لكن المجيب فى هذه الحال هو أوضح عذراً، لأن له أن يقول إن هذا الشنيع لم يلزم مما سألت عنه أنت، وإنما هو شىء وقع فى أثناء القول، ولكن لا ينفك بهذا من أنه قد سلم شنيعاً، أو ما يلزم عنه شنيع. لأن

الموضع الذى من شأنه أن يسوق إلى الشنيع هو ألا يكون السؤال أو الجواب على وضع محدود. فمتى لم يشعر المجيب بتغليط هذا الموضع، ولم يتحفظ منه، تم عليه السوق إلى الشنيع، وإن تعسر فى موافقة السائل فى كثير مما يسئله. وقد تسهل موافقة المجيب للسائل إذا استعسر عليه بأن يخرج سؤاله مخرج سؤال المتعلم للمعلم، وهو مع هذا يضمر الغلبة، كما قيل فى كتاب الجدل. لكن إنما يكون هذا نافعاً فى بعض المواضع، دون بعض، على ما قيل هنالك. فإذن ملاك الأمر فى تبصير الكاذب الشنيع الذى يلحق من هذا الموضع والتحفظ منه إنما هو الشعور به، أعنى بهذا الموضع.

وموضع ثان: وهو أن يعمد إلى الأمور الشنيعة التى فى جنس جنس من أجناس العلوم فيحصيها وتكون عنده عتيدة. فإذا خاطب بعض من هو من أهل تلك الصناعة، ألزمه تلك الأمور الشنيعة التى فى صناعته. وكذلك أيضاً يجب عليه أن يحصى ما هو شنيع عند أمة أمة، أو عند الأ كثر، فيجد السبيل بذلك إلى الشنيع على الخصم. وأصل هذا كله أن يتعمد الشنيع الذى يخص تلك الأمة الذى المخاطب منها، أو أهل تلك الصناعة الذى المخاطب منها. والنقض الملائم لهذه المواضع الذى يبصر الكذب الذى فيها أولاً هو أن يعرف المجيب الخصم أن ما ألزمه من الشنيع أنه ليس يلزم مما سلمه. وإنما يمكن أن يفعل ذلك إذا أخذ السائل ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة. وأما متى لم يكن أخذ علة ما ليس بعلة، فليس يمكنه مناقضته.

لكن للمجيب بعد ذلك أن يتأمل ذلك الشنيع هل هو مما هو شنيع عند القول به، أو مما هو شنيع عبد الطبع. فإن كثيراً ما تتقابل المحمودات فى القول مع المحمودات بالطبع. لأن الجمهور يقولون كثيراً أحسن ما يكون من القول الذى ينحو نحو الجميل، وأعمالهم مصروفة إلى الأمور النافعة التى ليست بجميلة، مثل ما يقولون كثيراً: إن الموت مع صلاح الحال أفضل من الحياة مع الشر؛ وإنه أن يكون المرء مع العدل محتاجاً آثر من أن يكون غنياً بالجور، وهم مع هذا يؤثرون الحياة مع الشر، والغنى مع الجور. فيجب علينا متى ألزمنا الشنيع الذى بحسب القول أن نقابله بأنه محمود عند الطبع؛ وإن ألزمنا الشنيع بحسب الطبع قابلنا ذلك بأنه محمود بحسب الاعتقاد والقول. وقد يوجد هاهنا موضع واسع كثير المنفعة فى مقاومة هذا الجنس من القول: وهو أن المحمودات عند الشريعة كثيراً ما تضادها المحمودات عند الطبيعة. فينبغى للذى يشنع عليه بمقابل المحمود ى الشريعة أن يقابل ذلك بأنه

محمود عند الطبيعة. ومن شنع عليه بالمقابل المحمود عند الطبيعة أن يقابل ذلك بأنه محمود عند الشريعة. فإنه كثيراً ما تتضاد المحمودات بالطبع مع المحمودات بالشرع، فتنقض كل واحدة منهما من حمد صاحبتها. لكن المحمودات بالطبع هى محمودات من قبل صدقها، والتى بالشرع هى محمودات من قبل أنها المعمول بها عند الأ كثر، أى المشهور.

فقد تبين أنه كما أن لهؤلاء أن يناقضوا الأمور الشنيعة التى ينتجها عليهم التقابل من هذه المواضع، كذلك للسائلين أن يضطروا المجيب من المواضع التى ذكرناها، إما إلى التبكيت، وإما إلى الإقرار بالشنيع. وقد يكون من مفردات المسائل ما يتفق فيها أن يلزم السائل المجيب الشنيع بأى المتناقضين أجاب. والمواضع التى تفعل هذا هى التى تسوق المخاطب إلى الشك والحيرة، وهو الغرض الثالث من أغراض السوفسطائيين، مثل قول القائل: أىّ ينبغى أن نطيع أكثر: الحكماء أم الآباء؟ فإن قيل) الآباء (، قيل فمخالفة ما تقتضيه الحكمة واجبة. وإن قيل) الحكماء (، قيل فعصيان الوالدين إذن واجب. وكذلك هل ينبغى أن نؤثر ماهو عدل أم ما هو نافع. ومثل هل أن تظلم آثر من أن تظلم، أم الأمر بالعكس. وبالجملة: فإن هذا النحو من الحيرة يلحق جميع الأشياء التى تتضاد فيها آراء الحكماء مع آراء الجمهور

والأ كثر. مثال ذلك: أن الحكماء يرون أن الملوك السعداء هم العدول، والجمهور يرون أن السعداء هم المظفرون. وقد يمكن أن يقال إن التضاد الذى فى هذا الجنس هو راجع إلى التضاد الذى يلفى بين المحمودة بالطبيعة والمحمودة بالسنة، لأن الذى عند الحكماء والذى عند الطبيعة هو محمود من أجل أنه صادق، والذى عند الشريعة وعند الأ كثر هو محمود من أجل أنه مشهور، وأن عليه الأ كثر. فمن هذه المواضع ومن أشباهها ينبغى أن يطلب وجود هذه المقدمات الشنيعة، وهى التى يسميها أرسطو) الناقصة الإقرار (.

فأما من أين يمكن صاحب هذه الصناعة أن يلجىء المتكلم إلى التبكيت، أو إلى الهذر والتشنيع عليه بذلك، وهو الغرض الرابع، فذلك يعرض للذين ليس عندهم فرق، ولا اختلاف، بين أن يؤتى بالشىء من حيث يدل عليه اسم مفرد، أو من حيث يدل عليه بذلك الاسم مع بعض ما يدل عليه ذلك الاسم: إما على طريق اللزوم، وإما على جهة التضمين، حتى يأتى مجموع ذلك فى صورة القول المركب. وذلك يعرض كثيراً فى المضافات وفى حدود الأشياء التى قوامها فى موضوع ما، ويؤخذ ذلك الموضوع جزء حدها، فيعرض من ذلك إما أن يبكته ويلزمه الإقرار بالقول الكاذب، وإما أن يهذر فى كلامه. مثال ذلك فى المضاف أن يقول: إن كان ما يدل عليه قولنا) ضعف (هو ما يدل عليه قولنا) ضعف النصف (، لأن الضعف إنما هو ضعف للنصف، وكان النصف ضعفاً، فالضعف ضعف. فإما أن يقول إن الضعف ليس هو ضعفاً للنصف، وإما أن يقول إن الضعف هو ضعف، وذلك هذر. فإن الجزء لا يكون جزءاً عن نفسه.

ومثل أن يقول: إن كانت الشهوة إنما هى شوق إلى اللذيذ، والشوق إلى اللذيذ شهوة، فالشهوة إذن شهوة. وإنما عرض هذا من قبل أن هذين من المضاف. فإن الضعف إنما هو ضعف لشىء، والشهوة شهوة لشىء. وكذلك يعرض فى أمثال الأشياء التى وجودها فى النسبة. وأما الأشياء التى تلجىء المخاطب إلى الهذر فى حدودها، فليست هى من المضافات، وإنما هى من ذوات الكيفيات، وذلك أن الموضوعات لهذه يأخذونها مرة مع الحدود، ومرة فى الحد، فيعرض من ذلك أن يكرر الشىء الواحد مرتين. مثال ذلك أنهم يقولون: إما ألا يكون الأنف الأفطس هو الأنف العميق، وإما أن يكون الأنف الأفطس هو الأنف العميق،

فيكون الأنف هو الأنف. وذلك هذر. وكذلك إما ألا يكون الفرد هو العدد الذى ليس ينقسم بقسمين متساويين، وإما أن يكون الفرد هو العدد الذى ليس ينقسم بقسمين متساويين، فيكون العدد هو العدد. وذلك هذر.

وربما لحق الاسم المفرد مثل هذا من غير أن يؤخذ مركباً، مثل قول القائل:) يا هذا، هل يدل الضعف على شىء (. فإن كان دالا، فإما أن يدل على شىء ليس هو ضعفا، وإما أن يدل على ضعف. لكن إن دل على ضعف، كان الضعف نفسه ضعفاً، وذلك هذر، وإن دل على غير ضعف، فالضعف ليس بضعف.

قال: وأما سوق المجيب إلى أن يتكلم بكلام يظن به أنه مستحيل الدلالة، من غير أن يكون كذلك، فإنما كانت أكثره، إلا اليسير منه، من الألفاظ المشتركة الأشكال للمذكر والمؤنث. وما ليس بمذكر ولا مؤنث. وهذا خاص بلسانهم. فإنه كانت لهم أشكال خاصة بالمذكر والمؤنث، وأشكال لما ليس بمذكر ولا مؤنث. وهذه ربما دل بها عندهم على المذكر والمؤنث. وهذا هو الغرض الخامس من أغراض السوفسطائيين. وينبغى أن نتأمل فى لساننا المواضع التى يعرض فيها مثل هذا العرض. فإنه يشبه أن يكون هذا مشتركاً لجميع الألسنة، وهو المسمى عندنا عياً. والعىّ منه ما هو عىّ بالحقيقة، وهو الكلام المستحيل المفهوم، ومنه ما هو عىّ فى الظن وهو الذى ينبغى أن يفحص هاهنا عن مواضعه. قال: فقد تبين من هذا القول أجناس المواضع المغلطة فى غر ض غرض من الأغراض الخمسة السوفسطائية، وأنواع تلك الأجناس. والذى يقى من تمام هذه المعرفة هى ثلاثة أشياء:

أحدها: أن يقال كيف ينبغى لمن يريد العمل بهذه المغلطة أن يجيد السؤال. فانه ليس الفرق بين فعل هذه المواضع، إذا أجيد العمل بها، وإذا لم يجد، بيسير، وسواء كان ممتحناً أو مغالطياً. والثانى: كيف ينبغى أيضاً أن يجيد الجواب من كان مزمعاً أن يتحفظ من هذه المغالطات. والثالث: كيف ينبغى أن ينقص كل واحد من تلك المواضع الثلاثة عشر. فأما أولا: فإن التغليط يكون أبلغ إذا قصد تطويل الكلام عند استعمال تلك المواضع. فإنه يكون ما فيها من التغليط أخفى على السامع. وثانياً: أن يسئل مستعجلا، لا متثبطاً. فإنه إذا استعجل فى القول، كان التغليط الذى فيه أخفى وأحرى ألا يوقف عليه. وثالثاً: أن يغضب المجيب. فإنه إذا غضب، اختلط فهمه، فلم يفهم شيئاً. والغضب إنما يثيره أكثر ذلك أن يصرح ويعلن قصوره وقلة فهمه.

ومنها: أن يسئل عن المقدمات التى يروم المغالطة بها مبدلة الترتيب من موضعها من القياس، مخلوطة بالمقدمات المشهورة التى يلزم عنها نقض ما يروم إنتاجه على المجيب. فإن هذا الفعل مما يخفيها، فلا يفطن لها، فتسلم. وذلك أنه إن كانت المقدمات التى يروم المغالطة بها شنيعة غير محمودة الصدق، استترت بخلطها بالمشهورات. وإن لم تكن شنيعة، فقد يعلم من أى يروم تسليم الشنيع وحده، إذ كان مفرداً، إذ كان عسيراً ما يسلم. ومثال ذلك: من فعلة من يروم استعمال السموم بخلطها بالأغذية لتخفى. وأيضاً فإنه يخفى على المجيب من أيها يروم الإنتاج، فيتحير فى معرفة ما يسلم منها مما ليس يسلم.

ومنها: أن يسئل عن نقيض الشىء الذى يروم تسليمه، ليكون المجيب، إذا لم يسلم له ذلك وتعسر عليه، فقد سلم له الشىء الذى قصد تسليمه منه. ومنها: أن يسئل مصرحاً بطرفى النقيض كأنه لا يبالى بأيهما أجاب المجيب، فإنه بهذا الفعل يخفى على المجيب أى النقيضين يقصد تسليمه، فربما سلم مقصوده إذا لم يعلمه. ومنها: أنه إذا استعمل الاستقراء ألا يضع وجود الحكم لجزئيات الشىء الكلى الذى يروم تصحيحه على جهة السؤال، بل يضع جميع الجزئيات على أن وجود المحمول أمر واضح لها، وأنه مما لا يحتاج إلى سؤال فى وجود ذلك المحمول لجزئيات ذلك الشىء الذى يرام إثبات المحمول بكليته بالاستقراء. وإذا أتى بجملة تلك الجزئيات كأنه قد سلمها المجيب، فليتبع ذلك بتصحيح الكلية وهو وجود ذلك المحمول لكل ذلك الموضوع، من غير أن يسئل عن لزوم الكلية

من قبل وجود المحمول لجزئيات الموضوع. فإنه إذا فعل ذلك، ربما تعسر المجيب عليه، فلم ينتفع بالاستقراء الذى وضعه. وإذا كان ذلك الكلى له اسم، وخاف - إذا صرح باسمه - ألا يسلم له وجود الكلية، فينبغى أن ينقل الحكم من الجزئيات إلى الشبيه الموجود لها، لا إلى اسم ذلك الشىء الكلى المحيط بالجزئيات. واستعمال المثالات المتشابهة بالجملة يضلل كثيراً، لأنه ينقل الحكم من بعضها إلى بعض.

ومنها: أن يسئل عما يظن به أنه طرفا ضد ليس بينهما متوسط، وليس الأمر كذلك. فإذا رفع له المجيب الشنيع منهما إلى جنب المحمود، سلم له المحمود، وذلك أن الشنيع منهما يظهر قبحه كثيراً عندما يوضع بجنب الضد الآخر. وكذلك المحمود يظهر حمده أكثر. مثل أن يسئل: هل ينبغى أن يطيع الآباء فى كل شىء، أو يعصيهم فى كل شىء؟ فإنه إذا قال: ليس ينبغى أن يعصى الآباء فى كل شىء، ألزمه عند ذلك أنه يجب أن يطيع الآباء فى كل شىء. وكذلك إذا سأل: هل المحرم الشراب الكثير، أم القليل؟ فأجاب هو بأن الكثير محرم، ألزمه من ذلك أن يكون القليل غير محرم. وأكثر ما يعرض التغليط فى السؤال ويظن به أنه قد انعقد التغليط، وقد ثبت، بأن يسئلوا عن

أمور ليس بينها اتصال وبين النتيجة. فإذا سلمت لهم، أتوا بالنتيجة كأنها قد لزمت عن تلك الأمور، ويوهمون أن ذلك شىء قد فرغ منه، وأن الخصم قد بكت وانقطع. فإن هذا لا يقدر على حله ومقاومتهم فيه إلا العارف بطبيعة القياس، القليل الانفعال عن مباهتتهم ومجاهرتهم بأنهم قد ألفوا القياس من غير أن يؤلفوه. وإنما كانت الحيلة معهم فى هذا الموضع عسيرة إلا على الحكماء، لأن أكثر السامعين لا يعرفون طبيعة القياس. ومن حيل السائلين أنهم إذا سألوا عن مقدمة كاذبة ليبكت منها المجيب إذا سلمها، اضطروه إما أن يسلمها ويسوقوه إلى الشنيع، أو إلى أن يسلم المقدمة أو القول المركب من المقدمات بحال يمكن فيها أن يحرف فيلزم عنها التبكيت. وربما نفعهم فى هذا استعمال الاستدراجات التى تستعمل فى الخطابة مع السامعين، أعنى ليسلموا الشىء بالجهة التى بها يظن أنهم قد سلموا المطلوب

منهم، فيحرفونه، ويعقدون عليهم التبكيت، مثل أن يسلموا الشىء مطلقاً، فيحرفونه ويضعونه بشرط ما. ومن حيل المجيب أنه إذا لزمه التبكيت، أو قارب أن يلزمه، أوهم أنه سائل، وأنه ليس بمجيب. وهذا كثيراً ما يفعله الناس بالطبع عند المناظرة التى يقصد بها الغلبة. ومن الحيل للسائل أنه إذا سأل عن مقدمات كثيرة، فسلم المجيب بعضها ولم يسلم بعضاً، وكان ما لم يسلم منها يلزم عنها التبكيت لو سلمها، أن يأتى

بجميع تلك المقدمات دفعة ويردفها بالنتيجة. فإن المجيب قد يعرض له أن يتحير، لأنه كثيراً ما ينسى التى سلم من التى لم يسلم. ومن الحيل لهم أن يخلطوا فى المقدمات التى تنتج التبكيت ما ليس له غناء فى إنتاج التبكيت، فتخفى لذلك المقدمات الكاذبة على المجيب. لكن المجيب إذا كان له شعور، لم يكن هذا معه ومنه من ذلك. فمن الحيلة للسائل أن يتطرق إلى إدخال ما ليس له غناء فى إنتاج النتيجة بين ما له فى ذلك غناء بوصلة تقيم عذره فى ذلك، مثل أن يذكر الأمور اللاحقة لتلك المقدمة، والأمور المتقدمة عليها، والمقارنة لها.

ومن الحيلة للسائل إذا أعياه ان ينتج عليه الكاذب الذى يقصد إنتاجه أن ينصرف إلى إبطال نقيضه وينقل الكلام إليه، إن كان يروم من أول الأمر إثبات شىء معين، أو أن ينصرف إلى إثبات نقيضه، إن كان يروم إبطال وضع موجب. ومن الحيلة لهم أنهم ربما تركوا السؤال عن المقدمات، وأتوا بالقياس مع النتيجة كأنه شىء قد سلمه المجيب. فإن حيرة المجيب تكون حينئذ أشد، لأنه ينبغى له حينئذ أن ينظر فى جميع مقدمات القياس وفى شكله، فيرد على ذهنه أكثر من شىء واحد مما يجب أن ينظر فيه، فربما تحير، أو خفى عليه الجزء الكاذب بما هنالك من الجزء الصادق.

فقد تبين من هذا كم هى المواضع المغلطة النافعة فى أغراض المشاغبين الخمسة، وكيف ينبغى أن يسئل السائل بها، وهما الجزءان الأولان من هذا الكتاب بحسب غرض أرسطو. والذى بقى من ذلك أمران: أحدهما: كيف يجيب المجيب؟. والثانى: كيف ينقض تلك المواضع الثلاثة عشر؟. وكلا هذين الأمرين نافعان عند الحكماء بالذات، ولذلك كان الكلام فى هذين الجزأين كأنه من غير هذه الصناعة، بل من صناعة الجدل، أو من صناعة - كما يقول أبو نصر - متوسطة بين الجدلية والسوفسطائية. وأما الجزءان الآخران فينفعان الحكماء بالعرض من جهة أنهما خاصان بهذه الصناعة. وانتفاعهم بها يكون من جهة أنها تفيدهم التحفظ منها فقط، لأن من علم الشر، كان أحرى ألا يقع فيه. وربما نفعهم بالذات فى استعمال المخاطبة الامتحانية العامة، على ما تقدم.

فأول وصايا المجيب: أنه إذا سأله السائل عن مقدمة مشتركة الاسم فينبغى أن يقسم ذلك الاسم إلى جميع المعانى التى يقال عليها، ويعرفه أى من تلك المعانى هو الصادق، ومن غير الصادق. ولذلك يجب أن تكون له قدرة على تقسيم الاسم المشترك. وقد قيل فى القوانين التى بها يمكن ذلك فى كتاب الجدل. وثانياً: أن يتأمل الأمر فى نفسه، وحينئذ يجاوب. ولذلك يجب أن تكون له قدرة على تمييز الشىء، إذا فكر مع نفسه. لأن كثيراً من الناس يغلط فى الشىء إذا نظر فيه مع نفسه، ولا يغلط، إذا نظر فى الشىء مع غيره، وذلك لحسن ظنه بنفسه. وأكثر ما يعرض له ذلك من قبل المدح. والوصية الثالثة: ألا يطول الكلام مع السائل، بل يبادر إلى قطعه سريعاً من غير أن يتوانى فى مراجعته. فإنه إذا توانى فى ذلك وطول معه الكلام، لقلة عثوره سريعاً على القبح والغلط الذى فى قوله، عرض له، إذا انقطع السائل، أن يظن أن انقطاعه لم يكن من قبل أن ما رام إثباته كذب، بل من قبل ضعفه. وهكذا، فيما أحسب، يجب أن يفهم هذا الوضع.

وليس يحصل هذا المعنى للمجيب، أعنى أن يسرع فى الجواب بإظهار ما فيه من الضلالة، بمعرفة المواضع المغلطة التى ذكرت فى هذا الكتاب، وبمعرفة الوصايا التى تخص المجيب والقوانين التى أعطيت هاهنا فى نقض المواضع المغلطة، دون أن يكون مع ذلك قد ارتاض فى استعمالها كثيراً، حتى حصلت له الملكة التى بها يقدر أن يفعل بسرعة. فإنه كما أن السرعة والبطء فى جميع الصنائع إنما تحصل من قبل الملكة الحاصلة عن الارتياض، لا من قبل معرفة أجزاء تلك الصناعة فقط، كذلك الأمر فى العمل عن هذه القوانين. ومثال ذلك: أن إجادة فعل الكتابة وإتقانه ليس يحصل عن معرفة الحروف، وإنما يحصل عن الارتياض التام فى تصور الحروف.

قال: وكما أن فى صناعة الجدل قد يتعسر على السائل النقيض والإبطال، كذلك قد يعرض مثل ذلك فى المباكتات السوفسطائية. وذلك يعرض إذا لزم عن المقدمات الكاذبة التى وضعها المشاغب نتيجة صادقة، وأوهم أن اللازم عنها نتيجة أخرى وهى كاذبة. فإنه إذا كان القول السوفسطائى بهذه الصفة عسر على المجيب نقضه بالحق، وتعريف كذب المقدمات التى وضع فيه المشاغب، لأمرين: أحدهما: إنْ قَصَدَ نقض تلك النتيجة الكاذبة بتعريف ما فى تلك المقدمات من الكذب، كان ذلك نقضاً سوفسطائياً أو مشاغبياً، لأن تلك النتيجة لم تلزم عن تلك المقدمات. والثانى: لأن لا يظن به أنه إنما يقصد بذلك إبطال النتيجة الصادقة، وأنه يرى أن لا يكون عن المقدمات الكاذبة إلا نتيجة كاذبة. فلذلك يجب على المجيب فى هذه الحال ألا يتعرض لنقض القياس بأن يعرف الكذب الذى فى مقدماته

من قبل اشتراك الاسم، أو من قبل المشاغبة، أو من غير ذلك من الأشياء المغلطة. ولا يظن به أنه يتعرض ذلك. لكن يرد عليه بأن يقول له إن هذه النتيجة ليست هى النتيجة الصادقة التى لزمت عن هذا القياس، وإنما تشبهها، أو ليست بلازمة أصلا عنه. قال: وقد يجوز للمجيب أن يسلم المقدمات المشتركة الأسماء إلى أن ينتج إلى أن ينتج السائل عليه النتيجة الكاذبة، فيقول له: إن تلك المقدمات التى سلمتها إنما أردت منها كذا، دون معنى كذا. والمعنى الذى أنكره الآن منها ما سلمته فقط. وإنما كان له هذا الفعل لأنه ليس بمعروف، ولا بين، أنه قد سلم المعنى الكاذب الذى هو أحد ما يدل عليه بذلك اللفظ المشترك من قبل تسليمه اللفظ المشترك. وربما كان له هذا أنفع لمكان الغلط، لأنه لو قسم ما يدل عليه الاسم

المشترك، أو اللفظ المشاغب، ثم غلط فسلم واحداً منها على أنه صادق، وهو كاذب، لم يكن له أن يرجع فى ذلك. فإذن من فعل هذ الفعل من المجيبين وأجاب فى الأسماء المشتركة والألفاظ المشاغبية بنعم أو لا، فقد فعل فعلا يجوز له. لكن لما كان من لم يعلم هذا الذى قلنا قد يظن أنه إذا سلم الاسم المشترك أنه قد سلم جميع المعانى التى يقال عليها ذلك الاسم. وإن كان لا يلزم ذلك. فربما مانعه من التقسيم بعد إنتاج النتيجة، ورأى أنه قد بكته فيحتاج معه إلى بيان أنه لم يبكته. فلذلك الأحزم له، أعنى للمجيب، إذا سأل السوفسطائى باسم مشترك، أو لفظ مشاغبى، أن يقسم المعانى الكثيرة التى يدل عليها ذلك اللفظ، ويجيب فى واحد واحد بنعم أو لا. وإذا تعسر السائل، وظن أنه قد يكون تبكيت من قبل ذلك اللفظ المشترك الذى جاء به، أو من قبل المشاغبة، وأنكر أن يكون مشتركا، فالحيلة المخلصة معه أن يضع اسما لذلك المعنى الذى يزعم المجيب أنه كاذب، وأنه غير المعنى الصادق الذى يدل عليه ذلك اللفظ. قال: وما كان يرى بعض الناس من أن الحيلة فى هذا أن يقرن لفظ) هذا (إلى الاسم، فإن) هذا (إن كان إشارة لما فى النفس من ذلك المعنى، فتلك الإشارة مشتركة. لأن جميع تلك المعانى التى يدل عليها اللفظ هى حاضرة فى الذهن. إلا أن تكون لفظة) هذا (يقرنها بمشار إليه محسوس. وإذا كان ذلك، فقد استغنى عن اللفظ والتسمية بالإشارة.

قال: وكذلك إذا كان السؤال مرسلا، وهو إنما يصدق بتفصيل، فليس ينبغى أن يجاب بنعم أو لا. حتى إذا تم التبكيت، قال: إنما أردت بقول نعم ذلك المعنى المقيد، لا المطلق، فإن ما يلحق فى ذلك إذا أجاب عن الاسم المشترك بنعم أو لا، دون أن يقسم المعانى التى يقال عليها الاسم المشترك، هو بعينه يلحق فى هذا، وفى جميع المواضع التى إذا قسم لم يعرض له مباكتة، ولا يظن أنه عرضت له. فمن أجل أنه معروف بنفسه، إذا قسم المجيب المشاغبة، وسلم منها ما سلم، هل بكت أو لم يبكت. فهو إذا أجاب عن المرسلة بقول مطلق فهو مخطىء، لأنه يعرض نفسه أن يشك فيه هل بكت أم لا، وإن لم يبكت فى الحقيقة. وكثيراً ما يعرض للمجيب أن يتشاغل عن القسمة لكثرة المعانى التى يتضمن ذلك القول المرسل، ولما يعرض له عند ذلك من تعسر السائل وقلة موافقته على التقسيم الذى استعمله فيه، فيتساهل ويجيب فيها بجواب مطلق. فإذا عقد السائل عليه التبكيت، فشرع المجيب أن يفصل له ذلك القول، ويعرفه

أنه لا يلزمه من ذلك ما ظن أنه يلزمه، لم يوافقه السائل على ذلك، إذا لم يعلم أن الغلط دخل من ذلك الموضع الذى عرفه به المجيب، ولا وافقه على أن ذلك الموضع مغلط. فيعرض فى المجيب شك هل بكت أو لم يبكت. فلذلك أيضاً ليس ينبغى أن يتشاغل عن القسمة فى المواضع التى يدخل الخلل فيها من قبل إغفال القسمة. وكما أنه ليس يجب أن يجيب عن مسألتين بجواب واحد، فكذلك ليس يجب أن يجيب أحد عن الاسم المشترك بجواب واحد. فإنه لا فرق بين أن يجاب عن مسائل كثيرة بجواب واحد، كانت تلك المسائل يدل عليها بلفظ واحد أو بالفاظ كثيرة. فإن الاسم المشترك هو سؤال عن مسائل كثيرة بلفظ واحد.

وكذلك من لم يجب عن مسئلتين فما فوقها بجواب واحد واعتاد ذلك فليس يقع له غلط من قبل الاسم المشترك والمشاغبة اللفظية. ولا أيضاً يجب على المجيب أن يجيب عن الاسم المشترك بجواب واحد، إذا كانت جميع المعانى التى تقال عليها تلك القضية المشتركة صادقة. فإنه لو كلف المجيب أن يجيب عن الجوابين فما فوقهما بجواب واحد، إذا كانت كلها تشترك فى نعم أو لا، لكلف إذا سئل عن ألف مسئلة أو ألوف من المسائل ألا يجيب عنها حتى يتأملها. فإن اشترك فى نعم أو لا، أجاب فيها بجواب واحد. وإن لم تشترك، فصل. وهذا شىء معلوم أنه لا يكلفه المجيب. فلذلك ليس يجب على المجيب أن يجيب عن الاسم المشترك بجواب واحد، ولو كانت جميع القضايا المعنوية التى يتضمنها الاسم المشترك كلها صادقة. وإنما يجب عليه أن يجيب عما سئل. وهو لم يسئل إلا عن واحد. لأنه ليس فى ضمير السائل، إذا سأل بالاسم المشترك، إلا معنى واحد. ولو كان فى ضمير السائل جميع المعانى التى يتضمنها الاسم المشترك، لكان قد كلف المجيب أن يجيب بجواب واحد عن مسائل كثيرة.

قال: ولأن من المشهور أنه قد لا تكون هنالك مباكتة، ويظن أن هناك مباكتة، وأنه قد لا يكون هنالك نقيض، ويظن أن هنالك نقيضاً، وأنه يجب أن يراجع هذا الظن، فمتى سلم المجيب جميع ما يسلمه للسائل على أنه يظن ذلك ظناً، كان له، إذا بكته، أن يراجع فيما سلم، ويقول: له إنما سلمت تلك المقدمات، وأنا أظنها، رجاء أن تكون من جنس المضنونة الصادقة. فأما الآن فقد ظهر أنها من جنس المضنونة الكاذبة. ومتى فعل المجيب هذا. لم تتم عليه مباكتة، ولا أنتج الخصم عليه شنيعاً. ولذلك ما يجب عليه أكثر ذلك، إذا سلم مقدمة ناقصة الحمد، أن يسلمها على جهة الظن. فإنه ليس يقدر السائل أن يشنع عليه، إذا كان تسليمه لها على جهة الظن.

قال: فأما إذا سأل السائل على جهة المصادرة، فكان ذلك بيناً ومعروفاً عند المجيب، فينبغى أن يبادر ويعرفه أن ذلك الذى وضع هو مطلوبه، وإن خفى ذلك عليه حتى ينتج المطلوب نفسه. وأما الآن فقد ظهر أنه المطلوب. فأنت، يا هذا، لم تؤلف قياساً، ولا عملت شيئاً. وهبك أنى سهوت فسلمت ذلك، فما الذى تنتفع أنت به، إذ قد ظهر أنك لم تعمل شيئاً، ولا ألفت قياساً. فإن استعمل المصادر مكان موضوع المطلوب جزئيات على طريق الاستقراء، إلا أنه لم يأخذ كلى ذلك الموضوع من حيث يدل عليه اسمه، حتى يقول مثلا: إن كل حيوان يحرك فكه الاسفل، لأن جميع الحيوانات هكذا هى، بل قال مثلا إن كل حيوان يحرك فكه الاسفل، لأن الإنسان والقرد وما أشبهه من سائر الحيوانات تحرك فكها الاسفل، فللمجيب حينئذ إن سلم له هذا ثم أنتج عليه: أن كل حيوان يحرك فكه الاسفل، أن يقول له: لم أرد بتسليمى أن حكم ما أشبه الإنسان والقرد فى ذلك هو حكم جميع الحيوانات، لأنه لو كان ذلك، لكنت

سلمت المطلوب بعينه، بل إنما أردت نوع كذا من الشبه، ولم أرد نوع كذا.

قال: وأما الأسماء التى تقال حقيقة فى موضع، ومجازاً فى موضع آخر، فإنه قد يعرض فيها مغالطة. وذلك أن صدق دلالة الاسم فى موضع الحقيقة، وارتفاع الاشتراك عنه يوهم صدقه فى موضع الاستعارة وارتفاع الاشتراك عنه. مثال ذلك أن يقول قائل: ماهو لشىء فهو ملك له، لأن ما هو لزيد فهو ملك له، والإنسان هو للحيوان، فالإنسان ملك للحيوان. فلذلك يجب على المجيب فى مثل هذا الموضع ألا يجيب عن هذه القضية مرسلة حتى يقسم، أعنى قول القائل:) إن ما هو لشىء، فهو ملك له

(. قال: وليس ينتفع المصادرون على مقابل المطلوب، ولا بالجملة: السائل عن النقائض والمتقابلات التى لا يكون الجزء الصادق منها معلوماً بنفسه، أو يكون معلوماً بشرط، فأهمل فى السؤال أخذ ذلك الشرط، لأنه إذا كان الجهل بالمتقابلين على السواء، فليس يسلم المجيب له النقيض الذى رام السائل أن يتسلمه منه، لأنه لا يظن به الصدق أكثر من مقابله. وكذلك أيضاً يعرض متى لم يكن واحد من المتقابلين مشهور الصدق ولا محموداً دون نقيضه، بل يكون كل واحد من الطرفين فى الشهرة والحمد على السواء، مثل قولنا: هل النفس مائتة، أو غير مائتة؟ فإن القوم الذين يقولون إنها مائتة مساوون فى الشهرة للقوم الذين يقولون إنها غير مائتة. ولذلك ليس يغلب على ظن السامع أحد هذين النقيضين بحسب الشهرة، فيسلمه.

وأما متى اتفق أن يكون أحد النقيضين معلوم الصدق بنفسه، أو معلوم الحمد دون نقيضه، أو اجتمع فيه الأمران جميعاً، فإنه قد ينتفع السائل بالمصادرة على مثل هذا. وذلك أن الجزء الصادق، لمكان شهرته فى الحمد، أو لمكان كونه صادقاً، معروف الصدق بنفسه، قد يغلط المجيب فيسلمه، ولا سيما إذا بدل المصادر اسم أحد جزأى المطلوب عند السؤال، أو اسم أحد جزأى مقابله، أعنى المحمول أو الموضوع، باسم آخر، ولم يأت بالمطلوب نفسه، أو بمقابله، إن كانت المصادرة على مقابله. لكن إذا سها المجيب فى مثل هذا فسلمه، فله أن يقول للسائل: إنك لم تصنع مبكتاً،، ولا عملت قياساً، وإن كنت قد سلمت أنا ذلك لك على ما تقدم.

القول في النقض

القول في النقض قال: وينبغي للمجيب في جميع المسائل أن يتقدم فيرد القول الكاذب، ويعرف مع رده له من أي جهة عرض له الكذب. فإن هذا هو النقض المستقيم. ولما كان الكذب يعرض في القيا س إما من جهة مقدماته، يعني أن تكون كلتاهما كاذبتين، أو تكون إحداهما هي الكاذبة، وإما من جهة تأليفه او شكله أو من كليهما معاً، فالنقيض المستقيم إنما يتأتي للمجيب إذا قسم القول السوفسطائي إلى كل واحد من هذين القسمين، ونظر في أيهما عرض الكذب. فإن كان الكذب في كليهما عرف به. وهذا النوع من القياس السوفسطائي الذي يمكن نقضه بوجهين، فهو أسهل، أعني الفاسد الصورة والمادة. وإن كان في أحدهما عرف به أيضاً. أما إن كان في الشكل، عرف أنه غير منتج. وأما في المقدمات، فبأن يرفع ما وضع السائل. وهذان النوعان من القياس إنما يمكن نقضهما بجهة واحدة. وإذا كان هذا هكذا،

فينبغي لمن أراد نقض الأقاويل القياسية أن ينظر أولاً هل ذلك القول قياس حقيقي، أو يظن أنه قياس، وليس بقياس، وذلك بالنظر إلى شكله، وإلى مقدماته. فإن لم يبن ذلك فيهما، أعني هل هي صادقة، أو كاذبة. فإن كانت كاذبة، قسم القياس إلى مادته وصورته، ونظر في الكاذب منهما، إذ قد تبين أن النتيجة الكاذبة تكون ولا بد عن كذب في القياس إما من قبل صورته، وإما من قبل مادته. وفرق كبير بين سهولة تبيين الكذب في مقدمات القياس في وقت السؤال بها وبين تبيينه في النتيجة. وذلك أن تبيينه في النتيجة سهل، لأنه ليس هنالك سؤال يضطرنا إلى الجواب على البديهة. ةتبيين الشيء مع الفكرة أسهل من تبيينه على البديهة.

قال: واما التبكيتات التي تعرض من قبل اشتراك الاسم ومن قبل المشاغبة اللفظية، فإن منها ما يعرض الغلط فيه، أو المغالطة، من قبل الاسم المشترك المأخوذ في المقدمات، ومنها ما يعرض من قبل الاسم المشترك المأخوذ في النتيجة، أعني إذا لم يفهم أنه يدل على كثير. مثال ذلك أن من سلم أن الساكت يتكلم، والمتكلم غير ساكت، وظن أنه قد لزمه التبكيت، وهو أن أن الساكت غير ساكت، فليس سبب تبكيته في هذا هو جهله بالاشتراك الذي في المقدمة القائلة إن الساكت يتكلم، وذلك أنه إنما فهم منها المعنى الصادق فسلمه، وهو أن الساكت له قدرة على الكلام؛ ولا أيضاً سبب تبكيته جهله بالاشتراك الذي في المقدمة الثانية وهو أن المتكلم غير ساكت. فإنه إنما فهم منها المعنى الصادق فسلمه. ولكن سبب تبكيته هو جهله بالاشتراك الذي في النتيجة وهو أن الساكت غير ساكت. فإنه لو شعر بالاشتراك الذي في هذه النتيجة، لقسم، فقال: الساكت قد يصدق عليه أنه غير ساكت من جهة أن له قدرة على أن لا يسكت وأن يتكلم فيما بعد. وأما من سأل فقال: أليس ما يعلم الإنسان ليس بعلم، وما ليس يعلم فليس له علم بشيء، فالإنسان إذن ليس له علم بما يعلم، فتم على المجيب هذا التبكيت بأن سلم له هذه المقدمات. فإنما عرض له التبكيت من قبل الاشتراك

الذي في تأليف المقدمة القائلة: إن ما يعلم الإنسان ليس يعلم. وذلك أن هذه المقدمة إنما يسلمها من لم يشعر بأن المضمر الذي في) يعلم (مرة يعود على المعلوم، ومرة على العالم. فإذن سبب التبكيت هاهنا إنما هو الاشتراك الذي في المقدمة، لا الاشتراك الذي في النتيجة، بخلاف الموضع الأول. قال: وهذه المسائل التي يكون التبكيت فيها من قبل الكثرة التي يدل عليها الاسم المشترك أو اللفظ المشاغبي إنما ينعقد التبكيت فيه متى كان القول نفسه يلزم عنه نقيضه.

وليس يعرض هذا في قياس الخلف في كل المسائل. وذلك أن قياس الخلف منه ما يكون الكاذب اللازم عنه نقيض ما وضع فيه، مثل أن يلزم من وضعنا أن الأعمى يبصر أن يكون الأعمى ليس بأعمى. ومنه ما يكون الكاذب فيه نقيضاً لمقدمة معلومة، إلا أنها لم توضع جزء قياس، مثل أن يلزم عن قولنا: إن الأعمى يتخيل الألوان. وذلك كذب. إلا أنه لم يرفع منه الذي وضعنا. قال: والنقض لهذه المباكتات التي تكون من قبل اشتراك الاسم إما في المقدمات كما قلنا، وإما في النتيجة، فيكون بأن يتقدم النجيب عند السؤال فيقسم الاسم المشترك إلى أنحائه، ويعرف الصادق منها من غير الصادق بأن يسمى ذلك، فليزد الشرط الذي به تكون المقدمة صادقة على جهة الاستثناء، مثل إن سأله سائل: أليس للساكت أن يتكلم، فقال: نعم، له أن يتكلم، فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك. فيقول: لكن لا في حين سكوته. وكذلك إن أجاب بأنه ليس يتكلم، تدارك ذلك. فقال: لكن يتكلم في المستقبل. وكذلك إذا سئل:

أليس كل من علم شيئاً فليس يجهله. فقال: نعم. فإنه يجب عليه أن يزيد، فيقول: من الجهة التي علمه. فإذا فعل ذلك، لم تتم عليه المغالطة المشهورة التي كان القدماء يستعملونها. فإنهم كانوا يسئلون، أليس من علم شيئاً من الأشياء فهو لا يجهله أصلا؟ وأنت تعلم أن كل اثنين عدد زوج وكنت لا تعلم هذين الاثنين اللذين خبأت لك، قبل أن أظهرها لك. فأنت إذن تعلم الشيء وتجهله معاً. وإنما قلنا إنه إذا اشترط من جهة ما علمه أنه ليس تلزمه هذه المغالطة، لأنه يقول: علمتها بالعلم الكلي، ولم أعلمها بالعلم الجزئي. فإذن الذي علمت ليس الذي جهلت.

قال: ومن يعرف أن التغليط قد يعرض من المشاغبة التي تكون من قبل القسمة والتركيب، فقد يعرف أيضاً كيف النقض لهذه المغالطة، بأن يقول: إنه إذا قسمت، دلت على كذا؛ وإذا ركبت، دلت على كذا؛ وإن الدلالتين مختلفتان. وليس يلزم إذا قسمت وركبت أن تدل على شىء واحد. وقد لا يمتنع أن يجتمع فى اللفظ المشاغبة والمراء من قبل الانتقال من القسمة إلى التركيب، ومن قبل ما يعرض فى التركيب نفسه من الاشتراك، مثل قول القائل: أليس تعلم أن هذا يضرب؟ فإذا قال: نعم، قال: وبهذا كان يضرب؟ قال: نعم، قال فإذن أنت تعلم أن هذا كان يضرب، وبهذا كان يضرب، فإذن ما تعلم أن به يضرب فبذاك يضرب، والذى تعلم أن به يضرب هو علمك، فإذن بعلمك كان يضرب.

فإن هذا القول قد دخلته المغالطة من وجهين: أحدهما: أنه ما كان صادقاً فيه مفرداً لم يصدق مركباً. وذلك أن علمه بأن هذا يضرب كان صادقاً. وكونه أيضاً يضرب بهذا كان صادقاً، ولم يكن صادقاً أن يعلم أنه يضرب بهذا للذى كان يضرب. وأيضاً فان قوله:) وتعلم أن بهذا كان يضرب (قد يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى الآلة وإلى، العلم. قال: والمغالطة التى تكون التغيير من من الإفراد إلى التركيب، أو بالعكس، ليس هو من نوع التى تكون من قبل اشتراك الاسم، على ما زعم بعض الناس من أن كل

مغالطة لفظية فهى من قبل اشتراك الاسم. وذلك أن اختلاف المفهوم فى اشتراك الاسم يعرض والاسم واحد بعينه. وأما ها هنا فإنما يتغير المفهوم بأخذ الاسم مرة مفرداً، ومرة مركباً، كما يختلف المفهوم من اللفظ الواحد بعينه عندما تقرن به علامة الرفع، أو علامة الخفض أو النصب. ويختلف الاسم الواحد المكتوب من حروف واحدة بعينها عند اختلاف النقط عليه. قال: وقد تبين أنه ليس كل ما ينقض من المغالطات اللفظية هو من قبل اشتراك الاسم من الأمثلة التى استعملها بعض الناس فى المغالطة، وأتى فى ذلك بأقوال مشهورة لأهل زمانه هى من باب المراء الذى من اشتراك التركيب، والذى من باب الجمع والإفراد. مثال ذلك قول القائل: أنا أرى بالعين الذى ترى. فإن مفهوم هذا اللفظ يختلف إذا جعلنا الضمير الذى فى) ترى (مرة راجعاً إلى العين، ومرة راجعاً إلى المخاطب. وهو بين أنه ليس هاهنا اختلاف مفهوم من قبل اشتراك الاسم. وكذلك قول القائل: ألست تعلم السفن صقلية الآن لفضليتها ثلاثة سكانات؟ فإن) الآن (مرة تعود إلى السفن، ومرة إلى العلم. ومثل ذلك: أليس سقراط حكيما فاضلا وإسكافا رديئاً؟ فهو إذن فاضل ردىء، وهذه المغالطة من باب إجراء المركب مجرى المفرد فى الدلالة.

ومن هذا أيضاً قول القائل: أليس للعلم الفاضل تعليم جيد، وهو جيد فى نفسه، وللعلم الردىء تعليم جيد، فالعلم الردىء جيد. وهذه المغالطة من إجراء المركب مجرى المفرد. وذلك أن المركب فى هذا المثال هو الصادق، والمفرد هو الكاذب.

ومن المثل المشهورة فى هذا الباب عند القدماء قول القائل: ألست تعلم أن كل ما هو ممكن لى أن أفعله فإنا أفعله، وممكن لى إذا لم أضرب بالعود أن أضرب به، فإذا أنا لم أضرب بالعود، فأنا أضرب بالعود. قال: وهذا التغليط هو من باب إجراء المفرد مجرى المركب. وذلك أنه يصدق على فى الوقت الذى لا أضرب بالعود أنه يمكننى أن أضرب بالعود. ولا يصدق على مفرداً أنى أضرب بالعود، دون أن يقرن بأضرب لفظة) ممكن (. فإذن سبب هذا التغليط هو ألا يشعر باختلاف مفهوم لفظة) يضرب (إذا قرنت بالممكن، أو أطلقت إطلاقاً. قال: وليس نقض هذا، كما ظن بعض الناس - أحسبه يشير به إلى أفلاطون - من أنه ليس كل ما يمكن لى فعله يكون وقت الإمكان فيه هو وقت الفعل، لأنه لو كان ذلك. لكان ممكناً أن أضرب إذا ضربت. فإن هذا النقض هو

خاص بهذا الموضع من جهة مادته، أعنى من جهة لفظ الممكن المستعمل فيه. والنقض الذاتى للأشياء التى هى نوع واحد من نوع واحد. وذلك إنما هو نقض عند تلك المسئلة بعينها. لا نقض لذلك النوع من المغالطة. قال: وأما الغلط العارض من الإعجام، فالتبكيت لا يكون منه إلا أقل ذلك، كان ذلك فى المكتوب، أو فى اللفظ.

مثال ذلك فى اللفظ قول القائل: أليس البيت هو أين تحل، وأن ليس تحل سالبة أن تحل، فالبيت إذن سالبة. وأما ما كان يعرض منها من قبل تفخيم الصوت وترقيقه فنقضه سهل. وذلك بأن يعرف بأنه ليس دلالة ذلك اللفظ، إذا فخم، هو دلالته، إذا رقق.

وأما التى شكل ألفاظها واحد، وهى فى مقولات مختلفة، فنقض التبكيتات الواقعة فيها يكون بأن يعرف من أى مقولة هو كل واحد منها، إذا كان عندنا معلوماً أجناس المقولات. والتبكيت يعرض فيها مثل قول القائل: يا هذا، أرأيت هل يمكن الشىء الواحد بعينه أن يكون يفعل وينفعل معاً؟ فإذا قال: لا. قال: وقد يمكن أن يبصر ويبصر إذا رأى نفسه. وأن يبصر هو مثل أن يضرب وأن يخرج، وبالجملة: ينفعل؛ وأن يبصر هو بمنزلة أن يضرب، وأن يخرج، وبالجملة يفعل. فإذا رأى المرء نفسه، فقد أمكن أن يوجد شىء واحد بعينه يفعل وينفعل معاً. وقد كان ذلك لا يوجد. هذا قبيح مستحيل. ونقض هذا هو قريب من النقض الذى للتبكيت الذى سببه اشتراك الاسم، وذلك بأن يعرف أن كل شكل يبصر، وإن كان كشكل يضرب، فهو يدل على الانفعال لا على الفعل. وذلك أنه يشبه المشترك من جهة الاتفاق فى صيغة اللفظ، كما أنه يشبه النغليط الذى يكون من أخذ مسئلتين فى مسئلة واحدة من جهة مخالفة يبصر ليضرب فى اللفظ، أعنى فى الحروف التى تركب منها. لكن الذى يسئل عن مسائل كثيرة سؤالا واحداً هو موافق بجهة ما للذى يسئل بالاسم المشترك، لأن هذا يسئل أيضاً عن مسائل كثيرة سؤالا واحداً. ولما كان هذا الاشتباه الذى بين الأقاويل المغلطة قد يوجد بأنحاء كثيرة من المغالطات اللفظية شبه المغالطات التى تقع من قبل اشتراك الاسم وليست منها؛ ولذلك ظن من ظن أن كل تغليط فهو من قبل الاسم المشترك.

ومثال ذلك من سأل، فقال: أليس من كان له شىء وألقاه فليس له. فإذا قال له: نعم، قال: أليس من كان عنده عشرة أكعب، فألقى كعباً منها أنه ليس له كعب، فإذا قيل: نعم، قال: أو ليس من له تسعة أكعب له أكعب، فإن من له أكعب ليس له أكعب. وهذه المغالطة ليست من قبل اشتراك الاسم، وإنما هى من قبل أنه أخذ مطلقاً ما يصدق مقيداً. وذلك أن من ألقى كعبا من عشرة أكعب، صدق عليه أنه ليس له كعب واحد، لا أن ليس له كعب بإطلاق. ومن له تسعة أكعب، صدق عليه أن له تسعة أكعب، لا كعب بإطلاق. فإذن سبب هذا الغلط أن ما يصدق مع غيره، ظن أنه صادق إذا أخذ مفرداً. فهو من باب المباكتة التى تكون من قبل القسمة والتركيب، أو المطلق والمقيد.

ومما يشبه هذا أن يسئل السائل. فيقول: أليس ما أعطى المرء فهو ليس له؟ فإذا قيل له: نعم، سأل بسرعة: أليس ما للمرء فهو الذى يعطيه. فإذا أجاب المجيب بنعم، أنتج عليه: فإذن ما له ليس له. وهذا التغليط أيضاً من باب الإفراد والقسمة. وذلك أن الشىء قبل أن يعطيه فهو له. فإذا أعطاه فليس له. فإذا أخذ) أن له (أو) ليس له (مطلقاً، عرض هذا التبكيت.

ونظير هذا قول من قال: أليس غير ممكن أن يبطش أحد بغير يد، ويبصر بغير عين، فإذا قيل نعم، قال: والأشل بغير يد وهو يبطش، والأعور بغير عين وهو يبصر، فإذن يبصر بغير عين، وليس يمكن أن يبصر بغير عين. وهذا إنما يصدق مقيداً، لا مطلقاً. وذلك أن الأعور يبصر بغير عين واحدة، لا بغير عينين، وكذلك الأشل يبطش بيد واحدة، لا بيدين. قال: ومن الناس من نقض هذه المغالطات بأن ظنها من قبل اشتراك الاسم، فقال فى المثال الأول. إن الأعور لا يبصر، لكن يقال فيه إنه لا يبصر ليس مثل ما يقال فى الأعمى إنه لا يبصر، بل بمعنى أقل. ومنهم من قال فى المثال الثانى: إن الذى أعطى كان كأنه ليس له، وما أخذ كان كأنه له. فإذن ما ليس له يقال على أوجه كثيرة، وكذلك ما له. ومنهم من قال فى نقض ذلك: إنه قد يعطى المرء ما ليس له، وذلك أن من أعطى خمراً طيبة، فعندما أعطاها استحالت خلا فقد أعطى ما ليس له.

فكأنه ذهب إلى أن أمثال هذه المغالطات هى من باب اشتراك الاسم، وليس الأمر كذلك. لأن هذه وإن سلمتا أنها مناقضة، فإنما هى مناقضة جزئية بحسب عادة هذا التبكيت، لا بحسب الموضع الذى هذا التبكيت جزء منه. ولذلك من عرف طبيعة هذا الموضع ونقضه بحسب طبيعته، لم يمكن أن ينعقد عليه تبكيت. ومن هذا الجنس من التبكيت قول القائل: يا هذا، أرأيت هذا المكتوب أليس صادقاً قولك إنه كتبه إنسان، وقولك إنك لم تكتبه أنت، وأنت إنسان، فإذن كتبه إنسان ولم يكتبه إنسان.

والنقض فى هذا أن يقال: كتبه إنسان هو غيرك، لا إنسان بإطلاق. ومن هذا الجنس، أعنى الذى من الألفاظ، قول القائل: أرأيت ما يتعلم الإنسان فهو ما يتعلمه، وهو يتعلم الثقيل والخفيف، فالإنسان ثقيل وخفيف. ووجه النقض لهذا أن يقال: إن لفظة) هو (إنما تصدق على العلم، لا على الإنسان.

ومن هذا القبيل قول القائل: ما يمشى الإنسان فهو يطأه، والإنسان يمشى فى النهار، فهو يطأ النهار. ووجه النقض فيه أن يقال: أما المسافة التى يمشى فيها فهو يطأها، وأما الزمان الذى يمشى فيه فليس يطأه. والتقابل هاهنا من قبل اشتراك لفظة) فى (، فإن دلالتها على المكان غير دلالتها على الزمان. ومثال آخر وهو قول القائل: هذا الإنسان هو الإنسان الخاص أو العام. فإن كان الخاص كان هذا الإنسان المشار إليه هو أنت لأن كليكما خاص، وليس هو أنت. وإن كان عاماً، كان جنساً، وليس المشار إليه بجنس، فهو جنس ليس بجنس. ووجه النقض فى هذا أن يقال: إن الإنسان المشار إليه هو شىء ثالث غير الإنسان العام والخاص. وإن الإنسان إنما هو عام بالإضافة إلى أشخاص الناس، وهو خاص بالإضافة إلى إنسان إنسان من المشار إليهم. وأما المشار إليه فهو غير العام والخاص.

قال: وبالجملة: فينبغى للناقض فى هذه المضللات التى من الألفاظ أن يكون نقضه بالمقابل للموضوع الذى ألزم منه السائل التبكيت. فإن كان التغليط من قبل تقسيم المركب قابله بالتركيب. وإن كان من قبل تركيب المفرد ناقضه بالتقسيم. وإن كان من قبل الاسم المشترك ناقضه بوضع اسم متواطىء. وإن كان من التفخيم ناقضه بالترقيق. وإن كان من الترقيق ناقضه بالتفخيم.

فهذه هى جميع المناقضات التى تنقض بها المغالطات اللفظية. وأما النقائض للمعانى المغلطة، فإن النقيضة التى لجميع ما بالعرض هى نقيضة واحدة بعينها وهى من نفس ما بالعرض، أعنى أن يعرف أن ذلك ليس فيها دائماً، ولا كلها. فإن ما بالعرض إنما يوجد لشىء إما فى أقل الزمان، وإما فى أقل الموضوع، وإما فى الأقل من كليهما. فأما النقض الخاص بهذا الموضع فأن يقال: إن هذا أمر عرض وإنه ليس باضطرار. وذلك بين إذا تؤملت التبكيتات التى بالعرض، مثل قولهم: يا هذا، أنت تجهل ما أريد أن أسئلك عنه، وإذ سألتك عنه عرفته، فأنت إذن تعرفه وتجهله معاً. ومثل قولهم: يا هذا، أنت تعرف زيداً، ولا تعرف أنه دخل الدار، وزيد هو الداخل، فأنت تعرف الداخل ولا تعرفه. ومثل قولهم: أنت لا تعرف هذا الشىء الذى أخفيه، وإذا رأيته عرفته، فأنت تعرفه ولا تعرفه. ومثل قولهم: هذا أب، وهو لك، فهو إذن أب لك، لكن ليس لك. ومثال آخر من المشهورات وهو أن كل عدد فهو كثير، لأن العدد كثرة ما. وكل عدد فهو أقل من غيره، وما هو أقل من غيره فهو قليل. فكل عدد كثير قليل معاً. وهذه التبكيتات كلها تنحل بأن يقال: إن هذا أمر عرض وأنه ليس بالضرورة. وذلك أن زيداً هذا عرض له أن سألت عنه فجهلته من حيث سألت عنه، ولم أجهله من حيث هو زيد. وليس كونه مسئولا عنه دائماً له، ولا ضرورياً. وكذلك عرض لزيد أن دخل الدار، فأنا أعرفه لأنه

زيد وأجهل منه الأمر الذى عرض له وهو دخوله الدار. وكذلك الجواب فى المخفى الذى أعلمه ولا أعلمه.

قال: ومن الناس - وأحسبه يشير بذلك إلى أفلاطون - من نقض هذه التبكيتات بأن قال: إنه ليس يمتنع أن يعلم الشىء الواحد من جهة، ويجهل من جهة. لكن هذه المناقضة يلحقها التقصير من وجوه. أحدها: أنه ليس يمكن أن يستعمل فى نقض جميع ما بالعرض مثل قول القائل المتقدم: هذا لك، وهو أب، فهو أب لك وليس لك، فإن النقض فى هذا أن يقال: إن هذا الذى هو لك عرض له أن كان أباً، وليس هو أباً من جهة ما هو لك. والنقض يجب أن يكون عاماً ومحيطاً بجميع الكذب الموجود فى المقدمة الكاذبة، وذلك أنه قد يوجد فى المادة الواحدة بعينها أنحاء مختلفة من الكذب. فيجب أن يكون النقض نقضاً يرفع جميع تلك الأنحاء التى فى النتيجة الكاذبة.

قال: وأيضاً فإن الذى ينقض قياس الخلف المبكت بأن يعرف أن النتيجة التى زعم القياس أنها ممتنعة هى ممكنة، فإنما نقض أن يكون هو عمل قياساً مبكتاً. فإن التبكيت الذى قصد لم يتم له. وذلك أن كل من ألف قياساً ليبين به شيئاً ما على طريق الخلف، فأنتج نتيجة ممكنة، لا ممتنعة، فلم يبين شيئاً، ولو ألف ألف قياس من هذه الصفة. ولكن متى لم يبين الإنسان من القياس الكاذب إلا هذا القدر، فلم يبين شيئاً من الكذب الذى فيه، ولا عرض له لا بإبطال، ولا بإثبات. ولعل وضعه النتيجة مبكتة يوهم أنه سلم أن تلك المقدمات صادقة. فإنه قد يظن أن ما ليس يعرض عن وضعه كذب، فهو صادق بل لا سبيل إلى إبطال المقدمات الكاذبة فى أقيسة الخلف الموبخة، أعنى التى تنتج نقيض ما وضع إلا مع التسليم أن النتيجة كاذبة. ومثال ذلك أنه

من ناقض قول زينن فى إبطال الحركة الذى يقول فيه: إنه إن كانت الحركة موجودة، لزم أن يكون المتحرك يقطع قبل تمام المسافة نصفها، وقبل ذلك النصف نصف ذلك النصف. ولما كانت الأنصاف الموجودة فى المسافة الواحدة بعينها غير متناهية، لزم إن كان المتحرك تحرك أن يقطع مسافات غير متناهية فى زمان متناه. هذا خلف لا يمكن، فإذن الحركة غير موجودة.

فإن قال الناقض: إن هذا اللازم ليس بمحال من جميع الجهات، بل هو محال إن فرضنا أنه يقطعها فى أزمنة متناهية، وليس بمحال إن فرضنا أنه قطعها فى أزمنة غير متناهية لأن حال الزمان والمسافة واحد فيما يلزم من ذلك. فهذا وإن كان قد أبطل القياس الذى رام أن يبطل الحركة به، لكنه لم يعرض لبيان الكذب الذى فى مقدماته. وأما من ناقض هذا التبكيت السوفسطائى بأن قال: إن المتحرك ليس يقطع قبل تمام المسافة مسافات كثيرة، وإنما يقطع مسافة واحدة فى زمان واحد، وإنما كان يجب أن يقطع مسافات كثيرة لو كانت الحركة الواحدة مؤلفة من حركات كثيرة بالفعل، وكذلك المسافة من مسافات كثيرة، فقد نقض الكذب الذى فى المقدمات. ولذلك قيل إن تلك مقاومة بحسب القول. وهذه مقاومة بحسب الأمر نفسه. وأيضاً فهذه المقاومة قد تضعف أيضاً فى صناعة الجدل. لأنه ليس بمشهور أن يقال إن الشىء الواحد بعينه يكون صادقاً من جهة، وكاذباً من جهة، أو معروفاً من جهة، مجهولا من جهة. بل المقاومة المشهورة فى أمثال هذه الأشياء أن يقال: إن المعروف غير المجهول. لأنه لو كان زيد هو الداخل فى الدار، أو هو المسئول عنه، للزم أن يوجد زيداً داخلا فى الدار ضرورة ما دام زيد موجوداً، وكذلك ما دام مسئولا عنه، ويكون أخذ ما به زيد موجوداً هو دخوله فى الدار أو السؤال عنه. فالمعروف إذن من زيد عند الجمهور هو زيد. إذ كان المعروف هو الذى بالذات، والمجهول هو الذى بالعرض. فإن من علم أن هذا أبيض، وجهل أنه موسيقار، فقد علم شيئاً، وجهل شيئاً آخر.

ومن نقض التبكيت الذى ألزم فيه أن يكون العدد كثيراً وقليلا معاً، فإن سلك الكذب الذى فيه وقال قد يمكن أن يكون كثيراً بالقياس إلى ما تحته، قليلا بالقياس إلى ما فوقه فقد لحقه مثل التقصير الذى قلنا، بل مناقضته التامة أن يقال له: إنه ليس كل عدد كثير، لأن الاثنين عدد وليس بكثير. قال: ومن الناس أيضاً من رام أن ينقض التبكيت المشهور الذى قيل فيه: إن هذا أب، وهو لك، فهو أب لك وليس أباً لك، من قبل الاشتراك الذى فى لفظة) له (. فإنها تدل على الملك، وتدل على غير الملك. ومثل قول القائل: هذا عبد، وهو لك، فهو عبد لك. وليس كما ظنوا. فإنه ليس يظن أحد بلفظة) له (، إذا قرنها بالأبن أو بالأب أنهما تحمل على الملك. ولذلك ليس هذا الغلط عارضاً إلا من قبل أنه عرض لهذا الذى هو لك أنه ابن، وكذلك الحال فى العبد، فانه ليس يقرن به أحد لفظة) لك (، وهو يتوهم

شيئاً غير الملك. فلذلك ليس الغلط فى هذا إلا من قبل ما بالعرض. وهو أن عرض للذى كان ابناً لك أنه عبد.

ومن هذا الجنس قولهم: كل علم خير، وبعض العلوم للأشرار، وما هو للأشرار فهو شر، فبعض العلوم إذن خير وليس بخير. فإنه قد يظن أن المغالطة جاءت فى هذا من قبل الاشتراك الذى فى) لام (النسبة، وليس الأمر كذلك. فإنه لما أضفنا) اللام (إلى الأشرار، زال الاشتراك الذى فيها، كما لو قلنا: إن الإنسان هو للحيوان، لم يفهم أحد من هذه النسبة إلا معنى واحداً فقط، بل الغلط العارض فيه أنه من قبل أنه ظن أن ما عرض أن وجد للشرير فهو شر مطلق، وليس كذلك، وإنما هو شر من جهة أنه عرض له أن كان علماً لشرير، لا أنه شر بذاته، وبما هو علم.

قال: وإذا وضع الشىء الصادق مبسوطاً، أى من حيث هو فى مقولة واحدة من المقولات إما جوهر، وإما كم، وإما كيف، وإما إضافة، لم يعرض له أن يظن به أنه قد لزم عنه نقيضه على ما يظن أنه يلزم ذلك فى بعض الأشياء. وأما الأشياء التى يظن أنه يعرض عن وضعها نقيض ما وضع فهى الأشياء التى توجد مركبة من مقولات شتى، وبالجملة: من أجناس متباينة. لكن فى الحقيقة إذا أخذ الشىء من حيث هو مركب مع جنس آخر فلزم عنه نقيضه، من حيث هو بسيط، فلم يلزم نقيضه بالحقيقة، وإنما ظن به أنه نقيض. ولذلك نقض هذا إنما يكون بأن يظهر ذلك الشىء الذى ركب معه حتى ظن أنه لزم عن رفعه، وعن إيجابه سلبه. وجميع المغالطات التى تأتلف. من هذا الموضع، إذا تؤملت، ظهر أن هذا هو سبيلها، مثل قولهم: أرأيت،

يا هذا، أليس مستحيلا أن يكون موجود من غير موجود؟ فإذا قال: نعم. قال: أليس هذا الفرس فرس موجود من غير موجود فرساً. فإذن يكون موجود عن غير موجود وعن موجود معاً. وذلك أن الموجود فى القول الأول أخذ بسيطاً، وفى الثانى مركباً، فأنتج النقيض بسيطاً. وليس يمتنع فى الموجود البسيط أن يكون غير الموجود المركب، أعنى أن يكون الموجود المطلق غير موجود فرساً. وكذلك المغالطة التى يقال فيها: أليس أن يحلف المرء براً حسن، وأن يخلف فاجراً قبيح، فإذن أن يحلف حسن وقبيح معاً، وذلك أن الحلف لم يؤخذ فى القولين بسيطاً، وإنها أخذ مركباً مع شيئين متضادين، فظن أنه يلزم عن ذلك أن يكون هو نفسه متضاداً. ولو أخذ) يحلف (بسيطاً ومطلقاً فى الموضعين، لكان مستحيلا أن يظن به أنه عرض له عن وضعه رفعه.

ومن هذا الجنس قولهم: أرأيت الصحة أليست خيراً، وهى للشرير شر فالصحة خير وشر معاً. ومثل قولهم: أليس الغنى لمن يستعمل المال فى حقه خير، وهو للأشرار شر، فالغنى خير وشر معاً. إلى غير ذلك من المباكتات التى يستعملها أرسطو فى هذا الباب. فهى كلها داخلة فى هذا الجنس. والسبب فيه هو هذا السبب بعينه. ووجه نقضها هو هذا الوجه بعينه، أعنى أن يتأمل حال المقدمات فى أنفسها، وحالها عند النتيجة، فيعرف الشىء الذى فيه يختلف. إذ كان لا يمكن أن يلزم عن الشىء نقيضه. ولا يظن به ذلك إذا أخذ بسيطاً، بل إذا أخذ مركباً، كما قلنا.

قال: وينبغى للمجيب أن يتأمل القول المبكت الذى يعرض من قبل إهمال شروط النقيض: أما أولا فهل ذلك القول منتج لنقيض الوضع أم لا. ثم إن كان منتجاً، تأملنا هذا الحد الأوسط مأخوذ فى المقدمتين بحال واحدة. أو بحالين مختلفين. وهل الطرفان الأ كبر والأصغر هما بأعيانهما المأخوذان فى النتيجة بحال واحدة، أم بحالة تختلف. فإنه إذا تحفظ بهذه الأشياء لم يحدث عليه تبكيت من هذا الباب. وإذا سئل عن شىء واحد مرتين هل هو كذا، أو ليس بكذا، فلا يسلمه مطلقاً، ولكن يقول هو كذا من جهة كذا، وليس بكذا من جهة كذا. مثل أن يسئل هل الاثنان ضعف، أو غير ضعف، فيقول هى ضعف لكذا، وليست ضعفاً لكذا.

والمغالطات التى تكون من هذا الباب هى مثل قول القائل: أليس من يعرف الشىء لا يجهله، ومن يجهل الشىء لا يعرفه؟ فإذا قيل: نعم، قيل: وأنت تعرف زيداً أنه زيد، ولا تعرف أنه موسيقار، فأنت تعرفه وتجهله معاً. قال: وأكثر ما ينبغى أن يتحفظ فى المسائل التى تجمع مسئلتين فى مسألة واحدة ألا يجاب فيها بالأمرين المتقابلين، إذا كانا موجودين فى ذينك الشيئين اللذين سئل عنهما كأنهما شىء واحد. مثل أن يسئل عن رجلين: أحدهما صالح،

والآخر طالح، فيقال: هل فلان وفلان صالح أو طالح، فيقول القائل: هما صالح وطالح. لأن ذلك صادق على مجموعهما. أو هما لا صالح، ولا طالح، لأن ذلك أيضاً صادق عليهما معاً. فإنه إذا كان الجواب هكذا، أمكن للسوفسطائيين مغالطة كثيرة. وذلك أنهم يقولون: إن كان كلاهما صالحاً وطالحاً، فالصالح هو بعينه طالح، والطالح صالح، أو الطالح هو لا طالح، والصالح لا صالح. قال: وليس يبرىء من هذا التغليط أن يأتى بلفظ الجمع إن كانت جماعة، ولا بلفظ التثنية إن كانا اثنين. فلذلك لا ينبغى أن يكون الجواب فى أمثال هذه الأشياء بالمقابلات، وإن كانت صادقة، فإنه يفتح للمشاغبين باباً كبيراً، وإن كان بيناً أنه لا يعرض

عن ذلك مثل هذا الجواب حقيقة، لأن الذى يصدق على المجموع ليس بصادق على كل واحد منهم. قال: وأما إذا سأل السائل بالموضع الذى يلجىء المجيب إلى التكرير، وهى، كما قلنا موضعان: أحدهما: فى تعريف الأشياء التى من المضاف. والثانى: فى تحديد الأغراض التى تؤخذ فى حدودها موضوعاتها.

فينبغى للمجيب إذا ما سئل عن الأشياء المضافة، وألجأه السؤال إلى التكرير، أن يبين أن هذه ليس يمكن أن يعرف جوهر أحدهما إلا بأن يؤخذ فيه الآخر إذا عرفت من حيث هى مضافة، لا من حيث هى مقولة أخرى. مثال ذلك أنه لا يعرف الضعف، بما هو ضعف، إلا بمعرفة النصف، وقد يمكن أن يعرف بذاته، لا من حيث هو من المضاف، بل من جهة أنه من الكمية، مثل أن يعرف أن الضعف اثنان أو أربعة، لكن من عرف أن الضعف اثنان أو أربعة فلم يعرف الإضافة، بل إنما عرف الموضوع للإضافة. وكذلك من عرف علماً من حيث هو فى صناعة من الصنائع، كأنك قلت علم الطب، فإنما عرفه من حيث هو فى باب الكيف، لا فى باب المضاف. ولو عرفه فى باب المضاف لما عرفه إلا بالشىء الذى يضاف إليه. وإن تبين بالجملة أنه ليس يعرض محال من التكرير فيما طبيعته تقتضى التكرير. وذلك أن من حد العشرة بأنها عدد يأتلف من واحد وواحد وواحد، حتى يكمل الأحاد التى فيها، فقد كرر ولم يأت بشىء مستحيل. وكذلك حدود الموجبة هى مكررة فى حدود السالبة. وليس يلحق من ذلك استحالة. وذلك أن سلب قولنا:) أن يفعل (هو) ألا يفعل (، وهو تكرير

للمحمول والموضوع. ومن جاوب بشىء سئل فيه هل هو أبيض أنه ليس بأبيض. فقد كرر، إلا أنه ليس أحد من الناس يرى أنه أتى بمستحيل. وأما إذا ألجىء المجيب فى السؤال عن حدود الأعراض التى يؤخذ فى حدها الموضوع إلى التكرير، مثل أن يسئل: ما هو الأنف الأفطس، فيجيب بأنه الأنف الذى فيه التقعير الذى فى الأنوف، فينبغى أن يبين له أن سؤاله هة الذى اضطره إلى التكرير، وذلك أنه لو سأل: ما هو الفطس، لكان الجواب أنه أنف عميق. وكان ذلك تفصيلا لما دل عليه الاسم. إذ كان هذا هو شأن الحدود مع الأسماء، أعنى أن يفهم الحد مفصلا الشىء الذى فهمه الاسم مجملا. وأما وقد سأل: ما هو الأنف الأفطس، فانه لو جووب بأنه أنف عميق لم يكن فرق بين ما سأل عنه وبين ما جووب به، فكان بمنزلة من بدل اسما باسم. فلذلك احتيج أن يفصل له لفظ التقعير فيقال هو الأنف الذى فيه التقعير الموجود فى الأنوف، إذ كان التقعير منه ما يوجد فى الأنوف، ومن ما يوجد فى الساقين وهو الذى يسمى فحجاً أو صككاً. لأن فى هذا السؤال لم يبق شىء يفصل له إلا ما يدل عليه التقعير. وأيضاً فمع أن هذا شىء ضرورى بحسب هذا السؤال، فليس فى هذا تكرير إذ كأنه إنما أشكل عليه معنى هذا التقعير ما هو. إذ كان

التقعير يختلف بحيب الأعضاء التى هو فيها، ولا استحالة فى ذلك، وإما المستحيل لو فهم هاهنا من التقعير التقعير الموجود فى الساقين. وأما الأقاويل المستغفلة التى يظن أن المفهوم عنها مستحيل وهى أحد الأشياء التى يسوق إليها المغلط، فلما كان الموضع الذى أعطى فى عملها غير مشترك لنا ولهم، وكان أيضاً ما قال فى نقض هذه المواضع خاصاً بلسانهم، أو غير مشترك لنا ولهم. ونحن فينبغى لنا أن نتأمل هذا الجنس من الكلام فى لسان العرب. فإن كان موجوداً. فنتأمل هل له مواضع ينشأ منها هذا الكلام، أم لا. وإن كان، فما الحيلة فى نقضها.

وأبو نصر يرى أن هذا الجنس من الكلام هو الذى يسمى عياً فى لسان العرب، وانه إنما يعرض من نقصان العبارة، كما أن الهذر إنما يعرض من زيادة العبارة. فينبغى أن يفحص عن هذا كله، ويعرف ما هو منه عى بالحقيقة، وما هو عى بحسب الظن، ومن أى مواضع ينشأ أمثال هذا المعنى فى كلام العرب، أو فى كلام جميع الأمم، إن كان هاهنا عى مشترك لجميع الأمم. قال: والكلام المضلل منه ما هو عسير معرفته، ومنه ما هو سهل معرفته. والعسير قد يكون من قبل عسر معرفة الموضع المغلط نفسه. وذلك أن بعضها أشد تغليطاً من بعض. وقد يختلف الموضع الواحد في العسر والسهولة بحسب المادة المستعمل فيها. وقد يعسر القول المغلط من قبل أن فيه أكثر من نوع واحد من أنواع الأشياء المغلطة، مثل أن يكون مغلطاً من قبل ما بالعرض، ومن قبل أشتراك الأسم، وغير ذلك من أنواع المواضع المغلطة.

والقول المغلط الشديد التغليط هو الذى لايوقف منه بسرعة على أن الكذب فيه إنما جاء من قبل شكل القياس، أو من قبل المقدمات، أو من كليهما جميعاً. ثم بعده فى العسر الذى يعلم منه أن الكذب فيه أنما هو من قبل المقدمات، ولايعلم من أى شىء عرض ذلك فى المقدمات: هل من اللفظ، أو من المعنى. ثم بعد هذا فى السهولة: القول الذى يعلم أن الكذب فى مقدماته من جهة، ولا يعلم فى أى مقدمة هو ذلك بسرعة. قال: والقول العسير الحل من هذه هو ما كانت المقدمات فيه أشهر من النتيجة، لأن القول الذى هو مثل هذا كثيراً ما يبطل المشهورات. وأكثر ما يخفى الأمر إذا كان السؤال عن طرفى نقيض ليس واحد منهما أشهر من الآخر، فإنه يعسر علينا أن نعرف أى الطرفين يسلم.

قال: والقول الهين الحل هو الذى يكون من الأمور التي ليست بمشهورة، أو من الشنيعة، أو القول الذى لم يتسلم من المجيب. قال: وإذا سئل المجيب عن مقدمات مشهورة، فليس ينبغى أن يتهاون به، وإن كان غير مرتب لها، ولا عارفاً بتأويل القول.

ويجب أن يجعل النقض تارة بحسب القول، وتارة بحسب القائل بأن يعرفه أنه لم السؤال. فإن السؤال قد بحسب المسألة نفسها، وقد يكون بحسب المجيب، وقد يكون بحسب الوقت الحاضر. قال: وإذ قد بلغنا هذا المبلغ من القول فى هذه الصناعة، فقد تبين لنا من أين تكون الأقاويل المضللة للمتعلمين، وكذلك عددها، وكيف يرجع بعضها إلى الغلط فى القياس، وكيف ينبغى أن يسئل من يروم تأليف الأقاويل التى من هذا الجنس، وكم الأغراض المقصودة فى هذا الجنس من الكلام، وكيف تنقض ويجاب عنها. وذلك هو جميع ما كان مشوقاً لنا معرفته فى هذه الصناعة. ولذلك ما ترى أنا قد فرغنا من القول فى هذه الصناعة، ووقفنا على جميع

أجزائها. والذى بقى لنا هو أن نقول فى السبب الذى دعانا إلى النظر فى هذه الصناعة على جهة التذكرة. وذلك أنا لما كنا مشتاقين إلى أن تكون عندنا قوانين نقدر أن نعمل منها أقيسة من مقدمات مشهورة على جهة السؤال والامتحان، وهى الأقيسة التي تستعملها صناعة الجدل، وقوانين نقدر بها أن نتحفظ من أن تؤلف علينا أمثال هذه الأقيسة، وكانت ها هنا أقيسة مرائية يظن بها أنها من هذا النوع، وليست بها، رأينا أن العلم بالجواب إنما يتم لنا فى صناعة الجدل بمعرفة هذا النوع من الأقيسة التى تسمى المرائية، ومعرفة نقضها، فأردفنا النظر فى صناعة الجدل فى هذه الصناعة.

ولمكان هذا الذى قلناه، كان الجواب فى صناعة الجدل أعسر من السؤال. ولذلك كان سقراط يعترف بأنه يحسن أن يسئل، ولا يحسن أن يجيب. ولذلك رأينا ألا نكتفى من معرفة هذه الصناعة بأن نعلم الأشياء المغلطة، وكيف نسأل عنها فقط، بل وكيف نجيب عنها وننقضها. فأما أنه إذ قد تكلمنا فى أغراض هذا الجنس من القول، أعنى الأقاويل المغلطة والمواضع التى يؤلف منها هذا الجنس من القول، وكيف يسئل عنها حتى يكون فعلها أتم، وكيف يجاوب عنها وتنقض، فقد بلغنا من ذلك النهاية المتشوقة فأمر معروف بنفسه.

قال: وينبغى ألا يجهل ما عرض لنا فى هذه الصناعة. فإن من الصنائع ما قد قيل فى مبادئها، وإنما بقى منها على المتأخر تتميم تتميم تلك المبادىء، ومنها ما لم يقل فى مبادئها شىء. وهذه إذا شرع فى النظر فيها، فقد يعسر على الناظر فيها أن يأتى فى ذلك بشىء كثير من أجزاء تلك الصناعة، بل إن أتى، فإنما أتى فى ذلك بشىء صغير يسير، إلا أنه، وإن كان صغيراً فى القدر، فعسى أن يكون آثر من ذلك الشىء الكبير الذى يأتى به المتأخر تكميلا للصناعة التى قد فرغ المتقدم من مبادئها. وإنما كان ذلك كذلك، لأن القول فى المبدأ عسير، والقول فيما بعد المبدأ سهل. ولذلك كان القول فى المبدأ، وإن كان يسيراً فى القدر، فهو عظيم فى القوة. والقول فيما بعد المبدأ، وإن كان كثيراً، فهو صغيراً فى القوة. وهذا بعينه عرض لنا فى هذه الصناعة بالإضافة إلى سائر الصنائع المنطقية الأربع، فإنه لم نلف فى هذه الصناعة شيئاً يتنزل منها منزلة المبدأ، ولا منزلة الجزء. وأما سائر الصنائع، فإنا، وإن لم نلف منها شيئاً يتنزل منزلة المبدأ، فقد ألفينا شيئاً يتنزل منزلة الجزء،

مثل ما عرض فى صناعة الخطابة. فإنه تعاور الكلام فيها قوم من القدماء حتى ألفينا جميع أجزائها قد كمل، لكن فى المواد، إذ كانوا إنما تكلموا فى ذلك من

غير أن يتكلموا فى الأشياء التى تتنزل منها منزلة المبادىء، وهى الأمور المشتركة للصنائع الخمس، مثل القول فى القياس المطلق وما أشبهه من الأمور المشتركة. فأما هذه الصناعة فلم نجد فيها شيئاً يجرى مجرى المبدأ، ولا مجرى الجزء، وإنما وجدنا فيها أشياء كثيرة تجرى مجرى الأشخاص الموجودة من الصناعة عند أهل تلك الصناعة. فكما أنه من لم يكن عنده من علم الصناعة إلا وجود عدد ما من

أشخاصها التى تفعلها تلك الصناعة فليس عنده علم بالصناعة. مثال ذلك أن من لم يكن عنده من صناعة الخفاف إلا أشخاص من الخفاف محدودة، فليس عنده من صناعة الخفاف شىء، كذلك من تعاطى ممن سلف تعليم هذه الصناعة من غير أن يكون عنده منها إلا أقوال محدودة العدد، أعنى أقوالا سوفسطائية، فهو بمنزلة من رام تعليم الخفاف بأن يعطى الناس خفافاً من عنده، أو يقول لهم إن القدم ينبغى أن تصان بالخفاف، من غير أن يعرفهم من أى شىء تصنع الخفاف، ولا كيف تصنع.

وليس من العجيب تمام الصناعة لكثير من الناس، لكن العجب أن نتم الصناعة لواحد فقط. وإذا كان تتميم الصناعة للناس الكثيرين أمراً فاضلا جداً، فأفضل منه وأعجب إيجاد الصنائع بأسرها للواحد وإنشاؤها من المبدأ إلى المنتهى. قال: ولمكان هذا قد يجب على كل من وقف على قولنا هذا أن يكون لنا منه شكر كثير وحمد عظيم على ما أنشأناه من هذه الصناعة وحصلناه من مبادئها وأجزائها. فإن وجد فى بعض أجزائها نقض، فليكن منه صفح عنا، وعذر لنا، لمكان الأشياء التى قلناها.

فهذا هو آخر ما ختم به هذا الرجل كتابه هذا. وقد نقلنا منه ما تأدى إلى فهمنا بحسب ما يسر لنا فى هذا الوقت. وسنعيد فيه النظر إن فسح الله فى العمر ويسر لنا أسباب الفراغ. فإن هذا الكتاب معتاص جداً، إما من قبل الترجمة، وإما من قبل أن أرسطو قصد ذلك فيه. ولم نجد فيه لأحد من المفسرين شرحاً لا على اللفظ، ولا على المعنى، إلا ما فى الشفاء لأبى على بن سينا شيئاً من ذلك. والكتاب الواصل إلينا من ذلك هو فى غاية الاختلال، مع أن الرجل عويص العبارة. فمن وقف على كتابنا هذا، ورأى أنه قد نقص من كلامى شىء هو فى كلامه، أو سقت شيئاً من كلامه على غير الجهة التى قصدها،

فليعذرنى. فإن من يتعاطى فهم كلامه من غير أن يسبقه فيه غيره هو شبيه ممن يبتدىء الصناعة. ولذلك كثير مما أوردناه فى ذلك إنما هو على جهة الظن والتخيل. وأنت تتبين ذلك إذا وقفت على نص كلامه فى هذا. لكنى أرجو أنه لم يفتنا شىء من أجناس الأقوال التى أودعها هذا الكتاب، ولا من أغراضه الكلية. وإن كنا نشك أنه قد فاتنا كثير من الأشياء الجزئية، وكثير من جهة استعمال القول فيها، والتعليم لها. ولكن رأينا أن هذا الذى اتفق لنا فى هذا الوقت خير كثير. وعسى أن يكوت كالمبدأ للوقوف على قوله على التمام لمن يأتى بعد، أو لنا إن وقع لنا فراغ وأنسأ الله فى العمر. فانظروا كيف حال من يأتى بعد هذا الرجل فى فهم ما قد كمل وتمم، فضلا عن أن يظن بأحد أنه يزيد عليه أو يتمم شيئاً نقصه.

وقد اعترف ابن سينا بهذا وقال إنه اليوم له ألف سنة، وكذا مائة من السنين ولم نجد أحداً زاد عليه فى هذه الصناعة. قال: ونحن أيضاً فقد أجهدنا أنفسنا فى ذلك زمان إكبابنا من هذه الأشياء واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئاً يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسط لمجمل، أو كيف قال. وأما أنت فقد يمكنك أن تقف من قولنا المتقدم فى هذا الكتاب وقوف يقين أن ليس هاهنا مغلطات إلا تلك التى عددناها، أعنى ما يجب أن يعد جزءاً من الصناعة، وأن الموضع الذى يظن أن أبا نصر استدركه، وهو موضع الإبدال، هو شىء لم يخف على أرسطو، وأن الأمر فيه على أحد وجهين: إما ألا يكون مغلطاً بالذات وفى الأ كثر. فإن موضع الإبدال هو بالذات، كما علمنا أرسطو، خطبى أو شعرى.

وإما أن يكون معدوداً فى المغلطات التى بالعرض، إن كان ولا بد واجباً أن يذكر فى أجزاء هذه الصناعة. وكذلك كثير مما زاد فى باب المطلقات والمقيدات، وفى باب أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب، فيه كله نظر. وذلك أنه يشبه أن يكون بسطاً وشرحاً، ويشبه ألا يكون من الباب، أو يكون يوجد فيهما الأمران.

§1/1