تفسير الموطأ للقنازعي

القَنَازِعي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كلمة سعادة وزير الأوقاف والشئون الإسلامية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كلمة سَعَادَة وَزِير الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله الْأمين وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. وَبعد: فقد اعتنى الْمُسلمُونَ بِحَدِيث نَبِيّهم وحفظوه بوسائله المتاحة، وَأَقَامُوا حوله سياجًا من الْعُلُوم الَّتِي يُمكن أَن نسميها حارسة، فِيمَا عرف بِعلم الحَدِيث، وَمَعَ بداية عصر المصنفات فِي السّنة، كَانَ "موطأ الإِمام مَالك" فِي الطليعة، فلقى الْكثير من الْعِنَايَة، بشروح ماتعة على مداد الْقُرُون المتتابعة، وَكَانَ لعلماء الأندلس الْعِنَايَة الْخَاصَّة بِهِ. وَالْيَوْم نواصل المسيرة فِي إحْيَاء التراث الإسلامي، تقدم شرحًا أندلسيًا رائعًا، هُوَ فِي الْحَقِيقَة تحفة علمية تضافرت جهود من أَجله: - الْمُحَقق: الَّذِي عانى تَحْقِيقه. - ولجنة إحْيَاء التراث الإسلامي بوزارة الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية الَّتِي قَامَت بمراجعته وتدقيقه. - وإدارة الشئون الإسلامية: الَّتِي تشرف على طباعته وإصداره وتوزيعه. - الْهَيْئَة القطرية للأوقاف: الَّتِي جددت بتمويله دورًا للْوَقْف فِي الْأمة. فالشكر لَهُم جَمِيعًا، وَالْحَمْد لله أَولاً وأخيرًا. فيصل بن عبد الله آل مَحْمُود وَزِير الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية رَئِيس مجْلِس إدارة الْهَيْئَة القطرية للأوقاف دولة قطر

تمهيد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، والصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدنا مُحَمَّدٍ سيد المرسلين، وعلى آلهِ وصَحْبهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ. وبعد: فإنَّ مِمَّا خَصَّ اللهُ تَعَالَى به هذِه الأُمَّةَ أَنَّ الكِتَابَ المُنَزَّلَ لِهَدَايَتِهِم مِنْ عِنْدِ الله تعالَى قدْ نُقِلَ بالتَّوَاتُرِ القَطْعِيِّ حِفْظًا في الصُّدُورِ، وكِتَابةً في السُّطُورِ، فَلَمْ يَتَبدَّلْ، ولَمْ يَتَغَيَّرْ، ولَمْ تَغِبْ منهُ كلمةٌ وَاحِدَةٌ، وأنَّ السُّنَّةَ النبويَّةَ، وسِيرةَ سَلَفِ الأُمَّةِ قدْ رُويتا بالأَسانيدِ، ودُوِّنتا في الكُتبِ بِعِنَايةٍ يَسْهُل معها التَّمْييزُ بينَ المقبولِ والمردُودِ. ومِمَّا خَصَّ الله تعالى به هذه الأُمَّةَ أيضًا أنه -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْعَثُ فِيهَا مُجَدِّدينَ لأَمْرِ الدِّينِ، يَكُونُ هَمَّهُم إعَادةُ الحياةِ إلى الإسْلاَمِ مِنْ جَدِيد، وإرشادُ النَّاسِ إلى المنهج الصَّحِيحِ المُوَافِقِ لِكِتَابِ اللهِ، وسنَّةِ رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإزَالةُ مَا عَلِقَ مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ والمَعَاصِي. وكَانَ مِنْ أَجَلِّهِم في القُرُونِ الأُولَى قَدْرًا، وأَنْبَهَهَم ذِكْرًا، إمامُ دارِ الهِجْرةِ أبو عبدِ الله مَالِكُ بنُ أنسٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-. فقدْ وَفَّقهُ اللهُ تعالَى إلى أنْ يَكُونَ أحدَ مَنْ حَفِظَ سُنَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دِرَاية وَرِوَايةً، بلْ إنَّهُ لم يكنْ بالمدِينةِ عَالِم مِنْ بَعْدِ التَّابعِينَ يَشْبَههُ في العِلْمِ، والفِقْهِ، والجَلاَلةِ، والحِفْظِ -على حَدِّ قَوْلِ الإمامِ الذَّهبيِّ (¬1) - وإنَّ كِتَابَهُ (الموطَّأ) يُعَدُّ مِنْ أَهمِّ ذَخَائرِ ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 8/ 58.

كُتُبِ الحديثِ المُدَوَّنةِ، ومِنْ أَقَواها مَتْناً، وأَعْلاَها سَنَدًا، وأَغْزَرهَا فِقْها، ولِذا تَلَقَاهُ عنهُ خَلْقٌ مِنْ تلامذِته، ونشَرُوه في الآفاقِ، وحَرَصَ المُصَنِّفُونَ في السُّنَنِ والآثارِ على رِوَايةِ الكَثِيرِ مِنْ مَرْويَاتهِ مِنْ طُرُقٍ كَثيرَةٍ، وَرِوَاياب مُتَنوِّعةٍ، كَمَا تَنَاولهُ بالخِدْمةِ جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الُمحَدِّثينَ والفُقَهاءِ، تَمَثَّلَ فِي شَرْحهِ، وتَفْسِيرِ أَلْفَاظهِ، واخْتِصَارِه وتَهْذِيبهِ، وبَيَانِ أَطْرَافهِ، وَوَصْلِ مُنْقَطعَاتهِ وبَلاَغَاتهِ، وتَوْضِيحِ رِجَالهِ وأَسَانِيدِه وغيرِ ذلك. وكانَ لِعُلَماءِ الأَنْدَلُسِ وأَهْلِ المَغْرِبِ النَّصِيبُ الوَافِر في خِدْمَةِ هَذا الكِتَابِ العَظِيمِ، فألّفُوا فيهِ تأَليفَ كَثيرة، اسْتَعْرضَها بعضُ المؤلِّفينَ قَدِيمًا وحَدِيثًا (¬1). ومنْ أَهَمِّ مَنْ قامَ بشِرْحهِ: الإمامُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ الزَّاهِدُ أبو المُطَرّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوانَ القُنَازِعيُّ القرْطُبِي. فقدْ تَوَلَّى شَرْحَ الموطَّأ، مُعْتَمِداً على رِوَايةِ يَحْيَى بنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ، وعَلَى بَعْضِ رِوَاياتِ المُوطَّأ الأُخْرَى، وعَلَى رَأْسِهَا رِوَايةِ يَحْيى بنِ بُكَيْرٍ، واعْتَمدَ فِي شَرْحهِ على أقوالِ عُلَماءِ الأَنْدَلُسِ خَاصَّةً، معَ اعتمادِه أيضًا على أقوالِ عُلَماءِ الأَمْصَارِ الآخَرِينَ مِنْ أئمة المالكيَّة وغَيْرِهم. ويُعَدُّ هذا الكتابُ مِنْ أَفْضَلِ الكُتُبِ في شَرْحِ أَحَادِيثِ الموطَّأ، وفي بيانِ الأَحْكامِ الفقهيَّةِ، وعَرْضِ أقوالِ العلماءِ المتقدِّمينَ منهم والمتَأخِّرينَ. وقدْ أشادَ بهِ كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ. منهُم: القَاضِي عِياض، فقالَ في تَرْجَمَتهِ: (وكَانَ أَقْوَمَ مَنْ بَقِيَ بِحَدِيثِ مُوطَّأ مالكٍ، ولهُ تَفْسِيرٌ، كِتَابٌ مَشْهُورٌ، مُفِيدٌ، مُسْتَعملٌ) (¬2). ¬

_ (¬1) منهم: الإمام محمد بن خير في فهرسته، والقاضي عياض في كتابه (الغنية) وهو فهرس لشيوخه، وفي كتابه النفيس (ترتيب المدارك)، ومن المعاصرين: الباحث المغربي محمد بن عبد الله التليدي في كتابه القيِّم (تراث المغاربة في الحديث النبوي وعلومه)، والدكتور مشعل الحدادي في كتابه (الإمام مالك وأثره في علم الحديث النبوي). (¬2) ترتيب المدارك 7/ 293.

وقالَ ابنُ بَشْكُوالَ: (وجمعَ فِي تَفْسِيرِ الموطَّأ كِتَاباً حَسَناً مُفِيداً، ضَمَّنهُ ما نقلهُ يَحْى بنُ يَحْيَى في مُوطَّأه، ويَحْيَى بنُ بُكَيرٍ أيضاً فِي مُوطَّأه) (¬1). والحمدُ للهِ الذي وَفَّقني إلى تَحْقِيقِ هَذا الكِتَابِ النَّفِيسِ الذي تَمَيَّزَ بِكَثيرٍ مِنَ الخَصَائصِ والمَحَاسِنِ عَنِ الكُتبِ المُؤَلَّفةِ في مَوْضُوعهِ، وقَدَّمتُ الكِتَابَ بِمقُدِّمةٍ مُفِيدَةٍ عَنِ المُصَنِّفِ الذِي كَانَ نَادِرَةَ زَمَانهِ، ومِنْ أعيانِ المُحَدِّثينَ والمُقْرِئينَ بالأَنْدَلُسِ، وكتبتُ أيضأ مُقَدّمةً عَنْ كِتَابهِ (تَفْسِيرِ الموطَّأ) وأَهَمَّيتهِ، ومَنْهَجِ المُصَنِّفِ فيه، ثُمَّ خَدَمتُ الكِتَابَ بالفَهَارسِ الكَاشِفةِ. وقدْ أتعبتُ نَفْسِي، وأَقْصَرْتُ نَهَارِي، وأَسْهَرْتُ لَيْلِي في ضَبْطِ هذا الكِتَابِ الماتعِ، وتَرْتيبِ نُصُوصهِ وفِقْرَاتهِ، والتَّعْلِيقِ عليهِ بِمَا يُوضحُ عَبَارَاتهِ وكَلِمَاتهِ، وإصْلاَحِ أَخْطَاءِ النُّسْخَةِ وسَقَطاتِها، وأَرْجُو مِنَ الله تعالَى أنْ أكُونَ قدْ وُفِّقتُ لذلكَ، ومَا تَوْفِيقِي إلَّا باللهِ، عليه توكلَّتُ وإليه أُنيبُ. واللهَ تعالَى أسألُ أنْ يَنْفَعَنِي وإخْوَانِي بهذا الكِتَابِ المفيدِ، وأنْ يَجْزِيَ مُؤلّفَهُ الإمامَ أبا المُطَرِّفِ القُنَازِعيَّ بِرِضْوَانهِ العَظِيمِ، ونَعِيمهِ المُقِيمِ، على ما بذَلَهُ مِنْ جُهُودٍ مَشْكُورَةٍ في خِدْمةِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وسُنَّةِ نَبِيَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وصَلَّى الله تعالَى وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلهِ وصَحْبهِ أجمعينَ، والحمدُ لله رَبِّ العالمينَ. * * * ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 323.

[مقدمة التحقيق]

المقدمة وفيها خَمْسةُ فُصُولٍ: الفَصْلُ الأوَّلِ: عَصْرُ أَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ. الفصل الثاني: ترجمة أبي المُطَرِّفِ. الفصل الثالث: شُيُوخُ أَبي المُطَرِّفِ وتَلاَمِيذُه. الفصل الرابع: مَرْويَاتُ أَبي المُطَرِّف ومَسْمُوعَاتهِ. الفصل الخامس: دِرَاسةُ الكِتَابِ.

الفصل الأول عصر أبي المطرف القنازعي

الفصل الأول عصر أبي المطرف القنازعي وفيه مَبْحَثانِ: المبحث الأوَّلِ: الحياةُ السيَاسيِّة. المبحثُ الثاني: الحياةُ العلميَّةِ.

المبحث الأول الحياة السياسية

المبحث الأول الحياة السياسية (¬1) مَرَّتِ الأندلسُ خِلالَ حياةِ أبي المُطَرِّفِ بأربعِ مَرَاحِلَ سِيَاسيةٍ، هي: المَرْحَلةُ الأولى: مَرْحَلةُ الخِلَافةِ: وتَبْتَدِئُ مِنْ تَارِيخِ إعْلانِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الحَكَمِ بنِ هِشَامِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ المَرْوَانِي، المُلَقَّبِ بالنَّاصرِ لِدِينِ الله تَسْميتَهُ بأميرِ المؤمنينَ سنة (316)، وتَنْتَهِي بوفَاةِ الحَكَمِ المُسْتَنْصِرِ باللهِ سنة (366). وكانَ لِشَجاعةِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصرِ وصَرَامتهِ سَبَباً في وِحْدَةِ البَلاَدِ مِنْ أَقْصَاهَا إلى أَقْصَاهَا، وغَدا ثَانِي أَعْظَمِ مُلُوكِ الأَنْدَلُسِ بَعْدَ عبدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ، وهو بانِي مَدِينةَ الزَّهْرَاءِ الشَّهِيرةِ، ودَامتْ دَوْلتهُ خَمْسِينَ عَاماً مِنَ الحُكْمِ، ثُمَّ توفي سنةَ (350). ثُمَّ خَلَفَهُ ابنهُ الحَكَمُ الثَّانِي المُسْتَنْصِرُ باللهِ، وقدْ جَاوزَ السَّابِعَةَ والأربعينَ مِنْ ¬

_ (¬1) كل ما ذكرته في هذا المبحث والذي يليه إنما هو استقراء للتاريخ من المصادر التالية: كتاب (الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية) لأمير البيان شكيب أرسلان، وهو مطبوع في ثلاث مجلدات بالقاهرة، وكتاب (قرطبة حاضرة الخلافة بالأندلس) للدكتور عبد العزيز سالم، دار النهضة بمصز، وكتاب (قرطبة في العصر الإسلامي - تاريخ وحضارة) للدكتور أحمد فكري، صدر عن مؤسسة الجامعة بالاسكندرية، و (التاريخ الأندلسي من الفتح إلى سقوط غرناطة) للدكتور عبد الرحمن علي الحجي، وهو مطبوع في دار القلم بدمشق.

عُمُرهِ، وكانَ الحَكَمُ حَلِيماً رَفِيقَاً، كمَا كانَ صَارِماً قَاسيًّا على المتلَاعِبينَ مِنَ العُمَّالِ، وظَلَّ مُدَّةَ خِلاَفتهِ مُوَاصِلاً لِغَزْوِ الرُّومِ، ومَنْ خَالَفهُ مِنَ المُحَارِبينَ، ولَمَّا أَحَسنَ بِقُرْبِ نِهَايتهِ عَهِدَ لابنهِ هِشَامِ الثَّاني الذي لُقِّبَ بالمؤيدِ باللهِ، وكانَ صَبِيًّا، وقدْ أُخِذَ عليهِ لِتَقْدِيمِة ابنهِ الصَّبِيِّ على الأَكِفَّاءِ مِنْ أَعْمَامهِ، وتُوفِّي الحَكَمُ سنةَ (366)، وبِمَوْتهِ اخْتَفَى آخرُ العُظَماءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الأَنْدَلُسِيْينَ (¬1). المرحلةُ الثانية: مَرْحَلةُ الدَّولةِ العَامِريَّةِ: لما بُويعَ هِشَامُ بالخِلاَفةِ كانَ له مِنَ العُمُرِ أحدَ عشَر سنةً، واستطاعَ مُحَمَّدُ بنُ أَبي عامرٍ المعروفُ بالحَاجِبِ المَنْصُورِ أنْ يَكُونَ وَصِيًّا على الغُلاَمِ الخَلِيفةِ، وما لبثَ حتى اسْتَجْمَعَ أَزِمَّةِ السُّلْطةِ في يَدِه تِبَاعًا، وانتهى الأمرُ بأنْ فَرَضَ ابنُ أبي عَامِرٍ نَفْسَهُ حَاكِمًا مُطْلَقًا للأندلُسِ، وغَدا الخليفَةُ هِشَامٌ ليسَ له مِن الأمرِ شَيء، وكانَ ذلك سنة (371)، وقامَ المنصورُ بأمورِ الخِلاَفةِ خيرَ قِيامٍ، وكانَ حُكْمهُ مِنَ العُصُورِ الزَّاهيةِ في تاريخِ الأَنْدَلُسِ، ثُمَّ تُوفِّي سنة (392) مُتَأثرًا بِجِرَاحهِ إثْرَ قُفُولهِ مِنْ غَزْوَة لأَرَاضِي قُشْتَالةَ. ثُمَّ تَولَّى عبدُ الملكِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبي عَامِرٍ الحِجَابةِ مَعَ بقاءِ اسمِ الخِلاَفةِ للمُؤيِّدِ باللهِ هِشام الثَّانِي، وقد استمَرَّ عبدُ الملكِ فِي تَجْهِيزِ الجُيُوشِ، وتَوْطِيدِ الأَمْنِ، وحِمَايةِ الثغُورِ، لَكِنَّهُ مَا لَبثَ أَنْ توفي في صَفَر سنة (399)، فَخَلَفهُ أخوُه عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ المنصورِ بنِ أَبي عَامِرٍ المُلَقَّبِ بالناصر والمعروفُ بِشَنْجُولَ، ولم يكنْ مثلَ أبيهِ وأخيهِ، فلمْ يَلْبثْ أَنْ طَلَبَ مِنَ الخَلِيفَةِ هِشَام المؤيَّدِ باللهِ بأن يَكْتَبُ إليهِ وِلَايةَ العَهْدِ مِنْ بَعْدِه، وحَصَلَ لَهُ مَأْمُولَهُ، فكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتِيلٍ في الفِتْنَةِ، ¬

_ (¬1) وصف الذهبي في السير 17/ 132 - 133 هشامًا هذا بقوله: كان ضعيف الرأي، قليل العقل، يُصدق بما لا يكون، وأعطى مرة مالا عظيما لمن جاءه بحافر حمار وزعم أنه حافر حمار العزيز، وأتاه آخر بحجر، فقال: هذا من الصخرة، وأتاه آخر بشعر، فقال: هذا من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان المنصور يمنع الناس من الإجتماع به.

يُضَافُ إلى ذَلِكَ إلى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْظَى باحْتِرَامِ الجَيْشِ، ولاَ بِحُبِّ النَّاسِ له مِمَّا هيَّا للثورةِ عليه. وانتهزَ مُحَمَّدُ بنُ هِشَامِ بنِ عبدِ الجبَّارِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الفُرْصَةَ في غِيابِ شَنْجُولَ، بأنْ ثَارَ عليهِ وسَيْطَرَ على قُرْطُبةَ، ثُمَّ اسْتَطاعَ أنْ يَقْبضَ على شَنْجُولَ ويَقْتُلَهُ، وذلكَ في رجَب سنة (399)، وهَكَذا انْهَارتْ الدَّولةُ العَامِريَّةِ. المَرْحَلةُ الثالثة: مَرْحَلةُ الفِتَنِ: عُرِفتْ هذه المرحلةُ بدايةُ القَلاَقِلِ، وتُحَدَّدُ على النَّحْو التَّالي: أ - بدايةُ الفِتنةِ (¬1): بدأتْ بأنْ أجبرَ مُحَمَّدُ بنُ هِشَامِ بنِ عبدِ الجبَّارِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الخَلِيفَةَ هِشَامَ المُؤَيَّدَ بالله بأنْ يَتَنازَلَ عَنِ الخِلاَفةِ، وتَمَّ له ذَلِكَ، ثُمَّ تَسَمَّى بالمهْدِي (¬2)، ثُمَّ عَمَدَ إلى الخَلِيفَةِ هِشَامِ المُؤيَّدِ فأَخْفَاهُ، وأشاعَ بينَ النَّاسِ أَنَّهُ ماتَ، ثُمَّ عَهِدَ إلى هِشَامِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ النَّاصِرِ بالخِلَافةِ مِنْ بَعْدِه، ولكِنَّ سُوءَ خُلُقِ المَهْدِي وإهَانتَهُ لِرُؤَسَاءِ قَبَائلِ البَرْبرِ وَزُعَمَائِهِم جَعَلَ هِشَامٌ يَتَقَرَّبُ للبَرْبَرِ، ويَسْعَى مَعَهُم لِخَلْعِهِ، فَجَمَعُوا جُمُوعَهُم للإنْقِضَاضِ عليه، ولكنَّه بَادَرَهُم بِجَمْعٍ أكبرَ، فَشَتَّتَ شَمْلَ البَرْبرِ وقتَلَ هِشَامَ بنَ سُلَيمانَ، وانْسَحَبَ البَرْبَرُ بعدَ قَتْلِ هِشَامِ بنِ سُلَيْمَانَ إلى ضَوَاحِي قُرْطُبةَ، وفِيهِم ولدُه سُلَيْمَانُ بنُ هِشَامٍ، فَعِنْدَما عَرَفُوه وَلَّوهُ عَلَيْهِم ولَقَّبُوهُ بالرَّشِيدِ، وبَدَءَوُا يَعُدُّونَ العُدَّةَ للإسْتِيلاَءِ عَلى قُرْطُبةَ. وتَأجَّجتِ الفِتْنةُ في قُرْطُبةَ حَيْثُ نَادَى مُنَادِي المَهْدِي بأن مَنْ أتَى بِرَأْسِ بَرْبَرِيٍّ فَلَهُ كَذَا وكَذَا، فتَسارعَ العَامَّةُ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ في قَتْلِ مَنْ قَدِرُوا عليهِ حتَّى امتدتْ ¬

_ (¬1) ينظر: جذوة المقتبس ص 18، وبغية الملتمس للضبي ص 24، والسير 17/ 123، بالاضافة إلى المصادر المتقدمة. (¬2) وصف ابن عذارى في البيان المُغْرِب 3/ 74 المهدي هذا بأنه أشام خليفة على وجه الدنيا، وقال الذهبي في السير 17/ 129: فلما استوثق الأمر للمهدي أظهر من الخلاعة والفساد أكثر مما عمله شنجول.

الأيدِي إلى صَالِحِي المُسْلِمينَ، فَقُتِلُوا صَبْراً، ونُهِبتْ بِيُوتُهم، وهُتِكَتْ أَعْرَاضُهم، بلْ قُتِلَ الكَثيرُ مِمَّنْ قَدِمَ للرِّبَاطِ في ثُغُورِ الأَنْدَلُسِ مِنْ بلادِ المشرقِ الإسلامِيِّ، فَقُتِلُوا على أَنَّهُم بَرْبر، حتَّى أنَّ كُلَّ مَنْ كان بينَهُ وبينَ أحدٍ عَدَاوةٌ قالَ: هذا بَرْبَرِيٌّ، فَقُتِلَ. ب - امتدادُ الفتنةِ: وعندما بلغَ البَرْبرُ ما جَرَى لإخْوَانِهِم بِقُرطُبَةَ زَحَفُوا عَليها، وعلَى رَأْسِهِم سُلَيمَانُ بنُ هشَامٍ الرَّشِيدُ، وحَاصَرُوا المَهْدِيَّ في قَصْرِه، وكانَ ذَلِكَ في شَوَّال سنة (399)، ولكِنَّ المهدِيَّ فَك حِصَارَهُم، وأَعْمَلَ فِيهم القَتْلَ، وظَفَر المَهْدِيُّ بقَائِدِ البَرْبرِ سُلَيْمَانَ بنِ هِشَامٍ فَقَتلَهُ، فَفَرَّ البَرْبَرُ إلى ضَوَاحِي قُرْطُبةَ، فاخْتَارُوا سُلَيْمَانَ بنَ الحَكَمِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ النَّاصرِ ولَقَّبُوهُ بالمُسْتَعِينِ -وهُو اْبنُ أَخِي الرَّشِيدِ- (¬1) الذي سُرْعَانَ مَا عَادَ إلى قُرْطُبةَ بِمُسَاعَدِة النَّصَارَى لموَاجَهَةِ المَهْدِي على أَنْ يُعْطيِهم مَا يَخْتَارُونهُ مِنَ الحُصُونِ المتاخِمةِ لهُ، وفي الوقتِ نَفْسهِ كانَ هناكَ وَفْدٌ مِنْ قِبلِ المَهْدِي يُسَاوِمُ النَّصَارَى على ابنِ عَمِّه ومَنْ مَعَهُ مِنَ البَرْبرِ المسلِمينَ، ولَكِنَ النَّصَارَى كَسْباً للطرَفِ القَوِيِّ مَدُّوا يدَ المُسَاعَدةِ إلى سُلَيْمَانَ المستعينِ والبَرْبَرِ، ثمَّ وَقَعَتْ الحَرْبُ بينَ جَيْشِ المُسْتِعِينِ وبينَ جَيْشٍ لأتْبَاعِ المَهْدِي، وكانتْ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِم، وَلَجَئُوا إلى المَهْدِيِّ في قُرْطُبةَ، واشْتَبكَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ المُسْتِعينِ مَعَ أَهْلِ قُرْطُبةَ الذينَ حَشَدَهُم المهدِي مِنْ غَيْرِ نِظَامٍ، فَوَقَعَتْ فِيهِم مَقْتَلَةٌ عَظِيمَة، ودَخَلَ المُستَعِينُ ومَنْ مَعَهُ منَ البَرْبرِ والنَصَارَى قُرْطُبةَ، وقتلُوا مِنْهم أكثرَ مِن ثَلاَثينَ ألفًا. وقدْ أُوذِي أَبو المُطَرِّفِ في هذه الفِتنةِ، قالَ ابنُ حيَّانَ: امتُحِنَ بالبربرِ أوَّلَ ظُهُورِهِم مِحْنَةً أَوْدَتْ بِمَالهِ (¬2). ج - مُناورَةُ للمَهْدِي: لما رأَى المَهْدِي مَا حَلَّ بهِ مِنْ هَزِيمَةٍ أَظْهَرَ هِشَامَ ¬

_ (¬1) قال الذهبي في السير 17/ 133 في ترجمته: دانت له الأندلس سنة (403)، جال بالبربر يفسد وينهب البلاد، ويعمل كل قبيح، ولا يبقي على أحد. (¬2) تاريخ الإسلام 28/ 323.

المؤيَّدَ وأَقْعَدَهُ حيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وأَرْسَلَ قاضيهِ لِيفَاوِضَ البَرْبَر ويُبْلِغُهُم أنَّ هِشَامَ المؤيَّدَ هُوَ الخَلِيفَةُ ومَا هُو إلَّا كالحَاجِبِ له، لكنَّ أهلَ قُرْطُبةَ خَذَلُوا المَهْدِيَّ، وخَرَجُوا يُرَحِّبُونَ بِسُلَيمانَ المستعينِ، ثُمَّ نُودِي بالبَيْعَةِ بالعهدِ لِسُليمانَ بنِ الحَكَمِ. ثُمَّ فَرَّ المهدِيُّ ومَنْ مَعَهُ مِنْ قُرْطُبةَ، واتَّفَقَ مَعِ النَّصَارَى على أنْ يَتَنازَلَ عَنْ بَعْضِ الثُّغُورِ نَظِيرَ - مُسَاعَدَتِهِم ضَدَّ المُسْتَعِينِ، فخَرجَ إليهم المستعينُ باللهِ مَعَ البَرْبرِ إلى مَكَانٍ قُرْبَ قُرْطُبَةَ يُعْرَفُ بدَارِ البَقَرِ، وكَانَت الدَّائِرَةُ فيها على المستعينِ والبَرْبرِ، ودَخَلَ المَهْدِيُّ قُرْطُبةَ مِنْ جَدِيدٍ، فعَاثَ فِيها ومَنْ مَعَهُ فَسَاداً، ثُمَّ أَجْهَزَ عَلَى كُلِّ بَرْبَرِيٍّ حَتَّى الأَطْفَالَ والنِّسَاءَ، فَحَدثتْ مَقْتَلةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ تَنَادَى إلى سَمْعِه بأن المُسْتِعينَ ومَنْ مَعَهُ مِنَ البَرْبرِ يَعُدّونَ العُدَّةَ لِقِتالهِ، فخَرَجَ إليهِم، فكانَت الدَّائرةُ في هذِه المرَّةِ على المَهْدِيِّ الذي عادَ إلى قُرْطُبَةَ لِيَتَحَصّن بِدَاخِلَها، ولكنَّ العَبيدَ قتلُوه وأَعَادُوا هِشَامًا المؤيَّد إلى كُرْسِيِّ الخلافةِ في ذِي الحجَّة سنة (400)، فَكانتْ وِلاَيةُ مُحَمَّدِ المهدِيِّ منذُ قامَ إلى أَنْ قُتِلَ سِتَّةَ عَشَر شَهْراً، منْ جُمْلَتِها الستَّةُ الأَشْهُرِ التي كانَ فيهَا سُلَيمانُ بِقُرْطُبةَ. ولَمْ يَهْدأ لِسُليمَانَ المُسْتَعِينِ بالٌ طِوَالَ تِلْكَ الفَترةِ، إذ ظَلَّ يَجُولُ بِعَسَاكِرِه البَرْبرِ في بلادِ الأَنْدَلُسِ، إلى أن اسْتَطاعَ دُخُولَ قُرْطُبةَ في أوائلِ شَوَّال سنة (403)، وقُتِلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وعَدَدٌ كَبيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ والأَعْيانِ (¬1)، ثم أعطَى الأمَانَ لأهلِ قُرْطُبَةَ، وقامِ بخَلَعِ هِشَامِ المَؤيَّدِ مِنَ الخِلاَفةِ وقَتْلِهِ، ثُمَّ قامَ بِتَقْسِيمِ الأَنْدَلُسَ بينَ القَبَائلِ التي نصَرتْهُ مِنَ البربرِ وغَيْرِهم. المرحلة الرابعة: دولة بنى حَمُّود: بَحَثَ العَامِريُّونَ وأَتْبَاعَهُم - وَهُم الذينَ فَرُّوا عَنْ قُرْطُبةَ بعدَ دُخُولِ المسْتَعينِ باللهِ لها - عَنْ خَلِيفَةٍ أُمُويٍّ فَلَمْ يَجِدُوا أَصْلَحَ ¬

_ (¬1) منهم الإِمام العلامة أبو الوليد ابن الفرضي الذي وري الثرى من غير غسل ولا كفن ولا صلاة بعد أن بقي في داره ثلاثة أيام مقتولا، ينظر: كتاب (أبو الوليد ابن الفرضي القرطبي) 1/ 422.

للأمرِ مِنْ عليِّ بنِ حَمُّودٍ الهَاشِميِّ، وبدأ البربرُ في قُرْطُبَةَ يَسْأَمُونَ حُكْمَ المُسْتَعِينِ، فاجتمعتْ أَهْدَافُ العَامِريَّةِ والبَرْبَرِ فتَمَّ التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، واتَّفَقَ الفَرِيقَانِ على الإتِّصَالِ بِعَليِّ بنِ حَمُّودٍ، فَزَحفَ مِنْ سَبْتةَ إلى مَالَقةَ فَتَملَّكَها، ثم إلى قُرْطُبَةَ فَهَزمَ المُسْتَعِينَ وقَتَلَهُ سنة (406)، وبذلكَ انْقَطَعتْ دَوْلةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وتَولَّى الأمرَ عليُّ بنُ حَمُّودٍ، وبَقِي عَامَيْنِ إلى أن قتَلَهُ عَبيدُه، ثُمَّ وَلِيَ أَخُوهُ القَاسِمُ بنُ حَمُّودٍ، وبَقِيَ بِها إلى سنةِ (412)، إذ قامَ عليهَ ابنُ أَخِيهِ يَحْيَى بنُ عَلِيِّ بنِ حَمُّودٍ بِمَالقةَ، فَهَربَ القَاسِمُ عَنْ قُرْطُبَةَ بلاَ قِتَالٍ، وصَارَ بإشبيلِيّهَ حتَّى اجْتَمعَ أمْرُهُ واسْتَمَالَ البربرَ، وزَحَفَ بِهِم إلى قُرْطُبَةَ فَدَخلَها سنة (413)، وهَرَب يحيى إلى مَالَقَة، فَبَقِي القَاسِمُ بقُرْطُبةَ شُهُورَاً واضْطَرَبَ أَمْرُهُ، فعاشتْ قُرْطُبةُ فَتْرةً مِنَ الزَّمَنِ في اضْطِرَاباتٍ مُتَقَطعَةً، تَوَالتْ خِلَالهَا العَدِيدُ مِنَ الزَّعَاماتِ دُونَ أَنْ تَسْتَقِرَّ على حَالٍ.

المبحث الثاني الحياة العلمية

المبحث الثاني الحياة العلمية (¬1) شَهِدتْ الفَتْرةُ التي عَاشَها الإمامُ القُنازِعيُّ في الأَنْدَلُسِ أَبْهَى عُصُورِها العِلْميَّةِ، وخُصُوصًا تلك الفترةِ التي كانتْ في عَهْدِ النَّاصِرِ وولَدِه الحَكَم، مع ما تَمَيَّزتْ أيضًا بالرِّحْلاتِ العِلْميَّةِ التي قامَ بِها عُلَمَاءُ الأَنْدَلُسِ إلى المشرفِ. هذا بالإضَافةِ إلى ازْدِهَارِ التَّعْلِيمِ والتَدْرِيسِ مِمَّا كانَ لهُ الأثرُ الكَبِيرُ في ازْدِهَارِ الحياةِ العِلْمِيَّةِ في الأندلُسِ، فقدْ عَنَي أَهْلُ الأَنْدَلُسِ بِتَعْلِيمِ أَنْفُسِهم وأَبْنَائِهِم، قالَ المَقَّرِفيُ: (وأَمَّا حَالُ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ في فُنُونِ العُلُومِ فَتَحْقِيقُ الإنْصَافِ في شَأْنِهِم في هذا البابِ أَنَّهُم أَحْرَصُ النَّاسِ على التَّمَيُّزِ ... والعَالِمُ عِنْدَهُم مُعَظَّم مِنَ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، يُشَارُ إليه ويُحَالُ عليهِ ... ولَيْسَ لأَهْلِ الأَنْدَلُسِ مَدَارِسُ تُعِينُهم على طَلَبِ العِلْمِ، بلْ يَقْرَؤُونَ جَمِيعَ العُلُومِ في المَسَاجدِ بأُجْرَة، فَهُم يَقْرَؤَونَ لأَنْ يَعْلَمُوا لاَ لأَنْ يأْخُذُوا جَارِيًا، فالعَالِمُ مِنْهُم بَارِع، لَأَنَّهُ يَطْلُبُ ذَلِكَ العِلْمَ بِبَاعِثٍ مِنْ نَفْسِه يَحْمِلُهُ على أَنْ يَتْرُكَ الشُّغْلَ الذي يَسْتَفِيدُ منه، ويُنْفِقُ مِنْ عِنْدِه حَتَّى يَعْلَمَ) (¬2). ¬

_ (¬1) يراجع كتاب: (الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس من سنة 316 - 422) للدكتور سعد عبد الله صالح البشري، وهو كتاب قيِّم، طبع بجامعة أم القرى بمكة، وكتاب (دور الفقهاء في الحياة السياسية والإجتماعية بالأندلس في عصر الإمارة والخلافة) للدكتور خليل إبراهيم الكبيسي، وهو مطبوع بدار البشائر الإسلامية في بيروت. (¬2) نفح الطيب 1/ 220.

وإلى جَانِبِ ذَلِكَ كَانَ اهْتِمَامُ بَعْضِ الخُلُفَاءِ بإنْشَاءِ المَكْتَباتِ، فقدْ كانَ قَصْرُ الحَكَمِ بِقُرْطُبةَ يَضُمُّ خَزَائنَ مِنَ الكُتُبِ يُقَالُ: إِنَّهَا لَمْ تَجْتَمِعْ لأحَدٍ مِنْ قَبْلَهُ ولا مِنْ بَعْدَهُ، قَدَّرَ بعضُ المؤرَّخِينَ مُحْتَويَاتِهَا بأَربعمائةِ ألفِ مُجَلَّدٍ أو أكثرَ (¬1)، ولَمَّا أَسْنَدَ المنصُورُ بنُ أَبي عَامِرٍ إلى ابنِ المَكْوِيِّ ومَنْ مَعَهُ إعادَةَ تَرْتِيبِ الخِزَانةِ طَالَتْ مُدَّةُ عَمَلِهِم في ذَلِكَ حَوْلاً كَامِلاً وزِيادةً (¬2)، وإلى جَانِبِ خَزَائنِ الحَكَمِ بِقُرْطُبةَ كانتْ في مُخْتَلِفِ كُبْرَياتِ مُدِنِ الأَنْدَلُسِ الأُخْرَى مَكْتَبَاتٍ كَثيرَةٍ، ويُضَافُ إلى هذا مَكْتَباتٌ خَاصَّةٌ لَدَى العُلَماءِ والأَعْيانِ، فقدْ ذُكِرَ أنَّ الإمامَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ فُطَيْسٍ (ت 402) كَانَتْ لَهُ مَكْتَبَةً كُبْرَى، وكانَ مَتَى عَلِمَ بِكِتَابٍ حَسَنٍ عندَ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ طَلَبَهُ للإبْتِيَاع منهُ وبالَغَ فِي ثَمَنِهِ، فإنْ قَدَرَ على ابْتيَاعِهِ وإلَّا انتُسَخَهُ منهُ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ، ولَمَّا تُوفي قَرَّر أَحْفَادُه بَيْعَهَا، وبَقُوا في ذَلِكَ مُدَّةَ عَامٍ كَامِل (¬3). ومَنْ تتَبَّعَ كُتُبَ الترَاجِمِ مثل: (تَارِيخِ عُلَماءِ الأَنْدَلُسِ) لإبنِ الفَرَضِي، و (جَذْوةِ المُقْتَبسِ) للحُمَيْدِيِّ، و (تَرْتيبِ المَدَارِكِ وتَقْرِيبِ المَسَالِكِ لمِعَرفةِ أَعْلاَمِ مَذْهَبِ مَالِكٍ) للقَاضِي عِيَاضٍ، و (الصِّلَةِ) لإبنِ بَشْكُوالَ، و (بُغْيةِ المُلْتَمِسِ) للضبِّي وغَيْرِها عَلِمَ مَا وَصَلَتْ إليهِ الأَنْدَلُسُ في عَصْرِ المُؤلِّفِ وما قَبْلَهُ ومَا بَعْدَهُ مِنْ رِفْعَةٍ وتَقَدُّمٍ في المجالِ العِلْمِي، وفِيما يَلِي جَانِبٌ مُوجَزٌ لأَبْرَزِ العُلَمَاءِ في عَهْدِ المُؤَلِّفِ في فُنُونِ العِلْمِ المُخْتَلِفَةِ: 1 - فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وعُلُومهِ وقِرَاءَاتهِ: ظَهَر فِي الأندَلُسِ مُقْرِئينَ كِبَاراً ومُفْسِّرينَ عِظَاماً، مِثْلَ: أَبي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الأَنْطَاكِيِّ (ت 377)، وأبي القَاسِمِ أَحْمَدَ بنِ القَاسِمِ اللَّخْمِيِّ (ت 410)، وأبي عُمَرَ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ ¬

_ (¬1) نفح الطيب 1/ 385. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 128. (¬3) الصلة 2/ 310.

عبدِ اللهِ الطَّلَمَنْكِيِّ (ت 429)، وأَبي العبَّاسِ أَحْمَدَ بنِ عَمَّارٍ المَهْدَوُيِّ (ت بعد 430)، ومَكِّيّ بنِ أَبي طَالبٍ القَيْسِيِّ (ت 437)، وأَبي عَمْرو عُثْمَانَ بنِ سَعِيدٍ الدّانِي (ت 444)، وغيرهم. 2 - في الحَدِيثِ وعُلُومهِ: تَأَلَّقَ مُحَدِّثُونَ كِبَارٌ ضَرَبُوا فيهِ بِحَظٍّ وَافِرٍ، مِنْهُم: عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ علي المَعْرُوفُ بابنِ البَاجِي (ت 378)، ومُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ مُفَرِّج القُرْطُبيُّ (ت 380)، وعَبْدُ اللهِ بنُ إبراهيمَ الأَصِيلِيُّ (ت 392)، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ فُطَيْسٍ القاضي (ت 402)، وأَبو الوَليدِ عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ ابنِ الفَرَضِيِّ (ت 403)، ومُحَمَّدُ بنُ يحيى ابنُ الحَذَّاءِ (ت 416) وغَيْرُهم. 3 - الفِقهُ: بَرَزَ فِي الأَنْدَلُسِ في هَذا العَصْرِ وبَعْده كَبَارُ الفُقَهَاءِ والمُفْتين، بلْ ظَهَر فِيهِم مَنْ وَصَلَ إلى دَرَجةِ الإجْتِهَادِ، مِنْ أَمْثَالِ: أبي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ القُرْطُبي (ت 364)، وأبي عِيسى يحيى بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ يحيى اللَّيْثِي (ت 367)، وأبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ يَبْقَى بنِ زَرْبٍ (ت 381)، وعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ الثَّغْرِيِّ (ت 383)، وعَبْدِ اللهِ بنِ إبراهيمَ الأَصِيلِي (ت 392)، وأحمدَ بنِ عبدِ المَلِكِ ابنِ المَكْوِي (ت 401) وغيرهم. 4 - اللُّغَةُ والأَدَبُ والشِّعْرُ: ازْدَهَرتْ الدِّرَاساتُ اللُّغَويَّةِ والأَدَبيَّةِ في هذا العَصْرِ ومَا بَعْدَه، وأَنْجَبتِ الأَنْدَلُسُ كِبَارَ العُلَمَاءِ في هَذا الشَّأنِ، مِنْ أَمثالِ: مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ البَرْبَرِيِّ ابنِ القُوطِيَّةِ (ت 367)، ومُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ عَبْدِ العَزِيزِ الخَرَّازِ (ت 369)، وعَبْدِ اللهِ بنِ حَمُّودٍ الزُّبَيْدِيِّ (ت 372)، وأَبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الزُّبَيْدِيِّ (ت 379). وظَهَر فِيهَا أَيْضًا شُعَراءُ بُلَغَاءُ يُزَاحِمُونَ فُحُولَ الشُّعَراءِ الُمجَوِّدِينَ المَطْبُوعِينَ، وأدباءٌ مُجِيدُونَ لَهُم التَّرَسُّلُ البَدِيعُ، والنَّظْمُ الرَّائِقُ، مِثلَ: أَبي عُمَرَ يُوسُفَ بنِ هَارُونَ القُرْطُبيِّ (ت 403)، وأَبي عُمَرَ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ دَرَّاجِ القَسْطَليِّ (ت 412) وآخرينَ.

5 - التَّارِيخُ: بَرَزَ في هَذِه الفَتْرَةِ مُؤَرِّخُونَ مَشْهُورُونَ، مِنْهُم: مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ البَرْبَرِيّ ابنُ القُوطِيَّةِ اللُّغَوي (ت 367)، ومُحَمَّدُ بنُ حَارِثِ بنِ أَسَدٍ الخُشَنِيّ (ت 371)، وأَبو الوَليدِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ ابنِ الفَرَضِيّ (ت 403) وغَيْرُهم. كَمَا بَرزَ عُلَماءُ كَثِيرُونَ في عُلُومٍ أُخْرَى كالجُغْرَافِيا، والفَلْسَفةِ، والطِّبِّ، والرِّيَاضِيَّاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ.

الفصل الثاني ترجمة المؤلف

الفَصْلُ الثَّاني ترجمة المؤلف وفيه ستَّةُ مَبَاحثِ: المبحثُ الأوَّلِ: المُتَرْجِمُونَ له، والرَّاوِينَ لِحَدِيثهِ ومَرْويَاتهِ المبحثُ الثاني: اسمه ونسبه وكنُيته، ومولُده، ووفاته. المبحثُ الثالث: نشأتهُ، وطلبهُ للعلم، ورِحْلاَته. المبحثُ الرَّابع: مُصَنَّفاتُه. المبحث الخامس: مذهبهُ، وعقيدُته. المبحث السادس: مآثِرُهُ وثناءُ العُلَماءِ عليه.

المبحث الأول المترجمون له والراوين لحديثه ومروياته

المبحث الأَوَّل المترجمون له والراوين لحديثه ومروياته حَرَصَ العَدِيدُ مِنْ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ والتَّرَاجِمِ والفَهَارِسِ عَلَى ذِكْرِ أبي المُطَرِّفِ والإشَادَةِ بهِ، وَرِوَايةِ أَحَادِيثهِ التّي رَوَاها، والكُتُبِ التِّي تَمَلَّكَ حَقَّ رِوَايَتِهَا، بلْ أَفْرَدَهُ بالتَّصْنِيفِ الإمامُ أَبو القَاسِمِ خَلَفُ بنُ عَبْدِ الملكِ بنِ بَشْكُوَالَ (¬1). وقَدْ يَمَّمتُ قَصْدِي إلى المَصَادِر المُتَقَدِّمةِ القَرِيبةِ مِنْ عَصْرِ المُصَنِّفِ، أَمَّا المَصَادِرُ المُتَأَخِّرةُ -وهي التي جَاءتْ بعدَ القَرْنِ العَاشِرِ- فلَمْ أُعَرّجْ عَلَيْها، لأَنَّه لَيْسَ فِيها جَدِيدٌ سِوَى النَّقْلِ عَنِ المَصَادِرِ المُتَقدِّمةِ، وقد رَتَّبْتُ المَصَادِرَ حَسَبَ وَفَياتِ مُؤْلِّفيهَا على النَّحْوِ التَّالِي: 1 - حَافِظُ الأَنْدَلُسِ ومُحَدِّثُها وفَقِيهُها أَبو عُمَرَ يُوسُفُ بنُ عَبْدِ البَرِّ النَّمْرِيُّ القُرْطُبي (ت 463)، وَهُو تِلْمِيذُ المُصَنّفِ، وقدْ رَوَى عنه رِوَاياتٍ كَثيرةٍ، وفِي بَعْضِها تَحْدِيدُ مَكَانِ الرِّوايةِ وتَارِيِخهَا، يُنظَرُ: (التمْهِيدُ) 1/ 218 و 229، و 250، و 253، و 2/ 173، و 252، و 257، و 3/ 264، و 4/ 20، و 24/ 147، و 221، و 266، و 6/ 106، و 12/ 161، و 162، و 13/ 54، و 15/ 298، و 16/ 240، و 17/ 196، و 18/ 206، و 24/ 147، و 221، و 266، و 280، و 331، و 383، و 389، وفي كتاب (الإستذكار) 4/ 194، و 9/ 62، و 558، وفي كِتَاب (جَامعِ بيانِ العِلْم وفَضْلِه) 1/ 215، و 2/ 1146. ¬

_ (¬1) ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي 40/ 59، والوافي بالوفيات للصفدي 13/ 230، ولم يصلنا هذا الكتاب فيما نعلم.

2 - الإمامُ أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أبي نَصْرٍ الحُمَيْدِيُّ (ت 488)، في: (جَذْوةِ المقتبسِ في ذِكْرِ وُلاَةِ الأندلسِ) ص 278 - 279. 3 - القَاضِي أبو مُحَمَّدٍ عبدُ الحَقِّ بنُ عَطِيّهَ الغَرْنَاطِي (ت 541)، في: فهرسته ص 72. 4 - القَاضِي عِياض (ت 544)، في: (تَرْتيبِ المَدَارِكِ وتَقْرِيبِ المَسَالِكِ لِمَعْرِفةِ أَعْلاَمِ مَذْهبِ مَالِكٍ) 7/ 290 - 293، وفي كتابه: (الغُنية) ص 109، و 188. 5 - أبو بكر محمد بن خير الأموي الإشبيلي (ت 575)، في: (فِهْرِسةِ مَا رَوَاهُ عَنْ شُيُوخِهِ)، ص 49، و 57، و 84، و 104، و 132، و 134، و 164، و 228، و 263، و 274, و 288، و 303، و 308، و 322. 6 - أبو القَاسِم بنُ بَشْكُوالَ (ت 578)، في: (الصِّلَةِ) 2/ 322 - 324، ورَوَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ طَرِيقهِ في كِتَابهِ: (غَوَامضِ الأَسْمَاءِ المُبْهَمَةِ الوَاقِعَةِ في مُتُونِ الأَحَادِيثِ المُسْنَدَةِ): 1/ 137، و 232، و 461، 2/ 591، و 700، و 745 و 753 و 831، و 852، و 877، وفي كتابه: (المُسْتَغِيثينَ باللهِ) ص 22، و 32، و 65، وفي كتابهِ: (الآثارِ المَرْويةِ في الأَطْعِمةِ السَريَّةِ والآلاتِ العِطْرية) ص 118، و 285، و 297، و 302، وجَاءتْ جَمِيعُ هَذِه الرِّواياتِ عَنْ شَيْخهِ أبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَتَابٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ به. 7 - أَحْمَدُ بنُ يحيى بنِ أحمدَ بنِ عَمِيرَةَ الضبِّي (ت 599)، في: (بُغْيةِ المُلْتَمِسِ في تَارِيخِ رِجَالِ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ) ص 371. 8 - عليُّ بنُ مُوسَى أبو سَعِيدٍ المَغْرِبيِّ (ت 685)، في كِتَابِ: (المُغْرِبِ فِي محاسن حُلَى المَغْرِبِ) 1/ 166. 9 - القَاسِمُ بنُ يُوسُفَ التُّجَيْبِي السَّبْتِي (ت 730)، في: (بَرْنَامَج شُيُوخِه) ص 49.

10 - الإمامُ المؤَرِّخ أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عُثْمَانَ الذَّهبي (ت 748) في: (تاريخ الإسلام) 28/ 322، وفي: (سير أعلام النبلاء) 17/ 342، و (تذكرة الحفاظ) 3/ 1055، و (العبر في خبر من غبر) 3/ 114، و (طبقاتِ القُرَّاءِ) 2/ 583، والمقُتْفَى في سَرْدِ الكُنَى 2/ 81. 11 - الإِمام العلَّامةُ صَلاَحُ الدِّينِ خَلِيلُ بنِ أَيْبَكَ الصَّفَدِيُّ (ت 764)، في: (الوافي بالوفيات) 18/ 161. 12 - الفقيهُ بُرْهَانُ الدّينِ إبراهيمُ بنُ عليِّ بنِ فَرْحُونَ المالكي (ت 799) في: (الدِّيباجِ المُذْهَبِ في مَعْرِفةِ أَعْيَانِ المَذْهبِ) 1/ 485. 13 - الإمامُ العَلاَّمةُ المُقْرِئُ أَبو الخَيْرِ مُحَمَّدِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الجَزَرِيُّ (ت 833)، في: (غَايةِ النِّهاية في طَبَقَاتِ القُرَّاءِ) 1/ 380. 14 - الحافظُ أبو الفَضْلِ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ (ت 852)، في: (المعجمِ المُفَهرَس، أو تَجْريدِ أَسَانيدِ الكُتُبِ المَشْهُورَةِ والأَجْزَاءِ المنثورةِ) ص 50، و 108، و 113.

المبحث الثاني اسمه ونسبه وكنيته, وولادته ووفاته

المبحث الثَّاني اسمه ونسبه وكنيته, وولادته ووفاته * هُو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوَانَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ القُنازِعيُّ القُرْطُبِيُّ. * وأَمَّا كنيتَهُ فَهِي: أبو المُطَرِّفِ (¬1). * ويَنْتَسِبُ أبو المُطَرِّفِ إلى الأَنْصَارِ، وَهُم الذينَ نَصَروا رَسُولَ اللهِ - صلَّى الله عليهِ وسَلَّم - والمُهَاجِرِينَ في المدينةِ النبويَّة الشَّريفةِ، وقدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْهُم إلى الأَمْصَارِ للجِهَادِ ونَشْرِ العِلْمِ، وكَانَ بَعْضُهُم مَعَ الجُيُوشِ التي فتَحَتْ إفْرِيقِيَّةَ، والمَغْرِبَ، والأَنْدَلُسَ، ونَزَلَ كَثِيرٌ مِنْهُم هذِهِ البِلَادَ واسْتَوْطَنُوهَا. وأَمَّا نِسبتُهُ إلى (القُنازِعي)، فَهِي - فِيمَا يُقَالُـ مَنْسُوبةٌ إلى صَنْعَتِه، كَمَا قالَ ابنُ ¬

_ (¬1) يبدو أن هذه الكنية كانت منتشرة في الأندلس كثيرًا، وأول من عَرفتُ أنه تكنَّى بها هناك: أمير الأندلس وسلطانها عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الملك بن مروان الأموي المشهور بالداخل (ت 172)، وتكنى بها من أحفاده: عبد الرحمن بن الحَكَم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل (ت 238)، والناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (ت 350)، وهو باني مدينة الزهراء في قرطبة، كما في السير 8/ 244، و 260، و 265، وعُرِف بهذه الكنية أيضا كثير من علماء الأندلس: منهم عبد الرحمن بن عيسى بن محمد بن مدراج من أهل طليطلة (ت 363)، كما في تاريخ علماء الأندلس لإبن الفرضي 1/ 263، والإمام العلامة الفقيه المصنِّف قاضي قرطبة عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فُطَيس (ت 402)، كما في السير 17/ 210.

عَتَّابٍ، والقَاضِي عِياض، وابنُ بَشْكُوالَ (¬1)، وقِيلَ: إنَّها نَسْبَةٌ إلى ضَيْعَتِه، وذَهَبَ إلى هذا القَوْلِ: الذَّهبِيُّ، فقالَ: (قُنَارعُ قَرْيةٌ) (¬2). * أَمَّا القُرْطُبي، فَهُو نِسْبَةٌ إلى قُرْطُبةَ - بِضَمِّ أوَّلهِ، وسُكونِ ثانيه، وضَمِّ الظاء المهملة - قال ياقوتُ الحَمَويُّ: (كلمة -فيما أَحْسَبُ - عَجَمِيَّة رُوميَّة، وهي مدينةٌ عَظِيمةٌ بالأندلسِ وَسَطَ بِلاَدِها، وكانت سَرِيراً لِمَلِكِها وقَصَبتها، وبِها كانتْ مُلُوكُ بني أُميَّة، ومَعْدنُ الفُضَلاء، ومَنْبعُ النُبلاءِ) (¬3). * ولادته ووفاته: وُلِدَ أبو المُطَرِّفِ في سنة (341). - وتُوفِّي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -في قُرْطُبةَ ليلةَ الخَمِيسِ آخرَ اللَّيلِ لإثنتي عشرَ خَلَتْ مِنْ رَجَب سنة (413)، ودُفِنَ عَشِيّةً بِمَقبرةِ ابن عبَّاس على قُرْبِ يَحْيى بنِ يحيى اللَّيثي، وَهُو في عُشْرِ الثَّمَانِينَ، وصَلَّى عليه القَاضي عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ بِشْرٍ (¬4)، وكانَ لِجَنازَتهِ حَفْلٌ عَظِيمٌ. * * * ¬

_ (¬1) المغرب 1/ 166، وترتيب المدارك 7/ 291، وتاريخ الإسلام 28/ 323. (¬2) سير أعلام النبلاء 17/ 343، قال الدكتور عبد الرحمن بن العثيمين رَعاه الله في مقدمة تفسير غريب الموطأ لإبن حبيب 1/ 90 - 91: ولا يخفى ما بين (ضيعة) و (صنعة) من التشابه في الرسم، ولا أدري ما هذه الصنعة، ولم ترد هذه النسبة في كتب الأنساب، ثم ذكر مصادره في الأنساب التي رجع إليها. قلت: ووجدت في كتاب الفوائد لا بن بشكوال في الورقة (109) أنه روى بإسناده عن ابن عتاب عن أبيه فقال: (حدثنا القلانسي عبد الرحمن بن مروان)، وهو القنازعى، وهذا يدل أنه منسوب إلى صنعة وليس إلى ضيعة. (¬3) معجم البلدان 4/ 324 (¬4) هو أبو المُطَرِّفِ عبد الرحمن بن أحمد بن بشر قاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيها أديبا، ينظر: جذوة المقتبس ص 270.

المبحث الثالث نشأته وطلبه للعلم ورحلاته

المبحث الثَّالث نشأته وطلبه للعلم ورحلاته نَشأَ أبو المُطَرّفِ في قُرْطُبةَ، وكَانتْ قُرْطُبةُ في ذَلِكَ الوَقْتِ زَاخِرَةً بِكِبار العُلَماءِ مِنَ المُحَدِّثينَ والفُقَهاءِ والمُقْرِئينَ واللُّغَويينَ، بلْ إنَّها كَانتْ مَقْصِدًا للرَّاغِبينَ في رِحْلةِ المُحَدِّثينَ مِنَ الأَنْدَلُسِ إلى المَشْرِق، وكانتْ لاَ تتَمُّ إلَّا إذا عَرَّجُوا عَلَى قُرْطُبةَ، وأَخَذُوا عَنْ شُيُوخِ العِلْمِ والحَدِيثِ بِها (¬1). وبدأ أبو المُطَرِّفِ طَلَبَ العِلْمِ وَهُو مَا يَزَالُ يَافِعًا فِي مُقْتَبلِ عُمُز، ثُمَّ تَدَرَّجَ في تَلَقِّي العُلُومِ على نَحْو مَا كَانَ يَعْهَدُه أبناءُ الأَنْدَلُسِ، حيثُ كانَ يُبْدأُ أَوَّلًا بِحِفْظِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وتَعَلُّمِ أُصُولِ الكِتَابةِ، وتَجْويدِ الخَطِّ، وتَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ، والتَّرَسُلِ بأَخْذِ قَوَانِينِها، وحِفْظِ الشِّعْرِ، ومَعْرِفَةِ أُصُولهِ وقَوَاعِدِه، ثُمَّ الاسْتِفَادةُ مِنْ العُلُومِ الأَولِيَّةِ الأخرى كالفِقْهِ والأُصُولِ وغير ذلك بما يمَكِّنُهُ بَعْدُ مِنَ الجُلُوسِ إلى حَلَقَاتِ العُلَمَاءِ، وظَهَرَ هَذا مِنْ خِلاَلِ شُيُوخهِ الذينَ لاَزَمَهُم، وكَانَ كثيرٌ منهُم أَعْيانَ العُلماءِ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ ومِنَ الوَافِدِينَ عَلَيْهَا، وكَانُوا رِجَالاً مُؤثِّرينَ في الحياةِ الأَنْدَلُسيِّةِ، ولهم أَدْوَارٌ إيجَابِيِّةٌ في مَسْرَحِ الحَياةِ، وكَانَ أَبو المُطَرِّفِ آنذاكَ يَافِعًا شَارِفاً للبُلُوغِ، ولَمَّا يَبْلُغُ مِنَ العِلْمِ مَدَاهُ. ¬

_ (¬1) ينظر: (حركة الحديث بقرطبة) ص 89، فقد ذكر نماذج لبعض المحدثين الذين مروا على قرطبة قبل رحلتهم إلى المشرق، وذكر منهم (علي بن محمد بن أحمد بن عبَادَل الأَنصاري) وَهُو مِنْ أهل إشبيلية، قدم بقرطبة فأخذ عن أبي المُطَرِّفِ القُنازِعي، ثم رحل إلى المشرق.

فَقَدْ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ خَالدِ بنِ الجَبَّابِ الفَقِيه بقُرْطُبةَ (ت 363)، وَهُو أَقْدَمُ شُيُوخِهِ -الذينَ عَرَفْتُهُم- وَفَاةً. كمَا رَوَى عَنِ الإمامِ العَلَّامةِ الفَقِيهِ أَبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ القُرْطُبِيِّ (ت 364)، وقدْ نَقَلَ كَثيراً مِنْ أَقْوَالهِ في الفِقهِ والحَدِيثِ، مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّهُ كَانَ كَثيرَ المُلاَزمةِ له. ورَوَى أيضًا عَنِ المُحَدِّثِ أَصْبغَ بنِ تَمَّام القُرْطُبي (ت 365). ولاَزمَ الإمامَ مُحَدِّثَ الأَنْدَلُسِ ومُسْنِدها أبا عِيسَى يحيى بنَ عبدِ الله اللَّيثي (ت 367). ورَوَى أيضاً عَنِ الإمامِ العَلَّامةِ قَاضِي الجَمَاعةِ بقُرْطُبةَ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبراهيمَ بنِ السَّلِيم (ت 367). وجالسَ الإمامَ العَلَّامةَ الفَقِيهَ اللُّغَوِيَّ مُحَمَّدَ بنَ يحيى ابنِ الخَرَّازِ (ت 369). والإمامَ عَلَّامةَ الأَدَبِ والنَّحْوِ أبا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ ابنِ القُوطِيَّة الإشْبِيلِي ثُمَّ القُرْطُبي (ت 369). ورَوى كَثيراً عَنِ الإمَامِ المُحَدِّثِ الفَقِيه المُتْقِنِ أبي مُحَمَّدٍ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عليِّ البَاجِي (ت 378). والإمامِ العَلَّامةِ المُحَدِّثِ أبي جَعْفِرٍ أحمدَ بنِ عَوْنِ اللهِ بنِ حَدَيرٍ القُرْطُبيِّ (ت 378). والإمامِ الفَقِيه المُحَدِّثِ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ مُفَرِّجِ القُرْطُبي (ت 380). والإمامِ العَلَّامةِ الفَقِيه أبي عُمَرَ أحمدَ بنِ عبدِ الملكِ الإشبيلي (ت 401) نَزِيلِ قُرْطُبةَ، المَعْرُوفُ بابنِ المَكْوِي. ولَمَّا أَشْبَعَ أبو المُطَرِّفِ نَهْمتَهُ في طَلَبِ العِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ قُرْطُبةَ ارْتَحَلَ إلى

المَشْرِقِ، وكَانَتْ رِحْلَتَهُ سنة (367)، وبَقِيَ فيها أَرْبعَ سِنِينَ، ثم قَفَلَ رَاجِعَاً إلى قُرْطُبةَ سنةَ (371)، ولَمْ تُحَدِّدِ المصَادِرُ بِدَايةَ هذه الرِّحْلَةِ، كَمَا لَمْ تُبَيِّنُ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ تَوَقَّفَ فِيهِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحِلْ دُونَ مُحَاوَلةٍ لِتَرْتيبِ الرِّحْلَةِ وسَيْرِهَا، وذَلِكَ عَلَى ضَوْءِ مَا تَجْمَّعَتْ عِنْدِي مِنْ مَعْلُومَاتٍ. فقدْ كَانَت الرِّحْلةُ عندَ الأَنْدَلُسِييْنَ تَبْدأُ بالقَيْرَوانِ، وذَلِكَ بِسببِ ازْدِهَارِ الحَيَاةِ العِلْميّهِ بِها، (حتَّى إنَّهُ يَنْدُرُ أنْ يَخْرُجَ أَنْدَلُسِيٌّ للحَجِّ أو للطَلَبِ ولاَ يَمُرُّ بِعَاصِمةِ إفْرِيقِيّةَ للتَزَوُّدِ مِنْ عُلَمَائِهَا، ومِمَّا سَاعَدَ على ذَلِكَ وِحْدَةُ المَذْهَبِ الفِقْهِي بِيْنَهُما، فإنَّ المَذْهَبَ المَالِكِيَّ كاَنَ دِعَامةُ الحياةِ العِلْمِيَّةِ في إفْرِيقيَّةِ والأَنْدَلُسِ، كمَا أَنَّ وُجُودَ القَيْرَوانَ فِي طِرِيقِ حَجِّ الأَنْدَلُسيِيْنِ ورِحْلَتُهُم كَانَ مِمَّا هَيَّأ لَهُم سَبِيلَ المُرُورِ عَلَيها والإسْتِفَادةَ مِنْ عُلَمَائِها) (¬1). ثُمَّ تَكُونُ وِجْهَةُ المُرْتَحَلِينَ بعدَ ذَلِكَ إلى المشرقِ، قَاصِدِينَ مِصْرَ، التي كانتْ تَعُجُّ بِكِبارِ العُلَماءِ مِنَ المُحَدِّثينِ والفُقَهاءِ والمُقْرئينَ واللُّغَويينَ وغَيْرِهم، ومنهَا يَكُونُ التَّوجُّه إلى مَكَّةَ للحَجِّ ولِقَاءِ العُلَمَاءِ، ثُمَّ زِيارةُ المَدِينةِ للسَّلاَمِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَيْهِ - رضي الله عنهما -، والإجتماعِ بِعُلَمَائِها، ثُمَّ الإيابُ إلى مِصْرَ، ومِنْها إلى القَيْرَوانِ، ثُمَّ الأَنْدَلُسِ. وقَدْ ضَعُفتْ رِحْلَةُ الأَنْدَلُسيينَ إلى القَيْرَوانِ في أثناءِ حُكْمِ العُبَيْدِيينَ (¬2)، ¬

_ (¬1) من كتاب (مدرسة الحديث في القيروان من الفتح الإسلامي إلى منتصف القرن الخامس الهجري)، للدكتور الحسين بن محمد شواط 1/ 219، وقد ذكر عددا من علماء الأندلس ممن ارتحل إلى القيروان. (¬2) العبيديُّون هم الروافض الإسماعيلية الباطنيِّة الذين أقاموا دولتهم في بلاد المغرب على يد عبيد الله المهدي الفاطمي، وذلك سنة (296)، واستمرت إلى سنة (462)، وهي نِحْلةٌ مارقةٌ، عطَّلت الشريعة، وأسقطت الفرائض، وأباحت المحرمات، وادَّعت أنَّ للقُرآنِ ظَاهِرا وباطنا، وأظهروا لسَبَّ الصحابة - رضوان الله عليهم -، وزعموا أنهم ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم، وقد ذاق علماء أهل السنة وخصوصا أهل القيروان صنوفا من العذاب على أيدي العبيديين طيلةَ مقامهم في بلاد المغرب، وأُعدم بعضهم، قال الإِمام أبو الحسن القابسي: (إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر =

ولكِن ازْدَادتْ بعدَ خُرُوجِهِم إلى مِصْرَ سنة (362)، وكانَ أَهمُ مَقْصَدٍ لَهُم في الرِّحلةِ إلى القِيْرَوانِ التَّتَلمُذُ على إمَامِ العُلَمَاءِ، وفِقِيه الفُقَهاءِ، وعَالِمِ أَهْلِ المَغْرِب أَبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي زَيْدٍ القَيْرَواني (ت 386)، الذي كانَ يُقَالُ لَهُ: مالكٌ الصَّغِيرُ، وكانَ له الفَضْلُ في تَلْخِيصِ المَذْهَبِ وجَمْعِ أَطْرَافهِ، وصَنَّفَ مُصَنَّفَاتٍ كَثيرةً، وقد ارْتَحَلَ أبو المُطَرِّفِ إلى القِيْرَوانِ وسَمِعَ فيها مِنْ هذا الإمَامِ الجَلِيلِ، ولاَزَمهُ، ونَقَلَ عنهُ كثيرا مِنْ أَقْوالهِ وَآرائهِ الفِقْهيَّةِ والحَدِيثيِّة، وحَمَلَ عنهُ مُصَنَّفاتهِ ومَرْوِياتهِ. كَمَا سَمِعَ بالقيروانِ (المُدَوَّنةَ) عَلَى هِبةِ اللهِ بنِ أَبي عُقْبَةَ التَّمِيمِيِّ، وَهُو مِمَّنْ سَمِعَها مِنْ جَبَلَةَ بنِ حَمُّودٍ، عَنْ مُصَنَفَها الإمامِ سَحْنُونَ بنِ سَعِيدٍ. ولاَ يْبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَبو المُطَرِّفِ لَقِيَ عَالِمَ المَغْرِبِ، وفَقِيهَ القَيْرَوَانِ ومُحَدِّثِها الإمامَ العَلاَّمَةَ المُقْرِئ المُتْقِنَ أبا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ مُحَمَّدِ القَابِسيَّ (ت 403)، إمامِ العَصْرِ، وصَاحِبَ (الملخَّص) لموطأ ابنِ القاسمِ وغَيْرِها من المؤلَّفاتِ، فإنَّهُ كَان مَقْصَدَ الطلَبةِ، ووجهةَ العُلَماءِ، ولكنِّي لَمْ أَعثرْ على أَحَدٍ أَشَارَ إلى تَتَلْمُذِ أبي المُطَرِّفِ على هذا الإمامِ الجَلِيلِ. ثُمَّ رَحَلَ إلى المَشْرِقِ، فَوَصلَ مِصْرَ، وكَانَتْ تأتي في الدَّرجةِ الثانيةِ بعدَ القَيْرَوانِ، لأَنَّهَا مَمَرُّ للحَاجِّ إلى مَكَّةَ، ولأَنَّ فِيها كَثيراً من العُلَماءِ كَمَا ذَكَرنا آنفاً، وقَدْ سَمِعَ أبو المُطَرِّفِ مِنْ إمامِ مِصْرَ ومُحَدِّثها ومُسْنِدِهَا أبي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ رَشِيقٍ، وَهُو الذي رَوَى عَنْ سَبعْمَائةِ مُحَدِّثٍ (¬1)، ولِذا لاَزمهُ أبو المُطَرِّفِ، وأكثرَ مِنَ الرِّوايةِ عنهُ، وحَمَلَ عنهُ عِلْمَاً كَثيِراً، وتَمَلَّكَ حَقَّ رِوَايةِ كُتُبٍ مُنَوَّعةٍ، مِنْها: ¬

_ = في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت) ينظر: ترتيب المدارك 5/ 303، والسير 15/ 141، وكتاب (مدرسة الحديث في القيروان) للدكتور الحسين بن محمد شواط 1/ 69 - 82. (¬1) نقل ذلك ابن بشكوال في الصلة 2/ 323 عن أبي المُطَرِّفِ.

(مُصَنَّفُ ابنُ أَبي شيبةَ)، وكِتَابُ (مَعْرِفةِ الرِّجَالِ وعِلَلِ الحَدِيثِ) للإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وكَتَبَ هُناكَ أيضًا عَنْ كَثيرٍ مِنَ المُحَدّثينَ والفُقَهاءِ والمُقْرِئينَ، فقدْ سَمِعَ أبا الطِّيِّبِ أحمدَ بنَ سُلَيْمَانَ الجَرِيرِيَّ (ت 367)، تِلْمِيذَ أبي جَعْفرٍ الطبَرِيِّ، وَراويةَ كَثيِرٍ مِنْ كُتُبهِ كـ (التَّفْسِيرِ)، وكِتَابِ (الفَرَائِضِ)، وسَمِعَ فيها أيضا مِنَ: الحَسَنِ بنِ يحيى بنِ المُطَرِّزِ (ت 375)، وكانَ مِنْ كِبَارِ الُمَحدِّثينِ والمُسْنِدينَ، وسَمعَ أيضا من: عبدِ العَزِيزِ بنِ عليِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَدِيِّ (ت 381) مُسْنِدِ الدِّيارِ المَصْرِيَّةِ ومُقْرِئِها، ورَوَى فِيهَا أيضًا عَنْ الحَسَنِ بنِ يحيى القُلْزُميِّ (ت 385)، وكَانَ قد زَارَهُ في دَارِه وأَخَذَ عَنْهُ، وكَانَ هذا الشَّيْخُ مِمَّنْ رَوَى كُتُبَ ابنِ الجَارُودِ كـ (المنتقى) وغَيْرِه، ومِمَّن رَوَى عنه أبو المُطَرِّفِ بِمِصْرَ هِشَامُ بنُ مُحَمَّدِ بن أبي خَلِيفَةَ الرُّعَيْنِي (ت 376)، وكانَ رَاويةً لِكُتبِ أبي جَعْفرٍ الطَّحَاوِيّ، ورَاويةً أيضاً لكتبِ أَبي بِشْرٍ الدُّوَلابِيِّ، ورَوَى أَيضا عَنِ الحُسَيْنِ بن حَامِدِ بنِ نَصْرٍ (ت 375)، وعبدِ الوَاحِدِ بنِ أحمدَ بنِ قتيْبةَ، والحَسَنِ بن علي بنِ شَعْبانَ، وعُمَرَ بنِ المُؤْمِّلِ. ولَمْ يَكْتَفِ أبو المُطَرِّفِ بالسَّمَاعِ مِنْ هَؤُلاءِ العُلَماءِ وغَيْرِهم وإنما كَانَ يُرَاسِلُ العُلَمَاءَ المَشْهُورِينَ، ويَكْتُبَ إليهم في أَمْصَارِهِم، فقدْ كَتَبَ إلى الإمامِ العَلَّامةِ فَقِيهِ المالكيَّةِ ومُحَدِّثها ومُقْرِئها بالعِرَاقِ أَبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ الأَبْهَرِيِّ البَغْدَادِي (ت 375)، صاحب المصنفات، ومنها شرحه للمختصر الكبير لإبن عبد الحكم (¬1)، فقال في نهاية تفسيره: ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الأَبْهَرِيِّ، وَهُوَ مِمَّا كَتْبَهُ إليَّ إجِازَةً وأنَا بِمِصْرَ. ولَمَّا وَصَلَ إلى مَكَّةَ - شَرَّفَها اللهُ تَعَالى - كَتَبَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَائِها ومِنَ المَارِّينَ عَليها، فأخذَ عَنْ الإِمام المحدِّث أبي أحمدَ الحُسَيْنِ بنِ عليٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، المشهور بِحُسَيْنك، المتوفى سنة (375)، ورَوَى فِيها أيضا عَنْ ¬

_ (¬1) توجد منه نسخ خطية غير كاملة، في مكتبة الأزهر، ومكتبة جوتا، وقد وصفهما وصفا دقيقا الدكتور ميكلوش موراني في كتابه (دراسات في مصادر الفقه المالكي) ص 30.

المحدِّث المُسْنِد يُوسُفَ بنِ يَعْقُوبَ النُّجَيْرَميِّ، المتوفى بعد سنة (367)، وروى فيها أيضًا عَنْ يُوسُفَ بن إبراهيمَ الجُرْجَانِي. ولاَ شَكَّ أَن أبا المُطَرِّفِ التقَى بعددٍ آخرَ مِنَ العُلَماءِ في هذِه البلاَدِ وغَيْرِها، ولَكِن هذا مَا ذَكَرَتْهُ المصادرُ التي وقفتُ عليها، والله أعلم.

المبحث الرابع مصنفاته

المبحث الرابع مصنفاته وُصِفَ أَبو المُطَرِّفِ بأَنَّهُ أَقْبَلَ على التَّصْنِيفِ، فَكَانتْ لَهُ كُتُبًا في التَّفْسِيرِ، وفِي الحَدِيثِ، وفِي الفِقْهِ وأَحْكَامهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ولَمْ يَصلْنَا مِنْها -حَسَبَ عِلْمِنَا- سِوَى كِتَابهِ (تَفْسِيرُ الموطَّأ)، وفِيما يِلي أسماءُ كُتبه: 1 - اخْتِصَارُ تَفْسِير يحيى بنِ سَلاَّمِ، ذَكَرهُ ابنُ بَشْكُوالَ والذَّهبي وغَيْرُهما (¬1). 2 - الشُّرُوطُ على مَذْهَبِ مَالِكِ بنِ أَنس، ذَكَرهُ الحُمَيْدِيُّ، وقالَ: أَخْبَرنا بهِ أبو شَاكِرِ حَمْدُ بنُ عُمَرَ القَيْسِي (¬2)، وقالَ الذَّهبي: هُوَ في الشُّرُوطِ وعِلَلِها (¬3). 3 - فِهْرِسةُ شُيُوخهِ، ذَكَرهَا ابنُ خَيْرٍ، وقالَ: رِوَايتِي لَها عَنْ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَتَّابٍ، عَنْ أبيهِ، عنه (¬4). 4 - اخْتَصَرَ وَثَائِقَ أحْمَدَ بنِ سَعِيدِ بنِ إبْرَاهِيمَ الهَمْدَانِيِّ، المَعْرُوفُ بابنِ الهِنْدِي، ذَكَرهُ القَاضي عِياض، وابنُ فَرْحُونَ (¬5). 5 تَفْسِيرُ الموطَّأ، وسَيأْتِي الحَدِيثُ عنهُ لاَحِقاً. ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 323، وتاريخ الإسلام 28/ 323. (¬2) جذوة المقتبس للحميدي ص 279. (¬3) تاريخ الإسلام 28323، والعبر 3/ 114. (¬4) فهرسة ابن خير ص 436. (¬5) ترتيب المدارك 7/ 293، والديباج المذهب 1/ 152. وكان ابن الهندي من أعلم عصره في علم الشروط، أقر بذلك فقهاء الأندلس، توفي سنة (399)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 205.

المبحث الخامس مذهبه وعقيدته

المبحث الخامس مذهبه وعقيدته الإمامُ أبو المُطَرّفِ مَالِكِيُّ المذهَبِ، كَسَائرِ عُلَمَاءِ بَلَدِه، ونَرَى ذَلِكَ وَاضِحَاً في شَرْحهِ، فَكَانَ يَحْرِصُ على اسْتِعْرَاضِ أَقْوَالِ كِبَارِ عُلَمَاءِ المالكيَّهِ، مِنْ أمثالِ: ابنِ القَاسِمِ، وأَشْهَبَ، وابنِ الموَّازِ، وأَصْبَغَ، وسَحْنُونَ، وعِيسَى بنِ دِينَارٍ، والأَبْهَرِيِّ، وابن أبي زَيْدٍ القَيْرَوانِيِّ وغَيْرِهم، ويَهْتَمُّ كَثيراً بالدِّفَاعِ عَنْ مَذْهَبهِ والإنْتِصَارِ لَهُ، وذَلِكَ بِمُنَاقَشَتهِ لأَراءِ أَبي حَنِيفَةَ والشَّافِعِيِّ وغَيْرِهما. أَمَّا عَقِيدَتُهُ فإنَّنا نَلْحَظُ في كِتَابهِ (تَفْسِيرِ الموطَّأ) إقْرَارَهُ لِعَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ مِنَ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ لَهُم بإحْسَانٍ، وَهُو المُتَمَثِّلُ بإثباتِ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تعالَى لِنَفْسهِ وَرَسُولهِ الكَرِيمِ - صَلَّى الله عليهِ وسَلَّم - مِنْ غَيْرِ تَشْبيهٍ، أَو تَأْوِيل، أَو تَحْرِيفٍ، أَو تَعْطِيلٍ، والرَّدُّ على المبُتْدِعةِ وأَصْحَابِ الضَّلَالاتِ، والإشَادةُ في مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدة بِفَضَائلِ الصَّحَابةِ الكَرَامِ، وسَوْفُ نَسْتَعْرِضُ بالتَّفْصِيلِ أَقْوَالَهُ في هذا الأمرِ عند الحَدِيثِ عَنْ مَنْهَجِ المُصَنِّفِ في كِتَابهِ.

المبحث السادس مآثره وثناء العلماء عليه

المبحث السادس مآثره وثناء العلماء عليه أَطْبقتْ شَهَادَاتُ العُلَمَاءِ بأن أبا المُطَرِّفِ كَانَ عَالِمَ الأَنْدَلُسِ بالحَدِيثِ والفِقهِ، وكانَ أَقْرأَ مَنْ بَقِيَ فِيهَا، وكَانَ زَاهِداً عَابِدَاً، صَوَّامَ النَهَارِ، قَوَّامَ اللَّيْلِ، مُعْرِضاً عَنِ المالِ والجَاهِ والسُّلْطَانِ، رَاضِيًا بالقَلِيلِ مِنَ الحَلاَلِ، ورُبَّما اقْتَاتَ بِمَا يَرْمِيه النَّاسُ مِنْ أَطْرَافِ البُقُولِ ومَا أَشْبهَ ذَلِكَ، ولاَ يَنْحَطُّ إلى مسألةِ أَحَدٍ. ونُقِلَ عنهُ أنَّهُ قالَ: (كُنْتُ بِمِصْرَ وشَهِدْتُ العِيدَ مَعَ النَّاسِ فانْصَرفُوا إلى ما أَعَدُّوهُ، وانْصَرَفْتُ إلى النِّيلِ، وليسَ مَعِيَ مَا أُفْطِرُ عليهِ إلَّا شَيءٌ مِنْ بَقِيَّةِ ترْمُسِ بَقِيَ عِنْدِي فِي خِرْقَةٍ (¬1)، فَنَزلْتُ علَى الشَّطِّ وجَعَلْتُ آكُلُه وأَرْمِي بِقِشْرِه إلى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ تَحْتِي، وأَقُولُ في نَفْسِي: تَرَى إنْ كَانَ اليومَ بِمِصْرَ في هَذا العِيدِ أَسْوَءُ حَالاً مِنِّي، فلمْ يَكُن إلا مَا رَفَعْتُ رَأْسِي وأَبْصَرْتُ أَمَامِي، فإذا بِرَجُلٍ يَلْقَطُ قِشْرَ التُّرْمُسِ الذي أَطْرَحَهُ ويأْكُلُه، فَعَلِمْتُ أنَّهُ تَنْبِيهٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وشَكَرْتُهُ) (¬2). وإليكَ بَعْضَ شَهَاداتِ العُلَمَاءِ في مَدْحهِ والثَّنَاءِ عليهِ: - فقالَ تِلْميذُه الإمامُ الحَافِظُ ابنُ عبدِ البَرِّ: (كَانَ خَيِّراً عَفِيفًا وَرعَاً، كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصَاً أَبْيَضَ عَلَى فَرْوَةٍ، وَرُبَّمَا لَبِسَ الفَرْوَةَ دُونَهُ) (¬3). ¬

_ (¬1) الترمس: شجرة لها حب مفلطح مر، يؤكل بعد نقعه، المعجم الوسيط 1/ 84. (¬2) المغرب 1/ 167. (¬3) ترتيب المدارك 7/ 292.

- ونقلَ ابنُ حَزْمٍ فِي المُحَلَّى عن ابنِ عبدِ البَرِّ أنَّهُ قالَ: (حدَّثنا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوانَ القُنازِعيُّ - ثِقةٌ مَشْهُورٌ) (¬1). - وقَالَ تِلْمِيذُه أبو عبدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَتَّابٍ: (خَيِّرٌ فَاضِلٌ) (¬2). - وقالَ ابنُ الحَصَّارِ: (كَانَ وَرِعًا زَاهِدًا، صَالِحًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والتَّقَدُّمِ في الحَدِيثِ وعُلُومِ القُرْآنِ، مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ لِرِوَايةِ يَحْيِى وَعِنَايةٍ بِهَا) (¬3). - ووصفهُ ابنُ حَيَّانَ القُرْطُبيُّ بقولهِ: (الفَقِيهُ، المُقْرِئُ، الرَّاويةُ، الحَافِظُ، الزَّاهِدُ، المُخْبتُ، المُتَقَشِّفُ، الفَاضِلُ، العَلَمُ، آخِرُ مَنْ تَنَاهَتْ فيهِ خِلاَلُ الخَيْرِ بِقُرْطُبةَ، وعَظُمَتْ بهِ المَنْفَعَةُ ظَاهِرَةً وبَاطِنَة، وسَلَكَ سَبِيلَ السَّلَفِ المُتَقَدِّمينَ مِنْ هَذِه الأُمَّةِ) (¬4). - وقالَ ابنُ بَشْكُوالَ: (كَانَ عَالِمَاً، وفَقِيهَاً حَافِظَاً، مُتَيَقِّظَاً دَيِّناً وَرِعَاً فَاضِلاً، مُتَصَاوِناً، مُتَقَشِّفَاً، مُتَقَلِّلاً مِنَ الدُّنيا، رَاضِياً مِنْهَا باليَسِيرِ، قَلِيلَ ذَاتِ اليَدِ، يُوَاسِي على ذلكَ مَنِ انتابهُ مِنْ أَهْلِ الحَاجةِ، دَؤُبًا عَلَى العِلْمِ، كَثِيرَ الصَّلاَةِ والصوْمِ، مُتَهَجِّدَاً بالقُرْآنِ، عَالِمَاً بِتَفْسِيرِه وأَحْكَامهِ، وحَلاَلهِ وحَرَامهِ، بَصِيرَاً بالحَدِيثِ، حَافِظَا للرَّأيِّ، عَارِفَاً بِعَقْدِ الشُّرُوطِ وعِلَلِهَا ... وكَانَ لَهُ بَصَر بالإعْرَابِ، واللُّغَةِ، والآدَابِ، وكَانَ حَسَنَ الأَخْلاَقِ، جَمِيلَ اللِّقَاءِ، مُقْبلاً على مَا يَعْنِيهِ ويُقَرِّبهُ مِنْ خَالِقِه تَعَالَى) (¬5). - وقالَ الذَّهَبيُّ: (لَمَّا رَجَع مِنْ رِحْلَتهِ أَقْبلَ عَلَى الزُّهْدِ والإنْقِبَاضِ، ونَشْرِ العِلْمِ، والإقْرَاءِ، والعِبَادةِ، والأَوْرَادِ، والمُطَالَعةِ والتَّصْنِيفِ، وكانَ كَثيرَ الصَّلاَةِ، والتَّهَجُّدِ والصِّيامِ، عَالِمَاً بالتَّفْسِيرِ والأَحْكَامِ، بَصِيرًا بالحَدِيثِ، حَافِظًا ¬

_ (¬1) المحلى 7/ 502. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 292، وتاريخ الإسلام 28/ 323. (¬3) ترتيب المدارك 7/ 292. (¬4) ترتيب المدارك 7/ 292 - 293. (¬5) الصلة 2/ 323.

للرَّأيِّ، وكَانَ حَسَنَ الأَخْلاَقِ، جَمِيلَ اللِّقَاءِ) (¬1). - ووَصَفهُ في السِّيرِ بقَوْلهِ: (العَلَّامةُ القُدْوةُ ... كَانَ إمَاماً مُتَفَنِّناً حَافِظَاً، مُتَأَلِّهَا خَاشِعَاً، مُتَهَجِّدَاً مُفَسِّراً، بَصِيراً بالفِقْهِ واللُّغَةِ) (¬2). - وِقالَ الصَّفَدِيُّ: (كَانَ عَالِماً عَامِلاً، فَقِيهَاً حَافِظَاً، وَرِعَاً مُتَقَشّفًا ... وكانَ لَهُ مَعْرِفةٌ باللُّغَةِ والأدَبِ) (¬3). ووَصَفهُ ابنُ الجَزَرِيِّ بِقَوْلهِ: (أُسْتَاذٌ كَبيرُ القَدْرِ، كَثِيرُ التَّوَالِيفِ، كَانَ زَاهِدَاً خَيَراً) (¬4). هَذه بَعْضُ الشَّهَاداتِ التِّي قِيلَتْ في الثّناءِ عَلى هَذا الإمَامِ الجَلِيلِ، وكانَ هَذا الإمَامُ لاَ يَدْخُلُ في شَيءٍ مِنَ السُّلْطَانِ، ولم يكنْ يَطْرُقُ أَبْوَابَهُم، أو يَحْضُرُ مَجَالِسَهُم، فقدْ ذَكَرتْ بَعْضُ الكُتُبِ أَنَّهُ لَمَّا وَلِى عَلِيُّ بنُ حَمُّودِ بنِ مَيْمُونَ الهَاشِمِيُّ (¬5) الخِلاَفةَ بِقُرْطُبةَ أشارَ عَلَيْهِ قَاضِيه ابنُ بِشْرٍ (¬6) بتَقْدِيمِ أبي المُطَرِّفِ القُنازِعيِّ إلى وَظِيفَةِ الشُّورَى (¬7)، وقدَّر أَنَّهُ لاَ يَجْسِرُ على رَدِّ ابنِ حَمُّودٍ لِهَيْبَتِهِ، حِرْصاً منهُ عَلى نَفْعِ المُسْلِمينَ بهِ، فَعَملَ ابنُ حَمُّودٍ برأيهِ، وأَنْفَذَ إليهِ بِذَلِكَ كِتَاباً ¬

_ (¬1) العبر 3/ 114، وتاريخ الإسلام 28/ 323. (¬2) السير 17/ 342 - 343. (¬3) الوافي بالوفيات 18/ 161. (¬4) غاية النهاية 1/ 380. (¬5) هو علي بن حمود بن ميمون الهاشمي العلوي الإدريسي، استولى على الأمر بقرطبة في أول سنة (407)، وكانت دولته اثنين وعشرين شهرا، ثم قتله غلمان له في آخر سنة (408)، راجع: السير 17/ 135. (¬6) هو أبو المُطَرِّف عبد الرحمن بن أحمد بن بشر قاضي الجماعة بقرطبة، تقدمت ترجمته في المبحث الثاني. (¬7) كانت وظيفة الشورى مما تفردت به بلاد الأندلس، فكان الخليفة هو الذي يعين أهل الشورى اعتمادا على ترشيح قاضي الجماعة بقرطبة، وكان الخلفاء لا يقدمون أحدا للفتوى حتى يكون من كبار العلماء، ينظر: كتاب دور الفقهاء في الحياة السياسية والإجتماعية بالأندلس، للدكتور خليل إبراهيم الكبيسي ص 112.

مِنْ عِنْدِه فامْتَنعَ وأَبى، ولَمْ يُفَكّرْ في ابنِ حَمُّودٍ وسَطْوَتهِ، وقالَ لَهُ: (أَنا إلى وَقْتِي هذا ما أَقُومُ بِمَعْرِفةِ مَا يَجِبُ علي فَضْلاً على أَنْ أُسْتَفْتَى في غَيْرِي)، وأَنشدَ قَائِلاً: وإنَّ بِقَوْمٍ سَوَّدُوكَ لَفَاقَةٌ ... إلَى سَيِّدٍ لَوْ يَظْفَرُونَ بِسَيِّدِ فأَعْرضَ عنهُ ابنُ حَمُّودٍ وأَوْجَبَ عِذْرَهُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 7/ 292، والصلة 2/ 323.

الفصل الثالث شيوخ أبي المطرف وتلاميذه

الفَصْلُ الثَّالِثُ شيوخ أبي المطرف وتلاميذه وفيه مَبْحَثَانِ: المبحث الأَوَّلِ: شُيُوخُهُ. المبحث الثاني: تَلَامِيذُه.

المبحث الأول شيوخه

المبحث الأَوَّل شيوخه عَاشَ أبو المُطَرِّفِ في فَترَة كَانَتْ الأَنْدَلُسُ والبلاَدُ الأُخْرَى تَعُجُّ بأَكَابِرِ العُلَمَاءِ، مِنْ فُقَهَاءٍ، ومُحَدِّثينَ، وقُرَّاءٍ، ومُفَسِّرِينَ، ولُغَويينَ، وقَدْ رَوَى في كِتَابهِ (تَفْسِيرِ المُوطَّأ) عَنْ بَعْضِهِم، وعَثَرْتُ عَلَى شُيُوخٍ آخَرِينَ فِي المَصَادِر التِّي ذَكَرْتُهَا آنِفَاً، ولا شَكَّ أَنَّ هَؤُلاَءِ الشُّيُوخِ كَانَ لَهُم الأَثَرُ الأَكْبَرُ في تَكْوِينِ شَخْصِيَتهِ، ولِذَا فانَّ ذِكْرَهُم يُسَاعِدُ فِي الكَشْفِ عَنْ حالِ أَبي المُطَرِّفِ ومَكَانَتهِ العِلْمِيَّةِ، ويَبْدُو أَنَّ أبا المُطَرِّفِ كَانَ يَنْتَقِي شُيُوخَهُ، فكان لا يَرْوِي عَمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ، فقدْ أَخَذَ عَنْ أَبي بَكْرٍ الأُرْمُونِي، ثُمَّ تَرَكَهُ إذْ رَأَهُ دَخَلَ معَ بَنِي عُبَيْدٍ الفَاطِمِيينَ، وخَرَجَ مُحَمَّلاً بِصِلاَتِهِم وهَدَايَاهُم (¬1). وفِيمَا يَلِي ذِكْرَهُم مَعَ تَرْجَمَةٍ مُوجَزَةٍ لَهُم، مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ المُعْجَمِ: 1 - أحمدُ بنُ خَالِدٍ التَّاجِرُ، ذَكَرَهُ ابنُ بَشْكُوال ضِمْنَ شُيُوخِ أبي المُطَرِّفِ (¬2)، ولم أقفْ لَهُ عَلَى تَرْجَمَةٍ. ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 7/ 291. ومن باب الفائدة نشير إلى أن نسبة العبيدين إلى الفاطميين غير صحيحة، وإنما جاءت هذه التسمية من باب التعمية على اعتقادهم، فهم طائفة من الباطنية، وينسبون إلى عبيد الله بن ميمون القداح، وكان مجوسيا باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام، وأباح لأتباعه الخمر والفواحش، وأشاعوا الرفض بما فيه من سب الصحابة الكرام وغير ذلك من الأباطيل، ينظر: سير أعلام النبلاء 18/ 497، وكتاب (قضية نسب الفاطميين أمام منهج النقد التاريخي) للأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس. (¬2) الصلة 2/ 322.

2 - أَحْمَدُ بنُ سُلَيْمَانَ بنِ عَمْرو، أَبو الطَّيِّبِ الجَرِيرِيُّ البَغْدَادِيُّ، ويُقَالُ له أيضاً: الحَرِيرِيُّ، الإمامُ الفَقِيهُ، كاَن على مَذْهَبِ ابنِ جَرِيرٍ الطَبَرِيِّ، وانتقَلَ مِنْ بَغْدَادَ إلى مِصْرَ، وهُنَاكَ سَمِعَ مِنْهُ أبو المُطَرِّفِ، قالَ فِي تَفْسِيرِه: أَخْبَرَنِي أَبو الطَّيِّبِ الجَرِيرِيُّ بِمِصْرَ عَنْ أَبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ، ورَوَى أبو الطَّيِّبِ كُتَبَ أَبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ: (التَّفْسِيرَ) وكِتَابَ (الفَرَائِضِ)، كَمَا فِي فِهْرِسةِ ابنِ خَيْبر، تُوفي بعدَ سنة (367) (¬1). 3 - أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الملكِ، أبو عُمَرَ الإشْبِيلِيِّ نَزِيلُ قُرْطُبةَ، المعروف بابن المَكْوِي، الإمامُ العَلاَّمَةُ الفَقِيه، انتهَتْ إليه رِئَاسَةُ الفِقْه بالأَنْدُلُسِ، ونَقَلَ عَنْهُ أَبو المُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه كَثِيرًا مِنْ أَقْوَالِهِ وآرائهِ الفِقْهِيةِ والحَدِيثيَّةِ، توفي سنةَ (401) (¬2). 4 - أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إسْمَاعِيلَ، أَبو بكْرِ بنُ الَبنَّا المُهنْدِس، الإمَامُ مُحَدِّثُ مِصْرَ، توفي سنة (385)، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في مِصْرَ (¬3). 5 - أَحْمَدُ بنُ عَوْنِ اللهِ بنِ حُدَير، أبو جَعْفَرٍ القُرْطُبِيُّ، يَرْوي عَنِ القَاسِم بنِ أَصْبَغٍ وغَيْرِه مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ، وحَجَّ فَسَمِعَ مِنْ أَبي سَعِيدِ بنِ الأَعْرَابِيِّ وغَيْرِه، وقَدْ رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ (سُنَنَ أَبي دَوُادَ) بِرِوَايتهِ عَنِ ابنِ الأَعْرَابِي عَنْ أَبي دَاوُد، ورَوَى عَنْهُ أَيضاً (المختصرَ الكبير) لإبن عبدِ الحَكَمِ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ جَامِعٍ عَنِ ابنِ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ أبيهِ، ونَقَلَ عَنهُ أبو المُطَرِّفِ أَيْضَا بَعْضَ أَقْوَالهِ الفِقْهِيَّةِ، وكَانَ شَيْخًا صَالِحًا صَدُوقًا، صَارِمَاً في السُّنَّةِ، مُشَدِّدَاً على أَهْلِ البدَعِ، وقدْ أَوْصَى أَحَد تَلاَمِذَتَهُ فقالَ لَهُ: (أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، ولُزُومِ الذِّكْرِ، والعُزْلَةِ مِنَ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 4/ 179، والأنساب 2/ 52، وفهرسة ابن خير ص 263، وتوضيح المشتبه 2/ 283. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 123، والصلة 1/ 22، وسير أعلام النبلاء 17/ 206، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 230. (¬3) الصلة 2/ 322، وانظر ترجمته في: السير 16/ 462.

النَّاسِ) (¬1)، وُلِدَ سنةَ (300)، وتُوفِّي سنةَ (378) (¬2). 6 - أَصْبَغُ بنُ تَمَّام القُرْطُبِيُّ، قالَ ابنُ الفَرَضِيِّ: (مِنْ أَهْلِ القِرَاءَاتِ والحِفْظِ للقُرْآنِ، وكَان مُؤَدِّبًا)، توفي سنة (365)، وذَكَرَهُ ضِمْنَ شُيُوخِ أبي المُطَرّفِ: ابنُ بَشْكُوال، والذَّهبي في التَّارِيخ (¬3). 7 - الحَسَنُ بنُ دَاوُدَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ خَلَفٍ المُطَرِّز، أَبو عَلِي المِصْرِي، الإمَامُ المُحَدِّثُ المُسْنِدُ، رَوَى عنهُ الدَّارَقُطْنِي والبَرْقَانِيُّ والجَوْهَرِيُّ وغَيْرُهم، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ بِمِصْرَ كمَا جاءَ في تَفْسِيرِه بِرِوَايتهِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ زَبَّانَ المِصْرِي، وُلِدَ سنة (285)، وتُوفي بِمَكَّةَ سنةَ (375)، ونَقَلَ القَاضِي عِياضٍ في تَرْجَمَةِ أبي المُطَرّفِ أنَّهُ حَدَّثَ عَنِ المُطَرِّزِ قال: قالَ لهُ حَمْزَةُ الكِنَانِيُّ في سنةِ (348) (¬4): (سَيَمُرُّ بكَ تِسْعٌ وسِتِّينَ إنْ عِشْتَ، ولَسْتَ واللهِ تَرَى فِي الجَامِعِ بِمِصْرَ للهِ ولاَ لِرَسُولهِ - صلَّى الله عليه وسلم - مِنْ سُنَّةٍ)، قالَ المُطَرِّزُ: (فَمَاتَ مَنْ كَانَ بِهَا، ومُنِعَ بَقِيَّتُهُمْ مِنَ الجُلُوسِ في الجَامِعِ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشِّيعَةِ، فَجَاءتِ السَّنَةُ المُؤَرَّخةِ بِمَا قالَ حَمْزَةَ) (¬5). 8 - الحَسَنُ بنُ رَشِيقٍ، أَبو مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيُّ المِصْرِيُّ، الإمَامُ العَلاَّمَةُ المُحَدَّثُ المُسْنِدُ، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ كتُبًا كَثِيرَةً، ومِنْهَا (مُوَطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ) بِرِوَايتهِ عَنْ أَبي جَعْفَرٍ أَحَمْدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رَبَاح المُؤَدِّبِ المِصْرِيِّ عنهُ، ورَوَى عنهُ أيضا كتبا أخرى، منها: (مُصَنَّفَ ابنِ أَبي شَيْبةَ)، وكِتَابَ (مَعْرِفَةِ ¬

_ (¬1) الصلة لإبن بشكوال 1/ 221. (¬2) تاريخ علماء الأندلس ص 54، وبغية الملتمس ص 198. (¬3) تاريخ علماء الأندلس 1/ 81، والصلة 2/ 322، وتاريخ الإسلام 28/ 322. (¬4) هو حمزة بن محمد بن علي المصري، الإِمام الحافظ القدوة، وهو صاحب مجلس البطاقة المشهور المطبوع، توفي سنة (357)، السير 16/ 179. (¬5) ترتيب المدارك 7/ 291 - 292، وينظر ترجمة ابن المطرز في: كتاب وفيات المصريين للحبال ص 24، وتاريخ بغداد 7/ 388.

الرِّجَالِ وعِلَلِ الحَدِيثِ) للإمَامِ أَحْمَدَ، وُلدَ سنةَ (283)، وتوفي سنة (370) (¬1). 9 - الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ شَعْبَانَ، أَبو عَلِيٍّ المِصْرِيُّ (ت 369)، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في مِصْرَ، كَمَا قالَ ابن بَشْكُوَالَ (¬2). 10 - الحَسَنُ بنُ يحيى بنِ الحَسَنِ، أَبو مُحَمَّدٍ القُلْزُمِيِّ القَاضِي، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في دَارِه بِمِصْرَ سنة (368) كَمَا جاءَ فِي التَّمْهِيدِ، وروى عنهُ أَبو المُطَرفِ كِتَابَ (المُنْتَقَى) لإبنِ الجَارُودِ، كما روى عنه أيضا (مسند محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني) عَنْ أَحْمَدَ بنِ زَيْدٍ المَكّي، عَنْ مؤلِّفهِ، توفي سنة (385) (¬3). 11 - الحُسَيْنُ بنُ حَامِدِ بنِ نَصْرٍ، أَبو مُحَمَّدٍ المِصْرِيُّ، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في مِصْرَ بِرِوَايتهِ عَنْ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ القَاضِي، توفي سنة (375) (¬4). 12 - الحُسَيْنُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يحيى، أَبو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ، المَعْرُوفُ بِحُسَيْنَكَ، المُحَدِّثُ الثِّقَةُ المُسْنِدُ، لَقِيهُ أبو المُطَرِّفِ في مَكَّةَ بِمَوْسِمِ الحَجِّ كما في تَفْسِيرِه، توفي سنةَ (375) (¬5). 13 - خَطَّابُ بنُ مَسْلَمَةَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَعِيدِ بنِ بَتْرِي الأَيادِي، أَبو المُغِيرَةِ القَرْمُونِي، ثُمَّ القُرْطُبِيّ، كانَ عَالِمَا فَاضِلاً مُجَابَ الدَّعْوةِ، تُوفّي سنة (372)، وذَكَرَهُ ابنُ بَشْكُوالَ ضِمْنَ شُيُوخِ أَبي المُطَرِّفِ (¬6). ¬

_ (¬1) السير 16/ 280. (¬2) الصلة 2/ 322، وروى عنه ابن الطحان كما في كتابه وفيات المصريين ص 52، وروى عنه أيضا عبد الرحمن بن عبد الله الجوهري في مسند الموطأ ص 29، وجاء اسمه في كتاب الصلة: (علي بن شعبان أبو الحسن) وهو تحريف. (¬3) التمهيد 1/ 229، و 24/ 266، وفهرسة ابن خير ص 58، ومعجم البلدان 4/ 388. (¬4) ذكره ابن الطحان في كاب وفيات المصريين ص 24، باسم (الحسن بن حامد). (¬5) الصلة لإبن بشكوال 2/ 322، والسير 16/ 407. (¬6) تاريخ علماء الأندلس 1/ 133، والصلة 2/ 322.

14 - عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ إسْحَاقَ بنِ الفَرَج، المَعْرُوفُ بأبي عَدِيِّ ابنِ الإمَام المِصريّ، مُسْنِدُ الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ ومُقْرِئِها، تُوفِّي سنةَ (381)، ورَوَى عنهُ أبو الَمُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه فقالَ: (حدَّثنا أَبو عَدِي المُقْرِئُ بِمِصْرَ، قالَ: حدَّثنا داودُ بنُ إبراهيمَ) (¬1). 15 - عَبْدُ اللهِ بنُ إبْرَاهِيمَ، أَبو مُحَمَّدٍ الأَصِيلِيُّ، الإمامُ العَلاَّمَةُ عَالِمُ الأَنْدَلسُ ومُحَدِّثِهَا وفَقِيهُهَا، توفي سنةَ (392)، وذَكَرَهُ في شُيُوخِ أبي المُطَرِّفِ: القَاضِي عِياض، وابنُ فَرْحُونَ، ولَهُ مُصَنِّفاتٌ، منها (شَرْحُ الموطأ) (¬2). 16 - عَبْدُ اللهِ بنُ أَبي زيدٍ، أَبو مُحَمَّدٍ القَيْرَواني، إمَامُ المَالِكِيَّةِ وقُدْوَتُهِم، وجَامِعُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وشَارِحُ أَقْوَالهِ، ولَهُ مُؤَلَّفَاتٍ مَشْهُورَةٍ، مِنْها (النَّوَادِرُ والزِّيَادَاتِ)، و (الرِّسَالةُ)، و (مُخْتَصرُ المدَوَّنةِ)، وغَيْرُها، تُوفي سنة (386)، ولَقِيهُ أبو المُطَرِّفِ في رِحْلَتهِ للقَيْرَوانِ، ونَقَلَ عنه في تَفْسِيرِه كَثيراً مِنْ أَقْوَالهِ، وقالَ في آخرِه وَهُو يَذْكُرُ مَصَادِرَهُ في الكِتَابِ: (ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ ابنِ أَبي زيدٍ فَبَعْضُهُ مِمَّا سَمِعْتُهُ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، ومِنْهُ مَا أَجَازَهُ لِي مِنْ رِوَايَتِهِ) (¬3). 17 - عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، أَبو مُحَمَّدِ القُرْطُبِي، رَوَى عنهُ أَبو المُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه كَثيراً مِنْ أَقْوَالهِ وآرَائهِ الحَدِيثيِّةِ والفِقْهِيَّةِ، كَمَا رَوَى عنهُ أَيضَاً جُزْءًا فيهِ مِنْ حَدِيثهِ عَنْ شُيُوخهِ، توفي سنة (364) (¬4). 18 - عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ شَرِيعَةَ، أَبو مُحَمَّدٍ اللَّخْمِيُّ الإشْبِيِلِيُّ، المَعْرُوفُ بالبَاجِي، قالَ ابنُ الفَرَضِي: (كَانَ ضابِطَاً لِرَوَايتهِ، ثِقَةً صَدُوقًا حَافِظًا ¬

_ (¬1) كتاب وفيات المصريين للحبال ص 33، ومعرفة القراء الكبار 1/ 346. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 290، والديباج المذهب 1/ 152، وتنظر ترجمة أبي محمد الأصيلي في: السير 16/ 560، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 688. (¬3) ترتيب المدارك 6/ 215، والسير 17/ 10، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 709، وأفرد الهادي الدرقاش كتابا في سيرته وأخباره بعنوان (أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، حياته وآثاره)، وقد طبع بدار ابن قتيبة في دمشق. (¬4) تاريخ علماء الأندلس 1/ 232، وجذوة المقتبس ص 252.

للحَدِيثِ بَصِيرَاً بِمَعَانيهِ، لَمْ أَلْقَ فِيمَنْ لَقِيتُهُ مِنْ شُيُوخِ الأَنْدَلُسِ مِمَّنْ أُفَضِّلُهُ عليهِ فِي الضَّبْطِ)، ورَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه عَنْ الإمامِ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ الجَبَّابِ، وعَنْ أَحْمَدَ بنِ عَمْرِو المَكِّي، وُلِد سنة (291)، وتوفِّي سنة (378) (¬1). 19 - عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ قَاسِمِ بنِ حَزْمِ بنِ خَلَفٍ، أَبو مُحَمَّدٍ الثَّغْرِي القَلْعِيُّ القَاضِي، الفَقِيهُ الحَافِظُ العَابِدُ الزَّاهِدُ، قالَ ابنُ الفَرَضِيِّ: (كَانَتِ الرِّحْلَةُ إليهِ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي الثَّغْرِ، نَفَعَ اللهُ بهِ عَالَمَاً كَثيرًا)، توفي سنة (383)، وذَكَرَهُ ضِمْنَ شُيُوخِ أبي المُطَرِّفِ: القَاضِي عِياض، وابنُ فَرْحُونَ (¬2). 20 - عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ أَحْمَدَ بنِ قُتَيْبةَ، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في مِصْرَ، كَمَا قالَ ابنُ بَشْكُوالَ (¬3)، ولم أقفْ له على ترجمةٍ. 21 - عَليُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إسْمَاعِيلَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ بشْرٍ، أَبو الحَسَنِ الأَنْطَاكِيُّ المُقْرِئُ، قَدِمَ الأَنْدَلِسَ سنة (352)، وكانَ عَالِمًا بالقِرَاءَاتِ رَأْسًا فِيها، لاَ يَتَقَدَّمُهُ أَحَدٌ في مَعْرِفَتِهَا فِي وَقْتِهِ، وذَكَرَ ابنُ بَشْكُوالَ بأنَّ أبا المُطَرِّفِ قَرَأَ القُرْآنَ وجَوَّدَهُ عَلَيْهِ بالأَنْدَلُسِ، ورَوَى عنهُ أَبو المُطَرِّفِ كِتَابَ (الجُمَلِ) للزَّجَّاجِيِّ، وكَانَ مَوْلدُ الأنطاكيِّ سنة (299)، وتُوفِّي بِقُرْطُبةَ سنة (377) (¬4). 22 - عُمَرُ بنُ المُؤَمَّلِ، أَبو القَاسِمِ الطَّرَسُوسِيُّ، لَقِيهُ أبو المُطَرِّفِ في مِصْرَ، كَمَا قالَ القَاضِي عِياض، وابنُ بَشْكُوالَ، ولم أقفْ لهُ على تَرْجَمَةٍ (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ علماء الأندلس ص 240، وترتيب المدارك 7/ 34، والسير 16/ 277، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 752. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 290، والديباج المذهب 1/ 152، وينظر ترجمة أبي محمد القلعي في: السير 16/ 444، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 754. (¬3) الصلة 2/ 322. (¬4) تاريخ علماء الأندلس ص 316، وبغية الملتمس ص 414، وفيه وفاته سنة (397)، وهو تصحيف مطبعي فيما أراه. (¬5) ترتيب المدارك 7/ 291، والصلة 2/ 322.

23 - مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ القُرطُبيُّ، أَبو بكْرِ بنِ الجَبَّابِ الفَقِيه، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه بِرِوَايتهِ عَنْ أبيهِ الإمامِ العَلَّامةِ المُحَدِّثِ، توفي أبو بَكْرٍ سنةَ (363) (¬1). 24 - مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيىَ بنِ مُفَرِّجٍ القُرْطُبيُّ، أَبو عَبْدِ اللهِ القَاضِي، الإمَامُ الفَقِيهُ الحَافِظُ المُحَدِّثُ الثِّقَةُ، توفي سنةَ (380)، رَوُى عنهُ أبو المُطَرِّفِ كِتَابَ (الزُّهدِ) لأَبي دَاوُدَ بِرَوايتهِ عَنِ ابنِ الأَعْرَابِيِّ عنهُ (¬2). 25 - مُحَمَّدُ بنُ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ السَّلِيمِ الأُمُويُّ مَوْلاَهُم، أَبو بكْرٍ المَالِكِيُّ، الإمامُ العَلَّامَةُ الفَقِيهُ قَاضِي الجَمَاعةِ بِقُرْطُبَةَ، توفي سَنَة (367)، وذَكَرَهُ فِي شُيُوخِ أَبِي المُطَرِّفِ: الذَّهبيُّ (¬3). 26 - مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، أَبو بكر الزُّبَيْدِيُّ الشَّاميُّ الحِمْصِيُّ ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ الإشبيليُّ، الإمَامُ العَلَّامَةُ إمَامُ النَّحْوِ، طَلَبَهُ الخَلِيفَةُ المُسْتَنْصِر مِنْ إشْبِيلِيّةَ إلى قُرْطُبَةَ للإسْتِفَادَةِ منهُ، فأخذَ منهُ جَمَاعَةٌ مِنهُم أبو المُطَرِّفِ، توفي سنة (379) (¬4). 27 - مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ النُّعْمَانَ، أَبو عَبْدِ اللهِ القُرَشِيُّ الفِهْرِيُّ القَيْرَوَانِيُّ نَزِيلُ الأَنْدَلُسِ، الإمَامُ المُقْرِئُ البَارِعُ، تُوفِّي سَنة (378) (¬5). 28 - مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الأَبْهَرِيُّ، أَبو بكْرِ البَغْدَادِي المالكيُّ (ت 375)، الإمامُ العَلَّامةُ فَقِيهُ أَهْلِ العِرَاقِ ومُحَدِّثهم ومُقْرِئهم، وصَاحِبُ المُصَنَّفَاتِ، ولَمْ يَلْتَقِ به ¬

_ (¬1) جذوة المقتبس ص 39، وترتيب المدارك 6/ 350، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 992. (¬2) فهرسة ابن خير ص 274، والسير 16/ 390، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1016. (¬3) ترتيب المدارك 4/ 541، وتاريخ الإسلام 28/ 322، والسير 16/ 243، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1029. (¬4) الصلة 2/ 322، وسير أعلام النبلاء 16/ 417. (¬5) طبقات القراء 1/ 479.

أبو المُطَرِّفِ، وإنَّمَا كَتَبَ إليه وَهُوَ في مِصْرَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ في خَاتِمَةِ تَفسيرهِ (¬1). 29 - مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ البَرْبَرِيُّ، يُعْرَفُ بأبي بكر ابن القُوطِيَّة الإشبيلِيُّ ثُمَّ القُرْطُبِيُّ، الإمَامُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الأَدِيبُ العَابِدُ، رَوَى عنهُ أَبو المُطَرِّفِ كِتَابَ (الكَامِلِ) للمُبَرَّدِ، توفي سنةَ (367) (¬2). 30 - مُحَمَّدُ بنُ يَحْيىَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ القُرْطُبِيُّ، المَعْرُوفُ بأَبِي عَبْدِ اللهِ ابنِ الخَرَّازِ، قالَ ابنُ الفَرَضِيِّ: (كَانَ عَالِمَاً بالنَّحْو فَصِيحَاً بَلِيغَاً، وَوَلِيَ الصَّلاَةَ بقُرْطُبةَ)، وكانَ ثقة مَأْمُوناً فَاضِلاً عَاقِلاً، توفي سنة (369)، وقَدْ رَوَى عنهُ أَبو المُطَرِّفِ (مُصَنَّفَ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ) (¬3). 31 - مَسْلَمَةُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمَةَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ بَتْرِيِّ الأَيَادِيّ، أبو مُحَمَّدٍ القُرْطُبِيُّ، المُحَدِّثُ الزَّاهِدُ العَابِدُ، توفي سنةَ (391)، وذَكَرَهُ ضِمْنَ شُيُوخِ أبي المُطَرِّفِ: القَاضِي عِيَاض (¬4). 32 - هِشَامُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَبي خَلِيفَةَ، أبو القَاسِمِ الرُّعَيْنِيُّ المِصْرِيُّ، الإمَامُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ، تِلْمِيذُ أَبي بِشْرٍ الدُّوَلاَبِيِّ، وأَبي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَرَاوِيةُ كُتُبهِماِ، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ بِمِصْرَ كَمَا جَاءَ في تَفْسِيرِه، توفي سنة (376) (¬5). 33 - هِبَةُ اللهِ بنُ أَبي عُقْبَةَ، أبو بكْرٍ التَّمِيمِيُّ، ذَكَرَ أبو المُطَرِّفِ في آخِرِ تَفْسِيرِه أَنَّهُ رَوَى مِنْ طَرِيقهِ (المُدوَّنةَ) بالقَيْرَوانِ، وكَانَ فَقِيهَاً عَابِدَاً ثِقَةً (¬6). ¬

_ (¬1) السير 16/ 233، ومن مؤلفاته (شرح المختصر الكبير في الفقه لإبن عبد الحكم) وسيأتي ذكره لاحقاً، ومن كتبه التي وصلت إلينا جزء صغير في الحديث عنوانه (الفوائد الغرائب الحسان)، وهو مطبوع في الكويت بتحقيق الأستاذ حسام محمد بو قريص. (¬2) ترتيب المدارك 6/ 296، والسير 16/ 368، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1153. (¬3) تاريخ علماء الأندلس 2/ 79، وجذوة المقتبس ص 99. (¬4) ترتيب المدارك 7/ 290، وترجمه ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس 2/ 130. (¬5) ينظر: وفيات المصريين للحبال ص 26. (¬6) الصلة 2/ 322، ومعالم الإيمان 3/ 85، وشجرة النور الزكيّة ص 97.

34 - يَحْيىَ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ يَحْيىَ بنِ يَحْيىَ بنِ يَحيَىَ، أَبو عِيسَى اللَّيْثِيُّ مَوْلاَهُم القُرْطُبِيُّ، الإمَامُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ المُسْنِدُ، رَوَى أبو المُطَرِّفِ عنهُ كُتُباً كَثيرَةً، مِنْهَا: (مُوَطَّأ يحيى بنِ يحيى)، و (تَفْسِيرُ يحيى بنِ سَلَّام). قالَ ابنُ الفَرَضِي: (ورَحَلَ النَّاسُ إليهِ مِنْ جَمِيعِ كُورِ الأَنْدَلُسِ)، توفي سنة (367)، ولَهُ خَمْسٌ وثَمَانُونَ سنة (¬1). 35 - يُوسُفُ بنُ إبْرَاهِيمَ، أَبو يَعْقُوبَ الجُرْجَانِيُّ، لَقِيهُ أبو المُطَرِّفِ في مَكَّةَ، ولمْ أَجِدْ لَهٌ تَرْجَمَة (¬2). 36 - يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ، أَبو يَغقُوبَ النَّجِيْرَمِيُّ البَصْرِيُّ، الإمَامُ المحُدِّثُ مُسْنِدُ البَصْرَةِ، رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ بِمَكَّةَ كَمَا في تَفْسِيرِه، وتُوفِّي بعدَ سنةِ (367) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تاريخ علماء الأندلس 2/ 191، وترتيب المدارك 6/ 108، والسير 16/ 267، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1350. (¬2) الصلة 2/ 323. (¬3) سير أعلام النبلاء 16/ 259.

المبحث الثاني تلاميذه

المبحث الثاني تلاميذه سَاهَمَ أَبو المُطَرِّفِ فِي نَشْرِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الأَنْدَلُسِ، وكانَ لَهُ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي تَخْرِيجِ نُخْبَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ الأَفْذَاذِ فِي شَتَّى الفُنُونِ الشَّرْعِيةِ، فَكَانَ مِنْ تَلَامِذَتهِ مَنْ هُوَ بَارِزٌ فِي الحَدِيثِ، ومِنْهُم مَنْ كَانَ لَهُ شَأْنٌ كَبيرٌ فِي القِرَاءَاتِ، ومِنْهُم مَنْ كَانَ فَقِيهَا قَاضِياً، بلْ إنَّ بَعْضَ تَلَامِذَتهِ مَنْ بَلَغَ القِمًّةَ فِي العِلْمِ كابنِ عَبْدِ البَرِّ حَافِظِ زَمَانِهِ، وصِنْوه أبي حَفْصٍ الزَّهْرَاوِيِّ مُحَدِّثِ الأَنْدَلُسِ، وابنِ عَتَّابٍ مُفْتِي قُرْطُبَةَ وغيرهم، وهاكَ أَسْمَاءَ مَنْ عَرَفْتُ تَتلُّمذَه عليهِ، مَعَ تَرْجَمَةٍ مُوجَزَة لِمَنْ وَقَفْتُ عَلَى خَبَرهِ مُرَتَبِينَ عَلَى حُرُوفِ المُعْجَمِ: 1 - إبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ، أَبو الفَرَجٍ ابنُ العَطَّارِ، قَاضِي أَوْرُيولَةَ، قالَ ابنُ الأَبَّار: حَدَّثَ عَنْهُ أَبو القَاسِمِ بنُ فَتْحُون بالموطَّأ عَنِ القُنَازِعيِّ عَنْ أَبي عِيسَى اللَّيْثِيِّ (¬1). 2 - أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ صَاعِدِ بنِ وثيق بنِ عُثْمَانَ القُرْطُيِيُّ، قَاضِي طُلَيْطَلةَ، أَبو الوَليدِ التَّغْلِبيُّ، كَانَ مُجْتَهِدَاً في قَضَائهِ مُتَحَرِّياً، صَارِماً في أُمُورِه كُلِّهَا، توفي قَاضِياً سنةَ (494) (¬2). 3 - أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ خَالِدِ بنِ مَهْدِيِّ، أبو عُمَرَ القُرْطُبِيُّ المُقْرِئُ، كانَ ¬

_ (¬1) التكملة لكتاب الصلة للقضاعي 1/ 116، والتكملة لكتاب الصلة لإبن الأبار ص 174. (¬2) الصلة 1/ 56.

مُقْرِئاً فَاضِلاً وَرِعَاً، عَالِمَاً بالقِرَاءَاتِ وَوُجُوهِهَا، ضَابِطَاً لَهَا، وأَلَّفَ كُتُباً كَثِيرَة في مَعْنَاهَا، توفي سنة (432) (¬1). 4 - أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سَعِيدٍ الأُمُويُّ القُرْطُبِيُّ، أبو عُمَرَ ابنُ الفَرَّاءِ، قَرَأَ عَلَى أبي المُطَرِّفِ القُرْآنَ بِقِرَاءَاتٍ (¬2). 5 - أَحْمَدُ بنُ يَحْيىَ بنِ أحمدَ بنِ سُمَيقِ بنِ مُحَمَّدٍ، أَبو عُمَرَ القُرْطُبِيُّ، نَزِيلُ طُلَيْطَلةَ وقَاضِيهَا، كَانَ مُحَدِّثاً ثِقَةً أَدِيباً مُشَارِكَاً في عِدَّةِ عُلُومٍ، وكَانَ عَابِدَاً قَارِئاً للقُرْآنِ، مُحِبَّا للسُّنَةِ، توفي فِي حُدُودِ سنةِ (450) (¬3). 6 - جَعْفَرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ، أَبو أَحْمَدَ اللَّخْمِيُّ القُرْطُبِيُّ ثُمَّ الطُّلَيطِلِيُّ، قَرأَ القُرْآنَ عَلَى أبي المُطَرِّفِ، وسَمِعَ منهُ الكَثيرَ فِي سَنة (411)، ورَوَى عَنْهُ بَعْضَ الكُتُبِ مِنْهَا: كِتَابُ (المنتقى) لإبنِ الجَارُودِ، و (غَرِيبُ الحَدِيثِ) لأَبي عُبَيْدٍ، وكانَ ثِقَةً حَافِظَاً، وتُوفِّي سنةَ (475) (¬4). 7 - حَاتِمُ بنُ مُحَمَّدٍ الطَّرَابُلْسِيُّ، أَبو القَاسِم القُرْطُبِيُّ، رَوَى (تَفْسِيرَ المُوطَّأ) عَنِ القُنَازِعِيِّ، وكَانَ عَالِمَاً فَقِيهاً مُحَدِّثاً ثِقَةً، تُوفِّي سنة (469) (¬5). 8 - حَمَّادُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عِيسَى بنِ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ، أَبو يُوسُفَ الكَلاَعيُّ، روى عن أبي المُطَرِّفِ في قرطبة، وتوفي سنة (447) (¬6). 9 - حَمْدُ بنُ حَمْدُونَ بنِ عُمَرَ القَيْسِيُّ، أَبو شَاكرٍ القُرْطُبِيُّ، قالَ الحُمَيْدِيُّ: (فَقِيهٌ قَرَأْنَا عَلَيْهِ)، ماتَ بعدَ سنةِ (430) (¬7). ¬

_ (¬1) الصلة 1/ 48، وتاريخ الإسلام 29/ 362. (¬2) الصلة 1/ 46. (¬3) الصلة 1/ 57. (¬4) فهرسة ابن عطية ص 72، والصلة 1/ 129، وتاريخ الإسلام 32/ 136، والمعجم المفهرس لإبن حجر ص 45. (¬5) فهرسة ابن خير ص 75، والصلة 1/ 157. (¬6) التكملة لكتاب الصلة 1/ 234، ونفح الطيب 2/ 509. (¬7) الصلة 1/ 156، وجذوة المقتبس ص 199، وبغية الملتمس ص 371.

10 - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ إسْمَاعِيلَ بنِ جَوْشَنَ، أبو المُطَرِّفِ الطُّلَيْطِلِيُّ، المُحَدِّثُ الحَافِظُ، توفي بعدَ سنة (450) (¬1). 11 - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ خَلَفِ بنِ حَكَم، يُعْرَفُ بأَبي المُطَرِّفِ ابنُ البَنَّا القُرْطُبيُّ، قالَ أَبو عَلِيٍّ الغَسَّانِيُّ: (قَرَأتُ عَلَيْهِ القُرْآنَ خَتَمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وكانَ قَدْ صَحِبَ أبا المُطَرِّف القُنَازِعِيَّ، ومَكِّي المُقْرِئ وجَمَاعَةً مِنَ الفُقَهَاءِ والمُقْرِئِينَ)، توفي سنة (454) (¬2). 12 - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يُعْرَفُ بأَبي زيدٍ ابن الحَشَا، قَاضِي طُلَيْطِلَةَ، وطَرْطُوشَةَ، ودَانِيَةَ، وسَمِعَ بِقُرْطُبةَ من أبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ وغَيْرِه، وتُوفِّي سنة (473) (¬3). 13 - عَبْدُ المَلِكِ بنُ زِيادَةِ اللهِ بنِ عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ الحِمَّانِي، أَبو مَرْوَانَ الطَّبْنِيُّ القُرْطُبِيُّ، مُحَدِّثٌ ثِقَةٌ، رَوَى بِقُرْطُبَةَ عَنْ أبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ وغَيْرِه، توفي سنة (457) (¬4). 14 - عَبْدُ المَلِكِ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعْدَانَ، أَبو مَرْوَانَ الكَزَّنيُّ، رَوَى عَنْ أَبى المُطَرِّفِ وغَيْرِه ثُمَّ رَحَلَ وحَجَّ، ثُمَّ قَفَلَ، وتُوفِّي سَنَة (445) وقِيلَ بَعْدَها (¬5). 15 - عليُّ بنُ خَلَفِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ بَطَالٍ القُرْطُبِيُّ قَاضِي لَوْرَقَةَ، الإمَامُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ، شَارِحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، توفي سنةَ (449) (¬6). ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 336، وتاريخ الإسلام 30/ 503. (¬2) الصلة 2/ 336 - 337. (¬3) الصلة 2/ 340، وتاريخ الإسلام 32/ 89. (¬4) ترتيب المدارك 7/ 293، والصلة 2/ 360. (¬5) الصلة 2/ 363. (¬6) الصلة 2/ 414، وسير أعلام النبلاء 18/ 47، وتاريخ الإسلام 30/ 233. وكتابه في شرح الصحيح طبع في عشر مجلدات.

16 - عَلي بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ عَبَادِلَ، أَبو الحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ الإشْبِيلِيُّ، قَرأَ القُرْاَنَ بِقُرْطُبَةَ على أَبي المُطَرِّفِ، وتُوفِّي سنة (456) (¬1). 17 - عُمَرُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ بنِ يُوسُفَ بنِ حَامِدٍ، أَبو حَفْصٍ الذُهْلِيُّ الزَّهْرَاوِيُّ القُرْطبِيُّ، الإمامُ الحَافِظُ الثِّقَةُ مُحَدِّثُ الأَنْدَلُسِ مَعَ ابنِ عَبْدِ البَرِّ، توفي سنة (454) (¬2). 18 - مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ هَرْثَمَةَ بنِ ذَكْوَانَ، أبو بَكْرٍ القُرْطُبِيُّ، توفي سنةَ (435) (¬3). 19 - مُحَمَّدُ بنُ الحَبِيبِ بنِ طَاهِرِ بنِ عَلِيِّ بنِ شِمَاخٍ، أَبو عَبْدِ اللهِ الغَافِقِيُّ القَاضِي، توفي فَجْأَة سَنةَ (459) (¬4). 20 - مُحَمَّدُ بنُ جَهوَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ جَهْوَرِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بن الغَمْرِ، أبو الوَليدِ الأَمِيرُ رَئِيسُ قُرْطُبةَ، ومُدِيرُ أَمْرِهَا، وَلِي إمْرَة قُرْطُبَةَ بعدَ وَالِدِه سنةَ (435)، وتُوفِّي مُعْتَقَلاً في سِجْنِ المُعْتَمَدِ بنِ عَبَّادٍ سنةَ (462) (¬5). 21 - مُحَمَّدُ بنُ عَابدٍ، أَبو عَبْدِ اللهِ، رَوَى كِتَابَ (تَفْسِيرِ الموُطَّأ) عَنْ مُؤلِّفهِ القُنَازِعيِّ، ولم أجدْ لَهُ تَرْجَمَة (¬6). 22 - مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُثْمَانَ بنِ سعِيدِ بنِ غَلْبُونَ، أَبو عَبْدِ الله الخَوْلاَنِيُّ القُرْطُبِيُّ، المُحَدِّثُ الثِّقَةُ، توفي سنة (448) (¬7). 23 - مُحَمَّدُ بنُ عَتَّابِ بنِ مُحْسِنٍ، أَبو عَبْدِ الله الجُذَامِيُّ مَوْلاَهُم القُرْطُبِيُّ، ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 415، وتاريخ الإسلام 30/ 418. (¬2) الصلة 2/ 400، وتاريخ الإسلام 30/ 367، وسير أعلام النبلاء 18/ 219. (¬3) تاريخ الإسلام 29/ 420. (¬4) الصلة 2/ 541. (¬5) الصلة 2/ 546، وتاريخ الإسلام 31/ 73، وسير أعلام النبلاء 17/ 140. (¬6) فهرسة ابن خير ص 75. (¬7) الصلة 2/ 535، وتاريخ الإسلام 30/ 190.

الإمامُ العَلَّامَةُ الفَقِيهُ المتُقِنُ المُحَدِّثُ الثقَةُ العَابِدُ المُصَنِّفُ، توفي سنةَ (462) (¬1). 24 - مُعَاويةُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ مَعَارِكٍ، أَبو عَبْدِ الله العُقَيْلِيُّ القُرْطُبِيُّ، الإمامُ المُحَدِّثُ، توفي سنة (469) (¬2). 25 - مُوسَى بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ وَلِيدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ وَلِيدِ بنِ مَرْوَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ جَمْرَةَ الأَنْدَلُسِيُّ، رَحَلَ إلى قُرْطُبَةَ فَسَمعَ مِنْ أبي المُطَرِّفِ (¬3). 26 - يُوسُفُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ البَرِّ، أبو عُمَرَ النَّمْرِيُّ القُرْطُبِيُّ، الإمامُ الحَافِظُ الفَقِيهُ شَيْخُ الإسْلاَمِ، وصَاحِبُ المُصَنَّفَاتِ الشَّهِيرِة كالتَّمْهِيدِ والإسْتِذْكَارِ والإسْتيعَابِ وغيْرِها، رَوَى عَنْ أبي المُطَرِّفِ في كَثير مِنْ كُتِبهِ توفي سنةَ (463) (¬4). * * * ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 544، وسير أعلام النبلاء 18/ 328، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1146. (¬2) الصلة 2/ 614، وتاريخ الإسلام 31/ 305. (¬3) التكملة لكتاب الصلة 2/ 172. (¬4) سير أعلام النبلاء 18/ 153. وقد ذكرت في المبحث الأول من الفصل الثاني مواضع روايته عن أبي المطرف.

الفصل الرابع مرويات أبي المطرف ومسموعاته

الفصل الرابع مرويات أبي المطرّف ومسموعاته وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: كتب التفسير. المبحث الثاني: كتب علوم القرآن وفضائله. المبحث الثالث: كتب الحديث المُسْنَدةِ. المبحث الرابع كتب شروح الموطأ. المبحث الخامس كتب علوم الحديث. المبحث السادس كتب الفقه. المبحث السابع كتب اللغة والأدب.

تمهيد

تمهيد رَوى الإمامُ أبو المُطَرِّفِ كُتَباً كَثيرَة، رَوَى بَعْضَها عَنْ عُلَمَاءِ قُرْطَبةَ، كَمَا أَنَّهُ حَمَلَ بَعْضَها عَنِ العُلَمَاءِ الذينَ التقَى بِهِم فِي رِحلَتِهِ في بِلاَدِ المَشْرِق كالقَيْرَوانِ ومِصْرَ ومَكَّةَ وغَيْرِها، وفِي إظْهَار هَذِه الكُتُبِ فَوَائدُ مُهِمَّةٍ، ولَعَلَّ مِنْ أَهَمّها أَنَّهَا تُظْهرُ الكُتُبَ التي كَانَتْ مُتَدَاوِلَة بِقُرْطُبَةَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وتُظْهِرُ أيضاً هِمَّةَ أبي المطرف في طلبِ العِلمِ ورَغبَتِه في رِواية هذه الكُتب التي تَنوَّعت فُنُونُها ما بينِ كُتب في التفسير، والحديثِ، والفقه، واللّغة وغيرِ ذلك، وتوضح بعض معالم فهرسته التي لم يتم العثور عليها حسب علمي، فإنه - بدون شك- قد عني فيها بذكر أسانيده إلى الكتب مما أخذه عن شيوخه، ورَوَى أبو المُطَرِّفِ بَعْضَ هَذِه الكُتُبِ التي سنذكرها فِي خَاتِمَةِ شَرْحهِ للمُؤطّأ، كَمَا جَاءَ ذِكْرُ كّثيرٍ منْهَا في كُتبِ الفَهارِسِ والتَّرَاجُمِ، وقدْ رَتَّبْتُها على الموضُوعَاتِ.

المبحث الأول كتب التفسير

المبحث الأَوَّل كتب التفسير 1 - جُزْءٌ فِيهِ (لُغَاتُ القُرْآنِ العَزِيزِ وتَفْسِيرِه) عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَبَّاس - رَضِي اللهُ عَنْهُما - (¬1)، قال أبو المُطَرِّفِ: أخبرنا أبو مُحَمَّد الحَسَنُ بنُ رَشَيقٍ العَسْكَري قِرَاءةً عليهِ، قالَ: حدَّثنا أبو قتيْبةَ سَلْمُ بنُ الفَضْلِ بنِ سَهْلٍ الأَدَمِيُّ البَغْدَادِي قِرَاءةً عليه وأَنا أَسْمَعُ فِي سنةِ تِسْع وأَرْبَعِينَ وثلاثمائةَ، قالَ: أَخبرنا أبو بَكْرٍ مُحَمدُ بنُ عليٍّ الرَّقِّي مِنْ لَفْظِهِ، قالَ: حدَّثنا أبو جعفر مُحَمَّدُ بنُ خَالِدِ بنِ يَزِيدَ البَرْدَعيُّ، قالَ: حدَّثنا أَبو علي الحَسَنُ بنُ يَزِيدَ الدَّقَّاق، قالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الله، حدَّثنا أَبو جَعْفرٍ المُقْرِئ مُؤَدِّبُ جعفرِ بنِ سَلَمةَ، عَنْ عبدِ المَلِكِ بنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهما - (¬2). 2 - (تَفْسِيرُ يَحْيى بن سَلَّام) (¬3)، قالَ أبو المُطَرِّف: حدَّثنا أبو عِيسَى يَحْيى بنُ عبد الله بن أبي عيسى، قال: حدَّثنا أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ الحسنِ المِرِّي البَجَّانِي، ¬

_ (¬1) طبع مراراً بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، واعتمد فيه على نسخة المكتبة الظاهرية، وتوجد منه نسخة أخرى في مكتبة عاطف أفندي الملحقة بالمكتبة السليمانية باستنبول، في مجموع من ص 102 أ، إلى ص 107. (¬2) برنامج القاسم بن يُوسف التَّجيبي السَّبْتِي ص 49. (¬3) وهو من أقدم التفاسير التي وصلتنا، ولم يصل إلينا كاملاً، وقد طبع جزء كبير مؤخراً بتحقيق الدكتورة هند شلبي، من سورة النحل إلى سورة الصافات، وهذا التفسير اختصره أبو المطرف -ولم يصل إلينا- كما اختصره الإِمام ابن أبي زمنين وقد طبع، كما اختصره هود بن محكم الإباضي، وطبع أيضا.

قال: حدَّثنا أبو دَاود أحمدُ بنُ موسى بنِ جَرِير، عن يَحْيى بنِ سَلام (¬1). 3 - (تَفْسِيرُ) أَبي جَعْفَرٍ محمد بن جَرِير الطَّبَرِيِّ (¬2)، رَوَاه أبو المُطَرِّفِ عَنْ أَبي الطَّيِّبِ أَحْمَدَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ عَمْرو الحَرِيرِي، عَنْ مُصَنِّفهِ أَبي جَعْفَرٍ الطَّبرِي (¬3). * * * ¬

_ (¬1) فهرسة ابن خير 57. (¬2) طبع مراراً، وأفضل طبعة له كاملة هي التي حققها مع آخرين الدكتور عبد الله التركي، وصدرت في (26) مجلداً مع الفهارس عن دار هجر بمصر، وقد جاءت هذه الطبعة معتمدة على نسخ خطيّة كثيرة، بالاضافة إلى الإستفادة من تحقيق العلامة أحمد شاكر وأخية العلامة محمود شاكر -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-. (¬3) المعجم المفهرس ص 108.

المبحث الثاني كتب علوم القرآن وفضائله

المبحث الثَّاني كتب علوم القرآن وفضائله 1 - (ناسخُ القُرآنِ ومَنْسُوخهِ) لأَبي عُبَيدٍ القَاسِم بنِ سَلَّام (¬1)، قال أبو المُطَرِّف: حدَّثنا أبو مُحَمَّدٍ عبدُ الله بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ خَالِدٍ، وطَاهِرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ، وسَعِيدُ بنُ خُمَير، قالُوا كُلُّهم: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ العَزِيز، عَنْ أَبي عُبَيْدٍ (¬2). 2 - (فَضَائلُ القُرْآنِ) لأبكرِ بنِ أَبي شَيبَةَ، وهُمَا جُزْأنِ فيهما زِيادةُ على ما رَوَاهُ المؤلِّفُ في المُصَنَّفِ كما قالَ ابنُ خَيْرٍ، رواهُ أبو المُطَرِّف، فقالَ: قَرَأْتُهُ على أَبي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ رَشِيق، قالَ: حدَّثنا أبو العَلاَءِ مُحَمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ جعفرٍ الوَكِيعِي الكُوفِي، قالَ: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبةَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) طبع بتحقيق الدكتور محمد بن صالح المديفر، وصدر عن دار الرشد بالرياض. (¬2) فهرسة ابن خير ص 49، والمعجم المفهرس لإبن حجر ص 113. (¬3) فهرسة ابن خير 132.

المبحث الثالث كتب الحديث المسندة

المبحث الثَّالث كتب الحديث المسندة 1 - (موطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ) (¬1)، قال أبو المُطَرِّف في خاتمة تفسيره: حدثني به أَبو مُحَمَّدٍ بنِ رَشِيقٍ، عَنْ أَبي جَعْفَرٍ، عَنِ ابنِ بُكَيْرٍ. وهذا الكِتَابُ رواهُ ابنُ خَيْرٍ أيضاً بإسنادهِ إلى أَبي المُطَرِّف، قال: حدَّثنا الحسنُ بنُ رَشيْق بِمْصرَ، قال: حدَّثنا أبو عليٍّ الحسنُ بنُ مُحَمَّدٍ المَدِينيِّ، عن يَحْيىَ بنِ بُكَيرٍ (¬2). 2 - (الجَامِعُ الصَّحِيحِ)، للإِمام البُخَارِي (¬3)، قالَ أبو المُطَرِّفِ في خَاتِمَةِ ¬

_ (¬1) قال الدكتور محمد مصطفى الأعظمي حفظه الله تعالى في مقدمة تحقيقه للموطأ 1245: توجد عدة مخطوطات قديمة ونفيسة من رواية ابن بكر، قلت: أعرف منها خمس نسخ وفيها بعض النقص، ولعلها تكمل بعضها بعضاً، النسخة الأولى في الظاهرية وتبدأ من كتاب الزكاة، والثانية من مكتبة جامعة استانبول بتركيا، والنسخة الثالث قطعة في مكتبة القيروان بتونس، والرابعة نسخة في مكتبة الأزهر بمصر، والخامسة في مكتبة أحمد الثالث بتركيا، ولها صورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ويقوم الدكتور الأعظمي بتحقيق هذه الرواية، وقد أطلعني -رعاه الله- على بعض عمله في بيته بالرياض، وفي خزانتي مصورتا الظاهرية ومكتبة أحمد الثالث. (¬2) فهرسة ابن خير ص 84. (¬3) هو (الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه)، وقد طبع كثيراً، وأشهر طبعة له وأفضلها على الإطلاق هي الطبعة السلطانية في مطبعة بولاق عام 1313، وصورت بعد ذلك عدة مرات، وذكر العلامة أحمد شاكر بأن الذين قاموا على تصحيح الطبعة اعتمدوا في ذلك على نسخة شديدة الضبط بالغة الصحة من فروع النسخة اليونينية، وعلى نسخ أخرى خلافها، شهيرة الصحة والضبط، قلت =

تَفْسِيرِه: حَدَّثَنِي بهِ أَبو جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ السَّكَنِ، عَنِ الفِرَبْرِيِّ، عَنِ البُخَارِيِّ. 3 - (سُنَنُ أَبي دَاوُدَ) (¬1)، قالَ فِي خاَتمِة تَفْسِيره: حَدَّثَنِي بهِ أَبو جَعْفَرٍ، عَنِ ابنِ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبي دَاوُدَ (¬2). 4 - (مُصَنَّفُ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ)، رواه أبو المُطَرِّف عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيىَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أحمدَ بنِ خَالِدٍ، عَنْ علي بنِ عبدِ العَزِيزِ، عَنْ حَجَّاجِ بنِ المنهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ (¬3). 5 - (مُسْنَدِ ابنِ أَبي شَيْبَةَ) (¬4)، قالَ في خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه: حَدَّثَنِي بهِ أَبو مُحَمَّدِ بنِ ¬

_ = ورواية ابن السكن وهو أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن المصري - التي اعتمدها المصنف القنازعي -رَحِمَهُ اللهُ- وُجد منها المجلد الأول بالخزانة الحبسية بالجامع الأعظم بمدينة تازة بالمغرب، كما ذكر ذلك الدكتور يوسف الكتاني في كتابه (مدرسة الإِمام البخاري في المغرب) 1/ 120. (¬1) كتاب السنن، طبع مراراً، وأفضل طبعة له هي التي قام على تحقيقها وضبطها وفهرستها الأستاذ الفاضل العلامة محمد عوامة حفظه الله، فقد اعتمد على نسخة بخط الحافظ ابن حجر وقابل عليها سبع نسخ خطية، وقد ذكر في بعض هذه النسخ روايات السنن على رأسها رواية أبي سعيد بن الأعرابي، وقد فات الأستاذ المحقق أن يرجع إلى أصل مهم جداً للسنن بخط الإِمام الخطيب البغدادي وفيها اعتماده على رواية ابن الأعرابي وغيرها، وينبغي أن أشير إلى أن العلامة العظيم آبادي جمع في شرحه عون المعبود أحد عشر نسخة، كما أن الحافظ المزي ذكر اختلافات روايات السنن ومنها رواية ابن الأعرابي في كتابه العظيم (تحفة الأشراف). (¬2) وكذا جاء مثله في فهرسة ابن خير ص 104. ومما ينبغي ذكره أن علماء قرطبة كانت لهم عناية بسنن أبي داود حتَّى فضله بعضهم على صحيح البخاري، ونقل ابن خير في فهرسته ص 107 عن أبي محمد بن يربوع أنه قال: وهؤلاء القرطبيون لم يدخل عندهم من أول ما دخل إلا كتاب أبي داود، فالتموا به، وأما الكتب الصحاح فلم تدخل عندهم إلا بأخرة. (¬3) فهرسة ابن خير ص 134، والمعجم المفهرس لإبن حجر ص 50، وتغليق التعليق له أيضاً 5/ 457. (¬4) وصلتنا قطعة كبيرة من هذا الكتاب محفوظة في الخزانة العامة بالرباط، وطبع في =

عُثْمَانَ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ، عَنِ ابنِ وَضَّاحٍ، عَنِ ابنِ أَبِي شَيْبَةَ. 6 - (مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ)، قالَ فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه: حَدَّثنِي بهِ أَبو عِيسَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ يَحْيىَ، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ. 7 - جُزْءٌ فِيهِ (مِنْ حَدِيثِ أَبي مُحَمَدِ بنِ عُثْمَانَ عَنْ شُيُوخِهِ)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّف عَنْ مُؤَلِّفهِ أَبي مُحَمَّدٍ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بن عُثْمَانَ عَنْ شُيُوخهِ، قالَ ابن خَيْرٍ: وعِنْدِي منهُ أَصْلُ أَبي المُطَرِّف القُنَازِعي بِخَطِّه (¬1). 8 - (الزُّهدُ) لأَبي دَاوُد سُلَيمانَ بنِ الأَشعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ (¬2)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّف عَنْ أَبي عَبْدِ اللهِ مُحَمِّدِ بنِ مُفَرِّجٍ القَاضِي، عَنْ أَبي سَعِيدِ بنِ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبي دَاوُدَ (¬3). 9 - جُزْءٌ فيهِ (حَدِيثُ أَبي حَازِم المَدَنِي)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّفِ عن أبي مُحَمَّدٍ عبدِ الله بنِ مُحَمِّدِ بنِ عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا أبو الحسن طَاهِرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، قالَ: حدَّثنا أبو بَكْرٍ الخَلاَّلِ، قالَ: أملى عَلَيْنا أَبو سَلَمةَ يَحْيىَ بنُ المغيرةِ المَخْزُومِيّ، قال: حدَّثنا عبدُ الجبَّارِ بنُ عبدِ العَزِيزِ بنِ أَبي حَازِمٍ، قالَ: حدَّثني أَبي، عَنْ جَدِّي أبي حازم، قالَ ابنُ خَيْرٍ: وعِنْدِي هُوَ بِخَطِ القُنَازِعيِّ (¬4). * * * ¬

_ = مجلدين بتحقيق عادل العزازي وأحمد المزيدي، وصدر عن دار الوطن بالرياض، وهذه الطبعة سيئة، فيها سقط وتحريف، ولذا فإن الكتاب ما يزال بحاجة إلى خدمة وتوثيق. (¬1) فهرسة ابن خير ص 164. (¬2) طبع بتحقيق ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بمصر، كما صدر عن الدار السلفية بالهند بتحقيق ضياء الدين السلفي. (¬3) فهرسة ابن خير 274. (¬4) فهرسة ابن خير ص 303 - 304.

المبحث الرابع كتب شروح الموطأ

المبحث الرابع كتب شروح الموطأ 1 - (تَفْسِيرُ يَحْيىَ بنِ إبْرَاهِيمَ بِنِ مُزَيْنٍ) (¬1)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّفِ في خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه عن أبي مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ حُمَيْدٍ، عَنِ ابنِ مُزَيْنٍ. 2 - (تَفْسِيرُ الأَخْفَشِ) (¬2)، رَوَاهُ في خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه أيضاً عن أبي مُحَمَّدٍ البَاجِي، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ، عَنْ يَحْيىَ بنِ عُمَرَ، عَنِ الأَخْفَشِ. 3 - (تَفْسِيرُ عبدِ اللهِ بنِ نَافِع) (¬3)، رَوَاهُ كذلكَ في خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه عن أبي عِيسَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ يَحْيىَ، عَنِ ابنِ نَافِعٍ. * * * ¬

_ (¬1) فقد أكثر هذا الكتاب ولم يصل إلينا منه سوى ورقات قليلة محفوظة في المكتبة العتيقة بالقيروان، وقد نسختها، وسأقوم بتحقيقها قريبًا إن شاء الله تعالى. (¬2) وصلتنا منه ثلاث نسخ كما ذكر ذلك الدكتور عبد الرحمن بن العثيمين في مقدمة كتاب تفسير غريب الموطأ لإبن حبيب 1/ 68، وقال رعاه الله: منها نسخة جيدة قديمة في مكتبة صائب بتركيا، ومنها نسخة في مكتبة القيروان بتونس، وثالثة في مكتبة أحمد عبيد في دمشق، وذكر أيضاً أن أحد الباحثين في تونس يعمل على تحقيقه. (¬3) ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك 2/ 83، و 3/ 130، وذكره أيضاً الدكتور عبد الرحمن بن العثيمين في مقدمة تفسير ابن حبيب 1/ 96، ولا نعرف عنه شيئا من نسخه.

المبحث الخامس كتب علوم الحديث

المبحث الخامس كتب علوم الحديث 1 - (غَرِيبُ الحَدِيثِ) لأَبي عُبَيْدٍ القَاسِمِ بنِ سَلَّامٍ (¬1)، رواه ابن عطية، والقاضي عياض بإسنادهما إلى أبي المُطَرِّف، قال: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يحيى بنِ عبدِ العَزِيز المعرُوفُ بابنِ الخَرَّازِ، عَنْ أحمدَ بنِ خَالِدٍ، حدَّثنا أبو الحُسينِ عليُّ بنُ عبدِ العَزِيزِ البَغَويُّ، عَنْ أَبي عُبَيْدٍ القَاسِمِ بنِ سَلَّامٍ (¬2). 2 - (مَعْرِفةُ الرِّجَالِ وعِلَلِ الحَدِيثِ) عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ (¬3)، رواه أبو المُطَرِّف عَنْ أَبي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ رَشِيْقٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بن زَبْر، عَنْ أَبي بَكْر أحمدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الحَجَّاجِ المَرُّوذِيِّ، عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبلٍ (¬4). 3 - (وَصِيَّهُ الإمامِ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ لِطَلبةِ العِلْمِ)، أَو (وَصِيَّةُ يَحْيىَ بن يَحْيىَ لِطَلبةِ العِلْمِ)، رَوَاه أبو المُطَرِّفِ عَنْ أَبي عِيسَى، عَنْ أبي عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا أبو المُعَلَّى بنُ مَعَلَّى، حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أَيُّوبَ، أَخبرنا يَحْيىَ بنُ يحيى، قالَ: قالَ مَالِكٌ (¬5). ¬

_ (¬1) طبع قديماً بالهند مجرداً من الأسانيد، ثم طبع في مصر بتحقيق الأستاذ الدكتور حسين شرف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -في سنة مجلدات، وطبع المجلد السابع وهو فهارس للكتاب، بإشراف أستاذنا العلامة الدكتور محمود الطناحي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-. (¬2) فهرسة ابن عطية الغرناطي ص 72، والغنية للقاضي عياض ص 109. (¬3) طبع بتحقيق الدكتور وصي الله بن محمد عباس، وصدر عن الدار السلفية بالهند. (¬4) فهرسة ابن خير ص 228. (¬5) الغنية للقاضي عياض ص 188.

المبحث السادس كتب الفقه

المبحث السادس كتب الفقه 1 - (المُدَوَّنَةِ) (¬1)، قالَ فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه: حَدَّثَنِي بهِ أَبو بَكْرِ بنِ أَبِي عُقْبَةَ، عَنْ جَبَلَةَ بنِ حَمُّودٍ، عَنْ سَحْنونَ بنِ سَعِيدٍ. 2 - (المختصر الكبير في الفقه)، لإبنِ عَبْدِ الحَكَمِ (¬2)، قالَ فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِه: حدثني به أَبو جَعْفَرِ بنُ عَوْنِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ جَامِع، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ، عَنْ أَبيهِ. 3 - (الفَرَائِضُ) لأَبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ جَرِير الطَّبَرِيِّ، قالَ ابنُ خَيْرٍ: مُخْتَصَرةٌ عَلَى مَذْهَبِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بنِ أَنْسٍ رَحِمَهُ اللهُ، لاَ يُخَالِفُهُ فِي شَيءٍ مِنْها إلَّا فِي فَرِيضَةٍ وَاحِدَة، وَهُو مَذْهَبُ الشَّافِعيّ أيضاً، ثُمَّ رَوَاهُ بإسنادهِ إلى أبي المُطَرِّف، عَنْ أَبي الطَّيِّبِ أحمدَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ عَمْرو الحَرِيرِيِّ، عن مُصَنِّفهِ أبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) طبع مراراً، وعليه شروح وتعليقات ومختصرات كثيرة. (¬2) وصلنا جزء من كتاب عبد الله بن عبد الحكم المصري المسمى (المختصر الكبير في الفقه)، مخطوط ناقص يقع في (33) ورقة، في مكتبة القرويين بفاس، كما ذكر ذلك الدكتور ميكلوش موراني في كتابه (دراسات في مصادر الفقه المالكي) ص 22، ووصف المخطوط من أولها وآخرها. (¬3) فهرسة ابن خير ص 263 - 264.

المبحث السابع كتب اللغة والأدب

المبحث السابع كتب اللغة والأدب 1 - (أَدَبُ النُّفُوسِ)، لأَبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ، رَوَاهُ أَبو المُطَرِّف عَنْ أَبي الطَّيِّبِ أحمدَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ عَمْروٍ الحَرِيرِيّ، عن مُصَنِّفهِ أبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ (¬1). 2 - (الجُمَلُ)، لأَبي القَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ إسْحَاقَ الزَّجَّاجِيِّ (¬2)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّف عَنْ أَبي الحَسَنِ الأَنْطَاكِيِّ المُقْرِئِ، عَنْ أَبي القَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ (¬3). 3 - (الكَامِلُ)، لأَبي العبَّاسِ مُحَمَّدِ بنِ يَزِيدَ المُبَرَّدِ (¬4)، رَوَاهُ أبو المُطَرِّف عَنْ أَبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ القُوِطيَّةِ، عن أَبي عُثْمَانَ سَعِيدِ بنِ جَابِرٍ، عَنِ الأَخْفَشِ، عَنِ المُبَرَّدِ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) فهرسة ابن خير ص 288. (¬2) طبع بتحقيق الدكتور علي توفيق الحمد، وصدر في بيروت سنة (1984). (¬3) فهرسة ابن خير ص 308. (¬4) طبع مراراً، وأفضل طبعة له هي التي حققها العلامة أحمد شاكر والأديب الدكتور زكي مبارك، في مصر. (¬5) فهرسة ابن خير ص 322.

الفصل الخامس دراسة تفسير الموطأ لأبي المطرف القنازعي

الفصل الخامس دراسة تفسير الموطأ لأبي المطرف القُنَازعي وفيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ: المَبْحَثُ الأوَّلِ: إثْبَاتُ اسْمِ الكِتَابِ، وتَوْثيقُ نِسْبَتهِ للمُؤَلِّفِ. المَبْحَثُ الثَّانِي: مَنْهَجُ المُؤَلِّفِ في الكِتَابِ، ومَسْلَكُهُ في اسْتِخْرَاجِ الفَوَائدِ. المَبْحَثُ الثَّالِثِ: مَوَارِدُ المُؤَلِّفِ في الكِتَابِ. المَبْحَثُ الرَّابعِ: قِيمَةُ الكِتَابِ العِلْمِيَّةِ، ومآخذُ على المؤلِّفِ. المَبْحَثُ الخَامِس: وَصْفُ النُّسْخَةِ المُعْتَمَدةِ في التَّحْقِيقِ. المَبْحَثُ السَّادِسِ: طَرِيقةُ تَحْقِيقِ الكِتَابِ.

المبحث الأول

المبحث الأَوَّل وفيه مَطْلَبَانِ: المَطْلَبُ الأَوَّلِ: إثْبَاتُ اسْمِ الكِتَابِ المَطْلَبُ الثَّانِي: تَوْثيقُ نِسْبةِ الكِتَابِ للمُؤَلِّفِ. * * * المطلب الأَوَّلُ إثبات اسم الكتاب نَظَراً لِضَياع الأَوْرَاقِ الأُولَى مِنَ النُّسْخَةِ الخَطِّيةِ فَقَدْ سَقَطَ عِنْوَانُ الكِتَابِ، كَمَا سَقَطَتْ مِنْهُ مُقَدِّمَتُهُ، ولكنْ جَاءَ اسْمُهُ مُصَرَّحاً بهِ في نِهَايةِ كِتَابِ الصَّلاةِ فِي النَّصِّ التَّالِي: (يَلِيهِ الجُزْءُ الثَّانِي مِنْ تَفْسِيرِ المُوطَّأ، فيهِ الزَّكَاةُ، والصِّيَامُ، والاعْتِكَافُ، ولَيْلَةُ القَدْرِ، والجَنَائِزُ، والنُّذُورُ، والضَّحَايا، والعَقِيقَةُ، والصَّيْدُ، والذَّبَائِحُ، وكِتَابُ النِّكاحِ، والطَّلاَقِ، والرَّضَاع، مِمَّا جَمَعَهُ أَبو المُطَرِّفِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَرْوَانَ القُنَازِعِيُّ، وبَوَّبَهُ على حَسَبِ تبْوِيبِ يَحْيىَ بنِ يحيى للمُوطَّأ، وأَدْخَلَ فيهِ مَا أَخَذَهُ تَلَقِّيَاً ومُشَاهَدَةً مِنْ شُيُوخِهِ الذينَ دَرَسَ عَلَيْهِم المُوَطَّأ، وأَدْخَلَ فيهِ مَا رَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ في رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ علَى ما رَوَاهُ يحيى بنُ يَحْيىَ اللَّيْثِيّ). وكَذا جَاءَتْ تَسْمِيتَهُ في كَثير مِنَ المَصَادِرِ، ومِنْها مَا جَاءَ في فِهْرِسةِ ابنِ خَيْرٍ، فقدْ رَوَاهُ بإسْنَادِهِ إلى المُصَنِّفِ، فقالَ: (كِتَابُ تَفْسِيرِ المُوطَّأ، لأَبي المُطَرِّفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَرْوَانَ القُنَازِعيِّ ... إلخ).

المطلب الثاني توثيق نسبة الكتاب للمؤلف

وهَذا دَلِيلٌ ظَاهِر على أَنَ اسْمَ الكِتَابِ الذي سَمَّاهُ به مُؤَلِّفُهُ هُوَ (تَفْسِيرُ المُوَطَّأ)، وهذه التَّسْمِيةُ كَانَتْ مَعْرُوفةً لَدَى كَثبرِ مِنَ العُلَمَاءِ الذينَ شَرَحُوا الموطَّأ مِنْ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ وغَيْرِهم قبلِ أَبي المُطَرِّفِ أَو بعدَه، كَيَحْيىَ بنِ إبْرَاهِيمَ بنِ مُزَيْنٍ (ت 260)، ومُحَمَّدِ بنِ سَحْنُونَ القَيْرَواني (ت 265)، وأَبي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بنِ نَصْير الدَّاوُدِيِّ المُسِيلِيِّ (ت 402)، وأبي عَبْدِ الملكِ مَرْوَانَ بنِ علي البُونيِّ (ت 440)، وغيرهم، فَكُلُّ هَؤُلاءِ سَمُّوا كِتَابَهُمْ الذي هُو في شَرْحِ الموطَّأ بِهَذا العِنْوَانِ الذي اخْتَارَهُ الإمامُ أبو المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ (¬1). * * * المطلب الثاني توثيق نسبة الكتاب للمؤلف كتابً (تَفْسِيرُ المُوطَّأ) ثَابِتُ النِّسبةِ إلى أَبي المُطَرِّفِ، وهناكَ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ بَيِّنَة تُثْبِتُ ذَلِكَ ومنها: 1 - أنَّ كُلَّ مَنْ تَرْجَمَ لأَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ ذَكَر لَهُ هذَا الكِتَابَ ونَسَبهُ إليه، وإليكَ جَانِباً مِنْ هَذِه المصادرِ: أ - قالَ القَاضِي عِياضُ في تَرْجَمَةِ أبي المُطَرِّفِ: (كَانَ أَقْوَمَ مَنْ بقِيَ بِحَدِيثِ مُوطأ مَالِكِ، ولَهُ في تَفْسِيرِه كِتَابٌ مَشْهُورٌ مُفِيدٌ مُسْتَعَمَل) (¬2)، وقالَ في بابِ اعْتِنَاءِ النَّاسِ بِكِتَابِ الموطَّأ: (ولأَبي مَرْوَانَ القُنَازِعِيِّ كِتَابَهُ المَشْهُورُ في شَرْحهِ أَيْضَاً) (¬3). ب - وقالَ ابنُ بَشْكُوالَ: (جَمَعَ أَيْضًا في تَفْسِيرِ المُوَطَّأ كِتَاباً حَسَناً مُفِيدَاً، ¬

_ (¬1) ينظر: فهرسة ابن خير ص 86 - 88، وترتيب المدارك 4/ 207، ومقدمة تفسير غريب الموطأ لإبن حبيب. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 293. (¬3) ترتيب المدارك 2/ 83.

ضَمَّنَهُ مَا نَقَلَهُ يَحْيى بنُ يَحْيىَ في مُوطَّأهِ، وَيحْيى بنُ بُكَيرٍ أَيضاً في مُوطَّأه) (¬1). ج - وقالَ ابنُ حَيَّانَ: (لَهُ في الموطَّأ تَفْسِير مَشْهُورٌ (¬2). د - وقالَ الذَّهِبيُّ: (شَرَحَ المُوَطَّأ) (¬3). 2 - نَقَلَ العُلَمَاءُ مِنْهُ بَعْضَ النُّصُوصِ ونَسَبُوهُ إليهِ، وهذا مِنْ أَوْثَقِ الأَدلَّةِ على أَنَّ هَذا الكِتَابَ الذي بينَ أيدِينا هُو: (تَفْسِيرُ المُوَطَّأ) لأَبي المُطَرِّف القُنَازِعيِّ. وإليكَ بعضَ تِلْكَ النُّقَولاَتِ: أ - روَى الحَافِظُ ابنُ عبدِ البَرَ حَدِيثاً، فقالَ: (حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوَانَ، حدَّثنا أَبو مُحَمَّدٍ القُلْزُمِيُّ بِمِصْرَ، قالَ: حدَّثنا ابنُ الجَارُود، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ هَاشِمٍ، قالَ: حدَّثنا يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْروٍ، عَنْ أَبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ" (¬4)، وهذا النص مَوْجُودٌ فِي كِتَابنا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ القُلْزُمِيِّ به. ب - القاضي عياضُ، فقدْ نَقَلَ منهُ في مَوَاضِعَ فِي كِتَابهِ القَيِّمِ: (مَشَارِقِ الأَنْوَارِ على صِحَاحِ الآثارِ)، فقالَ: (ورَوَاهُ القُنَازِعيُّ بِضَمِّ يُعْجِل) (¬5)، وقالَ: (وكَذا رَوَاهُ القُنَازِعيُّ: اسْتَحَقُّوا بالقَافِ) (¬6)، وقالَ: (وعِنْدَ القُنَازِعيِّ: الخَصَاء) (¬7)، وقالَ: (وعِنْدَ القُنَازِعيِّ في المُوطَّأ: إذا أعَفَّكُم الله) (¬8)، وهذه النُّصوصُ نَقَلها القَاضِي مِنْ كِتَابنا هَذا. ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 323. (¬2) تاريخ الإسلام 28/ 323. (¬3) العبر 3/ 114. (¬4) التمهيد 24/ 389، وهذا النص في كتابنا ص 469. (¬5) مشارق الأنوار 1/ 126، (طبعة المغرب بتحقيق البلعمشي أحمد يكن، ولم يصدر منها سوى مجلدين)، وهذا النص في كتابنا ص 742. (¬6) المشارق 2/ 53 و 60، وهذا النص جاء في كتابنا ص 779. (¬7) المشارق 2/ 175، ولم يرد هذا الموضع في كتابنا بسبب ضياع الأوراق من الأصل. (¬8) المشارق 2/ 98، ولم يرد هذا الموضع أيضاً.

ج - أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الحَقِّ بنِ سُلَيْمَانَ اليَفُرَنِيُّ التّلْمِسَانِيُّ في كِتَابِ (الإقْتِضَابِ فِي غَرِيبِ المُوطَّأ وإعْرَابهِ عَلَى الأَبْوَابِ)، قالَ: (اسْتحَلُّوا العُقُوبَةَ، أي: اسْتَوْجَبُوا أَنْ تَحِل بِهِم العُقُوبةَ، واسْتَحَقُّوا أَنْ تَحِلَّ بِهم، وكَذَا رَوَاهُ القُنَازِعيّ بالقَافِ) (¬1). د - الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ، قالَ فِي (التَّلْخِيصِ الحَبِيرِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرَّافِعِيِّ الكَبِيرِ): (غَلِطَ القُنَازِعيُّ في شَرْحِ المُوطَّأ فَزَعمَ أَنَّهُ مِنْ رِوَايةِ ثَوْبانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). 3 - رَوَى الحافظُ ابنُ خَيْرٍ الإشبيلي هَذا الكِتَابُ ضِمْنَ الكُتُبِ التي رَوَاهَا بالإسْنَادِ إلى مُصَنِّفِيهَا، فقالَ: (كِتَابُ تَفْسِيرِ المُوطَّأ، لأَبي المُطَرِّفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَرْوَانَ القُنَازِعيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-، حدَّثني بهِ الشَّيْخُ أبو الأَصْبَغِ عِيسَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي البَحْرِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُنَاوَلة منهُ لِي، والشَّيْخُ الفَقِيهُ أَبو القَاسِم أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ بَقِي -رَحِمَهُ اللهُ- إجَازة، قالاَ: حدَّثنا بهِ الفَقِيهُ أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ فَرَجٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، قالَ: حدَّثني بهِ أَبو القَاسِمِ حَاتِمُ بنُ مُحَمَّدٍ الطَّرَابُلْسِيُّ، عَنْ أَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعيِّ مُؤَلِّفهِ -رَحِمَهُ اللهُ-. قالَ: وحدَّثني بهِ أيضاً الشَّيْخُ أَبو مُحَمَّدٍ بنُ عَتَّابٍ -رَحِمَهُ اللهُ- إجَازَةً، قالَ: حدَّثني بهِ أبي -رَحِمَهُ اللهُ-، وأَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَابدٍ، وأَبو القَاسِمِ حَاتِمُ بنُ مُحَمَّدٍ الطَّرَابُلْسِيُّ -رَحِمَهُم اللهُ-، قَالُوا كلُّهُم: حدَّثنا بهِ أَبَو المُطَرِّفِ القُنَازِعيُّ مُؤَلِّفُهُ رَحِمَهُ اللهُ-) (¬3). 4 - أَسَانِيدُهُ التي نَقَلَها عَنْ شُيُوخِهِ الذينَ رَوَى عَنْهُم، وكُلُّهُم شُيُوخٌ مَعْرُوفُونَ لأَبي المُطَرِّفِ، وقدْ تَقَدَّم ذِكْرُهُم في المَبْحَثِ الذي خَصَّصْنَاهُ لَهُم. ¬

_ (¬1) الإقتضاب 2/ 528، وهذا النص جاء في كتابنا ص 779. (¬2) التلخيص الحبير 1/ 178، وهذا النص سقط من الكتاب بسبب ضياع الأوراق. (¬3) فهرسة ابن خير ص 87.

5 - وُجُودُ اسْمِ المؤُلِّفِ أو كُنيَتِهُ في ثنايا الكِتَابِ بِلَفْظِ: (قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ)، أَو: (قال أَبو المُطَرِّفِ)، وقدْ يأْتِي اسْمُ المؤُلِّفِ وكُنْيَتُهُ في أَوَّلِ الكُتُبِ المُفَسَّرةِ، كقول الناسخ في أول كتاب الفرائض: (قالَ أَبو المُطَرِّفِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَرْوَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -) (¬1)، وكقوله في آخر الكتاب: (قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوَانَ: جَمَعتُ هَذا الكِتَابَ عَلَى قَدْرِ فَهْمِي، وَمَبْلَغٍ عِلْمِي، وعَلَى حَسَبِ مَا ضَبَطْتُهُ عَنْ شُيُوخِي -رَحِمَهُمْ اللهُ-، ولَسْتُ أُحَاشِي نفْسِي فِيهِ مِنَ الغَلَطِ، والنِّسْيَانِ، والخَطَأ) (¬2)، وهَذا دَلِيلٌ قَوِيٌّ يُفِيدُ صِحَةَ نسبةِ هذا الكِتَابِ لمُؤلِّفهِ. * * * ¬

_ (¬1) تفسير كتاب الفرائض ص 567. (¬2) ص 784.

المبحث الثاني

المبحث الثَّاني وفيه مَطْلَبَانِ: المَطْلَبُ الأوَّلِ: مَنْهَجُ المُؤَلِّفِ في الكتَابِ. المَطْلَبُ الثَّانِي: مَسْلَكُ المؤُلَفِ في اسْتِخْرَاجِ الفَوَائدِ. * * * المطلب الأَوَّل منهج أبي المطرف في الكتاب إنَّ أُسْلُوبَ أَبي المُطَرِّفِ وَاضِحٌ، ولَغُتَهُ سَهْلَةُ التَّنَاوِلِ، والمَعَانِي مُدْرَكَةٌ بِيُسْرٍ، وجَاءَتْ نُقُولُهُ مُلَخَّصَة، وَاضِحَةً، مُسْتَوفِيَةً. ويَتَلَخَّصُ مَنْهَجُ المُصَنِّفِ في كِتَابهِ بالأُمُورِ التالِيةِ: 1 - سَلَكَ المُؤلِّفُ طَرِيقَةَ التَّنْكِيتِ على نُصُوصِ المُوطَّأ، وذَلِكَ باخْتِيَارِ الموَاضِعِ التي تَحْتَاجُ إلى تَفْسِيرٍ وبَيَانٍ. 2 - بِمَا أَنَّ المُؤَلِّفَ لَمْ يَلْتَزِم الشَّرْحَ المُفَصَّلِ لِكُل النُّصُوصِ الوَارِدَةِ في المُوطَّأ، فمنهُ لا يَسُوقُ المتنَ كُلَّهُ، وإنَّمَا يُورِدُ منهُ مَا سَيُوضِّحُه فَقَطْ. 3 - يَحْرِصُ كَثِيراً على تَوثيقِ نُقُولهِ، وذَلِكَ بِعَزْوِها إلى مَصَادِرَها. 4 - عُنِيَ بِتَقْرِيرِ مَذْهَبِ الإمَامِ مَالِكٍ، وذَلِكَ باعتمادِه في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ على مَا قَرَّرَهُ كبَارُ عُلَمَاءِ المَذْهَبِ.

5 - يُقَارِنُ بينَ الآراءِ المُخْتَلِفَةِ في المَذْهَبِ، ويُرَجحُ في الغَالبِ مَا يَظْهَرُ له أَنَّهُ القَوْلُ الرَّاجِحُ، مُعْتَمِدَاً في ذَلِكَ علَى مُرَجِّحَاتٍ تَجْعَلُنَا نُقِرُّ لهُ بالتَّمَيُّزِ في هَذا المَيْدَانِ. 6 - يُرَاعِي الإخْتِصَارِ بِقَدْرِ الإمْكَانِ مَعَ التَّلْخِيصِ والجَمْعِ للأَقْوَالِ، ولِذَا نَجِدُهُ يَبْتَعِدُ عَنْ ذِكْرِ تَفْرِيعَاتِ العُلَمَاءِ واسْتِطْرَادَاتِهِم. 7 - يُورِدُ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَذْهَبَ أَبي حَنِيفَةَ والشَّافِعِيِّ، وقَدْ يُورِدُ أَحْيَاناً أَقْوَالاً لِعُلَماءٍ آخَرِينَ، ثُمَّ يُعَقِّبُ عَلَيْهَا بِمُلاَحَظَاتٍ لاَ تَخْلُو مِنْ نَظَراتٍ نَقْدِيَّةٍ، مُسْتَنِداً على أَقْوَالِ الأَئِمَّةِ مِنْ شُيُوخهِ ومِمَّنْ فَوْقَهُمْ، كَقَوْلهِ: (وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ، ولاَ يُلاَعَنُ إلَّا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يُرَدُّ هذَا القُوْلَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَدَخَلَ في هذَا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، ومَنْ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ) (¬1). وكقوله: (وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: إذا ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ لَمْ تُقْتَلْ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ في الجِهَادِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يَرُدُّ قَوْلَ أَبي حَنِيفَةَ هَذَا قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)، وهَذا عَامّ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، ولَيْسَ هُوَ فِيمَنْ غَيَّر دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ بِدِينٍ سِوَاهُ مِنْ دِينِ الكُفْرِ، لأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَلاَلَةٍ إلى ضَلاَلَةٍ) (¬2). وقال أيضاً: (قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ عُثْمَانَ بنِ عَفَانَ، وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، وعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ في العَبْدِ يُطَلِّقُ الحُرَّةَ تَطْلِيَقَتَيْنِ أنَّهَا لاَ تَحِل لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وهَذا يَرْدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الطَلاَقُ والعِدَّةُ بالنِّسَاءِ، وَهُو قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، يَقُولُ: إذا طَلَّقَ العَبْدُ الحُرَّةَ بِتَطْلِيقَتَيْنِ أَنَّها لا تَبِينُ مِنْهُ إلَّا بِثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ) (¬3). ونَلْحَظُ أَنَّ أبا المُطَرِّفِ أَغْفَلَ مَذْهَبَ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ الفِقْهِي فَلَمْ يَنْقُلْ ¬

_ (¬1) ص 374. (¬2) ص 514. (¬3) ص 377.

المطلب الثاني مسلك المؤلف في استخراج الفوائد

عَنْهُ شَيْئاً يَتَعَلَّقُ بالفِقْهِ، وإنْ كَانَ قد نَقَلَ عنهُ بَعْضَ رِوَايَاتهِ وأَقْوَالهِ الحَدِيثيِّةِ، وهَذا الإغْفَالُ لِمَذْهَبِ أحمدَ إنَّمَا هُوَ صَنِيعُ كَثبرٍ مِنَ المُصَنِّفِينَ في المغرِبِ والأَنْدَلُسِ، ويَرْجعُ ذلك في نَظَرِي إلى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إمَّا لأَن الإمَامَ أحمدَ كَانَ مُحَدِّثاً أَشْهَرَ منهُ فَقِيهَاً، وإمَّا لِكَونِ مَذْهَبهِ الفِقْهِي لَمْ يَدْخُلِ الأَنْدَلُسَ، فلم يُعرفْ هناك حَيْثُ كانَ المذهَبُ المالِكِيُّ هُو السًّائِدُ. 8 - يَتَصرَّفُ في كَثيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ في مَتْنِ المُوطَّأ بالإخْتِصَارِ تَارَةً، وبِتَغْيِيرِ الأَلْفَاظِ الوَارِدَةِ إذا لَمْ تَخِلَّ بالمَعْنَى تَارَةً أُخْرَى. 9 - يُشِيرُ في بَعْضِ المَوَاضِع إلى العِلَلِ الحَدِيثيِّةِ الوَاقِعَةِ في المُتُونِ والأَسَانِيدِ بإشَارَاتٍ مُفِيدةٍ، لَكِنَّهَا مُخْتَصَرة، مُسْتَأْنِسَاً بِمَا يَنْقُلُه عَنْ شُيُوخِهِ أَو غَيْرِهِم. * * * المَطْلَبُ الثَّاني مسلك المؤلف في استخراج الفوائد أَظْهَرَ أبو المُطَرِّفِ في كِتَابهِ فَوَائدَ جَلِيلَةً، ومَسَائِلَ مُفِيدَة لأَرْبَابِ الحَدِيثِ والفِقْهِ، خُصُوصاً المالِكيَّةَ، تُؤكِّدُ أنَّهُ كَانَ فَقِيهَاً بَارِعَاً، ومُحَدِّثاً مُتْقِنَاً، ومُحَقِّقَاً نَاقِدَاً، وأنَّهُ كَانَ مُتَّبعَاً مَنْهَجَ السَّلَفِ وجُمْهُورِ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ في قَضَايا العَقِيدَةِ، ولِهَذا سَأُخَصِّصُ هذا المَطْلَبَ لآرَائهِ في العَقَائدِ، والتَّفْسِيرِ، والحَدِيثِ، والفِقْهِ، والأُصُولِ، واللُّغَةِ، وفَوائِدَ أُخرى غير ذلك، على النَّحْوِ التَّالِي: أولاً: مسائلُ في العَقِيدَةِ: عُنِي أَبو المُطَرِّفِ عِنَايةً جَيِّدَة بإقْرَارِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ، وفِيما يَلِي جُمْلَةً مِنَ النَّمَاذِجِ: 1 - عَرَّفَ أَبو المُطَرِّفِ الإيمانَ بِمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ مِنْ أَنَّهُ قَوْلٌ باللِّسَانِ، وتَصْدِيقٌ بالجَنَانِ، وعَمَلٌ بالأَرْكَانِ، فقالَ: (فالإيمَانُ قَوْلٌ باللِّسَانِ،

وإخْلاَصٌ بالقَلْبِ، وعَمَلٌ بالجَوَارِحِ، وإصَابةُ السُّنَّةِ) (¬1). وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: (الإيمَانُ قَوْلٌ، وعَمَلٌ، ونيَّةٌ، وإصابَةُ السّنَّةِ) (¬2). 2 - قَرَّرَ في أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِع بأَنَّهُ لا يُخَلَّدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ في النَّارِ، وأنَّ العُصَاةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الذين ارتكبوا كبائر الذنوب غير الشرك في مَشِيئَةِ اللهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَهُو بِهَذا يَرُدُّ عَلَى بَعْضِ الطَّوَائِفِ كالخَوَارجِ، القَائِلِينَ بأن العُصَاةَ يُعَذَّبُونَ ولاَ بُدَّ، وَهُم بِذَلِكَ أَخْرَجُوهُم مِنَ الإسْلاَمِ بالكُليَّةِ، وأَدْخَلُوُهم في دَائِرَةِ الكُفْرِ، وعَامَلُوهُم مُعَامَلَةَ الكُفَّارِ، وكالمُعْتَزِلةِ القَائِلِينَ بأَنَّ العَاصِي لاَ يُسَمَّى مُؤْمِنَاً، ولاَ كَافِراً، ولاَ مُنَافِقَاً، بلْ فَاسِقَاً، وأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ بينَ المَنْزِلتَيْنِ، وكَالمُرْجِئَةِ الذينَ قَالُوا: إنَّ العُصَاةَ كُلَّهُم يُغْفَرُ لَهُم ولاَ بُدَّ، وأنَّه لاَ يَضُرُّ ذَنْبٌ مَعَ الإيْمَانِ (¬3)، فقالَ: (غيرَ أنَّهُ لا يَخُلَّدُ في النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ؛ لأنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: (إنَّ اللهَ يقُولُ يومَ القِيَامَةِ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُم في قَلْبِه مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ فأَخْرِجُوه مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُونَ منها بإيمَانِهم فَيَدْخُلونَ الجَنَّةَ) (¬4). - وقالَ أيضاً: (وأَهْلُ السُّنَّةِ لا يَخْتَلِفُونَ في أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى في وَعْدِه للطَّائِعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ لا يُخْلِفُهُ، وأنَّهُ في وَعِيدِه لأَهْلِ التَّوْحِيدِ المُعَانِدينَ الذينَ يَسْتِحلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ ورَسُولُهُ بالخِيَارِ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬5) [النساء: 48]. ¬

_ (¬1) ص 401. (¬2) ص 540. (¬3) إن الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة، أو ما يعرف بالفاسق المِلِّي- من أعظم الخلافات التي نجمت عنها البدع، وافترقت بسببها الأمة، فكفر بعضهم بعضاً، وقاتل بعضهم بعضاً، وينظر: التمهيد 9/ 251، وفتح الباري 12/ 285. (¬4) ص 137. (¬5) ص 179.

- وقال في حديث ذكره: فَفِي هَذا دَلِيل على أَنَ مَنْ سَجَدَ للهِ مُؤْمِناً بِهِ مُصَدِّقَاً بِنَبيّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ يَحْتَبجُّ بِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ، وَلاَ يُخَلَّدُ في النَّارِ، وإنْ وَاقَعَ الكَبَائِرَ، وَيَصْدُقُ هَذَا قَوْلُهُ في حَدِيثِ الشَفَاعَةِ: (أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيِمَانٍ" (¬1). - وقالَ: (تَفَضَّلَ اللهُ تعَالى لِمَن ارْتَكَبَ ذُنُوباً غَيْرَ الشِّرْكِ بالمَغْفِرَةِ إنْ شَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الرَّجُلِ الذي طَلَبَ أَنْ يُحْرَقَ بعدَ مَوْتهِ، وأنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تَفَضَّلَ عَلَيْهِ، وغَفَرَ لَهُ بِخَشْيَتِه للهِ، وهذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كَانَ مُوحِّدَاً مُقِرَّا باللهِ، وقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ: إنما غَفَرَ اللهُ لِهَذا الرَّجُلِ مِنْ أَجْلِ تَوْبَتِه التي تَابَهَا، وقَالَتْ فِرْقَة آخَرَوُنَ مِنْهُم إنما غَفَرَ اللهُ لَهُ بأَصْلِ تَوْحِيدِه الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ عَمَل، وقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى تَفَضَّلَ على هذَا الرَّجُلِ فَغَفَر لَهُ، كمَا قالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فَهَذِه الآيةُ تَأْوِيلُ مَا تأَوَّلَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ في هذَا الحَدِيثِ) (¬2). - وقالَ وَهُو يُقَرِّرُ هذا المبدأ وُيزِيلُ إشْكَالاً جَاءَ في حَدِيثِ: "من اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينهِ حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَل عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ"، فقالَ: (وطَرِيقُ هَذا الحَدِيثِ طَرِيقُ الوَعِيدِ، ولَا تُحَرَّمُ الجَنَّةُ ويُخَلَّدُ في النَّارِ إلا أَهْلُ الكُفْرِ، وقَدْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْم مِنَ المُسْلِمينَ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقُوا فِيهَا، فَيْدْخَلُونَ الجَنَّةَ، لا خِلاَفَ بينَ أَهْلِ السُّنَّةِ في هَذَا) (¬3). 3 - مَسَائِلُ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ: قَرَّر أبو المُطَرِّفِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَذْهَبَ السَّلَفِ في هَذِه المسألةِ الشَّائِكَةِ، وَهِيَ إثْبَاتُ ما أثْبَتَهُ اللهُ تعَاَلى في كِتَابهِ وَرَسُولهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلاَ إثباتًا يَلِيقُ بهِ سبحانه بلاَ تَحْرِيفٍ، ولَا تَعْطِيل، ولَا تَشْبِيه، ولَا تَكْيِيفٍ، ولا تَمْثيلٍ. ¬

_ (¬1) ص 594. (¬2) ص 306. (¬3) ص 506.

فقالَ وَهُو يَتَحَدَّثُ عَنْ إثباتِ اليَمِينِ للهِ تَعَالَى: (هَذا حَدِيثٌ صَحِيح، وفِيهِ: أَنَّ للهِ يَمِينَاً، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ بِلاَ كَيْفٍ ولَا تَحْدِيدٍ) (¬1). - وأَثْبَتَ صِفَةَ النُّزُولِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بمَا يَلِيقُ بهِ سُبْحَانَهُ، فقالَ: (حَدِيثُ التَّنَزُّلِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ الأئِمَّةُ الثقَاتِ مِنْ أَهلِ السُّنَّةِ، وسَلَّمُوهُ، ولَمْ يَطْعَنُوا فيهِ). ثُمَّ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ في الإسْتِوَاءِ، فقالَ: (وقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ اسْتَوى، فأَعْظَمَ المَسْألةَ في ذَلِكَ؟ وقَالَ: الإسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ: التَّنَزُّلُ مَعْلُوم والكَيْفُ مَجْهُولٌ) (¬2). - وأثبتَ صِفَةَ العُلوِّ لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فقالَ: (وفِي هَذا الحَدِيثِ [يعني حديث الأمة السوداء، بَيَان أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى في السَّمَاءِ، فَوْقَ عَرْشِهِ، وَهُو في كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] إلى آخِرِ الآيةِ، يَعني: يُحِيطَ بِهِم عِلْمَاً، ويَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ومَا يُعْلِنُونَ) (¬3). - وأثبتَ صِفَةَ الكَلاَمِ له تعَالى، فقالَ: (والقُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، لَيْسَ بِخَالِق ولَا مَخْلُوق، ولَكِنَّهُ كَلاَمُ اللهِ الخَالِقِ) (¬4). - وأَثْبَتَ القَدَرَ لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ قَدَّرَها اللهُ تعالى على العِبَادِ، فقالَ: (وأَدْخَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ آدَمَ ومُوسَى حُجَّةً بأن أَعْمَالَ العِبَادِ كُلَّهَا قَدْ قَدَّرَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وأَنَّهُ عَلِمَهَا قَبْلَ كَوْنِهَا، بِخِلاَفِ قَوْلِ أَهْلِ البدع الذينَ يَقُولُونَ: (أَفْعَالُ العِبَادِ لَيْسَتْ مُقْدُورَةَّ للهِ)، ويَقُولُونَ: (إنَّ اللهَ خَلَقَ الأًشيَاءَ كُلَّهَا غَيْرَ الأَعْمَالِ)، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيرَاً، قالَ اللهُ تعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ¬

_ (¬1) ص 741. (¬2) ص 242. (¬3) ص 401. (¬4) ص 241. وقال نحو هذا الكلام في ص 151.

وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) [الأعراف: 54]. 4 - إثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ ونَعِيمهِ، فقالَ: (: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -في حَدِيثِ الكُسُوفِ أَنَّ عَذَابَ القَبْرِ حَقٌّ، وأنَّ العَبْدَ يُسْألُ في قَبْرِهِ، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، ثُمَّ ذَكَرَ العَذَابَ، فقالَ: (ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَة تَفْتَرِقُ أَوْصَالُهُ، وهذَا أَصْلٌ صحِيح عندَ أَهْلِ السُّنَّةِ لا يَخْتَلِفُونَ فيهِ، ومَنْ قَالَ بِخِلاَفهِ فَهُو كَاذِبٌ مُفْتَرِي) (¬2). 5 - الثَّنَاءُ على الصَّحَابةِ - رَضِي اللهُ عنهم -، وبيانُ فَضْلِهِمْ، فقالَ وَهُو يَتَحَدَّثُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: (وكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ صَحِيحَ الفِرَاسَةِ، جَلِيلَ القَدْرِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعِنْدَ المُسْلِمِينَ. قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ: "إنَ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وقَلْبهِ"، "وَلَمْ يَلْقَهُ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكَاً فَجَّاً إلَّا سَلَكَ فَجَّا غَيْرَ فَجِّهِ"، وَوَافَقَ رَبَّهُ جَلَّ وَعَزَّ في ثِلَاثٍ، وَوَافَقَهُ رَبُّهُ جَلَّ وَعَزَّ في ذَلِكَ، إلى غَيْرِ مَا شَيءٍ يَطُولُ الكِتَابُ ببَعْضِ فَضَائِلِه، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَعَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَان) (¬3). - وذَكَر حَدِيثاً ثُمَّ رَدَّهُ فقالَ: (قال لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هَذا حَدِيثٌ شِيعِيٌّ كَذِبٌ لا يَصِحُّ، وإنَّمَا أَرَادَ بهِ نَاقِلُهُ الطَّعْنَ عَلَى عَائِشَةَ بِخُروجِهَا في دَمِ عُثْمَانَ، وحَجُّهَا بَعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ لِتَسْمَعُ هَذا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ تُخَالِفُهُ) (¬4). 6 - مَوْقِفُهُ مِنْ أَهْلِ البدَع، فقد ذكر قوماً من البغاة الذين خَرَجُوا على الإمَامِ، وأنه ينبغي أن يُقَاتَلُوا، فقَال: (إِنَّ القَدَرِيَّةَ وغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ البِدَع إذا خَرَجُوا عَلَى إمَامٍ عَادِلٍ يُرِيدُونَ قِتَالَهُ، ويَدْعُونَ إلى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإنِّهَمْ يُدْعَوْنَ إلى السُّنَّةِ ¬

_ (¬1) ص 741. (¬2) ص 223. (¬3) ص 595. (¬4) ص 601.

والجَمَاعَةِ، فإن أَبَوا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ ومَا هُمْ عَلَيْهِ قُوتلُوا) (¬1). - وذكر بأن أهل البدع لاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، ولَا يُنْكَحُ إليهِم، ولَا يُعَادُ مَرِيضُهُمْ، ولا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ (¬2). - وذكر قصة صَبِيغ الذي كان يُتَّهَمُ بِرَأْي الخَوَارِج وأَهْلِ الأَهْوَاءِ، وقد سَأَلَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ عَنِ الذَّارِيَاتِ، والمُرْسَلَاتِ، والنَّازِعَاتِ، فأَمَرَ بهِ فَضُرِبَ بِجَرَائِدِ النَّخِيلِ حتَّى أُدْمِي جَسَدُهُ، ثم قال المصنف: فَفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: أَنَّهُ مَنْ سَأَلَ عَالِمَاً عَنْ مَسْأَلةٍ فَجَاوَبَهُ عَنْهَا أَنْ يَقْنَعَ بِجَوَابِهِ، ولَا يَتَعَسَّفَ في سُؤَالِهِ، فَمَنْ فَعَلَ هَذا وأَكْثَرَ مِنْهُ عُوقِبَ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ اعْتَرَضَ في سُنَّةِ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابُهُ، وَوَقَفَ عِنْدَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِمَا لَمْ يَقُلْهُ السَّلَفُ الصَّالحُ أُدِّبَ حتَّى يَتُوبَ، كَمَا تَابَ صَبِيغٌ، ورَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ (¬3). 7 - حدَّدَ البِدْعةَ وبيَّنَ أَنْوَاعَهَا، فقالَ: (قول عمر: (نِعْمَتِ البدْعَةُ) فالبَدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةُ هُدَى، وبِدْعَةُ ضَلاَلَةٍ، وبِدْعَةُ الضَّلاَلةِ كُلُّ مَا ابْتُدِعَ على غَيْرِ سُنَّةِ) (1) (¬4). وهذا التَّقْسِيمُ قالَ بهِ الإمامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى، فقالَ: (البِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَة مَحْمُودَةٌ، وبِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُو مَحْمُود، ومَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُو مَذْمُومٌ) (¬5)، وفَسَّرَ ابنُ رَجَب الحَنْبَلِيُّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ فقالَ: (ومُرَادُ الشَّافِعيِّ أنَّ أَصْلَ البدْعَةَ المذمُومَةِ مَا لَيْسَ لَها أَصْلٌ في الشَّرِيعةِ تُرْجَعُ إليهِ وَهِيَ البدْعَةُ في إطْلاَقِ الشًّرْعِ، وأَمَّا البدْعَةُ المَحْمُودَةُ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ، يَعْنِي مَا كَانَ لَهَاَ أَصْل مِنَ السُّنَّةِ تُرْجَعُ إليهِ، وإنما هِيَ بِدْعَةٌ لُغَةً لا شَرْعاً لِمُوَافَقَتِهَا ¬

_ (¬1) ص 741. (¬2) ص 741. (¬3) ص 589. (¬4) ص 172. (¬5) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 113.

ثانيا: تفسير القرآن الكريم

السُّنَّةَ) (¬1)، قُلْتُ: ويُؤَكِّدُ هذا التَّفْسِيرَ أنَّ للشَّافِعِيِّ قَوْلٌ يُوضِّحُ قَوْلَهُ الأوَّلِ فقالَ: (المُحْدَثَاتِ ضَرْبانِ، مَا أُحْدِثَ يُخَالِفُ كِتَاباً أو سُنَّة أو أثرًا أو إجْمَاعاً فَهَذِه بِدْعَةُ الضَّلاَلِ، وما أُحْدِثَ مِنَ الخَيْرِ لاَ يُخَالِفُ شَيْئا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِه مُحْدَثةٌ غيرُ مَذْمُومةٍ) (¬2). 8 - حكم بقتل كل من سبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أو ازدراه، وحكم أيضاً بقطع نصيب من سبّ أحداً من الصحابة، فقال وهو يتحدَّث عن سبب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَل عند فتح مكّة: (وهَذا حُكْمُ كُلِّ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَو قَالَ: إنَّ ثَوْبَهُ أو إزَارَهُ وَسِخٌ أَنْ يُقْتَلَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّه الإزْرَاءَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحُكْمُهُ القَتلُ. وكَذَلِكَ لاَ حَظَّ فِي شَيءٍ مِنَ الفَيءِ، ولَا سَهْمَ لِمَنْ دسَبَّ وَاحِدَاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابهِ) (¬3). ثانياً: تَفْسِيرُ القُرآنِ الكَرِيمِ: لقدْ عُنِي أَبو المُطَرِّفِ عِنَايةً جَيَّدة بإيرادِ الآياتِ القُرآنيةِ وتَفْسِيرِهَا وتَوْجِيهِهَا، والإحْتِجَاجِ بِهَا على الخُصُومِ والمُخَالِفِينَ. وفِيمَا يَلِي بعضَ النَّمَاذِجِ: فقال: (قولَ اللهِ تباركَ وتعَالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} يعني: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} صَلاةً الصُّبْحِ والظُّهرِ والعَصْرِ، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} المَغْرِبَ والعِشَاءَ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬4) [هود: 114]. (وقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}، يَعْنِي: {اصْبِرُوا} عَلَى طَاعَةِ اللهِ، {وَصَابِرُوا} أَي: صَابِرُوا المُشْرِكِينَ، {وَرَابِطُوا}، يَعْنِي: جَاهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] والفَلَاحُ: ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم ص 267. (¬2) ذكره ابن حجر في فتح الباري 13/ 253. (¬3) ص 674. (¬4) ص 137.

ثالثا: علوم الحديث

البَقَاءُ في الجَنَّةِ، و (لَعَلَّ) مِنَ اللهِ حَتْمٌ وَاجِبٌ) (¬1). "وقال اللهُ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26] يَعْنِي: أَنَّهَا تَضُمُّ الخَلْقَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عَلَى ظَهْرِهَا، وتَضُمُّهُمْ إذا مَاتُوا وصَارُوا فِي القُبُورِ) (¬2). ثالثاً: عُلُومُ الحَدِيثِ: حَرَصَ أَبو المُطَرِّفِ في كِتَابهِ عَلَى شَرْح الأَحَادِيثِ وتَوْجِيهِها، والرَّدِّ بِهَا على الخُصُومِ، وعلَى هَذا بَنَى كِتَابَهُ، وحَرَصَ أيضاً على إظْهَارِ جَوَانِبَ أُخْرَى تتعلَّقُ بِعُلُومِ الحَدِيثِ، وسَلَكَ في هذا مَسَالِكَ مُخْتَلِفَةً على النَّحْوِ التَّالِي: 1 - نَقَلَ كَثبراً مِنَ الأَقْوَالِ في الكَلاَمِ على الأَحَادِيثِ مِنْ حَيْثُ صِحَّتُهَا أو ضَعْفُهَا، والأمثلةُ في هذا كَثيرةٌ، ولكنْ لا بأسَ بِذْكِر مِثالٍ لِذَلِكَ: - نقلَ في أَوَّلِ بابِ جَامِعِ الوُضُوءِ عَنْ أحمدَ بنِ خَالِدٍ القُرْطبِيِّ المَعْرُوفِ بابنِ الجَبَّابِ فقالَ: (قال أحمدُ بنُ خَالِدٍ: أَسْنَدَ ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ حَدِيثَهُ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيهِ عَنْ أَبي هُرَيْرةَ، أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الاسْتِطَابةِ، فقالَ: "أَوَلا يَجِدُ أَحَدُكُم ثلاثَةَ أَحْجَارٍ"، قالَ ابنُ خَالِدٍ: وهُو مخَلَطٌ لم يَرْوِه أَحَدٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبيهِ ... إلخ). - وقال: (حَدِيثُ (لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ) حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، ولَا يُسْنَدُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ) (¬3). - وقال في حَدِيثِ: (إذا دُبِغَ الإهَابُ فَقَدْ طَهُرَ)، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: (هَذا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، لأَنَّ ابنَ وَعْلَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ) (¬4). 2 - نَقَلَ أَقْولاً في الحُكْمِ على الرُّوَاةِ جَرْحاً وتَعْدِيلاً، وإليكَ اسْمَاءَ الرُّوَاةِ ¬

_ (¬1) ص 580. (¬2) ص 722. (¬3) ص 506. (¬4) ص 334.

الذين جَرَّحَهُم أو عَدَّلَهُم، مُرَتَبِينَ عَلَى حُرُوفِ المُعْجَمِ: - إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ: كَانَ يَقْلِبُ الأَحَادِيثَ على وَجْهِ الغَلَطِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحَاً (¬1). - سُلَيْمَانُ بنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ (¬2). - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ وَعْلَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لاَ يُعْرَفُ (¬3). - عَبْدُ الملك بنُ المُغِيرَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ (¬4). - مَالِكُ بنُ أَنسَ: مَالِكٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، وقدْ أَجْمَعَ النَّاسُ على عَدَالَتِهِ وصِحَّةِ مَا نَقَلَ (¬5). - المُسَيَّبُ بنُ وَاضِحٍ ضَعِيفٌ (¬6). - هُزَيْلُ بنُ شُرَحْبِيلَ لَيْسَ بِشَيءٍ (¬7). 3 - ذَكَرَ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جَوَانِبَ مِنْ عِلَلِ الأَحَادِيثِ تتَعلَّقُ باتصَالِ الأَسَانِيدِ وانْقِطَاعِهَا، وقدْ نَقَل أَكْثَرها عَنْ شَيْخِه أَبي مُحَمَّدٍ القُرْطُبيِّ، وإليكَ أمثلةً في هذا: - قال: (وكَذَلِكَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْروِ بنِ العَاصِي غيرُ مُتَّصِلٍ، لَمْ يُدْرِك الزُّهْرِيُّ عَمْروَ بنَ العَاصِي) (¬8). ¬

_ (¬1) ص 314. (¬2) ص 313. (¬3) ص 334. (¬4) ص 334. (¬5) ص 226. (¬6) ص 136. (¬7) ص 305. (¬8) ص 187.

- وقالَ: (هذَا حَدِيثٌ لَمْ يَسْمَعْهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَبي سَلَمَةَ) (¬1). - وقالَ: (لَمْ يُدْرِكْ مَطَرُ الوَرَّاقُ رَجَاءَ بنَ حَيْوَةَ) (¬2). - وقالَ: (أَحَادِيثُ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّه مُرْسَلَة، لأَنَّ عَمْراً يَرْوِيها عَنْ أَبيهِ شُعَيْبٍ، عَنْ جَدِّه مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْروِ بنِ العَاصِي، ومُحَمَّدٌ جَدُّ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ لَيْستْ لَهُ صُحْبَةٌ، وقالَ يحيى بنُ مَعِينٍ: أَحَادِيثُ عَمْروِ بنِ شُعَيْب عَنْ أبيه عَنْ. جًدِّه صِحَاحٌ) (¬3). - وقالَ: (في هَذا الحَدِيثِ أَنَّ أبا أُمَامَةَ الذي رَوَاهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليْسَ هُوَ أَبو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ، وإنَّمَا هُوَ أَبَو أُمَامَةَ الحَارِثيُّ مِنْ بَنِي النَّجّارِ، ولَمْ يَصِحّ لأَبي أُمَامَةَ الحَارِثِيِّ سِمَاع مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). - وقالَ عَنْ حَدِيثٍ: (وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَل، لأَنَّ شُرْحِبيلَ بنَ سَعِيدٍ لَمْ يُدْرِكْ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ) (¬5). - وقالَ: (لَيْسَ يَصِحُّ للقَاسِمِ سَمَاع مِنْ أَسْمَاءَ، وحَدِيثُهُ عَنْهَا في المُوطَّأ مُرْسَلٌ) (¬6). - ونقلَ عَنِ ابنِ مُزَيْنٍ: (عَبْدُ المَلِكِ بنُ قُرَيْب الذي رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ هَذِه القِصَّةَ هُوَ الأَصْمَعِيُّ)، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بقولهِ: (قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ هُوَ الأَصْمَعِيُّ، لأَنَّ الأَصْمَعِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مُحَمَّدَ بنَ سِيرِينَ، ولَا رَوَى عَنْهُ) (¬7). 4 - بيانُ الإبهامِ في المتنِ: كَقَوْلهِ نَقْلاً عَنْ أحمدَ بنِ خالدٍ: (اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ ¬

_ (¬1) ص 313. (¬2) ص 385. (¬3) ص 424. (¬4) ص 506. (¬5) ص 538. (¬6) ص 600. (¬7) ص 668.

رابعا: علم الفقه

الذي سَألَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ عَنْ هَذِه المَسْأَلةِ أُمَيَّةُ بنُ خَالِدِ بنِ أَسِيدٍ) (¬1). - وقالَ في مَوْضُع آخرَ: اسْمُ البَهْزيِّ الذي أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحِمَارَ العَقِيرَ: زَيْدُ بنُ كَعْبٍ (¬2). - وقال: (كَانَ اسْمُ صَاحِبِ هَدَايَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذُؤيبٌ، وَهُوَ وَالِدُ قَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، فَذُؤَيبٌ صَاحِبٌ وابنُهُ صَاحِبٌ) (¬3) 5 - بيانُ التَّفَرُّدِ: كَقَوْلهِ في حَدِيثٍ ذَكَرهُ: "إنْفَردَ بِهَذا الحَدِيثِ يُونسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، لَمْ يَرْوهِ عنهُ غَيْرُهُ) (¬4). رابعاً: علم الفقه: لقد اشتَملَ هذا الكتابُ على ثَرْوَةٍ فِقْهِيَّةٍ هَامَّةٍ فِي مَجَالِ الفِقْهِ المَالِكِيِّ عَلَى الخُصُوصِ، واعْتَمَدَ في ذَلِكَ على كِبَارِ الفُقَهَاءِ المالكيَّةِ بِدْءاً بِتَلامِذَةِ الإمَامِ مالِكٍ كابنِ القَاسِمِ، وَيحْيى، وأَشْهَبَ، وابنِ المَاجِشُونَ، وعليِّ بنِ زِيَادٍ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِم كَسُحْنُونَ، وعَبْدِ الملكِ بنِ حَبيبٍ، واصْبَغَ، وعِيسَى بنِ دِينَارٍ، كَمَا أنَّهُ أكثرَ مِنَ النَّقْلِ عَنِ المتُأخِّرينَ مِن عُلَمَاَءِ الأَنْدَلُسِ وغيرهم وأكثرهم مِنْ أعيان شُيُوخهِ، كأبي مُحَمَّدٍ، وأَبي عُمَرَ، وابنِ أَبي زَيدٍ، وأَبي بَكْرٍ الأَبهَريِّ، وآخرين ممّن ذَكَرْتهُم في مَبْحَثِ مَوَارِد المُصَنِّفِ في كِتَابهِ. والأمثلةُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدَّاً، ولا بأسَ بذكِرِ مِثَالَيْنِ: - فقد قالَ في أَوَّلِ جَامعِ الوُضُوءِ: (قولُ النبيِّ - عليه السلام - لأهلِ القُبُورِ: "السَّلامُ عليكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ" وذَكَرَ الحَدِيثَ، فيه من الفِقه: إباحةُ زِيَارةِ القُبُورِ، والسَّلامُ على المَوْتَى. وقالَ بَعضُهم: في هذا الحَدِيثِ دَلِيلٌ على أنَّ أَرْوَاحَ المَوْتَى على أَقْبِيَةِ القُبُورِ، وأَنْكَرَ هذا القَوْلَ بعضُ شُيُوخِنا، وقالَ: ثَبَتَ عَنِ ¬

_ (¬1) ص 193. (¬2) ص 625. (¬3) ص 641. (¬4) ص 437.

خامسا: علم أصول الفقه

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "إنما نَسَمَةُ المُؤْمِنِ مِنْ طَيْر يُعْلَقُ في شَجَرةِ الجَنَّةِ حتَّى يُرْجعَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إلى جَسَدِه يومَ القِيَامةِ". وسُئِلَ يحيىَ بنُ يحيىَ عَنْ مُسْتَقَرِّ الأَروَاحِ أينَ هي؟ قالَ للسَّائِل: أينَ كانتْ قبلَ أنْ تَكْمُنَ في الأَجْسَادِ، وقالَ لَهُ: كانتْ في عِلْمِ اللهِ، قالَ له يحيىَ: وكَذَلِكَ هي بعدَ خُرُوجِها مِنَ الأَجْسَادِ في عِلْمِ اللهِ) (¬1). - وقال أيضاً: (وذَكَرَ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ لُبَابَةَ أنَّهُ كَانَ إذا ذُكرَ لَهُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذا شَكَا بَعْضَهُمَا بَعْضَاً إلى الحَكَمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي للحَكَمِ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمَا أَمِينَاً، أو في دَارٍ أَمِين، ويُخْبِرُ الأَمِينُ الحَكَمَ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنْ أُمُورِهَما. فَكَانَ أَبو مُحَمَّدٍ يَقُولُ: لَسْتُ أَرَى هَذا إلَّا مَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2) [النساء: 35]. خامساً: عِلْمُ أُصُولِ الفِقْهِ: تَنَاوَلَ أَبو المُطَرِّفِ بَعْضَ القَضَايا التي تَتَعلَّقُ بِعِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، وإليكَ جانباً من المسائلِ التي تتطرَّقَ لَها: 1 - نقلَ عَنْ أَبي عُمَرَ المَكْوِيِّ القُرْطُبيِّ قولَهُ: (والصَّاحِبُ إذا روَى حَدِيثاً عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخَالَفَهُ بِعَمَلِه كَانَتْ عِلَّةً في الحَدِيثِ تُوجِبُ التَّوقُّفَ عنهُ) (¬3). 2 - قال: (فَنَوَاهِيه - صلى الله عليه وسلم - أَلْزَمُ مِنْ أَوَامِرِه، فَلَيْسَ لنَا أَنْ نَسْتَبِيحَ شَيْئَاً مِمَّا قدْ نَهَانا عنهُ، وإنْ فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الشَّيءَ الذي نَهَانَا عَنْهُ) (¬4). 3 - نقل عن أبي زيد قوله: (والصَّحَابةُ إذا اخْتَلَفُوا في حُكْم مِنَ الأَحْكَامِ وَسِعَ الإخْتِلاَفُ مِنْ أَقَاوِيلِهم، والأَخْذُ بِمَّا يَقْوَى في الأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ) (¬5). ¬

_ (¬1) ص 134. (¬2) ص 387. (¬3) ص 187. (¬4) ص 194. (¬5) ص 268.

4 - وقال: (أَنَّ سُنَنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَفْعَالَهُ يُؤْتَى بِهَا كَمَا سَنَّهَا وَفَعَلَها مَا لَمْ يَنْسَخْهَا - صلى الله عليه وسلم - بِغَيْرِهَا أَو يَتْرُكَهَا الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لِشَيءٍ عَلِمُوهُ فِي ذَلِكَ) (¬1). 5 - وقال: (والقُرْآنُ المَتْلُو هُوَ: مَا نَقَلَتْهُ الأُمَّةُ كَافَّةً جَمِيعَاً لاَ مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ، ومَا قَدْ ضَمِنَ اللهُ جَمْعَهُ وقُرْأَنَهُ) (¬2). 6 - وقال: (أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَضَعَ نَبيَّهُ فيما منْ كِتَابِهِ مَوْضِعَ البَيَانِ عَنْهُ، فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مفَسِّرَة للقُرْآنِ اَلذي نَصَّ اللهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ القَطْعَ عَلَى السَّارِقِ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِقِيمَةِ السَّرِقَةِ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَظَاهِرُ القُرْآنِ لَقَطَعْنَا كُلَّ سَارِقٍ يَسْرِقُ مَا قَلَّ أَو كَثُرَ كَمَا قَالَتِ الخَوَارِجُ، وَسُنَّةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ مِنْ قَوْلِ الخَوَارِجِ) (¬3). 7 - وقال تعليقاً على حديث ذكره: (وفي هذا الحَدِيثِ دَلِيلٌ على أَنَّ أَعْمَالَ أَهْلِ المَدِينةِ حُجَّةٌ على مَنْ خَالَفَهُم مِنْ أَهْلِ الآفاقِ) (¬4). 8 - ذكر أن خبر الآحاد يحتج به في الأحكام وغيرها، فقال: (قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: (بَيْنَما النَّاسُ بِقُبَاءٍ في صَلاَةِ الصُّبْحِ إذ جَاءَهُم آتٍ، فقالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ قدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْاَنٌ)، إلى آخِرِ الحَدِيثِ، فيهِ مِنَ الفِقْهِ: قَبُولُ خَبَرِ الوَاحِدِ العَدْلِ، والدَّلِيلُ على ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بالتَّثَبُّتِ في خَبَرِ الفَاسِقِ أَوْجَبَ قَبُولَ خَبَرِ الوَاحِدِ العَدْلِ) (¬5). 9 - قال: (والسُّنَنُ الثابِتَةُ مُفَسِّرَة للقُرْآنِ) (¬6). ¬

_ (¬1) ص 635. (¬2) ص 710. (¬3) ص 718. (¬4) ص 132. (¬5) ص 228. (¬6) ص 502.

سادسا: علم اللغة

سادساً: علم اللُّغَة: إنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فيه أنَّ عُلُومَ اللُّغَةِ ضَرُورِيَّةٌ لِمَنْ يَتَصدَّى لِتَفْسِيرِ كِتَابِ اللهِ تعالى أو سُنَّةِ رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذَكَرَ أبو المطرف جَوَانِبَ يسيرةً من هذا العِلْمِ، وإليكَ أمثلةً لذلك: - قالَ: (قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في كِتَابهِ: (لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ)، يَعْنِي: قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]. وقالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: العُسْرُ المُكَررُ ذِكْرُهُ هَهُنَا وَاحِدٌ، لأَنَّهُ مُعَرَّفَةٌ بالأَلَفِ واللأَمِ، واليُسْرُ الأَوَّلُ هُوَ غَيْرُ اليُسْرِ الثَّانِي لأَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ، والنَّكِرَةُ في كَلَامِ العَرَبِ هُوَ شَيءٌ شَائِعٌ في جنْسِهِ لَا يَخُصُّ بهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، فَلِذَلِكَ قالَ: "لا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ" (¬1). - وقال: (الجَائِفَةُ: هِيَ جُرْحَةٌ تَصِلُ إلى الجَوْفِ قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ. والمأمُومَةُ: هِيَ ما وَصَلَ إلى الدِّمَاغِ قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ. والمَنْقَلَةُ: مَا طَارَ فِرَاشُهَا مِنَ العَظْمِ. والمُوضَحَةُ: مَا أَوْضَحَ العَظْمَ، قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ، ولَا يَكُونَ إلَّا فِي الوَجْهِ، أَو فِي الرَّأْسِ. والبَاضِعَةُ: مَا بَضَّعَ فِي اللَّحْمِ. والدَّامِيَةُ: هِيَ التِّي تَدمَى، فإذا كَانَتِ البَاضِعَةُ والدَّامِيةُ خَطَأٌ فَلاَ دِيةَ فِيهِمَا، إلَّا أَنْ تَبْرأَ عَلَى شَيْنٍ، فَيَعْقِلُ للمَجْرُوحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الشَّيْنِ) (¬2). - وقال: (قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ: (لَهِيَ أَسْوَدَ مِنَ القَارِ)، هَكَذا رَوَاهُ يحيى، ورَوَى غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ: (لَهِيَ أَشَدُّ سَوَادَاً مِنَ القَارِ)، وَهُوَ الصَّوَابُ، لأَنَّ العَرَبَ لَا تَقُولُ: هَذا أَسْوَدُ مِنْ هَذا، وإنَّمَا تَقُولُ: هُوَ أَشَدُّ سَوَادَاً. قالَ: والقَارُ هُوَ الزِّفْتُ) (¬3). ¬

_ (¬1) ص 579 - 580. (¬2) ص 685. (¬3) ص 780.

سابعا: فوائد أخرى

- قالَ أبو المُطَرِّفِ: يُقَالُ الخِطْبَةُ -بِكَسْرِ الخَاءِ- في النكاح، والخُطْبَةُ - بِضِمِّ الخَاءِ- في الجُمُعَةِ وشِبْهِها (¬1). - نقل قَوْلُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ نِكَاح الأُمِّ بَعْدَ الإبْنَةِ إذا لمْ تَكُن الإبنَةُ مُسَّتْ، فقَالَ: "لَا، الأُمُّ مُبْهَمَةٌ" [1950] لَمْ يَقُلْ: دَخَلْتَ بالأُمِّ أَو لَمْ تَدْخُلْ. ثم قال: قالَ أَبو إسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: المُبْهَمُ في كَلاَم العَرَب هُوَ الكَلاَمُ الذي لا مَنْفَذَ لَه (¬2). سابعاً: فوائد أخرى: اشتمل هذا الكتاب على نكت علمية كثيرة غير ما تقدَّم، وإليك نُبذا منها: 1 - ذكر دخولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أُم حَرَام وأُختها أُم سُلَيم، فقال: (كَانَتْ أُمُّ حَرَايم مِنْ خَالاَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرِّضَاعَةِ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ سُلَيْم امْرَأةِ أَبي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ) (¬3). 2 - نقل عن صالح بن إدريس المقرئ في مسألة الحُرُوفُ التي وَقَعَتْ في بَعْضِ المَصَاحِفِ وأسْقِطَتْ مِنْ بَعْضِها، وذكر أنها نَحْو عِشْرِينَ حَرْفاً في جَمِيِعِ القُرْآنِ، ثم قال: (فإنها كَانَتْ مَعْرُوفَة عندَ الذينَ كَتَبُوا المَصَاحِفَ لِعُثْمَان، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوهَا في مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، فَفَرَّقُوهَا في المَصَاحِفِ، فَبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ العِرَاقِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ اليَمَنِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ الشَّامِ، لا يُنْكِرُهَا بَعْضُهُم على بَعْضٍ، ويَقْرَؤُونَهَا في صَلاَتِهِم وتلاَوَتهِم، قَدْ حَفِظهَا اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى وأَثْبَتَهَا في المَصَاحِفِ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فَمَا حَفِظَهُ اللهُ عَلَيْنَا فَلاَ سَبِيلَ إلى الزِّيَادَةِ فيهِ ولا إلى النُّقْصَانِ منهُ) (¬4). ¬

_ (¬1) ص 338. (¬2) ص 349. (¬3) ص 595 - 596. (¬4) ص 234.

3 - قال: (إنَّمَا مَكَثَ ابنُ عُمَرَ في تَعْلِيمِه سُورَةَ البَقَرَةِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَعلَّمُهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَهُم كَانُوا يَتَعلَّمُونَ مَا أُنْزِلَ مِنْ حُرُوفِ القُرْآنِ، ويَتَعَلَّمُونَ حَلاَلَهُ وحَرَامَهُ ونَاسِخَهُ ومَنْسُوخَهُ ومُحْكَمَهُ، فإذَا أَحْكَمُوا عِلْمَ ما تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ انتقَلُوا إلى شَيءٍ آخَرَ، لا كَمَنْ يَقْرَأَهُ ولَا يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ص 238.

المبحث الثالث موارد المؤلف في الكتاب

المبحث الثَّالث موارد المؤلف في الكتاب إنَّ مَعْرِفَةَ مَصَادِرِ المُؤلِّفِ لَهُ أَهَمِّيةٌ كَبيرَةٌ في دِرَاسةِ مَنْهَجِيَّةِ المُؤَلّفِ فِي كِتَابهِ، وبَيَانِ قِيمَةِ الكِتَابِ الذِي أَلَّفَهُ. وقدْ وَجَدْتُ أبا المُطَرِّفِ خَصَّصَ في نِهَايةِ كِتَابهِ للمصَادِرِ التي كَانَتْ أَكْثَرَ دَوَرَاناً في شَرْحهِ، وذَكَرَ بعضَ أَسَانِيدِه إليها، وقد اسْتَعْرَضْتُهَا في الفَصْلِ الرَّابعِ المُتَقَدِّمِ، كَمَا أَنَّهُ اعتمدَ أَيْضَاً عَلَى مَصَادِرَ مُتَنَوّعَةً أُخْرَى، ولكنَّهُ لمَ يُصَرِّحْ في أَكْثَرِهَا بأَسْمَاءِ مُصَنِّفِيها، وتتَلَخَّصُ هذه المصادِرُ بالأَنْوَاعِ التَّالِيةِ: النَّوْعُ الأوَّلُ: المصادر التي صرَّحَ بالنَّقْلِ منها: وهي على ثلاثة أقسام: القسم الأَوَّل: القُرْآنُ الكَرِيمُ: تَضَمَّنَ كتاب (تَفْسِيرُ الموطَّأ) قَدْراً لا بأْسَ بهِ مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ. القِسْمُ الثانِي: الكُتُبُ التي حَدَّدها في قَائِمَتِهِ في نِهَايةِ الكِتَابِ، وقد ذَكَرْتُها في الفَصْلِ الرَّابعِ المُتَقدِّمِ آنِفاً. القِسْمُ الثَّالِثِ: كُتُبٌ أُخْرَى لم تُذْكَرْ في قَائِمَتهِ، ولَعَلَّ سبَبَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلى مَا مُنِيتْ بهِ النُّسْخَةُ التي وَصَلَتْنَا مِنْ سَقْطٍ في آخِرِها، وَهِي مَصَادِرُ قَلِيلَةٌ، وإليكَ ذِكْرَها: 1 - تَفْسِيرُ يَحْيى بنِ سَلاَمٍ، وقد ذَكَرنا إسْنَادَ المُصَنِّفِ إليهِ في المبحثِ الرَّابعِ، وكنا قدْ ذَكَرنا في مَبْحَثِ مُصَنَّفَاتهِ أنَّهُ قامَ بِتَهْذِيبِ هذا التَّفْسِيرِ.

النوع الثاني: مصادر نقل منها لكنه لم يصرح باسم الكتاب

2 - الموطَّأ، روايةُ يَحْيى بنِ يَحْيى اللَّيْثِي، وَهِيَ الرِّوَايةُ التي قامَ عَلَيْهَا تَفْسِيرُه. 3 - الموطَّأ، روايةُ يَحْيى بنِ بُكَيْر. 4 - الموطَّأ، رِوَايةُ عبدِ اللهِ بنِ مَسْلَمةَ القَعْنَبِيِّ. 5 - الموطأ، روايةُ عَبْدِ اللهِ بنِ وَهْبٍ. 6 - الموطأ، روايةُ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ. 7 - الموطأ، روايةُ مَعْنِ بنِ عِيسَى. 8 - رِسَالةُ الإيمانِ لأَبي عُبَيْدٍ القَاسِمِ بنِ سَلَّامٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَصَادِرُ نَقَلَ مِنْها لَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ باسمِ الكِتَابِ، وإنَّمَا اكْتَفَى باسمِ مُؤَلِّفِهِ، وإليكَ أسْمَاءَ هَؤُلاَءِ المُؤَلِّفِينَ مَعَ تَرْجَمَتِهِم باخْتِصَارٍ، مُرَتَّبِينَ على حُرُوفِ المُعْجَمِ: 1 - إبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدٍ، أَبو إسْحَاقَ الزَّجَّاجُ البَغْدَاِديُّ، الإمَامُ العَلَّامَةُ اللُّغَويُّ، مُصَنِّفُ كِتَابِ (مَعَانِي القُرْآنِ) وغَيْرِه، لَزِمَ المُبَرَّدَ وغَيْرَهُ، وأخذَ عنهُ أَبو عَلِيٍّ الفَارِسيُّ وجَمَاعَةٌ، توفي سنة (311) (¬1). 2 - أحمدُ بنُ أَبي بَكْرِ بنِ الحَارِثِ القُرَشيُّ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنِ الإمامِ مَالِكٍ الموطَّأ، ولَهُ كِتَابُ مُخْتَصرٌ في قَوْلِ مَالِكٍ، وكَانَ فَقِيهَاً مُحَدِّثاً ثِقَةً، رَوَى عنهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهما، توفي سنةَ (242) (¬2). 3 - أَحْمَدُ بنُ خَالِدِ بنِ يَزِيدَ، أبو عُمَرَ القُرْطُبيُّ، يُعْرَفُ بابنِ الجَبَّابِ، الإمامُ العَلَّامَةُ الفَقِيهُ الزَّاهِدُ، كَانَ إمامَ وَقْتهِ غَيْرَ مُدَافَعٍ فِي الفِقْهِ والحَدِيثِ، صَنَّفَ ¬

_ (¬1) السير 14/ 360. (¬2) ترتيب المدارك 3/ 347، وتهذيب الكمال 1/ 278، وجمهرة تراجم المالكية 1/ 192، وقد طبعت روايته للموطأ بتحقيق الدكتور بشار عواد ومحمود خليل، وقد اعتمدا في التحقيق على نسخة محفوظة بالهند، مع أن للكتاب نسخ خطية أخرى، ينظر: مقدمة كتاب الإيماء للداني 1/ 213. وأما كتابه الآخر في الفقه فقد وصلنا وما يزال مخطوطاً في مكتبة القرويين بفاس، كما في تاريخ التراث العربي 3/ 154.

(مُسْنَدَ حَدِيثِ مَالِكٌ)، وكِتَابَ (الإيمانِ)، وكِتَابَ (فَضْلِ الوُضُوءِ والصَّلاةِ) وغَيْرَ ذَلِكَ، توفي سنةَ (322) (¬1). 4 - أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الملكِ بنِ هَاشِمٍ الإشْبِيلِيُّ نَزِيلُ قُرْطُبةَ، الإمامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ، المعروفُ بابنِ المَكْوِيِّ، صَنَّفَ بالإشْتِرَاكِ مَعَ أَبي بَكْير مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الله المعيطيِّ كِتَابَ (الإسْتيعَاب لأَقْوَالِ مَالِكٌ)، وانتهتْ إليهِ رِئَاسةُ الفِقْهِ بالأَنْدَلُسِ، ونقلَ عَنْهُ أَبو المُطَرِّفِ كَثيراً مِنْ أَقْوَالهِ وآرائهِ الفِقْهيَّةِ، توفي سنةَ (401) (¬2). 5 - أَحْمَدُ بنُ عَوْنِ اللهِ بنِ حُدَير، أبو جَعْفَرٍ القُرْطُبِيُّ، يَرْوي عَنِ القَاسِم بنِ أَصْبَغٍ وغَيْرِه مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ، وحَجَّ فَسَمِعَ مِنْ أَبي سَعِيدِ بنِ الأَعْرَابِيِّ وغَيْرِه، وقَدْ رَوَى عنهُ أبو المُطَرِّفِ كثيرًا مِنْ أَحَادِيثِه وبَعْضَ أَقْوَالهِ، وكَانَ شَيْخَاً صَالِحَاً، صَارِمَاً في السُّنَّةِ، توفي سنة (378) (¬3). 6 - إسْمَاعِيلُ بنُ إسْحَاقَ بنِ إسْمَاعِيلَ الجَهْضَمِيُّ، أَبو إسْحَاقَ القَاضِي البَصْرِيُّ المالِكيُّ، نزِيلُ بَغْدَادَ، الإمامُ العَلَّامةُ شَيْخُ الإسْلاَمِ، وإمَامُ زَمَانِهِ، لَهُ تآليفٌ كَثيرَةٌ تُعَدُّ أُصُولاً في فُنُونِهَا، مِنْهَا: (أَحْكَامُ القُرْآنِ)، وكِتَابُ (المَبْسُوطِ في الفِقْهِ)، و (مُخْتَصَرهُ في الفِقْهِ) وغَيْرُها الكَثيرُ، توفي سنة (282) (¬4). 7 - أَشْهَبُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ دَاوُدَ، أَبو عَمْرو القَيْسِيُّ المصريُّ، تَفَقَّهَ بالإمَامِ مَالِكٌ، ورَوَى عَنِ اللَّيْثِ وغَيْرِه، وكَانَ إمَاماً فَقِيهَاً، انتهتْ إليهِ رِئَاسةُ المذهَبِ بعدَ وَفَاةٍ ابنِ القَاسِمِ، صَنَّفَ كُتُباً مِنْهَا: (الإختلافُ في القَسَامةِ) و (المُدوَّنةُ في الفِقْه) وغيْرُ ذلك، توفي سنة (204) (¬5). ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 5/ 174، والسير 15/ 240، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 198. (¬2) ترتيب المدارك 7/ 123، والسير 17/ 206، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 230. (¬3) تاريخ علماء الأندلس 1/ 54. (¬4) ترتيب المدارك 4/ 276، والسير 13/ 339، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 324، وقد أخرجتُ له ما وصلنا من كتابه (أحكام القرآن) عن النسخة الوحيدة المحفوظة بالمكتبة العتيقة بالقيروان، وطبع مؤخراً بدار ابن حزم، والحمد لله على توفيقه. (¬5) ترتيب المدارك 3/ 262، والسير 9/ 500، وجمهرة تراجم العلماء المالكية 1/ 333، =

8 - أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ بنِ سَعِيدٍ، أَبو عبدِ اللهِ المِصْرِيُّ، كَاتِبُ ابنِ وَهْبٍ وَوَرَّاقهِ، كَان رَحَلَ إلى المدينةِ لِيَسْمَعَ مِنْ مالِكِ، فَدَخلَها يومَ ماتَ، وصَحِبَ ابنَ القًاسمِ، وأشْهَبَ، وابنَ وَهْبٍ، ولهُ تآليفٌ، مِنْها: (تَفْسِيرُ غَرِيبِ الموطَّأ)، و (الرَّدُّ على أَهْلِ الأَهْوَاءِ) وغَيْرها، وَهُو شَيْخُ البُخَارِيِّ، والدُّهْلِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ وَضًّاع وغَيْرُهم، توفي سنةَ (225) (¬1). 9 - رَبِيعَةُ بنُ أَبي عبدِ الرَّحْمَنِ، أَبو عُثْمَانَ المدنيُّ الفَقِيهُ، كانَ قد أدْرَكَ بعضَ الصَّحَابةِ وكِبَارَ التَّابِعِينَ، وكانَ صًاحِبَ الفَتْوَى بالمدينةِ، وعنهُ أخذَ مًالِكٌ وغَيْرُهُ، تُوفِّي سنةَ (136)، وروى حَدِيثَهُ الستَّةُ (¬2). 10 - زِيادُ بنُ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ زُهَيْرٍ، أَبو عبدِ اللهِ اللَّخْمِيُّ القُرْطُبيُّ، الملقَّبُ بِشَبْطُونَ، سَمعَ مًالِكًا وأخذَ عنهُ الموطَّأ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَهُ إلى الأَنْدَلُسِ، وصَنَّفَ كِتَابًا في الفتاوَى عَنْ مًالِكٍ، ولهُ أيضًا كِتَابُ الجًامِعِ، ورَوَى عنهُ يَحْيى بنُ يَحْيى، توفي سنة (193) وقيلَ بَعْدَها (¬3). 11 - سُلَيْمًانُ بنُ بُرْدٍ، أَبو الرَّبِيعِ المِصْرِيُّ القَاضِي، الفَقِيهُ، رَوَى عَنْ مًالِكٍ الموطَّأ وغَيْرِه، وكانَ يُقَالُ: مُوطَّأ ابنُ بُرْدٍ أصَحُّ مُوطَّأ، توفي سنةَ (210) (¬4). 12 - صَالِحُ بنُ إدْرِيسَ بنِ شُعَيْبِ، أبو سَهْلٍ البَغْدَادِيُ المُقْرِئُ الثِّقَةُ، قَرَأ على ابنِ مُجًاهِدٍ وغَيْرِه، وبَرَعَ في القِرَاءَاتِ وعِلَلِها، توفي سنة (345) (ب). ¬

_ = وقد وصلنا من كتبه كتاب (الحج) توجد منه قطعة في المكتبة الحتيقة بالقيروان، ينظر: تاريخ التراث العربي 3/ 145. (¬1) ترتيب المدارك 4/ 17، والسير 10/ 656، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 328. (¬2) تهذيب الكمال 9/ 123، والسير 6/ 89، وذكر فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي 3/ 24 بأبن لربيعة كتابا في الفقه ينقل منه كثير من الفقهاء. (¬3) ترتيب المدارك 3/ 116، والسير 9/ 311، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 490. (¬4) ترتيبَ المدارك 3/ 283، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 552. (5) تاريخ بغداد 9/ 331، وتاريخ دمشق 23/ 213، وغاية النهاية في طبقات القراء 1/ 332.

13 - عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ القَاسِمِ بنِ خَالِدٍ، أبو عبدِ الله العُتَقِيُّ المِصْرِيُّ، الإمامُ العَلَّامَةُ الفَقِيه المجتَهِدُ، رَوَى عَنْ مَالِكٍ وصَحِبهُ وتَفَقَّهَ بهِ، وكانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِعِلْمِ مَالِكٍ، ورَوَى أيضًا عَنِ اللَّيْثِ، وعبدِ العَزِيزِ بنِ الماجِشُونَ وغَيْرِهم، تُوفِّي سنة (191) (¬1). 14 - عبدُ العَزِيزِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أَبي سَلَمةَ المَاجِشُونَ المدني الفَقِيهُ المحدِّثُ الثِّقَةُ، رَوَى حَدِيثَهُ السِّتَّة، ولهُ كُتُبٌ فِقْهِيَّةٌ مُصَنَّفَةٌ، تُوفِّي سنةَ (166) (¬2). 16 - عبدُ اللهِ بنُ أَبي زَيْدٍ، أَبو مُحَمَّدٍ القَيْرَوانيُّ، الإمَامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ، تَفَقَّهَ بأَبي بَكْرِ بنِ اللَّبَادِ، وأَبي الفَضْلِ الممَّسي وغيرهما، ولهُ مُصَنَّفَات كَثِيرَةٌ تَدُلُّ على إمَامَتِهِ، وعَلَى رَأْسِهَا كِتَابُ: (النَّوادِر والزِّيادات على ما في المدوَّنة من غيرها من الأمهات)، و (مختصر المدونة)، و (الرسالة) وغيرها كثير، وإليه انتهت الرِّئاسةُ في الفِقْهِ، وكانَ يُسَمَّى بِمَالِكٍ الصَّغِيرِ، توفِّي سنة (386) (¬3). 17 - عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، أَبو مُحَمَّدِ القُرْطُبِي، روى عنه أحمد بن ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 3/ 244، والسير 9/ 120، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 645. ومن كتبه التي وصلت إلينا: قطعة من روايته للموطأ، وطبع له الملخص من موطئه للقابسي، وذكر له الدكتور فؤاد سزكين رسالتين محفوظتين في بعض المكتبات الأوربية، ينظر: تاريخ التراث العربي 3/ 143. ومن باب الفائدة نشير إلى أن الإِمام أبا عبيد القاسم بن خلف الجبيري الطرطوشي المتوفى سنة (378) ألف كتابا سماه (التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة)، وفي هذا الكتاب يظهر علم ابن القاسم ومكانته، فمع كونه تلميذ مالك فقد خالف في بعض المسائل مما يبين نزعته الاستقلالية الإجتهادية، وهذا الكتاب طبع بتحقيق مصطفى باجو، وصدر عن دار الضياء بطنطا في مصر. (¬2) تهذيب الكمال 18/ 152، والسير 7/ 309، وقد طبع له مؤخرًا الأثر الوحيد الذي وصلنا من كتبه، وهو أوراق من كتاب الحج، بتحقيق الدكتور ميكلوش موراني. (¬3) ترتيب المدارك 6/ 215، والسير 17/ 10، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 709، وقد طبع كتابه النوادر والزيادات في خمسة عشر مجلدا، كما طبع كتاب (الجامع) وهو الجزء الأخير من كتابه (مختصر المدونة)، أما كتاب (الرسالة) فقد طبع مرارا.

خالد بن الجباب وغيره، رَوَى عنهُ أَبو المُطَرِّفِ في تَفْسِيرِه كَثيرًا مِنْ أَقْوَالهِ وآرَائهِ الحَدِيثيِّةِ والفِقْهِيَّهِ، تُوفِّي سنة (364) (¬1). 18 - عبدُ الله بنُ نَافِعٍ، أبو مُحَمَّدٍ القُرَشِيُّ مَوْلاَهم المدنيُّ، المعروفُ بالصَّائِغِ، صَحِبَ مَالِكَاً وتَفَقَّهَ بهِ، ورَوَى عَنْ غَيْرِه، كَانَ مُفْتِي أَهْلِ المدينةِ بِرَأْي مَالِكٍ، ووَثَّقَهُ ابنُ مَعِينٍ وغَيرُه، ورَوَى له مُسْلِمٌ وأصحابُ السُّنَنِ، وتُوفي سنة (206) (¬2). 19 - عبدُ اللهِ بنُ وَهْبِ بنِ مُسْلِمٍ، أبو مُحَمَّدٍ القُرَشِيُّ الفِهْرِيُّ مَولاَهُمْ المِصْرِيُّ، الإمَامُ الحَافِظُ الفَقِيهُ، رَوَى عَنْ مَالِكٍ ولاَزَمَهُ، وتَفَقَّهَ بهِ وبِغيْرِه، وصَنَّفَ مُصَنَّفَاتٍ كَثيرَةٍ، مِنْها: (تَفْسِيرُ الموطَّأ)، و (الموطَّأ الكَبير)، و (الجَامِع) وغَيْرها، تُوفِّي سنة (197) (¬3). 20 - عبدُ الملِكِ بنُ حَبيبِ بنِ سُلَيْمَانَ، أبو مَرْوَانَ السُّلَمِيُّ، الإمَامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الشَّهِيرةِ، ومنها: (تَفْسِيرُ الموطَّأ)، و (الوَاضِحَةُ) - وَهُو مِنْ أَشْهَرِ كُتُبهِ- ولَهُ أيضًا (الجَامِعُ) وغير ذلك، توفي سنة (238) (¬4). 21 - عبدُ الملِكِ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبي سَلَمةَ، المعرُوفُ بابنِ المَاجِشُونَ، الإمامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ، تَفَقَّهَ بِمَالِكٍ، وبأبيهِ، وابنِ أَبي حَازِمٍ وغَيْره، كانَ مُفْتِي أَهْلَ المدِينةِ في زَمَانهِ، ولَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثيرَةٌ في الفِقْهِ والخِلاَفِ والسُّنَّةِ، ¬

_ (¬1) تاريخ علماء الأندلس 1/ 232، وجذوة المقتبس ص 252. (¬2) ترتيب المدارك 3/ 128، وتهذيب الكمال 16/ 208، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 768. (¬3) ترتيب المدارك 3/ 228، والسير 9/ 223، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 775، وصدر له من الكتب: الجامع، والتفسير، والقدر. (¬4) ترتيب المدارك 4/ 122، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 783، وقد طبع كتابه (تفسير الموطأ) بتحقيق الدكتور عبد الرحمن بن العثيمين باسم (تفسير غريب الموطأ)، كما وصلنا بعض من كتابه (الواضحة) استعرضها الدكتور مكلوش موراني في كتابه (دراسات في مصادر الفقه المالكي).

رَوَى حَدِيثَهُ النَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَه، تُوفِّي سنة (212) وقيل بعدها (¬1). 22 - عُثْمَانُ بنُ عِيسَى بنِ كِنَانةِ، أبو عَمْرو الأُمُويُّ مَوْلاَهُم المدَنِيُّ، صَحِبَ مَالِكَاً وكانَ مِنْ كِبَارِ اصْحَابهِ، وكانَ فَقِيهَاً غَلَبَ عليهِ الرَّأيُّ، توفِّي سنة (186) فيما يقال (¬2). 23 - عليُّ بنُ زِيادٍ، أَبو الحَسَنِ العَبْسِيُّ التُّويسيُّ، سَمِعَ مَالِكَاً وَرَوى عنهُ الموطَّأ، وَهُو أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الموطَّأ إلى إفْرِيقيَّهَ، أخذَ عنهُ سُحْنُونُ، وأسدُ بنُ الفُرَاتِ، والبُهْلُولُ بنُ رَاشِدٍ وغيرُهم، ولهُ كُتُبٌ في البُيُوعِ والنِّكَاحِ والطَّلاَقِ، تُوفِّي سنة (183) (¬3). 24 - عِيسَى بنُ دِينَارِ بنِ وَاقِدٍ، أَبو مُحَمَّدٍ الغَافِقِيُّ الطُّلَيْطِليُّ ثُمَّ القُرْطُبيُّ، الإمَامُ العَلَّامةُ القَاضِي الفَقِيهُ المُفْتِي الزَّاهِدُ العَابِدُ، صَحِبَ عبدَ الرَّحْمَنِ بنَ القَاسِمِ وتَفَقَّه بهِ وسَمِعَ منهُ الكَثِيرَ، ولَهُ كِتَابُ (البُيُوعِ)، وله أيضا كِتَابُ (الهِدَايةِ) وغَيْرُ ذلك، تُوفِّي سنة (212) (¬4). 26 - القَاسِمُ بنُ سَلَّامٍ، أبو عُبَيْدٍ البَغْدَادِيُّ القَاضِي، الإمَامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ الأَدِيبُ، وصَاحِبُ التَّصَانِيفِ الشَهِيرَةِ، كـ (غَرِيبِ الحَدِيثِ)، و (الإيمانِ)، و (الأَمْوَالِ) وغيرِها، روى حديثه أبو داود في السنن، توفي سنة (224) (¬5). ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 3/ 136، وتهذيب الكمال 18/ 358، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 790. (¬2) ترتيب المدارك 3/ 21، وجمهرة تراجم فقهاء المالكية 2/ 831. (¬3) ترتيب المدارك 3/ 80، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 850، وقد طبعت روايته للموطأ بتحقيق الشيخ العلامة محمد الشاذلي النيفر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- على نسخة مكتبة القيروان وهي قطعة ناقصة، وللفائدة نشير إلى اْن سحنون نقل في المدونة كثيرا من أقواله. (¬4) ترتيب المدارك 4/ 105، والسير 10/ 439، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 906. (¬5) تهذيب الكمال 23/ 354، والسير 10/ 490.

27 - مُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ زِيادٍ، أبو عَبْدِ الله الإسْكِنْدَرَانِيُّ، المعروفُ بابنِ الَموَّازِ، الإمَامُ الفَقِيهُ الزَّاهِدُ، تَفَقَّهَ بابنِ عبدِ الحَكَمِ، وابنِ المَاجِشُونَ، وأَصْبَغَ بنِ الفَرَجِ وغَيْرِهم، ولهُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ في الفِقْه يُعْرَفُ بالمَوَازيِّةِ، توفي سنة (269) (¬1). 28 - مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ بُكَيْرٍ، أَبو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ البَغْدَادِيُّ، القَاضِي الفَقِيه، رَوَى عَنِ القَاضِي إسْمَاعِيلَ، ورَوَى عنهُ بَكْرُ بنُ العَلاَءِ وغَيْرُه، ولهُ كِتَابٌ في أَحْكَامِ القُرْآنِ، وكِتَابٌ في مَسَائِلِ الخِلاَفِ وغَيْرُ ذَلِكَ، تُوفِّي سنة (305) (¬2). 29 - مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرِ بنِ يَزِيدَ، أَبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، الإمَامُ الفَقِيهُ المُجْتَهِدُ، وصَاحِبُ التَّصَانِيفَ الشَّهِيرَةِ كـ (التَّفْسِيرِ)، و (التَّارِيخِ) و (تَهْذِيبِ الآثَارِ) وغَيْرِها، تُوفي سنة (310) (¬3). 30 - مُحَمَّدُ بنُ سَحْنُونَ بنِ عبدِ السَّلَامِ، أبو عبدِ الله التَّنُوخِّي الإفْرِيِقِيُّ القَيْرَوَانِيُّ، الإمامُ العَلَّامةُ الفَقِيهُ البَارِعُ، تَفَقَّهَ بأبيهِ، وسَمِعَ أبا مُصْعَبٍ الزّهْرِيَّ، ومُوسَى بنَ مُعَاوِيةَ الصّمَادِحيَّ وغَيْرَهما، ولهُ مُؤلَّفاتٌ كَثِيرةٌ، منها: (تَفْسِيرُ الموطَّأ)، و (الجَامِعُ)، و (الجَوَاباتُ) وغير ذلك، تُوفِّي سنة (256) (¬4). ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 4/ 167، والسير 13/ 6، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 981. وتوجد بعض القطع في مكتبة القيروان العتيقة، ونقل منها نصوصا كثيرة ابن أبي زيد في النوادر والزيادات، وينظر: (دراسات في مصادر الفقه المالكي) ص 149. (¬2) ترتيب المدارك 5/ 16، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1000. (¬3) تاريخ بغداد 2/ 162، والسير 14/ 267. (¬4) ترتيب المدارك 4/ 204، والسير 13/ 60، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1072، وقد وصلنا شيء يسير من مؤلفاته، منها كتابه (آداب المعلمين) وقد طبع غير مرة، ومنها بتونس بتحقيق محمود عبد المولى، ووصلنا له أيضا قطع مخطوطة في الفقه، محفوظة في المكتبة العتيقة بالقيروان، كما جاء في كتاب (دراسات في مصادر الفقه المالكي) ص 161.

32 - مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ لُبَابةَ، أَبو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبيُّ، الإمَامُ الفَقِيهُ المُفْتِي، كانَ عَالِمَاً باخْتِلاَفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وغَيْرِه، إلا أنَّهُ كانَ قَلِيلَ الرِّوايةِ، قَلِيلَ الكُتُبِ، تُوفِّي سنة (314) (¬1). 33 - مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ بنِ مُحَمَّدٍ، أَبو هِشَامٍ المَخْزُومِيُّ المدَنِيُّ، نَزِيلُ دِمَشْقَ، كانَ إمَامًا فَقِيهًا ثِقَةً نَسَّابَة، رَوَى عَنْ مَالِكٍ وتَفَقَّه به، وله كُتُبٌ في الفِقْه، تُوفِّي سنة (210) (¬2). 34 - مُحَمَّدُ بنُ وَضاع، أَبو عبدِ اللهِ الأُمُويُّ مَوْلاَهُم القُرْطُبيُّ، الإمامُ الحَافِظُ مُحَدِّثُ الأَنْدَلُسِ ومُقْرِئِهَا وفَقِيهِها، ألَّفَ كُتُبًا في الحَدِيثِ والفِقْهِ والسُّنَةِ وغَيْرَ ذَلِكَ، وكانَ عَابِدَاً زَاهِدَاً، تُوفِّي سنة (287) (¬3). 35 - مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مُطَرِّفِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارَ الهِلاَلِي مَوْلاَهُم، المدَنِيُّ الفَقِيهُ، رَوَى عَنْ مَالِكٍ الموطَّأ وغَيْرِه، وتَفَقَّهَ أيضًا بابنِ المَاجِشُونَ، وابنِ أبي حَازِمٍ، وابنِ كِنَانةَ وغَيْرِهم، وَرَوى عنهُ البُخَارِيُّ، والدُّهْلِيُّ وغَيْرُهما، تُوفِّي سنة (220) (¬4). 36 - المغيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ القُرَشِيُّ المَخْزُومِيُّ المدَنِيُّ، الإمامُ ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 5/ 153، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1155. (¬2) ترتيب المدارك 3/ 131، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1200. (¬3) ترتيب المدارك 4/ 435، والسير 13/ 445، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1221، وكتاب (محمد بن وضاح القرطبي مؤسس مدرسة الحديث بالأندلس مع بقي بن مخلد) للدكتور نوري معمر، ومن كتبه التي وصلت إلينا كتاب (البدع) وقد طبع مرارا، وأفضل طبعة له هي التي حققها صديقنا الأستاذ بدر البدر في الكويت، وكتاب (النظر إلى الله تعالى) وهو مخطوط لدى مكتبة حسن حسني عبد الوهاب، وهي الملحقة بالمكتبة الوطنية بتونس, ومن كتبه (تسمية شيوخ ابن وهب) وهذا الكتاب اعتمده الحافظ ابن بشكوال في كتابه رجال ابن وهب وزاد عليه، وقد طبع مؤخرا بتحقيقي على نسختين خطيّتين نادرتين، والحمد لله على توفيقه. (¬4) ترتيب المدارك 3/ 133، وتهذيب الكمال 28/ 70، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1254.

الفَقِيهُ، رَوَى عَنْ مَالِكٍ، وهِشَامِ بنِ عُرْوةَ، ومُحَمَّدِ بنِ عَجْلاَنَ وغيرهِم، كانَ فَقِيهَ أَهْلِ المَدِينَةِ بعدَ مالِكٍ، رَوَى حَدِيثَهُ مَالِكٌ وأَصْحَابُ السُّنَنِ إلا التِّرْمِذيَّ، تُوفِّي سنة (186) (¬1). 38 - يحيى بنُ عَبْدِاللهِ بنِ يحيى بنِ يحيى بنِ يحيى بنِ كَثِيرٍ، أَبو عِيسَى المَصْمُودِيُّ اللَّيْثِيُّ مَوْلاَهُم القُرْطُبيُّ، القَاضِي الفَقِيهُ المُحَدِّثُ، المعروفُ بابنِ أَبي عِيسَى، سَمِعَ مِنْ عَمِّ أبيهِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ يَحْيى، ومُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ بنِ لُبَابةَ، وأحمدَ بنِ خَالِدٍ وغَيْرِهم، وكَانَ جَلِيلَ القَدْرِ، عَالِمَاً بالحَدِيثِ والفِقْه، رَحَل إليهِ النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ الأَنْدَلُسِ، تُوفِّي سنة (367) (¬2). 39 - يحيى بنُ يحيى بنِ كَثيرٍ، أَبو مُحَمَّدٍ المَصْمُودِيَّ اللَّيْثِيُّ مَوْلاَهُم الطنْجِيُّ ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ، فَقِيهُ الأَنْدَلُسِ وعَالِمَها، سَمِعَ مَالِكَ بنَ أَنَسٍ، وأَخذَ عنهُ الموطَّأ، وسَمِعَ أيضَاً اللَّيْثَ، وابنَ القَاسِمِ وبهِ تَفَقَّهَ، ولهُ مَسَائِلُ عَنْ أَشْهَبَ، وابنِ القَاسِمِ وغيْرِهما مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، ولهُ وصيَّةٌ لِطَلبةِ العِلْمِ، تُوفِّي سنة (234) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك 2/ 3، وتهذيب الكمال 28/ 381، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1263. (¬2) ترتيب المدارك 6/ 108، والسير 16/ 267، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1350. (¬3) ترتيب المدارك 3/ 379، والسير 10/ 519، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1370، ووصيته لطلبة العلم نقلها عن مالك وأضاف إليها وصايا أخرى، وقد رواها ابن خير في فهرسته ص 228 بإسناده إلى أبي المطرف عَنْ أَبي عِيسَى، عَنْ أبي عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا أبو المُعَلَّى بنُ مَعَلَّى، حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أَيُّوبَ، أَخبرنا يحيى بنُ يحيى، قالَ: قالَ مَالِكٌ.

المبحث الرابع

المبحث الرابع وفيه مطلبان: المطلب الأَوَّل: قِيمَةُ الكِتَابِ العِلْمِيِّة. المطلب الثاني: مآخذ على المؤلِّفِ. * * * المَطْلَبُ الأَوَّلُ قيمة الكتاب العلمية هذا الكِتَابُ مِنْ أَرْفَعِ كُتُبِ شُرُوحِ الحَدِيثِ قَدْرَاً، وأَنْبَهِهَا ذِكْرًا، وأَعَمِّهَا نَفْعَاً، فقدْ زَخَر بِمَادَّةٍ عِلْمِيَّةٍ وَافِرَةٍ تَتَلَخَّصُ بالأُمُورِ التَّالِيةِ: 1 - حَفَلَ هذا الكِتَابُ بِنُصُوصٍ فِقْهِيَّةٍ قَيِّمَةٍ نَقَلَها عَنِ كُتُبٍ مَفْقُودَةٍ لَمْ تَصِلْ إلينا، ومِنْها مُؤَلَّفَاتٍ لِفُقَهَاءَ مِنَ الأَنْدَلُسِ ضَاعتْ كُتُبهُم، مِثْلَ مُؤَلَّفَاتِ عِيسَى بنِ دِينَارٍ، وأحمدَ بنِ خَالِدٍ ابن الجبَّابِ، ومُحَمَّدِ بنِ وَضَّاح، وأَبي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بنِ عَوْنِ اللهِ القُرْطُبيِّ، وأبي عِيسى يحيى بنِ عبدِ الله اللَّيثيِّ، وأَبِي عُمَرَ ابنِ المَكْوِيِّ وغَيْرِهم، وقد ذَكَرْنا أَسْمَاءَ الفُقَهاءِ الذينَ رَجَعَ أبو المُطَرفِ إلى مُؤَلَّفَاتِهِم في المبحَثِ السَّابِقِ. 2 - التَّرْجِيحُ بينَ رِوَاياتِ الموطَّأ، كَقَوْلهِ في حَدِيثٍ: (خَلَطَ يحيى بنُ يحيى هَذا الحَدِيثَ في رِوَايَتِه عَنْ مَالِكٍ، وجَعَلَ قَوْلَهُ: (يُرِيدُ بِذَلِكَ والإمامُ يَخْطُبُ) مِنْ

نَفْسِ الحَدِيثِ، وإنَّما هُو تَفْسِيرٌ في الحَدِيثِ، كَمَا رَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ) (¬1). 3 - اهتمَّ كَثِيرًا بِبَيانِ مَذْهَبِ مَالِكٍ واخْتِلاَفِ أَقْوَالهِ فِي المسأَلةِ الوَاحِدَةِ، وذَلِكَ بِتَحْرِيرِ قَوْلهِ المُعْتَمَدِ، وعلى سَبِيلِ المِثَالِ فقدْ نَقَلَ عَنِ ابنِ أبي زَيْدٍ القيرواني أنه قال: (اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ أُمّ القُرْآنِ في رَكْعَةٍ مِنْ صَلاَتهِ وَهُو يُصَلِّي، فَمَرَّةً قالَ: يُلْغِي مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ التي تَرَكَ القِرَاءَةَ فِيها على حَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ يأْتِي بِرَكْعَةٍ وَيَسْجُدَ بعدَ السَّلَامِ، ثُمَّ قالَ: أَرْجُو أنْ يُجْزِيهِ لسُجُودُ السَّهْوِ قبلَ السَّلَامِ، ومَا هُو عِنْدِي بالبَيِّنِ، واسْتَحَبَّ ابنُ القَاسِمِ أنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ويُعِيدُ الصَّلاَةَ احْتِيَاطَاً. قالَ ابنُ المَوَّازِ: إنَّما اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ في هَذِه المَسْأَلةِ لاخْتِلاَفِ مَنْ قَبْلَهُ فِيمَنْ تَرَكَ القِرَاءَةَ في بَعْضِ صَلاَتهِ، ورُوي عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ إجازَةَ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءِة، ولم تَجُزْ صَلاَتُهُ للأَعْجَمِي الذي لا يَقْرَأً، فَلِهَذا أَمَرُهُ مَالِكٌ بالسُّجُودِ، وتُجْزِيه صَلاَتهُ، ثُمَّ نَظَر إلى حَدِيثِ جَابِرٍ فَأَمَرَهُ أنْ يأتِي بِرَكْعَةٍ، إذ لا تُجْزِيه تِلْكَ الرَّكْعَةُ التي لم يَقْرأْ فيها بأُمِّ القُرْآنِ) (¬2). 4 - التَّرْجِيحُ بينَ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ المذْهَبِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وغَيْرِهِم، وبيانِ ما تَأَوّلُوهُ مِنَ الأَحَادِيثِ والآثارِ، كَقَوْلهِ: (وحُجَّةُ ابنِ القَاسِمِ التِّي ذَكَرَها عنهُ سُحْنُونُ في المُدَوَّنَةِ في هذِه المَسْأَلةِ أَصَحُّ مِنْ حُجَّةِ أَشْهَبَ) (¬3). وكقوله: (قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا تَسَلَّفَ العَامِلُ مِنْ مَالِ المُقَارِضِ مَالًا فَابْتَاعَ بهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وحَمَلَتْ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إذا كَانَ لَهُ مَالٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُتْبِعَ بِقِيمَتِهَا دَيْنَا إلى مَيْسَرَةٍ، ولَسْتُ آخَذُ في هَذِه المَسْأَلةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ: أَنَّهَا تُبَاعُ إذا لَمْ يَكُنْ للعَامِلِ مَالٌ، ويُجْبَرُ رَأْسُ المَالِ مِنْ ثَمَنِهَا. قالَ عَبْدُ الرَّحمنِ: الذي قَالَهُ مَالِكٌ في هَذه المَسْأَلةِ هُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ تَعَدَّى على مَالِ ¬

_ (¬1) ص 166. (¬2) ص 152. (¬3) ص 287.

غَيْرِهِ فَابْتَاعَ بهِ شَيْئَاً لِنَفْسِهِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ مُلْكَهُ عَلَيْهِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَلِذَلِكَ تُبَاعُ هَذِه الجَارِيَةُ، وُيجْبَرُ المَالُ مِنْ ثَمَنِهَا. وبِهَذا قَالَ أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ ... إلخ) (¬1). 5 - إيرَادُهُ لِفَوَائِدَ حَدِيثيَّةٍ، كَقَولهِ في جَدِيثِ (أفطرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومِ): قال لي أبو مُحَمَّدٍ: (: لَيْسَ في هذا حَدِيثٌ صَحِيح، وقدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمةَ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُو صَائِمٌ) (¬2). وكقوله: (أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى في صَلاَةِ الضُّحَى عَن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حدِيثُ أُمِّ هَانِى بنتِ أَبي طَالِبٍ حِينَ دَخَلَتْ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُه بثَوْبٍ، وكَانَتْ تُمْسِكُ الثَّوْبَ مِنْ وَرَاءِهَا وتُوَلِّي ظَهْرَهَا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلَّا تَرَاهُ عُرْيَانًا) (¬3)، "وقدْ ذَكَرنا في المبحَثِ السَّابِقِ جُمْلَةً مِنَ الفَوَائِدِ الحَدِيثيِّةِ التي زَخَرَ بِها هذا الكِتَابُ المُسْتَطَابُ. 6 - تَفْسِيرهُ للألفاظِ الغَرِيبةِ، كَقَوْلهِ مَثَلًا: (قالَ عِيسَى: الشِّطَاطُ عُودٌ مُحَدَّدُ الطَّرَفِ، والذَّكَاةُ بهِ جَائِزَةٌ عندَ الضَّرُورَةِ. قالَ: واللِّيطَةُ فِلْقَةُ القَصَبَةِ، والظُّرَرُ فِلْقَةُ الحَجَرِ، قالَ: فَكُلُّ مَا ذُبِحَ بهِ مِنْ هَذَا فَلاَ بَأْسَ بهِ إذا قَطَعَ الأَوْدَاجَ والحُلْقُومَ) (¬4). 7 - إيرادُ الأَحْكَام الفِقْهِيَّةِ المُسْتَنبَطَةِ مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعيَّةِ الوَارِدةِ، وهَذا هُوَ مَقْصَدُ المؤلِّفِ مِنْ تَألِيفِ كِتَابهِ، والأمثلة في هذا ظَاهِرَةٌ، ولكنْ هذا لَا يَمْنَعُ مِنْ ذِكْرِ مِثَالٍ له، فقدْ ذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ: (ما خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرَيْنِ إلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمَاً)، فقال: (فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: رِفْقُ الإنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِيمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، لأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَدِيمُ بهِ العَمَلُ، وإذا حَمَّلَ نَفْسَهُ المَشَقَّةَ رُبَّمَا انْقَطَعَ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئَاً، وفِيهِ: تَرْكُ الإثْمِ، وتَرْكُ الإثْمِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، ¬

_ (¬1) ص 555 - 556. (¬2) ص 291. (¬3) ص 189. (¬4) ص 328.

المطلب الثاني مآخذ علي المولف

وفِيهِ: العَفْوُ عَنِ النَّاسِ فِيمَا دُونَ الحُدُودِ، وإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وارْتَفَعَتْ إلى الأئِمَّةِ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهَا، وهَذا كُلُّهُ مِنْ تَحْسِينِ الأَخْلاَقِ) (¬1). 8 - إبرازُ مَذْهَبِ السَّلَفِ وجُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّهِ والجَمَاعةِ مِنَ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ ومَنْ تَبعَهُم بإحْسَانٍ في قَضَايا العَقِيدَةِ، ومَسَائلِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وقدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها فَي المبحثِ السَّابِقِ، ولَا بأس مِنْ إيرادِ مِثَالٍ لِذَلِكَ، فقدْ قالَ وَهُو يَتَحدَّثُ عَنْ حَدِيثِ نُزُولهِ سُبْحَانَهُ وتعَالى إلى سَمَاءِ الدُّنيا في الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ نُزُولًا يَلِيقُ بهِ جَلَّ جَلاَلهُ، فقالَ: (حَدِيثُ التَّنَزُّلِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ الأئِمَّةُ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وسَلَّمُوهُ، ولَمْ يَطْعَنُوا فيهِ. وقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ اسْتَوى، فأَعْظَمَ المَسْأَلةَ في ذَلِكَ؟ وقَالَ: الإسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ: التَّنَزُّلُ مَعْلُومٌ والكَيْفُ مَجْهُولٌ. وقدْ سُئِلَ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ هذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ، وأَمِرُّوُهَا كَمَا جَاءَتْ بلاَ كَيْفِيَّةٍ، يَعْنِي: امْضُوا الأَحَادِيثَ على مَا جَاءَتْ) (¬2). * * * المَطْلَبُ الثَّاني مآخذ علي الموُلف وقعَ المُصَنِّفُ في بَعْضِ الأوهام، وَهِي لَا تُقَلِّلُ مِنْ أَهِمِّيةِ الكِتَابِ، لأن كُلَّ إنْسَانٍ مُعَرَّضٍ لِذَلِكَ، وَرَحِمَ اللهُ الإمامَ مُسْلِمًا حِينَ قالَ: (فَلَيْسَ مِنْ نَاقِلٍ خَبَرٍ، وحَامِلٍ أثَرٍ مِنَ السَّلَفِ المَاضِينَ إلى زَمَانِنا - وإنْ كَانَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ، وأَشَدَّهُم تَوقِّيا وإتْقَانًا لِمَا يَحْفَظُ ويَنْقُلُ إلا الغَلَطُ والسَّهْوُ مُمْكِنٌ في حِفْظِهِ ونَقْلِهِ) (¬3). ¬

_ (¬1) ص 745. (¬2) ص 242. (¬3) كتاب التمييز ص 170.

وقدْ وَجَدْتُ أبا المُطَرِّفِ وَقَعَ في أَخْطَاءٍ يَسِيرَةٍ، فمنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: - (كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَاْتِي مَسْجِدَ قُبَاءَ للصَّلاَةِ فيهِ لِفَضْلِ بُقْعَتِهِ، وقِيلَ: هُوَ المَسْجِدُ الذي أُسِّس على التَّقْوَى، بَنَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ) (¬1)، وهذا سَهْوٌ مِنَ المُصَنِّفِ -رَحِمَهُ اللهُ- تعَالى، فإنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ بَنَاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ مَقْدَمِه مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَاً قَبْلَ أَنْ يَبْنِي المَسْجِدَ النَّبَويِّ، وهذا أَمْر مُسْتَفِيضٌ لا إشْكَالَ فيهِ. - وقال: (قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ سَبَبُ إخْرَاجِ عَمْروِ بنِ الجَمُوحِ وعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ الأَنْصَارِيَيْنِ مِنْ قُبُورِهِمَا بَعْدَ سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْ يَوْمِ دُفِنَا بالبَقِيعِ يَوْمَ أُحُدٍ، القَنَاةَ التِّي جُلِبَتْ مِن جَبَلِ أُحُدٍ إلى المَدِينَةِ) (¬2)، وَهُو وَهَمٌ فانَّ شُهَداءَ أُحُدٍ لَمْ يُدْفَنْ أَحَدٌ منهُم بالبَقِيعِ، وإنما دُفِنُوا في سَاحَةِ المعركَةِ بأُحُدٍ، وهَذا مِمَّا لَا خِلاَفَ فيهِ. * * * ¬

_ (¬1) ص 209. (¬2) ص 599.

المبحث الخامس وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

المبحث الخامس وصف النسخ المعتمدة في التحقيق اعتمدتُ في التَّحْقِيقِ على نُسْخَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وإليكَ وَصْفَهُمَا: النُّسْخةُ الأُولَى: وَهِي المَحْفُوظَةُ في الخِزَانةِ العَامَّةِ بالرِّباطِ برقم (64 ج)، وقد كُتِبتْ بِخَطٍّ مَغْرِبِيِّ دَقِيقٍ، وَاضِحٍ القِرَاءَةِ في أَكْثَرِهِ، ولكنْ طَرأَ في بَعْضِ الموَاضِعِ طَمْسٌ وسَقْطٌ، مَعَ ضَيَاَّعَ بَعْضِ الأَوْرَاقِ مِنْ أَوَّلِهَا ومِنْ آخِرِهَا، وفِي ثَلاَثةِ مَوَاضِعَ في أَثْنَائِهَا، وعدد أوراقها (289) ورقة، من لوحةٍ وَاحدةٍ، في كل صفحة (25) سطرا، تبدأ بباب (الطَّهُور للوَضُوءِ) وهو في الموطأ صفحة (29) مِنَ الجُزْءِ الأوَّلِ، وتنتهي إلى كتابِ الجِامِعِ، في أوَّلِ بابِ (تَفْسِيرُ أَبْوَابِ اللِّبَاسِ والإنْتِعَالِ). وقد وُضِعتْ بعض الأوراق الأولى في غير مَوْضِعها، وقُدِّمتْ بعضُها على بعض. والنُّسْخَةُ جَيِّدَةٌ إلى حَدٍّ كَبيرٍ، وتَمَّ مُقَابَلَتُهَا بالنُّسْخَةِ المَنْقُولَةِ مِنْها، إذ وَجَدْتُ في مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ عِبَارةَ: (بَلَغَتْ)، وفي مَوْضِعٍ آخرَ: (بلغتِ المُقَابلَةُ)، ومَعَ مُقَابَلَتِهَا فإنَّهَا لَمْ تَسْلَمْ مِنَ الخَطَأ والسَّقْطِ. وقد اتَّبَعَ النَّاسِخُ الطرِيقَةَ المغرِبيَّةَ في الخَطِّ، مِنْ نَقْطِ القَافِ نُقْطَةً وَاحِدَةً، ونَقْطِ الفَاءِ مِنْ أَسْفَلَ، كمَا أنَّ النَّاسِخَ كَانَ يُهْمِلُ الهَمْزَةَ المَكْسُورَةَ فَيَرْسِمُهَا ياءَ، نَحْو (البائع، والحائط)، فيَكْتُبها: (البايع، والحايط)، كَما أَنَّهُ أَيضَاً رُبَّمَا أَسْقَطَ الأَلِفَ الممدودةِ مِنْ بَعْضِ الكَلِمَاتِ، فَلَفْظُ (ثلاثة) مثلًا كَتَبهَا (ثلثة)، ولَفْظَةُ:

(مالك) كتَبَها (ملك)، ومِمَّا رَأَيْتُهُ أَيضَاً أنه يَكْتُبُ بَعْضَ الكَلِمَةِ في نِهَايةِ السَّطْرِ الأَوَّلِ، ويَكْتُبُ بَقِيَّتَها في السَّطْرِ الثَّانِي، فَكَلِمَةُ (المناجزة) مثلًا كَتَبَ في نِهَايةِ السَّطْرِ الأَوَّلِ (المنا)، وكَتَبَ (جزة) في بِدَايةِ السَّطْرِ الثَّانِي، وكَتَبَ كَلِمَةَ (الشَّهادات) هَكَذا: (الشها) ثُمَّ (دات)، وهَكَذا. النسخة الثانية: وَهِي مُصَوَّرَةٌ مِنَ المكتبةِ العَتِيقَةِ بالقَيْرَوَانِ، والتي هي الآنَ في مَعْهدِ الحَضَارةِ والفُنُونِ الإسلاميَّةِ بِرَقَّادَةَ، وَهِي قِطْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنَ الكِتَابِ، عددُ أَوْرَاقِهَا: (47) ورقةً، وَهِي أَخْلاَطٌ مِنْ مَوَاضِعَ مُفَرَّقَةٍ مِنْ آخِرِ الكِتَابِ غيرُ مُرَتَّبةٍ، وأهمُّ فَائِدَةٍ لهذه النُّسْخَةِ أَنَّها أَكْمَلتِ النَّقْصَ الأخيرِ الذي وَقَعَ في نِهَايةِ النُّسْخَةِ المتُقَدِّمةِ، وَهِذه النُّسْخَةُ نُسْخَةٌ مُتْقَنَةٌ إذْ تَمَّ مُقَابَلَتُهَا عَلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى، وقد كُتِبتْ بخَط قَيْرَوَانيِّ قَدِيمٍ، ويَبْدُو أَتها قَرِيبةٌ مِنْ عَصْرِ المُصَنِّفِ، وقَدْ أَصَابَ النُّسْخَةَ تَلَفٌ شَدِيدٌ بسببِ تَقَادُمِها وسُوءِ حِفْظِها مِمَّا أَدَّى إلى صُعُوبةِ القِرَاءَةِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، هذا بالإضَافةِ إلى ما وقع فيها من سَّقْطٍ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وكُتِبَ عَلَيْهَا حَوَاشٍ دَقِيقَةِ الخَطِّ غَيْرِ مَقْرُوءةٍ، فِيهَا تَعْلِيقَاتٌ كَثيرَةٌ مِنْ تَفْسِيرِ الموطَّأ لإبنِ مُزَيْنٍ، وتَفْسِيرِ الموطَّأ لأَبي عَبْدِ الملكِ البُونِيِّ وغَيْرِهما، وقدْ أَهْمَلَ نَاسِخُهَا النُّقَطَ إلا في مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ، وهَذِه النُّسْخَةُ مِثْلَ التِّي تَقَدَّمتْ، فَقَدْ كَانَ النَّاسِخُ يَحْذِفُ مِنَ الأَعْلاَمِ الأَلِفَ الممدُودةِ، كَمَا كَانَ يُهْمِلُ الهَمْزَةَ المَكْسُورَةَ فَيَرْسمُهَا ياءَ وغير ذلك. ومنْ بَابِ الأَمَانةِ نشُيرُ إلى أَنَّ الشَّيخَ مُحَمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ التَّلِيدِيَّ ذَكَرَ في كِتَابهِ (تُرَاثِ المغَارِبةِ) نُسْخَةً ثَالِثَةً للكِتَابِ، فقالَ: (وقدْ وَقَفَ المُخْتَارُ السُّوسِي بِخِزَانةِ تِيْلَكَات على مَخْطُوطَةٍ قالَ: لَعَلَّها شَرْحُ القُنَازِعيِّ للمُوطَّأ، وَهُو شَرْح جَمَعَ بينَ رِوَايَتَيْ يحيى اللَّيْثِيِّ وابنِ بُكَيْرٍ، وتَضَمَّنَ الكَثِيرَ مِنْ أَقْوَالِ أَبي مُحَمَّدٍ الأَصِيلِيِّ حَسَبَ المخْطُوطةِ التي وَقَفَ عَلَيْهَا السُّوسِي) (¬1)، أقول: لقد سألتُ كَثيرًا مِنَ ¬

_ (¬1) تراث المغاربة ص 109. وقوله: (وتضمن الكثير من أقوال أبي محمد الأصيلي ..) أقول: الصواب هو أبو محمد عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ القُرْطُبِي، المتوفى سنة =

الفُضَلاَءِ مِنْ أَهْلِ المَغْرِبِ مِمَّن لَه اعْتِناءٌ بالمخَطْوُطَاتِ فَلَمْ يَعْرِفُوا عَنْهَا شَيْئًا، ولَعَلَّ اللهَ تعَالى يُوفِّقَنا في المُسْتَقبلِ إلى الحُصُولِ عَلَيها أَو عَلَى غَيْرِها، ومَا ذَلِكَ على اللهِ بِعَزِيز. هذا وإنِّي مَدِين بالشُّكْرِ الجَزِيلِ والثَّناءِ العَطِرِ إلى الصَّدِيقِ الوفيِّ الدِّكْتُور مِيْكُلوشِ مُورَاني الأُسْتَاذِ بِجَامعةِ بُون بألمانيا سَابِقًا، وصَاحِبِ الكُتُبِ والدِّرَاسَاتِ في المذْهَبِ المالكِيِّ- الذي تَفَضَّلَ بإرْسَالِ مَا عِنْدَهُ مِنْ هَذا الكِتَابِ النَّفِيسِ، وَهُمَا مُصَوَّرَتَهُ مِنْ نُسْخَةِ الرِّبَاطِ، ونُسْخَةِ القَيْرَوانِ، فلهُ مِنِّي جَزِيلَ الشُّكْرِ، وأَسْأَلُ اللهَ تعاَلى أنْ يَهْدِيه إلى الخَيْرِ، ويُوفَقَّنا جميعًا إلى مَا يُحِبُّه اللهُ ويَرْضَاهُ. * * * ¬

_ = (364)، وقد ذكرنا ترجمته في هذه الدراسة.

المبحث السادس الطريقة المتبعة في تحقيق الكتاب

المبحث السادس الطريقة المتبعة في تحقيق الكتاب لَقَدْ كَلَّفَنِي إعْدَادُ الكِتَابِ وإخْرَاجهِ -على صُورَةٍ أَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَرِيبَةً مِمَّا تَركَهُ المُؤَلِّفُ- كَثيرَاً مِنَ الوَقْتِ والجُهْدِ، ولَا أُرِيدُ أَنْ أُزَكِّي عَمَلِي، ولَكِن حَسْبِي أَدى لَمْ أَدَّخِرْ وُسْعَاً في خِدْمةِ هذا الكِتَابِ المُسْتَطَابِ على نُسْخَةٍ فَرِيدَةٍ وَقَعَ فِيهَا مَحْوٌ وطَمْسٌ لِجَوانِبَ كَثِيرَةٍ مِنْ صَفَحَاتهِ، وَهُو عَمَلٌ لَيْسَ بالشَهْلِ اليَسِيرِ، وقد اتَّبَعْتُ في تَحْقِيقِ الكِتَابِ الخُطُواتِ التَّالِيةَ: 1 - نَسَخْتُ الكِتَابَ على نُسْخَتِهِ الوَحِيدَةِ المُصَوَّرَةِ مِنَ الخِزَانةِ العَامَّةِ بالرِّبَاطِ، ثُمَّ قَابَلْتُ المنْسُوخَ على هَذِه المَخْطُوطَةِ، وعَلَى الأَوْرَاقِ المُتَبَقِّيَةِ مِنْ قِطَعَةِ مَكْتَبةِ القَيْرَوانِ العَتِيقَةِ. 2 - كَتَبْتُ الكَلَمَاتِ بِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عليهِ اليومَ مِنْ صُوَرَ الإمْلَاءِ، وحَرَصْتُ على تَرْبيبِ فِقْرَاتِ النَّصِّ، وضَبْطِهِ بالشَّكْلِ التَّامِّ، وعُنِيتُ بِعَلَامَاتِ الفَوَاصِلِ، وعَلاَمَاتِ الإسْتِفْهَامِ، وغَيْرِ ذَلِكَ بِمَا يَزِيدُ النَّصَّ وُضُوحَاً. 3 - نَبَّهْتُ على مَا وَقَعَ في الأَصْلِ المَخْطُوطِ مِنْ تَصْحِيفٍ وسَقْطٍ، وتَرْمِيمُ ما مُحِيَ مِنْ كَلِمَاتٍ في بَعْضِ المَوَاضِعِ، وذَلِكَ بالرُّجُوعِ إلى المَصَادِرِ المُخْتَلِفَةِ، مَعَ التَّعَوُّدِ علَى تَعْبِيرِ المُؤَلِّفِ وأُسْلُوبهِ، وَمُرَاعَاةِ مَا يَتَنالسَبُ مَعَ سِيَاقِ الكَلاَمِ، وَوَضَعْتُ مَا صَوَّبْتُهُ بينَ مَعْقُوفَتَيْنِ. 4 - عَارَضْتُ مَا فِي الكِتَابِ مِنْ أَقْوَالٍ ونُصُوصٍ بِمَا فِي الكُتُبِ الأُخْرَى،

ورَجَعْتُ إلى كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ والحَدِيثِ، وبالأَخَصِّ كُتُبِ المَذْهَبِ المَالِكِيِّ، لِلْتَحَقُّقِ مِنَ النَّصِّ، وتَوْثيقِ النُّصُوصِ. 5 - أَغنيتُ النَّصَّ بالإسْتِدْرَاكَاتِ اللَازِمَةِ مِنْ عَزْوِ الآيَاتِ إلى مَوْضِعَهَا في المُصْحَفِ الكَرِيمِ، وتَخْرِيجِ الأَحَادِيِث والآثارِ والأَقْوَالِ، وتَفْسِيرِ الأَلْفَاظِ الغَرِيبةِ، وكِتَابةِ التَّعْلِيقَاتِ المُفِيدَةِ، ومَرَاعَاةُ الإيْجَازِ في ذَلِكَ كُلِّهِ. 6 - عَرَّفْتُ بالأَعْلَامِ المُشْكِلِينَ والمُهْمَلِينَ بِمَا يَكْشِفَ عَنْهُم ويُوضِّحُهُم. 7 - أَبْدَلْتُ حَرْفَ (ع) الذي وَضَعَهُ النَّاسِخُ في بَعْضِ المَوَاضِعِ اخْتِصَارًا لاسْمِ المُؤَلِّفِ، ووضعتُ كُنْيَتَهُ أو اسمَه صَرِيحًا لِكَي يَكُونَ الكِتَابُ عَلى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَقد حَصْرَتُهُ بينَ مَعْقُوفتَيْنِ. 8 - أثبتُ أَرْقَام النَّصِّ في الموطَّأ مِنْ حَدِيثٍ أَو أَثَرٍ أَو قَوْلٍ عَقِبَ النَّصِّ الوَارِدِ مَحْصُورَاً بينَ مَعْقُوفَتَيْنِ، ولَمْ أَجْعَلْهُ في الهَامِشِ، وقدْ اعْتَمَدتُ في إحَالَاتِ المُوطَّأ على الطَّبْعَةِ التِّي حَقَّقَها الأُسْتَاذُ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ مُصْطَفَى الأَعْظَمِي (¬1). 9 - وَضَعْتُ مُقَدِّمَةً تَنَاولتُ فِيهَا جَوَانِبَ تَتَعلَّقُ بالإمام أَبي المُطَرِّفِ القُنَازِعِيِّ، وكِتَابهِ: (تَفْسِيرِ المُوطَّأ). 10 - عَمَلتُ الفَهَارِسَ العِلْميَّهَ الضَّرُورِيَّةَ الكَاشِفَةَ. 11 - نَسَبتُ في فِهْرسِ الأَعْلَامِ جَمِيعَ المُهْمَلِينَ في الكِتَابِ بِمَا يُوضِّحُهم ويَزِيلُ الإشْكَالَ عنهم. * * * ¬

_ (¬1) وهذه الطبعة هي أفضل طبعات الموطأ، فقد أحسن الدكتور -جزاه الله خيرًا- في جمع النسخ المعتمدة من الموطأ وفي المقابلة بينها، ثم في ضبط النص وترقيمه، وتوج عمله بعد ذلك بالفهارس الكاشفة.

وبعد: فَهَذا هُوَ (تَفْسِيرُ المُوطَّأ) للإمامِ أَبِي المُطَرِّفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَرْوانَ القُنَازِعيِّ أُقَدِّمُهُ بينَ يَدَي أَهْلِ العِلْمِ بعدَ أَنْ خَدَمْتُهُ بالضَّبْطِ والتَّحْقِيقِ والتَّعْلِيقِ، هَذا الكِتَابُ الذي طَالَما تَشَوَّفَ كَثيرٌ مِنَ البَاحِثينَ إلى ظُهُورِه. والحَمْدُ للهِ الذي وَفَّقَنِي إلى ذَلِكَ، وهذا مَبْلَغُ عِلْمِي، وغَايةُ جُهْدِي، فإنْ حَالَفَنِي التَّوْفِيقُ فَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ تَعَالى يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ، ولَهُ سُبْحَانهُ الحَمْدُ والشُّكْرُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وإنْ أَخْفَقْتُ فأسْتِغْفِرُ اللهَ تعاَلى وأتوبُ إليه، وعُذْرِي أَنِّي لَمْ أَدَّخِرَ وُسْعَاً في خِدَمةِ الكِتَابِ الذي لَمْ يَصِلْ إلينا مِنْهُ سِوَى مَخْطُوطَةٍ وَحِيدَةٍ لَمْ تَسْلَمْ مِنَ النَّقْصِ والتَّحْرِيفِ والسَّقْطِ. والحمدُ لله ربِّ العَالَمِينَ، وصلَّى الله وسَلَّمَ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ، وعلَى آلهِ وصَحْبهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ. وكتب أبو الحارث عامر حسن صبري التميمي عفا الله تعالي عنه ووالديه

صور من المخطوطات المعتمدة في تَحْقِيْقِ الكِتَاب

نموذج من النسخة الأولى

نموذج من النسخة الأولى

نموذج من النسخة الثانية

نموذج من النسخة الثانية

نموذج من آخر النسخة الثانية

[الطهور للوضوء]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (¬1) [الطَّهُور للوَضُوءِ] * [قولُهُ في الهِرَّة: "إنَّها ليست بنَجَسٍ، إنما هي مِنَ الطَّوَافِينَ عليكم أو الطَّوّفاتِ" + 61، يعني]: إنما تَطُوفُ على ثِيَابِكُم، وتأوي إلى فُرُشِكُم فليستْ بِنَجِسٍ. قالَ مَالِكٌ: (إلا أنْ يُرَى في فَمِها نَجَاسةٌ فلا تَتَوضَّأُ مِمَّا شَرِبتْ منهُ) يُريدُ: إذا كَانَ المَاءُ قَلِيلًا، وحُكْمُ الهِرِّ حُكْمُ السِّبَاعِ التي أباحَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ الوُضُوءَ بِفَضْلِ ما شَرِبتْ. قالَ أبو عُمَرَ (¬2): وفي هذا الحَدِيثِ دَلِيل على وُجُوبِ رَفْعِ النَّجَاسةِ مِنَ الثِّيَابِ وغَيْرِها، لِقَوْلهِ - عليه السلام -: "إنَّها ليستْ بِنَجَسٍ" فلَو كانتْ نَجِسَةً لأنْجَسَتُه وأفْسَدتهُ، ولم يَجُزْ إسْتعمالُه في وَضوءٍ ولا في غَيْرِه. ¬

_ (¬1) سقط من أول الكتاب عدد من الأوراق، وفيها أحد عشر بابا من الموطأ، من صفحة (5)، إلى صفحة (29)، وما وضعته بين معقوفتين زيادة من الموطأ. (¬2) هو أحمد بن عبد الملك بن هاشم الإشبيلي نزيل قرطبة، الإِمام العلامة الفقيه، المعروف بابن المكوي، تُوفِّي سنة (401)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 230.

* قولُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لِصَاحبِ الحَوْضِ: (لا تُخْبِرْنا، فإنَّا نَرِدُ على السِّبَاع، وَتَرِدُ السِّبَاعُ عَلينا) [62] يقُولُ: لا تُخْبِرْنَا بِشُرِبِ السِّبَاع مِنْ حَوْضِكَ، فإنَّا نتَوضَّأ ونشرَبُ مِنْ فَضْلَتِها، وهذا يَدُلُّ على الحُكْمِ في المَاءِ لِغَلَبةِ الطَّهَارِة عليهِ. قالَ أبو المُصْعَبِ الزُّهْرِيُّ (¬1): المَاءُ عِنْدَنا على الطَّهَارِةِ، إلا أنْ يَتَغيَّرَ لَوْنُهُ، أو طَعْمُهُ، أو رَاِئِحَتُهُ مِنْ شَيءٍ نَجَسٍ حلَّ فيه إلا قَلِيلَ المَاءِ، فإنَّ النَّجَاسَةَ اليَسِيرَةَ تُفْسِدُه وإنْ لم تغيِّرْهُ. * قولُ ابنِ عُمَرَ: (إنْ كانَ الرِّجَالُ والنِّسَاءُ لَيَتَوضَّئُونَ جَمِيعَاً في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) [63]، قالَ عِيسَى (¬2): يعني أنَّ الرَّجُلَ وامْرَأتَهُ كانَا يَتَوضَّئانِ مِنْ إنَاءِ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ فيه أَيديهُما. قال أبو مُحَمَّدٍ (¬3): في هذا دَلِيلٌ على إباحَةِ الوُضُوءِ بالمَاءِ المُسْتَعَملِ الذي قد توضَّأ به، وإنما كُرِه الوُضُوءُ بالمَاءِ الذي قد توضَّأ به مِنْ أَجْلِ أنَّةُ قد أُدِّي به فَرْضٌ، كما كُرِه أنْ يُرْمَى مِنَ الجِمَارِ بما قد رُمِيَ به. وقالَ ابنُ القَاسِم (¬4): مَنْ تَوضَّأ بما قد تَوضَّا به وصَلَّى جَازَتْ صَلَاتُه إذا كانَ المُتَوضِّيءُ به أوَّلًا طَاهِرَ الأعْضَاءِ وإلَّا فلا يتوضَّاُ به. * قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -في ثَوْبِ المَرْأةِ: "يُطَهِّرُهُ ما بَعْدَهُ" [65]، يُرِيدُ: إذا جَرَّتْ ثَوْبَها على نَجَاسةٍ يَابِسَةٍ ثُمَّ جَرَّتهُ بعد ذلك على تُرَابٍ طَاهِبر فقد أَزَالَ عَنْ ثَوْبِها ما كَانَ ¬

_ (¬1) هو أحمد بن أبي بكر بن الحارث القُرَشي الزُّهري، أحد من روى عن الإِمام مالك، وكان فقيها محدثا ثقة، تُوفِّي سنة (242)، وروى عنه البخاري ومسلم وغيرهما. (¬2) هو عيسى بن دينار بن واقد، أبو محمد الغَافِقي القُرْطبي القاضي، الإِمام الفقيه المفتي الزاهد، صحب عبد الرحمن بن القاسم، وتخرَّج به، وله مصنّفات، تُوفِّي سنة (212)، ينظر: سير أعلام النبلاء 10/ 439، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 902. (¬3) هو عبد الله بن عثمان الأسدي القرطبي، المحدث الفقيه الثقة، ولد سنة (283)، والمتوفى سنة (364)، ينظر: تاريخ علماء الأندلس لإبن الفرضي 1/ 232. (¬4) هو عبد الرحمن بن القاسم المصري، الإِمام العلامة الفقيه، صحب الإِمام مالك وغيره، وتوفي سنة (191)، ينظر: السير 9/ 120.

قد تعلَّقَ بهِ مِنَ النَّجَاسةِ اليَابِسَةِ، وأما إذا جَرَّتهُ على نَجَاسةٍ رَطْبَةٍ لم يُزِلْهَا إلا الغُسْلُ بالمَاءِ. قالَ ابنُ القَاسِم: القَلَسُ شَيءٌ يَخْرُجُ مِنَ الحَلْقِ مِثلُ القَيءِ، رُبَّما كانَ مَاءً، ورُبَّما كانَ طَعَامًا، فمنْ أَصَابَهُ ذلكَ في صَلَاتهِ فإنْ كانَ مَاءً تَمَادَى فيها ولا شَيءَ عليهِ، وإنْ كانَ طَعَامًا يَسِيرًا تَمَادَى فيها ولا شَيءَ عليهِ، وإنْ كانَ كَثيرًا قَطَعَ صَلَاتَهُ وتَمَضْمَضَ بالمَاءِ وابتدأَ صَلَاتهِ. * تَرْكُ ابنِ عُمَرَ حينَ غَسَّلَ ابنَ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ [68]، وتَرْكُه الوُضُوءَ والغُسْلَ دَلِيلٌ على أنْ لَا وُضُوءَ ولا غُسْلٌ على مَنْ غَسَّلَ مَيِّتَاً. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: أجمعَ أهلُ المَدِينةِ على أنَّ لا وُضُوءَ على مَنْ أَكَلَ طَعَامًا قد مسَّتُهُ النَّارُ، فسَأَلتُهُ عَنْ حَديثِ الأَغَرِّ عَنْ أبي هُرَيرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تَوضَّؤوا مما غَيَّرتُه النَّارُ" (¬1) فقالَ لي: هو حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، والعَمَلُ في هذا على فِعْلِ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وعلي وغيرِهم مِنَ الصَّحَابةِ الذينَ كَانُوا لا يَتَوضَّئُونَ مما مَسَّتُه النَّارُ. * قال أبو المُطَرِّف: روَى جَابِرُ بنُ عبدِ الله قالَ: "كانَ آخِرُ الأمْرَينِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الوُضُوءِ مما مَسَّتُه النَّارُ" (¬2). * وفي حَدِيثِ سُويدِ بنِ النُّعْمَانِ [72]، مِنَ الفِقْه: نَظَرُ إمامِ الجَيْشِ لأهلِ العَسْكَرِ عندَ قِلَّةِ الزَّادِ فتُجْمَعُ أَزْوِدَتُهم لكي يَقُوتَ منها مَنْ لا زَادَ معهُ، كما فعلَ النبيُّ - عليه السلام -. وقالَ بعضُ الفُقَهاءِ: هذا الحديثُ يُوجِبُ إخْرَاجَ الطَّعَامِ مِنْ مَخَازِنِ المُحْتكِرينَ إذا قَلَّ في الأسْوَاقِ فَيَبِيعُونهُ مِنْ أهلِ الحَاجَةِ [لعُسْرِ] (¬3) ذلك اليومِ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (194)، وأحمد 2/ 458، وابن حبان (1148). (¬2) رواه أبو داود (192)، والنسائي 1/ 108، وابن حبان (1134)، والبيهقي 1/ 155. (¬3) في الأصل: بعسر، وما وضعته هو الذي يتوافق مع السياق. (¬4) ذكره ابن حجر في الفتح 1 (1/ 312) نقلا عن المهلب.

* وقوله في السَّوِيقِ: "فأَمَرَ بهِ فَثُرِّيَ" [72]، يعني: بُلَّ بالمَاءِ، لِيَكُونَ أَسْهَلَ لأَكْلِه وشُرْبِه، وفي هذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْه: مَضْمَضَةُ الفَمِ عندَ أَكْلِ الطَّعَامِ، وهو مِنْ بابِ النَّظَافةِ، وفيه تَرْكُ الوُضُوءِ مما مَسَّتِ النَّارُ. * قالَ أبو المُطَرِّف: إنما أَدْخَلَ مَالِكٌ قَوْلَةَ أنسٍ: (لَيْتَنِي لمْ أَفْعَلْ) [79]، رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قالَ: إنَّ أَنَسَ مَاتَ على الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وقِيلَ: إنما أَدْخَلَ مَالِكٌ هذه القِضَةَ مِنْ أَجْلِ إنْكَارِ أبي طَلْحَةَ وأُبَيٍّ على أَنسً وُضُوءَهُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ. وفي هذا الحَدِيثِ دَلِيلٌ على أَنَّ أَعْمَالَ أَهْلِ المَدِينةِ حُجَّةٌ على مَنْ خَالَفَهُم مِنْ أَهْلِ الآفاقِ، ولِذَلِكَ قالَ أُبَيٌّ وأبو طَلْحَةَ لأنسٍ: (أَعِرَاقيَّةٌ؟) [79]، يعني: جِئْتنا مِنَ العِرَاقِ بِما ليسَ عليه العَمَلُ بالمَدِينَةِ، فقالَ: (لَيْتَنِي لمْ أَفْعَلْ)، فأقرَّ أنَّ عَمَلَ أهلِ المَدِينةِ حُجَّةٌ على مَنْ خَالَفَهُم. وفي هذه القِصَّةِ مِنَ الفِقْه: زيارةُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، وإكْرَامُ الرَّجُلِ مَنْ زَارَهُ بِطَعَامِه، وإنْكَارُ الفُقَهاءِ ما لا يُعْرَفْ مَعْمُولا به في المَدِينةِ، واعْتِرَافُ الرَّجُلِ بِخَطَئِه.

باب جامع الوضوء، إلى آخر باب المسح على الخفين والإستطابة

بابُ جَامِعِ الوُضُوءِ، إلى آخرِ بابِ المَسْحِ على الخُفَّيْنِ والإسْتِطَابةِ * قال أحمدُ بنُ خَالِدٍ: أَسْنَدَ ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ حَدِيثَهُ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الاسْتِطَابةِ، فقالَ: "أَوَلا يَجِدُ أَحَدُكُم ثلاثَةَ أَحْجَارٍ" (¬1)، قالَ ابنُ خَالِدٍ: وهُو غَلَطٌ لم يَرْوِه أَحَدٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبيهِ، وروَى أبو صَالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بثلَاثةِ أَحْجَارٍ، ونَهَى عَنِ الرَّوْثةِ والرِّمَّةِ" (¬2)، يعني: نَهَى أنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثةٍ أو عَظْمٍ، لأنَّهُما طَعَامُ المُسْلِمينَ مِنَ الجِنِّ، لِئَلأ يُقَذِّرَ عليهِم بنو آدمَ طَعَامَهُم. قالَ ابنُ خَالدٍ: ورَوى ابنُ أَبي حَازِمٍ، عَنْ مُسْلِمِ بنِ [قُرْطٍ] (¬3) قالَ: كُنْتُ معَ عُرْوَةَ فَخَرجَ مِنَ الغَائِطِ فأتيتُه بإدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوضَّأ بها، ثُمَّ قالَ: قَاتَلَ اللهُ الشَّيْطَانَ، حدَّثتني عَائِشةُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا خَرَجَ أَحَدُكُم إلى الغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ معهُ بِثَلَاثةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبَ بها، فإنها سَتكْفِيه" (¬4)، وقد تَوضَّأ بإدَاوةٍ مِنْ مَاءٍ وهُو يقُولُ لي: إنَّكَ لم تُطَهِّرْهُ. ¬

_ (¬1) رواه يحيى عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا (81)، ولم أجده في رواية ابن القاسم بتلخيص القابسي المطبوعة. (¬2) رواه أبو داود (8)، والنسائي 1/ 38، وابن ماجه (313)، وأحمد 2/ 247، من طريق أبي صالح ذكوان السمان به. (¬3) في الأصل: قرة، وهو خطا. (¬4) رواه أبو داود (40)، والنسائي 1/ 41.

قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: وهذا هُو المَعْرُوفُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوةَ عنْ عَائِشَةَ، وليسَ بثابِتٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوةَ عَنْ أَبي هُرَيْرةَ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: معنى الإسْتِطَابةِ يعني: النَّظَافةَ والتَّمَسُّحَ بالأَحْجَارِ عندَ الحَدَثِ، ومنهُ يُقَالُ: رَجُل مُطِيْبٌ إذا اسْتَنْجَى عندَ الحَدَثِ. * قولُ النبيِّ - عليه السلام - لأهلِ القُبُورِ: "السَّلامُ عليكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمنينَ" وذَكَرَ الحَدِيثَ [82]، فيه من الفِقه: إباحةُ زِيَارةِ القُبُورِ، والسَّلامُ على المَوْتى. وقالَ بَعْضُهم: في هذا الحَدِيثِ دَلِيلٌ على أنَّ أَرْوَاحَ المَوْتَى على أَقْبيَةِ القُبُورِ، وأَنْكَرَ هذا القَوْلَ بعضُ شُيُوخِنا، وقالَ: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "إنما نَسَمَةُ المُؤْمِنِ مِنْ طَيْرٍ يُعْلَقُ في شَجَرةِ الجَنَّةِ حتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إلى جَسَدِه يومَ القِيَامةِ" (¬1). وسُئِلَ يحيَي بنُ يحيَى عَنْ مُسْتَقَرِّ الأَرْوَاحِ أينَ هي؟ قالَ للسَّائِل: أينَ كانتْ قبلَ أنْ تَكْمُنَ في الأَجْسَادِ، وقالَ لَهُ: كانتْ في عِلْمِ اللهِ، قالَ له يحيَى: وكَذَلِكَ هي بعدَ خُرُوجِها مِنَ الأَجْسَادِ في عِلْمِ اللهِ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: معنى قولهِ في هذا الحَدِيثِ: "إنا إنْ شاءَ اللهُ بكُم لاحِقُونَ" [82]، يعني: لا نُبَدِّلُ ما تَرَكْتُمونَا عليهِ، ونَمُوتُ على مَا مِتُّم عليهَ إنْ شاءَ اللهُ، والاسْتثنَاءُ مِنَ الأمرِ الوَاجِب مَعْرُوفٌ عندَ العَرَبِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27]، فأَوْجَبَ لَهُم دُخُولَهُ، لقوله: {لَتَدْخُلُنَّ} ثُمَّ اسْتَثْنَى في ذلكَ، فقال {إِنْ شَاءَ اللَّهُ}. * وقولُه: "وَدِدْتُ أَنِّي قد رأَيْتُ إخْوَانَنا" [82] تَمنَّى أنْ يَرَى أُمَّتَهُ في الجنَّةِ، ¬

_ (¬1) رواه مالك (820) عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب الأنصاري عن أبيه به، ورواه من طريقه: النسائي 4/ 108، وابن ماجه (4271)، وأحمد 3/ 455. والنَّسَمة -بفتح النون والسين- والمراد بها هنا الروح. وقوله: (يعلق في شجر الجنة) يروى بفتح اللام، وهو الأكثر، ويروى بضم اللام، والمعنى واحد، وهو الأكل والرعي، يريد: نأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها، ينظر: التمهيد 11/ 58 - 59.

فاسْتَفْهَمهُ أصحابَهُ وقَالُوا: "ألسنا بإخْوَانِكَ؟ فقالَ: بلْ أنتُم أَصْحَابِي، وإخْوَانَنا الذين لم يأتُوا بعدُ" فدَلَّ هذا على أنَّ الأُخُوَّةَ اسمٌ عامٌّ يَدْخُلُ فيها مَنْ شَاهَدَهُ وغيرُهم مِنْ أُمَّتهِ، والصُّحبةُ اسمٌ خَاصٌّ، وهو لِمَنْ رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحْبَهُ. * وقولُه: "وأنا فَرَطُهُمْ على الحَوْضِ" يعني: أنا مُتَقدِّمُهم يومَ القِيَامَةِ إلى حَوْضِي، والفَارِطُ هو المُتَقدِّمُ إلى المَاءِ، والوَارِدُ هو الذي يَرِدُ المَاءَ بعدَ الفَارِطِ، وثبتَ بهذا الحَدِيثِ أنَّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَوْضَا يُورِدُه وأمَّتَهُ يومَ القِيَامَةِ ويَشْرَبُونَ منه، وأنَّهُ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ يومَ القِيَامَةِ بِعَلَامةِ الوُضُوءِ التي خُصُّوا بها مِنْ بينِ سَائِرِ الأممِ، وهي الغُرَّةُ والتَّحْجِيلُ، يأْتُونَ بِيضَ الوُجُؤ والأيدِي، وذكرَ ابنُ المُبَارَكِ مِنْ طَرِيقِ أبي ذَرٍّ وأبي الدَّرْدَاءِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قِيلَ له كيفَ تَعْرِفُكَ أُمَّتُكَ يومَ القِيَامةِ منْ بينَ سَائِرِ الأُمَمِ؟ فقالَ: "هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ (¬1)، ولا يكُونُ كذلك أحدٌ غيرُهم". قالَ أبو المُطَرِّفِ: سألتُ أبا مُحَمَّدٍ عن حَدِيثِ المُسَيِّبِ بنِ وَاضِحٍ عَنْ [حَفْصِ بنِ مَيْسَرةَ] (¬2)، عَنْ [عبدِ اللهِ] (¬3) بنِ دِينَارٍ، عَن ابنِ عُمَرَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ مَرَّةً مَرَّةً، فقالَ: هذا وُضُوءُ مَنْ لا يَقْبَلُ اللهُ تَبَاركَ وتَعَالَى لهُ صَلَاةٌ إلا به، ثُمَّ توضَّأ مَرَّتينِ مَرَّتينِ، ثُمَّ قالَ: هذا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللهُ لهُ الأجرَ مرَّتينِ، ثُمَّ توضَّا ثلاثًا ثلاثًا، فقالَ: هذا وُضُوئي ووُضوءُ الأنبياءِ مِنْ قَبْلِي" (¬4). فقالَ لي ¬

_ (¬1) رواه أحمد 5/ 199، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 261، بماسنادهما إلى ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء .... إلخ. (¬2) زيادة من المصادر. (¬3) جاء في الأصل: عمرو، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. (¬4) رواه الحسن بن سفيان في الأربعين (16)، وأبو عروبة في أحاديثه (58)، والبيهقي في السنن 1/ 80، وابن عساكر في تاريخه 58/ 201، كلهم بإسنادهم إلى المسيب بن واضح به، وهو حديث لا يصح، لا يعرف إلا من حديث المسيب بن واضح، وهو ليس بالقوي.

أبو مُحَمَّدٍ: ليسَ هذا بِثَابِتٍ، والمُسَيِّبُ بنُ وَاضِحٍ ضَعِيفٌ، ليسَ يَصِحُّ عَنِ ابنِ عُمَرَ حَدِيثٌ في الوُضُوءِ، وهذه الأُمَّةُ مَخْصُوصَةٌ بالوُضُوءِ. قال أبو عُمَرَ: هذِه الأُمَّةُ مَخْصُوصةٌ بالوُضُوءِ، قالَ: ونزلَ فَرْضُ الوُضُوءِ بالمَدِينةِ، قِيلَ له: فبأيِّ شَيءٍ صَلُّوا بمكَّةَ إذ فُرِضتِ الصَّلاةُ بها؟ فقالَ: لا أدرِي، ليسَ كُلُّ شيءٍ يَبْلُغَنا (¬1). * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قولهُ "فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" [82]، على معنى الخَبَرِ، وفيهِ مَعْنَى التَّحْذِيرِ، أي لَيَحْذَرُ العَاصِي أنْ يُذَادَ عَنْ حَوْضِي بالعَمَلِ السَّيءِ، وروَى يحيى بنُ يحيى: "فَلا يُذَادَنَّ" على معنى لا يَفْعَلُ فِعْلا يُطَردُ به عَنْ حَوْضِي. * وقولُه: "ألَا هَلُمَّ، ألَا هَلُمَّ" يَدْعُو إلى حَوْضِه الذين يأتُونَ بِعَلَاماتِ الوُضُوءِ، فيُقَالُ له فيمنْ يُطْرَدُ منهُم عَنِ الحَوْضِ: "إنَّهُم قد بَدَّلُوا بَعْدَكَ"، أي غَيَّروا سُنَّتَكَ وأَحْدَثُوا، وهَؤُلاءِ أهلُ البدَع والمُحْدِثينَ في دِينِ اللهِ المُخَالِفِينَ لِما أَمَرَ اللهُ به ورَسُولُه. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وقدْ يكُونُ في غيرِ أهلِ البدَع مَنْ هُو شَرٌّ مِنْ أهلِ البِدَع، وذلكَ أنَّ أهلَ البِدَعِ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بتأويلٍ تَأؤَلُوهَ، وكانُوا بذلكَ أعذرَ مِمَّن تَقَحَّمَ في فِعْلِ الشَّيءِ بعدَ مَعْرِفتهِ بِتَقَحُّمِه (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 19/ 279: معلوم عند جميع أهل السير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم، وهذا لا يجهله عالم ولا يدفعه إلا معاند ... إلخ وأشار إلى هذا المعنى أيضًا القرطبي في التفسير 5/ 233. (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد 20/ 262: كل من أحدث في الدين مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهولاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة ... وجميع أهل الزيغ والأهواء والبدع وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بهذا الخبر.

وقوله: "فَسُحْقًا فَسُحْقَاً" يعني: بُعْدَاً لِهَؤُلاءِ المَطْرُودِينَ عَنِ الحَوْضِ، غيرَ أنَّهُ لا يَخُلَّدُ في النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، لأنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "إن اللهَ يقُولُ يومَ القِيَامَةِ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُم في قَلْبِه مِثْقَالَ حَبَّهٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ فأَخْرِجُوه مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُونَ منها بإيمَانِهم فَيَدْخُلونَ الجَنَّةَ" (¬1). قالَ أبو عُمَرَ: وهذا الحديثُ يَقْضِي على مَا في حَدِيثِ العَلَاءِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ (¬2). قالَ أبو مُحَمَّدٍ: المَقَاعِدُ التي يَجْلِسُ عليها عُثْمانُ بنُ عفَّانَ كَانَتْ حِجَارَةً بِقُربِ دارِ عُثْمَانَ بنِ عفَّانَ، كانَ يَجْلِسُ عليهَا مَعَ أَصْحَابهِ، ومِنْ شَأْنِ الأئمةِ الإشْتِغَالُ بأمورِ المُسْلِمينَ، ولذلكَ رَتَّبُوا مُؤذِّنِينَ يُؤذِّنُونَهُم بأوقاتِ الصَّلَواتِ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُه في آخرِ الحَدِيثِ: "لَوْلَا آيةٌ في كِتَابِ اللهِ ما حدَّثتكم به" (¬3) [83]، يعني: لَوْلَا أنَّ تَصْدِيقَهُ في كِتَابِ اللهِ تَبَارَكَ وتعَالَى ما حَدَّثتُكم به، ثُمَّ حدَّثهُم. وتأوَّلَ مَالِكٌ في ذلك قولَ اللهِ تباركَ وتعَالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] يعني: {طرفي النهار} صَلَاةً الصُّبْحِ والظُّهرِ والعَصْرِ، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} المَغْرِبَ والعِشَاءَ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وروى ابنُ بُكَيْرٍ: (لَوْلَا آيةٌ في كِتَابِ اللهِ عزَّ وَجَل ما حدَّثْتكُم به) (¬4)، يعني قولَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلي آخرِ الآيةِ [البقرة: 159]، يُرِيدُ عُثْمَانُ بهذا الوَعْدُ أنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أخَذَ على العُلَماءِ ألَّا يَكْتُمُونَ العِلْمَ ما حدَّثْتكُم بهَذا، لِئَلَّا يَتكِّلُوا عليهِ، وَيدَعُوا الأعْمَالَ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (22)، ومسلم (184) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) يعني حديث مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة (82). (¬3) في الموطأ (83): (والله لأحدثنكم حديثا، لولا أنه في كتاب الله ما حدّثتكموه)، (¬4) موطأ مالك برواية يحيى بن بكير (الورقة 8 أ)، ولفظه:: (تالله لأحدثنكم حديثا، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه).

أخبرنا أبو بَكْرِ بنُ أحمدَ بنِ خَالِدٍ (¬1)، عَنْ أبيه (¬2)، عَنِ الدَّبَرِيِّ (¬3)، عَنْ عبدِ الرَّزَاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ حُمْرَانَ، قالَ: (رَأَيْتُ عُثْمَانَ يَتَوضَّأُ، فَأَفْرَغَ على يَدَيْهِ فَغَسَلَها، ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ اليُسْرَى ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ اليُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ نحوَ وُضُوئِي هذا، ثُمَّ قالَ: مَنْ تَوضَّأَ مثلَ وُضُوئِي هذا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتْينِ لا يُحَدِّثُ فيها نَفْسَهُ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه (¬4). قال أبو المُطَرِّفِ: وهذا الحَدِيثُ أَعَمُّ ما جاءَ في الوُضُوءِ، وقد روى ابنُ عبَّاسٍ: (أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوضَّا مرَّة مرَّة) (¬5)، وفي حديثِ ابنِ زيدٍ: (أنَّهُ توضَّأ مَرَّتينِ مَرَّتَيْنِ (¬6)، وهذا كُلُّه على سَبِيلِ السَّعَةِ. وقالَ مَالِكٌ: لا أُحِبُّ للمُتوضِّئ أنْ يَقْصُرَ مِنَ اثْنتَيْنِ إذا عَمَّتا. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: حَدِيثُ الصُّنَابِحِيِّ مُفَسَّرٌ في المُوطَّأ [8]. قِيلَ لأَبي عُمَرَ: أيُّ شَيءٍ يذْهِبُ الوُضُوءُ الكَبَائِرَ أَمِ الصَّغَائِرَ؟ قالَ: لا تُذْهَبُ الكِبَائِرُ إلا التَّوْبَةُ، والإعْتِقَادُ ألَّا يَعُودَ. ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد بن خالد بن الجبَّاب القُرْطبى الفقيه، توفى سنة (363)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 992. (¬2) هو أحمد بن خالد بن الجبَّاب القُرْطُبي، الفقيه الزاهد محدث الأندلس، تُوفِّي سنة (322)، السير 15/ 240. (¬3) الدَّبَري -بفتح الدال والباء- هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد الصنعاني، راوية عبد الرزاق بن همام، كان محدثا ثقة، توفي سنة (285)، السير 13/ 416. (¬4) رواه عبد الرزاق في المصنف 1/ 44، عن معمر بن راشد به. ورواه البخاري (60)، ومسلم (227)، بإسنادهما إلى الزهري به. (¬5) رواه البخاري (157)، وأبو داود (138)، والترمذي (42)، والنسائي 1/ 62، وابن ماجه (411). (¬6) حديث عبد الله بن زيد رواه البخاري (197)، وابن حبان (1096).

وقالَ لنا مِثْلُهُ ابنُ أبي زَيْدٍ (¬1) وسُئِلَ أبو مُحَمَّدٍ عَنْ هذا، فقالَ: يَفْعَلُ اللهُ ما يَشَاءُ. * وقولُه في آخِرِ الحَدِيثِ: "ثُمَّ كانَ مَشْيُهُ إلى المَسْجِدِ وصَلَاتهُ نَافِلَةً" [85] يعني: يَتَنَفَّلَ ذَلِكَ إلى أَجْرِ الوُضُوءِ الذي تقدَّمَ له. * حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا تَوضَّأ العَبْدُ المُسْلِمُ أو المُؤْمنُ" [85] فيه مِنَ الفِقْهِ: تَحَرِّي المُحَدِّثُ لَفْظَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَنْقُلَهُ كمَا يَسْمَعُه منه، ولا يَنْقُلْهُ على المَعْنَى. وقالَ بعضُ العُلَماءِ: المُسْلِمُ والمُؤْمِنُ شَيءٌ وَاحِدٌ، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] وَهُم أَهْلُ بَيْتِ لُوطٍ، فَذَكَرَهُم اللهُ باسمِ الإيمانِ والإسْلَامِ. ومِنَ العُلَمَاءِ مَنْ قالَ: الإسلامُ هُو التَّوْحِيدُ، والإيمانُ إقَامَةُ الفَرَائِضِ وإصَابةُ السُّنَّةِ. قالَ أبو المُطَرَّفِ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإتْيَانِ إلى الصَّلَاةِ جَرْيًا، وذلكَ أنَّ الآتي إليها في صَلَاةٍ كَانَ يَعْمَدُ إليها، لِقَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمالُ بالنِّياتِ، ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى" (¬2) فَوَاجَبٌ أنْ تُؤْتَى الصَّلَاةُ بالسَّكِينةِ وَالوَقَارِ. * قَوْلُ أَنسَ بنِ مَالِكٍ: "فَرَأيتُ المَاءَ يَنْبَعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابعٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[86] قالَ أبو مُحَمَّدٍ: عُرِضَتْ هذِه القِصَّةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينةِ في نَاحِيةِ الزَّوْرَاءِ (¬3)، ولم ¬

_ (¬1) يعني أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن القيرواني، الإِمام العلامة الفقيه، صاحب الكتب المشهورة، ومنها النوادر والزيادات، توفي سنة (386)، ينظر: السير 17/ 10. (¬2) رواه البخاري (1)، ومسلم (3530). (¬3) الزوراء موضع بالمدينة غربي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سودتى المدينة، وهو ما يعرف اليوم بالمناخة، ينظر: كتاب الأماكن للحازمي ص 488.

يُسْتَبَح التَّيَمُّمُ في ذلك المَكَانِ عندَ عَدَمِهِم المَاءَ لأنَّهُم كَانُوا أهلَ حَضَير، ولم يَتَوضَّاُ مِنْ بِئْرٍ بُضَاعَةَ (¬1)، وكَانَ لا يَقْرَبُهُ مِنْ أَجْلِ نَجَاسَتِهِ، وهذا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ أَبَاحَ الوُضُوءَ بمَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، واحْتَجَّ بأن المَاءَ إذا كَانَ قُلَّتيْنِ لم يُنْجِسْهُ ما طُرِحَ فيه مِنَ النَّجَاسةِ، وكانَت النَجَاسَةُ تُطْرَحُ في بِئْرِ بُضَاعَةِ. ونَبع المَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِه مِنْ عَلَامةِ نُبُوَّته، وشَاهَدَ هذِه القِصَّةَ جَمَاعةٌ مِنَ الصحَابةِ، وقالَ غَيْرُه: إنما انْفَرَد أنسٌ بِروَايَتِها لِطُولِ بَقَائِه بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولِطَلَبِ العُلوِّ في سَنَدِ الحَدِيثِ. * قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (إنما ذلكَ وُضُوءُ النِّسَاءَ) [88]، يُرِيدُ أنَّ الرِّجَالِ يَتَمَسَّحُونَ الأَحْجَارَ عندَ الحَدَثِ، وأما المَرْأةُ فَتَغْسِلُ فَرْجَها عندَ البَوْلِ، مِنْ أَجْلِ انْتِشَارِ البَوْلِ عندَ خُرُوجِه مِنْ فَرْجِها، بِخِلَافِ ذَكَرِ الرَّجُلِ. قولهُ - عليه السَّلَامُ -: "إذا شَربِ الكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُم فَلْيَغْسِلْهُ سَبع مَرَّات" [89]، قالَ ابنُ أبي زَيْدٍ: غَسْلُ الإنَاءِ في هذا الحَدِيثِ سَبْعَاً [تَعَبُّدا] (¬2)، ولَو كَانَ ذَلِكَ لِنَجَاسَتِه لأُزِيلَتْ بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ. قالَ مَالِكٌ: وقد أَبَاحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَكْلَ صَيْدِه، فَكَيْفَ يُكْرَهُ لُعَابُهُ، وإنَّما يُغْسَلُ الإنَاءُ في المَاءِ وَحْدَهُ بعدَ أنْ يُهْرَقَ ذَلِكَ المَاءُ لِخَفَّةِ مَؤُنَتِه، وللحَدِيثِ الذي جاءَ فيهِ، ولا يُغْسَلُ لِطَعَامٍ ولا لِشَرَابٍ وَلَغَ فيهِ، ويُؤكَلُ ذلكَ الطَّعَامُ، وُيشْرَبُ ذَلِكَ الشَرَابُ الذي يَلِغُ فيهِ الكَلْبُ. وقالَ ابنُ حَبِيبٍ (¬3): يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ وُيشْرَبُ ذَلِكَ الشَّرَابُ، ثُمَّ يُغْسَلُ بعدَ ذَلِكَ الإنَاءِ. ¬

_ (¬1) بُضاعة -بضم الأَوَّل وقد يكسر- وهي بئر كان معروفا إلى عهد قريب بالقرب من سقيفة بني ساعدة في المدينة، وقد دخل في التوسعة الجديدة للمسجد النبوي، ينظر: المعالم الأثيرة ص 49. (¬2) في الأصل: بعيد، وهو خطأ. (¬3) هو عبد الملك بن حبيب السُلمي الأندلسي الإِمام المحدث الفقيه، صاحب المصنفات، =

وقالَ بعضُ شُيوخِنا: لمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينةَ كانتْ كِلَابُ الأنْصَارِ تُؤْذِيهم، فَشَكَوا ذَلِكَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَهَى عَن اقْتِنَاءِ الكِلَابِ، ثُمَّ شَدَّد في ذَلِكَ، فقالَ: "إذا شَرِبَ الكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُم فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ". * قالَ أبو المُطَرِّفِ: ورَوَى سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "استَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا"، وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ (¬1)، وهذا الحَدِيثُ في المُوطَّأ بَلَاغٌ [90]. قالَ عِيسَى: يقُولُ اجْتَهِدُوا في العَمَلِ ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَسْتَقِيمُوا في كُلِّ مَا أُمِرْتُم أَنْ تَسْتَقِيمُوا فيه، ولنْ يَنْجُو مِنَ الخَطَايَا ولا يَصْبِرَ على الوُضوءِ في شِدَّةِ البَرْدِ وحَالَةِ الشُّغْلِ إلا مُؤْمِنٌ. * وإنما نَهَى جَابِرٌ عَنِ المَسْحِ على العَمَامَةِ [93]، لأن اللهَ تَبَاركَ وتَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الرَّأسِ في الوُضُوءِ، وما رَوَى في ذَلِكَ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يحيى بنِ أَبي كَثِيرٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسَحَ على عِمَامَتِه" فَحَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ (¬2)، وتَرْكُ الصَّحَابةِ له يَدُلُّ على ضَعْفِه (¬3)، والثَّابِتُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ مَسَحَ شَعْرَ رَأْسِه كُلِّه في الوُضُوءِ. قال عِيسى: كانَ ابنُ عُمَرَ يَقْبِضُ أصَاجَ يَدَيْهِ كُلِّها ويَمُدُّ أُصْبُعَيْه اللَّتيْنِ تَلِيَانِ ¬

_ = ومنها الواضحة، توفي سنة (238)، ينظر: السير 12/ 102، ومقدمة كتابه (تفسير غريب الموطأ) لمحققه الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، و (دراسات في مصادر الفقه المالكي) للدكتور ميكلوش موراني. (¬1) رواه ابن ماجه (277)، بإسناده إلى سفيان الثوري به. (¬2) هذا الحديث رواه البخاري (205) من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه به، فهو إذن ليس بمضطرب كما زعم المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وينظر: فتح الباري 1/ 308. (¬3) ذكر ابن المنذر في الأوسط 1/ 468 بأن بعض الأئمة كالأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم احتجوا بأن بعض الصحابة كان يمسح على العمامة ومنهم أبو بكر وعمر، قال: ولو لم يثبت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -فيه لوجب القول به، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر) ... إلخ.

الإبْهَامِينَ، أُصْبُعا مِنْ كُل يَدٍ، ثُمَّ يَغْمِسَها في المَاءِ ويَمْسَحُ بِهِما أُذُنَيْهِ دَاخِلِهما وخَارِجِهما (¬1). قالَ مَالِكٌ: الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأسِ، ويُسْتَأنَفُ لَهُما المَاءُ، يعنِي أنَّهُما مَمَسْوُحتَانِ في الوُضُوءِ غيرُ مَغْسُولَتَيْنِ، ولا يُمْسَحَانِ بالمَاءِ الذي مُسِحَ بهِ الرَّأسُ، ومَسْحُهُما سُنَّةٌ، ومَسَحُهُما رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -في وُضُوئهِ مِنْ غيرِ حَدِيثِ مَالِكٍ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنما أَدْخَلَ مَالِكٌ في المُوطَّأ عَنْ صَفِيَّةَ: (أنَّها كَانَتْ تَنْزِعُ خِمَارَهَا وتَمْسَحُ رَأْسَها كُلَّهُ) [95]، يَرُدُّ به قَوْلَ مَنْ نَسَبَ إلى ابنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِهُ في الوُضُوءِ، وكانتْ صَفِيَّةُ أَشَدَّ النَّاسِ اقْتِدَاءً بابنِ عُمَرَ، فلَو رَأَتْهُ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِه في وُضُوئهِ مَا [نَزَعَتْ] (¬2) خِمَارَها عندَ مَسْحِ رَأْسِهَا. * وقَوْلُه في الحَدِيثِ: (ونَافِعٌ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ) [95]، يعنِي: أنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلى شَعْرِ صَفِيَّةَ لِصِغَرِ سِنِّه. وفي هذَا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْه: إبَاحَةُ أَخْذِ العِلْمِ عَمَّن رآهُ في صِغَرِه إذا حَدَّث به في كِبَرِه. قالَ ابنُ القَاسم: مَنْ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِه في وُضُوئِه وصَلَّى أَعَادَ وُضُوئَهُ وصَلَاتَهُ، لأنَّهُ نَقَصَ وُضُوئَهُ وصَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ كَامِلٍ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: روَى ابنُ مَسْلَمةَ (¬3): (مَنْ مَسَحَ ثُلُثَ رَأْسِه في وُضُوئِه وصَلَّى أنَّ صَلَاتهُ تَامَّةً) (¬4)، وأنكرَ هذه الرِّوايةَ شُيُوخُنا. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: ومَن احْتَجَّ في إجَازَةِ هذا بأن البَاءَ قد دَخَلتْ في قولهِ: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 18. (¬2) جاء في الأصل: (تمونت نزع) ولم أجد لها معنى، وما وضعته هو الموافق للسياق. (¬3) هو محمد بن مسلمة بن محمد، أبو هشام المخزومي المدني نزيل دمشق، الإِمام الفقيه الثقة، توفي سنة (210)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 12003. (¬4) نقل هذه الرواية ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات 401، والحطاب في مواهب الجليل 1/ 255.

{بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] للتَبْعِيضِ يَلْزَمُه أنْ يُتَمِّمَ بعضَ وَجْهِه إذا تَيَمَّمَ، لأن اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى قالَ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وليَجْتَزِئُ بالطَّوَافِ بِبَعْضِ البَيْتِ دُونَ بَعْضٍ، لِقَولهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا لا يَقُولُه أَحَدٌ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: وفي حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ [99]، مِنَ الفِقْهِ: التَّأهُبُ للسَّفَرِ بِلِبْسٍ غيرِ لِبْسَةِ الحَضَرِ، والمَسْحُ على الخُفَّيْنِ في السَّفَرِ إذا لَبِسَهُما المُتَوضِّئُ على طَهَارَة (¬1). ...................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................................... * * * ¬

_ (¬1) سقطت أبواب من الأصل، وفيها (24) بابا من أبواب الطهارة، و (3) أبواب من أبواب الصلاة، ما بين صفحات الموطأ 48، إلى الصفحة 102 من الجزء الأول.

[باب افتتاح الصلاة]

[بابُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ] * [مَالِكٌ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ، أنَّ أبا هُرَيْرَةَ كَانَ يُصَلِّي فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فإذا انْصَرفَ قالَ: واللهِ إني لأَشْبَهُكُم] (¬1) صَلاةً برَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[248]، قالَ أبو المُطَرِّفِ: أدْخَلَهُ مَالِكٌ على أنَّ اليَدَيْنِ تُرْفَعَانِ [في] (¬2) تَكْبيرَةِ الإحْرَامِ، خَاصَّةَ أنَّ المُصَلِّي يُكَبِّرُ كُلَّما خَفَضَ وَرَفَعَ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَاَلَ أنَ المُصَلِّي يَتْرُكُ التَّكْبِيرَ عندَ رَفْعِ رَأْسِه مِنْ بَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ فَيُكَبِّرُ في صَلَاةٍ ذاتِ أرْبَعٍ ثمَانِ عَشَرةَ تَكْبِيرَةً. عَنْ عِكْرِمةَ أنَّهُ قالَ لإبنِ عبَّاسٍ: إني صَلَّيتُ خَلْفَ شَيْخٍ بمِكَّةَ فَكَبَّرَ في صَلَاتهِ اثْنَتيْنِ وعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فقالَ لهُ ابنُ عبَّاسٍ: تِلْكَ سُنَّةُ أبي القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال أبو المُطَرِّفِ: ولهذا كانَ أبو هُرَيْرةَ يَقُولُ إذا كَبَّر في صَلَاتهِ كُلَّما خَفَضَ ورَفَعَ: (واللهِ إني لأَشْبَهُكُم صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -). * قولُ مَالِكٍ فِيمَنْ لم يُكَبِّرْ لِلإفْتِتاحِ، ولا للرِّكُوعِ في الرَّكْعةِ الأولَى وكَبَّر في الثَّانِيَةِ أنه يَبْتَدِئُ صَلَاتَهُ. [252] قال أبو مُحَمَّدٍ: روَى عنه عليُّ بنُ زِيَادٍ (¬4) أنَّهُ إنْ كبَّرَ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيةِ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفات سقط من الأصل لضياع الأوراق السابقة، وقد استدركتها من الموطأ. (¬2) ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل، وإثباته يتناسب مع السياق. (¬3) رواه البخاري (788)، وابن حبان (1765). (¬4) هو أبو الحسن التونسي الفقيه المفتي، سمع من مالك موطئه، وهو أول من أدخله إلى إفريقية، توفي سنة (183)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 850.

تَكْبيرَةً يَنْوِي بِها الإفْتِتَاحَ أنَّ صَلَاتَهُ مُجْزِيةٌ عنهُ إذا أعادَ رَكْعَةً بعدَ سَلَامِ الإمامِ، فإن لم يَنْو بِتكْبيرِه تَكْبِيرَةً يَنْوِي بها الإفْتِتَاحَ تَمَادَى معَ الإمامِ وأَعَادَ الصَّلاةَ، وذَلِكَ أنَّ الصَّلاةَ لا تجْزَئُ في قَوْلِ رَبِيعَةَ (¬1)، مِنْ أَجْلِ تَرْكِه تَكْبِيرَةَ الإفْتِتَاحِ. وقالَ ابنُ المُسَيِّبِ والزُّهْرِيُّ: تُجْزِئُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ للمَأمُومِ عَنْ تَكْبِيرَةِ الإفْتِتَاحِ إذ أَشْبَهَها (¬2). فلهذَا أَمَر مَالِكٌ مَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الإفْتِتَاحِ وَرَاءَ الإمَامِ وكَبَّرَ للرُّكُوعِ ولم يَنْوِ بِها الإحْرَامَ أنْ يَتَمَادَى مَعَ الإمامِ، ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ، لِكَي يَخْرُجَ مِنَ الاخْتِلَافِ. قالَ مَالِكٌ: وإذا نَسِي الإمامُ تَكْبيرَةَ الإحْرَامِ أَعَادَ وأَعَادَ مَنْ خَلْفَهُ وإنْ كَانُوا أَحْرَمُوا، لأنَّهم حَطُّوا مُكَبِّرينَ قبلَ إَمَامِهِم، ولَو صَلَّى بِهم غيرَ مُتَوضِّئٍ نَاسِيًا لِذَلِكَ أعادَ هُو ولم يُعِيدُوا هم (¬3). قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنما افترقَ حُكْمُ هَاتينِ المَسْأَلَتيْنِ مِنْ أَجْلِ أنَّ تَكْلِيفَ عِلْمِ حَالةِ الإمامٍ هَل هُو على طَهَارة أم لا غيرُ مُتَمَكِّنَةٍ للمَأْمُومِينَ، وتَكْبيرةُ الإحْرَامِ ليستْ تَخْفى عليهِم، فإِذا كَبَّرُوا قبلَ أنْ يَسْمَعُوا تَكْبِيرَهُ فقدْ أَفْسَدُوَا صَلَاتَهُم، لأنَّهم ائتمُّوا فيها بمنْ لا صَلَاةَ لَهُ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَرَأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالطُّورِ في المَغْرِب، وقَرَأ فِيها مَرَّة أُخْرَى بالمُرْسَلَاتِ، وقَرَأ فِيها أبو بَكْرٍ بِقِصَارِ المُفَصَّلِ، وقَرَأَ في الصُّبْحِ بالبَقَرَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ، وكانَ ابنُ عُمَرَ يَقْرَأُ بالسُّورَتَيْنِ والثَّلَاثِ في الرَّكْعَةِ الوَاحِدَةِ [257 - 260] ¬

_ (¬1) هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن، المعروف بربيعة الرَّأي، الإِمام الفقيه الثقة المتقن، توفي سنة (136)، وحديثه عند الستة. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 238، و 242. (¬3) ينظر: المدونة 1/ 64، وفيه قول مالك المتقدم المتضمن أيضًا النقل عن سعيد بن المسيب وربيعة، ثم قال: (فأنا أحب في قول سعيد أن يمضي، لأني أرجو أن يجزئ عنه، وأحب له في قول ربيعة أن يعيد احتياطا، وهذا في الذي مع الإِمام) أ. هـ وهذا المسألة اختلف فيها أهل العلم، ينظر: الأوسط 3/ 79، والتمهيد 7/ 57، والإستذكار 2/ 71.

وهذا كُلُّه على سَبيلِ السَّعَةِ، والذي مَضَى بهِ العَمَلُ وأَخَذَ به مَالِكٌ ألَّا يَزِيدَ المُصَلِّي على أُمِّ القُرْآنِ وسُورَةٍ في الأُوّليِتينِ، وعلى أُمِّ القُرْآنِ في الأُخْرَتَيْنِ، ومَنْ فَعَلَ كَفِعْلِ أَبي بَكْرٍ وابنِ عُمَرَ لمْ تَفْسُدْ بِذَلِكَ صَلَاتُهُ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنما قَرأَ أَبو بَكْرٍ في الرَّكْعَةِ الثالِثَةِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ...} [آل عمران: 8] الآيةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَامَ مَقَامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كَانَ يَأْتِيه الوَحِيُّ مِنَ الله تَبَاركَ وتَعَالَى في كُلِّ ما عُرِضَ لَهُ، فسألَ أبو بَكْرٍ رَبَّهُ أن لا يُزِغْ قَلْبَهُ عَنِ الإسْلَامِ بعدَ إذ هَدَاهُ إليه اللهُ، وأنْ يُعِينَهُ على ما وَلَّاهُ إيَّاهُ، ولم يَرَهُ مَالِكٌ للنَّاسِ أنْ يَلْتَزِمُوا هذَا في صَلَاةِ المَغْرِبِ فَيَجْعَلُونَهُ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ، إذ لم يَفْعَلْهُ النبيُّ (¬1). قالَ أبو المُطَرِّفِ: وروَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ بأن عُمَرَ (¬2) صلَّى المَغْرِبَ فلمْ يَقْرأْ فيها، فَذُكِرَ ذَلِكَ له، قالَ: فَكَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ والسُّجُودُ؟ قِيلَ حَسَنٌ، فقالَ: لا بَأْسَ (¬3). قالَ مَالِكٌ: وَليسَ على هذا العَمَلُ، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: (كُلُّ صَلَاةٍ لم يُقْرأْ ¬

_ (¬1) وقال ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 86: إنما هو ضرب من القنوت والدعاء، لما كان فيه من أمر أهل الردّة. (¬2) جاء في الأصل: (ابن عمر) وهذا خطأ فيما أرى، والصواب (عمر) كما سيأتي في نهاية الأثر. (¬3) لم أجده في موطأ ابن بكير في باب القراءة في المغرب (الورقة 14 أ) ولعله جاء في موضع آخر قد خفي علي، أو سقط من النسخة التي بين يديّ، وهي المصورة من مكتبة أحمد الثالث باستنبول. ورواه البيهقي في السنن 2/ 347، و 381، بإسناده إلى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عمر بن الخطاب كان يصلي ... إلخ، ورواه عبد الرزاق 2/ 122، وابن أبي شيبة 1/ 396، بإسنادهما إلى التيمي به، وقال ابن عبد البر في التمهيد 20/ 193: هذا حديث منكر منقطع الإسناد .... وقد روي عن عمر من وجوه متصلة أنه أعاد تلك الصلاة ... إلخ.

فيها بأُمِّ القُرْآنِ فَهِي خِدَاجٌ) (¬1)، وقد رُوِي عَنْ عُمَرَ أنه أَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ. * قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: إنما قَرأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -في العِشَاءِ بالتِّينِ والزَّيْتُونِ [261]، مِنْ أجْلِ أنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، وحَالةُ السَّفَرِ حَالةُ شُغْلٍ، فَلِذَلِكَ خَفَّفَ القِرَاءَةَ، ولِيُوسِّعَ بذلكَ على النَّاسِ. قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ في لُبْسِ القَسِيِّ، فقِيلَ فيه: عَن إبْرَاهِيمَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حُنَيْنن، عَنْ علي عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * وقالَ ابنُ بُكَيْرٍ ويَحْيىَ بنُ يَحْيىَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أبيه، عَنْ عليٍّ [262] (¬2). ورَوَاهُ القَطَّانُ (¬3) عَن ابنِ عَجْلَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ عبدِ اللهِ بن حُنَيْنٍ، عَنِ ابنِ عبَّاس، عَنْ عليٍّ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ لُبْسِ القَسِيِّ، وعَنْ تَخَتَّمِ الذَّهَبِ، وعَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ في الرُّكُوعِ"، فَزَادَ ابنُ عَجْلَانَ في سَنَدِ هذا الحَدِيثِ ابنَ عبَّاسٍ. وقالَ أبو مُحَمَّدٍ: هذا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: القَسِيُّ ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ، تُعْمَلُ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ يُقَالُ لها قَسِيّ، فَنُسِبتْ تلكَ الثِّيَابُ إليها، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِذُكُورِ أُمَّتِه لِبَاسَها، كَما كَرِه لَهُم التَّخَتُّمَ بالدَّهَبِ، وقد ثبتَ عنه أنه قالَ في الحَرِيرِ والذَّهَبِ: "هُمَا مُحَرَّمانِ على ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإنَاثِها" (¬4)، يعني في اللِّبَاسِ، فَمَنْ صلَّى مِنْهُم بِثَوْبِ حَرِيرٍ، أو خَاتَمِ ذَهَبٍ أعادَ صَلَاتَهُ في الوُقْتِ. قال أبو المُطَرِّفِ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ في الرُّكُوعِ، وأَبَاحَ فيهِ التَّسْبِيحَ والتَّعْظِيمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ولَيْسَ في طُولِ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ حَدٌّ، وأَقَلُّ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) سيأتي ذكره بعد قليل. (¬2) موطأ يحيى بن بكير الورقة (14 ب). (¬3) هو يحيى بن سعيد بن فرّوخ القطان، الإِمام الناقد المشهور. (¬4) رواه أبو داود (4057)، والنسائي 8/ 160، وابن ماجه (3595)، من حديث علي - رضي الله عنه -.

أنْ يَسْتَوِي ظَهْرُ الرَّاكِعِ إذا وَضَعَ يَدَيْهِ على رُكْبَتيْه، وأنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ وأَنْفَهُ على الأَرْضِ في سُجُودِه، ويُسَبِّحَ اللهَ ويُعَظِّمَهُ. * وقولُه - صلى الله عليه وسلم -في حَدِيثِ البَيَاضِيِّ: "ولا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ بالقُرْآنِ" [264] فيه مِنَ الفِقْه: تَرْكُ المُؤْمِنِ لأَخِيه المُؤْمِنِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ في صَلَاتِه، لِئَلَّا يَخْلِطَ عليهِ قِرَاءَتَهُ وصَلَاتَهُ بِرَفْعِ صَوْته، فإذا مُنِعَ مِنْ هذِه الحَالَةِ التي يَتَقرَّبُ بها إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقِرَاءةِ القُرْآنِ أليسَ هُو أَشَدُ منها في غير ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِي به أَخَاهُ المُسْلِمَ كأخْذِ عِرْضِه، واقْتِطَاعِ مَالِه,. ولم يَذْكُرْ مَالِكٌ اسْمَ البَيَاضِيِّ الذي رَوى هذا الحَدِيثَ، وقِيل اسْمُه عبدُ اللهِ بنُ غَنَّامٍ البَيَاضِيُّ، وبَنُو بَيَاضَةَ فَخِذٌ مِنَ الأَنْصَارِ (¬1). * قولُ أَنَسٍ: (قُمْتُ ورَاءَ أَبي بكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ فَكُلُّهُم كَانَ لا يَقَرْأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذا افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ) [265]،، وهَذا مَوْقُوفٌ في المُوطَّأ لَيْسَ فيه ذِكْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورَوَاهُ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ قَتَادةَ، عن أنسٍ: (أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأَبا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ القِرَاءةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فَذَكَرهُ ابنُ عُيَيْنَةَ مُسْنَدًا (¬2). وهذا أَصْلٌ في أنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليستْ مِنْ أُمِّ القُرْآنِ كَما قالَ بَعْضُهُم، ويَرُدُّ أيضًا هذا الحَدِيثُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَنْ لم يَقْرَأْ في صَلَاتِه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مَعَ أُمِّ القُرْآنِ فَقَدْ بَطُلَتْ صَلَاتُهُ، ويَلْزَمُ مَنْ قالَ بهذَا أَنْ يُبْطِلَ صَلَاةَ هَؤُلاءِ الأَئمةِ الذينَ كَانُوا لا يَقْرَؤُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذا افْتَتَحُوا الصَّلاةَ، وقدْ روَى أبو بَكْرِ بنُ أَبي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ [ابن] (¬3) عبدِ اللهِ بنِ ¬

_ (¬1) ينظر: الإصابة 4/ 207. (¬2) رواه النسائي 2/ 133، وابن ماجه (813)، وأحمد 3/ 111، بإسنادهم إلى سفيان بن عيينة به. وله طرق أخرى روى بعضها البخاري وغيره، ينظر: المسند الجامع 1/ 287. (¬3) زيادة يتقضيها السياق، وبما جاء في مصادر تخريج الحديث.

مُغَفَّلٍ: (أنَّ أبَاهُ سَمِعَهُ يَقْرأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الصَّلَاةِ مَعَ أُمِّ القُرْآنِ، فقالَ لَه: يا بُنَيَّ، إيَّاكَ والحَدَثَ، فإني صَلَّيتُ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومَعَ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ فلمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُم يَقُولُه، فإذا كَبَّرتَ فَقُل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1). قالَ أبو المُطَرِّفِ: رُويَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيةٌ مِنَ القُرْآنِ، واخْتُلِفَ عنهُ في ذَلِكَ، فَرَوى حَجَّاجٌ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيةٌ مِنَ القُرْآنِ (¬2)، وهذا هُو الصَّحِيحُ، وذَلِكَ قَوْلُه تبارَكَ وتَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] وهَهُنا رَأْسُ الآيةِ. * قالَ عِيسى: البَلَاطُ الذي كَانَتْ تُسْمَعُ قِرَاءةُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عندَ خَاتِمَتِه هُو طَرِيقٌ مُرْصَفٌ، آخِرُه في طَرَفِ السُّوقِ، وأَوَّلُه عندَ مَسْجِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[266]. وعلى الإمَامِ أنْ يُعْلِنَ بِقِرَاءَتِه في صَلَاةِ الجَهْرِ، وكانَ عُمَرُ جَهِيرَ الصَّوْتِ. * أخذَ مَالِكٌ بِفِعْلِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ إذا فَاتَهُ شَيءٌ مِنْ صَلَاةِ الإمَامِ يَقْضِي مَا فَاتَهُ بأُمِّ القُرآنِ وسُورَةٍ ويَجْهَرُ [276]. قالَ مَالِكٌ: وما أَدْرَكَ الرَّجُلُ مَعَ الإمَامِ مِنْ صَلَاتهِ هُو أَوَّلُ صَلَاتهِ، إلا أنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاتهِ بأُمِّ القُرْآنِ وسُورَةٍ، فَالقَضَاءُ بأُمِّ القُرْآنِ وسُورَةٍ، والبنَاءُ بأُمِّ القُرْآنِ وَحْدَها. وقَوْلُ عبدِ العَزِيزِ بنِ أَبي سَلَمةَ (¬3): ما أَدْرَكَ الرَّجُلُ مَعَ الإمَامِ مِنْ صَلَاةِ الإمَامِ هُو أَوَّلُ صَلَاتهِ، ويُتُّمَها على مَا أَدْرَكَ بأُمِّ القُرْآنِ وَحْدَها. ¬

_ (¬1) رواه ابن اْبي شيبة في المصنف 1/ 410. ورواه الترمذي (244)، وابن ماجه (815)، وأحمد 4/ 85. (¬2) رواه الطبري في التفسير 14/ 57 بإسناده إلى حجاج بن محمد به. (¬3) هو الماجشون المدني، الإِمام الفقيه المحدث الثقة، من أقران مالك في العلم، توفي سنة (164)، وحديثه في الستة وغيرها.

قالَ أبو مُحَمَّدٍ: مَنْ قالَ بهَذا القَوْلِ أَسْقَطَ مِنْ صَلَاةِ الجَهْرِ سُنَّتيْنِ: إحْدَاهُما السُّورَةُ التي معَ أُمِّ القُرْآنِ، والجَهْرُ في صَلَاةِ اللَّيْلِ. * قال عِيسى: كَانَ نَافِعُ بنُ جُبَيْرٍ يَغْمِزُ [يزيدَ] (¬1) بنَ رُوَمانَ بِيَدِه لِكَي يَفْتَحَ عليهِ، إذ كانَ يَتَوقَّفُ في قِرَاءتِه وَهُو يُصَلِّي [268]. قالَ عيسى: ولا يَفْتَحُ على الإمَامِ إلا حينَ يَقِفُ، وقد قَرأَ ابنُ عُمَرَ في صَلَاةِ المَغْرِبِ بأُمِّ القُرْاَنِ ثُمَّ سكَتَ، فَفَتَحَ عليه نَافِعٌ، وقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] فَقَرأَهَا ابنُ عُمَرَ ثُمَّ رَكَعَ (¬2). * قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنما قَرأَ عُمَرُ (¬3) في صَلَاةِ الصُّبْحِ بِسُورَةِ يُوسُفَ وسُورَةِ الحَجِّ [271]، مِنْ أَجْلِ أنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ أَصْحَابِه أنَّهُم يَصْبِرُونَ على طُولِ القِيَامِ مَعَهُ في الصَّلَاةِ، ثُمَّ إنَّه حَمَلَ النَّاسَ على سُورَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ مِنَ المُفَصَّلِ على سَبِيلِ الرِّفْقِ بِهِم، ولِقَولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أَحَدُكُمْ بالنَّاسِ فَلْيُخَفِّف، فإنَّ فِيهِم السَّقِيمَ والضَّعِيفَ وذَا الحَاجَةِ" (¬4). * قالَ أبو المُطَرِّفِ: في تَرْكِ مُجَاوَبَةِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ نَادَاهُ وَهُو يُصَلِّي [275]، مِنَ الفِقْهِ: أَلَّا تُقْطَعُ الصَّلاةَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيٍّ في هذا الحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ رِوَايةِ مَالِكٍ: "مَامَنَعَكَ أنْ تُجِيبَني، أليسَ قدْ قالَ اللهُ تبَارَكَ وتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: زياد، وهو خطأ، ويزيد بن رومان مدني مولى آل الزبير بن العوام، كان ثقة فقيها، توفي سنة (130)، وروى حديثه الستة، ينظر: التهذيب 32/ 122. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 2/ 73، بإسناده إلى أشعث عن نافع به بنحوه. (¬3) جاء في الأصل: (ابن عمر) والصواب حذف (ابن)، كما جاء في الموطأ، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 180 بإسناده إلى ابن وهب عن مالك بإسناده إلى عمر، ورواه ابن أبي شيبة 1/ 353، بإسناده إلى عمر به. (¬4) رواه البخاري (703)، وأبو داود (794)، والنسائي 2/ 94، ومالك (442)، من حديث أبي هريرة.

وقالَ أُبَيٌّ: كُنْتُ أُصَلِّي، فلمْ يُعَنِّفْهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -على ذَلِكَ" (¬1). * ومَعْنَى قَوْلهِ: "لأُعَلِمَنَّكَ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللهُ في التَّوْرَاةِ، ولَا في الإنْجِيلِ، ولا في الفُرْقَانِ مِثْلَها" يعني: مَا أَنْزَلَ اللهُ في القُرْآنِ سُورَةً مُفْتَرَضَةً قِرَاءَتُها في الصَّلاَةِ غيرَ أُمِّ القُرْآنِ، ولا تَتِمُّ الصَّلاَةُ إلا بِقِراءَتِها فِيها، وَهِي سُورَةٌ قَسَمَها اللهُ بَيْنَهُ وبينَ عَبْدِه كمَا قالَ - صلى الله عليه وسلم -، وتَولَّى اللهُ تَبارَكَ وتَعَالَى عَدَّ آيَاتِها، فهذَا مَعْنَى "ما أَنْزَلَ اللهُ في القُرْآنِ مِثْلَها"ـ، والقُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وكَلاَمهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِه، ليسَ بِخَالِقٍ ولا مَخْلُوقٍ. * وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: "كيْفَ تَقْرَأْ إذا افْتَتَحْتَ الصَّلاَةَ؟ فَقَرأَ عليهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى اَخِرِها" فَفِي هذا بَيَانٌ لِتَرْكِ التَّوْجيه في الصَّلاَةِ الذي قالَ فيهِ أَهْلُ الكُوفَةِ، وذَلِكَ أنَّهُم قَالُوا: يُلْزَمُ المُصَلِّي بعدَ أن يُكَبِّرَ للإحْرَامِ أنْ يَقُولَ: وَجَّهتُ وَجْهِي للذِي فَطَرَ السَّمَواتِ والأرضَ حَنِيفًا، إلى قَوْلهِ: ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، ويَبْتَدِأ القِرَاءَةَ، ولَيْسَ هَذا في حَدِيثِ أُبَيٍّ، ولا فيهِ قِرَاءةُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَبْلَ أُمِّ القُرْآنِ (¬2). وقِيلَ لأُمِّ القُرْآنِ السَّبْع المَثَانِي لأنَّها سَبْعُ آيَاتٍ تُثَنَّى في كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلاَةِ. وذَكَرَ ابنُ سَلاَمٍ (¬3) مِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ بنِ ذُؤيْبٍ أنَّهُ قالَ: لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أُمَّ القُرْآنِ، وليَقُلْ فَاتِحَةَ الكِتَابِ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2875)، والبيهقي 2/ 375. (¬2) هذا ليس رأي أهل الكوفة وإنما هو رأي الشافعية، أما أهل الكوفة ومعهم أحمد وغيره فإنهم قالوا بأن المصلي يقول في دعاء الإستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك)، أما مالك فإنه يرى بأن المصلي لا يقول شيئًا من ذلك، وإنما يكبر ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ينظر: الأوسط 3/ 85، والمدونة 1/ 193، والمغني 1/ 282. (¬3) هو يحيى بن سلام البصري نزيل إفريقيّة، الإِمام المفسر الصدوق، توفي سنة (200)، ينظر: السير 9/ 396. (¬4) لم أقف عليه في تفسير ابن أبي زمنين، وهو ملخَّص لتفسير يحيى بن سلام، والأثر ذكره =

وقالَ غَيْرُه: يُقَالَ لَهَا: أُمُّ القُرْآنِ على مَعْنَى أنَّها أَصْلُ القُرْآنِ، وأَوَّلُ ما يُقْرأُ مِنَ القُرْآنِ. * قَوْلُ جَابِرِ بنِ عبدِ الله: (مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لمْ يَقْرَأْ فِيها بأُمِّ القُرْآنِ فلمْ يُصَلِّ، إلا وَرَاءَ الامامِ) يعني: أنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ لا تُجْزِيه إذا صلَّى وَحْدَهُ، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَ إمَامٍ حَمَلَ عنهُ الإمامُ قِرَاءَتَها إذا لم يَقْرَأْهَا مَعَ الإِمام. قالَ ابنُ أبي زَيْدٍ: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ أُمِّ القُرْآنِ في رَكْعَةٍ مِنْ صَلاَتهِ وَهُو يُصَلِّي، فَمَرَّةً قالَ: يُلْغِي مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ التي تَرَكَ القِرَاءَةَ فِيها على حَدِيثِ جَابِرٍ، ثُمَّ يأْتِي بِرَكْعَةٍ وَيسْجُدَ بعدَ السَّلَامِ، ثُمَّ قالَ: أَرْجُو أنْ يُجْزِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ قبلَ السَّلَامِ، ومَا هُو عِنْدِي بالبَيِّنِ، واسْتَحَبَّ ابنُ القَاسِمِ أنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ويُعِيدُ الصَّلاَةَ احْتِيَاطًا (¬1). قالَ ابنُ المَوَّازِ (¬2): إنما اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ في هَذِه المَسْألةِ لإخْتِلاَفِ مَنْ قَبْلَهُ فِيمَنْ تَرَكَ القِرَاءَةَ في بَعْضِ صَلاَتهِ، ورُوي عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ إجازَةَ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءِةٍ، ولم تَجُزْ صَلاَتُهُ للأَعْجَمِيِّ الذي لا يَقْرَأً، فَلِهَذا أَمَرُهُ مَالِكٌ بالسُّجُودِ، وتُجْزِيه صَلاَتهُ، ثُمَّ نَظَر إلى حَدِيثِ جَابِرٍ فَأَمَرَهُ أنْ يأتِي بِرَكْعَةٍ، إذ لا تُجْزِيه تِلْكَ الرَّكْعَةُ التي لم يَقْرأْ فيها باُمِّ القُرْآنِ (¬3). ¬

_ = السيوطي في الإتقان 1/ 149، وقال: هذا حديث لا أصل له في شيء من كتب الحديث، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها. (¬1) لم أجد كلام ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات، وأما قول ابن القاسم فقد نقله سحنون في المدونة 1/ 201. (¬2) هو محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني، الإِمام الفقيه، صاحب الكتاب المشهور في الفقه، المسمى بالموازية، توفي سنة (269)، ويوجد من الموازية قطع مفرقة في المكتبة العتيقة بالقيروان، وقد أدخل الإِمام ابن أبي زيد نصوصا كثيرة منه في كتابه القيم (النوادر والزيادات) ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 981، ودراسات في مصادر الفقه المالكي ص 149. (¬3) قال ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 116: وقد روي عن مالك قول شاذ لا يعرفه أصحابه، وينكره أهل العلم به: أن الصلاة تجزئ بغير قراءة على ما روي عن عمر، =

* حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لم يَقْرَأْ فِيها بأُمِّ القُرْآنِ فَهِي خِدَاجُ غيرُ تَمَامٍ" أي هِي نَاقِصَةٌ غيرُ تَامَّةٍ. قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذا الحَدِيثِ في الإمَامِ والفَذِّ قالَ أبو السَّائِبِ لأَبي هُرَيْرَةَ: (إنِّي أَحْيَانًا أكُونُ وَرَاءَ الإمَامِ)، فقالَ لَهُ أبو هُرَيْرَةَ: (اقْرَأْ بِها في نَفْسِكَ يا فَارِسِيُّ)، يعني: تَدَبَّرَها في نَفْسِكَ إذا قَرَأَهَا الإمَامُ، وذَلِكَ أنْ تَدَبُّرَهُ إيَّاهَا في نَفْسِه إذا قَرَأهَا الإمَامُ لا يَمْنَعْهُ مِنَ الإنَصَاتِ لِقَرَاءَةِ الإمَامِ، ولا يُنَازِعْهُ بتَدَبُّرِه إيَّاهَا قِرَأتُهُ، وقدْ قالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1) {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] قالَ ابنُ المُسَيَّب (¬2): إنما ذَلِكَ في الصَّلاَةِ إذا قَرَأَ بِهَا الإمَامُ فيها وَجَهَر (¬3). قال أحمدُ (¬4): فإنْ قِيلَ قدْ رَوَى عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ قَالَ: "لَا صَلاَةَ لِمَنْ لم يَقْرأْ بأُمِّ القُرْآنِ فَصَاعِدًا"ـ (¬5) قِيلَ لِقَائِلٍ: هذا الحَدِيثُ قدْ فَسَّرَ ذَلِكَ ابنُ عُيَيْنَةَ -وَهُو الذي رُوَاهُ- قالَ: مَعْنَى هذا الحَدِيثُ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ. قالَ أَحْمَدُ: وقدْ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الإمَامَ رَاكِعًا فَرَكَعَ مَعَهُ أنَّ رَكْعَتَهُ مُجْزِيَةٌ عنهُ، وأنَّ الإمامَ قدْ حَمَلَ عنهُ قِرَاءَةَ أُمِّ القُرْآنِ، والإمامُ لا يَحْمِلُ عَنِ المَأْمُومِ فَرْضًا. فإنْ قِيلَ: قد رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أنَّهُ قالَ: "صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ العِشَاءِ فَثَقُلَتْ عليهِ القِرَاءةَ، فلمَّا انْصَرَفَ قالَ: لَعَلّكُم تَقْرَؤُنَ خَلْفَ إمَامِكُم؟ قُلْنَا: أَجَلْ، قالَ: فَلاَ تَفْعَلُوا إلا بأُمِّ القُرْآنِ، فإنَّهُ ¬

_ = وهي عن مالك رواية منكرة، والصحيح عنه خلافها وإنكارها. (¬1) جاء في هنا في الأصل:، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال الله ... إلخ " والصواب ما أثبته. (¬2) ورد في الأصل: (قال أبو هريرة روى ابن المسيب) وهو خطأ ظاهر. (¬3) رواه الطبري في التفسير 9/ 163، وابن عبد البر في التمهيد 11/ 30. (¬4) هو أحمد بن خالد ابن الجبّاب القرطبي الفقيه، تقدم التعريف به. (¬5) رواه البخاري (723)، ومسلم (393).

لا صَلاَةَ إلا بها" (¬1)، قِيلَ لِمَن احْتَجَّ بهذا الحَدِيثِ: مَكْحُولٌ الذي رَوَاهُ اضْطَربَ فيهِ، فَمَرَّةً قالَ: (العِشَاءَ)، ومَرَّةً قَالَ: (الصُّبْحَ)، ومَرَّةً أَرْسَلَهُ ولمْ يُسْنِدْهُ. وفي الحَدِيثِ الثَّابِتِ: (أنَّ النَّاسَ انْتَهُوا عَنِ القِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا جَهَر فيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالقِرَاءَةِ) (¬2)، وقدْ كَانَ عليٌّ، وابنُ مَسْعُودٍ، وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وابنُ عُمَرَ لا يَقْرَؤُنَ خَلْفَ الإمَامِ (¬3)، يُجْتَزُؤونَ بِقَرَاءَةِ الإمَامِ، [وأنَّهُ] (¬4) كَفَي بها. ولا حُجَّةَ على مَنْ زَعَمَ أنَّهُ مَنْ لم يَقْرأْ مَعَ إمَامٍ بأُمِّ القُرْآنِ فَصَلاَتُهُ [بَاطِلةٌ] (¬5)، ويَلْزَمُ مَنْ قَالَ بهذا أَنْ يُبْطِلَ صَلاَةَ هَؤُلاءِ الأئمةَ. * قَوْلُ اللهِ تبَارَكَ وتَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهي الآيةُ الرَّابِعَةُ مِنْ أُمِّ القُرْآنِ مِنَ التي قَسَمَها اللهُ بَيْنَهُ وبينَ قَارئِها, لِقَوْلهِ في الحَدِيثِ: "فهذِه بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي مَا سأَلَ" وهَكَذا تَكُونُ القِسْمَةُ صَحِيحَةً في أُمِّ القُرْآنِ بينَ اللهِ وبينَ عَبْدِه، ثلاثُ آياتٍ قَبْلَ هذِه الآيةِ وهذِه الرَّابِعَةُ، وثَلاَثُ آياتٍ بَعْدَها, لِقَوْلهِ في الحَدِيثِ: "فَهُؤلاءِ لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَألَ"، ولَو كَانَ على عَددِ مَنْ يَجْعَلُ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آيةً مِنَ القُرْآنِ لَقَالَ فَهَاتَانِ لِعَبْدِي، ولا خِلاَفَ في أَنَّ أُمَّ القُرْآنِ سَبْعَ آيَاتٍ، فَهَذا الحَدِيثُ، وحَدِيثُ أَنسَ بنِ مَالِكٍ، وحَدِيثُ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ تَشْهَدُ كُلُّها على أنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليسَ مِنْ أُمِّ القُرْآنِ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (823)، والترمذي (311)، وأحمد 5/ 316، وابن حبان (1785) و (1848). (¬2) رواه أبو داود (826)، والترمذي (312)، والنسائي 2/ 140، ومالك (286) من حديث أبي هريرة، وسيأتي بعد قليل. (¬3) ينظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 138، ومصنف ابن أبي شيبة 1/ 375، وسنن البيهقي 2/ 161. (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة ضرورية للسياق. (¬5) في الأصل: باطل، وهو خطأ ظاهر.

قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: اخْتُلِفَ في اسْمِ ابنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، فَقِيلَ: اسْمُه عَامِرٌ، وقِيلَ: اسْمُهُ عُمَارَةُ بنُ أُكَيْمَةَ (¬1)، وحَدِيثُهُ صَحِيحٌ، وبهِ قالَ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ في تَرْكِ القِرَاءَةِ خَلْفَ الإمَامِ فِيمَا جَهَرَ فيهِ الإمَامُ بالقِرَاءَةِ. قالَ عِيسى: ومَعْنَى قَوْل رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَالِي أُنَازَعُ القُرْآنَ" يُرِيدُ: إنَّكم إذا جَهَرْتُم بالقِرَاءَةِ فَقَرأْتُم مَعِي في الصَّلاَةِ نَازَعْتُمُونِي قِرَاءَتِي، إذ لا تُنْصِتُونَ لِي، قالَ: "فَانْتَهى النَّاسُ عَنِ القِرَاءةِ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيمَا جَهَرَ فيهِ بالقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلاَةِ"، وقَرأُوا مَعَهُ فِيما أَسَرَّ فيهِ مِنَ الصَّلَواتِ. * * * ¬

_ (¬1) قال محمد بن يحيى الذهلي: والمحفوظ عندنا عمار، ينظر: تهذيب الكمال 21/ 228.

باب التأمين، والجلوس في الصلاة، والتشهد فيها

باب التَّأمِينِ، والجُلُوسِ في الصَّلاةِ، والتَّشَهُّدِ فيها قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَمَّنَ الإمامُ فَأَمِّنُوا" يعني: إذا بَلَغَ مَوْضِعَ التَّأمِينِ بِقَرَاءَةِ {وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمينَ، ويُسَمَّى الإمامُ مُؤَمِّنًا لِسَببِ تَأْمِينِ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ المُصَلِّينَ لاشْتِرَاكِهِم في الدُّعَاءِ والتَّأمِينِ، كَمَا يُسَمَّى المُؤَمِّنُ دَاعِيًا مِنْ جِهَةِ تَأْمِينُه على دُعَاءِ الدَّاعِي، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] فَسَمَّى مُوسَى وهَارُونَ دَاعِيَيْنِ، فإنَّمَا كَانَ مُوسَى يَدْعُو وهَارُونُ يُؤَمِّنُ. سَألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ الزّهْرِيِّ في المُوطَّأ: "كَانَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: آمينَ" [289] , فقالَ لِي: هَذا لَفْظٌ مُخْتَلَفٌ فيهِ، والعَمَلُ في هذا على حَدِيثِ سُمَيِّ، عَنْ أبي صالح، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالَ: "إذا قالَ الإمامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمينَ، فإنَهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه" [290]. قالَ أبو جَعْفَرِ بنُ عَوْنِ اللهِ (¬1): معنى المَوَافَقةِ هَهُنا الإجَابةُ، إذا اسْتُجِيبَ للمُؤْمِنِ عندَ قَوْله (آمينَ) كَمَا يُسْتَجَابُ للمَلاَئِكَةِ غُفِرَ للمُؤِمِنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه. قالَ مَالِكٌ: إذا سَمِعَ المَأمُومُ قَوْلَ الإمَامِ {وَلَا الضَّالِّينَ} قالَ هُو آمينَ، وإذا لم يَسْمَعْهُ فَلْيَدَع ذَلِكَ، ولا يَتَحَرَّى قَدْرَ فَرَاغِه مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ لِكَي يَقُولَ آمينَ، وإنَّما يُؤَمِّنُ إذا سَمِعَ قِرَاءَةَ الإمَامِ. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن عون الله بن عبد الله بن دليم القرطبي، الإِمام الفقيه الزاهد، توفي سنة (378)، ينظر: تاريخ علماء الأندلس 1/ 54.

إنما نَهَى ابنُ عُمَرَ عليَّ بنَ عبدِ الرَّحمنِ المُعَاوِيَّ عَنِ العَبَثِ بالحَصْبَاءِ في الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لم يَكُنْ خَاشِعًا في صَلَاتهِ، وقدْ اثْنَى اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى على الخَاشِعِينَ في صَلاَتِهِم المُقْبِلِينَ عَلَيْها بِقُلُوبِهِم وجَوَارِحِهم، فقالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ في صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1] , ثُمَ عَلَّمَ ابن عُمَرَ عَلِيَّ بنَ عبدِ الرَّحمنِ كَيْفَ كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ في صَلَاتهِ، فقالَ لَه: "افْعَلْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَل في صَلَاتهِ، كان [إذا جَلَسَ في الصَّلاَةِ وَضَعَ كَفهُ اليُمْنَى على فَخِذِه اليُمْنَى، قَبَضَ أَصَابعَهُ كُلَّها، وأَشارَ بإصْبَعُه التي تَلِي الإبْهَامَ، ووَضَعَ كَفهُ اليُسْرَى على فَخَذِه اليُسْرَى، وقالَ: هَكَذا كَان يَفْعَلُ " [294] (¬1) ........ * * * ¬

_ (¬1) سقط شرح أحاديث الموطأ، من الصفحة (122)، إلى الصفحة (126) وفيها تكملة هذا الباب مع الباب الآخر وهو التشهد في الصلاة، وباب ما يفعل من رفع رأسه قبل الإِمام، بسبب ضياع ورقة أو ورقتين من الأصل

[باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا]

[باب ما يفعل مَنْ سلّمَ مِنْ رَكْعَتين سَاهِيا] * " حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرفَ مِن اثْنَتَيْنِ، فقالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ: أَقَصُرتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يا رَسُولَ اللهِ؟ " (¬1) [قالَ عيسى: قالَ ابنُ كِنَانَةَ (¬2): لا يَجُوزُ لأَحَدٍ اليَوْمَ مَا جَازَ لِمَنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - , لأن ذا اليَدَيْنِ] (¬3) ظَنَّ أنْ تَقْصِيرَهَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فاسْتَفْهَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فقالَ: "أَقَصُرتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يا رَسُولَ اللهِ؟ " وقد عَلِمَ النَّاسُ أن تَقْصِيرَها اليومَ لا يَنْزِلُ، وعلى مَنْ تَكَلَّم الإعَادةَ. قالَ عِيسى: فَقَرأْتُ على ابنِ القَاسِم قَوْلَ ابنِ كِنَانَةَ، فقالَ: ما أَدري ما هذه الحُجَّةُ، قدْ قالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ كُلُّ ذَلِكَ لم يكنْ، فَقَالُوا له قد كَانَ بعضَ ذَلِكَ يا رَسُولَ الله، فقدْ كَلَّمُوهُ بعدَ عِلْمِهم أنَّ الصَّلاَةَ لم تُقْصَرْ، ثُمَّ أتَمَّ بِهم الصَّلاَةَ وسَجَد بعدَ السَّلامِ، فهذه سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ مَعْمُولٌ بِها عندَ أَهْلِ المَدِينَةِ. سألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْ سَلَّمَ مِن اثْنَتَيْنِ سَاهِيًا ثُمَّ لم يَرْجِعْ إلى تَمَامِ صَلَاتهِ بابْتِدَاءِ إحْرَامٍ يُحْدِثُه فقدْ بَطُلَتْ صَلاَتهُ، فقالَ في: رُجُوعَهُ إلى تَمَامِ صَلَاتهِ بِنَيَّةٍ تُجْزِئُه عَنِ ابْتِدَاءِ إحْرَامٍ كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَيْسَ سَلاَمهُ مِنَ الصَّلاَةِ على وجهِ السَّهْوِ مِمَّا يُخْرِجُه منها. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ، نظرا لضياع الورقة السابقة. (¬2) هو عثمان بن عيسى بن كنانة، أبو عمرو المدني الفقيه، صحب مالكا، وكان من كبار أصحابه، ولكن غلب عليه الرأي، توفي سنة (186)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 831. (¬3) ما بين المعقوفتين من الإستذكار 2/ 179، وقد سقط من الأصل لضياع الورقة السابقة.

وقالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ: يَرْجِعُ إلى الجُلُوسِ، ثُمَّ يَقُومُ إلى تَمَامِ صَلَاتهِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: لَيْسَ في حَدِيثِ مَالِكٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَلَّمَ مِنْ سَجْدَتِي السَّهْوِ اللَّتيْنِ سَجَدَ فيها بعدَ سَلَامهِ يومَ ذِي اليَدَيْنِ، وقد سُئِلَ ابنُ سِيرِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ سَلَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ السَّجْدَتَيْنِ؟ فقالَ: لم أحْفَظْهُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، ولكنْ نُبِّئْتُ أنَّ عِمْرَانَ بنَ الحُصَيْنِ أنَّهُ قالَ: (سَجَدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ ذِي اليَدَيْنِ سَجْدَتِي السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ بعدَ ذَلِكَ) (¬1). وأخذَ مَالِكٌ بِحَدِيثِ ذِي اليَدَيْنِ في سُجُودِ السَّهْوِ بعد السَّلامِ في الزِّيَادةِ، وبِحَدِيثِ ابنِ بُحَيْنَةَ (¬2) في سَجْدَتِي السَّهْوِ قبلَ السَّلَامِ في النُقْصَانِ، وهُما حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مَعْمُولٌ بها عند أَهْلِ المَدِينةِ. وقالَ الشَّافِعِيُّ: السُّجُودُ في ذَلِكَ كُلِّه قبلَ السَّلامِ. وقالَ أبو حَنِيفَةَ: يَسْجُدُ في ذَلِكَ كُلِّه بعدَ السَّلَامِ. قالَ الأَبْهَرِيُّ (¬3): سَجْدَتِي السَّهْو قبلَ السَّلَامِ في النُّقْصَانِ يُجْبَرُ بِهِما مَا نُقِصَ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ، وهُما في الزِّيادَةِ بعدَ السَّلامِ تَرْغِيمٌ للشَّيْطَانِ، يعنِي يُغِيظَهُ؛ لأنَّهُ أُمِرَ بالسُّجُودِ فَعَصَى فَلَهُ النَّارُ، وسَجَد ابنُ آدمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَهُ الجَنَّةَ. * مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا شَكِّ أَحَدُكُم في صَلاَتِه فلمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَم أَرْبَعًا فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً، ولِيَسْجُد سَجْدَتيْنِ وَهُو جَالِسٌ قَبْلَ السَّلَامِ". قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: انْتَهَى لَفْظُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحَدِيثِ إلى قَوْلهِ: "وَهُو جَالِسٌ"، ومَا زَادَ مِنْ قَوْلهِ: "قبلَ السَّلَامِ" إلى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ عَطَاءٌ في الحَدِيثِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (482)، وأبو داود (1008). (¬2) حديث ابن بُحينة رواه مالك (320)، ورواه البخاري (795)، ومسلم (570). (¬3) هو محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر التميمي البغدادي، الإِمام العلامة الفقيه المتقين، صاحب التصانيف، توفي سنة (375)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1124.

زِيَادَةٌ مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ، ولم يأخُذْ بهِ مَالِكٌ في سَجْدَتي السَّهُوِ, لأنَّهُ خِلاَفُ مَا في حَدِيثِ ذِي اليَدَيْنِ، وذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ السُّجُودَ في الزِّيَادَةِ قبلَ السَّلَامِ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنما أَدْخَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ عَطَاءٍ هذا في بَابِ مَن شَكَّ في صَلَاتهِ فلم يَعْرِفْ الزِّيَادةِ مِنَ النُقْصَانِ أنَّهُ يَبْنِي على مَا يَسْتَيْقِنَ مِنْ ذَلِكَ وُيلْغِي الشَّكَّ ولا يَتَمَادَى عليه، ولا يَقْطَعُ صَلاَتَهُ، بِخِلاَفِ ما رُوِي عَنْ عَطَاءٍ أنَّهُ قالَ: مَنْ أَصَابَهُ مِثْلُ ذَلِكَ في صَلَاتهِ أنَّهُ يَقْطَعُهَا ويَبْتَدِأُ الصَّلاَةَ. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: وهذا هُو وَجْهُ الحَرَج؛ لأنَّهُ هَكَذا يَعْرِضُ له في الصَّلاَةِ الثَّانِيةِ والثَّالِثَةِ، ويَتَمَكَّنُ الشَّيْطَانُ بهِ، ويَخْلِطُ عليه صَلَواتِه أَبدا, ولهذا المَعْنَى أيضًا أَدْخَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ: "إذا شَكَّ أَحَدُكُم في صَلَاتهِ فَلْيَتَوخَّ (¬1) الذي يَظُنُّ أنَّهُ نَسِيهُ مِنْ صَلَاتهِ فَلْيُصَلِّه، ويَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَهُو جَالِسٌ", قالَ مِثْلُه عبدُ اللهِ بنُ عَمْرو بنِ العَاصِي، وكَعْبُ الأَحْبَارِ, وبهذا أَخذَ مَالِكٌ. * أَسْنَدَ القَعْنَبِيٌّ وابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، عَن عَلْقَمَةَ بنِ أَبي عَلْقَمَةَ، عنْ أُمِّه، عَنْ عَائِشَةَ أنَّها قالتْ: "أَهْدَى أبو جَهْمِ بنُ حُذَيْفَةَ لِرَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم - خَمِيصَةً شَامِيَّةً"، وذَكَر الحَدِيثَ (¬2)، وأَرْسَلَهُ يحيى بنُ يَحْيىَ عَنْ مَالِكٍ، ولمْ يَذْكُرْ فيه أُمَّهُ (¬3) , وكَذَلِكَ أَرْسَلَ أَيْضَا يحيى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبِسَ خَمِيصَةً لهَا عَلَمٌ" وذَكَرَ الحَدِيثَ، وأَسْنَدَهُ مَعْنُ بنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قالَ عِيسى: الخَمِيصُةُ كِسَاءٌ مِن صُوفٍ فيهِ عَلَمٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَكَرِهَهُ ¬

_ (¬1) يتوخ يعني: يتحرى. (¬2) موطأ مالك برواية القعنبي (264)، وموطأ مالك برواية ابن القاسم، تهذيب القابسي (404). (¬3) ينظر: التمهيد 20/ 108، وكتاب الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ للداني 4/ 13. (¬4) ينظر: التمهيد 22/ 314.

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَوْضِعِ الحَرِيرِ، فَرَدَّ تِلْكَ الخَمِيصَةَ إلى مُهْدِيها، وأَخَذَ مِنْهُ عِوَضُها أنْبِجَانِيَّهً، والأنْبِجَانِيَّةُ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ ولا عَلَمَ فيهِ مِنْ حَرِيرٍ. وفي هذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ إبَاحَةُ قَبُولِ الهَدِيَّةِ إذا كَانَتْ مِنْ مَكْسَب طَيِّبٍ، وفيه رَدُّ الهَدِيَّةِ للعُذْرِ، وذَلِكَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نَظَرَ إلى عَلَمِها في صَلَاتهِ شَغَلَتْهُ فَرَدَّها إلى مُهْدِيها إليه، وفي رَدِّه إيَّاها إليه تَعْلِيمٌ منهُ وتَنْبيهٌ ألاَّ يُصَلِّي الرَّجُلُ بِمِثْلِها مِنْ أَجْلِ الحَرِيرِ الذي كَانَ فِيها، وخَفَّفَ الفُقَهَاءُ العَلَمَ الرَّقِيقَ يَكُون في الثَّوْبِ يُصَلِّي به الرَّجُلُ، فإذا كانَ مِثْلَ الخَمِيصَةِ فلَا يَفْعَلَ. * قَوْلُه في حَدِيثِ أبي طَلْحَةَ: "وكَانَتِ النَّخْلُ مُطَوَّقَةً بثَمَرِهَاهـ, يعني كَانَتْ ثَمَرةَ النَّخْلِ قد أَطَافَتْ بِعَرَاجِينِها، فَصَارَتْ [لَيِّنَةً] (¬1) كالأَطْواقِ في الأَعْنَاقِ. وقولُه: "قدْ ذُلِّلَتْ" يعنِي: فَذُلِّلتْ ثَمَرَةُ تِلْكَ النَّخْلِ العَرَاجِينَ إلى الأَرْضِ وتَدَلّتْ، وحَسُنَ مَنْظَرُهَا فَشَغَلَهُ نَظَرَهُ إليهَا عَنْ صَلَاتهِ، حتَّى أنَّهُ لم يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فصَارَ ذَلِكَ فِتْنَةً افْتُتِنَ بِها فَتَصَدَّقَ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: أَدْخَلَ مَالِكٌ هذا البَابَ في المُوطَّأ لِكَرَاهِيةِ الشُّغْلِ في الصَّلاَةِ خَاصَّةً، وللمُؤلِّفِ أنْ يَخُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الحَدِيثِ إلى شَيءٍ وَاحِدٍ، يُتَرْجِمُ بهِ مَا قَصَدَ إليه مِنْ مَعْنَى الحَدِيثِ، وقد تقدَّمَ لِمَالِكٍ قبلَ هذا البَابِ البُنْيَانَ في الصَّلاَةِ على اليَقِينِ، وبِسُجُودِ السُّهْو في الزِّيَادةِ بعدَ السَّلَامِ، وفي النُّقْصَانِ قبلَ السَّلَامِ. * وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَنْسَى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ" قالَ عِيسى: يَقُولُ إني لأَنْسَى أَنا أو يُنْسِينِي رَبّي، لكَنِّي أَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ مَا نَسِيتُ عَمَلًا يَكُونُ سُنَّة لِمَنْ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، يَعْمَلُونَ بِها في صَلاَتِهِم. * قَوْلُ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ للرَّجُلِ الذي سَأَلهُ أنَّهُ يَهِمُ في الصَّلاَةِ، يَعْنِي قدْ غَلَبَ عليهِ الوَهْمُ فِيها، فقالَ لَهُ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: "امْضِ في صَلاَتِكَ، فإنَّهُ لنْ يَذْهَبَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في قراءتها.

عنْكَ حتَّى تَنْصَرِفَ وأنتَ تَقُولُ: ما أتْمَمَتُ صَلاَتِي" يَقُولُ: إنَّكَ إذا لمْ تَلْتَفِتْ إلى مَا يُوهِمُكَ بهِ الشَّيْطَانُ في صَلاَتِكَ، وأَكْثَرْتَ مُخَالَفتَكَ للشَّيْطَانِ بِتَرْكِكَ لمَّا يُوهِمُكَ بهِ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَكَ، وذَهَبتْ عنكَ وَسْوَسَتُهُ، ولهذَا قالَ مَالِكٌ فِيمن اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوِ في صَلَاتهِ (¬1): أنَّهُ لا سُجُودِ عليهِ، وإذا عُرِضَ لَهُ مِثْلُ هذه الوَسْوَسَةِ في اليَسِيرِ مِنْ صَلَاتهِ، وفِي وَقْتِ دُونَ أَوْقَاتٍ فإنَّهُ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بَعْدَهُمَالأولمْ يَكُنْ عليهِ غيرُ ذَلِكَ، نَحْو حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَيْطَانُ فَلَبَّسَ عليهِ"، إلى قَوْلِه "فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُو جَالِسٌ" فإنَّما هذا [فِيمَنْ خَافَ] (¬2) مِنَ السَّهْوِ، وإنَّما يَبْنِي على يَقِينهِ ثُمَّ يَسْجُدُ منْ [قبلَ سلاَمهِ] (¬3) في الصَّلاةِ فيأْتِي بمَا شَكَّ فيه أنَّهُ تَرَكَهُ، ويَسْجُدُ بعدَ السَّلَامِ، وأما مَنِ اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوُ وغَلَبَ عليهِ فلَا سُجُودَ عليهِ. * * * ¬

_ (¬1) ذكر ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 229 بأن مالكا وأصحابه يسمون المستنكح بكثرة الوهم فيمن يكثر عليه الوهم فلا ينفك منه. (¬2) جاء في الأصل: (فيما خف) وما وضعته هو المتوافق للسياق. (¬3) وقع في الأصل: (قل سمعوه) وليس لها معنى، ولعل ما وضعته هو المناسب.

باب مسائل الجمعة إلى آخرها

بابُ مَسَائِلِ الجُمُعَةِ إلى آخِرِها حدَّثنا [ابن] (¬1) عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا ابنُ [خُمَير] (¬2)، قالَ: حدَّثنا ابنُ مُزَيْنٍ (¬3)، عَنْ عِيسى بنِ دِينَارٍ، عَن ابنِ القَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ قالَ في حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الجُمُعَةِ، ثُمَ رَاحَ في السَّاعَةِ الأولَى فكَانَّما قَرَّبَ بَدَنَةً" إلى آخرِ الحَدِيثِ. قالَ مَالِكٌ: الذي يَقَعُ في نَفْسِي إنَّهُ إنما أُرِيدَ بهَذا الحَدِيثِ سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، يَكُونُ في هذِه السَّاعَةُ مَنْ رَاحَ أَوَّلَ تِلْكَ السَّاعَةِ إلى الجُمُعَةِ، كَانَ [كالمُهْدِي] (¬4) بَدَنَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ والرَّابِعَةَ والخَامِسَةَ. قالَ مَالِكٌ: ولَو لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا صُلِّيتِ الجُمُعَةُ حينَ يَكُونُ النَّهَارُ مِنْ تِسْعِ سَاعَاتٍ [إلا] (¬5) وَقْتِ العَصْرِ، أَو قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (أبو)، وهو خطأ، وابن عثمان عبد الله بن محمد بن عثمان، أبو محمد القرطبي، وقد تقدم ذكره، وسيأتي أيضًا. (¬2) هو سعيد بن خمير بن عبد الرحمن القرطبي، أبو عثمان، الإِمام الفقيه المتقين، توفي سنة (301)، ينظر: تاريخ علماء الأندلس 1/ 163، وجذوة المقتبس ص 230، وبغية الملتمس ص 308 (وفيه: بن حمير)، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 524، وجاء في الأصل: حميد، وهو خطأ. (¬3) هو يحيى بن إبراهيم القرطبي، الإِمام العلامة الفقيه، وهو صاحب تفسير الموطأ، وقد وقفت على قطعة منه وهي التي وصلتنا، وسأقوم إن شاء الله تعالى بتحقيقها. (¬4) في الأصل: كالمهتدي، وما وضعته هو الصحيح. (¬5) جاء في الأصل: (إلى) وما وضعته هو المتوافق مع السياق.

قال أبو المُطَرِّفِ: وَمِثْلُ مَالِكٍ يُوَجَّهُ بِحَدِيثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنُ الوُجُوهِ، وَيُتَأوَّلُ لَهُ التَّأويُلُ الحَسَنِ، وقد قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: (الحَدِيثُ مَضِلَّةُ اللهِ للفُقَهَاءِ) (¬1) يُريدُ: أنَّ غَيْرَهُم قد عَمِلَ شَيْئَاً على ظَاهِرِ حَدِيثٍ، وله تَأْوِيلٌ مِنْ حَدِيثِ غَيرِه، أو دَلِيلٍ يَخْفَى، أو مَترُوكٍ أَوْجَبَ تَرْكَهُ، [أو] (¬2) غيرِ شَيءٍ، وهذا كُلُّه لا يَقُومُ بهِ إلَّا مَنِ اسْتَبْحَرَ في العِلْمِ، ووَقَفَ على مَعَانِيه. قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: روَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلاَئِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ على مَنَازِلِهم، فالمُهَجِّرُ إلى الصَّلَاةِ كالمُهْدِي بَدَنةً، ثُمَّ الذي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَقَرَةً" (¬3) وذَكَرَ بَاقِي الحَدِيثَ، قالَ أحمدُ: وهذا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ سُمَيٍّ عَنْ أبي صَالِحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، وَيدُلُّ هذا على أنَّ هَذِه السَّاعَةَ قُرْبَ الزَّوَالِ، لِقَوْلِه: "فَالمُهَجِّرِ إلى الصَّلَاةِ"، والتَّهْجِيرُ هُوَ قُرْبُ الزَّوَالِ، لا في أَوَّلِ النَّهَارِ، كَمَا تَأوَّلَ غيرُ مَالِكٍ. وقَؤلُه في الحَدِيثِ: "فإذا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" والإمَامُ إنما يَخْرُجُ عندَ زَوَالِ الشَّمْسِ. * وقَوْلُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] إنما هذا على قَدْرِ قُرْبِ المَنَازِلِ مِنَ الجَامِعِ، ومَنْ بَعُدَ مَنْزِلُه فإنَّما هُوَ يَسْعَى إليها قبلَ ذَلِكَ الوَقْتِ. * قَوْلُ أَبي سَعِيدٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "غُسْلُ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ على كُلِّ ¬

_ (¬1) ذكره ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع ص 150، ثم قال: يريد أن غيرهم قد يعمل شيئًا على ظاهره وله تأويل من حديث غيره أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلامن استبحر وتفقه. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) رواه النسائي (1386)، وابن ماجه (1092)، وابن خزيمة (1769)، والبيهقي 3/ 225، بإسنادهم إلى الزهري به.

مُحْتَلِمٍ" يعنِي: وُجُوبَ سُنَّةٍ، والدَّلِيلُ على أنَّهُ سنُةٌ تَرْكُ عُثمَانَ بنِ عفَّانَ لَهُ وإتْيَانُه إلى الجُمُعَةِ بغَيْرِ غُسْلٍ، ولو كَانَ كَغُسْلِ الجَنَابَةِ في الوُجُوبِ ما تَرَكَهُ عُثْمَانُ، ولا سَمَحَ لَهُ عُمَرُ في تَرْكِه إيَّاهُ، غيرَ أنَّهُ في العُمُومِ كَعُمُومِ غُسْلِ الجَنَابَةِ. قالَ مَالِكٌ: لا بَأْسَ بِكَلاَمِ الإمَامِ في الخُطْبَةِ بأمْرٍ يَأْمُرُ به أو يَنْهَى عنهُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: مَن اغْتَسَلَ يَوْمُ الجُمُعَةِ وَهُو نَاسٍ لِجَنَابةٍ لم يُجْزِ غُسْلُ الجُمُعَةِ عَنْ غُسْلِ الجَنَابَه؛ لأنَّ غُسْلَ الجُمُعَةِ ليسَ هو لِرَفْعِ حَدَثٍ، وإنَّما هُو للنَّظَافَةِ، وغُسْلُ الجَنَابَةِ هُو لِرَفْعِ حَدَثٍ، وليسَ حُكْمُ الغُسْلِ هَهُنا كَحُكْمِ الوُضُوءِ الذي مَنْ تَوضَّأ لِنَافِلَةٍ فإنَّهُ يُصَلِّي به مَكْتُوبةً، وذَلِكَ أنَّ الغُسْلَ يَتَنَّوعُ، فَيَكُونُ للجَنابةِ وللجُمُعَةِ، وإحَرْامٍ، ولِدُخُولِ مَكَّةَ، والوُضُوءِ لا يَتَنوُّعُ، إنَّما هو لِدَفْعِ حَدَثٍ كَانَ لِنَافِلَةٍ أو فَرِيضَةٍ. وقالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ: إنَّ غُسْلَ الجُمُعَةِ يُجْزِي عَنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ إذا لم يَذْكُر الجُنُبُ جَنَابَتَهُ حينَ اغْتَسَلَ للجُمُعَةِ، وقدْ تَنُوبُ السُّنَّةُ عَنِ الفَرِيضَةِ، كَرَجُلٍ غَسَلَ بَعْضَ وَجْهِه، أو بَعْضَ ذِرَاعَيْهِ في الغُسْلَةِ الأُولَى مِنْ وُضُوئهِ، ثُمَّ أَعَمَّ ذَلِكَ بالمَاءِ في المَرَّةِ الثَّانِيةِ التي هي سُنَّةٌ في الوُضُوءِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: وليسَ هُو كَما قالَ؛ لأنَّ الوُضُوءَ فَرْضٌ مِنْ جِهَةِ العُمُومِ لا مِنْ جِهَةِ العَدَدِ، وقد أَجْمَعَ مَالِكٌ وأَصْحَابُه على أنَّ مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الجُمُعَةِ للجَنَابَةِ ولمْ يَنْوِ به غُسْلَ الجُمُعَةِ أنَّ غُسْلَ الجَنَابَةٍ لا يَنُوبُ عَنْ غُسْلِ الجُمُعَةِ، فإذا لم [يُنِبْ] (¬1) الفَرْضُ عَنِ السُّنَّةِ، فالسُّنَّةُ أَحْرَى أنْ لا تَنُوبُ عَنِ الفَرْضِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ ولمْ يَغْتَسِلْ فإنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِد إذا كَانَ الوَقْتُ وَاسِعًا ثُمَّ يَغْتَسِلُ للجُمُعَةِ. * قالَ ابنُ كِنَانَةَ: إنَّما تَرَكَ عُمَرُ عُثْمَانَ ولمْ يَأْمُرْهُ بالغُسْلِ مِنْ أَجْلِ ضِيقِ الوَقْتِ، ولَو كَانَ فيه سَعَةً لَرَدَّهُ يَغْتَسِلُ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ينوب)، وهو خطأ.

* قالَ أبو المُطَرِّفِ: روَى يحيَى عَنْ مَالِكٍ أنه [قال] (¬1): "مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الجُمُعَةِ أَوَّلَ نَهَارِه -وَهُو يُرِيدُ بذَلِكَ غُسْلَ الجُمُعَةِ- فإن ذَلِكَ الغُسْلَ لا يَجْزِي عنهُ" ورَوى غيرُ يحيى عَنْ مَالِكٍ وَهُو لا يُرِيدُ بذلِكَ غُسْلَ الجُمُعَةِ. قالَ أبو عُمَرَ: مَعْنَى رِوَايةُ يحيى: أنَّهُ اغْتَسَلَ للجُمُعَةِ ثُمَّ تَرَكَ الرَّوَاحِ واشْتَغَلَ، ثُمَّ رَاحَ إلى الجُمُعَةِ فَلذَلِكَ لم يُجْزِه غُسْلُه إذا لم يَتَّصِلْ غُسْلُه بِرَوَاحِه، ومَعَنى رِوَايةُ غيرِ يَحْيىَ أنَّهُ اغْتَسَلَ بِغَيْرِ نِيَّهِ، فَلِذَلِكَ لم يُجْزِه. روَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبي الزِّنَادٍ، عَن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ, أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قُلْتَ لِصَاحِبكَ: أَنْصِتْ فقدْ لَغَوْتَ" (¬2)، يُرِيدُ بِذَلِكَ: والإمامُ يَخْطُبُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: خَلَطَ يحيى بنُ يَحْيىَ هَذا الحَدِيثَ في رِوَايَتِه عَنْ مَالِكٍ، وجَعَلَ قَوْلَهُ: (يُرِيدُ بذَلِكَ والإمامُ يَخْطُبُ) مِنْ نَفْسِ الحَدِيثِ، وإنَّما هُو تَفْسِيرٌ في الحَدِيثِ، كَمَا رَوَاهُ اَبنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ (¬3). ورَوى الأَعْمَشُ عَنْ أبي صَالِحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ تَوضَّأ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ فاسْتَمَعَ وأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبينَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى، ومَنْ مَسَّ الحَصَا فقدْ لَغَى" (¬4) يعني بذَلِك: أنَّهُ مَنِ اشْتَغَلَ بالعَبَثِ بِحَصَى المَسْجِدِ عَنِ الاسْتِمَاعِ إلى الخُطْبَةِ فقدْ لَغَى، وإن كَانَ بَعِيدًا مِنَ الإمَامِ، وذَلِكَ أنَّ للمُنْصِتِ الذي لا يَسْمَعُ مِنَ الأَجْرِ مثلَ ما لِلْمُنْصِتِ السَّامِعِ، فمنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ عَنِ الإسْتِمَاعِ فقدْ لَغَا. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (28 ب) من نسخة تركيا. (¬3) ينظر: التمهيد 19/ 29. (¬4) رواه مسلم (857)، وأبو داود (1050)، والترمذي (498)، وابن ماجه (1090)، بإسنادهم إلى الأعمش به.

قالَ ابنُ وَهْبٍ: وَمَنْ لَغَا كَانَتْ صَلاَتُهُ ظُهْرًا, ولَمْ تَكُنْ له جُمُعَةً، وحُرِمَ فَضْلُهَا. وقالَ بعضُ الفُقَهاءِ: خُطْبَةُ الجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ، واستُدِلَّ على ذَلِكَ بِقَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْ وَا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] يعني: قَائِمًا تَخْطُبُ. * قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" يعنِي: الخُطْبَةَ. * قولُ الزُّهْرِيِّ: (خُرُوجُ الإمَامِ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، وكَلاَمهُ يَقْطَعُ الكَلاَمَ) يَعْنِي: جُلُوسَ الإمَامِ على المِنْبَرِ، وأَخْذُ المُؤَذِّنِينَ في الأَذَانِ يَقْطَعُ صَلاَةَ النَّافِلَةَ، وكَلاَمُهُ بالخُطْبَةِ يَقْطَعُ الكَلاَمَ، ويُوجِبُ الإسْتِمَاعَ، وهذا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يُجِيزُ صَلاَةَ النَّافِلَةِ والإمَامُ يَخْطُبُ، واحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ سُلَيْكٍ الغَطَفَانِيِّ، رَوَاهُ الأعْمَشُ عَنْ أَبي صالِحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قالَ: "جَاءَ سُلَيْكٌ الغَطَفَانِيُّ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَصَلَّيْتَ شَيْئًا؟ فقالَ: لا، قالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِما" (¬1) وهذَا حَدِيثٌ فَسَّرَهُ بَعْضُ الفُقَهَاءِ، قَالُوا: إنَّما أمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلَاةِ لِيَنْظُرَ النَّاسُ إليه وإلى حَاجَتِه فَيَتَصَدَّقُونَ عليه، ثُمَّ حَضَّهُم - صلى الله عليه وسلم -على الصَّدَقَةِ، فَتَصدَّقُوا عليه. قالَ أبو المُطَرِّفِ: قُلْتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: قدْ رُوي مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا جَاءَ أَحَدُكُمْ والإمامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِما" والزِّيَادةُ في الحَدِيثِ مَقْبُولةٌ إذا رَوَاها الثِّقَةُ، فقالَ لي: لَيْسَتْ مَقْبُولَةً إلَّا فيما اجْتُمِعَ عليهِ، وقدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلُّونَ النَّافِلَةَ في المَسْجِدِ يومَ الجُمُعَةِ حتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ للخُطْبَةِ، فإذا جَلَسَ عندَ المِنْبَرِ تَرَكَ النَّاسُ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1116)، وابن ماجه (1114)، وابن حبان (2500)، بإسنادهم إلى الأعمش به، ورواه مسلم (875) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به.

الصَّلاَةَ ولم يَتَنَفَّلُوا واسْتَمَعُوا الخُطْبَةَ إذا خَطَبَ، فكَذَلِكَ يَلْزَمُ كُلُّ مَنْ جَاءَ والإمَامُ يَخْطُبُ أَنْ يَجْلِسَ يَسْتَمِعُ. قالَ عِيسى: ليسَ العَمَلُ على تَحْصِيبِ مَنْ تَكَلَّمَ والإمَامُ يَخْطُبُ، مِنْ أَجْلِ أنَّهُ قدْ نُهِيَ عَنِ التَّحْصِيبِ، ولا بأسَ بالإشَارَةِ إلى المُتَكلّمِ بالسُّكُوتِ. * قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الجُمُعَةِ أَضَافَ إليها أخْرَى" وهذا قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، بِخِلاَفِ مَا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ أنَّهُ قَالَ: (مَنْ فَاتَتْهُ الخُطْبَةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أنَّهُ لا جُمُعَةَ لَهُ، وأنَّهُ يُصَلِّيها أَرْبَعْ رَكَعَاتٍ) (¬1)، وبِخِلاَفِ مَنْ يَقُولُ: (إنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ يومَ الجُمُعَةِ مَعَ الإمَامِ أنَّهُ يأتِي بِرَكْعَتَيْنِ)، وتَأوَّلَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ - عليهِ السَّلاَمُ -: "مَا أَدْرَكْتُم فَصُلُّوا، ومَا فَاتَكُم فَأتِمُّوا" فيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ كمَا فَاتَتا، والثَّابِتُ عندَ أَهْلِ المَدِينةِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فقدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ". قالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصَابَهُ حَدَثٌ يومَ الجُمُعَةِ فَلْيَخْرُجْ ولَيَتَوضَّأْ، وليسَ عليه اسْتِئْذَانُ الإمَامِ، وتَأوَّلَ قَوْلَ اللهِ تبارَكَ وتَعَالَى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] إنَّما كَانَ هذا في حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا في الجُمُعَةِ، وذَلِكَ أنَّ في ذَهَابِهم عنهُ في الحُرُوبِ تَوْهِينٌ للمُسْلِمينَ، فإذا أَذِنَ لَهُم في الذِّهَابِ لم يَكُنْ عليهِم في ذَلِكَ حَرَجٌ. وتَأوَّلَ غيرُ مَالِكٍ الآيةَ على الجُمْلَةِ، فقالَ: مَنْ أَصَابَهُ حَدَثٌ يومَ الجُمُعَةِ والإمَامُ يَخْطُبُ لم يَخْرُجْ حتَّى يَسْتَأذِنَ الإمامَ، وفي هذا حَرَجٌ عَظِيمٌ, لأنَّهُ رُبَّما أَحْدَثَ الدَّاخِلُ قبلَ أنْ يَصِلَ إلى الإمَامِ. قالَ عِيسى عَنِ ابنِ القَاسِمِ، أنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى الجُمُعَةَ في دَارٍ مَحْجُوزَةً عَلَيْها فَلْيُعِدْ ظُهْرَاً أَرْبَعًا (¬2). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق 3/ 238، وابن أبي شيبة 2/ 128، بإسنادهما إلى عطاء بن أبي رباح به. (¬2) الدار المحجوزة هي التي عليها سور يحجزها عن بقية صفوف الصلاة.

وقال ابنُ نَافِعٍ (¬1): مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فقدْ أَخْطَأَ ولا إعَادَةَ عليهِ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: في الإمَامِ المُسَافِرِ يَجْمَعَ الجُمُعَةَ بأهلِ قَرْيَة مِنْ عَمَلِه لا تَجِبُ عَلَيْهِم أنَّ صَلاَتَهُ مَجْزِيَةٌ عنهُ وعَنْ مَنْ كَانَ مُسَافِرًا مِثْلَهُ، كأنَّهُم يَقْصِرُونَ الصَّلاَةَ، وأما أَهْلُ تِلْكَ القَرْيَةِ فإنَّهُم يُتِمُّونَ صَلاَتَهُم، ويَبْنُونَ على تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ. وقالَ ابنُ القَاسِم: يُعِيدُ الإمَامُ ويُعِيدُونَ، وذَلِكَ أنَّ الإمَامَ جَهَرَ في صَلَاتهِ عَامِدًا. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: مَنْ جَهَرَ في صَلَاتهِ مُتَأوِّلًا لم تَفْسُدْ بِذَلِكَ صَلاَتُهُ إذا أَصْلَحَها بالسُّجُودِ. قالَ ابنُ القَاسِم: إذا كَانَت القَرْيَةُ مُتَّصِلَةَ البُيُوتِ كالرَّوْحَاءِ وشَبَهِها لَزِمَتْهُم الجُمُعَةِ. وقالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ: يُجَمِّعُ الجُمُعَةَ خَمْسُونَ رَجُلًا. وقالَ مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونَ (¬2): يُجَمِّعُ الجُمُعَةَ أهلُ ثَلاَثِينَ بَيْتَاً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ بِوَالٍ وبِغَيْرِ وَالٍ. قالَ أبو المُطَرّفِ: وفَضْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ ثَابِتٌ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومَوْجُودٌ في التَّورَاةِ كَمَا قالَ كَعْبٌ لأَبي هُرَيْرَةَ. وقولُهُ في الحَدِيثِ: "مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا وَهِي مُصِيخَةٌ يومَ الجُمُعَةِ" يُريدُ: هي مُسْتَمِعَةٌ مُشْفِقَةٌ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ غَيْرِ الجَنِّ والإنْسِ، فإنَّهُم يَغْفُلُونَ مِنْ شَأْنِ يومَ الجُمُعَةِ الذي فيه تَقُومُ السَّاعَةِ، وفي هذا دَلِيلٌ على قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن نافع المدني الصائغ، صحب مالكا وتفقه به، وروى له مسلم وأصحاب السنن, وتوفي سنة (206)، ينظر: تهذيب الكمال 16/ 208. (¬2) مطرف هو عبد الله بن مطرف المدني، شيخ البخاري، وتلميذ مالك وابن أخته، وأما ابن الماجشون فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، الإِمام المحدث الفقيه، روى عن مالك وغيره، وحديث في النسائي وابن ماجه، ينظر: تهذيب الكمال 18/ 70 و 360.

* قال أبو المُطَرِّفِ: إنَّما كَرِهَ بُصْرَةُ بنُ أَبي بُصْرَةَ لأَبي هُرَيْرَةَ خُرُوجَهُ إلى الطُّورِ مِنْ أَجْلِ أنَّها لا تُشْخَصُ المَطَايا وتُرْكَبُ الإبلُ إلَّا إلى ثَلاَثةِ مَسَاجِدَ: مَكَّةَ، والمَدِينَةِ، وبَيْتِ المَقْدِسِ، لِفَضْلِ هذِه المَسَاجِدِ على سَائِرِ بُقَعِ الأرضِ، إلَّا مَنْ نَذَرَ رِبَاطَاً في ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ المُسْلِمينَ، فَيَلْزَمُه إتْيَانُ ذَلِكَ الثَّغْرَ، مِنْ أَجْلِ الرِّبَاطِ الذي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهِ وحَضَّ عليهِ، وإنْ كَانَ الذي نَذَرَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أو المَدِينةِ، أو بَيْتِ المَقْدِسِ. قالَ أبو عُمَرَ: رُوي في سَاعَةِ إجَابَةِ الدُّعَاءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثَلاَثُ أَقْوَالٍ، قِيلَ: إنَّها في أوَّلِ النَّهَارِ، وقِيلَ: أنَّها عندَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وقِيلَ: هِي آخِرِ سَاعَةٍ في يَوْمِ الجُمُعَةِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: في مُذَاكَرَةِ أَبي هُرَيْرَةَ كَعْبَ الأَحْبَارِ فَضْلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ الفِقْهِ: الإسْتِمَاعُ إلى مَا في التَّوْرَاةِ إذا حَدَّثَ بذَلِكَ مُسْلِمٌ قد قَرأَ التَّوْرَاةَ، فإذا حَكَى يَهُودِيٌّ عَنِ التَّوْرَاةِ شَيْئًا لم نُصَدِّقْهُ ولمْ نُكَذِّبْهُ، وكَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ إذا حَكَى عَنِ الإنْجِيلُ شَيْئًا لم نُصَدِّقْهُ ولمْ نُكَذِّبْهُ، وقُلْنَا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 49] وفي مُذَاكَرَةِ أبي هُرَيْرَةَ لإبنِ سَلاَمٍ مِنَ الفِقْهِ: عَرْضُ الرَّجُلِ مَا رَوَاهُ عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ على كُلِّ مُسْلِمٍ قدْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ والإنْجِيلَ، لِيَعْلَمَ هَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أو غَيْرُ صَحِيحٍ، والاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على صِحَّةِ الفُتْيَا، كمَا احْتَجَ ابنُ سَلاَمِ على سَاعَةِ الإجَابَةِ للدُّعَاءِ في آخِرِ يَوْمِ الجُمُعَةِ بِحَدِيثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيها بالغُسْلِ، والتَّجَمُّلِ للجُمُعَةِ بالثِّيَابِ الحِسَانِ، والطِّيبِ. وقَرَأَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الجُمُعَةِ مَعَ أُمِّ القُرْآنِ سُورَةَ الجُمُعَةِ، وفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيةِ باُمِّ القُرْآنِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]. ومِنْ رِوَايةِ غَيْرِ مَالِكٍ أنَّهُ قَرَأَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى مَعَ أُمِّ القُرآنِ سُورَةِ الجُمُعَةِ، وفي الثَّانِيةِ سُورَةِ المُنَافِقِينَ، يُرِيدُ بذَلِكَ تَوْبِيخُ المُنَافِقِينَ المُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا.

رَوَى غَيْرُ مَالِكٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللهُ على قَلْبِه بِطَابِعِ النِّفَاقِ"، ومِنْ رِوَايةِ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ". ورَوى ابنُ عبدِ الحَكَمِ (¬1) عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ قَالَ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ يَتْرُكُ الجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لأنَّها فَرِيضَةٌ. * * * تَمَّ كِتَابُ الصَّلاَةِ بِحَمْدِ اللهِ وعَوْنهِ، وصلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا * * * ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، أبو محمد المصري، الإِمام الفقيه، سمع مالك بن أنس وغيره، وله تآليف كثيرة، توفي سنة (214)، ينظر: سير أعلام النبلاء 10/ 220، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 719.

تفسير أبواب الصلاة في رمضان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وصَحْبه وسلِّم تَسْلِيما تَفْسِيرُ أبْوَابِ الصَّلَاةِ في رَمَضَان * قالَ ابنُ القَاسِمِ: في حَدِيثِ عَائِشَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في المَسْجِد ذَاتَ لَيْلَةٍ، إلى آخِرِ الحَدِيثِ, قالَ: جَاءَ النَاسُ فَصَفُّوا وَرَاءَ رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم -، فَصَلُّوا بِصَلاَتِه، ثُمَّ صَنَعُوا مِثْلَ ذَلِكَ في اللَّيْلَةِ المُقْبلَةِ فلمْ [يَنْهَهُم] (¬1) ولم يكنْ أَوَّلًا أَمَرَهُم أنْ يُصَلُّوا معهُ، فلمَّا خَشِيَ أنْ يَعُودَ عَليهِم فَرْضُ قِيَامُ اللَّيْلِ تَرَكَ الخُرُوجَ إليهِم، ثُمَّ رَغَّبَهُم في قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِم في ذَلِكَ فَيُوجِبُه عليهِم، فقالَ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه" يَعْنِي: صَامَهُ مُصَدِّقًا بِفرْضِ صِيَامِه، واحْتَسَبَ أَجْرَ قِيَامِهِ باللَّيْلِ علىَ اللهِ -عزَّ وَجَلَّ-، غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: وفي جَمْعِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ النَّاسَ في قِيَامِ رَمَضَانَ على إمَامٍ وَاحِدٍ مِنَ الفِقْه: نَظَرُ الإمَامِ لِرَعِيَّتِه في [جَمْعِ] (¬2) كَلِمَتِهم، ومَا يَصْلَحُ في مَعَادِهِم. * وقَوْلُهُ في ذَلِكَ: (نِعْمَتِ البدْعَةُ) فالبَدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةُ هُدَى، وبِدْعَةُ ضَلاَلَةٍ، وبِدْعَةُ الضَّلاَلةِ كُلُّ مَا ابْتُدَعَ على غَيْرِ سُنَّةٍ. وإنّما لم يُصَلّ عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ مَعَ النَاسِ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُصَلِّهَا بالنَّاسِ في المَسْجِدِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: ينهاهم، والصواب ما أثبته. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة ضرورية للسياق.

قالَ مَالِكٌ: ولَو صَلَّاها الإمَامُ مَعَ النَّاسِ في المَسْجِدِ لم يَكُنْ بذَلِكَ بَأسٌ. وقَوْلُ عُمَرَ: "والتي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ" يُرِيدُ: أن التَّنَفُّلَ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، مِن أَجْلِ حَدِيثِ النُّزُولِ، واسْتِجَابةِ الرَّبَّ للعِبَادِ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وقالَ أبو المُطَرِّفِ: قَامَ النَّاسُ في رَمَضَانَ في خِلاَفةِ عُمَرَ بِثَلاَثٍ وعِشْرِينَ رَكْعَةً، يُطَوِّلُونَ القِرَاءَةَ في كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ صَلُّوا بعدَ ذَلِكَ سِتَّةً وثَلاَثينَ رَكعَةً سِوَى الوُترِ، نَقَصُوا مِنْ طُولِ القِيَامِ، وزَادُوا في عَدَدِ الرَّكَعَاتِ. وقالَ نَافِعٌ القَارئُ: أَدْرَكْتُ النَّاسُ وَهُم يُصَلُّونَ في رَمَضَانَ سِتَّةً وثَلاَثِينَ رَكْعَةً سِوَى الوُتْرِ (¬1)، واسْتَحْسَنَهُ مَالِكٌ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ الأَعْرَجِ: (مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلَّا وَهُم يَلْعَنُونَ الكَفَرةَ في رَمَضَانَ). قالَ عِيسى: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ رَمَضَانَ إلى آخِرِه، يَدْعُو إمَامُهُم على الكَفَرَةِ، ويَدْعُو للمُسْلِمينَ، رَافِعَاً صَوْتَهُ، ويُؤَمِّنونَ على دُعَائِه، وكَانَ مَالِكٌ لا يَأْخُذُ بهِ, لأنَّهُ لم يكُنْ ذَلِكَ في أوَّلِ الإسْلاَمِ بالمَدِينةِ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ أَهْلُ المَدِينَةِ حِينَ قَاتَلَهُم الخَوَارِجُ، فَقَتَلُوا فُقَهَائَهُم وصَالِحِيهِم، فَكَانُوا يَلْعَنُونَهُم ويَدْعُونَ عَلَيْهِم في صَلاَةِ رَمَضَان باللَّيْلِ، فَفِي هذا رُخْصَةٌ في الدُّعَاءِ على مَنْ ظَلَمَ المُسْلِمينَ، ولمْ يَتَّقِ اللهَ فِيهم. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: صَلاَةُ عَائِشَةَ خَلْفَ ذَكْوَانَ مُدَبَّرَهَا في رَمَضَانَ دَلِيلٌ على أنَّ الإمَامَةَ لَيْسَتْ إلى النِّسَاءِ لا في فَرِيضَةٍ ولا في نَافِلَةٍ، وأنَّهُ لا بَأْسَ، بإمَامَةِ العَبْدِ في النَّافِلَةِ، وتَجُوزُ إمَامَتُهُ في الفَرِيضَةِ إذا لم يَكُنْ إمَامَاً رَاتِبًا, لأن على العَبْدِ أنْ يُطِيعَ سَيِّدَهُ فِيمَا يَأمُرُه به، بمَا أَمَرَهُ بسَفَرٍ أو خِدْمَةٍ، وشغلُهُ عَنِ الإمَامَةِ [لِلَزمِه] (¬2) طَاعَةَ سيِّدِه. * * * ¬

_ (¬1) ذكره العيني في عمدة القاري 11/ 126، ونسبه إلى ابن وهب عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع بن أبي نعيم مقرئ المدينة. (¬2) جاء في الأصل: (لزمه)، وما وضعته هو الموافق للسياق.

باب صلاة الليل، وصلاة الوتر، وركعتي الفجر

بابُ صَلاَةِ اللَّيْلِ، وصَلاَةِ الوِتْرِ، ورَكْعَتِي الفَجْرِ * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: الرَّجُلُ الذي حَدَّثَ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ هُو الأَسْوَدُ بنُ [يَزِيدَ] (¬1)، وكانتْ عَائِشَةُ تُحِبُّه لِفَضْلِه. * وقَوْلُه - عليهِ السَّلاَمُ -: "مَا مِن امْرِئً تكون لَهُ صَلاَةٌ بلَيْلٍ يَغْلِبُهُ عليهَا نَوْمٌ إلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ" قالَ أبو المُطَرِّفِ: نَحْو قَوْلهِ - عليهِ السَّلاَمُ -: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَ لَهُ حَسَنَةُ" (¬2)، وكَقَوْلهِ: "الأعْمَالُ بالنِّيَاتِ، ولِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" (¬3). وأَمَرَ النبيُّ - عليهِ السَّلاَمُ - مَنْ غَلَبَهُ النُّومُ في صَلَاتهِ بالرُّقَادِ وألَّا يُغَالِبَ النَّوْمَ فَيُعَذِّبَ نَفْسَهُ، ورُبَّما أَرَادَ أَنْ يَدْعُو الله فَيَدْعُو عَلَيْها فَيَسُبُّ [نَفْسَهُ، قَالَ عبدُ اللهِ بنُ] (¬4) مَسْعُودٍ: إنَّ لِهَذِه القُلُوبَ [شَهْوَةً وإقْبَالاً، وإنَّ لهَا فَتْرَةً وإدْبَارَاً، فَخُذُوهَا عندَ شَهْوَتِها وإقْبَالِها] (¬5)، ودَعُوهَا عندَ فَتْرَتِهَا وإدْبَارِهَا (¬6). * قالَ أبوالمُطَرِّفِ: قَوْلُ عَائِشَةَ: (كُنْتُ أَنَامُ بينَ يَدَي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرِجْلاَي ¬

_ (¬1) جاء في الأصل (زيد)، وهو خطأ، والأسود بن يزيد هو النخعي، وينظر: التمهيد 12/ 261. (¬2) رواه البخاري (6126)، ومسلم (131) من حديث ابن عباس. (¬3) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)، من حديث عمر بن الخطاب. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل بسبب حذفه، وزدته مراعاة للسياق. (¬5) ما بين المعقوفتين زدته من كتاب الزهد لإبن المبارك، وقد مسح من الأصل. (¬6) رواه عبد الله بن المبارك في الزهد (1331).

في قِبْلَتِه) , وذَكَرتِ الحَدِيثَ إلى آخِرِه، فيهِ مِنَ الفِقْه: أنَّ المُلاَمَسَةَ إذا لم يُقْصَدْ بِها اللَّذَّةَ لمْ تَنْقُضِ الوُضُوءَ، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَمَسَّ عَائِشَةَ بِيَدِه عندَ سُجُودِه لِكَي يَسْجُدَ على الأَرْضِ، فَكَانَتْ تَقْبضُ رِجْلَيْهَا ثُمَّ يَسْجُدُ ويَتَمَادَى في صَلَاتهِ، وفيهِ الزُّهْدُ في الدُّنيا، وأَخْذُ البُلْغَةِ مِنْهَا، وتَرْكُ الإتِّسَاعِ في البُنْيَانِ. قال ابنُ القَاسِمِ: لا يُصَلِّي أَحَدٌ نَافِلَةً أو فَرِيضَةً وَرَاءَ نَائِمٍ إلَّا مِنْ ضِيقِ بَيْتٍ أو سَفِينَةٍ، بِسَببِ مَا يَحْدُثُ مِنَ النَّائِمِ. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: كَانَتِ الحَوْلاَءُ قَرِيبَةً لِخَدِيجَةَ، وكَانَتْ تَبِيتُ في المَسْجِدِ، وتُكْثِرُ الصَّلَاةَ فيهِ باللَّيْلِ، فَخَشِي عَلَيْهَا رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - الفَتْرَةَ، فقالَ: "إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يَمَلُّ" أي لَيْسَ مِنْ صِفَتِه المَلَلُ وأَنْتُم تَمَلُّونَ. وقالَ فيهِ ابنُ مُزَيْنٍ: مَعْنَاهُ أنَّ الله تَبَاركَ وتَعَالَى لا يَمَلُّ مِنْ كِتَابِ الحَسَنَاتِ للعَبْدِ مَا دَامَ العَبْدُ يَعْمَلهَا، فإذا تَرَكَ العَمَلَ لمْ يُكْتَبْ لَه شَيْئَاً، وخَيْرُ العَمَلِ مَادَامَ عليهِ صَاحِبُه وإنْ قَلَّ، يُرِيدُ مِنَ النَّوَافِلِ. * قَوْلُ عُمَرَ لأَهْلِه باللَّيْلِ (الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ) فِيه مِنَ الفِقْهِ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ على صَلاَةِ النَّافِلَةِ باللَّيْلِ، ولمْ يُكَلِّفْ عُمَرُ لأَهْلِهِ مِنْ طُولِ القِيَامِ مِثْلَ مَا تَكَلَّفَهُ هُو، وكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُه بأَهْلِه. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: حَدِيثُ مَالِكٍ عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ في عَدَدِ رَكَعَاتِ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ أَبي سَعِيدٍ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وخَالَفَ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ فقالَتْ فيهِ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُوتِرُ بثَلاَثَ عَشَرةَ رَكْعَة, والصَّحْيحُ في هَذا عَنْ عَائِشَةَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ وسَعِيدُ بنُ أَبي سَعِيدٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُوتِرُ بإحْدَى عَشَرةَ رَكْعَةً" والغَلَطُ فيهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ (¬1). ¬

_ (¬1) أشار الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 285 إلى الإختلاف في حديث عائشة، وذكر أن هشاما خالف عامة الرواة عن أبيه، وقال ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 354: أما =

قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولا يَنَامُ قَلْبِي" كَانَ لا يَنَامُ - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ جِهَةِ ضَبْطِه للوَحْي, لأنَّهُ كَانَ يُوحَى إليه في النَّوْمِ كَمَا كَانَ يُوحَى إليه في اليَقَظَةِ، وكَذَلِكَ سَائِرُ الأنْبِيَاءِ، قالَ إبْرَاهِيمُ - عليهِ السَّلاَمُ - لابنهِ: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] يَعْنِي: أنَّهُ أُوحِيَ إليَّ في مَنَامِي بِذَلِكَ، وقدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَتَوضَّأُ، فَالحُكْمُ في النَّوْمِ للغَلَبَةِ، فإذا غَلَبَ النَّوْمُ وَجَبَ الوُضُوءُ على النَّائِمِ. * في حَدِيثِ ابنِ عبَّاسٍ حِينَ بَاتَ عندَ مَيْمُونَةَ خَالَتِه زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقَرَأُ آخِرَ اَلِ عِمْرَانَ فيهِ مِنَ الفِقْهِ: الرُّخْصَةُ في قِرَاءَةِ القُرْآنِ على غَيْرِ وُضُوءٍ؛ لأن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[قَرأَ هَذِه الآياتِ بعدَ قِيَامَهِ] (¬1) مِنْ نَوْمهِ، وقِيَامُ الرَّجُلِ للآخِرِ وَضُوَئهُ وإنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِه أو مِنْ وَلَدِه أو [غَيْرِهِم إنْ كَانُوا] (¬2) صَالِحِينَ، وفيهِ الإمَامَةُ في النَّافِلَةِ، وقِيَامُ المَأْمُومِ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ إذا كَانَا اثْنَيْنِ، وكَذَلِكَ [روَى سَعِيدُ] (¬3) بنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِه [وأَقَامَ المَرْأةَ مِنْ] (¬4) خَلْفِهِ، وقَالَ كُرَيْبٌ مَوْلَى ابنِ عبَّاسٍ: وفَتَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُذُنَ ابنِ عبَّاسٍ، لِكَي يُذْهِبَ عنهُ النَّوْمَ، وفيهِ: أنَّ النَّافِلَةَ رَكْعَتَانِ، وأنَّ الوُتْرَ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، وأنَّ الوُتِرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً يُفْصَلُ بَيْنَهُما وبَيْنَ ¬

_ = حديث هشام بن عروة هذا فقد أنكره مالك، وقال: مذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف منه. (¬1) ما بين المعقوفتين أصابه مسح، وقد اجتهدت في وضعه بما فهمت 5 من كلام ابن بطال كما نقله ابن حجر في الفتح 1/ 288، وقال: وتعقبه ابن المنيِّر وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض وليس كذلك؛ لأنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك فتوضأ، قال ابن حجر: وهو تعقب جيد ... إلخ. (¬2) أصاب المسح ما بين المعقوفتين فلم يظهر، وقد اجتهدت في وضعه بما يتناسب مع السياق. (¬3) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، وما وضعته هو المناسب مع الكلام. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وقد استدركته مما ورد في رواية مسلم (659).

الشَّفْعِ بِسَلاَمٍ، وفيهِ الرُّكُوعُ للفَجْرِ بعدَ اطِّلاَع الفَجْرِ، وفيهِ إعْلاَمُ المُؤَذّنِ الإمَامَ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ. قالَ عِيسى: واضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِيَيئذٍ اضْطِجَاعَاً لمْ [يَنمْ] (¬1) فيهِ، لِكَي يَسْتَرِيحَ مِنْ طُولِ قِيَامِه في الصَّلَاةِ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "صَلاَةُ اللَّيْلِ مِثْنَى مَثْنَى" يُرِيدُ: رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في النَّافِلَةِ. ورَوَى هذا الحَدِيثَ شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بنِ عَطَاءٍ، عَنْ عليِّ بنِ عبدِ اللهِ البَارِقيِّ، عَن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "صَلاَةُ اللَّيْلِ والنَّهارِ مَثْنَى مَثْنَى" (¬2)، وهَذِه الرِّوَايةُ تُبَيِّنُ أَنَّ النَّافِلَةَ بالنَّهَارِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، بِخِلاَفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ النَّافِلَةَ بالنَّهَارِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ في اَخِرِهِنَّ. * قالَ: وقَوْلُهُ في حَدِيثِ المُوَطَّأ: "فَإذا خَشِيَ أَحَدُكُم الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى", يَعْنِي: تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى مِنَ الفَرِيضَةِ والنَّافِلَةِ. وقالَ مَالِكٌ في هَذا الحَدِيثِ: (مَا مِنْ شَيءٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذا)، يُرِيدُ: أنَّ الوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلاَفِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الوِتْرَ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ في آخِرِهنَّ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَنْكَرَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ قَوْلَ أَبي مُحَمَّدٍ - واسْمُهُ: مَسْعُودُ بنُ أَوْس أنَّ الوِتْرَ وَاجِبٌ، يُرِيدُ: وُجُوبَ الفَرَائِضِ، فأَنْكَرَ عُبَادَةُ هذَا القَوْلَ، وقالَ: هُو سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واحْتَجَّ بِحَدِيثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ على العِبَادِ" إلى آخِرِ الحَدِيثِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: ينام، وهو خطأ ظاهر. (¬2) رواه أبو داود (1295)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 334، والبيهقي في السنن 2/ 487، وذكر ابن عبد البر في التمهيد 13/ 343 بأن رواية علي بن عبد الله البارقي هذه في ذكر النهار لم يقله أحد عن ابن عمر غيره، وأنكروه عليه.

وقالَ أَهْلُ الكُوفَةِ: الوِتْرُ فَرِيضَةٌ (¬1)، واحْتَجُّوا في ذَلِكَ بِحَدِيثٍ رَوَوْهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "إنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى زَادَكُمْ صَلاَةً إلى صَلاَتِكُم، ألَا وَهِيَ الوِتْرُ" (¬2). ومَعْنَى هذا الحَدِيثِ عندَ أَهْلِ المَدِينَةِ: أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- زَادَنَا ثَوَابَ صَلاَةَ الوِتْرِ إلى ثَوَابِ صَلاَةِ الفَرْضِ، ولَو كَانَ الوِتْرُ فَرْضَاً لَقَالَ: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى زَادَكُم فَرْضَاً إلى فَرْضِكُم، وقدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على رَاحِلَتِه، ولمْ يُصَلِّ قَطُّ فَرِيضَةً على رَاحِلَتِه. وقَدْ سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَنِ الوِتْرِ: (أَوَاجِبٌ هُو وُجُوبَ الفَرَائِضِ؟ فقالَ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَوْتَرَ المُسْلِمُونَ, وَلَوكانَ الوِتْرُ فَرْضَاً لَبَيَّنَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ للذي سأَلهُ عنهُ، فَالوِتْرُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ أبوالمُطَرِّفِ: أَنْكَرَ مَنْ يَقُولُ بإنَفَاذِ الوَعِيدِ -مِنْ أَهْلِ البدَعِ (¬3) - حَدِيثَ عُبَادَةَ هَذا، لِقَوْلِه في آخِرِه: "ومَنْ لمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ عندَ اللهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وإن شَاءَ غَفَرَ لَهُ" وقَالُوا: سَنَدُ هذَا الحَدِيثِ في المُوطَّأ مَجْهُولٌ، وهذا حَدِيثٌ رَوَاهُ يَحْيىَ بنُ سَلاَمٍ عَنْ يحيى بنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ حَبَّانَ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَرَ الحَدِيثِ على نَحْوِ ما ذَكَرَ مَالِكٌ في المُوطَّأ (¬4). ¬

_ (¬1) هذا قول نقل عن أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، ويريد أنه فرض عملا لا علماً، فهو واجب لازم في حق العمل دون الإعتقاد ينظر: بدائع الصنائع 1/ 272، وتبيين الحقائق 1/ 169. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 2/ 297، وأحمد 2/ 180، والدارقطني 2/ 21، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، بإسناده ضعيف. (¬3) هم الخوارج والمعتزلة. (¬4) لم أجد متابعة يحيى بن سلام في شيء من الكتب، وذكر ابن عبد البر في التمهيد 22/ 288 متابعات كثيرة لهذا الحديث ولكنه لم يشر إلى متابعة يحيى بن سلام هذه، =

وأَهْلُ السُّنَّةِ لا يَخْتَلِفُونَ في أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى في وَعْدِه للطَّائِعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ لا يُخْلِفُهُ، وأنَّهُ في وَعِيدِه لأَهْلِ التَّوْحِيدِ [المُعَانِدينَ] (¬1) الذينَ يَسْتِحلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ ورَسُولُهُ بالخِيَارِ، إنْ شاءَ عَذَّبَهُم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وذلك قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 - 116]. وقوْلُهُ في الصَّلَواتِ: "وَمَنْ لمْ يَأْتِ بهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عندَ اللهِ عَهْدٌ" يعنِي: إنَّ لم يأْتِ بِهِنَّ على سَبِيلِ التَّضْيِيعِ لَهُنَّ والغَفْلةِ فاللهُ فيهِ بالخَيَارِ، إنْ شاءَ عَذَّبَهُ، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وإنْ جَحَدهَا اسْتُتِيبَ، فإنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ، وإنْ أَقَرَّ بِها وقالَ: لا أُصَلِّي، أُخِرَّ حتَّى يَمْضِي وَقْتُ صَلاَةٍ، فإنْ صَلَّاهَا وإلَّا قُتِلَ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَنْ تَشْفِيعِه للوِتْرِ، فَقِيلَ لَهُ: (هَلْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أو فَعَلَهُ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ؟ فقالَ: لا, ولَكِنَّهُ شَيءٌ اسْتَحْسَنْتُهُ) (¬2)، قالَ أبو مُحَمَّدٍ: ولِهَذا قالَ مَالِكٌ: إنَّهُ مَن افْتَتَحَ وِتْرَاً فلَا يَجْعَلْهَا شَفْعَاً إذ لم يَفْعَلْهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * قالَ مَالِكٌ: وليسَ العَمَلُ على فِعْلِ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ إذْ كَانَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لا شَفْعَ قَبْلَهَا، وأَقَلُّ الوِتْرِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ، اثْنَتَانِ شَفْعٌ وَوَاحِدَةٌ وِتْرٌ. قالَ أبو عُمَرَ: أَدْخَلَ مَالِكٌ في المُوطَّأ حَدِيثَ ابنِ عبَّاس في وِتْرِه بعدَ الفَجْرِ، وكَذَلِكَ حَدِيثَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ يَرُدُّ بِهِما قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لا يُوتِرُ بعدَ الفَجْرِ، وإنَّما يَكُونُ الوِتْرُ باللَّيْلِ، والمُسْتَحْسَنُ عندَ مَالِكٍ أنْ يَكُونَ الوِتْرُ باللَّيْلِ، فإذا وَقَعَ ¬

_ = ويحيى بن سلام لم يدرك يحيى بن سعيد الأنصاري وإنما يروي عن بواسطة، ينظر: سير أعلام النبلاء 9/ 396. (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وقد استظهرته بما رأيته مناسبا مع السياق. (¬2) رواه بنحوه مالك (406)، وقال ابن عبد البر في التمهيد 13/ 254,: وروي مثل قول ابن عمر في الفصل بين الشفع والوتر بالتسليم عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وسعد بن مالك وزيد بن ثابت ... إلخ.

بعدَ الفَجْرِ أَجْزَأ على حَسْبِ مَا فَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ وعُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ. ولا يَقْضِي بعدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، مِنْ أَجْلِ أنَّ السُّنَنِ إذا ذَهَبتْ أَوْقَاتُها لم تَكُنْ فِيها إعَادَةٌ، وليْسَتْ كالفَرَائِضِ التي أَوْقَاتُها أَبَدًا مُدْرَكَةً. قالَ عِيسى: إذا خَرَجَ الإمَامُ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ قبلَ أَنْ يُوتِرَ فَأَقَامَ المُؤذِّن الصَّلَاةَ، فإنَّهُ يُسَكِّتُه الإمَامُ، كَمَا فَعَلَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، ولا يُسَكِّتْهُ لِرَكْعَتِي الفَجْرِ، ولَكِنُّهُ يُصَلي الصُّبْحَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتِي الفَجْرِ إذا طَلَعَت الشَّمْسُ إنْ أَحَبَّ، وهُمَا مِنَ الرَّغَائِبِ. وقالَ أَشْهَبً (¬1): هُمَا سُنَّةٌ قالَ أبوالمُطَرِّفِ: إنَّما أُمِرَ مَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَا الفَجْرِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ أنْ يُصَلِّيهَا إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ؛ لأن الرَّغَائِبَ إذا تُرِكَتْ فَلَمْ تُصَلَّى في أَوْقَاتِها المَعْرُوفَةِ لهَا قُضِيتْ بعدَ ذَلِكَ. كمَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَقَضَاهُ عندَ زَوَالِ الشَّمْسِ فكأَنَّهُ لم يُفِتْهُ) فأَبَاحَ لَهُ قَضَائَهُ في غَيْرِ وَقْتِهِ. ورَوى القَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا سَكَتَ المُؤَذَنُ عندَ الأَذانِ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ وبَدأَ الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ" (¬2)، وهَذه الرِّوَايةُ تُبَيِّنُ أنَّ رَكْعَتِي الفَجْرِ لا تُصَلَّى قَبْلَ الفَجْرِ، ولمْ يَذْكُرْ يحيى ولا ابنُ بُكَيْرٍ في هذا الحَدِيثِ (وبَدأَ الصُّبْحُ)، كمَا رَوَاهُ القَعْنَبِيُّ. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلاَمُ -: "أَصَلاَتَانِ مَعَاً؟ " يُرِيدُ بذَلِكَ: النَّهْيَ عَنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ والإمَامُ يُصَلِّي فَرِيضَةً. ¬

_ (¬1) هو أشهب بن عبد العزيز، أبو عمرو المصري، الفقيه العلامة، سمع مالكا وغيره، توفي سنة (204)، السير 9/ 500 (¬2) موطأ مالك برواية القعنبي (172)، وينظر: موطأ مالك برواية يحيى (419)، وبرواية يحيى بن بكير الورقة (20 أ) نسخة أحمد الثالث.

قالَ مَالِكٌ: فِيمَنْ دَخَلَ في فَرِيضةٍ وأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ فإنْ طَمَعَ في تَمَامِ صَلاَتِهِ ويُدْرِكَ الإمَامَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الرَّكْعَةَ الإولَى فَعَلَ ذَلِكَ، وإن لم يَطْمَعْ بِذَلِكَ قَطَعَ مَا هُوَ فيهِ ودَخَلَ مَعَ الإمَامِ، ثُمَّ صَلَّى الصَّلَاةَ التِّي فَاتَتْهُ، وأَعَادَ التي صَلَّاهَا مَعَ الإمَامِ لِئَلَّا تَكُونَ صَلاَتَانِ. مَعَاً، وذَلِكَ مَكْرُوهٌ، فَيُصَلِّي مَعَ الإمَامِ لِيُدْرِكَ فَضْلَ الجَمَاعَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ الأولَى التِّي كَانَتْ عَلَيْهِ، ويُعِيدُ بَعْدَهَا التِّي صَلَّاهَا مَعَ الإمَامِ لِكَي يُقِدِّمَ التَّرْتِيبَ المَأْمُورَ بهِ في صَلاَةِ الفَرْضِ،

باب فضل صلاة الجماعة، وإعادة الصلاة مع الإمام، وصلاة الرجل جالسا

بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ، وإعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الإمَامِ، وصَلاَةِ الرَّجُلِ جَالِسَاً * في حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ, وفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ التَّرْغِيبُ في مُشَاهَدَةِ الجَمَاعَةِ, لِفَضْلِهَا على صَلاَةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وإقَامَةُ الجَمَاعَاتِ فَرْضٌ على الكَافَّةِ. * وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لقدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ" وذَكَرَ الحَدِيثِ إلى آخِرِه، إنَّما قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مُنَافِقِينَ كَانُوا لا يَشْهَدُونَ الصَّلَواتِ مَعَهُ، فَهَمَّ بِتَحْرِيقِ بِيُوتَهُم عُقُوبَةً لَهُم. وقَوْلُهُ: "لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُم أنَّهُ يَجِدُ عَظْمَاً سَمِينَأ" يعنِي: لَحْمَاً سَمِينَاً يَأْكُلُه في المَسْجِدِ، أَو يَجِدُ فيهِ (مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ) لَجَاءَ إلى المَسْجِدِ. قالَ الأَخْفَشُ (¬1): المَرَامِي وَاحِدُها مِرْمَاةٌ، وَهِي حَدِيدَةٌ لَها طَرَفٌ كَطَرفِ السِّنَانِ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِها في الجَاهِليَّةِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: مَعْنَى هذَا الحَدِيثِ أنَّ أُولَئِكَ المُتَخَلِّفينَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَو دُعِيَ أَحَدُهُم إلى طَعَامٍ يَأكُلُه في المَسْجِدِ، أو إلى اللَّعِبِ بالمَرَامِي لأَتَى المَسْجِدَ رَغْبَةً في ذَلِكَ، لا رَغْبَةً مِنْهُ في مُشَاهَدَةِ صَلاَةِ العِشَاءِ، التَّي مَنْ ¬

_ (¬1) هو أحمد بن عمران بن سلامة البصري الألهاني المتوفى قبل سنة (250)، المحدث الثقة اللغوي، له شرح لغريب الموطأ، وقد وصلنا، ينظر: الجرح والتعديل 1/ 68، ومقدمة تفسير الموطأ لإبن حبيب للدكتور عبد الرحمن بن سليمان بن العثيمين 1/ 68.

صَلَّاهَا في جَمَاعَةٍ فكَأَنَّما قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ، فَحُرِمَ [المُنَافِقُونَ] (¬1) هذا الفَضْلَ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَوْقَفَ مَالِكٌ في المُوطَّأ قَوْلَ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلاَتُكُم في بيُوتِكُم إلَّا المَكْتُوبَةَ" وأَسْنَدَهُ غَيْرُ مَالِكٍ عَنْ، زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فالنَّوَافِلُ في البيُوتِ أَفْضَلُ مِنْها في المَسَاجِدِ؛ لأنَّهُ يُرْفعُ في ذَلِكَ المَكَانِ الرِّيَاءُ عَنِ المُتَنفِّلِ، والفَرَائِضُ في المَسَاجِدِ والجَمَاعَاتِ أَفْضَلُ مِنْهَا في البِيُوتِ؛ لأنَّهُ لا يَدْخُلُ الفَرَائِضَ رِيَاءٌ، لاشْتِرَاكِ الجَمِيعِ في ذَلِكَ المَكَانِ. قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَنَا وبَيْنَ المُنَافِقِينَ شُهُودُ العِشَاءِ والصُّبْحِ", قالَ أَبو المُطَرِّفِ: حَرَّمَ [اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى علَى] (¬2) المُنَافِقِينَ مُشَاهَدَةَ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ في الجَمَاعَةِ عُقُوبَةً لِتَثَاقُلِهِم [في أَدَاءِهَا] (¬3) على مَنْ صَلَّاهَا في جَمَاعَةٍ بِثَوَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّه، وكَمَا تَفَضَّلَ على الذي أَمَاطَ غُصْنَ الشَّوْكِ عَن الطَّرِيقِ خِيفَةَ أنْ يَتَأذَّى به مُسْلِمٌ، [وأَنَّها تُوجِبُ] (¬4) الغُفْرَانَ إذا أرَادَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، واللهُ لا يُضِيعُ أجرَ العَامِلِينَ. * وذَكَرَ مَالِكٌ في هذا الحَدِيثِ: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ"، وذَكَرَ في كِتَابِ الجَنَائِزِ: "الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ". وزَادَ ابنُ بُكَيْرٍ في آخِرِ حَدِيثِ سُمَيٍّ هذَا "وَلْو يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا ولَو حَبْوَاً" (¬5)، وذَكَرَ يحيى هذِه الزِّيَادَةَ في بابِ الأَذَانِ. * حَدِيثُ بُسْرِ بنِ مِحْجَنٍ عَنْ أَبيهِ [حَدِيثٌ] يَحْتَمِلُ التَّأوِيلَ، وفيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُلْزِمْ مَنْ صَلَّى في بَيْتِهِ [مُنْفَرِدًا] أنْ [يُصَلِّي في] (¬6) المَسْجِدِ، فَيُعِيدُ ¬

_ (¬1) في الأصل: (المنافقين)، وصوبته مراعاة لسياق الكلام. (¬2) ما بين المعقوفتين مسح، واستظهرته بما يتوافق مع السياق. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يتناسب مع السياق. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وقد استظهرته بما يتوافق مع نص مشابه ذكره ابن عبد البر في التمهيد 22/ 12. (¬5) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (21 ب) نسخة تركيا. (¬6) ما بين المعقوفات لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يتوافق مع السياق.

تِلْكَ الصَّلَاةَ مَعَ الإمَامِ، ولكِنَّهُ أَمَرَ مَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ تِلْكَ الصَّلَاةَ التي صَلَّاهَا هُوفي بَيْتِه أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُم في صَلاَتِهِم هَذِه، ولا يَجْلِسُ في المَسْجِدِ، لِئَلَّا يُوقِعَ على نَفْسِه بِجُلُوسِه والنَّاسُ يُصَلُّونَ ظَنَّ سُوءٍ، وأَمَرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاةِ لِكَي يُدْرِكَ فَضْلَ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ، ثُمَّ قالَ: "مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ سَهْمَانِ مِنَ الأَجْرِ" (¬1). * قالَ مَالِكٌ: (وتُعَادَ الصَّلَواتِ كُلُّهَا مَعَ الإمَامِ إلَّا صَلاَةَ المَغْرِبِ وَحْدَهَا) , إنَّما قالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أنَّهُ إذا أَعَادَ المَغْرِبَ مَعَ الإمَامِ بعدَ أنْ كَانَ قد صَلَّاهَا في بَيْتِه صَارَتْ شَفْعَاً، وَهِي وِتْرُ صَلاَةِ النَّهَارِ. قالَ أبو عُمَرَ: إنَّما صَارَتْ شَفْعَاً لأنَّهُ صَلَّاهَا ثَانِيَةً بِنِيَّهِ المَغْرِبِ، ولَو صَلاَّها ثَانِيةً على أنَّها نَافِلَةً خَالَفْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّافِلَةَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وأنَّها رَكْعَتَانِ، وقَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّها أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. * قالَ ابنُ عُمَرَ وابنُ المُسَيَّبِ للذِي سأَلَهُمَا عَنْ صَلَاتهِ في بَيْتِه وَحْدَهُ ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ مَعَ الإمَامِ، وقالَ: (أَيَّتُهُمَا أَجْعَلُ صَلاَتِي؟ فقالاَ لَهُ: أَوَ أَنْتَ تَجْعَلُهُمَا؟ إنَّما ذَلِكَ إلى اللهِ يَجْعَلُ أَيَّتُهُمَا شَاءَ) إنَّما يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ القَبُولَ، أَيْ أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يَتَقبَّلُ مِنْكَ أَيَّ صَلاَةٍ شَاءَ، إنْ شَاءَ التي صَلَّيْتَها وَحْدَكَ أو التي صَلَّيْتَها مَعَ الإمَامِ. وقالَ غَيْرُهُمَا: إنَّ الأُولَى هي صَلاَتُهُ، ولذَلِكَ قالَ مَالِكٌ: مَنْ صلَّى صَلَاتَهُ فَلاَ [يَتَقدَّمُهُم؛ لأنَّهُ قد صلَّاها في بَيْتِهِ] (¬2) فَرُبَّما كَانَت الثَّانِيَةُ نَافِلَةً، فَتَخْتَلِفُ ¬

_ (¬1) لم أجد اللفظة هكذا في موطأ يحيى، وإنما فيه من قول أبي أيوب الأنصاري: (فإن له سهم جمع، أو مثل سهم جمع)، ونقل ابن عبد البر في التمهيد 249/ 4 عن ابن وهب أنه قال: يعني يضعف له الأجر. (¬2) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، وقد استظهرته بما وجدت نحوه في المدونة 1/ 179.

صَلاَةُ الإمَامِ والمَأْمُومِ، يأتَمُّ المَأمُومُ في صَلَاتهِ التي هِي عليه فَرِيضَةٌ بإمَامٍ هي لَهُ رُبَّمَا [نَافِلَةٌ] (¬1)، فلهَذا كَرِهَهُ مَالِكٌ. * قالَ أبو المُطَرّفِ: إنَّما كَرِهَ مَالِكٌ إمَامَةَ مَنْ لا يُعْرَفُ أَبُوهُ مِنْ أَجْلِ مَا يَلْحَقُ مَنْ يُصَلِّي ورَاءَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ ذلكَ، فَيَتأذَّوا بِذَلِكَ. قالَ عِيسى: وَلَسْتُ آخُذُ في هذا بِقَوْلِ مَالِكٍ إذا كَانَ مَرْضِيَّ الحَالِ، فإمَامَتُهُ جَائِزَةٌ في الجُمُعَةِ وغَيْرِها وإنَّما عُيُوبُ النَّاسِ في دِينِهم (¬2). وكذلكَ إمَامَةُ الأقْطَعِ والأعمَى [فَصَلاَةُ هَؤُلاَءِ] (¬3) جَائِزَةٌ إذا كَانُوا صَالِحِينَ. * قولُ أَنَسٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ فَرَسَاً فَجُحِشَ شِقُّهُ", يعني أَصَابَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَقْطَتِه التي سَقَطَها مِنَ الفَرَسِ الذي [رَكِبَهُ فَأَصَابَ] (¬4) جَنْبَهُ، فَسُلِخَ جَنْبُهُ وآذَتْهُ السَّقْطَةُ، فَصَلَّى بالنَّاسِ جَالِسًا مِنْ أَجْلِ الألَمِ الذي كانَ على [لَحِقَهُ مِنَ] السَّقْطَةِ، وصَلَّى وَرَاءَهُ القَوْمُ قِيَامًا، فأَمَرَهُم بالجُلُوسِ، ثُمَّ قالَ: "إذا صلَّى الإمَامُ جَالِسَاً فَصَلُّوا جُلُوسَاً أَجْمَعُونَ". قالَ أبو مُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ (فَصَلُّوا جُلُوسَاً أَجْمَعُونَ) مَنْسُوخٌ، نَسَخَهُ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ صَلَّى آخِرَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا في جَمَاعَةٍ وَهُو جَالِسٌ، وصَلَّى النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُم قِيَامٌ، ولمْ يَأمُرْهُم بالجُلُوسِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: في غَيْرِ حَدِيثِ مَالِكٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يُؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي قَاعِدًا" (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليس واضحا في الأصل، وقد اجتهدت بما رأيته مناسبا مع السياق. (¬2) نقل قول عيسى بن دينار هذا ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 434، ونصه: (لا أقول يقول مالك في إمامة ولد الزنى، وليس عليه من ذنب أبويه شيء). (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، ووضعت ما رأيته مناسبا للسياق. (¬4) أصاب المسح ما بين المعقوفتين، ووضعت ما رأيت أنه المناسب للسياق. (¬5) ذكره ابن عبد البر في التمهيد 1/ 111 أو نسبه إلى أبي مصعب الزبيري في مختصره، ثم قال: وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث؛ لأنه يرويه جابر الجُعفي مرسلا وليس بحجة فيما أسنده، فكيف فيما أرسله؟!.

* وَقَعَ في رِوَايةِ يَحْيىَ عَنْ مَالِكٍ: (وإذا قَالَ سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمَدَهُ، فقُولُوا: رَبَّنا لَكَ الحَمْدُ) ووَقَعَ في رِوَايةِ ابنِ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ: (فَقُولُوا رَبَّنا ولَكَ الحَمْدُ) (¬1) بِزَيَادَةِ وَاوٍ، ومَعْنَاهُ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا وَلَكَ الحَمْدُ، فَعَطَفَ بالوَاوِ، على كَلاَمٍ مُضْمِرٍ في الحَدِيثِ. وقالَ ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ: والعَمَلُ عِنْدَنا على حَدِيثِ رَبِيعَةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بِصَلاَةِ أَبي بَكْرٍ (¬2). قالَ أبو المُطَرِّفِ: وحدَّثنا أبو مُحَمَّدٍ الحُسَيْنُ بنُ حَامِدِ بنِ نَصْرٍ بِمِصْرَ (¬3)، قالَ: حدَّثنا عليُّ بنُ الحُسَيْنِ القَاضِي، قالَ: حدَّثنا عليُّ بنُ سَعِيدٍ، قالَ: حدَّثنا شَبَابَةُ، قالَ: حدَّثنا شُعْبَةُ، قالَ: حدَّثنا نُعَيْمٌ (¬4)، عَنْ أَبي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قالتْ: "صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَ أَبي بَكْرٍ في مَرَضِه الذي ماتَ منهُ وَهُو قَاعِدٌ" (¬5). * قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ القَاعِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلاَةِ القَائِمِ" قالَ أبو عُمَرَ: يُرِيدُ في النَّافِلَةِ مَعَ القُدْرَةِ على القِيَامِ، ولِذَلِكَ أَدْخَلَ مَالِكٌ في المُوَطَّأ عَقِيبَ هذا البَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ وحَدِيثِ حَفْصَةَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يُصَلِّ صَلاَةَ اللَّيْلِ جَالِسًا إلَّا بعدَ أنْ دَخَلَ في السِّنِّ". ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (22 ب)، نسخة تركيا. (¬2) لم أجده في موطأ ابن بكير، وإنما وجدت الحافظ ابن عبد البر في التمهيد 6/ 144 نقل عن ابن القاسم هذا القول عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي. (¬3) هو أبو محمد الحسين بن حامد بن نصر الحدّاد المصري، المتوفى سنة (375)، جاء ذكره في وفيات المصريين ص 24، باسم الحسن بن حامد، ولم أجد له ترجمة. وشيخه علي بن الحسن القاضي لم أعرفه، وأما شيخ شيخه فهو علي بن سعيد بن بشير الرازي نزيل مصر، المعروف بعَليِّك، الإِمام المحدث الثقة، توفي سنة (299) ينظر: السير 14/ 145. (¬4) هو نعيْم ابن أبي هند، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة. (¬5) رواه الترمذي (362) عن محمود بن غيلان عن شبابة به، وقال: حديث حسن صحيح غريب.

* قالَ أبو مُحَمَّدٍ: حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَوْلَى لِعَمْرو بنِ العَاصِ مَجْهُولُ السَّنَدِ؛ لأن مَوْلَى عَمْروِ بنِ العَاصِ لا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ. * وقالَ: وكَذَلِكَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْروِ بنِ العَاصِ غيرُ مُتَّصِلٍ، لَمْ يُدْرِك الزُّهْرِيُّ عَمْروَ بنَ العَاصِ. قالَ ابنُ نَافِع: كُلُّ مَنْ ضَعُفَ حتَّى صَارَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أنْ يُصَلِّي مَكْتُوبَةً قَاعِدَاً فلَا بأسَ أنْ يُصَلَي النَّافِلَةَ جَالِسَاً أَو مُحْتَبِيَاً. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ صَلَّى فَرِيضَةً جَالِسَاً وَهُو قَادِرٌ على القِيَامِ أَعَادَ صَلَاتَهُ، ولْيُصَلِّ النَّافِلَةَ جَالِسَاً أنْ شَاءَ وإنْ كَانَ قَادِرَاً على القِيَامِ. قالَ ابنُ حَبِيبٍ: مَنْ شَاءَ صَلَّى النَّافِلَةَ جَالِسَاً أَو مُتَربِّعَاً أو مُحْتَبِيًا، يَتَدَاولُ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ يَكُونُ بهِ.

باب الصلاة الوسطى، إلى آخر الجمع بين الصلاتين في السفر

بابُ الصَّلاةِ الوُسْطَى، إلى آخرِ الجَمْعِ بينَ الصَّلَاتَيْنِ في السَّفَرِ * [المَوْضِعُ] (¬1) الذي أَمَرَتْ بهِ عَائِشَةُ أنْ يُكْتَبَ في مُصْحَفِها مِن قَوْلهِ عزَّ وَجَل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] (وصَلاَةُ العَصْرِ, يَحْتَمِلُ هذا أنْ يَكُونَ قَبْلَ كِتَابَةِ أَصْحَابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المَصَاحِفَ [التي أَمَرَ بِكتَابَتِها عُثْمَانُ، و] (¬2) لمْ يَقْرأْ بهذِه القِرَاءَةِ أَحَدٌ، وتَابَعَتْهَا على ذَلِكَ حَفصَةُ، وكانتْ كَثِيرَةَ المُتَابَعَةِ لِعَائِشَةَ، إلَّا أنَّ حَفْصَةَ لمْ تَقُلْ أنها سَمِعتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللُّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَما قالتْ عَائِشَةُ أنَّها سَمِعتْ ذَلِكَ من رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , ولَيْسَ في هَاتينِ القِرَاءَتْينِ بَيَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ الوُسْطَى هِي العَصْرُ، ولو كَانَت الوُسْطَى، لِكَانَتْ في التِّلاَوةِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} صَلاَةُ العَصْرِ) بِغِيرِ وَاوٍ. * وقد قالَ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ إنَّ الصَّلَاةَ الوُسْطَى هِي الصُّبْحُ. واخْتَارَ ذَلِكَ مَالِكٌ، لأنَّها بَيْنَ صَلاَتَيْنِ ليْلٍ وصَلاَتَيْنِ نَهَارٍ، وفَيها الجَهْرُ كَما يُجْهَرُ في صَلاَةِ اللَّيْلِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ الأَكْلُ في وَقْتِها في رَمَضَانَ؛ لأنَّهُ نَهَارٌ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَدْخَلَ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ (¬3)، عَن ابنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلمَانِيِّ، عَن عليِّ بنِ أَبي طَالِبٍ أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وقد اجتهدت بما رأيته مناسبا. (¬2) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، وقد اجتهدت ما أراه مناسبا للسياق. (¬3) جاء في الأصل: (ابن هشام)، وهو خطأ، والصواب ما أثبثه، وهشام هو ابن حسان.

الوُسْطَى صَلاَةِ العَصْرِ، مَلأَ اللهُ قُبُورَهُم وبُيُوتَهُم نَارًا" (¬1) سألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ هذا الحَدِيثِ، فقالَ لي: هذا الحَدِيثُ لم يُدْخِلْهُ البُخَارِيُّ في كِتَابِ الصَّلَاةِ، والصَّحِيحُ عَنْ عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ مَا في المُوطَّأ: (أنَّ الصَّلاةَ الوُسْطَى صَلاَةُ الصُّبْحِ). صِفَةُ الاشْتِمَالُ المَذْكُورِ في حَدِيثِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صلَّى مُشتَمِلًا، وَهُو أنْ يَلِفَّ الرَّجُلُ بِرِدَائِه مِنْ رَأْسِهِ إلى قَدَمَيْهِ ثُمَّ يُخَالِفُ بطَرَفِي الرِّدَاءِ على مَنْكِبَيْهِ يَسْتُرُ جَمِيعَ جَسَدِه، واشْتِمَالُ الصَّمَاءِ الذي نُهِيَ عنهُ هو أَنْ يَلْتَحِفَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ يَرُدُ طَرَفَ الثَّوْبِ الأَيْمَنِ على مَنْكبهِ الأَيْسَرِ، فَرُبَّما أنْ كُشِفَتْ عَوْرَةُ مَنِ اشْتَمَلَ هَكَذا على غَيْرِ ثَوْبٍ، وسَتْرُ العَوْرَةِ فَرْضٌ في الصَّلَاةِ وغَيْرِهَا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] وقالَ تَبَاركَ وتَعَالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فالزِّينةُ: الأَرْدِيةُ والثِّيَابُ، والمَسَاجِدُ: الصَّلَواتُ، وقد رأَى ابنُ عُمَرَ نَافِعَاً يُصَلِّي في مِئْزَرٍ، فقالَ لَهُ: (خُذْ عَلَيْكَ ردَائَكَ، فإنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَقٌّ تُجَمَّلَ لَهُ) (¬2). * قالَ أبو عُمَرَ: صَلاَةُ الرَّجُلِ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ رُخْصَةً، وذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ, فقالَ: "أَوَلِكُلِّكُم ثَوْبَانِ؟ ", وكَذَلِكَ صَلاَةُ المَرْأةِ في ثَوْبَيْنِ رُخْصَةٌ، ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَسَدَها وُيغَطِّي قَدَمَيْهَا، وخِمَارٌ تَسْتُرُ به شَعْرُهَا وصَدْرُهَا. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ المَرْأةِ لِعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ: (إنَّ المِنْطَقَ يَشُقُّ عَلَيَّ) تعني: أنَّ المِئْزَرَ يَشُقُّ عليَّ وُجُودُه (أَفَأُصَلِّي في دِرْعٍ وخِمَارٍ؟)، فَرَخصَ لهَا في ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في ثلاث مواضع من صحيحه (2773) و (3885) و (6033)، بإسناده إلى هشام بن حسان به. (¬2) بحثث عن هذا الأثر ولم أقف عليه.

قالَ أبو عُمَرَ: غَيْرُ عُرْوَةَ يَقُولُ: (تُصَلِّي في أَرْبَعِ أَثْوَاب: خِمَارٍ، وقَمِيصٍ، ومِئْزَرٍ وإزَارٍ، ويُصَلِّي الرَّجُلُ في ثَوْبَيْنِ لا بُدَّ لَهُما مِنْ ذَلِكَ) (¬1). وقالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: يُصَلّي الرَّجُلُ في ثَوْبٍ، والمَرْأةُ في ثَوْبَيْنِ. قالَ أبو مُحَمَّد: قَوْلُ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ في حَدِيثِ: "أَخَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعَاً، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى المَغْرِبَ والعِشَاءَ جَمِيعَاً، قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[................................] (¬2) وأصحابه، فلمَّا [نَزَلَ] (¬3) صَلَّى الظُّهْرَ، آخَّرَهَا إلى آخِرِ وَقْتِهِا، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَها وبَيْنَ العَصْرِ [....]، (¬4) إلى مَنْزِلهِ الذي كَانَ [....] (¬5) ثُمَّ خَرَجَ بعدَ المَغْرِبِ فَجَمَعَ بينَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ، وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِكَي يُرِي النَّاسَ اشْتِرَاكَ الأوقَاتِ، أَوْقَاتِ الصَّلَواتِ، كمَا فَعَلَ بالمَدِينَةِ حينَ جَمَعَ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ لِكي يُرِي النَّاسَ اشْتَرِاكِ الأوْقَاتِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُهُ في هذا الحَدِيثِ: "إنَكم سَتَأْتُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوكٍ" أَمَرَهُ اللهُ أنْ لا يَقُولَ لِشَيءٍ أنَّهُ يَفْعَلُهُ غَدَاً إلَّا أنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللهُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 22 - 23] قالَ الأَخْفَشُ: قَوْلُ مُعَاذٍ: "والعَيْنُ تَبِضُّ بشَيءٍ مِنْ مَاءً" يُرِيدُ: يَسِيلُ مَاؤُهَا سَيْلًا خَفِيفَاً. ¬

_ (¬1) نقل هذا القول عن مجاهد بن جبر، رواه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 226، وقال ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 473: وهذا لم يقله غيره. (¬2) ما بين المعقوفتين أصابه البلل فلم تظهر الكتابة بمقدار نصف سطر، ولم أستطع استظهاره. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، ووضعت ما يتناسب مع السياق. (¬4) أصاب المسح مقدار كلمة فلم تظهر، ولم أستطع استظهارها. (¬5) أصاب المسح مقدار كلمة لم تتبين لي.

وَسَبَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَا إلى العَيْنِ لأَخْذِهِما المَاءَ الذي قدْ كَانَ نَهَى أنْ يَمَسَّ أَحَدٌ منهُ شَيْئًا حتَّى يَأْتِيه رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِكي يُبَارَكَ فيهِ فَيَكْثُرُ، حتَّى يَشْرَبَ منهُ جَمِيعُ الجَيْشِ، فَلَمَّا فَعَلَ الرَّجُلاَنِ خِلاَفَ مَا قدْ كَانَ أَمَرَ به رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ وسَبَّهُمَا، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْضَبُ كمَا يَغْضَبُ البَشَرُ، غيرَ أنَّ سَبَّهُ كانَ بَرَكَةً ورَحْمَةً للمُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ ما حدَّثنا به أبو محمد البَاجِي (¬1)، قال: حدَّثنا أحمدُ بنُ خَالِدٍ، عَنْ جَمَاعةٍ مِنْ شُيُوخِه، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إسْحَاقَ الفَرْويِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَن الأَعْرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اللَّهُمَّ إني أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدَاً لنْ تُخْلِفَهُ، فإنَّما أَنا بَشَرٌ، فأيُّ المُؤْمِنِينَ سَبَبْتُهُ أو لَعَنْتُهُ فاجْعَلْهُ لَهُ صَدَقَةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بها يومَ القِيَامَةِ" (¬2). وهذا بِخِلاَفِ سَبِّه ولَعْنَتِه لِغَيْرِ المُؤْمِنِينَ، وسَبُّه لأُولَئِكَ ولَعْنَتْه إيَّاهُم مُسْتَجَابٌ منهُ فِيهم ولا [حُكْمٌ] (¬3) لَهُم في الآخِرَةِ. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِجَمْعِ مَاءِ تِلْكَ العَيْنِ لِيُبَارِكَ فيهِ، فَفَعلَ وصَبَّ فِيها مَاءَ وُضُوئِه فَجَرتْ تِلْكَ العَيْنُ في وَقْتِها بمَاءٍ كَثيرٍ، فَحِينَئِذٍ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذٍ: "يُوشِكُ يا مُعَاذُ إنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ أنْ تَرَى مَاءً هَاهُنا قد مُلِئَ جِنَانَاً" يعني: إنْ عِشْتَ فَسَتَرَى هذا المَكَانَ الَخَالِي قدْ عُمِرَ وكَثُرتْ فيه الأَجِنَّةُ، بِسَببِ غَزَرُ مَاءُ هذه العَيْنِ، فَغَزُرَ مَاءُهَا مِنْ ذَلِكَ الوَقْتِ، وعَمُرَ المَكَانُ حتَّى صَارَت الأَرْحَاءُ (¬4) ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عيسى الأندلسي، المفتي الفقيه، توفي سنة (369)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 740. وأحمد بن خالد هو ابن الجبّاب الإِمام، تقدم التعريف به. (¬2) رواه الحميدي (1041)، وأحمد 2/ 449، والخطيب البغدادي في تاريخه 10/ 80، بإسنادهم إلى أبي الزناد به، ورواه مسلم (2601) عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة به. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر جيدا، واجتهدت في وضع ما رأيته مناسبا. (¬4) الأرحاء جمع رحى، وهي التي يطحن بها الحنطة والشعير وغيرهما.

تُطْحَنُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ العَيْنِ وكَثُرتْ فيهِ الأَجنَّةُ المُسْقِيةُ مِنْ تِلْكَ العَيْنِ، وهذِه مِنْ عَلاَماتِ نُبُوَّتِه - صلى الله عليه وسلم -. قالَ مَالِكٌ: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَ المُسَافِرُ إذا جَدَّ بهِ السِّيرُ المَغْرِبَ إلى قُرْبِ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَيَجْمَعُ حِينَئِذٍ بينَ الصَّلَاتَيْنِ، ولا يُقَدِّمُ صَلاَةَ العِشَاءِ إلى المَغْرِبِ، ولا بَأسَ أنْ يُقَدِّمِ العَصْرِ إلى الظُّهْرِ فَيَجْمَعُهُمَا, ولا بَأْسَ أنْ يُؤخِّرَ الظُّهْرَ إلى أوَّلِ وَقْتِ العَصْرِ. وقالَ غَيْرُه: لا بَأْسَ أنْ يَجْمَعَ المُسَافِرَ بينَ الصَّلَواتِ وإنْ لم يَجِدَّ بهِ السَّفَرُ. قالَ أبو المُطَرَّفِ: الجَمْعُ بينَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ لَيْلَةَ المَطَرِ سُنَّةٌ، فَعَلَ ذَلِكَ الخُلَفَاءُ بالمَدِينَةِ بعدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يُؤَذَّنُ المَغْرِبُ في أَوَّلِ وَقْتِهَا، ثُمَّ تُؤَخَّرُ قَلِيلًا، ثُمَّ يُؤَذِّنُ للعَشَاءِ في دَاخِلِ المَسْجِدِ، ثُمَّ يُصَلَّى العِشَاءُ، ولا يُتَنَفَّلُ بينَ الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ وعَلَيْهِم أَسْفَارٌ (¬1)، ولا يَكُونُ الوِتْرُ حتَّى يَغِيبُ الشَّفَقُ، وبهذا قالَ مَالِكٌ واللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ. سألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَن الرِّسَالةِ التي نَسَبَها أبو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ إلى اللَّيْثِ أنَّهُ كَتَبَ بِها إلى مَالِكِ بنِ أَنَسٍ (¬2)، وأنكرَ عليهِ فِيها قَوْلَهُ بإبَاحَةِ الجَمْعِ بينَ المَغْرِبِ والعَشَاءِ لَيْلَةَ المَطَرِ، فقالَ لي أَبو مُحمدٍ: لَيْسَتْ تَصِحُّ تلكَ الرِّسَالةَ عَنِ اللَّيْثِ، والمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ اللَّيْثِ أنَّهُ أَبَاحَ الجَمْعِ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ لَيْلَةَ المَطَرِ، وعندَ الطَّينِ، والظُّلْمْةِ كمَا قالَ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ. * * * ¬

_ (¬1) أي قبل مغيب الشفق، والشفق الأسفار البياض الباقي من النهار. (¬2) رسالة الليث إلى الإِمام مالك رواها بطولها يحيى بن معين، كما في تاريخ الدوري (5411)، ونقلها ابن القيم الجوزية في إعلام الموقعين 3/ 83 نقلا عن يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ, ثم قال: وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد.

باب قصر الصلاة في السفر [إلى آخر باب الصلاة على الدابة]

بابُ قَصْرِ الصَّلَاةِ في السَّفَرِ [إلى آخِر بَاب الصَّلَاةِ على الدَّابّةِ] (¬1) * قَوْلُ الرَّجُل لإبنِ عُمَرَ: (إنا نَجِدُ صَلاَةَ الخَوْفِ وصَلاَةَ الحَضَرِ في القُرْآنِ، ولا نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ) , يعنِي: لا نَجدُ قَصْرَ الصَّلَاةِ في القُرْآنِ في غَيْرِ حَالةِ الخَوْفِ، فقالَ ابنُ عُمَرَ: (إنَّ الله بَعَثَ إلينَا مُحَمَّدًا ولا نَعْلَمُ شَيْئًا، فإنَّما نَفْعَلُ كمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ) يعنِي: تُقْصَرَ الصَّلاةُ في أَسْفَارِنَا فَنُصَلِّيها رَكْعَتَيْنِ [كمَا] (¬2) كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أَسْفَارِه، إذ هُو المُبَيِّنُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ما أَمَرَهُ به. قالَ أبو المُطَرِّفِ: صَلاَةُ الخَوْفِ هي صَلاَةُ السَّفَرِ، ولكنْ مِنْ أَجْلِ الخَوْفِ قُسِمَتْ بينَ طَائِفتيْنِ بإمَامٍ وَاحِدٍ، فَصَلاةُ السَّفَرِ مَذْكُورَةٌ في القُرْآنِ كمَا أنَّ صَلاَةَ الحَضَرِ مَذكُورَةٌ فيه، وذَلِكَ قَوْلُهُ عزَّ وجَلَّ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء: 103] يعنِي: إذا اسْتَقرَرَتُم في أَمْصَارِكُم {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) يعنِي: صَلُّوهَا أَرْبعَاً. قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الذي سَأَلَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ عَنْ هَذِه المَسْأَلةِ أُمَيَّةُ بنُ خَالِدِ بنِ أَسِيدٍ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: في جَوَابِ ابنِ عُمَرَ لِهَذا الرَّجُلِ مِنَ الفِقْهِ: الوُقُوفُ عندَ السُّنَنِ، وتَرْكُ الإعْتِرَاضِ على مَا ثَبَتَ مِنْهَا واسْتَفَاضَ بهِ العَمَلُ، وهذَا سَبيلُ أَهْلِ السَّلاَمَةِ، وأما مَنْ نَصَبَ دِينَهُ للجَدَلِ فإنَّهُ يُكْثِرُ التَّنَقُّلَ، ويُعْمِي قَلْبَهُ عَنِ الصَّوَابِ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدركته من الموطأ. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) جاء في الأصل: (فأتموا الصلاة)، وهو خطأ ظاهر.

* وحَدِيثُ عَائِشَةَ: (فُرِضَت الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ) إلى آخِرِ الحَدِيثِ، قالَ أبو عُمَرَ: هَذا الحَدِيثِ عِلَّتُهُ بَيِّنَةٌ، وَهِي مُخَالَفِةٌ لَهُ، وذَلِكَ أنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ في السَّفَرِ، والصَّاحِبُ إذا روَى حَدِيثًا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخَالَفَهُ بِعَمَلِه كَانتْ [عِلَّةً] (¬1) في الحَدِيثِ تُوجِبُ التَّوقُّفَ عنهُ، والذي ثَبَتَ مِنْ هذَا أنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَوَّلِ مَا فُرِضَتْ بِتَمَامِهَا، ثُمَّ قُصِرَتْ بعدَ ذَلِكَ في السَّفَرِ، لِحَالَةِ التَّعَبِ فيهِ، كمَا رُخِّصَ للمُسَافِرِ في الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ لِحَالَةِ مَشَقَّةِ الصِّيَامِ. وقالَ غَيْرُ أَبي مُحَمَّدٍ: يَحْتَمِلُ قَوْلُ عَائِشَةَ: (فُرِضَت الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في السَّفَرِ والحَضَرِ) أنَّهَا أَرَادَت الصَّلاَةُ التي كَانُوا يُصَلُّونَها بمكَّةَ قَبْلَ لَيْلَةِ الإسْرَاءِ رَكْعَتَيْنِ غُدْوَةً ورَكْعَتَيْنِ عَشيَّةً، وذَكَرَها في القُرْآنِ في قَوْلهِ تبَارَكَ وتَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (¬2) [طه: 130] فَيَحْتَمِلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ أنَّهَا أَرَادتْ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ، واللهُ أعلمُ. وتَأَوَّلَ النَّاسُ في تَمَامِ عُثْمَانَ بنِ عفَّانَ للصَّلاَةِ في السَّفَرِ، وإتْمَام عَائِشَةَ تَأوِيلاَتٍ، فَقِيلَ في عُثْمَانَ أنَّهُ إنَّما أَتَمَّهَا لأنَّهُ قالَ: (أَنَا خَلِيفَةٌ، فَحَيْثُ مَا كُنْتُ فأَنا في عَمَلِي) (¬3) كأنَّهُ مُقِيمٌ في أَهْلِهِ، وقِيلَ: إنَّمَا أَتَمَّهَا بِمِنَى وعَرَفةَ مِنْ أَجْلِ الأَعْرَاب الذينَ يُشَاهِدُوا مَعَهُ المَوْسِمَ، فأرَادَ أنْ يُرِيهِم أنَّ الصَّلاةَ أَربَعُ رَكَعَاتٍ، [وَقِيلَ] (¬4): إنَّما أَتَمَّهَا حِينَئِذٍ لأنَّهُ كَانَ اتَّخَذَ أَهْلًا بالطَّائِفِ، فكَأَنَّهُ كَان مُقِيمَاً بِمَكَّةَ ومَا جَاوَرَهَا. والذي تَأَوَّلَتْ في ذَلِكَ عَائِشَةُ أنَّهَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ، فَحَيْثُ مَا كَانَتْ فَهِي مُقِيمَةٌ مَعَ وَلَدِهَا. ¬

_ (¬1) في الأصل: (علته)، وهو مخالف للسياق. (¬2) في الأصل (فسبح) يعني بالفاء، وهو خطأ ظاهر. (¬3) نقله ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 506. (¬4) ما بين المعقوفتين ليس واضحا في الأصل، ووضعته مراعاة للسياق.

قالَ أبو المُطَرِّفِ: قالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الفُقَهَاءِ: القَصْرُ في السَّفَرِ رُخْصَةٌ، فَمِن الصَّحَابَةِ مَنْ أَخَذَ بِها، ومِنْهُم مَنْ لمْ يَأْخُذْ بِها، وصَلَّى صَلَاتَهُ في السَّفَرِ على هَيْئَتِهَا في الحَضَرِ، ولهَذا قالَ مَالِكٌ: مَنْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ في السَّفَرِ أَعَادَهَا سَفَرِيَّةً في الوَقْتِ، وَلَو كَانَ فَرْضُهُ في السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّاهَا أَرْبَعًا لوَجَبَ عليهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ أبدَاً, لأنَّهُ كَانَ يَكُونُ زَائِدَاً في فَرْضِه، ومَنْ زَادَ في فَرْضِهِ عَامِدَاً وَجَبَتْ عليهِ الإعَادَةُ أبدَاً. * [قالَ أبو المُطَرِّفِ] (¬1): بينَ ذَاتِ الجَيْشِ والعَقِيقِ عَشَرَةُ أَمْيَالٍ (¬2)، وأَظُنُّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ إنَّما أَخَّرَ صَلاَةَ المَغْرِبِ حينَ غَرُبَتْ لَهُ الشَّمْسُ بذِاتِ الجَيْشِ فَصَلاَّها بالعَقِيقِ مِنْ أَجْلِ أنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ المَاءَ للوُضُوءِ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَها بهذا التَّأخِيرِ. وقالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنَّما أَخَّرَها ابنُ عُمَرَ هذا التَّأْخِيرُ لِكَي يَقْطَعَ [في] (¬3) سَفَرِه، وذَلِكَ أنَّهُ قدْ اسْتُصْرِخَ على زَوْجَتِه صَفِيَّهَ وَهُو بِمَكَّةَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا على المَوْتِ، فأَسْرَعَ السَّيْرَ إلى المَدِينَةِ، فَوَصَلَ إليها مِنْ مَكَّةَ في ثَلاَثةِ أَيَّامٍ، فلذَلِكَ أخَّرَ صَلاَةَ المَغْرِبِ إلى قُرْبِ مَغِيبِ الشَّفَقِ، وهَكَذا يَفْعَلُ المُسَافِرُ إذا جَدَّ به السَّيْرُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: رُوي عَنْ عليِّ بنِ أَبي طَالِبٍ أنَّهُ خَرَجَ مِنَ البَصْرَةِ في وَقْتِ صَلاَةٍ إلى سَفَرٍ فَنَظَرَ إلى خُصٍّ مِنْ خُصُوصِ البَصْرَةِ عَنْ يَمِينِه فقالَ: (لَوْلاَ هذا الخُصُّ لَقَصَرْتُ الصَّلَاةَ) (¬4)، فهذَا يَدُلُّ على أنَّ المُسَافِرَ لا يَبْتَدِئُ بالتَّقْصِيرِ حتَّى ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر جيدا في الأصل، واجتهدت في وضعه. (¬2) ذات الجيش موضع قريب من ذي الحليفة جنوب المدينة، تسمى اليوم بالمفرحات، وتبعد عن المدينة قرابة (30) كيلا تقريبا، ينظر: معجم الأمكنة الواردة ذكرها في صحيح البخاري ص 234. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) رواه عبد الرزاق 2/ 529، وابن أبي شيبة 2/ 449، بإسنادهما إلى أبي حرب الدِّيلي به. والخصُّ -بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة- هو البيت من قصب، ينظر: عمدة القاري 7/ 121.

يُجَاوِزَ بُيُوتَ القَرْيَةِ التي خَرَجَ مِنْها، وتَصِيرُ وَرَاءَهُ. ويُروَى عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: (لا تُقْصَرُ الصَّلاةُ إلَّا في سَفَرِ الحَجِّ والجِهَادِ) (¬1). وقالَ مَالِكٌ: تُقْصَرُ الصَّلَاةُ في الأَسْفَارِ كُلِّها إذا كَانَتْ في طَاعَةٍ ولمْ يَخْرُجِ المُسَافِرُ في مَعْصِيَةٍ، فإذا خَرَجَ في مَعْصِيَةٍ لم يَجُزْ لَهُ التَّقْصِيرُ. * وقدْ قَصَر ابنُ عُمَرَ الصَّلَاةَ في مَسِيرِه إلى رِيمَ (¬2)، وإلى خَيْبرَ، وكانتْ فيه ضَيَاعَهُ التي كانَ مِنها مَعَاشُهُ. قالَ مَالِكٌ: تُقْصَرُ الصَّلَاةُ في مَسَافَةِ أَرْبَعِينَ دُونَ ثَمَانِيَةٍ وأَرْبَعِينَ مِيلًا. * قالَ أبو المُطَرَّفِ: قَوْلُ ابنِ المُسَيَّب: (إذا نَوَى المُسَافِرُ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بمَوْضِعٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ) وإنَّما قَالَ ذَلِكَ لَأنَّ مَا دُونَ أَرْبَعَةِ أيَّامٍ وَاقِعٌ في خِدْمَةِ اَلسَّفَرِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبْقَ المُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بعدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلاَثٍ" (¬3) فَجَعَلهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الثَّلاَثِ مُسَافِرَاً، وذَلِكَ أنَّ المُهَاجِرِينَ الذين هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ لا يَسْتَوْطِنُونَ مَكَّةَ, لأنَّهُم تَرَكُوهَا وهَاجَرُوا إلى اللهِ ورَسُولِهِ، فَحُكْمُهُم في الإقَامَةِ بِمَكَّةَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حُكمُ المُسَافِرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَا زَادَ على الثَّلاثِ مِنْ حُدُودِ الإقَامَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا دَخَلَ المُسَافِرُ بَلَدَهُ أَوَّلَ نَهَارِه ونَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فِيهَا أَتَمَ صَلَاتَهُ مِنْ وَقْتِ دُخُولِهِ، فإنْ دَخَلَ وقدْ مَضَى جُلُّ النَّهَارِ أَلْغَى ذَلِكَ اليومَ وبدَأَ بالإتْمَامِ مِن أَوَّلِ اليومِ الثَّانِي. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق 2/ 521، وابن أبي شيبة 2/ 446، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 288، بإسنادهم إلى ابن مسعود به. (¬2) ريم -بكسر أوله- واد قرب المدينة لا يزال معروفا يفضي سيله إلى النقيع أعلى وادي العقيق، ينظر: كتاب الأماكن للحازمي مع تعليقات العلامة حمد الجاسر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- 1/ 484. (¬3) رواه البخاري (3718)، ومسلم (1352)، من حديث العلاء بن الحضرمي.

وقالَ سُحْنُونُ (¬1): إذا دَخَلَ ونَوَى إقَامَةَ عِشْرِينَ صَلاَةٍ بدأَ بالتَمَامِ مِنْ وَقْتِ دُخُولهِ، [وإنْ] (¬2) كَانَ قدْ دَخَلَ في بَعْضِ النَّهَارِ، وإنْ لم يَنْوِ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أيَّامٍ قَصَرَ الصَّلَاةَ. * قالَ مَالِكٌ: إذا اجْتَمَعَ المُسَافِرُونَ وأَهْلُ الحَضَرِ في الصَّلَاةِ فَأَوْلاَهُم بالإمَامَةِ المُسَافِرُونَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ يُدْرِكُ صَلَاتَهُ على هَيْئَتِها، وإذا دَخَلَ مُسَافِرٌ خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَ مَعَهُ الصِّلاَةَ، كَمَا كَانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُ بِمِنَى، كانَ إذا أَتَمَ الإمَامُ الصَّلَاةَ أتَمَّهَا مَعَهُ ابنُ عُمَرَ، وإذا صَلَّاهَا لِنَفْسِهِ صَلاَّهُمَا رَكْعَتَيْنِ. * إنَّما كَانَ ابنُ عُمَرَ لا يَتَنفَّلُ في أَسْفَارِه بالنَّهَارِ التِزَامَاً منهُ للقَصْرِ في السَّفَرِ، وكَانَ يَتَنَفَّلُ باللَّيْلِ لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيهِ: "نِعْمَ الرَّجُلِ عبدُ اللهِ إلَّا أنَّهُ يَنَامُ باللَّيْلِ" (¬3)، فَكَانَ بعدَ ذَلِكَ لا يَتْرُكُ، قِيَامَ اللَّيْلِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وكانَ يَرَى ابنَهُ سَالِمَاً يَتَنَفَّلُ بالنَّهَارِ فلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ هذَا على [أَنَّ] (¬4) التَّنَفُلَ بالنَّهَارِ في السَّفَرِ مُبَاحٌ. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: انْفَرَدَ عَمْروُ بنُ يحيى بقَوْلهِ في الْحَدِيثِ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى النَّافِلَةَ في السَّفَرِ علَى حِمَارٍ" وإنَّمَا المَعْرُوفُ أَنَّهُ صَلَّاهَا على رَاحِلَتِهِ في السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوجَّهَتْ بهِ. * * * ¬

_ (¬1) هو الإِمام عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي القيرواني المالكي، الملقب بسحنون -بفتح السين وبضمها- الفقيه المشهور صاحب المدونة، المتوفى سنة (240)، السير 12/ 63. (¬2) جاء في الأصل: (وا كان)، وهو خطأ. (¬3) رواه البخاري (1070)، ومسلم (2479). (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

باب من صلى الضحى إلى آخر باب القنوت في صلاة الصبح

بابُ مَنْ صَلَّى الضُّحَى إلى آخِرِ بَابِ القُنُوتِ في صَلاَةِ الصُّبْحِ * أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى في صَلاَةِ الضُّحَى عَن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثُ أُمِّ هَانِي بنتِ أَبي طَالِبٍ حِينَ دَخَلَتْ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُه بثَوْبٍ، وكَانَتْ تُمْسِكُ الثَّوْبَ مِنْ وَرَاءِهَا وتُوَلِّي ظَهْرَهَا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلَّا تَرَاهُ عُرْيَانًا. وفي قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُم هَانِي في هذَا الحَدِيثِ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أُمَّ هَانِي" حُجَّةٌ لأَشْهَبَ، وذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ إجَارَةَ المَرْأةِ المُشْرِكَةِ لا تَجُوزُ [إلَّا أَنْ] (¬1) يُجِزْها الإمَامُ. وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: تَجُوزُ إجَارَةُ المَرْأَةِ، وتُنْفَذُ على الإمَامِ وغَيْرِه، وحُجَّةُ ابنُ القَاسِمِ أنَّ أَمَانَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُقَدَّمُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ ولِغَيْرِه يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِقَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ" (¬2)، وَقَولِه - عليهِ السَّلاَمُ -: (يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم) (¬3) فإجَارَةُ المَرْأةِ جَائِزَةٌ. * [وقَوْلُ عَائِشَةَ] (¬4) في صَلاَةِ الضُّحَى: (لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهُمَا) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يتناسب مع سياق الكلام. (¬2) رواه مسلم (1780)، وأحمد 2/ 292، ضمن حديث طويل عن أبي هريرة. (¬3) رواه ابن ماجه (2685)، وأحمد 2/ 215، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واستدركته بما جاء في الموطأ، ومع ما يتوافق مع السياق.

يعَني: لَوْ أُحْيِيَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُ صَلاَةَ الضُّحَى، ولا مَنَعَنِي فَرَحِي بِهِما مِنْ صَلاَتِهِمَا, ولَمْ تَحْكِ أنَّها رَأَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا. وصَلاَةُ الضُّحَى مُرَغَّبٌ فِيها، مَرْجُوٌّ ثَوَابُهَا، وكَانَ ابنُ عُمَرَ يُصَلِّيهَا كُلَّ يَوْمٍ في المَسْجِدِ، وصَلاَّهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُصَلِّيها عَشْرَ رَكَعَاتٍ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: في دَعْوَةِ مُلَيْكَةَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإجَابَتِه إيَّاهَا مِنَ الفِقْهِ: إجَابَةُ دَعْوَةِ المَرْأةِ الصَّالِحَةِ، وأَكْلُ الطَّعَامِ عِنْدَهَا، وقِيلَ أيضًا: إنَّها كَانَتْ مِنْ خَالاَتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرَّضَاعَةِ، وذَلِكَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ مُسْتَرْضَعَاً في الأَنْصَارِ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ دَعْوَتَها، وأكَلَ طَعَامَها في بَيْتِهَا. * قالَ عِيسَى: نَضْحُ أَنَسَ بنِ مَالِكٍ الحَصِيرَ التي بَسَطَتْهُ مُلَيْكَةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِكَي تَطِيبُ نَفْسُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وهذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَيْسَ النَّضْحُ بِشَيءٍ، والنَّضْحُ طُهْرٌ لِمَا يُشَكُّ فيهِ مِنَ الثِّيَابِ وغيْرِهَا، هَلْ أَصَابَهُ نَجَسٌ أَمْ لَا، وفي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: إبَاحَةُ الإمَامَةِ في النَّافِلَةِ، وفيهِ أَنَّ صُفُوفَ النِّسَاءِ في الصَّلَاةِ خَلْفَ الرِّجَالِ، وأَنَّهُ إذا كَانَ رَجُلٌ وصَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ صَلَّيَا جَمِيعًا خَلْفَ الإمَامِ، ويَتَقَدَّمُهُما الإمَامُ، فإذا خُشِيَ على الصَّبِيِّ أنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِصِغَرِه لمْ يُعْتَدَّ بهِ، وصَلَّى المَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ صَفَّاً وَاحِدًا، وصَلَّت المَرْأةُ خَلْفَهُمَا. * في تَنَفُّلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بالهَاجِرَةِ دَلِيلٌ على ضَعْفِ مَا حَكَاهُ عبدُ اللهِ الصُّنَابِحِيُّ في حَدِيثهِ مِنَ النَّهْي عَنِ التَّنَفُّلِ بالهَاجِرَةِ، وهُو الحَدِيثُ الذي ذَكَرَهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ، في بَابِ النَّهِي عَنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ بعدَ العَصْرِ وبَعْدَ الصَّبْحِ والتَّنَفُلِ في الهَاجِرَةِ، وعندَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بهِ عندَ أهلِ المَدِينَةِ. قالَ مَالِكٌ: لمْ يَزَلِ العِبَادُ يَتَنَفَّلُونَ بالهَاجِرَةِ، ويَرْجُونَ بَرَكَةَ التَّنَفُلِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ولا أَعْرِفُ مَا ذَكَرَهُ الصُّنَابِحِيُّ في ذلك، يَعْنِي: لمْ يَعْرِفْهُ مَعْمُولًا بهِ. قالَ عِيسى: كَانَ يَرْفَأُ مَوْلَى لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، والسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّي المَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ، فإذا دَخَلَ عَلَيْهِما ثَالِثٌ تَقَدَّمَ الإمَامُ، وصَارَ لوِرَائِه صَفَّاً.

* قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَارِّ بينَ يَدَي المُصَلِّى: "إنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَلْيُقَاتِلْهُ، فإنَّمَا هُو شَيْطَانٌ" قالَ عِيسَى: يَنْبَغِي للمُصَلِّيْ أنْ يَمْنَعَ الذي يُرِيدُ أَنْ يَمُرَّ بينَ يَدَيْهِ مَنْعَاً لا يَشْتَغِلُ بهِ عَنْ صَلَاتهِ، فإنْ غَلَبَهُ فَلْيَدَعْهُ يَبُوءُ بإثْمِه، ولَا يَضُرُّهُ مُرُورَهُ بينَ يَدَيْهِ في صَلَاتهِ، وفِعْلُهُ ذَلِكَ كَفِعْلِ الشَّيْطَانِ الذي يَخْطُرُ بينَ المَرْءِ ونَفْسِه في صَلاَتِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: قالَ مَالِكٌ: وإذا مَضَى المَارُّ بينَ يَدَي المُصَلِّي وجَاوَزَهُ فلَا يَرُدُّهُ، وكَذَلِكَ لا يَرُدُّهُ وهُو سَاجِدٌ. قالَ أَشْهَبُ: وإذا مَرَّ قُدَّامَهُ فَلْيَرُدُّهُ بإشَارَةٍ ولَا يَمْشِي إليهِ, لأن مَشْيَهُ إليه أَشَدُّ مِنْ مُرُورِه بينَ يَدَيْهِ، فإن مَشَى إليه وَرَدَّهُ لَم تَفْسُدْ بِذَلِكَ صَلاَتُهُ. * حَدِيثُ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ الذي قَالَ فيهِ: (أَقْبَلْتُ رَاكِبَاً على أَتَانٍ) إلى آخِرِ الحَدِيثِ، فيهِ دَلِيلٌ على أنَّ الإمَامَ سِتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، وأَنَّ الحِمَارَ لا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وقالَ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: (لا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيءٌ مِمَّا يَمُرُّ بينَ يَدَي المُصَلِّي). * قالَ [أبو المُطَرَّفِ] (¬1): إنَّما كَانَ ابنُ عُمَرَ يَسْتَتِرُ بِرَاحِلَتِهِ في الصَّحْرَاءِ إذا صَلَّى مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَوْلَهَا وبَعْرَهَا ليسَ بِنَجَسٍ. وقالَ ابنُ وَهْبِ: إنَّما كُرِهَتِ الصَّلَاةُ في مَعَاطِنِ الإبِلِ مِن أَجْلِ أنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ بِها عندَ الخَلاَءِ، فإذا لم يَسْتَتِرْ بِها عندَ الخَلاَءِ فَلاَ بَأْسَ بالصَّلَاةِ في أَعْطَانِها. ورَوَى ابنُ عبدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ قالَ: لا يُصَلَّى في مَعَاطِنِ الإبلِ وإنْ كانَ عَلَيْهَا سِتْرٌ. وقالَ: لا بَأْسَ بالصَّلَاةِ على الفِرَاشِ النَّجِسِ يُصَلَّي عليهِ المَرِيضُ إذا بُسِطَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضعه.

عليهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ يُمَدُّ على الفِرَاشِ ثُمَّ يُصَلِّي عليهِ، وهَذا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِ مَالِلث أنَّهُ إنَّمَا كُرِهَت الصَّلَاةُ في مَعَاطِنِ الإبلِ مِنْ أَجْلِ الحَدِيثِ الذي رُوِي عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّهُ نَهَى عَنِ الصلاَةِ في مَعَاطِنِ الإبل" (¬1). وقالَ غَيْرُهُ: إنَّما كُرِهَت الصَّلَاةُ في مَعَاطِنِ الإبلِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي رَوَاهُ الحَسَنُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُغَفَّل صَاحِبِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بالصَّلَاةِ في مرَابِضِ الغَنَمِ، ونَهَى عَنِ الصَّلَاةِ في أَعْطَانِ الإبلِ، لأنَّها خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ" (¬2). * قَوْلُ أَبي ذَرٍّ: "مَسْحُ الحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَة" [540] يعنِي: مَسَحَهَا المُصَلّي بيدِه مَسحَة وَاحِدَة إذا أَرَادَ أَنْ يَسجُدَ عَلَيهَا "وتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، يعني: تَركَ الشغْلِ بِمَسْحِها في الصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُعْطَى تَارِكُ ذَلِكَ حُمْرَ النَّعَمِ صَدَقَة، وإنَّمَا ذَكَرَ الحُمْرَ لأنَّهَا مِنْ أَنْفَسِ الغَنَمِ وأَعْلاَهَا عندَ العَرَبِ، والمُرَادُ مِنْ هذَا الإقْبَالُ على الضَلاَةِ أوذَلِكَ أَنَّأ (¬3) المُصَلّي [أَمَامَ] (¬4) رَبِّه الذي يَقُومُ بينَ يَدَيْهِ في صَلَاتهِ، وفي الحَدِيثِ الثَّابِتِ: "أنَّهُ مَا التَفَتَ العَبْدُ في صَلَاتهِ إلَّا قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: أَنا خَيْرٌ لكَ مِمنْ تَلْتَفِتُ إليه" (¬5). * قوُلُه: "مِنْ كَلَامِ النُّبَّوةِ: إذا لمْ تَستَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ [545] يقولُ: مِنْ كَلَامِ الأَنْبِيَاءِ: مَنْ لم يَكُنْ لَهُ حَيَاءٌ فَلْيَصْنَعْ مَا يَشَاءُ، وفي هذا الحَدِيثِ وَعِيدٌ لِمَنْ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (348)، وابن ماجه (768)، وأحمد 2/ 451، و 491، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه النسائي 2/ 56، وابن ماجه (769)، وأحمد 5/ 56، والبيهقي في السنن 2/ 449. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يتبين في الأصل، واجتهدت في وضعه. (¬4) جاء في الأصل: (أمر)، وهو مخالف للسياق. (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد (508)، والعقيلي في الضعفاء 1/ 70، وإسناده ضعيف جدا، ولكنه صحيح من قول أبي هريرة، رواه عبد الرزاق في المصنف 2/ 257، وابن أبي شيبة 2/ 41.

تَرَكَ الحَيَاءَ، والمَعْنَى: فَلْيَصْنَعْ مَا شَاءَ فَسَيرَى عَاقِبةَ عَمَلِه، كَمَا قالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] أي: فَسَتَرُونَ عَاقِبَةَ أَعْمَالِكُم. وأَرْسَلَ مَالِكٌ الحَدِيثَ في المُوطَّأ ولم يُسْنِدْهُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: وحدَّثنا به أبو القَاسمِ بنُ أَبي خَلِيفَةَ بِمِصْرَ (¬1)، قال: حدَّثنا أبو بِشْبر الدُّولاَبِيُّ (¬2)، قالَ: حدَّثنا بُنْدَارُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، قالَ: حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهْدِيِّ، قالَ: حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبي مَسْعُود الأَنْصَارِيِّ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قالَ: " [إن] (¬3) مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبَّوةِ إذا لم تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ" (¬4) وهذا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. وفِي حَدِيثِ مَالِكٍ المُرْسَلِ زِيَادَةُ قَوْلِهِ: (وَوَضَعَ اليُمْنَى على اليُسْرَى في الصلاَةِ)، وكَرِهَ ابنُ القَاسِمِ وَضْعَ اليَدِ اليُمْنَى على اليُسْرَى في الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، وأَجَازَ ذَلِكَ أَشْهَبُ وابنُ وَهْبٍ. ووَجْهُ كَرَاهِيةِ ابنِ القَاسِمِ لِذَلِكَ أنَّهُ رَأَهُ مِنْ وَجْهِ الإعْتِمَادِ في الصَّلَاةِ على الشَيءِ الذي يُكْرَهُ المُصْلِّي إلَّا مِنْ ضَرُورَة. ووَجْهُ إجَازَةِ أَشْهَبَ وابنِ وَهْب لِذَلِكَ أَنَّهُمَا أَنْزَلاَهُ بِمَنْزلَةِ التَّذَلُلِ والإسْتِكَانَةِ بينَ يَدَي رَبِّ العَالَمِينَ. * ومَعْنَى قَوْلِ أَبي حَازِم في هَذا الحَدِيثِ: (لا أَعْلَمُهُ إلَّا أنَّهُ يَنْمِي ذَلِكَ) [546] ¬

_ (¬1) هو هشام بن محمد بن قرة بن أبي خليفة المصري، توفي سنة (376)، وهو الذي روى كتاب مشكل الآثار للطحاوي، كما جاء فيه 1/ 105، وينظر: كتاب وفيات المصريين ص 26. (¬2) هو محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الدُّولابي الرازي، الإِمام الحافظ الناقد، وهو صاحب كتاب الكنى وغيره، توفي سنة (310)، السير 14/ 309. (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة من مصادر تخريج الحديث. (¬4) رواه البخاري (3296)، وابن ماجه (4183)، وأحمد 4/ 121، بإسنادهم إلى منصور بن المعتمر به.

يعنِي: يُسْنِدَ ذَلِكَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِنْهُ يُقَالُ: نَمَيْتُ الحَدِيثَ إلى [قَائِلهِ] (¬1) أَيْ أَسْنَدُتُه إليه. * قالَ أبو عُمَرَ: مَعْنَى تَرْكِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ للقُنُوتِ في الصَّلَاةِ [548] كَانَ ذَلِكَ منهُ مُدَافَعَةً للخِلاَفَةِ، وذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ النَّاسَ قَالُوا: إنْ قَنَتَ ابنُ عُمَرَ في الصَّلَاةِ كَمَا كَانَ علي وأَصحَاُبهُ يَقْنِتُونَ في الصَّلَاةِ فَالخِلاَفَةُ يُرِيدُ، فَلِهذَا تَرَكَ ابنُ عُمَرَ القُنُوتَ في صَلَاةِ الصُّبْحِ. وروَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ: (أنَّهُ كَانَ لا يَقْنُتُ في شَيءٍ مِنَ الصَّلَاةِ إلَّا في صَلَاةِ الصّبْحِ، فإنّه كَانَ يَقْنِتَ بعدَ الرَّكْعَتَيْنِ) (¬2). قالَ مَالكٌ: والقُنُوتُ في صَلَاةِ الصّبْحِ قَبْلَ الرّكُوعِ، وبعدَ الرُّكُوعِ حَسَنٌ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: والقُنُوتُ: (اللَّهُمَّ إنّا نَسْتَعِينُكَ، ونَسْتَهْدِيكَ، ونَسْتَغْفِرُكَ، ونُؤمِنُ بكَ، ونَخْنَعُ لَكَ، ونَخْلَعُ ونترُكُ لَكَ مَنْ يَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، ولَكَ نُصَلِّي ونَسْجُدُ، وإليكَ نَسْعَى ونَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، ونَخَافُ عَذَابَكَ الجِدّ، إنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بالكَافِرِينَ مُلْحِقٌ). قالَ: ومَنْ تَرَكَ القُنُوتَ في صَلاَتِهِ نَاسِياً كَانَتْ صَلاَتُهُ تَامَّةً. وقَالَ غَيْرُهُ: عليهِ أَنْ يَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليست واضحة في الأصل، وقد اجتهدت ما رأيته مناسبا للسياق. (¬2) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (27) ب، بلفظ: (كان لا يقنت في شيء من الصلاة إلا في الوتر إلا أنه كان يقنت في صلاة الفجر قبل أن يركع الآخرة)، وبهذا اللفظ ذكره ابن عبد البر في الإستذكار 2/ 589.

باب النهي عن الصلاة [والإنسان يريد حاجته]، إلى آخر باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -

بابُ النَّهِي عَنِ الصَّلَاةِ [والإنْسَانُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ] (¬1)، إلى آخِرِ بَابِ الصَّلَاةِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الغَائِطَ فَلْيَبْدَأْ بهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ" [550] إنَّما أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذَا لِئَلا يَشْتَغِل الحَاقِنُ عَنْ صَلَاتهِ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ، لِذَلِكَ قالَ عُمَرُ: "لا يُصَليَن أَحَدُكُمْ وَهُو ضَامٌّ بينَ وَرِكيْهِ" [551] يعنِي: لا يُصَلي أَحَدُكُمْ وقدْ حَقنَهُ بَول أَو غَائِط، فَيَظُمُ فَخِذَيْهِ خِيفَةَ أَنْ يَغْلِبَهُ الغَائطُ أَو البَوْلُ، فَمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ في صَلَاتهِ فَشَغَلَهُ عَنهَا قَطَعَها، ثُمَ قَضَى حَاجَتَهُ وتَوضَّأَ وصَلَّى، فإنْ تَمَادَى فِيها أَعَادَها، إلَّا أنْ يَكُونَ شَيْئَاً خَفِيفَاً فَلاَ إعَادَةَ عَلَيهِ. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي على أَحَدِكُم مَا دَامَ في مُصَلاَّهُ" [553] وذَكر الحَدِيثَ، يَعْنِي: المَلاَئِكَةَ تَدْعُو لِمَنْ جَلَسَ في المسجِدِ يَنتظِرُ الصلاَةَ بالرَحْمَةِ والمَغْفِرَةِ مَا لمْ يَنتقِضىْ وُضُوءَهُ، وهذا قَوْلُ مَالِكٍ. وقَوْلُ غَيْرِه: مَا لِمْ يَغْتَبِ الناسَ وَيأْخُذُ فِيمَا لا يَنبَغِي. * وقُولُهُ: "لا يَزَالُ أَحَدُكُم في الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ" [554] فيهِ مِنَ الفِقْهِ: التزغِيبُ في عِمَارَةِ المَسَاجِدِ لِمُشَاهَدةِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وإنَ لَكُلِ امرِئٍ مَا نَوَى. * قَوْلُ أَبي بَكرِ بن عبدِ الرحمن: "مَنْ غدَا أو رَاحَ إلى المَسجِدِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ لِيتعلَّمَ خَيْرَاً أَو لِيُعَلِّمُهُ كَانَ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ" [555] فيهِ مِنَ الفِقْه: أنَّ العَالِمَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ 2/ 222 (549)، وجاء في الأصل: (الخفين)، ولا شك أنه سهو من الناسخ.

والمُتَعَلِّمَ في الأَجْرِ سَوَاءٌ، وكَذَلِكَ قالَ أَبو الدَّرْدَاءِ: إنَّ العَالِمَ والمُتَعَلمَ شرِيكَانِ في الأَجْرِ (¬1). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وكَرهَ ابن المُسَيبِ لِمن كَانَ في المَسْجِدِ أنْ يَخْرُجَ مِنْهُ لِغَيْر ضَرُورَةٍ إذا سمعَ المؤَذن لِئَلا يُشبِّه بالشَيْطَانِ الذي يُدْبِرُ إذا سَمِعَ الأَذَانَ. * قالَ أَبو المُطَرفِ في حَدِيثِ سَهْلٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إلى بَنِي عَمْروِ بنِ عَوْفٍ" [565] مِنَ الفِقْهِ: إصْلاَحُ الإمَامِ على رَعِيَته إذا تَقَاتَلُوا، لِئَلا تَفْتَرِقَ كَلِمَتُهُم فَيَدْخُلَهُمُ الفَسَادُ، واسْتِخلاَفِ الإمَامِ على صَلَاةِ الجَمَاعَةِ إذا غَابَ عَنِ المَسْجِدِ أَهلُ الفَضلِ والرِّضَا. روَى هَذا الحَدِيثَ حَمادُ بن زيدٍ، عَنْ أَبي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، وقالَ فيهِ: إنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ لَبِلاَلٍ: "إذا حَضَرتِ الصلاَةُ فَقَدمْ أبا بَكرٍ" (¬2). وفي حَدِيثِ مَالِكٍ أَيضَاً مِنَ الفِقْه: فَضْلُ الصف الأولِ في الصَّلَاةِ، والحِرصُ على الدُخُولِ فيهِ لِتَحضِيضِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الوُصُولِ إليه، وفيه: الحِرصُ على الدخُولِ في الصَّف الأَوَلِ، وإبَاحَةُ الإشَارَةِ في الصَّلَاةِ، وليسَ العَمَلُ على خُرُوجِ الإمَامِ مِنَ الصلاَةِ لِغَيْرِ حَدَثٍ ودُخُولِ غَيرِه إذ لَا مِثْلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقَوْلُهُ في آخِرِ الحَدِيثِ: "إنَّمَا التَّصْفِيقُ للنسَاءِ" قالَ مَالِكٌ: يعِني أَنَ النساءَ شَأنَهُن التصْفِيقُ عندَ الحَاجَاتِ في غَيرِ الصَّلَاةِ، ولمْ يُرِد أَنَهُنَّ يُصَفِقْنَ في الصلاَةِ عندَ شَيءٍ يَحْدُث فِيهَا. وقالَ مَالِكٌ: ومَنْ نابَه شَيءٌ في صَلاَتِهِ فَلْيُسَبحْ رَجُلٌ كَانَ أَو امرَأَةٌ. * ورَوى ابن بُكيْرٍ عَنْ مَالِكٍ في حَدِيثِ زَيدِ بنِ ثَابِت أنهُ قَالَ: "دَخَلَ زَيْدُ بنُ ¬

_ (¬1) ذكره الذهبي في السير 2/ 347. وروي هذا القول مرفوعا من حديث أبي أمامة، رواه ابن ماجه (228)، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 220، وإسناده ضعيف. (¬2) رواه أحمد 5/ 332، والطبراني في المعجم الكبير 6/ 129.

ثَابتٍ المَسْجِدَ فَوَجَد النَّاسَ رُكُوعَاً، فَمَشَى حتَّى إذا أَمْكَنَهُ أَن يَصِلَ إلى الصَّفِّ رَكع" [569] (¬1)، وذَكَرَ بَاقِي الحَدِيثِ، لم يَرْو يحيى: "حتَّى إذا أَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ"، والذي رَوَى ابنُ بُكَيْرٍ فَسَّرَهُ إسْمَاعِيلُ القَاضِي (¬2) قَالَ: مَنْ دَخَلَ المَسْجِدِ فَوَجَدَ النَاسَ رُكُوعَاً أَنَّهُ لا يَرْكَعُ إلَّا إذا طَمَعَ أَنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ ولا يَرْكَعُ إذا بَعُدَ مِنَ الصَّفِّ وإنْ خَشِيَ أَنْ تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِك فِيمَنْ دَخَلَ المَسْجدَ فَوَجَدَ الإمَامِ رَاكِعَاً فَلْيَرْكَعْ إنْ خَشِيَ أَنْ يَرْفَعَ الإمَامِ رَأْسَهُ إذا كَانَ قَرِيباً مِنَ الصَّفَّ يَطْمَعُ إذا رَكَعَ فَدَبَّ رَاكِعَاً قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ. * قالَ أَبو مُحَمَّد: إنَّمَا سَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ جَوَابِ بَشِيرِ بنِ [سَعْد] (¬3) حَيْثُ قالَ لَهُ: "كيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ" [573] حَيَاء مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يثني على نَفْسِهِ، لُمَّ عَلَّمَهُم كَيْفَ يَصَلُّوا عليهِ. وقَوْلُهُ في آخِرِ الحَدِيثِ: "والسَّلاَمُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ" يعنِي: السَّلاَمَ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبيُّ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ. وقالَ مَالِكٌ: لا يُصَلَّى على غَيْرِ نَبِيٍّ (¬4) * وَقَعَ في مُوطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ (أَنَّ عبدَ اللهَ بنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ على قَبْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الرواية في موطا ابن بكير، كما أني لم أجد هذه الرواية في مسند الموطا للجوهري، ولا في أطراف الموطأ للداني، ولم أعثر عليها أيضا في التمهيد. (¬2) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي، الإِمام العلامة الفقيه الناقد صاحب التصانيف العظيمة، ومنها كتاب (أحكام القرآن) الذي صدر مؤخرا بتحقيقي، توفي هذا الإِمام سنة (282). (¬3) جاء في الأصل: سعيد، وهو خطأ، وهو بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، والد النعمان بن بشير. (¬4) ذكر ابن عبد البر في التمهيد 17/ 305 بان الصلاة على كل أحد جائزة من كل أحد اقتداء برسول الله - عليه السلام - الذي يمتثل قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم}.

فَيُصَلِّي على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويَدْعُو لأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ) (¬1)، وهذَا أَصَحُّ مِنَ الذي روَى يَحْمىَ: (فَيُصَلّي على النبيِّ وعلى أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ [574]، والصَّحِيحُ: (ويَدْعُو لأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ). * * * ¬

_ (¬1) لم أجد هذا الأثر في موطأ مالك برواية ابن بكير في باب ما جاء في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، الورقة (33 أ).

باب جامع الصلاة، إلى آخر باب الترغيب في الصلاة

بابُ جَامِعِ الصَّلَاةِ، إلى آخِرِ بَابِ التَّرْغِيبِ في الصَّلَاةِ * في حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكعَتينِ، وبَعْدَهَا رَكعَتَيْنِ، وبعدَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ [576]، وهَذا الحَدِيثُ يُبين أَنَ النَّافِلَةَ باللَّيْلِ والنَهَازِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلي بعدَ الجُمُعَةِ في المَسْجِدِ حتَّى يَنْصَرِفَ إلى بَيْتِه فَيُصَلي فيهِ رَكْعَتَيْنِ، وبهذَا قالَ مَالِك وأَهْلُ المَدِينَةِ. * وروَى حماد، عَنْ أَيوبَ، عَنْ نَافِعٍ: (أن ابنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلاً صَلى رَكْعَتَيْنِ بعدَ الجُمُعَةِ في مَقَامِهِ الذي صَلى فيهِ الجُمُعَةَ، فقالَ لَهُ: أتصَلي الجُمُعَةَ أَرْبَعَاً؟!) (¬1) وأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِمَا فيهِ خِلاَفُ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ أبو مُحَمدٍ: كَانَ بالمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ يَسْتَخْفُونَ بالصَّلاَةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَبَّخَهُم بِفِعلهِم، وقالَ: "إني أَرَاكمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْري" [577]، وهذا مِنْ عَلاَمَة نُبُوَّتِه. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ لمْ يَرْفَعْ رَأْسهُ مِنَ الرُّكُوعِ ولمْ يَعْتَدِلْ قَائِمَا حتَّى خَرَّ سَاجِدَاً فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ ولا يَعُودُ، فإنْ خَرَّ مِنَ الركُوعِ إلى السُّجُودِ ولَمْ يَرْفَعْ شَيْئَاً فَلاَ يَعْتَد بتلكَ الركعَةِ، وَهُو قَوْلُ مَالِكٍ، ومَنْ رَفَعَ رَأْسهُ مِنَ السُّجُودِ فَلَمْ يَعْتَدِلْ جَالِسَاً حتَى سَجَدَ أُخرَى فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ ولا يَعُدْ، ولا شَيءَ عليهِ في صَلَاتهِ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1127)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 336، بإسنادهما إلى حماد بن زيد به.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَحَبُّ إليَّ للذِي خَرَّ مِنَ الركْعَةِ سَاجِدَاً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ أَنْ يَتَمَادَى مَعَ الإمَامِ ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ. قالَ عِيسى: إنْ فَعَلَ ذَلِكَ في الرَّكْعَةِ الأُولَى قَطَعَ صَلَاتَهُ وابْتَدَأَهَا، وإنْ فَعَلَ ذَلِكَ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ جَعَلَها نَافِلَةً وسَلَّمَ، وإنْ فَعَلَ ذَلِكَ في الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ أتمَّ الصّلاَةَ وجَعَلَهَا نَافِلَةً، ثُمَّ أَعَادَها بِتَمَامِ رُكُوعِها وسُجُودِها، وهذا فِيمن صَلى وَحْدَهُ، وأَمَّا مَنْ صَلَّى مَعَ الإمَامِ وفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ تَمَادَى مَعَهُ، ثُمَّ أَعَادَهَا. * قالَ أَبو المُطَرفِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي مَسْجِدَ قُباءَ للصَّلاَةِ فيهِ لِفَضلِ بُقْعَتِهِ، وقيلَ: هُوَ المَسْجِدُ الذي أُسس على التَّقْوَى، بَنَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَه تَبُوكَ (¬1)، وكانَ قَوْلم مِنَ المُنَافِقِينَ قَدْ بَنَوا مَسْجدَاً ضِرَارَاً يَنْفَرِدُونَ فيهِ لأَذَيةِ المُسْلِمِينَ، وَهُم الذينَ ذَكَرَهُم اللهُ في كِتَابِه بِقَولهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} إلى قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107 - 108]، وأَمَرَهُ أَنْ يُصَلي في المَسْجِدِ الذي أُسس على التَّقْوَى، وَهو مسْجِدُ قُبَاءَ، فَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِباً وَمَاشياً. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: حَدِيثُ النُّعْمَانَ بنِ مُرَّةَ حَدِيث مُرْسَل في المُوطَّأ [579]، وقَوْلُهُ - عليهِ السلَامُ -في الحَدِيثِ: "وأسوَأُ [السَّرِقَةِ] (¬2) الذي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ" يُرِيدُ: أَنَ مَن لَمْ يتمَّ رُكُوعَهُ ولا سُجُودَهُ، فقدْ خَانَ نَفْسَهُ، أَشَدَّ مِنْ خِيَانَةِ السَّارِقِ مَالَ أَخِيهِ الذي هُوَ حَرَامٌ عليهِ. قالَ مَالِك: مَنْ لَم يتمَّ رُكُوعَهُ ولَا سُجُودَهُ في الصَّلَاةِ وَجَبَ عليهِ إعَادَتُها، ¬

_ (¬1) هذا سهو من المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فإن مسجد قباء بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مقدعه من مكة مهاجرا قبل أن يبني مسجده النبوي، وهذا أمر مستفيض لا إشكال فيه، وكان المصنف اشتبه عليه بناء مسجد الضرار الذي بناه المنافقون بحد منصرفه من غزوة تبوك. (¬2) ما بين المعقوفتين من الموطأ.

كَمَا أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فَعَلَ ذَلِكَ بإعَادَةِ صَلَاتهِ، فقالَ لَهُ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" (¬1). * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَرْسَلَ مَالِك حَدِيثَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ في بيوتكُمْ" [580] وأَسْنَدَهُ القَطَّانُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ في بُيُوتكُمْ، ولَا تتخِذُوَها قُبُورَاً" (¬2) يَعْنِي: تَنَفَّلُوا في البُيُوتِ، ولا تَجْعَلُوهَا كَالقُبُورِ التي لا يُصَلَّى فِيها، ولمْ يُرِدْ بهَذا الحَدِيثِ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ في المَقْبَرَةِ، وقد صَلَّى في المَقْبَرَةِ الصَّحَابةُ والتَّابِعُونَ، وإنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ في مَقْبَرَةِ المُشْرِكِينَ، لأَنَّهَا حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النَّارِ. * قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ لأَصْحَابهِ: (مَا صَلاَة يُجْلَسُ في كُلِّ رَكعة مِنْهَا)، ثُمَّ قالَ: (هِي المَغْرِبُ إذا فَاتَتكَ مِنها رَكعَة) قالَ مَالِك: وكَذَلِكَ سُنَةُ الصَّلَاةِ [587]، يَعْنِي: مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ رَكْعَةً فإذا سَلمَ الإمَامِ قَامَ هَذا فَأتى بِرَكْعَةٍ ثُمَّ جَلَسَ، وذَلِكَ أَنَ المَأْمُومَ مَاضٍ في القِرَاءَةِ، لا فِي القِيَامِ والجُلُوسِ (¬3). * في حَمْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صَلَاتهِ أُمَامَةَ بنتِ زَيْنَبَ [589] مِنَ الفِقْه: الرِّفْقُ بالأَطْفَالِ، والرُّخْصَةُ في الصَّلَاةِ بالثَّوْبِ النَّجِسِ عندَ الضَّرُورَةِ، إذ مَعْلُومٌ أنَّ ثِيَابَ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ لا تَخْلُوا مِنَ النَّجَاسَاتِ، وإنَّمَا حَمَلَها مِنْ أَجْلِ بُكَائِهَا، ولَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُلَطِّفُهَا. قالَ مَالِكٌ: ولا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ أَحَدٌ بِوَلَدِه إلَّا عندَ الضَّرُورَةِ، وفيهِ: اسْتِجَازَةُ الشُّغْلِ اليَسِيرِ في الصَّلَاةِ إذا كَانَ في طَاعَةٍ. * أَنْكَرَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ علَى الذي مَرَّ عَلَيْهِ وَهُو يُصَلِّي فَسَلَّم عَلَيْهِ فَرَدَّ الرَّجُلُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (724)، ومسلم (397)، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (422)، ومسلم (777)، بإسنادهما إلى يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر العمري به. (¬3) يعني أن المأموم ماض يقرأ ويسبح مع نفسه، بينما هو في القيام والجلوس متابع للإِمام لا يجوز أن يخالفه مادام أن الإِمام لم يخرج من صلاته.

كَلاَماً، فقالَ لَه ابنُ عُمَرَ: "إذا سُلِّمَ على أَحَدِكُم وَهُو يُصَلِّي فلَا يَتكلَّم، وليشِرْ بيَدِه" [583]، وفي هَذا مِنَ الفِقْه: إبَاحَةُ السَّلَامِ على المُصَلِّي، وأنَّ الإشَارَةَ بَالسَّلاَمِ تَقُومُ مَقَامَ الرَّدِّ بالكَلاَمِ، إذ الكَلاَمُ مَمْنُوع منهُ في الصَّلَاةِ، وكَذَلِكَ رَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الذينَ يُسَلِّمُونَ عليهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وفيه: بَيَانُ العَالِمِ لِمَنْ أَخْطَأَ في صَلاَتِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ، فَلاَ يُسَلِّمُ على المُؤَذِّنُ في حَالِ أَذَانِهِ، ولا علَى المُلَبِّي في حَالِ تَلْبِيَتِهِ، إذ ليسَ في ذلك أثرٌ يُتَّبَعُ. * وفِي رِوَايةِ بَعْضِ المَصْرِيينَ في المُؤَذِّنِ يُسَلَّمُ عليهِ وَهُو يُؤذِّنُ أَنَّهُ يَرُدُّ إشَارَةً بأُصْبُعِه كَمَا يَفْعَلُ المُصَلِّي. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ] (¬1): إنَّمَا أَمَرَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ الذي ذَكَرَ صَلاَةً وَهُو مَعَ الإمَامِ أَنْ يَتَمَادَى مَعَ الإمَامِ بعدَ ذِكْرِه للصَّلاَةِ التي نَسِيهَا مِنْ أَجْلِ فَضْلِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، ثُمَّ يُصَلي التي نَسِيَ ويُعِيدُ التِّي صَلَّى مَعَ الإمَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ صَلَّاهَا في غَيْرِ وَقْتِهَا، وذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ التِّي نَسِيَ صَارَ ذَلِكَ الوَقْتِ وَقْتَاً لَها فَصَلَّى بَقِيَّةَ صَلَاتهِ مَعَ الإمَامِ في وَقْتِ الصَّلَاةِ المَنْسِيّهِ، فَلِذَلِكَ أَعَادَهَا [584]. وفي كِتَابِ ابنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ رأَى رَجُلاً قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اضْطَجَعَ، فقالَ لَهُ: (مَا حَمَلكَ على هَذا؟ فقالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَدْتُ أَنْ أَفْصِلَ بينَ صَلاَتِي، فقالَ لَهُ: وأَيُّ فَصْلٍ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ) (¬2). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ ابنِ عُمَرَ هذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: مَنْ تنفَّلَ باللَّيْلِ أَنَّهُ يَفْصِلُ بينَ نَافِلَتِه وبينَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بضَجْعَةٍ، فقالَ ابنُ عُمَرَ: (وأَيُّ فَصْلٍ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ)، لَمْ يَرْوِ يَحْيىَ هذِه المَسْألةَ مِنْ طَرِيقِ ابنِ عُمَرَ ولَا مِنْ غَيْرِهِ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِنَسَائِهِ: "مُرُوا أبا بكر يُصَلِّي بالنَّاسِ" [591] فيهِ مِنَ الفِقْهِ: اسْتِخْلاَفُ الإمَامِ على صَلَاةِ الجَمَاعَةِ مَنْ يُصَلِّيها لَهُم، فَرَاجَعَتْهُ عَائِشَةُ، وقَالتْ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ع)، وهي إشارة إلى اسم المصنف، وقد أبدلتها بكنيته حسب ما تقدم وما سوف يأتي. (¬2) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (36 ب).

لَهُ: (مُرْ عُمَرَ)، قَالَ فيهِ بَعْضُ الفُقَهَاء: إنَّمَا رَاجَعَتهُ فى ذَلِكَ عَائِشَةُ إرَادَةً مِنْهَا أَنْ تُثْبِتَ الخِلاَفَةَ لأَبِيهَا بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّهُ إذا صَح لَهُ الإستِخْلاَفُ على الصَّلاَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ بعدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وليسَ هذا على مَا قالَ، وقدْ حدَّثنا ابنُ رَشِيق بِمِصْرَ (¬1)، قالَ: حدثنا عَباسُ بنُ مُحَمدٍ (¬2)، قالَ: حدثنا خُشَيشُ بنُ أَصْرَمَ، قالَ: حدثنا عبدُ الرَّزَاقِ، عَن مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهرِي، عَنْ حَمْزَةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشةَ، أنها قَالِت: (وَاللهِ مَا كَانَتْ مُرَاجَعَتِي للنبى عليهِ السلاَمُ إذ قَالَ: مُرُوا أبا بِكرٍ يُصَلِّي بالنَاسِ إلَّا كَرَاهِيةَ أَن يَتَشَاءمَ النَّاسُ بأَؤَلِ رَجُلٍ يَقُومُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَكُونُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أبي) (¬3). * مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ وحَفْصَةَ حِينَ رَاجَعَتَاهُ في ذَلِكَ: "إنَكُن لأَنْتُن صَوَاحِبُ يُوسُفَ" [591] أي: أنَّي إذ امْتُحِنْتُ أَنا بِكُما تُرِيدَانِ مِئي مَا لا يَنْبَغِي كَمَا أَرَادَ النسوةُ مِنْ يُوسفَ. فقَالتْ حَفْصَة لِعَائِشَةَ: (مَا كنتُ لأصيبُ مِنْكِ خَيْرَاً)، تَعْنِي: مِنْ أَجْلِ غَضَبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمَا. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: في حَدِيثِ عَدِي بنِ الخِيَارِ [592] مِنَ الفِقْه: اسْتِمَاعُ الإمَامِ إلى تَجْرِيحِ مَنْ يَلِيقُ بهِ التجْرِيحِ، فإذا لم يَكُنْ المَجْرُوحِ مِمن يَلِيقُ بهِ التَجْرِيحُ وَجَبَ الحَدُّ على المُجَرِّحِ إذا شَهِدَ عليهِ شَاهِدَانِ، لأنه قَذْف، إلَّا أَنْ يَأْتِي بالبَيِّنَةِ على قَوْلهِ، فَيَسْقُطُ عنهُ الحَدُّ. ¬

_ (¬1) هو أبو محمد الحسن بن رَشِيق العسكري المصري، الإِمام المحدث الثقة، توفي سنة 3701)، السير 16/ 280. (¬2) هو أبو الفضل العباس بن محمد بن العباس الفَزَاوي المصري، الإِمام المحدث الثقة، توفي سنة (306)، السير 22914. (¬3) رواه ابن عبد البر في التمهيد 22/ 133 بإسناده إلى الحسن بن رشيق به. ورواه عبد الرزاق في المصنف 5/ 422 عن معمر بن راشد به، ورواه من طريقه: مسلم (418)، والبيهقي في كتاب الإعتقاد ص 337.

وقَوْلُ النييِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَنْ يَشهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وُيصَلي وَهُو لَا يَعْتَقدُ ذَلِكَ: "أُوَلَئِكَ الذينَ نَهَانِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ قَتْلِهِم"، وَهُم المُنَافِقُونَ، إنمَا تَرَكَهمْ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلَّا يَتَحَدَّثُ التاسُ أَن مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ لمْ يَمتْ - صلى الله عليه وسلم - حتَى أَذِنَ اللهُ لَهُ في قتلِهِم، بقولهِ لَهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله: {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61] فإذا ظَهَرَ الإمَامُ الآنَ على رجُل يشْهِدُ ولا شهَادةَ لَهُ، ويُصَلِّي ولَا صَلاَةَ لَهُ، ولا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، قتلَهُ ولَا يَسْتَتِبهُ، وجَعَلَ مَالَهُ في بَيتِ المَالِ، لأنَّهُ زنذِيقٌ، قالَهُ ابن نَافِعٍ. وقالَ غَيرُهُ: يَرِثْهُ وَرَثتة مِنَ المُسْلِمِينَ، فإنْ قالَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ: أَنَا تَائِب مِمَّا شُهِدَ به عَليَّ لَم تُقْبَل تَوْبتهُ، لأنَّهُ لا يَعْلَم أَصَادِقٌ هوَ أم كَاذِب، وَهُوَ بِخِلاَفِ المُرْتَدِّ الذي يُظْهِرُ الكفْرَ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ أَنه تُقْبَلُ تَوْبتهُ، لِقَوْلِ اللهِ تَبَاركَ وتَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وهذَا لِكلِّ كَافِرٍ أَطهَرَ كُفْرَهُ، والزِّندِيقُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لأَنهُ استسَرَ بِكفْرِهِ ولمْ يُظْهِرهُ، فَلِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ تَوْبتهُ. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثنَاً يُعْبدُ بَعْدِي" [593] يعنِي: لَا تَجعَلهُ صَنَمَاً يُصَلَّى إليهِ. ثُم قَالَ: "اشتد غَضَبُ اللهِ على قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُووَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ". قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لِهَذا الحَدِيثِ سُتِرَ قَبرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَائِط مِنْ حَوَالِيهِ، وجَعَلَ عُمَرُ بن عبدِ العَزِيزِ مُؤُخَّرَهُ مُحَدَّدَاً بِرُكْنَيْنِ، لِئَلَّا يَسْتَقْبِلَ النَاسُ القَبْرَ، فَيُصَلُّونَ إليه. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَجَازَ مَالِك اسْتِلْقَاءَ الرَّجُلِ على ظَهْرِهِ في المَسْجِدِ، وكَرِهَهُ بَعْضُ أَهْلِ الأَمْصَارِ، واحْتُجَّ في ذَلِكَ بِحَدِيث رَوَاهُ حَمَّاد، عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إحْدَى رِجْلَيْهِ على الأُخْرَى وَهُوَ

مُسْتَلْقٍ علَى ظَهْرِه في المَسْجِدِ" (¬1)، وَهُو حَدِيثٌ لم يَرْوِه أَهْلُ المَدِينَةِ، والعَمَلُ عِنْدَهُم بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ، عَنْ عُمِّهِ: "أنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِياً في المَسْجِدِ وَاضِعَاً إحْدَى رِجْلَيْهِ على الأخرَى"، وهذَا حَدِيثٌ صحِيحٌ، وفَعَلَهُ أَبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ. * قَوْلُ ابنِ مَسْعُودٍ للرَّجُلِ: (إنَّكَ في زَمَانٍ كَثير فُقَهَاؤُهُ، قَلِيل قُرَّاؤُهُ) [597]، يعنِي: أَنَّهُم يَتَحَفَّظُونَ القُرْآنَ ويتَفَقَّهُونَ فِيما يَحْفَظُوا مِنْهُ، فَمَنَعَهُم تَعَلُّمُهُم للفِقْه مِنْ كَثْرَةِ القِرَاءَةِ بِغَيْرِ تَفَقُّه، ويَشْغُلُهُم حِفْظُ حُدُودِ القُرْآنِ عَنْ حِفْظِ حُرُوفهِ. وقَوْلُه: (قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثير مَنْ يُعْطِي) يعنِي: أنَّ المُعَلِّمَ كَانَ أَحْرَصَ على تَعَلُّمِ المُتَعَلِّمِ مِنَ المُتَعَلِّم على التَّعْلِيمِ. وقَوْلُه: (يُبَدُّونَ فيهِ أَعْمَالَهُم قبلَ أَهْوَائِهِم) يعنِي: يُبَدُّونَ فيهِ الحَقَّ بِمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِم قَبْلَ اتِّبَاعِهِم لأَهْوَائِهِم التي تَقْصُرُ بِهم عَنِ الطَاعَاتِ واكْتِسَابِ الحَسَنَاتِ. ثُمَّ وَصَفَ صِفَةَ مَنْ يَأْتِي آخِرَ الزَّمَانِ: أَنَّ قُرَّاءَهُم كَثِيرٌ، وفُقَهَاءَهُم قَلِيلٌ، والعَالِمَ مَفْتُونٌ مُتَّبِع لِهَوَاهُ، يُكْثِرُ خَطِيبُهُم المَوَاعِظَ في خُطْبَتِهِ، ويُطُولُهَا قَبْلَ مَنْ يَنتفِعَ بِها مِنْهُم، ويُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، بِخِلاَفِ فِعْلِ السَّلَفِ الصَّالح، ولَمْ يَقُلْ هذا ابنُ مَسْعُودٍ إلَّا وقد سَمِعَهُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ أعلمُ. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلاَمُ -: "إنَّما مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهر غَمْرٍ عَذْبٍ" [600] وذَكَرَ الحَدِيثَ، يَقُولُ: كَمَا يُنَقِّي النَّهْرُ الكَثيرُ المَاءَ مِن اغْتَسلَ فيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاب كَذَلِكَ تَفْعَلُ الصلَواتُ الخَمْسُ بِمَنْ صَلَّاهَا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: البُطَيْحَاءُ التي بَنَاهَا عُمَرُ كَانَتْ دُكَّاناً كَبِيرَاً بِجَانِبِ مَسْجِدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -[602] (¬2) ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2099)، وأبو داود (4865)، والترمذي (2667)، بإسنادهم إلى أبي الزبير المكي به. (¬2) البطيحاء -تصغير البطحاء- رحبة مرتفعة نحو الذراع، بناها عمر خارج المسجد لمن أراد =

وقَوْلُهُ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَطَ) يعنِي: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا لا يَنْبَغِي مِنَ الكَلاَمِ، أَو يَنْشُدَ فيهِ الشِّعْرَ القَبِيحَ فَلْيَخْرُج مِنَ المَسْجِدِ إلى هذِه البُطَيْحَاءَ أَو غَيْرِها، وهذا أَصْل فِيمَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ في المَسْجِدِ بمَا لا يَنْبَغِي، أَو بَاعَ فيهِ، أو اشْتَرَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، ولا بَأْسَ أَنْ يُنْشِدَ في المَسَاجِدِ الشِّعْرَ يَكُون حِكْمَةً، كَمَا كَانَ يَنْشُدُ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ، ويَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ وَمَعَكَ رُوُحُ القُدُسِ" (¬1)، يعنِي: جِبْرِيلَ، وكَانَ شِعْرُهُ ذَلِكَ في مَدْحِ الإسْلاَمِ وأَهْلِهِ، وذَمِّ المُشْرِكِينَ وآلهَتِهِم. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: حَدِيثُ الأَعْرَاِبِيِّ الذي سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الفَرَائِضِ، وذَكَرَهَا لَهُ [604] ولَمْ يَذْكُرْ فِيها فرْضَ الحَجِّ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ فَرْضِ الحَجِّ. ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ أَنْ نَزَلَ فَرْضُ الحَجِّ: "بُنِيَ الإسْلاَمُ على خَمْسٍ، شَهَادَةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصَوْمِ رَمَضَانَ، وحَجِّ البَيْتِ" (¬2)، ثُمَّ سُنَّتِ السُّنَنُ فَأُتِمَّتِ الفَرَائِضُ، فَيَنْبَغِي للمُسْلِمينَ أنْ يَأْتُوا بالسُّنَنِ الَّتي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ" يعنِي: إنْ صَدَقَ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى في قَوْلهِ، وأَرَادَهُ بِعَمَلِه دَخَلَ الجَنَّةَ، والفَلاَحُ البَقَاءُ في الجَنَّةِ. * قالَ أبو عُمَرَ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ على قَافِيةِ رَأْسِ أَحَدِكُم إذا هُوَ نَائِمٌ ثَلاَثَ عُقَدٍ" [605] يعنِي: ثَلاَثَ عُقَدٍ مِنَ السِّحْرِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ بالنَّائِمِ يَمْنَعْهُ ¬

_ = أن يتحدث، أو يرفع صوتا، أو ينشد شعرا قبيحا، وقد دخلت في المسجد فيما زيد فيه بعد عمر، ينظر: أخبار المدينة لإبن شبه 1/ 27، ومعجم البلدان 1/ 450، والمغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآبادي 2/ 669. (¬1) رواه أبو داود (5015)، والترمذي (2850)، وأحمد 6/ 72، من حديث عائشة، وهو حديث حسن. (¬2) رواه البخاري (8)، ومسلم (15)، من حديث ابن عمر.

بِذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ، فإذا اسْتَيْقَظَ وذَكَرَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وتَوضَّأ وصَلَّى انْحَلَّتْ تِلْكَ العُقَدِ التِّي كَانَ الشَّيْطَانُ عَقَدَها، وأَصْبَحَ فَاعِلُ ذَلِكَ طَيِّبَ النَّفْسِ، ومَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَصْبَحَ كَسْلاَناً قد حُرِمَ فَضْلَ قِيَامِ اللَّيلِ. و (قَافِيةُ الرأسِ) مُؤَخَّرُ الرَّأْسِ، وقِيلَ: وَسَطُ الرَّأْسِ.

باب الغسل للعيدين، إلى آخر باب الإستسقاء، وصلاة الخوف

بابُ الغُسْلِ للعِيدَيْنِ، إلى آخِرِ بَابِ الإسْتِسْقَاءِ، وصَلاَةِ الخَوْفِ * قالَ أَبو عُمَرَ: قَوْلُهُ في المُوطَّأ: لمْ يَكُنْ في العِيدَيْنِ نِدَاءٌ ولَا إقَامَةٌ مُنْذُ زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يَوْمِنا هذَا، وإنَّما كَانَ هذَا بالمَدِينَةِ [608]، وأَمَّا سَائِرُ الأَمْصَارِ فَالأَذَانُ والإقَامَةُ عِنْدهُم مَعْرُوف في العِيدَيْنِ (¬1). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: الغُسْلُ للعِيدَيْنِ مَأمُورٌ به، وكَذَلِكَ الطّيبُ، والحَسَنُ مِنَ الثِّيَابِ. قالَ مَالِكٌ: في مَسِيرِ النَّاسِ يَوْمَ العِيدِ إلى المُصَلَّى مِنْ طَرِيقٍ وانْصِرَافِهِم على غَيرِه لا أَرَى هذا وَاجِباً على النَّاسِ، وإني لأَسْتَحْسِنُه للرَّجُلِ في خَاصَّةِ نَفْسِه. وقالَ غيرُ مَالِك: كَانَ النَّاسُ قدْ أُمِرُوا بِذَلِكَ في أَوَّلِ الإسْلاَمِ بالمَدِينةِ لِكَي يَنتشِرَ المُسْلِمُونَ بِها، ويَكْثِرُونَ في أَعْيُنِ المُنَافِقِينَ، وهذَا مِنْ بَابِ الإرْهَابِ على العَدُوِّ، ثُمَّ قَوِي الإسْلاَمُ، وذَهَبَ النِّفَاقُ، وبَقِيتِ السُّنَّةُ مَعْمُولٌ بِها. * أَرْسَلَ مَالك حَدِيثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلّي الفِطْرَ والأَضْحَى قَبْلَ الخُطْبَةِ [611] وأَسنَدَهُ عبدُ الرَّزَاقِ، عَنْ ابنِ جُرِيج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَدأَ بالصلاَةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ" (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 24/ 229: لا خلاف بين العلماء ولا تنازع بين الفقهاء أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل، وإنما الأذان للمكتوبات لا غير. (¬2) مصنف عبد الرزاق 2783.

وأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أَنهُ لا يُصَامُ يُومُ الفِطْرِ والأَضْحَى، واخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمَا. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: روَى الأَعْمَشُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: أَخْرَجَ مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ المِنْبَرَ يَوْمَ العِيدِ إلى المُصلِّى فبدَأَ بالخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَامَ إليه رَجُل فقالَ: يا مَرْوَانُ، خالفْتَ السُّنَّةَ، بَدأَتَ بالخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فقالَ لَهُ مَرْوَانُ: قَدْ تَرَكَ مَا هُنَاكَ (¬1). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: كَانَ سَبَبُ تَقْدِيمِ مَرْوَانُ للخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الناسَ كَانُوا يَفْتَرِقُونَ بعدَ الصَّلَاةِ فَلاَ يَبْقَى للخُطْبَةِ إلَّا القَلِيلُ، فبدأَ بالخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِئَلا يَذْهبَ أَحَد حتَّى تَتِمَّ الخُطْبةُ والصَّلاَةُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لمْ يَأخُذْ مَالِك بإذْنِ عُثْمَانَ لأَهْلِ العَوَالِي في التَّخَلُّفِ عَنِ الجُمُعَةِ يَوْمَ العِيدِ [613] وكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَزِمَتْهُ الجُمُعَةُ لمْ يُسْقِطْهَا عنهُ إذْنُ الإمَامِ، لأَنَّ الجُمُعَةَ فَرِيضَة، فلَا يُسْقِطْهَا عَمنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إلَّا العُذْرَ الذي لا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ. * قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ بالأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ غُذُوُهم إلى المُصَلِّى [616]. وحدَّثنا أبو جَعْفَرٍ (¬2)، قالَ: حدَّثنا ابنُ السَّكَنِ (¬3)، قالَ: حدَّثنا الفِرَبْرِيُّ، قالَ: حدثنا البخاري، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ [الرَّحيمِ] (¬4)، عَنْ سَعِيدِ بنِ سُلَيْمَانَ، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (49)، وأبو داود (1140)، وابن ماجه (1275)، وأحمد 3/ 10، بإسناده إلى الأعمش به. (¬2) هو أبو جعفر بن عون الله، وتقدم التعريف به. (¬3) هو أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن المصري، الإِمام الفقيه المحدث، توفي سنة (353)، السير 16/ 117. (¬4) جاء في الأصل: عبد الرحمن وهو خطأ، ومحمد بن عبد الرحيم هو الإِمام المعروف بصاعقة.

عَنْ [هُشَيمٍ] (¬1)، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، قالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ إلى المُصَلَّى حتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ" (¬2). وبهَذا قَالَ مَالِكٍ في الفِطْرِ، قالَ: ولَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِم في الأَضْحَى. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: إنَّما سَأَلَ عُمَرُ أبا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ عَمَّا كَانَ يَقْرَأُ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الفِطْرِ والأَضْحَى على سَبيلِ الإخْتِبَارِ لِحِفْظِه لِسُنَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ عُمَرُ عَالِمَاً بِذَلِكَ، والعَالِمُ أَنْ يَسْأَلَ أَصْحَابَهُ عَمَّا يَعْلُمُه هُو، وقدْ فَعَلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والصحَابةُ والتَّابِعُونَ [618]. وقَرَأ فِيهِمابـ {ق} و {اقتربت}، وقَرأَ بِغَيْرِهِما. والذي مَضَى بهِ العَمَلُ التَّخْفِيفُ بالقِرَاءَةِ فِيهِما، لِقَوْلهِ - عليهِ السَّلاَمُ -: "إذا صَلَّى أَحَدُكُمْ بالنَّاسِ فَلْيُخَفِفِّ" (¬3). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وكَبَّرَ أَبو هُرَيْرَةَ في صَلَاةِ العِيدَيْنِ في الرَّكْعَةِ الأُولَى سَبْعَاً، وفي الثَّانِيَةِ خَمْسَاً [619]، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُكَبِّرُ في العِيدَيْنِ سَبْعَا في الأُولَى، وخَمْسَاً في الآخِرَةِ" (¬4)، وبهذا قالَ أَهْلُ المَدِينَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ وابنُ وَهْبٍ: مَن أَدْرَكَ الإمِامَ وَهُوَ رَاكِعٌ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ العِيدَيْنِ أَنَّهُ يَرْكَعُ مَعَ الإمَامِ، فماذا تَمَّ الإمَامُ صَلَاتَهُ قَامَ هَذا فَكَبَّرَ سَبْعَاً كَمَا سَبَقَهُ بهِ الإمَامُ، ثُمَّ بَدأَ بالقِرَاءَةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: هشام، وهو خطأ، وهُشيم هو ابن بَشِير، وعبيد الله هو ابن أبي بكر بن أنس بن مالك. (¬2) صحيح البخاري (953) عن محمد بن عبد الرحيم به. (¬3) رواه البخاري (671)، ومسلم (466)، من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه أبو داود (1149)، وابن ماجه (1280)، بإسنادهما إلى الزهري به، وإسناده ضعيف.

وقَالَ غَيْرُهُمَا مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ: إنه يُكبرُ ستَّاً قَبلَ القِرَاءَةِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بالقِرَاءَةِ. * قالَ أَبو عُمَرَ: إنَّما كَانَ ابنُ عُمَرَ لا يَتَنَفَّلُ في يَوْمِ عِيدٍ [622] لأنَّهُ كَانَ يَقُولُ: صَلاَةُ العِيدِ نَافِلَةُ ذَلِكَ اليَوْمِ، فكانَ يَجْتَزِئُ بِصَلاَةِ العِيدَيْنِ عَنْ نَوَافِلِ ذَلِكَ اليومِ كُلِّهِ. وكانَ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ وعَرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ يَتَنفَّلَانِ قبلَ الغُدُوِّ إلى المُصَلَّى [625 و 626]، وكُلٌّ وَاسعٌ، ولَيْسَ التَّنَفُلِ في المُصَلى قبلَ الصَّلَاةِ ولا بَعدَهَا مِنْ عَمَلِ أَهلِ المَدِينَةِ، فإنْ صَلوا في المسجِدِ صَلاَةَ العِيدِ لِعُذْرِ مَطَرٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مَنْ دَخَلَهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ إذا كَانَ دُخُولُهُ بعدَ طُلُوعِ الشَمْسِ تَحِيَّةَ المَسْجِدِ، كَمَا أَمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: فتيَا مَالِكٍ في صَلَاةِ الخَوْفِ مُوَافِق لِظَاهرِ القُرْآنِ [636]، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] يعني: يَقُومونَ مَعَكَ في الصَّلَاةِ، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} يعني: يأخذُ مِنَ السلاَح الذينَ لمْ يَذخُلُوا في الصلاَةَ، {فَإِذَا سَجَدُوا} يَعْنِي: يَكونُ وُجَاهَ العَدُو، {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}، يعني: تَأتِ الطَّائِفَةُ الَّتي لَمْ تُصَلِّ {فَلْيُصَلُّوا} مَعَ الإمَامِ الركعَةَ التي بَقِيت عَلَيهِ، ثُمَّ يُسَلمُ لِنَفْسِهِ ويُتِمُّونَ لأَنْفُسِهِم رَكعَةً كَمَا فَاتتهُمْ. وقولُهُ: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} يعني: يأخُذُوهَا الذينَ قدْ أتَمُّوا الصلاَةَ أَوَّلاً، ويَحْفَظُونُ هَؤُلاَءِ حتَّى يُتِمُّوا صَلاَتَهُم. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: وحَدِيثُ ابنِ عُمَرَ في صَلَاةِ الخَوْفِ [634] يُوجِبُ أنْ تَكونَ الطَّائِفَةُ الأُولَى والثَّانِيَةُ بعدَ سَلاَمِ الإمَامِ في صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَذْهَبُ الحَذَرُ الذي أُمِرُوا به، والتحَذر مِنَ العَدُو، ولَذِلَكَ لم يَأْخُذْ به مَالك في صَلَاةِ الخَوفِ. ¬

_ (¬1) جاء أمره - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" رواه البخاري (433)، ومسلم (741) من حديث أبي قتادة.

واخْتَلَفتِ الأَحَادِيثُ في صَلَاةِ الخَوْفِ، وأَصَحَّهُا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ. قالَ الأَخْفَشُ: إنَّمَا قِيلَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرقَاع مِنْ أَجْلِ أنَّهُم كَانُوا يَمْشُونَ حُفَاةً، فَنُقِبَتْ أَقْدَامُهُم، يَعْنِي: قُرِحَتْ أَقْدَامُهُم، فَكانُوا يَشُدُّونَ عَلَيْهَا الخِرَقَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيتْ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وقالَ غَيْرُهُ: إنَّما سُقَيتْ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أَجْلِ أنَّ رَايَاتِهِم تَقَطعَتْ فَرَفَعُوهَا بالخِرَقِ (¬1). قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: أَسْنَدَ شُعْبَةُ حَدِيثَ صَلَاةِ الخَوْفِ عَنْ عبدِ الرَّحمنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ صَالِحٍ بنِ خَوَّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). * وأَوْقَفَهُ مَالِكٌ على سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ [633]. قالَ أَحْمَدُ: ولا نَعْلَمُ أحَداً أَسْنَدَهُ إلَّا شُعْبَةُ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَولُهُ في الحَدِيثِ: "ما صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ الخَنْدَقِ حتَّى غَرَبتِ الشَّمْسُ" [653]، إنمَا أَخرَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - يَوْمِئذ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ أَجْلِ اشْتِغَالِه بالحَربِ، ولمْ تَكُنْ صَلَاةُ الخَوْفِ يَوْمِئذ قد نَزَلَتْ علَيْهِ، وإنَّمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بعدَ ذَلِكَ بعُسْفَانَ حِينَ لَقِيَهُ أَهْلُ مَكةَ بالجُنُودِ، وعلى خَيْلِهِم خَالِدُ بنُ الوَليدِ، فَنَزلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفَانَ، ونَزَلَ المُشْرِكونَ بِقُرْبِه، فَلَمَّا حَضَرتِ الصَّلَاةُ صَلَّاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصْحَابِهِ جَمِيعَاً، فَلَمَّا نَظَرَ إليهِم المُشْرِكُونَ قدْ دَخَلُوا كلُّهم في الصَّلَاةِ قَالَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: لَوْ تَأَهَّبْنَا فَحَمَلْنَا عَلَيْهِم حَمْلَةً وَاحِدَةً قتَلْنَاهُم، فقالَ قَائِلٌ مِنْهُم: الآنَ تَأتِيهِم صَلاَةٌ أُخْرَى، فإذا دَخَلُوا فِيها كُونُوا على عِدَّةٍ، واحْمَلوا عَلَيهِم حَملَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عليهِ السلاَمُ - على ¬

_ (¬1) استعرض الحافظ ابن عبد البر في التمهيد 23/ 33 الأقوال في تسمية هذه الغزوة، فانظره إن شئت. (¬2) رواه مسلم (841)، وأبو داود (1237)، وابن ماجه (159)، بإسنادهم إلى شعبة به.

رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصَلاَةِ الخَوْفِ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابهِ طَائِفَتَيْنِ، فَصَلَّى بِهِم العَصْرَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَمَّا نَظَرَ المُشْرِكُونَ إلى ذَلِكَ تَعَجَّبُوا. * قال عيسى: لمَّا مَاتَ إبْرَاهِيمُ بنُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَافَقَ يَوْمَ مَوْتهِ كُسُوفَ الشَّمْسِ، فقالَ النَّاسُ: إنَّما كُسِفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَلِذَلِكَ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آياتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَد ولَا لِحَيَاتِهِ" [639]، ولَكِنَّهُمَا مِنَ الآيَاتِ التَّي يُخَوِّفُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى بِهِا عِبَادَهُ. * قَوْلُهُ في حَدِيثِ كُسُوفِ الشَّمْسِ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، ولَبَكَيْتُمْ كثِيرَاً" [639] إنَّمَا قَالَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رأَى النَّارَ، ومَا أعَدَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيها لأَهْلِهَا، ورَأَى الجَنَّةَ ومَا أَعَدَّ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى فِيها لأَهْلِها، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ مِثْلَ الذي عَلِمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ لَكَثُرَ بُكَاؤُهُمْ، خِيفَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. * وقَوْلُهُ في النَّارِ: "رأَيْتُ أَكثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" [640] يعنِي: رأَى مَقَاعِدَ النِّسَاءَ في النَّارِ اللَّوَاتِي يَكْفُرْنَ إحْسَانَ العَشِيرِ إليهِنَّ، والعَشِيرُ هُوَ الزَّوْجُ، وهذَا كُفْرَانُ النِّعَمِ لا كُفْر باللهِ، واللهُ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ المُحْسِنُ على إحْسَانِهِ، والزَّوْجُ على جَمِيعِ مُعَاشَرِتِه، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُخَلَّدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ في النَّارِ. * وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في العَنْقُودِ الذي هَمَّ أنْ يَأْخُذَهَ: "لَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُم مِنْهُ مَا بَقِيتِ الدُّنيَا" [640] إنَّمَا قالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ثِمَارَ الجَنَّةِ لا تَفْنَى، كُلَّمَا جُنِيَ مِنْهَا شَيءٌ عَادَ غَيْرُهُ مَكَانَهُ في وَقْتِهِ، وطَعَامُ الجَنَّةِ لا يُؤْكَلُ في الدُّنيَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ في الدُّنيَا يَعُودُ رَجِيعَاً، وأَهْلُ الجَنَّةِ لا يَبُولُونَ ولَا يَتَغَوَّطُونَ. قالَ أَصْبَغُ (¬1): تُصَلَّى صَلَاةُ الكُسُوفِ في المَسْجِدِ، ولَا يُبْرَزُ لَهَا كَمَا يُفْعَلُ في ¬

_ (¬1) هو أصبغ بن الفرج المصري، الإِمام الفقيه المتقن، روى عنه البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن وضاح وغيرهم، وتفقه عليه ابن المواز وابن حبيب وغيرهما، وتوفي سنة (225)، ينظر: تهذيب الكمال 3/ 304.

العِيدَيْنِ، وكذَا الإسْتِسْقَاءُ، ولَا يُصَلَّى في كُسُوفِ القَمَرِ كَمَا يُصَلَّى في كُسُوفِ الشَّمْسِ، ولكنْ يُصَلِّي النَّاسُ حِينَئِذ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلاَةِ النَّافِلَةِ، إذ لمْ يَصِحَّ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَا عَنْ الخُلَفاءِ بَعْدَهُ أَنَّهُم جَمَعُوا في كُسُوفِ القَمَرِ كَمَا جَمَعُوا في كُسُوفِ الشَّمْسِ. قالَ عبدُ العَزِيزِ بنُ أَبي سَلَمَةَ (¬1): ونَحْنُ إذا كُنَّا فَذَّاداً صَلَّيْنَا هذِه الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رَأَيْتُمُوهَا فَافْزعُوا إلى الصَلاَةِ" (¬2). قال: أبوالمُطَرِّفِ: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ الكُسُوفِ أَنَّ عَذَابَ القَبْرِ حَقّ، وأنَّ العَبْدَ يُسئَلُ في قَبْرِهِ، قال اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قال أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هذَا في مُسَائَلَةِ المَلِكَينِ العَبْدَ عَنْ دِييه، وعَنْ نَبيِّه في قَبْرِه، وقَوْل المَلَكَيْنِ للعَبْدِ فِي قَبْرِه: مَا عِلْمُكَ بهذَا الرَّجُلِ؟ يَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بَهذَا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَيرَاهُ الرَّجُلُ في قَبْرِه، ويَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بهذَا إلى غَائِب مَعْهُودٍ، كمَا قال اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في كِتَابهِ: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فأشارَ بهذَا إلى غَائِب مَعْهُودٍ. * ومَعْنَى قَوْل أَسْمَاءَ في حَدِيثِها: "فأما المُؤمنُ أَو المُوقِنُ"، "وأَمَّا المُنَافِقُ أو المُرْتَابُ" [645]، فيهِ مِنَ الفِقهِ: تَحَرِّي لَفْظَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيُؤَدَّى كَمَا سُمِعَ مِنْهُ، ولَا يُنْقَلُ علَى المَعْنَى. * وقَوْل العَبْدِ في قَبْرِه المَلَكَيْنِ: (هُوَ مُحَمَّد جَاءَنَا بالبَيِّنَاتِ والهُدَى) [645]، يَعْنِي: بالتَّوْحِيدِ والفَرَائِضِ فَعَمَلْنَا بِها، وصَدَّقْنَاهُ في ذَلِكَ، فَيَشْهَدُ المَلكَانِ لَهُ بِذَلِكَ. ¬

_ (¬1) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون نزيل بغداد، تقدم التعريف به. (¬2) نقل قول الإِمام الماجشون: ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات 1/ 512، ومعنى قوله (أفذاذا) يعني: أفرادا، والحديث المذكور رواه مسلم (901) من حديث عائشة.

وأَمَّا المُنَافِقُ فَلَيْسَتْ لَهُ حُجَّةٌ يَحْتَجُّ بها [إذ] (¬1) لمْ يُصَدِّقْ بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ في حَيَاتِهِ. قالَ أَبوالمُطَرِّفِ: وَقَعَ في حَدِيثِ أَنسَي مِنْ غَيْرِ رِوَايةِ مَالِك: "وأَمَّا الكَافِرُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لا دَريتَ ولَا تَلَيْتَ" (¬2) فَمَعْنَى (لا تَلَيْتَ) المُتَابَعَة في الكَلاَمِ، أَي تَابَعْتَ، أَو لا يَدْرِي مُحَمَّدا - صلى الله عليه وسلم -، ولَا بِمَا جَاءَ بهِ. ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَة تَفْتَرِقُ أَوْصَالُهُ، وهذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ عندَ أَهْلِ السُّنَّةِ لا يَخْتَلِفُونَ فيهِ، ومَنْ قَالَ بِخِلاَفهِ فَهُو كَاذِبٌ مُفْتَرِي. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ في حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلى في الإسْتِسْقَاءِ)، وإنَّمَا قالَ فيهِ: (أنَّهُ دَعَا) [647]، ورَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزهْرِي، عَنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيم، عَنْ عَمِّهِ: "أَنَّ رُسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِهِم رَكَعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِما بالقِرَاءَةِ، وحَوَّل رِدَاءَهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ واسْتَسْقَى، واسْتَقَبلَ القَبْلَةَ" (¬3)، وهذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وعليهِ العَمَلُ عندَ أَهْلِ المَدِينَةِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في الإسْتِسْقَاءِ. * ومَعْنَى تَحْوِيلِه رِدَاءَهُ لِكَي تتُحَوَّلَ حَالَةُ الشَدّةِ إلى حَالَةِ السَّعَةِ والخَصْبِ [646]. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَالَ مَالِكٌ: صَلَاةُ الإسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَانِ، ويَبْدَأُ الإمَامُ بالصلاَةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ، ويَجْهَرُ فِيها بالقِرَاءَةِ، ثُمَ يَخْطُبُ، ويَدْعُو اللهَ، ويَسْتَسْقِي. قالَ ابنُ وَضَّاحٍ (¬4): قدْ كَانَ مَالِك يَقُولُ: الخُطْبَةُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ سَنَةَ ¬

_ (¬1) جاء في الإصل: (إذا) وهو خطا مخالف للسياق. (¬2) رواه البخاري (1273)، ومسلم (2870)، والنسائي 4/ 97. (¬3) رواه أبو داود (1161)، والترمذي (556)، وأحمد 4/ 39، بإسنادهم إلى معمر بن راشد به. (¬4) هو محمد بن وضاح القرطبي، الإِمام المحدث الفقيه العابد المصنِّف، توفي سنة (287)، ينظر: السير 13/ 445، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1221.

سِتِّينَ ومَاية، وأَشَارَ علَى زُفَرِ بنِ عَاصِمٍ وَالِي المَدِينَةِ (¬1) أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الخُطْبَةِ، والعَمَلُ عِنْدَنا في هذَا على قَوْلهِ الأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ الخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وحَدِيثُ أَنسَ بنِ مَالِكٍ أَصْل في الإسْتِسْقَاءِ عندَ قِلَّةِ المَطَرِ، وأَصلٌ في الإسْتِصْحَاءِ عندَ كَثْرَةِ المَطَرِ. * وقولُهُ - عليهِ السَّلاَمُ -: "اللَّهُمَّ ظُهوُرَ الجِبَالِ والآكَامِ" [650] يعنِي: بالآكامِ الكَدَاءَ الصِّغَارِ. * وقَوْلُهُ: "فَانْجَابَتْ عَنِ المَدِينهِ انْجِيَابِ الثَّوْبِ" [650]، قالَ مَالِكٌ: يَعْنِي يَدُورَ السَّحَابُ في المَدِينَةِ كَمَا يَدُورُ جَيْبُ القَمِيصِ، فَكَانَ يُمْطِرُ حَوْلَ المَدِينَةِ ولَا يُمْطِرُ بالمَدِينَةِ. * وقَولُىُ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمن بِي، وكَافِر بِي" [653] يُرِيدُ: أنَّهُ مَنْ جَعَلَ الفِعْلَ في المَطَرِ للكَوَاكِبِ فَهُوَ كَافِر، ومَنْ جَعَلَهُ دَلِيلاً على المَطَرِ فقدْ أَخْطَأَ، لأَنَّهُ يَدَّعِي عِلْمَ الغَيْبِ، وكَانَ أَبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ عند المطَرِ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ الفَتْحِ)، ويَتْلُو: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] [655]، فالمَطَرُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى إذا أَنْزَلَهُ في وَقْتِهِ، ولَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدّه المُتَعَارَفِ، فإنْ زَادَ على ذَلِكَ سُئِلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- كَشْفَهُ، كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ أَنَسٍ. * وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ تَشَامَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غَدِيقَة" [654] يقُولُ: إذا أَنْشَأَتِ السَّحَابَةُ مِنْ نَاحِيةِ البَحْرِ الذي هُوَ بِغَرْبِيِّ المَدِينَةِ ثُمَّ اسْتَدَارتْ فَعَلَتْ علَى المَدِينَةِ مِنْ نَاحِيةِ الشَّامِ، يعني: مِنْ جَوْفَيْ المَدِينَةِ فَذَلِكَ سَحَاب يَكُونَ مِنْهُ مَطَر غَزِير والغَرَقُ الغَزِيرُ، وليسَ في هذا حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ بالأَنْوَاءِ، أَو فِعْلِ النُّجُومِ وطُلُوعِهَا أَدِلَّةٌ على المَطَرِ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ هذا بالمَدِينَةِ على طَرِيقِ العَادَةِ والعُرْفِ، وذَلِكَ أَنَّ السَّحَابِ إذا أَطَلَّ على المَدِينَةِ مِنْ هَذِه النَّوَاحِي كَانَ سَحَابَ مَطَرٍ. ¬

_ (¬1) هو زفر بن عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، روى عن عمر بن عبد العزيز وغيره، روى عنه مالك وغيره، ينظر: المعرفة والتاريخ 1/ 390، وتاريخ دمشق 19/ 40.

قالَ أبو مُحَمَّدٍ: وهذَا حَدِيثٌ لم يَذْكُرْهُ أَحَدٌ إلَّا مَاِلكٌ. وقَوْلُهُ:، إذا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً"، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إنِّي لا أَنْسَى أَو أُنَسَّى" لم يَذْكُرْهُمَا أَحَدٌ إلَّا مَالِكٌ، وَهُمَا عندَهُ بَلاَغٌ، ومَالِكٌ ثقة مَأْمُونٌ، وقدْ أَجْمَعَ النَّاسُ على عَدَالَتِهِ وصِحَّةِ مَا نَقَلَ.

باب النهي عن استقبال القبلة للحاجة، إلى آخر خروج الناس إلى المسجد

بابُ النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ للحَاجَةِ، إلى آخِر خُروج النَّاسِ إلى المَسْجِدِ * قَوْلِ أَبي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ: (مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعَ بهَذِه الكَرَاِبيِسِ) [658] يعنِي: بالكَرَابِيِسِ المَرَاحِيضَ التِّي في الغُرَافِ خَاصَّةً، وأَمَّا الَتِّي في البُيُوتِ فإنها تُسَمَّى الكُنُفُ، ونَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ استِقْبَالِ القِبْلَةِ واسْتِدْبَارِهَا، وهذَا في الصَّحَارَى ولَيْسَ ذَلِكَ في المَدَائِنِ، وقد رَأَى ابنُ عُمَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينَةِ قَاعِدَاً على لَبنتَيْنِ مُسْتَقْبلاً بَيْتَ المَقْدِسِ [661]، ومَنِ اسْتَقْبَلَ بالمَدِينَةِ بَيْتَ المَقْدِسِ اسْتَدْبَرَ القَبْلَةَ، فَجَاءَ حَدِيثُ ابنَ عُمَرَ مُفَسِّراً لِحَدِيثِ أَبي أَيُّوبَ [658] الذي رَوَاهُ في النَّهِي عَنِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ واسْتِدْبَارِهَا عندَ الغَائِطِ والبَوْلِ، إنَّمَا ذَلِكَ في الصَّحَارَى. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: نَهْيُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ واسْتِدْبَارِهَا عندَ الغَائِطِ والبَوْلِ مِنْ أَجْلِ حُرْمَةِ القِبْلَةِ، وقدْ أَمَرَنا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ نَسْتَقْبلَهَا للصَّلاَةِ، وَهِي مِنْ أَجَلِّ الأَعْمَالِ، فَيَقْبُحُ اسْتِقْبَالُهَا عندَ الغَائِطِ والبَوْلِ. قالَ أَبوالمُطَرِّفِ: وذَكَرَ الشَّعْبِيُّ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِّ عَنِ اسْتَقْبَالِهَا واسْتِدْبَارِهَا في الصَّحْرَاءِ مِنْ أَجْلِ المُصَلِّينَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- في الصَّحَارَى مِنْ غَيْرِ الإنْسِ، فَكَرِه أَنْ يَسْتَقْبِلَهُم الإنْسَانُ بِفَرْجِه أَو مَخْرَجِه، ذَكَرَ هذَا سَحْنُونُ عَنِ الشَّعْبِيِّ (¬1). * قالَ أَبوالمُطَرِّفِ: إنَّمَا نَزَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - البُصَاقَ مِنْ جِدَارِ القِبْلَةِ إكْرَاماً مِنْهُ ¬

_ (¬1) رواه سحنون في المدونة 1/ 70 عن ابن وهب عن حمزة بن عبد الواحد عن عيسى الحناط عن عامر الشعبي به، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 236 بإسناده إلى ابن وهب به.

للقِبْلَةِ وصِيَانة لَهُ عَنِ القَذَرِ [664]، وقدْ رَوَى أَنسُ بنُ مَالِك أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وكَفارَتُها دَفْنُهَا" (¬1)، وإنَّما بنيَتِ المَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَل والصَّلاَةِ، فَلِهذَا أَوْجَبَ أَنْ تُنَزَّهَ عَنْ جَمِيعِ الأَقْذَارِ. * قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: (بَيْنَما النَّاس بقُبَاءٍ في صَلَاةِ الصبْحِ إذ جَاءَهُم آتٍ، فقالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ قدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرآَنٌ) [666]، إلى آخِرِ الحَدِيثِ، فيهِ مِنَ الفِقْهِ: قَبُولُ خَبَرِ الوَاحِدِ العَدْلِ، والدَّلِيلُ على ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بالتَّثبّتِ في خَبَرِ الفَاسِقِ أَوْجَبَ قَبُولَ خَبَرِ الوَاحِدِ العَدْلِ، وفيه: أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل نَسَخَ مِنْ كِتَابِهِ مَا شَاءَ، وأَبْقَى الحُكْمَ فيهِ لَمَّا شَاءَ، ولَيْسَ العَمَلُ على مَنِ اسْتَدْبَرَ القِبْلَةَ أو شَرَّقَ أَو غَرَّبَ ثُمَّ تَبينَ لَهُ ذَلِكَ في بَعْضِ صَلاَتِهِ انْ يَنْصَرِفَ إلى القِبْلَةِ وُيتِمَّ صَلَاتَهُ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ قُبَاءَ، ومَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ في صَلاَتِهِ قَطَعَهَا وابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، لأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا اسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَهُم التِّي كَانُوا قَدْ عَهَدُوهَا وابْتَدَؤُا إليها صَلاَتَهُم، فَلَمَّا بَلَغَهُم التَّحَوُّلُ عَنْهَا وأُمِرُوا باسْتِقْبَالِ الكَعْبَةِ لَزِمَهُم [الإنْصِرَافُ] (¬2) إلى مَا أُمِرُوا به، وَهُم في حِينِ الصَّلَاةِ، وارْتَفَعَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَمْلَةً وَاحِدَةً، فَمَنِ اسْتَدْبَرَ الآنَ القِبْلَةَ أَو شَرَّقَ أو غَرَّبَ قَطَعَ صَلَاتَهُ وابْتَدأَهَا، فإنْ تَبْيَّنَ لَهُ ذَلِكَ بعدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ أَعَادَهَا في الوَقْتِ إذا كَانَ قَد اجْتَهَد في القِبْلَةِ قَبْلَ دُخُولهِ في الصَّلَاةِ، وذَلِكَ أَنَّ الإجْتِهَادَ في القِبْلَةِ فَرْضٌ عندَ عَدَمِ القِبْلَةِ، فَمَنْ أَخْطَأَ في اجْتِهَادِهِ أَعَادَ صَلَاتَهُ في الوَقْتِ بعدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ. * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: (فِيمَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْربِ قِبْلَةٌ) [668]، يعنِي: إذا تُوُجِّهَ قِبَلَ البَيْتِ، وإنَّمَا قَالَهُ عُمَرُ بالمَدينَةِ، وقدْ حدَّثنا أَبو ¬

_ (¬1) رواه النسائي (723)، وابن أبي شيبة 2/ 365، وأحمد 3/ 172، بإسنادهم إلى أنس بن مالك. (¬2) جاء في الأصل: (الأنصارف)، وهو خطأ ظاهر.

يَعْقُوبَ يُوسُفُ بنُ إبْرَاهِيمَ بمَكَّةَ (¬1)، قالَ: حدَّثنا مُوسَى بنُ العبَّاسِ (¬2)، قالَ: حدَّثنا أَبو عبدِ اللهِ الوَرَّاقُ (¬3)، قالَ: حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ المِنْهَالِ، قالَ: حدَّثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمةَ، عَنْ عُبَيدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا جَعَلْتَ المَغْرِبَ عَنْ يَمِييكَ وَالمَشْرِقَ عَنْ يَسَارِكَ فَمَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ" (¬4)، وهذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ على السَّعَةِ في التَّوجُّهِ إلى القِبْلَةِ، وإثَّمَا هذا بالمَدِينَةِ، ومَا وَرَاءَهَا مِنَ الشَّامِ ومِصْرَ والمَغْرِبِ، ولَيْسَ هذَا لأَهْلِ العِرَاقِ ولا لأَهْلِ اليَمَنِ، فأَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ المَدِينَةِ ومَنْ وَرَاءَهُمْ أَنْ يَتَوجَّهُوا عندَ صَلاَتِهِم إلى سَمْتِ القِبْلَةِ الذِي يَكُونُ بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ نَحْوَ الكَعْبَةِ، وأَمَرَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَهْلَ الآفَاقِ أَنْ يُولُّوا وُجُوَهَهَمْ عندَ صَلاَتِهِم نَحْوَ البَيْتِ الحَرَامِ، فاسْتِقْبَالُه مَعَ المُعَايَنةِ إليهِ فَرِيضَة، فإذَا عُدِمتِ المُعَايَنَةُ كَانَ الإجْتِهَادُ فَرِيضَةً، فإذا أَخْطَأ المُجْتَهِدُ فَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ أَعَادَ صَلَاتَهُ في الوَقْتِ، وإذا ذَهَب لَمْ يُعِدْ. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةٌ في مَسْجِدي هذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ" [670] قالَ أَشْهَبُ: سَأَلْنَا مَالِكَاً عَنْ هذَا الحَدِيثِ، فقالَ: هُوَ يُفَضِّلُ المَسْجِدَ دُونَ فَضْلِه علَى غَيْرِه مِنَ المَسَاجِدِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: يُرِيدُ مَالِك أنَّ الصَّلَاةَ في مَسْجِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الفَرِيضَةُ تَفْضُلُ على الصَّلَاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونَ ألفِ صَلاَةٍ، وتَفْضُلُ الصَّلَاةُ في مَسْجِدِ ¬

_ (¬1) هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب النَّجيْرَمي البصري، الإِمام المحدث مُسْنِد البصرة، توفي بعد سنة (365)، السير 16/ 259. (¬2) هو أبو عمران موسى بن العباس الخراساني الجُويني، الإِمام الحافظ الثقة، توفي سنة (323)، السير 15/ 235. (¬3) هو أحمد بن بشر السَّليمي الأزدي البصري، محدث ثقة، روى عنه الترمذي والنسائي، توفي بعد سنة (240)، تهذيب الكمال 4021. (¬4) رواه الدارقطني 2/ 32، بإسناده إلى حجاج بن المنهال به، ورواه البيهقي في السنن 2/ 9، بإسناده إلى عبيد الله العمري به.

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على سَائِرِ المَسَاجِدِ بأَزْيَدَ مِنْ أَلفِ صَلاَةٍ، وفي هذا دَلِيل على فَضْلِ المَدِينَةِ على مَكَّةَ. * لمْ يُسْنِدْ مَالِك حَدِيثَ: "لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ" [674] وأَسْنَدَهُ حَمَّادُ [عَنْ أَيُّوبَ] (¬1) عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وفِي هذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ يُبِيحُ إمَامَةَ النِّسَاءِ، ولَو كَانَتِ الإمَامَةُ مُبَاحَةً لَهُنَّ لَمْ يَكُنْ لِنَهْي النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ المَسَاجِدَ مَعْنَى، إذ كُنَّ يُدْرِكْنَ فَضْلَ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ في البُيُوتِ، فَلَمَّا لمْ يَكُنْ ذَلِكَ إليهِنَّ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ" يُرِيدُ: لا تَمْنَعُونَهُنَّ فَضْلَ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ. * قَوْلُ عَائِشَةَ: (لَو أَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما أَحْدَثَ النسَاءُ) [677] يعنِي: مَا أَحْدَثْنَ مِنَ التبرجِ والزينَةِ عندَ خُرُوجَهِن إلى المَسَاجِدِ لَمَنَعَهُنَّ الخُرُوجَ إليها، وحَرَمَهُنَ فَضْلَ صَلَاةِ الجمَاعَةِ عُقُوبَةً لِفِعْلِهِنَّ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ أَحْدَثْنَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفاً، ورَوَى أَبو سَلَمَةَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ، ولْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ" (¬3) يعنِي: غَيْرَ مُتَطَيِّبَات. وَلَقِيَ أَبو هُرَيْرَةَ امْرَأةً مُطَيِّبَة، فقالَ لَهَا: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فقَالَتْ: إلى المَسْجِدِ، فقَالَ لَها: ولَهُ تَطَيَّبْتِ؟ فقالتْ: نَعَمْ، فقالَ لَهَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ: "أَيُّمَا امْرَأةٍ تَطَيَّبَتْ وخَرَجَتْ إلى المَسْجِدِ لمْ تُقْبَلْ لَهَا صَلاَةٌ حتَّى تَرْجِعَ فَتَغْسِلَهُ عَنْهَا" (¬4)، فَحُكْمُ المَرْأةِ إذا خَرَجَتْ إلى المَسْجِدِ التَّخَفّرُ والتَّسَتُّرُ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، ولابد منه، وقد استدركته من كتب تخريج الحديث. (¬2) رواه أبو داود (566)، بإسناده إلى حماد بن زيد به، ورواه البخاري (858)، ومسلم (442)، بإسنادهما إلى نافع به. (¬3) رواه أبو داود (565)، وعبد الرزاق 3/ 151، وابن أبي شيبة 2/ 383، وأحمد 2/ 528، بإسنادهم إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن به. (¬4) رواه أبو داود (4174)، وابن ماجه (4002)، وأحمد 2/ 246.

باب الوضوء لمن مس القرآن، إلى آخر باب في القرآن

بابُ الوُضُوءِ لمنْ مَسَّ القُرْآنَ، إلى آخرِ بَاب في القُرْآنِ * كَتَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بنِ حَزْمٍ حِينَ أَخْرَجَهُ وَالِياً كِتَاباً أَمَرَهُ فيهِ بأوَامِرَ، وَنَهَاهُ عَنْ نَوَاهِيَ، وكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا: "أنْ لَا يَمس المُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ" [680]. قالَ مَالِكٌ وغَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ: لا يَمَسَّ المُصْحَفَ أَحَدٌ ولَا يَحْمِلْهُ بِعِلاَقَتِه إلَّا طَاهِرٌ بِطُهْرِ الوُضُوءِ إكْرَاماً للقُرْآنِ، وقِيل في تآْوِيلِ قَوْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، أَيْ: لَا يَمَسُّهُ عندَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى إلَّا المُطَهَّرُونَ، وَهُمُ السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ، فَأمَّا في الدُّنيَا فَقَدْ مَسَّهُ مُنَافِق وغَيْرُهُ مِمن لَيْسَ بِمُطَهَّرٍ. * قَوْلُ عُمَرِ بنِ الخَطَّابِ الذي قالَ لَهُ: (أتقْرَأُ ولَسْتَ على وُضُوءٍ؟ فقالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَفْتَاكَ بهَذَا، أَمُسَيلَمَةُ؟) [685] قالَ ابنُ وَهْبٍ: كَانَ عُمَرُ في جَمَاعَةٍ مِنَ النَاس يَتَعَلَّمُونَ الَقُرْآنَ، يُعَلِّمُه بَعْضُهُم بَعْضَاً، وكاَن ذَلِكَ الرَّجُلُ القَائِلُ لِعُمَرَ: (أتقْرَأ ولَسْتَ على وُضُوءً؟) مِنْ أَصْحَاب مُسَيْلَمَةَ يُكْنَى بأَبِي مَرْيمَ (¬1)، فَلِذَلِكَ عَرّضَ لَهُ عُمَرُ بِمُسَيْلَمَةَ، أَيْ: أَنَّ مُسَيْلَمَةَ أفْتَاكَ بِهَذا الغُلو والخَطَأُ، فَقِرَاءَةُ القُرْآنِ على غَيْرِ وُضُوءٍ مُبَاحَة إذا لمْ يَقْرَأْ القَارِئُ في المُصْحَفِ، وأَمَّا الجُنُبُ فلَا يَقْرأُ مِنَ القُرْآنِ إلَّا الآيَاتِ اليَسِيرَةِ لارْتَيَاعٍ وفَزَعٍ ونَحُو ذَلِكَ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "انْزِلَ القُرْآنُ على سبْعَةٍ أَحْرف، فَاقْرَؤا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" [689] ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 13/ 207: كان الرجل فيما زعموا من بني حنيفة قد صحب مسيلمة الحنفي الكذاب، ثم هداه الله للإسلام بعد.

قالَ مَالِكٌ: وتَفْسِيرُ ذَلِكَ مِثْلُ قِرَاءَةِ عُمَرَ: {فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللهِ}، مَكَانَ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، ومِثْلُ: تَفْعَلُونَ وتَعْمَلُونَ ومَا أَشْبَه ذَلِكَ، يُجْعَلُ هذَا مَكَانُ هذَا إذا كَانَ المَعْنَى وَاحِدَاً. * وقالَ صَالح بنُ إدْرِيس المُقْرِئُ (¬1): "أُنْزِلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"، يعنِي: نَزَلَ علَى سَبْعَةِ لُغَات مُفْتَرِقَة في قُرَيْشٍ وفُصَحَاءِ العَرَبِ تَوْسِعَةً مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى ورَحْمَةً للعِبَادِ إذا كَانَ ذَلِكَ لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ. فإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ هذَا في مَعْنَى اللُّغَاتِ، ولُغَةُ هِشَامِ بنِ حَكِيمٍ هِي لُغَةُ عُمَرَ بنِ الخطاب، وقدْ أَنْكَرَ عُمَرُ على هِشَام مَا كَانَ يَقْرَأُ به؟ [689]، فَيُقَالُ لِقَائِلِ ذَلِكَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ في لُغَةٍ وَاحِدةٍ قِرَاءَاتٍ، كَقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]، و {يغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، و {تغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بالنون، والياء، والتاء (¬2)، وذَلِكَ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، فالحُرُوفُ السَّبْعَةِ مُتَّفِقَةُ المَعَانِي وإنْ كَانَتِ الأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ جَمَعَ عُثْمَانُ المُسْلِمِينَ على مُصْحَفٍ وَاحِدٍ نَظَراً مِنْهُ لَهُم حِينَ اخْتَلَفُوا في بَعْضِ القِرَاءَاتِ المُنَزُولةِ، وعَظُمَ اخْتِلاَفُهُم في ذَلِكَ، فَجَمَعَهُم على مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مِمَّا لمْ يَخْتَلِفُوا فيهِ، وَوَافَقَهُ على ذَلِكَ عليُّ بنُ أَبي طَالب مَعَ سَائِرِ الصَّحَابةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، فَلا سَبيلِ لأَحَدٍ اليومَ أَنْ يَقْرَأَ بِخِلاَفِ مَا أَجْمَعَ عليهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ صَالح بنُ إدْرِيس: وإنَّمَا جَازَ لَهُم إسْقَاطُ بَعْضِ القِرَاءَاتِ بعدَ أَنْ قُرِئَ بِها مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ تُفْرَضْ عَلَيْهِم القِرَاءَةُ بِجِمِيعِ القِرَاءَاتِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أُنْزِلَ القُرْآنُ علَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"، فَلَمَّا رأَى أَصْحَابُ ¬

_ (¬1) هو أبو سهل البغدادي المقرئ الثقة، توفي سنة (345)، ينظر: تاريخ بغداد 9/ 331، وتاريخ دمشق 23/ 213. (¬2) الذي قرأ بالنون ابن كثير وأبو عمرو البصري وعاصم وحمزة والكسائي، والذي قرأ بالياء نافع، وأما الذي قرأ بالتاء فهو ابن عامر الشامي، ينظر: البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة للعلامة عبد الفتاح القاضي ص 84.

رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَحَ في تَرْكِ مَا فِيهِ التَّنَازَعُ بَيْنَهُم مِنَ القِرَاءَاتِ، والإجْمَاعَ على المُتَّفَقِ عَلَيْهِ طَلَبُ الصَّلاَحِ لِدِينِهِم جَازَ ذَلِكَ لَهُم. قالَ أَبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ (¬1): وبقِيَ الاخْتِلاَفُ بينَ القُرَّاءِ في حَرَكَاتِ القِرَاءَةِ مِنْ أَجْلِ المَصَاحِفِ التِّي كَتَبَها الصَّحَابَةُ كَانَتْ خَالِيَةً مِنَ الشَّكْلِ والنُّقَطِ، وكَانَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ النوَاحِي يَقْرَؤُونَ بمَا عَلَّمَهُم أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَجْمَعَ عُثْمَانُ المُصْحَفَ، ولَمْ يَكُونُوا أُمِرُوا بالإنْتِقَالِ عَنْ تِلْكَ القِرَاءَاتِ إلى غَيْرِها كَما أُمِرُوا بالانْتِقَالِ عمَّا يُوجِبُ الاخْتِلاَفَ في صُورَتهِ كـ (الزقْيَةِ) و (الصَّيْحَةِ)، و (العِهْنِ المَنْفُوشِ) و (الصُّوفِ المَنْفُوشِ) وشِبْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بالانْتِقَالِ عَفَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الحَرَكَاتِ صَحَّ أنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والدَّلِيلُ على ذَلِكَ أَنَّ المُسْلِمينَ لا يُخْطَئُ فيهِ بَعْضُهُم بَعْضَاً، كَقِرَاءَةِ نَافِعِ بنِ أَبي نعيْمٍ، وابنِ كَثِيرٍ، وأَبي عَمْروِ بنِ العَلاَءِ، وعَاصِمٍ، وحَمْزَةَ، والكِسَائِي، وابنِ عَامِر، فَهَذِه القِرَاءَاتِ مَعْرُوفَةٌ عندَ أَهْلِ الأَمْصَارِ، يَتْلُونَها آنَاءَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ في الصَّلَوَاتِ وغَيْرِها. قالَ صَالح بنُ إدْرِيس: وأَمَّا الحُرُوفُ التي وَقَعَتْ في بَعْضِ المَصَاحِفِ وأُسْقِطَتْ مِنْ بَعْضِها، مِثْلُ قِرَاءَةِ نَافع {وأوصى بها إبراهيم بنيه} باَلفٍ بينَ الوَاوينِ، وقِرَاءَةِ أَبي عَمْرِوٍ وغَيْرِه: {وَوَصَّى} [البقرة: 132] بِغَيْرِ أَلِفٍ، ومِثْلُ: {قالوا اتخذ الله ولداً} بغيْرِ وَاوٍ (¬2)، وقَرَأَ بَعْضُهُم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} بِزِيَادَةِ وَاوٍ، ومِثْلُ قَوْلهِ: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] بِغَيْرِ وَاوٍ، وفي قِرَاءَةِ بَعْضِهِم: {*وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} بزيادة واو، ومِثْلُ قَوْلهِ في بَرَاءَةَ: {جنات تجري تحتها الأنهار} [التوبة: 100] في قِرَاءَةِ نَافِعٍ ومَنْ ¬

_ (¬1) هو محمد بن جرير الطبري، الإِمام الفقيه المجتهد، صاحب التصانيف الشهيرة، توفي سنة (310)، السير 14/ 267. (¬2) الآية في أكثر من موضع، ولكن الموضع الذي فيه هذه الإختلاف هو في سورة البقرة، الآية: (116)، والذي قرا بحذف الواو هو ابن عامر الشامي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وحده، ينظر: البدور الزاهرة ص 92.

تَابَعَهُ، وفِي قِرَاءَةِ ابنِ كَثِيرٍ: {جنات تجري من تحتها الأنهار} بزِيَادِة (مِنْ)، وفِي الكَهْفِ: {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (¬1) [الكهف: 36]، وفي قِرَاءَةٍ: {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مُنْقَلَبًا}، وشِبْهُ هذَا مِنَ الحُرُوفِ، وَهُو نَحْو مِنْ عِشْرِينَ حَرْفاً في جَمِيعِ القُرْآنِ، فإنها كَانَتْ مَعْرُوفَةً عندَ الذينَ كَتَبُوا المَصَاحِفَ لِعُثْمَانَ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوهَا في مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، فَفَرّقُوهَا في المَصَاحِفِ، فَبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ العِرَاقِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ اليَمَنِ، وبَعْضُهَا في مُصْحَفِ أَهْلِ الشَّامِ، لا يُنْكِرُهَا بَعْضُهُم على بَعْضبى، ويَقْرَؤُونَهَا في صَلاَتِهِم وتلاَوَتهِم، قَدْ حَفِظَهَا اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى وأَثْبَتَهَا في المَصَاحِفِ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فَمَا حَفِظَهُ اللهُ عَلَيْنَا فَلاَ سَبِيلَ إلى الزِّيَادَةِ فيهِ ولا إلى النُّقْصَانِ منهُ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمَوَاظَبَةِ على دِرَاسَةِ القُرْآنِ كَمَا يُوَاظِبُ صَاحِبُ الإبِلِ على ضَبْطِ إبلِه بأنْ يَعْقِلَهَا، وإنْ ضَيَّعَ ذَلِكَ ذَهَبَتْ، كَذَلِكَ صَاحِبُ القُرْآنِ إنْ ضَيَعّ دَرْسَهُ ذَهَبَ عَنْهُ [290]. والمُسْتَحَبُّ في قِرَاءَةِ القُرْآنِ تَدَبُّرَهُ عندَ قِرَاءَتِهِ، والتَّرَسلُ في ذَلِكَ، وإحْضَارُ الفَهْمِ عندَ تِلاَوَتِهِ. وقالَ زَيْدٌ للذِي سَأَلهُ عِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فقالَ لَهُ زَيْد: (لأَنْ أَقْرَأَهُ في مَرَّةٍ عِشْرِينَ يَوْماً أَحَبُّ إليَّ لِكَيْ أتدبرهُ وأَقِفَ عَلَيْهِ) [687]، فَقِرَاءَةُ تَدَبرٍ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوَحْي: "أَحْيَانَاً يَأتِينِي في مِثْلِ صَلْصَةِ الجَرَسِ" [690] يعنِي: يَنْزِلَ عليهِ المَلَكُ بالوَحْي بِصَوْتٍ كَمِثْلِ صَوْتِ الجَرَسِ إذا بَاهَتَ (¬2)، وكانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مَا يَلْقَاهُ مِنْ نزولِ الوَحْي عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) وهذه قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي جعفر، ينظر: البدور الزاهرة ص 278. (¬2) يعني: إذا سمع بغتة.

وقَوْلُهُ: "فَيَفْصِمُ عَنِّي وقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ"، كَمَا يَفْصِمُ الخِلْخَالُ، يَعْنِي: يَنْحَلُّ عَنِّي كَمَا يَفْعَلُ الخِلْخَالُ إذا فُتِحَ مِنْ قُفْلِهِ. وأَخَفُّ مَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنَ الوَحْي إذا تَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ في صُورَةِ آدَمِي ثُمَّ يُخْبِرُه بالذِي نزلَ بهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. * وَقْولُ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَدْنِينِي" [692] يعنِي: قَرِّبْنِي مِنْ نَفْسِكَ، وكَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مشْغُولاً بِمُخَاطَبَةِ المُشْرِكِ الذي كَانَ يَطْمَعُ بإسْلاَمهِ، فَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ شَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وقِيلَ: كَانَ أُبَيّ بنُ خَلَفٍ، وَيَقُولُ لَهُ: (يا أبا فُلاَن، هَلْ تَرَى بمَا أَقُولُ بَأسَاً) [692] يعنِي: هَلْ تَسْمَعُ فِيمَا أُخَاطِبُكَ بهِ شَيْئَاً تَكْرَهَهُ، ويَقُولُ لَهُ: (لا والدِّمَاءِ)، يعنِي: لَا وَدِمَاءُ الهَدَايَا التِّي كَانُوا يُقَربُونَهَا لأَصْنَامِهِم، وَمَنْ رَوَاهَا: (لا والدِّمَاءُ)، يَعْنِي: الأصْنَامَ والصُّورَ، فَفِي هذَا مِنَ الفِقْهِ: تَكْنِيَةُ المُشْرِكِ إذا طُمِعَ بإسْلاَمِهِ، وَإلاَنَةُ القَوْلِ، فَلَمَّا كَانَ في عِلْمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ ذَلِكَ المُشْرِكَ لا يُؤْمِنُ باللهِ أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى على رَسُولهِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، إلى آخِرِ القِصَّةَ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذَلِكَ يُكْرِمَ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ، وأُمُّهُ أُمِّ مَكْتُومٍ. * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (نَزَّرْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) [693] يعنِي: أَكْثَرْتَ عَلَيْهِ في المَسْأَلةِ وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْكَ لَا يُجيبُكَ، وهذَا الحَدِيثُ مُرْسَلٌ في المُوَطَّأَ، وحدَّثنا بهِ [أبو] عليِّ بنُ المُطَرِّزِ بِمِصْرَ (¬1)، قالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ زَبَّانَ (¬2)، قالَ: حدَّثنا عَبْدةُ بنُ عبدِ الرَّحِيمِ، قالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ ¬

_ (¬1) هو الحسن بن علي بن داود بن سليمان المصري، الإمام المحدث الثقة، قدم بغداد وحدث بها عنه أبو بكر البرقاني وأبو الحسن الدارقطني وغيرهما، وولد سنة (285)، وتوفي بمكة سنة (375)، ينظر: تاريخ بغداد 7/ 388. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل ولابد منه. (¬2) هو محمد بن زبان بن حبيب بن زبان، أبو بكر الحضرمي، الإِمام القدوة الحجة، محذث مصر، توفي سنة (317)، السير 14/ 519.

أَسْلَمَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسِيرُ في بَعْضِ أَسْفَارِه، وذَكَرَ الحَدِيثِ، وأَسْنَدَه (¬1). * وقالَ أَنسُ بنُ مَالِكٍ: كَانَتْ هذِه القِصَّةُ حِينَ انْصَرفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحُدَيْبِيَّهِ حِينَ صَدَّهُ المُشْرِكُونَ هُو وأَصْحَابُهُ عَنِ البَيْتِ ومَنَعُوهُم دُخُولَ مَكَّةَ، فَانْصَرَفُوا مَحْزُونينَ، فَعَوَّضَهُم اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ ذَلِكَ فَتْحَ خَيْبَرَ، وأَنْزَلَ على رَسُولهِ سُورَةَ الفَتْحِ، وغَفَرَ له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ ومَا تَأَخَّرَ، وهذَا يُبيِّنُ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى الذي حَكَاهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ قالَ: "ما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولَا بِكُم" (¬2) ونَصَرَهُ نَصْرَاً عَزِيزَاً، وَوَعَدَهُ بإدْخَالِ المُؤْمِنِينَ الجَنَّةَ وتَعْذِيبِ المُنَافِقِينَ بالنَّارِ، وهذَا خَيْر مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها، كَمَا قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في سُورَةِ الفَتْحِ: "هِيَ خَيْر مِمَّا طَلَعَتْ عليهِ الشمْسُ" [693]. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرجُ فِيكُم قَومٌ تَحْقِرونَ صَلاَتهم مَعَ صَلاَتِهِم" [694] وذَكر الحَدِيثَ، قالَ فيهِ ابنُ وَضاح: لَمَّا قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ فيكُم قَوْمٌ" ولَمْ يَقُلْ: يَخْرُجْ عَلَيْكُمْ، دَلَّ على أنَّهُم مِنَ المُسْلِمينَ. وقَوْلُىُ: "يَقْرَؤونَ القُرْآنِ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم" يعنِي: أَنَّهُم لا يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ، ولَا تَكْتُبُه لَهُم المَلاَئِكَةُ لِمُخَالَفَتِهِم مَا يَعْتَقِدُه أَهْلُ السُّنَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَن لَهُم صِيَامَا وصَلاَة وأَعْمَالاً إلَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ مِنْهُم، لِخُرُوجِهِم مِنَ الدِّينِ وَمُرُوقِهِم مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ. قالَ الأَخْفَشُ: الرَّمْيَةُ هِي التِّي تُرْمَى بالنَّبْلِ مِنَ الصَّيْدِ، مِثْلَ الضَّبْيِّ، وبَقَرَةِ الوَحْشِ وشِبْهِ ذَلِكَ، فَيَرْميهِ الصَّائِدُ فَيَنْفُذُهَا بِسَهْمِه فَيَأْخُذُهُ الصائِدُ، فَيَنْظُرُ في النَّصْلِ فَلَا يَرَى فيهِ شَيْئاً مِنَ الدَّمِ، والنَّصْلُ هُوَ حَدِيدَةُ السَّهْمِ، ويَنْظُرُ في القِدْحِ فَلَا يَرَى فيهِ شَيْئا مِنَ الذَمِ، والقِدْحُ هُوَ عُودُ السَّهْمِ، ويَنْظُرُ في الرِّيشِ فَلَا يَرَى فيهِ ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في التمهيد 3/ 264 بإسناده إلى محمد بن زبان به. ورواه البخاري (3943)، بإسناده إلى مالك به. (¬2) رواه البخاري (6615)، بإسناده إلى أم العلاء الأنصارية.

شَيْئَأ مِنَ الدَّمِ، والرّيشُ هُوَ رِيشُ السَّهْمِ، وذَلِكَ لِشِدَّةِ الرَّمْيَةِ وقُوَّةِ خُرُوجِ السَّهْمِ مِنَ الرَمْيَةِ. وقَولُهُ: (وَتَتَمَارَى في الفُوقِ) [694]، والفُوقُ: هُوَ الجُزْءُ الذي في طَرَفِ السَّهْمِ الذي يَجْعَلُهُ الرَّامِي في وَتَرِ القَوْسِ حِينَ يَرْمِي بالسَّهْمِ، والتَّمَارِي هُوَ الشَّكُّ، ومَعْنَى هذا أَنَّ الرَّامِي يَنْظُرُ في فُوْقِ السَّهْمِ هَلْ تَعَلَّقَ بهِ شَيءٌ مِنْ دَمِ الرَّمْيَةِ أَمْ لا، فَخُيِّلَ إليه أَنَّ فيهِ دَمٌ، ثُمَ شَكَّ في ذَلِكَ هَلْ هُو دَمٌ أَم لا، فَكَذَلِكَ أَهْلُ البدَعِ خَرَجُوا مِنَ الإسْلاَمِ بِبدَعِهِم التّي أَحْدَثُوهَا في الإسْلاَمِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهم مِنَ الإسلَامِ إلَّا التَّمَارِي هَلْ هُوَ مِن أَهْلِه أَم لا؟. وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: وقَدْ يَكونُ في غَيْرِ أَهْلِ البَدَعِ مَنْ هُو أَشَرُّ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ، لأَنَّ أَهْلَ البِدَعِ فَعَلُوا شَيْئاً بِتَأوِيلٍ تَأَوَلُوا أَنَّهُم على الحَقِّ، فَكَانَ حَالُهُم أَخَفَّ مِمَّن أتى الكَبَائِرَ مُجَاهَرَةً وَهُو عَالِمٌ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا ونَهَى عَنْهَا. وقالَ غَيْرُهُ: وذَلِكَ التَّمَارِي المَذْكُورِ في الحَدِيثِ هُو الذي أَبْقَى لأَهْلِ البِاَع نَصِيباً مِنَ الإسْلاَمِ في مَوَارِيثِهِم للمُسْلِمينَ ومُوَارَثَةِ المُسْلِمِينَ لَهُم، ولَا خِلاَفَ في هذَا، ولَوُ كَانُوا كُفَّارَاً جُمْلَةً وَاحِدَةً مَا وَرَثُوا مُسْلِماً ولَا وَرَثَهُم مُسْلِم، غيرَ أَنَّ أَهْلَ البدَعِ قَوْمٌ مَذْمُومُونَ مَهْجُرُونَ، لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِم، ولا يُنْكَحُ إليهِم، ولَا يُعَادُ مَرْضاهُم، ولَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُم إلَّا أَنْ يَضِيُعوا فَيُدْفَنُوا (¬1). [قالَ] (¬2) سُحْنُونُ: أَدَباً لَهُم، لِمُخَالَفَتِهِم ما عليهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ هَوَى مُضِلٍّ. ورَوَى ابنُ بُكَيْر عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زيدِ بنِ أَسْلَمَ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارَ جَاءَ إلى عُمَرَ ¬

_ (¬1) كذا قال النفزاوي في الفواكه الدواني 1/ 290، ونص عبارته: (فإن خيف ضيعتهم غسلوا وكفنوا وصلى عليهم غير أهل الفضل). (¬2) ما بين المعقوفتين غير واضحة في الأصل، ووضعته مراعاة للسياق.

بمُصْحَفٍ قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ (¬1)، فقالَ لَهُ: يا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، في هذَا التَّوْرَاةُ أفَأَقْرَؤُهَا؟، فقَالَ عُمَرُ: (إنْ كنتَ تَعْلَمُ أَنّهَا التَّوْرَاةُ التي أنْزِلَتْ علَىِ مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، فَاقْرَاهَا باللَّيْلِ والنَّهَارِ) (¬2)، وذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا، ففِي هذَا مِنَ الفِقْهِ: أَنَ عُمَرَ كَرِهَ أَنْ يُقْرأَ مِنَ الكُتُبِ الأُوَلُ شَيءٌ إلَّا مَا صَحَّ أَنهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يُحَرَّفْ ولَمْ يُبَدَّلْ، وفيهِ: أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارَ قَدْ عَلِمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ قَدْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، إذ لَمْ يُخْبرْ عُمَرَ بأن في ذَلِكَ المُصْحَفِ التَّوْرَاةَ المَنْزُولَةَ غَيْرَ المُبَدَّلَةِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا مَكَثَ ابنُ عُمَرَ في تَعْلِيمِه سُورَةَ البَقَرَةِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَعلَّمُهَا [695] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُم كَانُوا يَتَعلَّمُونَ مَا أُنْزِلَ مِنْ حُرُوفِ القُرْآنِ، ويَتَعَلَّمُونَ حَلاَلَهُ وحَرَامَهُ ونَاسِخَهُ ومَنْسُوخَهُ ومُحْكَمَهُ، فاذَا أَحْكَمُوا عِلْمَ ما تَعَلموا مِنْ ذَلِكَ انتقَلُوا إلى شَي؟ آخَرَ، لا كَمَنْ يَقْرَأَهُ ولَا يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ. * * * ¬

_ (¬1) تشرمت يعني تشققت، ينظر: اللسان 4/ 2251. (¬2) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (18 أ) نسخة تركيا. وانظر: التمهيد 14/ 387.

باب سجود القرآن، إلى آخر كتاب الصلاة

بابُ سُجُودِ القُرْآنِ، إلى آخِرِ كِتَابِ الصلاةِ روَى [مَطَرُ] (¬1) الوَرَّاقُ عَنْ عِكْرَمةَ، عَن ابنِ عبَّاسٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَسْجُدْ في المُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ" (¬2)، ولذَلِكَ ما قالَ مَالِكٌ: إنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ القُرآنِ إحْدَى عَشَرَةَ سَجْدَةٍ لَيْسَ في المُفَصَّلِ مِنْهَا شَيءٌ. ومَعْنَى العَزَائِمِ: هِي التّي عَزَمَ النَّاسُ على السُّجُودِ فِيها. * وحَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ الذي ذَكَرَ فيهِ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ في) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] [697] يَحْتَمِلُ أَن يَكُونَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ تَحْوِيلِه مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، إذ لمْ يَحْكِ أَبو هُرَيْرةَ أَنَّهُ سَجَدهَا حِينَئِذٍ مَعَهُ، وهَذا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ ابنُ عبَّاسٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَسْجُدْ في المُفَصَّلِ منذُ تَحَوَّلَ إلى المَدِينَةِ". * والعَمَلُ في سُجُودِ القُرْآنِ على قَوْلِ عُمَرَ: (إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَكْتبهَا عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ [701]، ولَيْسَ العَمَلُ على أنْ يَقْرأَهَا الإمَامُ في خُطْبَةِ يَوْمِ الجُمُعَةِ ثُمَّ يَسْجُدُ ويَسْجُدُ النَّاسُ مَعَهُ، وإنَّمَا فَعَلَها عُمَرُ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَعْلَمَهُم مَرَّةً أُخْرَى حينَ قَرَأَهَا أَنَّهُ لا سُجُودَ على الإمَامِ ولَا على المُسْتَمِعِينَ للخُطْبَةِ. ورَوَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ: (أنَّ عُمَرَ قَرَأَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (مطرف)، وهو خطأ. (¬2) رواه أبو داود (1402)، والبيهقي في السنن 2/ 212، وابن عبد البر في التمهيد 19/ 120، بإسنادهم إلى مطر الوراق به، وقال ابن عبد البر: هذا عندي. حديث منكر يرده قول أبي هريرة: (سجدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إذا السماء انشقت) ولم يصحبه أبو هريرة إلا بالمدينة.

السَّجْدَةَ وَهُو يُصَلِّي علَى المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَنَزَلَ وسَجَدَ وسَجَدُوا مَعَهُ) (¬1). * ورَوَى يَحْيَى بنُ يَحْيىَ: (فَنَزَلَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ) [701]، وهذِه الرِّوَايَةُ خَطَأٌ، لأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يَشْهَدْ ذَلِكَ فَسَجَدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ مَعَ عُمَرَ، لأنَّهُ لمْ يَكُنْ مَوْلُودَاً يَوْمِئذ,، وإنَّمَا وُلِدَ عُرْوَةُ في خِلاَفَةِ عُثْمَانَ، والصَّحِيحُ رِوَايةُ ابنِ بُكَيْرٍ: (وسَجَدُوا مَعَهُ). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: قَوْلُ عُمَرَ في سُورَةِ الحَجِّ: (أنَّها فُضِّلَتْ بسَجْدَتَيْنِ) [698]، لمْ يَرْوِه عنهُ إلَّا رَجُل مَجْهُولٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ، ولَذِلِكَ قالَ مَالِكٌ: ليسَ في سُورَةِ الحَجِّ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَوَّلُهَا، وسَجَدَ ابنُ عُمَرَ في آخِرِهَا على سَبيلِ الإسْتِحْبَابِ [699]، كَمَا أنَّهُ شَفَعَ وِتْرَهُ علَى سَبِيلِ الإسْتِحْبَابِ، وكَذَلِكَ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ. * إنمَا قالَ مَالِكٌ: لا تُسْجَدُ السَّجْدَةُ بعدَ الصبْحِ ولَا بَعْدَ العَصْرِ [704]، مِنْ أَجْلِ نَهْي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، وإنَّمَا هَذَا عندَ طُلُوع الشَّمْسِ، وبَعْدَ أَنْ تَصْفرَ بالعَشِي، وذلك أنَ ابنَ القَاسِمِ قالَ: يَسْجُدُ مَنْ قَرأَ السَّجْدَةَ بعدَ العَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَّرَ الشَمْسُ، وبعدَ الصَّبْحِ مَا لَمْ [تَطْلُعَ] (¬2)، كَمَا قَدْ يُصَلى على الجِنَائِزِ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ. وقالَ أَبو مُحَمَّد: وقَدْ يُصَلَّى الصُّبْحُ والعَصْرُ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَسْجُدُ مَنْ قَرَأَهَا بعدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَشْرِقْ، ومِنَ العَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَّر الشَّمس. وروَى ابنُ بكَيْرٍ عَنْ مَالِلث: (أَنَّ عُمَرَ [بنَ عبدِ العَزِيزِ قالَ لِمُحَمَّدِ بنِ قَيْس القَاضِي: اخْرُجْ إلى النَّاسِ فَأْمُرهُمْ يَسْجُدوُنَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، وهذَا] (¬3) لَمْ ¬

_ (¬1) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (17 أ) نسخة تركيا. (¬2) جاء في الأصل: (تصفر) وهو خطأ، والصواب ما أثبته موافقة للسياق. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واستدركته من موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (17 ب)، نسخة تركيا، ونقله ابن عبد البر في التمهيد 19/ 124، وفي الإستذكار 3/ 173.

يَرْوهِ يَحْيىَ بنُ يَحْيىَ [عَنْ] (¬1) مَالِكٍ، [ويُحْمَل على الإسْتِحْبَابِ] (¬2) مِنْ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ. * قالَ عِيسى: مَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ الذي يَسْمَعُ رَجُلاً يَقْرأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ويُرَدد قِرَاءَتَها ويَتَقَالَّهَا، يعنِي: أَنَّهُ كَانَ يَرَاهَا قَلِيلَةً قَصِيرَةً، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "والَّذي نَفْسِي بِيَدِه إنَّها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ" [708]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: ذَكَرَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَحْدَانِيَتَهُ وصمَدَانِيَتَهُ، وأنَّهُ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ثُمَّ تَفَضلَ على قَارئها أَنْ أَعْطَاهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ مَا أَعْطَى لِمَنْ قَرأَ ثُلُثَ القُرآنِ. وقَالَ غَيْرُهُ: إنَّما هذَا مِنْ جِهَةِ فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- على عِبَادِه، والقُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، لَيْسَ بِخَالِق ولَا مَخْلُوقٍ، ولَكِنَّهُ كَلاَمُ اللهِ الخَالِقِ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] هِيَ: الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ (¬3). وقالَ غَيْرُهُ: هِي لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وسُبْحَانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ، واللهُ أَكْبَرُ، ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللهِ (¬4). * قالَ عِيسَى: لا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ في صَلَاةِ النَّافِلَةِ: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ حَمْدَاً كَثيرَاً، طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيه)، كَمَا ذَكَرَهُ رِفَاعَةُ بنُ رَافِعٍ [718]، ولَا يَقُولُ ذَلِكَ في الفَرِيضَةِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قالَ سَمعَ اللهُ لِمَنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، واستدركته بما يتوافق مع السياق. (¬2) مابين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، ووضعته بما جاء في التمهيد. (¬3) رواه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 214، ومحمد بن نصر المروزى في تعظيم قدر الصلاة 1/ 157. (¬4) هذا قول كثير من أئمة السلف، ومنهم سعيد بن المسيب، كما رواه مالك في الموطا (715)، وينظر: تفسير ابن كثير 5/ 207.

حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ" [644]، ومَنْ قَالَ بِقَوْلِ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ لَمْ تَفْسُدْ بِذَلِكَ صَلاَتُهُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنِ، وأَغنِنِي مِنَ الفَقْرِ، وأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي، وبَصَرِي، وقُؤَّبي في سبِيِلكَ" [721] فيهِ مِنَ الفِقْهِ: الحَضُّ علَى قَضَاءِ الدِّيُونِ، ورَدُّ الحُقُوقِ إلى أَرْبَابِهَا، والرَّغْبَةُ إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- في المُعَافَاةِ مِنَ الفَقْرِ الذي يُوجِبُ الدَّيْنَ، ومَسْأَلة النَّاسِ، ومَنْ مَتَّعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى بِسَمْعِه، وبَصَرِه، وقُوتهِ ارْتَفَعَتْ عنهُ [مَئِنَّةُ] (¬1) مَنْ يُعَالِجُهُ، ومَنْ عُوفيَ فَشَكَر [كَانَ] (¬2) أَقْرَبَ إلى السلاَمَةِ مِمَّن ابْتُلِيَ فَصَبَرَ. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلاَمُ -: "لِيَعْزِمْ أَحَدُكُمْ على المَسْأَلَةِ فإنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ" [722] يعنِي: لِيَعْزِمُ الدَّاعِي على مَسْأَلةِ الرَّبِّ، فإنَّ اللهَ لا يُكْرِهُهُ أَحَدٌ على العَطِيّهَ، إنْ شَاءَ أَعْطَى، وإنْ شَاءَ مَنَعَ، والدُّعَاءُ منهُ مَا يُعَجَّلُ إجَابهُ، ومِنْهُ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبهِ، ومِنْهُ لِيُكَفَّرُ عنهُ بهِ. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في دُعَائِهِ: "لَا أُحْصِي ثنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ" [725] يَقُولُ: أَنا وإنْ أَجْهَدْتُ نَفْسِي في الثّناءِ عَلَيْكَ، والشُّكْرُ لَكَ على نِعَمِكَ، فلَا أُحْصِي نِعَمَكَ، ولا أُحِيطُ بِذَلِكَ، فأَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ. حَدِيثُ التَّنَزُّلِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ الأئِمَّةُ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وسَلَّمُوهُ، ولَمْ يَطْعَنُوا فيهِ [724]. وقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ اسْتَوى، فأعْظَمَ المَسْأَلةَ في ذَلِكَ؟ وقَالَ: الإسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ: التَّنَزُّلُ مَعْلُومٌ والكَيْفُ مَجْهُولٌ. وقدْ سُئِلَ الأَوْزَاعِيُّ عَنْ هذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: يَفْعَلُ اللهُ [مَا يَشَاءُ] وأَمِرُّوْهَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليس واضحا في الأصل، واستدركته بما يظهر من السياق. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

كَمَا جَاءَتْ بلاَ كَيْفِيَّةٍ، يَعْنِي: أمْضُوا الأَحَادِيثَ على] (¬1) مَا جَاءَتْ، يَعْنِي مِثْلَ هَذَا الحَدِيثِ وشَبَهِه مِنَ الأَ [حَادِيثِ ..........] (¬2) الحديث. * اسْتَحَبَّ العُلَمَاءُ قِيَامَ اَخِرِ اللَّيْلِ لِصَلاَةِ النَّافِلَةِ التِّي يُوَافِقَ في ذَلِكَ المُصَلِّي قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: "مَنْ يَدْعُوني فَاسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألنِي فَأعْطِيه، مَن يَسْتَغْفِرُني فأَغفِرُ لَهُ" (¬3) [724]. * قالَ الأَخْفَشُ: الإنَابَةُ الرُّجُوعُ مِنَ الشَّرِّ إلى الخَيْرِ خَاصَّةً، ولَا يَكُونُ الرُّجُوعُ مِنَ الخَيْرِ إلى الشَّرِّ إنَابَة، ذَلِكَ يُقَالُ فيهِ: الحَوْرَةُ، ذَلِكَ قَوْلُه: حَارَ بعدَ أَنْ كَانَ صَالِحاً [728]. * قولُ ابنِ المُسَيَّبِ: "إنَّ الرجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِه" [733] يعنِي: تُرْفَعَ مَنْزِلتَهُ في الآخِرَةِ بِدُعَاءِ وَلَدِه لَهُ بعدَ مَوْتهِ، وفِي غَيْرِ حَدِيثِ مَالِكٍ: "إنَّ الرَّجُلَ إذا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلَهُ إلَّا مِنْ ثَلاَث: وَلَدٍ صَالح يَدْعُو لَهُ، وعِلْمٍ يُنْشَرُ بَعْدَهُ، وصَدَقةٍ تَصَدَّقَ بها أَوقَعَها في سَبِيلِ اللهِ يَجْرِي عليهِ أجْرُهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً" (¬4). قَوْلُهُ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] [734]، قالَ عِيسى: الصَّلَاةُ هَهُنَا الدُّعَاءُ، يَقُولُ: مَنْ دَعَا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ ولا يُخْفِيهِ، ولَيَكُنْ صَوْتُهُ بِدُعَائِهِ مُتَوسِّطَاً. قَوْلُ أَبي الدَّرْدَاءِ: "نَامَتِ العُيُونُ، وغارَتِ النُّجُومُ" [739] يعني: نَامَتْ ¬

_ (¬1) أصاب المسح ما بين المعقوفتين واستدركحَه بما فهمته من السياق، ومما ورد في بعض الكتب، ومنها أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي 3/ 527، وسنن البيهقي 3/ 2، والتمهيد 7/ 149، وسير أعلام النبلاء 5/ 337، و 8/ 162 و 402. (¬2) أصاب المسح مقدار نصف سطر ولم أستطع استظهاره. (¬3) رواية الموطأ تقتصر على الجملة الأولى من الحديث، وهي قوله: (مَنْ يَدْعُوني فَأسْتَجيبَ لَهُ) والحديث رواه البخاري (1094)، ومسلم (758). (¬4) هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه، وقد رواه مسلم (1631)، والترمذي (1376)، والنسائي 2516، من حديث أبي هريرة.

وأَغْفِلَتِ العِبَادَةَ والذكْرَ، (وغَارَتِ النُّجُومُ) يعنِي: تَوَارتِ النُّجُومُ في مَغِيبِها، (وأَنْتَ الحَيُّ القَيُّومُ) يعني: القَائِمَ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبتْ. * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: عبدُ اللهِ الصُّنَابِحِيُّ الذي حَدَّثَ مَالِكٌ بِحَدِيثهِ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ عبدِ اللهِ الصُّنَابِحِيِّ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ عندَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ" [741]، ليسَ هُوَ بِمَعْرُوفٍ في الصَّحَابةِ، وإنَّما المَعْرُوفُ في التَّابِعِينَ أَبو عبدِ اللهِ الصُّنَابِحِيُّ، واسْمُهُ: عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُسَيْلَةَ، وأَمَّا عَبْدُ اللهِ الصنَابِحيُّ فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، ولَذِلَكِ لمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِحَدِيثهِ في النَّهِي عَنِ التَّنَفُّلِ عندَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ، والثَّابِتُ في هذَا حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بعدَ الصُّبْحِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وعَنِ الصَّلَاةِ بعدَ العَصْرِ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" [745]. * قِيلَ لأَبي مُحَمَّدٍ: فقدْ تَنَفَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ العَصْرِ، فقالَ: هذَا خَاصٌّ لَهُ - عليهِ السَّلاَمُ -، وذَلِكَ أَنَّهُ نَهَانَا نَحْنُ عَنِ التَّنَفُّلِ بعدَ صَلَاةِ العَصْرِ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وقدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نَهَيْتُكُم عَنْ شَيءٍ فَانتهُوا، وإذا أَمَرْتُكُم بِشَيءٍ فَاتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ" (¬1)، فَنَوَاهِيه - صلى الله عليه وسلم - ألزَمُ مِنْ أَوَامِرِه، فَلَيْسَ لنَا أَنْ نَسْتَبِيحَ شَيْئَا مِمَّا قدْ نَهَانا عنهُ، وإنْ فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الشَّيءَ الذي نَهَانَا عَنْهُ، وقدْ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ المُنْكَدِرَ على صَلَاةِ النَّافِلَةِ بعدَ العَصْرِ [747]، وَهُو يَعْلَمُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ كَانَ يَتَنَفَّلُ بعدَ العَصْرِ في بَيْتِهِ، وأنَّ هذَا لَهُ خَاصٌّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ [يَمْنَعْهُ أَنْ يُنْزِلَهُ] (¬2) في نَفْسِهِ ولا أَبَاحَهُ لِغَيْرِه. وقالَ بَعْضُهُم: نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ والتَّنَفُّلِ [بَعْدَهَا] (¬3) لِئَلَّا يُوَافِقَ المُصَلِّي عَبَدَةَ الشَّمْسِ الذينَ يُصَلُّونَ عندَ طُلُوعِهَا وعندَ غُرُوبِها، وهُمَا قَرْنَا الشَّيْطَانِ المَذْكُورَةِ في الحَدِيثِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6858)، ومسلم (1337)، من حديث أبي هريرة. (¬2) ما بين المعقوفتين ليس واضحا في الأصل، وقد اجتهدت في وضعه. (¬3) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، ووضعت ما يناسب السياق.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: صُنَابِحُ فَخِذٌ مِنَ العَرَبِ يُقَال لَهُم: بَنُو صُنَابِح، وعبدُ اللهِ القَارِيُّ هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَارَّةَ، وَهُمْ فَخِذٌ مِنْ كِنَانَةَ، ونُعَيْمُ المُجْمِرُ رَجُلٌ كَانَ يُجْمِرُ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا جَلَسَ عَلَيْهِ عُمَرُ للخُطْبَةِ يومَ الجُمُعَةِ، وتَمِيمُ الدَّارِيُّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدَّارِ، وَهُمْ بَطْنٌ في لُخَمٍ، والرُّوَاةُ كُلُّهُم يَقُولُونَ: الدَّارِي، إلَّا يَحْيىَ بنَ يَحْيىَ، فإنَّهُ يَقُولُ: الدَّيرِي، نَسبَهُ إلى قَرْيَة مِنْ قُرَى الشَّامِ يُقَالُ لَهَا الدَيْرُ. قال أَبو مُحَمَّدٍ: الدَّليلُ على أَنَّ الإِمام لا يُصَلِّي بالنَّاسِ صَلاَةً ثُمَّ يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا بطَائِفَةٍ أُخْرَى مَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- به مِنْ صَلَاةِ الخَوْفِ، وحَالَةُ الخَوْفِ كَانَتْ أوْلَى أنْ تُبِيحَ للإمَامِ أَنْ يُصَلي بِطَائِفَةٍ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِم تِلْكَ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا، فَلَمَّا مَنَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ ذَلِكَ شدَّةَ الخَوْفِ وجَمَعَهَمُ على إمَامٍ وَاحِدٍ كَانَ المَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ ارْتفَاعِ الخَوْفِ أَشَدَّ، وهذِه حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ. * * * تَمَّ كِتَابُ الصَّلَاةِ الأَوَّلُ والثَّانِي، بحَمْدِ اللهِ وعَوْنهِ وتَأَيُّدِه ويُمْنِه، وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وصَحْبِه وأَزْوَاجِه وذُرَّيَتِهُ وسَلَّم تَسْلِيمَاَّ كًثيراً يتلوه في [الذي] (¬1) يليهِ على بَرَكَةِ اللهِ: كِتَابُ الزَّكَاةِ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وقد وضعتها بما يتناسب مع السياق.

الجُزْءُ الثَّانِي مِنْ تَفْسِيرِ المُوطَّأ، فيهِ الزَّكَاةُ، والصِّيَامُ، والاعْتِكَافُ، ولَيْلَةُ القَدْر، والجَنَائِزُ، والنُّذُورُ، والضَّحَايا، والعَقِيقَةُ، والصيْدُ، والذبَائِحُ، وكِتَابُ النكَاحَ، والطَّلاَقِ، والرَّضَاعِ، مِمَّا جَمَعَهُ أَبو المُطَرِّفِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَرْوَانَ القُنَازِعِيُّ، وبَوَّبَهُ على حَسَبِ تَبْوِيبِ يَحْيىَ بنِ يَحْيىَ للمُوطَّأ، وأَدْخَلَ فيهِ مَا أَخَذَهُ تَلَقِّيَا ومُشَاهَدَة مِنْ شُيُوخِهِ الذينَ دَرَسَ عَلَيْهِم المُوَطَّأ، وأَدْخَلَ فيهِ مَا رَوَاهُ ابنُ بُكَير في رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٌ علَى ما رَوَاهُ يحيىُ بنُ يَحْيىَ اللَّيْثِيّ.

تفسير كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الر حيم صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وصَحْبِه وسلَّمَ تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ الزَّكَاةِ * أَجْمَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى ذِكْرَ الزكَاة في كِتَابهِ كَمَا أَجْمَلَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ، فقالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110]، فَأتَى بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ على لِسَانِ نَبيّه - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْد صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَه أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" [832] والذَّوْدُ: جَمَلٌ وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُ قالَ: ليسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ مِنَ الإبلِ صَدَقةٌ، والأُوقِيّهُ المَذْكُورَةُ هَهُنا: أَرْبَعُونَ دِرْهَما كَيْلا، فكَأَنَّهُ قالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائتيْ دِرْهَم زَكَاةٌ، والخُمْسَةُ الأَوْسَقِ مَكِيلَةُ أَلْفِ مُدٍّ ومِائتيْ مُد بِمُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذَلِكَ أَنَّ الوَسْقَ سِتُّونَ صَاعَاً، والصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَاد بِمُدِّه - صلى الله عليه وسلم -. ولَا تَكُونُ الزَّكَاةِ إلَّا في المَاشِيَةِ، والعَيْنِ، والحَرْثِ، فالحَرْثُ: النَّخِيلُ والكُرُومُ، والحُبُوبُ: التِّي هِي أَقْوَاتٌ مُدَّخَرَةٌ. قالَ أَبو مُحَمَّد: وأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ على أَنَّ في عِشْرِينَ مِثْقَالاً نِصفُ مِثْقَالٍ، ولَيْسَ يُوجَدُ في هذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ السَّنَدِ، كمَا يُوجَدُ في الوَرِقِ، فَصْرَفُ الدِّينَارَ في الزَّكَاةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَيْلاً. قالَ مَالِكٌ: وتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِمَّا زَادَ على المِائتيْ دِرْهَمٍ وإنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ، ويُؤْخَذُ مِمَّا زَادَ على العِشْرِينَ مِثْقَالاً وإنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: ولمْ يَثْبُتُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الخُضَرِ الزَّكَاةَ، ولَمْ

يَأْخُذْهَا الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، ودَخَلَتِ الفَوَاكِهُ مَدْخَلَ الخُضَرِ أَنْ لَا زَكَاةٍ فِيها، وهذِه السُّنَّةُ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ] (¬1): تَجِبُ الزَّكَاةُ بالإسْلاَمِ، والحُرِيَّةِ، والحَوْلِ، والنِّصَابِ الذِي نَصَّ عليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * وقالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: كانَ أَبو بَكْرٍ يَأخُذُ مِنَ العَطَاءِ الذي يَدْفَعُهُ إلى صَاحِبهِ، قَدْرَ مَا وَجَبَ عليهِ مِنْ زَكَاةِ مَالهِ الذي قدْ حَالَ عَلَيْهِ فيهِ الحَوْلُ، ولا يَأْخُذُ مِنَ العَطَاءِ شَيْئا، لأَنَّهُ فَائِدَةٌ، ولَا زَكَاةَ في فَائِدَةِ العَيْنِ، وفَعَلَهُ أَيْضَاً عُمَرُ، وعُثْمَانُ [837 و 838]. * وقَوْلُ ابنِ شِهَابٍ: (أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَعْطِيَةِ الزَّكَاةَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبي سُفْيَانَ) [840]، يعنِي: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُزَكي الأَعْطِيَةَ بِعَيْنها على سَبِيلِ الإجْتِهَادِ، فيَأخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ، وَهُو خِلاَفُ فِعْلِ أَبي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، وذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الأَعْطِيَةَ أَمْوَالاً مَوْقُوفَةً للذِينَ كَانُوا يُعْطُونَها، فإذا خَرَجَتْ لَهُم وقَبَضُوهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِم فِيها الزَّكَاةُ، كالدِّيُونِ إذا قُبِضَتْ بعدَ حَوْلٍ وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ، وقالَ بهذَا سُحْنُونُ (¬2). وقالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتِ العَطَايَا كالدِّيُونِ، لأنَّهَا رُبَّمَا خَرَجَتْ لأَصْحَابِها فيَأْخُذُونَها، ورُبمَا لمْ تَخْرُجْ لَهُم، والدَّينُ هُوَ خَارِجٌ أبَدَاً. ولَا زَكَاةَ في مَالٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ حتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ مِنْ يَوْمِ يُسْتَفَادُ. وسَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عمَّا رَوَاهُ عِكْرِمةُ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ قالَ: (فِي كُلِّ مَالٍ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ع)، وهو إشارة للمصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وقد أبدلته بكنيته الصريحة كما فعله هو في كتاب الصلاة المتقدم، وقد تابعته في هذا، وكذ (فعلته فيما سيأتي دون إشارة إليه، ولكني سأجعله بين معقوفتين. (¬2) ينظر قول سحنون في المدونة 2/ 142.

مُسْتَفَاد الزَّكَاةُ) (¬1)، فقالَ: يَرُدُّ هذَا الحَدِيثَ إعْطَاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّه العَبَّاسِ حِينَ سَأَلهُ أَنْ يُعْطِيهِ مِنَ المَالِ الذي أَفَاءَ اللهُ عليهِ، فأَعْطَاهُ مِنْهُ مَا قَوِيَ العبَّاسُ أَنْ يَسْتَغِلَّ به (¬2)، ولمْ يَأخُذْ منهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاة، وقدْ قالَ علي، وابنُ عُمَرَ: (لَيْسَ في المَالِ المُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حتَّى يَحُولَ عليهِ الحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اسْتُفِيدَ) (¬3)، وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعَنِ الخُلَفَاءِ بَعْدَهُ أنْ لا زَكَاةَ في مَالي مُسْتَفَادٍ إلَّا بعدَ حُلُولِ حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ اسْتُفِيدَ. * قَوْلُ مَالِكٍ: (ليسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارَاً عَيْنَاً زَكَاةٌ) [842]، وذَكَرَ ابنُ سَلاَمٍ عَنِ الخَلِيلِ بنِ مُرَّةَ، عَنْ يَحْمىَ بنِ أَبي كَثِيرٍ، عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الدِّينَارُ أَرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ قِيرَاطَاً" (¬4). [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: القِيرَاطُ وَزْنُ ثَلاَثِ حُبُوب مِنْ شَعِيرٍ، فَجَمِيعُهَا اثْنَانُ وسَبْعُونَ حَبَّة، ووَزْنُ جَمِيعِها دِرْهَمَانِ مِنْ وَزْنِ قُرْطُبةَ، فإذا كَانَ مِنْ هذَا الوَزْنِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً وَجَبَتْ فيهِ الزَّكَاةُ. * قالَ مَالِكٌ: (ولَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائتيْ دِرْهَمٍ كيْلاً زَكَاة) [842]. قالَ عِيسَى: إذا كَانَتْ تَنْقُصُ نُقْصَاناً يَسِيرَاً في المِيزَانِ وَهِي تَجْرِي بِجَوَازِ الوَازِنَةِ عَدَداً ووَزَنا فَفِيهَا الزكَاةُ، خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَيْلاً، وذَلِكَ رُبع عُشْرِهَا. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وَوَزْنُ الذَرْهَمِ الكَيْلِ: دِرْهَمٌ وخُمْسَانِ بِوَزْنِ قُرْطُبَةَ، فَجَمِيعُهَا مَائتانِ وثَمَانُونَ دِرْهَمَاً. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 76 بإسناده إلى عكرمة به، ورواه ابن حزم في المحلى 5/ 235 بإسناده إلى ابن عباس. (¬2) عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم لعمه العباس ثابت في صحيح البخاري (411) وغيره، من حديث أنس. (¬3) رواه البيهقي في السنن 4/ 103، بإسناده إلى على وابن عمر. ورواه مالك (839) عن نافع عن ابن عمر به. (¬4) ذكره ابن عبد البر في التمهيد 20/ 145، وقال: وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده ففي قول جماعة من العلماء، وإجماع الناس على معناه ما يغني عن الإسناد فيه.

قالَ مَالِكٌ: ولَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّة، وعَنِ الفِضةِ ذَهَباً، بِحِسَابِ الصَّرْفِ يَوْمَ يُخْرِجُ زَكَاتُهُ، قَل الصَّرْفُ أَو كَثُرَ. ومَعْنَى إخْرَاجِهِ عَنِ الذهَبِ دَرَاهِمَ لِكَي يَنَالَ مِنْ زَكَاتِه جَمَاعَةٌ مِنَ الفُقَرَاءِ، وأَما إخْرَاجُهُ عَنِ الفِضَّةِ ذَهَباً فَلَا وَجْهَ لَهُ، إلأ أَنْ يَكُونَ المَالُ كَثِيرَاً، فَيُعْطَى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِثْقَالٌ. * قَوْلُ مَالِكٍ في الشُرَكَاءِ في العَيْنِ مِنَ الدَّهَبِ أَو الوَرِقِ أَنهُ لَا زَكَاةَ على مَنْ لَمْ تَكُنْ في حِصتِه مِنْهُم مَا تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، ثُمَّ قالَ في آخِرِ المَسْأَلةِ: (وهذَا أَحَب مَا سَمِعْتُ إليَّ) [847]، إنَّمَا قَالَهُ مَالِكٌ رَداً لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يُزَكَّى على الشُّرَكَاء وإنْ لَمْ تَبْلُغْ حِصَّةُ الزَّكَاةِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم مَا تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، وفي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، وهذِه قَوْلَةٌ شَاذَّة ليسَ عليهَا العَمَلُ. وإذا كَانَ لِرَجُل أَمْوال مُودَعَةٍ عندَ رِجَال فإنَّهُ يُحْصِيهَا وَيضُمها إلى مَا بِيَدِه مِنَ النَّاضِّ ويُزَكّي جَمِيعَها (¬1)، بِخِلاَفِ الدّيُونِ التَي لا تُزَكَّى حتَّى تُقْبَضَ. * * * ¬

_ (¬1) الناض: اسم للدراهم والدنانير عند أهل الحجاز، وإنما يسمونه نضا إذا تحول عينا بعدما كان متاعا، لأنه يقال: ما نض بيدي منه شيء، ينظر: لسان العرب 6/ 4456.

باب زكاة المعادن، والحلي، وأموال اليتامى، والديون، وزكاة المدير

بابُ زَكَاةِ المَعَادِنِ، والحُلِي، وأَمْوَالِ اليَتَامَى، والدُّيُونِ، وزَكَاةِ المُدِيرِ (¬1) * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَقْطَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلاَلَ بنَ الحَارثِ المُزَنِيَّ مَعَادِنَ القَبَلِيَّةِ (¬2)، وَهِي بأَرْضِ مُزَيْنَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الفُرُعِ، وَهِي أَرْضٌ مُتَمَلَّكَة بَيْنَهَا وبينَ المَدِينَةِ أَرْبَعُونَ مِيلاً [851]، فَفِي هذَا تَقْوِيةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ: أنَّ أَمْرَ المَعَادِنِ إلى الإمَامٍ، وإنْ ظَهَرَتْ في أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ، يَقْطَعُهُا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلاً لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكاةَ إذا بَلَغَ ذَلِكَ مَا فِيهِ الزَّكاة. قالَ مَالِكٌ: ولَمَّا كَانَ مَا يَخْرُجُ مِنَ المَعَادِنِ يَعْتَمِلُ ويَنْبُتُ كَنَباتِ الزَّرْعِ كَانَ مِثْلَ الزَّرْعِ، وفِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ يُؤْخَذُ منهُ، وهذَا قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ. وقالَ أَهْلُ الكُوفَةِ: إنَّ في المَعَادِنِ الخُمُسَ على مَنْ أَصَابَهَا (¬3). قالَ أحمدُ بنُ خَالِدٍ: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "المَعْدَنُ جُبَارٌ، وفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ" (¬4)، فَالرِّكَازُ غَيْرُ المَعْدَنِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ المَعْدَنِ كَحُكْمِ الرِّكَازِ ¬

_ (¬1) المدير -بضمّ الميم وكسر الدال- هو: التاجر الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتا، ولا ينضبط له حول، كأصحاب الحوانيت، ينظر: القوانين الفقهية ص 70. (¬2) القَبَليّة -بفتح القاف والباء وتشديد الياء- ناحية من نواحي الفُرُع، والفُرُع -بضم الفاء والراء- تقع جنوب المدينة، تبعد عنها قرابة (150) كيلا، ينظر: المعالم الأثيرة ص 222، ومعجم المعالم الجغرافية ص 236. (¬3) ينظر قول أبي حنيفة وأصحابه في: بدائع الصنائع 2/ 67، وشرح فتح القدير 2/ 233. (¬4) رواه البخاري (2228)، ومسلم (1710)، من حديث أبي هريرة.

لَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: فِيهِما الخُمُسُ، وقدْ أَقْطَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَعَادِنَ وأَخَذَ مِنْها الزَّكَاةَ ولمْ يَأْخُذْ مِنْهَا الخُمُسَ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وغَيْرُ رِوَايةِ يحيى: (العَجْمَاءُ جُبَارٌ، والمَعْدَنُ جُبَارٌ، وفى الرِّكَازِ الخُمُسُ) (¬1). قالَ عيسى: العَجْمَاءُ جَمِيعُ البَهَائِمِ، يَقُولُ: جِنَايَتُهَا جُبَارٌ، لَا دِيَةَ لِمَنْ جَنَتْ عَلَيْهِ إذا لم يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبَ قَائِدٍ، أَو سَائِقٍ، أو رَاكِبٍ. وقَولُه: (وَالمَعْدَنُ جُبَارٌ) يعَنِي: لا دِيَةَ لِمَنْ مَاتَ في حَفْرِ المَعْدَنِ إذا انْهَارَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. والرِّكَازُ هُو: دَفِينُ الجَاهِليَّةِ مِنَ الذَّهَبِ أوالفِضَّةِ، ومنهُ يُقَالُ: أَرْكَزَتُ الشَّيءَ في الأَرْضِ، إذا وَضَعْتُهُ فِيهَا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ وَجَدَ رِكَازَاً بأَرْضٍ العَرَبِ وَفَيَافِي الأَرْضِ فَهُو لَهُ، وعَلَيْهِ فيهِ الخُمُسُ قَلِيلاً كَانَ أَو كَثيراً، ومَا وُجِدَ منهُ بأَرْضِ الصُّلْحِ فَهُو لأَهْلِ تِلْكَ الأَرْضِ، ومَا وُجِدَ مِنْهُ بأَرْضِ العَنْوَةِ فَهُو للذِينَ افْتَتَحُوهَا. وقالَ غَيْرُهُ: مَنْ وَجَدَ رِكَازَاً بأَرْضِ العَنْوَةِ فَهُوَ لَهُ، وعَلَيْهِ فيهِ الخُمُسُ، يَدْفَعُهُ إلى الإمَامِ. قالَ عِيسى: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ في الثِّيَابِ والمِسْكِ والعَنْبَرِ يُوجَدُ ذَلِكَ في قُبُورِ الأَوَّلِينَ، فَمَرَّةً قالَ: إنَّ في ذَلِكَ كُلِّه الخُمُسَ، ومَرَّةً قالَ: ليسَ فيهِ الخُمُسُ. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: أَحْسَنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الخُمُسُ، لأَنَّهُ أُنْزِلَ بِمَنْزِلَةِ الفَيءِ والغَنِيمَةِ. ¬

_ (¬1) هذا الحديث عند ابن وهب وابن القاسم وسعيد بن عفير فقط، وليس عند ابن بكير ولا القعنبي ولا معن ولا أبي مصعب بالاضافة إلى رواية يحيى، ينظر: مسند الموطأ ص 453 - 454.

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ يُحْتَجُّ في إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ بِمِثْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ: (أَنَّهُ لا زَكَاةَ فيه) (¬1)، وذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ صَاحِبَةُ حُلِيٍّ، ولَمْ يُحْفَظْ عَنْهَا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهَا بِزَكَاتهِ، وبهذَا قالَ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عُمَرَ، وأنسُ بنُ مَالِكٍ، وجَابِرُ بنُ عبدِ الله وغُيْرُهم مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولَمْ يَكُنْ في اللُّؤْلُؤِ، ولَا المِسْكِ، ولَا العَنْبَرِ زَكَاةٌ، لأَنَّ ذَلِكَ ليسَ بِعَيْنٍ، وإنَّمَا هُوَ عَرَضٌ، وقَالَ ابنُ عبَّاس: (لَيْسَ في العَنْبرِ زَكَاةٌ، لأنَّهُ شَيءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ) (¬2)، يعنِي: رَمَى بهِ البَحْرُ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَوْجَبَ عُمَرُ، وعَلَيٌّ، وعَائِشَةُ وغَيْرُهُم الزَّكَاةَ في أَمْوَالِ اليَتَامَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ الزَّكَاةَ في الأَمْوَالِ لَا علَى الأَبْدَانِ، لِقَوْلهِ تعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] يعنِي: الزَّكَاةَ، وقَدْ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ علَى أنَ على اليَتَامَى زَكَاةَ الفِطْرِ، فَكَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِم زَكَاةُ الأَمْوَالِ، وقالَ عُمَرُ: (اتَّجِرُوا بأَمْوَالِ اليَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزكَاة) [863]. قالىَ عِيسَى: تَفْسِيرُهُ أَنْ يَتَّجِرَ وَلِيُّ اليَتِيمِ بِمَالهِ، وتَكُونَ زَكَاتُهُ مِنْ رِبْحِه، ويَجُوزُ للوَليِّ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ اليَتِيمِ قِرَاضَاً إلى أَهْلِ الأمَانَةِ والثِّقَةِ، ولَا ضَمَانَ عليهِ إنْ تَلِفَ المَالُ، فإنْ دَفَعَهُ إلى غَيْرِ ثِقَةٍ وتَلِفَ المَالُ ضَمِنَهُ الوَليُّ لِتَعَدِّيهِ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ مَالِكٍ: (إذا هَلَكَ الرَّجُلُ ولمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالهِ أَنّهَا تُبَدَّاَ على الوَصَايَا، وأنَّهَا بمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ) [869]، يُرِيدُ مَالِكٌ بهذَا القَوْلِ: أَنَّهُ لمَّا كَانَ الدَّيْنُ مُبَدَّاَ على المِيرَاثِ كَذَلِكَ تَكُونُ الزَّكَاةُ المُفَرَّطُ فِيها مُبَدَّاَةٌ في الثُّلُثِ على جَمِيعِ الوَصَايَا، وإنَّمَا هذَا إذا أَوْصَى بِها المَيِّتُ أَنْ تُخْرَجَ، وقَدْ يُبَدَّاَ عَلَيْهَا المُدَبَّرُ في الصِّحَةِ (¬3)، وإنَّما بُدِّأ المُدَبَّرُ على الزَّكَاةِ مِنْ أَجْلِ أَنَ مَنْ دَبَّرَ عَبْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق 4/ 82، وابن أبي شيبة 3/ 154. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 3/ 142، والبيهقي في السنن 4/ 146. (¬3) المدبَّر هو الذي عُلّق عتقه بموت سيِّده، سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة، أو لأن فاعله دبّر أمر دنياه وآخرته، أما دنياه فبإستمراره على الإنتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته =

سَبِيلٌ في أَنْ يَرْجِعَ في تَدْبِيرِه إيَّاهُ، وقَدْ يَرْجِعُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلهِ في زَكَاةِ مَالِهِ، فَيَقُولُ: إنَّي قَدْ أَدَّيْتُهَا فتَسْقُطُ عَنْهُ، وقَدْ يُبَدَّاَ أَيْضَاً عَلَيْهَا صُدَاقُ المَرِيضِ لأَنَّهُ كالجِنَايَةِ، فَلِذَلِكَ بُدِّأَ في الثُّلُثِ على الزَّكَاةِ المُوصَى بِها. * قالَ أَبو عُمَرَ: تَرْجَمَ مَالِكٌ في المُوطَّأ (بَابَ الزَّكَاةِ في الدَّيْنِ) [872] علَى مَعْنَى: أَنَّ الدَّيْنَ يُرَدُّ إلى صَاحِبهِ، فَيُزَكِّيهِ إذا قَبَضَهُ إنْ كَانَ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ مِنْ يَوْمِ دَايَنَ بهِ. * قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: أَسْقَطَ الصَّحَابَةُ الزَّكَاةَ مِنَ الدِّيُونِ إذ لَيْسَتْ في مِلْكِ مَنْ هِي لَهُ، وإذ لَيْسَتْ مِلْكًا لِمَنْ هِي عليهِ، ولِهَذا كَانَ يَخْطُبُ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ فَيَقُولُ: (هذَا شَهْرُ زَكَاتِكُم، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دينٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ) [873]، يَعْنِي: كَي يَقْبِضَهُ صَاحِبُهُ فَيُزَكِيِّه. * قالَ الزُّهْرِيُّ: (كَانَ يَخْطُبُ بهَذا عُثْمَانُ في شَهْرِ رَمَضَانَ) (¬1)، فَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: لَا زَكَاةَ في دَيْنٍ قَبْلَ قَبْضِهِ. * المَالُ الضِّمَارُ: هُوَ المَالُ المُغَيَّبُ عَنْ صَاحِبهِ (¬2)، وَكَتَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ المَالِ الذي غُيِّبَ عَنْ أَصْحَابِهِ سِنِينَ زَكَاةَ تِلْكَ السِّنِينَ إذا صُرِفَ إليهم، ثُمَّ عَقَّبَ بعدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ آخَرَ: أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ إلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فإنَّهُ كَانَ ضِمَارَاً [874]، يعنِي: أَنَّهُ كَانَ مُغَيَّبًا عَنْ أَصْحَابِهِ في غَيْرِ مِلْكِهِم. فَفِي هذَا مِنَ الفِقْهِ: أنَّ يَتَعَقَّبَ المُفْتِي مَا أَفْتَى بهِ بمَا يَرَاهُ أَصْلَحَ في المَعْنَى مِمَّا فِيه أَوَّلاً، وإنَّمَا يَصِحُّ بهذَا للمُسْتَعْجِزِ في العِلْمِ المُسْتَنْبِطِ منهُ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ فِيمَنْ لَهُ مَالٌ وعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ [875] إنَّما هَذا إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ بهِ أَصْلٌ أو عَرَضٌ، فهَذا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ¬

_ = فبتحصيل ثواب العتق، وسيأتي تفصيل أحكامه في بابه، وينظر: فتح الباري 4/ 421. (¬1) نقله ابن حجر في فتح الباري 13/ 310. (¬2) المال الضمار هو: المال الغائب الذي لا يرجى عوده، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 543.

لأَنَّ المَالَ الذي بِيَدِه الدَّيْنُ أَوْلَى به، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عليهِ زَكَاتُهُ، وأَمَّا إذا كَانَ لَهُ أَصْلٌ أو عَرَضٌ، فإنَّهُ يُجْعَلُ دَيْنُهُ فيهِ، ويُزَكَّى المَالُ الذي بِيَدِه. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ في العُرُوضِ المُقْتَنَاةِ إذا لم تَكُنْ لِلْتِجَارَةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَيْسَ على المُسْلِمِ في عَبْدِه، ولا فِي فَرَسهِ صَدَقَةٌ" (¬1)، فَإذا كَانَتِ العُرُوضُ للصَّدَقَةِ زُكِّيَ ثَمَنُهَا إذا بِيعَتْ بعدَ حَوْلٍ فَأَكْثرَ مِنْ يَوْمِ اشْتُرِيتْ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: لَمَّا جَعَلَ اللهُ زَكَاةَ الأَمْوَالِ مِنْهَا، لَمْ تَجِبْ زَكُاةُ دَيْنٍ قَبْلَ قَبْضِهِ، ولَا في عَرَضٍ قَبْلَ بَيْعِهِ، فَمَتَى قُبضَ الدَّيْنُ أَو بِيعَ العَرَضُ زُكِّي ذَلِكَ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وإنْ مَرَّتْ لَهُ أَعْوَامٌ، وهذَا في غَيْرِ المُدِيرِ، وأَمَّا المُدِيرُ فَيُقَوِّمُ عُرُوضُهُ التّي للتِجَارَةِ ويُزَكَّى دَيْنَهُ عندَ حُلُولهِ، وبهذَا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ. * قالَ عِيسَى: قَوْلُ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ في كِتَابهِ إلى زُرَيقِ بنِ حَيَّانَ (¬2): (أَنْ خُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِ المُسْلِمينَ، مِنْ كِلِّ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا مِثْقَالًا إلى أنْ تَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَخُذْ مِنْهَا نِصْفَ مِثْقَالٍ) [880]، يعنِي: خُذْ مِمَّا أَقَرُّوا أَنْ [تَكُونَ] (¬3) الزَّكَاةُ عَلَيْهِم فيهِ وَاجِبَةً، وذَلِكَ أنَّها مَوْكُولَةٌ إلى أَمَانَةَ المُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ أَحَدٌ في قَوْلهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَحِل عليَّ زَكَاةٌ بعدُ بِوَجْهٍ [يدَّعِيه] (¬4)، فَيَحْلِفُ على ذَلِكَ إنْ كَانَ مُتَّهَمَا ويُتْرَكُ. قالَ: وَلَيْسَ العَمَلُ على قَوْلهِ: (فَإنْ نَقَصَتْ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارَاً ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا، ومَا نَقَصَتْ مِمَّا لا يُخْتَلفُ فيهِ المَوَازِينُ فَلَا زَكَاةَ فيه). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1394)، ومسلم (982)، عن أبي هريرة. (¬2) يقال: زريق، ويقال رزيق، والراجح تقديم الزاي، ينظر: تهذيب الكمال 9/ 181. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر جليّا في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يتناسب والسياق. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يتبين في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يناسب السياق، والمعنى: (بوجه يدعي عليه صاحب الجباية).

قالَ عِيسَى: وكَذَلِكَ لَيْسَ العَمَلُ على قَوْلهِ فِي أَهْلِ الذّمَّةِ: (أَنْ (¬1) يُؤْخَذَ مِنْهُم مَرَّةً وَاحِدَةً في العَامِ نِصْفُ العُشْرِ، [ويُكْتُبُ] (¬2) في ذَلِكَ برَاءاتٌ إلى رَأسِ الحَوْلِ). قالَ: وُيرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذا الكِتَابِ، وأَمَرَ بِوَضْعِ المَكْسِ (¬3)، وقَالَ: (لَيْسَ بالمَكْسِ، ولَكِنَّهُ البَخْسُ، قَالَ اللهُ: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]، ومَنْ أتاكَ بِزَكَاةِ مَالِه فَاقْبَلْهَا، ومَنْ مَنَعَهَا فَاللهُ حَسْبُهُ) (¬4). قالَ عِيسَى: وَقَدْ أَخْبَرَني ابنُ القَاسِمِ وابنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ قالَ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ العُشْرُ مِرَارَاً في السَّنَةِ كُلّها إذا اتَّجَرُوا في غَيْرِ بِلاَدِهم، كَانَ المَالُ قَلِيلاً أَو كَثيرَاً، ولَا يُكْتَبُ مِنْهُم بَرَاءَةٌ إلى السَّنَةِ المُقْبلَةِ، ولا يُؤْخَذُ مِنْهُم شَيءٌ حتَّى يَبِيعُوا سِلْعَتَهُم (¬5). قالَ مَالِكٌ: ولَو أَرَادُوا الإنْصِرَافَ بهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُم إذا كَسَدتْ أَسْوَاقُهَا وَهُم مُخَالِفُونَ للعَدُوِّ، يَنْزِلُونَ بِلاَدَ المُسْلِمينَ بِصلْحٍ ومَعَهُم التِجَارَةُ، فَهُؤلاَءِ بَاعُوا أَو لَمْ يَبِيعُوا يُؤْخَذُ مِنْهُم مَا صُولحُوا عَلَيْهِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذّمَّةِ العُشْرُ إذا اخْتَلَفُوا بِتِجَارَةٍ إلى غَيْرِ بِلاَدِهِم، لأَنَّهُم لَمْ يُقَرُّوا على الجِزْيَةِ لِيَتَصَرُّفوا في بِلاَدِ المُسْلِمينَ، وإذ بالإمَامِ ¬

_ (¬1) في الأصل: (أن لا يؤخذ) وأرى ان ذلك خطأ، والصواب حذف (لا)، وينظر: المدونة 2/ 159. (¬2) جاء في الأصل: (وكلهم) ولم أجد لها معنى، وما أثبته هو المتوافق مع ما جاء في الإستذكار 3/ 446. (¬3) المَكْس -بفتح الميمـ بمعنى الجِبَاية، وصاحب المكس: هو الذي يعشر أموال المسلمين، ويأخذ من التجار وغيرهم مكسا باسم العُشر، ينظر: عون المعبود 8/ 111. (¬4) رواه سحنون في المدونة 2/ 155. (¬5) نقله ابن حزم في المحلى 6/ 114، وابن عبد البر في الكافي 1/ 218.

حَاجَةٌ إلى مَصْلَحَةِ الطُرِقِ، وتَأْمِينِ السُّبُلِ، ولَا يَقُومُ هذَا إلَّا بِمَنْ يَتَولَّاهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، ويَأْخُذُونَ الرِّزْقَ مِنَ الإمَامِ، فَلِهَذَا أُخِذَ مِنْهُم في تِجَارَتهِم في غَيْرِ بِلاَدِهِم العُشْرُ. قَوْلُ مَالِلث: (مَن اشْتَرَى حِنْطَةً أَو تَمْراً للتِجَارةِ، ثُمَّ أَمْسَكَ ذَلِكَ حَوْلًا، ثُمَّ بَاعَهُ بِما تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، زَكَّى بِثَمَنِه حينَ يَقْبِضُهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِثْلُ الحَصَادِ، يَحْصُدُه الرَّجُلُ مِنْ أَرْضِهِ، ولَا مِثْلُ مَا يَجِدُّهُ مِنْ نَخْلِهِ)، يُرِيدُ مَالِكٌ: أَنَّ هذَا إذا بَاعَهُ بعدَ أَنْ أَمْسَكَهُ زَمَانًا أَنَّهُ يُسْتَقْبَلُ بِثَمِنِ مَا بَاعَ مِنْهُ الحَوْلَ، إلَّا أَنْ يَكْتَرِي أَرْضاً للتِجَارَةِ، وَيزْرَعَ فِيها للتِجَارَةِ، فَهَذا يُخْرِجُ مِنْهُ زَكَاةُ الحَبِّ يومَ حَصَادِه، كَمَا يُخْرِجُها الذي يَزْرَعُ في أَرْضِهِ، ثُمَّ إذا بَاعَ ذَلِكَ التَّاجِرُ بعدَ حَوْلٍ أو أَحْوَالٍ مِنْ يَوْمِ زَكَّى أَوَّلاً زَكَاةَ ثَمَنِهُ إذا قَبَضَهُ، زَكَاةً وَاحِدةً إذا كَانَ في مِثْلِه عَدَدُ الزَّكَاةِ. قَالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنْ يُقَوِّمَ المُدِيرُ عُرُوضَهُ وَقْتَ زَكَاتِه، وُيزَكِّي قِيمَتَهُ مَعَ مَا بِيَدِه مِنَ العَيْنِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: أَهْلُ الإدَارَةِ مِثْلُ البَزَّازِين، والقَصَّارِينَ، وأَصْحَابِ الحَوَانِيتِ، فَهُؤلاَءِ يَجْعَلُونَ لأَنْفُسِهِم شَهْراً مِنَ السَّنَةِ يُزَكُّونَ فِيهِ نَاضَّهُم، ويُقَوِّمُونَ عُرُوضَهُم، فَيوكُّوَنَ قِيمَتَها، ويَحْسَبُونَ دِيُونَهُم التِّي في مَلاَءٍ وَبقَةٍ، ويُخْرِجُونَ زَكَاتَها في كُلِّ عَامٍ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإذا كَانَ الرَّجُلُ يَبِيعُ العَرَضَ بالعَرَضِ، ولَا يَبِيعُ بِشَيءٍ مِنَ العَيْنِ، فإنَّهُ لَا يُزَكّي أَبَداً حتَّى يُنَضَّ بِيَدِه بَعْدَ الحَوْلِ دِينَارٌ أَو دِرْهَمٌ، فإذا نَضَّ لَهُ ذَلِكَ قَوَّمَ عُرُوضَهُ، وزَكَّى عَنِ الجَمِيعِ. وقالَ أَشْهَبُ: لَا تَقْوِيمَ عَلَيْهِ وإنْ مَضَتْ لَهُ أَحْوَالٌ، حتَّى يَمْضِي لَهُ حَوْلٌ مُسْتَقْبَلٌ منذُ بَاعَ بِشَيءٍ مِنَ العَيْنِ، لأنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الوَقْتِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الإدَارَةِ، فإذا مَضَى لَهُ حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ بَيْعِه بِشَيءٍ مِنَ العَيْنِ قَوَّمَ عُرُوضَهُ وزَكَّاهَا مَعَ مَا بِيَدِه مِنَ العَيْنِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَعْنَى قَوْلِ أَشْهَبَ هذا هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ وَرِثَ عُرُوضَاً،

أَو وُهِبتْ لَهُ، ثُمَّ أَدَارَ تِلْكَ العُرُوضَ في عُرُوضٍ عَامًا بعدَ عَامٍ، ثُمَّ بَاعَ مِنْهَا بِعَيْنٍ رَاعَى مَجِيءَ الحَوْلِ، فإِذا حَالَ الحَوْلُ عليهِ مِنْ يَوْمِ بَاعَ بالعَيْنِ قَوَّمَ عُرُوضَهُ، وزَكَّى قِيمَتَها مَعَ مَا بَاعَ بهِ مِنَ العَيْنِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: ومَعْنَى قَوْلِ ابنِ القَاسِمٍ هُوَ أَنَّ أَصْلَ مَالِهِ كَانَ عَيْنَاً، ثُمَّ أَدَارَهُ في عُرُوضٍ، فإذا بَاعَ مِنْهَا ولَو بِدِرْهَمٍ فَمَا فوْقَهُ بَعْدَ الحَوْلِ، وَجَبَ عليهِ التَّقْوِيمُ والزَّكَاةُ، فَقُولُ أَشْهَبَ، وابنِ القَاسِمِ فِي صَفْقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. قَوْلُ أَبي هُرَيْرَةَ: "مَنْ مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ" [887] يعنِي: صُوِّرَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُعْبَانًا أَقْرَعَ، قَدْ تَجَمَّعَ السُّمُّ في رَأْسِهِ، حتَّى تَسَاقَطَ شَعْرُهُ، فَصَارَ أَقْرَعَ. (لَهُ زَبيبَتَانِ) يعنِي: لَهُ رَغْوَةٌ في شِدْقَيْهِ مِنْ زَبَدِه مِنْ كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ، شَبْهَهَمُا بالزَّبِيَبَتِيْنِ فَي انْتِفَاخِهِمَا، يُسَلَّطُ على الذي مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَيُعَدْ بهِ في النارِ لِمَنْعِهِ إيَّاهَا, قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} يعنِي: ولَا يُزَكُّونَها، إلى قَوْلهِ تَعَالَى: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35].

في زكاة الماشية، وما يعتد به من السخل في الزكاة

فِي زَكَاةِ المَاشِيةِ، ومَا يُعْتَدُّ بهِ مِنَ السَّخْلِ فِي الزَّكَاةِ * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: الكِتَابُ الذي قَرَأَهُ مَالِكٌ في أَخْذِ الصَّدَقَةِ - وَهُوَ نُسْخَةُ الكِتَابِ الذي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَّالِهِ- ذَكَرَهُ أَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قالَ: (كَتَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابَ الصَّدَقةِ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلى عُمَّالِهِ حتَّى قُبِضَ، فَقَرنه بِسَيْفِه (¬1)، فَعِمَلَ بهِ أَبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، والخُلَفَاءُ) (¬2)، وهذَا حَدِيثٌ مُسْنِدٌ، ولَمْ يُسْنِدْهُ مَالِكٌ في المُوَطَّأ، وإنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا [889]. قالَ عِيسَى: النِّصَابُ المُزَكَّى مِنَ المَاشِيَةِ في الغَنَمِ: أَرْبَعُونَ فَصَاعِدَاً، ومِنَ الإبلِ: خَمْسَا فَصَاعِدًا، ومِنَ البَقْرِ: ثَلاَثُونَ فَصَاعِدًا، فهذَا الأَصْلُ في زَكَاةِ المَاشِيَةِ، والسَّائِمَةُ: هِيَ الرَّاعِيةُ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يعنِي: فيهِ تَرْعُونَ. قالَ ابنُ حَبيبٍ: الجِذْعُ مِنَ الضَّأْنِ: هُوَ ابنُ سَنَةٍ، وقِيلَ: ابنُ عَشَرَةٍ أَشْهُرٍ، وقِيلَ: ابْنُ ثَمَاَنِيةِ أَشْهُرٍ، والثَّنِيُّ مِنَ الضَّأْنِ: مَا أَوْفَى سِتَّة ودَخَلَ في الثَّانِيَةِ، والتَّبِيعُ مِنَ البَقَرِ: هُوَ ابنُ سَنتَيْنِ قَدْ فُطِمَ عَنْ أُمِّه، والمُسِنَّةُ مِنَ البَقَرِ: بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ، وبِنْتُ مَخَاضٍ مِنَ الإبلِ: بِنْتُ سَنتَيْنِ، وذَلِكَ أَنَّ أُمَّهَا في حَدِّ المَخَاضِ، وَهُوَ الحَمْلُ، وبِنْتُ لَبُونٍ: بِنْتُ ثَلاَثِ سِنِينَ، وذَلِكَ أنَّ أُمَّهَا [صَارَ لَهَا ¬

_ (¬1) أي انه كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه لإرادة أن يخرجه إلى عماله فلم يخرجه حتى قبض، ففي العبارة تقديم وتأخير، وينظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري 3/ 203. (¬2) سنن أبي داود (1568)، ورواه الترمذي (621)، وأحمد 2/ 14، وأبو يعلى 9/ 359، والبيهقي في السنن 4/ 88.

لَبَنٌ] (¬1) بِلَبنِ أُخْرَى قَدْ وَضَعَتْهَا بَعْدَها، فَلَذَلِكَ قِيلَ لَهَا بِنْتُ لَبُونٍ، والحِقَّةُ: بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ، تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا الحَمْلُ، وأنْ يَطْرِقَهَا العِجْلُ، والجَذَعَةُ: بِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ، والمُسِنَّةُ: بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: ذَكَرَ مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ طَاوُوسٍ: (أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ أَخَذَ مِنْ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبيعَاً، ومنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَة مُسِنَّةً) [891]، أَرْسَلَ مَالِكٌ هذَا الحَدِيثَ في المُوطَّأ، ورَوَاهُ أَبو دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي شَيْبَةَ، قالَ: حدَّثنا أَبو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: (أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا وَجَّهَهُ إلى اليَمَنِ أَمَرُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ البَقَرِ) (¬2)، وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ. قَوْلُ مَالِكٍ: (يُجْمَعُ على الرَّجُلِ زَكَاةُ غَنَمِهِ، وإنِ افْتَرَقَتْ مَوَاضِعُهَا)، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ من أَجْلِ أَنَّ المُلْكَ وَاحِدٌ، فَلِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاتُها كُلُّها في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: أَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ على أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَفَادَ مَاشِيَةً فَأَضَافَها إلى مَاشِيَةٍ عِنْدَهُ تَجِبُ في الأَوْلاَدِ الزَّكَاةُ، أَنَّهُ يُزَكِّي ما اسْتَفَادَ مِنَ المَاشِيَةِ عندَ حُلُولِ حَوْلِ مَاشِيَتِهِ الأُولَى، وإن لم تَسْتَفِدْ المَاشِيةُ الثَّانِيةُ إلَّا قبلَ حُلُولِ حَوْلِ الأُولَى بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وحُجَّتُهُم في ذَلِكَ: أَنَّ النَّاسَ أَقَامُوا زَمَنَ الفِتْنَةِ خَمْسَ سِنِينَ لا سُعَاةَ لَهُم (¬3)، ثُمَّ اسْتَقَامَ أَمْرُ النَّاسِ، وخَرَجَ السُّعَاةُ فَأَخَذُوا زَكَوَاتِ المَوَاشِي مِنَ النَّاسِ عَنْ تِلْكَ السَّنِينِ، ولمْ يَسْألوهُم عَنْ فَائِدَةٍ ولَا غَيْرِها، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَةً مُتَّبَعَةً. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وينظر: التمهيد 17/ 355. (¬2) سنن أبي داود (1577)، ورواه النسائي 5/ 25، وابن حبان (4886)، والطبراني في المعجم الكبير 20/ 129، والبيهقي في السنن 4/ 98، بإسنادهم إلى الأعمش به. (¬3) يعني بها الفتن التي كانت بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما ترتب عليها من آثار سيئة كموقعة الجمل وصفين والنهروان إلى أن انتهت بإستشهاد سيدنا علي رضي الله عنه، ثم استقام أمر الناس بخلافة معاوية - رضي الله عنه -، وينظر: المدونة 2/ 257.

وأَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ على أَنَّ فَائِدَةَ المَوَاشِي إذا أُضِيفَتْ إلى غَيْرِ نِصَابٍ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِجَمِيعِها الحَوْلَ مِنْ يَوْمِ الإسْتِفَادَةِ، وإنْ كَانَتِ المُسْتَفَادَةُ مَائِينَ. * قالَ مَالِكٌ: (وَإذا كَانَتْ لِرَجُلٍ إبلٌ وبَقَرٌ وغَنَمٌ يَجِبُ في كُلِّ صِنْفٍ مِنْها الزَّكاةُ، ثُمَّ أفَادَ بَعِيرَاً أو بَقَرَة أو شَاةً صَدَّقَها مَعَ مَاشيتَه حِينَ يُصَدِّقُ مَاشِيَتَهُ) [896]. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّجُلِ أَرْبَعَة وعِشْرُونَ مِنَ الإِبلِ فَعَلَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فإن اسْتَفَادَ بَعِيرَاً وَاحِدَاً قَبْلَ أَنْ يُزَكِّيهَا بِيَوْمٍ وَجَبَ عليهِ فِيها بنْتُ مَخَاضٍ، وكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعَة وثَلاَثُونَ بَقَرةً كَان عليهِ فِيها تَبِيع، فاذا أَفَادَ وَاحِدةً قَبلَ الحَوْلِ كَانَتْ عَلَيْهِ بَقَرةٌ مُسِنَّةٌ، ولَوْ كَانَ مَعَهُ عِشْرونَ ومَئةٌ شَاةٍ وَجَبَ عليهِ فِيهَا شَاتَانِ. [قالَ- أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا كُرِهَ للرَّجُل أَنْ يَشْتَرِي صَدَقَةَ مَاشِيتِه مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رُجُوعٌ فِيهْا، وقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "العَائِدُ في صَدَقَتِه كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِه" (¬1). قالَ أَبو حَنِيفَةَ لَا صَدَقَةَ في بَقَرِ الحَرْثِ والسَّوَانِي لأَنَّها كالآلةِ (¬2). * وقالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: الصَّدَقَةُ فِيهَا، لأنَّهَا سَائِمَةٌ، وقدْ ثَبَتَ في حَدِيثِ الصَّدَقةِ: (أَنَّ في كُلِّ سَائِمَةٍ مِنَ الإبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ صَدَقَةٌ) [889]. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: أَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخِلْطَةَ في المَوَاشِي بِقَوْلهِ: "ومَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُما يَتَرَاجَعَانِ بينهما بالسَّوِّيةِ" [889]، وفِي الخِلْطَةِ رِفْقٌ لأَهْلِ المَوَاشِي. قالَ ابنُ القَاسِمِ: الذي يُوجِبُ الخِلْطَةَ بَيْنَ الخَلِيطَيْنِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي، والفَحْلُ، والدَّلُو، والمَرَاحُ، والمَبيتُ وَاحِداً، فَهِذه أَوْجُهُ الخِلْطَةِ، فإن انْخَرَم بَعْضُهَا لَمْ يُخْرِجْهَا ذَلِك مِنَ الخِلْطَةِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2449)، ومسلم (1622)، من حديث ابن عباس وغيره. (¬2) السَّواني: هي الناقة التي يستقى عليها، ينظر: النهاية 2/ 415، وانظر قول أبي حنيفة في الإستذكار 3/ 486.

وقالَ ابنُ حَبيبٍ: أَصْلُ الخِلْطَةِ الرَّاعِي، فإذا اجْتَمَعَتْ في الرَّاعِي فَقَد اجْتَمَعَتْ في أَكْثَرِ وُجُوهُ الخِلْطَةِ، لأنَّهُ هُوَ الذي يَسْقِيهَا، وَهُو الذي يَجْمَعُهَا في الرَّعِي. * قَوْلُ مَالِكٍ: (لَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ على الخَلِيطَيْنِ حتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنْ جَمِيعِ المَوَاشِي) [904]، إنَّمَا قالَ ذَلِكَ لأَنَّ الحُكْمَ في الزَّكَاةِ للنصَابِ لا للخِلْطَةِ. وقالَ غَيْرُ مَالِكٍ: إذا كَانَ في جَمِيع الغَنْمِ ما تَجِبُ فيهِ الصَّدَقةُ، وكَانَتْ للخَلِيطَيْنِ فَأَخَذَ مِنْهُمَا المُصَدِّقُ مَثْنَاة، فإنَّهُمَا يَتَرَادَّانِهَا بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّما امْتَنَعَ سُفْيَانُ بنُ عبدِ اللهِ أَنْ يَأْخُذَ في زَكَاةِ الغَنَمِ مِنَ السِّخَالِ التي كَانَ يَعُدَّهَا على أَرْبَابِ الغَنَمِ مِنْ جِهَتِه، أنَّهُ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتَقرَّبَ إلى اللهِ تعَالَى إلَّا بِخَيْرِ المَالِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، قالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي لا تَعْمَدُوا إلى رَذَالَةِ أَمْوَالِكُم فَتَتصَدَّقُون بِها، فإذا أَعْطَى الرَّجُلُ في صَدَقَتِهِ الجَذَعَةَ والثَّنِيّةَ كَانَ ذَلِكَ عَدْلاً بَيْنَ خِيَارِ المَالِ وَرَدِيئِه، وبهَذا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ المُصَدِّقينَ أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنَ النَّاسِ في صَدَقَاتِهِم [909]. * قَوْلُ مَالِكٍ: (مَا وَلدتِ الغَنَمُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الأمَّهَاتِ في الزَّكَاةِ، مِثْلُ رِبْحِ المَالِ سَوَاءٌ، وذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أفُيدَ إليها بشِرَاء أَوهِبَةٍ) [910]. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: يُرِيدُ أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَتْ لَهُ عِشْرُونَ شَاةً حَالَ عَلَيْهَا الحَوْلُ، ثُمَّ وَضَعَتْ عِشْرِينَ خَرُوفًا، زَكَّاهَا في الوَقْتِ، ولَو أَضَافَ إلى العِشْرِينَ الأُولَى عِشْرِينَ اسْتَقْبَلَ بِجَمِيعِهَا الحَوْلَ. * ومَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: (إذا تَظَاهَرَت على رَبِّ المَالِ صَدَقَاتٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ للمُصَدِّقِ أَنْ يُصَدِّقَ إلّا مَا وَجَدَ عِنْدَهُ) [913] يُرِيدُ: أنَّهُ إذا غَابَ السَّاعِي عَنْ رَبِّ المَالِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَرْبَعِينَ، وقَدْ كَانَتْ في وَقْتِ مَغِيبِه عنهُ

مَائِينَ، فإنَّهُ يَأْخُذُ منهُ شَاةً وَاحِدَةً مِنَ الأرْبَعِينَ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَهُو العَامُ الذي جَاءَ فِيهِ، وَلَو وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ الأَرْبَعِينَ لَمْ يَأْخُذْ منهُ شَيْئَاً، وهَذا خِلاَف بِمَاشِيَتِه مِنَ الصَّدَقَةِ، هذا إذَا وَجَدَهُ السَّاعِي أَخَذَ مثهُ زَكَاةَ كُلِّ عَامٍ غَابَ عنهُ فِيها، ويُضَمِّنْهُ الزَّكَاةَ إنْ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئَاً مِنْ غَنَمِهِ. قالَ: وَلَوْ أتى السَّاعِي إلى الذي تَخَلَّفَ هُوَ عنهُ فَوَجَدَ عِنْدَهُ مَائِينَ، وقد كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ، إلَّا في ذَلِكَ العَامِ الذي جَاءَهُ، فَإنَّهُ يَاْخُذُ منهُ لِتِلْكَ السِّنِينَ على عَدَدِ مَا يَجِدُهُ عندَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ. قالَ أَبو دَاوُدَ: وهَذا هُوَ المَشْهُورُ في زَكَاةِ المَوَاشِي (¬1). وقالَ ابنُ المَاجِشُونَ: ولَا يَأْخُذُ منهُ إلَّا على حِسَابِ مَا كَانَ عِنْدَهُ في كُلِّ عَامٍ مِنَ الأَعْوَامِ التي تَخَلَّفَ عنهُ فِيهَا. * * * ¬

_ (¬1) لم أجد قول أبي داود في سننه، ولعله جاء في رواية ابن الأعرابي وهي الرواية التي اعتمدها المصنّف.

باب كراهية التضييق على الناس في الصدقة، ومن يأخذها منهم

باب كِرَاهِيةِ التَّضْييقِ على النَّاسِ في الصَّدَقَةِ، ومَن يَأخُذُهَا مِنهم * كَرِهَ عُمَرُ بنُ الخطاب للمُصَدِّقِ أَنْ يأْخُذَ مِنَ النَّاسِ في صَدَقَاتِهِم خِيَارَ أَمْوَالِهِم، فقالَ حِينَ رَأَى الشَّاةَ الحَافِلَ التي كانَ أَخَذَهَا المُصَدِّقُ في الصَّدَقَةِ: (مَا أَعْطَى هذِه أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ) [915]. وفِي هذَا مِنَ الفقْه: تَعَاهُدُ الإمَامِ أُمُورَ عُمَّالِهِ، ومَنْعُهُ إيَّإهُم مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ فَيَفْتَتِنُوا، ويَمْنَعُوا زكَوَاتِهِم إذا أُخِذَ مِنْهُم في ذَلِكَ مَا يُحَزرُونَ في أَنْفُسِهِم أَنَّهَا خِيَارُ أَمْوَالِهِم (¬1). وقَوْلُهُ: (نَكِّبُوا عَنِ الطَّعَام)، يعَنِي: نَكّبُوا عَنْ أَخْذِ ذَوَاتِ اللَّبَنِ التِّي يَعِيشُ أَهْلُهَا مِنْ لَبَنِهَا. ثُمَّ لمْ يَأْمُرْ عُمَرُ بِرَدِّ تِلْكَ الشَّاةِ الحَافِلِ التِّي أُخِذَتْ منهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُصَدِّقَ أَخَذَهَا مِنْ رَبّهَا على وَجْهِ الإجْتِهَادِ، فَصَارَ ذَلِكَ حُكُمٌ وَقَعَ باجْتِهَادِ الحَاكِمِ فَلَمَّ تُرَدَّ. ثُمَّ أَمَرَ عُمَرُ المُصَدِّقَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَنْ يَأْخُذَ الجَذَعَةَ والثَّنِيَّةَ، وهذَا هُوَ العَدْلُ في الأَخْذِ بينَ غِذَاءِ الغَنَمِ وخِيَارِهَا، والغِذَاءُ: الصَّغَارُ مِنْهَا (¬2)، وتُعَدُّ على رَبّهَا في الصَّدَقةِ مِثْلَ الكِبَارِ. ¬

_ (¬1) قوله (يحزرون) -بفتح الحاء وسكون الزاي- جمع حَزْرة، وهي خيار مال الرجل، ينظر: النهاية 1/ 377. (¬2) الغِذَاء -بغين معجمة مكسورة وبالمد- وهو الرديء، والمراد: أن لا يأخذ الساعي خيار الغنم ولا رديئه، وإنما ياخذ الوسط، ينظر: النهاية 3/ 348.

قالَ عِيسَى: لا يَأْخُذُ المُصَدِّقُ ذَاتَ عَوَارٍ، ولا يَأْخُذُ تَيْسَاً إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ أَفْضَلَ للمَسَاكِينِ، والتَّيْسُ: هُوَ الذي يُتَّخَذُ للفَحْلَةِ، وَهُو دَاخِل في ذَاتِ العَوَرِ، لأَنَّ لَحْمَهُ ليسَ بِطَيِّبٍ، فإذا كَانَ أَخَذَ مَا فَضَلَ مِنْ جَذَعَةٍ أَخَذَهُ مِنْ رَبِّهِ. قالَ: ولَا يَنْبَغِي للمُصَدِّقِ إذا دَفَعَ إليه رَبُّ الغَنَمِ كَفَافاً مِنْ حَقِّه، إلَّا أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ ولَا يَتَعَسَّفُ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: إذا كَانَتِ الغَنَمُ تُيُوسَاً كُلُّها لم يَأْخُذ المُصَدِّقُ مِنْها شَيْئاً وكَانَ على صَاحِبهَا أنْ يَبْتَاعَ لَهُ السِّنَّ الذي وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الجَذَعَةِ أَو الثَّنِيَّةِ. وقالَ عليُّ بنُ زِيَادٍ: إذا كَانَتِ الغَنَمُ كُلُّهَا جَرْبَاءَ أَو عِجَافَاً فإنَّ المُصَدِّقَ يَأْخُذُ مِنْهَا، ولَيْسَ على رَبِّهَا أَنْ يَأْتِيهِ بِغَيْرِهَا. * [قالَ أَبو المُطَرفِ]: أَرْسَلَ مَالِكٌ في المُوطَّأ: "لا تَحِل الصَّدَقَةَ لِغَنِيٍّ" [919]، وأَسْنَدَهُ عبدُ الرَّزَاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قالَ عِيسَى: تَفْسِيرُ هذَا الحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ الغَازِي في غَزَاتِهِ لَيْسَ مَعَهُ مَالُهُ، فهذَا يَأْخُذُ مِنَ الزَّكَاةِ، ولا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَالُهُ مِنَ الغَزَاةِ. قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: قالَ ابنُ القَاسِمِ: يُعْطَى مِنهَا الغَازِي وإنْ كَانَ مَعَهُ في غَزَاتِهِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ في بَلَدِه. قالَ عِيسَى: وأَمَّا الغَارِمُ المَذْكُورِ في هذَا الحَدِيثِ فَهُو الذي قد أَحْجَبَ الغُرْمُ بِمَالِهِ وأَفْقَرَهُ مِنْ دَيْنٍ اسْتَدَانَ بهِ في حَجٍّ أَو نِكَاح أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الصَّوَابِ، مَا لَمْ يَتَدَاينُ في فَسَادٍ، فإذَا فَعَلَ ذَلِكَ لمْ يُعْطَ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئاً. قالَ: وأَمَّا الغَارِمُ الوَفيُّ بِدَيْنهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيها. قالَ عِيسى: ومَا أُعْطِيَ مِنْهَا المَسَاكِينُ فَمُبَاحٌ للأغْنِيَاءِ اشْتِرَاءهَا مِنْهُم إن لم ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 109.

يَكُنْ المُشْتَرِي هُوَ الذي تَصَدَّقَ بِها على المِسْكِينِ البَائِع لها، لأنَّهُ يَصِيرُ بِشِرَائِها منهُ رَاجِعَاً في صَدَقَتِهِ. قالَ عِيسَى: (وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا) هُوَ الذي يَجْمَعُهَا للمَسَاكِين مِنْ عندَ المُتَصَدِّقِينَ بِها، فهذَا يُعْطَى مِنْهَا على قَدْرِ مَا يَسْعَى وَيتَكَلَّفُ، ولا يَنْظرُ إلى قَدْرِ مَا جَمَعَ مِنَ الصَّدَقَةِ والعُشُورِ، ولَيْسَ الثَّمَنُ بِفَرِيضَةٍ له، ولَكَنْ يُعْطَى على قَدْرِ اجْتِهَادِه وسَعْيهِ. قالَ: ويَأخُذُ كُلُّ مَنْ سُمِّيَ في هذَا الحَدِيثِ مِنْ زَكَاةِ النَّاضِّ، والعُشُورِ، والمَعَادِنِ. قالَ عليٌّ وابنُ عبَّاسٍ: في قَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]، إلى آخِرِ الآيةِ: (هذَا عِلْمٌ أَعْلَمَنَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَأَيُّ الأَصْنَافِ جُعِلَتْ في الصَّدَقةِ مِنَ الأَصْنَافِ المَذْكُورِينَ في هذِه الآيةِ أَجْزَأَ) (¬1). وإنَّما تُقَسَّمُ على وَجْهِ الإجْتِهَادِ. وقالَ ابنُ أَبي زيدٍ: لَو كَانَتِ الصَّدَقَةُ مُجَزَّأَةً على الثَّمَانِيَةِ الأَصْنَافِ المَذْكُورِينَ في القُرْآنِ كمَا قالَ مَنْ يُخَالِفُنَا، لَكَانَ للعَامِلِينَ عَلَيْهَا الثَّمَنُ، ولَمْ يَرْجِع سَهْمُ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم المَذْكُورِينَ في الآيةِ على غَيْرِهِم مِنَ الأَصْنَافِ، ولَا خِلاَفٌ بينَ أَهْلِ العِلْمِ في هذا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: قالَ مَالِكٌ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي المُؤَلَّفَةَ قُلُوبَهُم مِنَ الصَّدَقةِ يَسْتَأْلِفُهم بذلكَ على الإسْلاَمِ. قالَ مَعْمَرٌ: وكَانَ مِنْهُم أَبو سُفْيَانُ بنُ حَرْبٍ، والحَارِثُ بنُ هِشَامٍ، وعُيَيْنَةُ بنُ بَدْر، وصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّهَ، وجَمَاعةٌ سِوَاهَا وَلاَءً، وسَهْمُهُم اليومَ مَرْدُودٌ على سَائِرِ الأَصْنَافِ المَذْكُورِينَ في الصَّدَقةِ. ¬

_ (¬1) ذكره بنحوه ابن عبد البر في الإستذكار 3/ 504، ونسبه إلى حذيفة وابن عباس، وقال: ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَمَّا قَوْلُهُ {وَفِي الرِّقَابِ} فَهُو أَنْ يَشْتَرِي الإمَامُ مِنَ الزَّكَاةِ رِقَابَا فَيُعْتِقَهَا عَنْ جَمَاعةِ المُسْلِمينَ، وَوَلاَؤُهُم للمُسْلِمينَ، فإنْ جَعَلَ وَلاَءَهَا لِنَفْسِهِ ضَمِنَ الزَّكَاةَ. قالَ مَالِكٌ: ولا أَرَى أَنْ يُعْطَى مِنْهَا المُكَاتَبُ مَا يَتِمَّ عِتْقُهُ، لأَنَّ وَلاَؤَهُ يَبْقَى للذِي عَقَدَ كِتَابَتَهُ. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وقدْ رَخَّصَ في ذَلِكَ أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ إذا أُعْطِيَ مِنْهَا مَا يَتِمُّ به كِتَابَتَهُ ويَخْرُجُ بذلكَ حُرَّاً، قالَ: وحدَّثِني مُطَرِّفٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يحيى بنِ سَعِيل,، قالَ: قَدِمتُ إفْرِيقِيَّهَ، فَخَرَجْتُ بِها سَاعِيًّا، وجَمَعْتُ صَدَقَاتِهِم، ثُمَّ طَلَبْتُ مِسْكِينًا أُعْطِيهِ فَمَا وَجَدْتُهُ، فَابْتَعْتُ أَمَةً سَوْدَاءَ مِنَ الصَّدَقةِ، فأعْتَقْتُهَا وأَعْطَيْتُهَا أَرْبَعِينَ كَبْشَاً مِنَ الصَّدَقةِ. قالَ عِيسَى: لا تُخْرَجُ صَدَقَاتُ قَوْمٍ إلى غَيْرِهِم، ولكَنْ يُفَرَّقُ جَمِيعُهَا في البَلَدِ الذيمما جُمِعَتْ فيهِ، إلَّا أَنْ تَنْزِلَ بِقَوْمٍ شِدَّةٌ، فَيُنْقَلُ السَّهْمُ مِنَ الصَّدَقَاتِ التِّي جُمِعَتْ في غَيْرِ بِلاَدِهِم بعدَ أَنْ تُسَدَّ فيه حَاجَةُ الفُقَرَاءِ الذينَ جُمِعَتْ الزَّكَاةُ في بِلاَدِهِم، وقدْ نَقَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ زَكَاةَ قَوْمٍ إلى غَيْرِهِم عندَ الشِّدَّةِ والمَجَاعَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ العَدُوِّ، ومَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ العَنْوَةِ، وأَرْضِ الصُلْحِ، وخُمُسِ الزَّكَاةِ، ومَا أُخِذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ في غَيْرِ بِلاَدِهِم مِنَ العُشْرِ، فهذَا كُلُّه في تَقسِمَةِ الإمَامِ على أَهْلِ البَلَدِ الذي افْتَتَحُوهُ، ويبَدأُ بأَهْلِ الحَاجَةِ مِنْهُم. قالَ: ومِنَ الفَيءِ يُعْطَى غَازِي المُسْلِمِينَ، وقَاضِيهِم، وأَصْحَابُ أَعْمَالِهِم التي لا غِنَى للمُسْلِمينَ عَمَّنْ يَقُومُ لَهُم فِيها، وبِها مَصْلَحَتُهُم. * [قالَ أَبو المُطَرّفِ]: قَوْلُ أَبي بَكْرٍ: (لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ) [923] يعنِي: لَوْ مَنَعَنِي الذين تَجِبُ عَلَيْهِم زَكَوَاتِ مَوَاشِيهِم زَكَاتَها لَجَاهَدْتُهُم على مَنْعِهَا كَمَا أُجَاهِدُ العَدُوَّ، وقَاتَلْتُهُم على ذَلِكَ، والعِقَالُ هُوَ سِعَايَةُ عَامٍ مِنَ الغَنَمِ والبَقَرِ

والإبِلِ، فَلَو مَنَعُونِي زَكَاةَ عاَمٍ وَاحِدٍ لَجَاهَدْتُهُم على ذَلِكَ (¬1). وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: إنَّمَا قالَ أَبو بَكْرٍ هذِه المَقَالَةَ في أَهْلِ الرِّدّةِ الذينَ ارْتَدُّوا في خِلاَفَتِه بعدَ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وزَعَمُوا أَنَّهُم يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ولَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، فلمْ يُجِبْهُم أَبو بَكْرٍ إلى ذَلِكَ، وقالَ: (واللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بينَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، واللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُم عليهِ) (¬2)، فَقَاتَلَهُم أبو بَكْرٍ، وسَبَى ذَرَارِيهِم، وأَجْرَاهُم مَجْرَى النَّاكِثينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، الذينَ إذا نَكَثُوا مَا عَهَدَهُم عليهِ المُسْلِمُونَ وَجَبَ قِتَالُهُم، وسَبْي ذرَارِيهِم، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَدَّ ذُرِّيتَهُم ونِسَاءَهُم إلى عَشَائِرِهم، وأَجْرَاهُم مَجْرَى المُرْتَدِّينَ مِنَ المُسْلِمينَ. وقالَ مَالِكٌ: ولَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنَ المُرْتَدِينَ بارْتدَادِه هُو ولَا أَحَدٌ مِنْ ذُرَّيَتِه فَيْئَاً، لَحِقَ بِدَارِ الحَرْبِ أَو لَمْ يَلْحَقْ بها. قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: والصَّحَابةُ إذا اخْتَلَفُوا في حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ وَسِعَ الإخْتِلاَفُ مِنْ أَقَاوِيلِهم، والأَخْذُ بِمَّا يَقْوَى في الأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ، وقدْ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ أَوْلاَدِ المُرْتَدّينَ، فلَا يُزِيلُها رِدَّةُ آبَائِهِم، والدَّلِيلُ على ذَلِكَ قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ) (¬3)، يعنِي: يُولَدَ على فِطْرَةِ الإسْلاَمِ، وأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ أَنَّ لِوَلَدِ المُؤْمِنِ حُكْمُ أَبيهِ في الدِّينِ وَالمَوَارَثَةِ، وأنَّ لِوَلدِ الكَافِرِ حُكْمُ أَبيهِ في الدِّينِ والمَوَارَثَةِ والإسْتِرْقَاقِ، ولَم يَخْتَلِف العُلَمَاءُ فِيمنْ أَسْلَمَ مِنَ الكُفَّارِ أنَ لِوَلَدِه الصَّغَارِ حُكْمُ أَبِيهِم في الدّينِ والأَحْكَامِ، فَلِهَذا كُلُّه لا يُسْتَرَقُّ وَلَدُ المُرْتَدِّ، واللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ. ¬

_ (¬1) العقال: هو الحبل الذي كان يعقل به الفريضة التي كانت تؤخذ في الصدقة إذا قبضها المصدق، وذلك أنه كان على صاحب الإبل أن يؤدي مع كل فريضة عقالا تعقل به، ينظر: النهاية 3/ 380، وعمدة القاري 8/ 246. (¬2) رواه البخاري (1335)، ومسلم (20)، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (1319)، ومسلم (2658)، من حديث أبي هريرة.

* [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ مَالِكٍ: (الأَمْرُ عِنْدَنا أَنَّ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَطعِ المُسْلِمُونَ أَخْذَهَا، [كَانَ] (¬1) حَقَّاً عَلَيْهِم جِهَادُهُ حتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْهُ) [925]، إنَّما هذَا إذا مَنَعُوهَا وبَانُوا بِدَارِهِم وفَارَقُوا جَمَاعَةَ المُسْلِمينَ، فَحِينَئِذٍ يُجَاهَدُوا على مَنْعِهِا ويُقَاتَلُوا على ذَلِكَ، وأَمَّا إذا لم يَبِينُوا بِدَارِهِم فإنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُم قَهْرَاً مَا أَقَرُّوا بها ولمْ يَجْحَدُوهَا. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: في اسْتِقَاءِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ للذِي كَانَ شَرِبهُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقةِ [924]، مِنَ الفِقْه: إخْرَاجُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِه المَالَ الحَرَامَ، وأنَّ الحَرَامَ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، ولاَ يُتَغَدَّى به، لأَنَّ كُلَّ لَحْمٍ انْبَتَهُ الحَرَامُ النَّارُ أَوْلَى به، وإنَّما اسْتَقَاهُ عُمَرُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الذي كَانَ سَقَاهُ إيَّاهُ كَان مِنَ الأغْنِيَاءِ الذينِ لا تَحِلُّ لَهُم الصَّدَقَةُ، ولَو كَانَ مِنَ الفُقَراءِ لم يَسْتَقِه عُمَرُ، لأنَّهُ كَانَ يَكُونُ بِمَنْزِلةِ هَدِيَّةِ الفَقِيرِ للغَنِيّ مِمَّا يُتَصدَّقُ به على الفَقِيرِ، وقَبُولُها مِنْهُم مُبَاحٌ غيرُ مَكْرُوهٍ, وقدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم - في لَحْمِ بَرِيرَةَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولنَا هَدِيَّةٌ) (¬2) وأكَلَ منهُ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ بأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الرَّجُلِ الذي كَانَ مَنَعَها، مِنْ أَجْلِ نَدَامَتِهِ على مِنْعِه إيَّاها وتَوْبتِه مِنْ ذَلِكَ ورُجُوعهِ عَنْ مَذْهَبه في مَنْعِه إيَّاهَا، وقدْ كَانَ أَمْرُ عُمَرَ عَامِلَهُ على الصَّدَقَةِ أنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلَ زَكَاةً مَعَ المُسْلِينَ، فَلَمَّا تَابَ سَارَعَ إلى أَدَائِهَا أَمَرَ عُمَرُ عَامِلَهُ أَنْ يَأخُذَهَا منهُ مَعَ المُسْلِمينَ [926]. وقَوْلُ مَالِكٍ في هذِه المَسْأَلةِ: أَنَّ مَنْ مَنَعَ زَكَاةَ مَالهِ بُخْلاً بِها، فإنها تُؤْخَذُ منهُ قَهْرَاً، إلَّا أَنْ يَمْنَعَها جَحْداً لهَا، فإنه يُسْتَتَابُ فإِنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: (أن)، وما أثبته هو المتوافق مع الموطأ. (¬2) رواه البخاري (1422)، ومسلم (1075)، من حديث عائشة.

باب ما يخرص من الثمار، وما يزكى منها

بابُ مَا يخْرَصُ مِنَ الثِّمَارِ، ومَا يُزْكَّى مِنْهَا * أَرْسَلَ مَالِكٌ في المُوطَّأ حَدِيثَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ والبَعْلُ العُشْرُ" [928] [ورَوَاهُ] (¬1) ابنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونسُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فِيما سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ" (¬2) وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: البَعْلُ مِنَ الثِّمَارِ هُوَ الذي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ، ولَيْسَ تَسْقِيه السَّمَاءُ ولا العُيُونُ ولا الأَنْهَارُ، كَنَخِيلِ مِصْرَ التي تَشْرَبُ بِعُرُوقِها مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ (¬3). [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّما جَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفَ العُشْرِ لَكَثْرَةِ النَّفَقَةِ فيهِ [لِمَؤُنَةِ] (¬4) إخْرَاجِ المَاءِ، وأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بخَرْصِ النَّخْلِ والأَعْنَابِ لِكَي تُحْصَى الزَّكَاةُ إذ في ذَلِكَ نَظَرٌ للمَسَاكِينِ، ورِفْقًا بأَصْحَابِ الثِّمَارِ، وذَلِكَ أنَّ النَّاسَ يَنتفِعُونَ بِثِمَارِهِم، فَيَأْكُلُونَ مِنْ نَخِيلِهِم وأَعْنَابِهِم رَطَبَا ويَابِسَاً، بِخِلاَفِ سَائِرِ الحُبُوبِ التِّي لا تُؤْكَلُ إلَّا بعدَ حَصَادِهَا وتَحْصِيلِها، فإذا خُرِصَتْ عَلَيْهِم نَخِيلُهُم وأَعْنَابُهُم، وعلى قَدْرِ مَا يَصِيرُ على كُلِّ وَاحِدٍ في زَكَاةِ مَالهِ، كَانَتْ تِلْكَ الحِصَّةُ لاَزِمَةً لَهُ، إلَّا أَنْ يَذْهَبَ ثَمَرُ نَخْلِهِ كُلِّه فتَسْقُطُ عنهُ الزَّكَاةُ، إلَّا أَنْ يَبْقَى منهُ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ورواها)، وما وضعته هو المتوافق مع السياق. (¬2) ورواه البخاري (1412)، وأبو د اود (1596)، والترمذي (640)، وابن ماجه (1817)، بإسنادهم إلى عبد الله بن وهب به. (¬3) غريب الحديث 1/ 198. (¬4) جاء في الأصل: (لمؤنته)، وهو خطأ مخالف للسياق.

بعدَ [الجَامِكيّةِ] (¬1) مَا تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، فإنَّهُ لا يُزَكِّى عليهِ ذَلِكَ البَاقِي على سَنَّةِ الزَّكَاةِ. قَوْلُ مَالِكٍ: إذا كَانَ ثَمَرُ الحَائِطِ كُلِّه جَيِّدا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَدِيئًا كُلُّهُ أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وإنْ كَانَ أَصْنَافًا أُخِذَ مِنْ وَسَطِه، والثَّمَرُ مُخَالِفٌ للمَاشِيَةِ التي لا يُؤْخَذُ مِنها إلَّا الأَسْنَانُ المَعْلُومَةُ الجَذَعَةُ والثَّنِيَّةُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا جَعَلَ مَالَكٌ القِطْنيّهَ (¬2) صِنْفَا وَاحِدًا في الزَّكَاةِ مِنْ أَجْلِ تَقَارُبِ مَنَافِعِها، وأَنَّها كُلُّها إدَامٌ يُؤْتَدَمُ بها، وجَعَلَها في البِيُوعِ أَصْنَافاً مُخْتَلِفَةً، لاخْتِلاَفِ أَعْرَاضِ النَّاسِ فيها. ولمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الزَّكَاةَ في التِّينِ، لأَنَّهُم كَانُوا لا يَعْرِفُونَهُ بالمَدِينَةِ، ولأَنَّهُ يَأْتِي بَطْنًا بعدَ بَطْنٍ (¬3). قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: ولمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ الزَّكَاةَ في الفَاكِهَةِ لأنَّها لَيْسَتْ مِنَ الأَقْوَاتِ التي نَصَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عليها. ومَنَعَ مَالِكٌ مِنْ بَيع الفَاكِهَةِ مُتَفَاضِلاً مِنْ صِنْفِ وَاحِدٍ، لأنَّها تَجْرِي مَجْرَى المَأْكُولاَتِ المُدَّخَرَاتِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ رَطْبِ الفَاكِهَةِ كالبَطِّيخِ والقِثَّاءِ والخُوخِ والرُّمّانِ وشِبهُ ذَلِكَ، فإِنَّها تُبَاعُ مُتَفَاضِلاً يَدَاً بِيدٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، لأنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الفَاكِهَةِ المُدَّخَرةِ، ولا هِي أَصْلٌ مُعَاشٍ، وبهذا قالَ أَهْلُ المَدِينةِ. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (الجاميكة) وهو خطأ، والجامكيّة: هو الراتب، وهو اسم فارسي، مركب من (جامه) أي قيمة، ومن (كي) وهي أداة النسبة، ينظر: حاشية سير أعلام النبلاء 18/ 461. (¬2) القطنية -بكسر القاف أو ضمها وسكون الطاء- جمعها قطاني، وهي البقول التي تصلح للاقتيات والادخار، مثل العدس والحمص واللوبيا والباقلاء ونحوها، وسميت بالقطنية لأنها تقطن بالمحل ولا تفسد بالتأخير، ينظر: النهاية 4/ 85. (¬3) أي يطيب شيئا بعد شيء، ينظر: التمهيد 2/ 198.

باب صدقة الرقيق، وجزية أهل الكتاب

بابُ صَدَقَةِ الرَّقِيقِ، وجِزْيةِ أهْلِ الكِتَابِ * وَجْهُ [إباءِ] (¬1) عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ خَيْلِ أَهْلِ الشامِ ورَقِيقِهم الزَّكَاةَ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ على المُسْلِمِ في عَبْدِه، ولا في فَرَسِه صَدَقَةٌ" [962]، فَلَمَّا أَكْثَرَ أَهْلُ الشَامِ على أَبي عُبَيْدَةَ في ذَلِكَ أَعْلَمَ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أنْ يَأْخُذَهَا مِنْ أغْنِيَائِهِم، ويَرُدَّهَا على فُقَرَائِهِم، وذَلِكَ لِتَطَوِّعِهِم بِها [963]. وقالَ [أبو] (¬2) عَمرَ: قَوْلُ عُمَرَ لأَبي عُبَيْدَةَ: (وارْزُقْ رَقِيقَهُم) يعني: تَعَاهَدْ أَمْرَ عَبِيدِهم لَا يُضَيِّعُوهُم، فَمنْ ضَيَّع عَبْدَهُ جَعَلَتُ لَهُ في مَالِ سَيِّدِه رِزْقًا يَكْفِيهِ لِمَعَاشِه، وقدْ كَانَ عُمَرُ يَتَعَاهَدُ بالمَدِينَةِ أُمُورَ العَبِيدِ، فماذا وَجَدَ عَبْدَاً قَدْ كُلِّفَ مِنَ الخِدْمَةِ فَوْقَ طَاقَتِه خَفَّفَ عنهُ مِنْهَا، وفَرَضَ لَهُ في مَالِ سَيِّده قُوتًا يَقُومُ بهِ. * قَوْلُ ابنِ شِهَابٍ: (بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ البَحْرَينِ، وفَعَلَ عُمَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وأَخَذَها عُثْمَانُ مِنْ كَفَرَةِ بَرْبَرٍ) [967 و 968]، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهم مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الكِتَابِ، وهذَا كُلُّه يَدُلُّ على أَنَّ الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الكُفْرِ إذا رَضُوا بِها، وحَقَنُوا بِها دِمَاءَهُم. وهذا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: لَا تُقْبَلُ الجِزْيَةُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب خَاصَّة، وأَمَّا مَنْ سِوَاهُم مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ فإئهُ لا يُقْبلُ مِنْهُم إلَّا الإسْلاَمُ، فإِنْ أَبَوا أن يُسْلِمُوا قُوتلُوا، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (إبائه)، وهو خطأ مخالف لسياق الكلام. (¬2) جاء في الأصل: س (ابن)، وهو خطأ ظاهر، وأبو عمر تقدم مرارا، وهو الإِمام المعروف بابن المكوي.

لأَنَّ اللهَ إنَّمَا أَمَرَ بأَخْذِهَا في كِتَابهِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (¬1). وحُجَّةُ أَهْلِ المَدِينَةِ أَخْذُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ البَحْرَيْنِ ثُمَّ الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وهَؤُلاَءِ هُمُ العُلَمَاءُ بِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. * ومَعْنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَجُوسِ: "سُنُّوا بِهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " [968]، يعنِي: في أَخَذِ الجِزْيةِ خَاصَّةً، لا في مُنَاكَحَةِ نِسَائِهِم، ولا في أَكْلِ ذِبَائِهِم، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] وهُنَّ [المَجُوسِيَّاتِ] (¬2) والوَثَنِيَّاتِ مِمَّن لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وقالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يَعْنِي: لا تَأْكُلُوا مَا ذَبَحَهُ غيْرُ أَهْلِ الكِتَابِ مِنَ المَجُوسِ وعَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وأَبَاحَ اللهُ تَعَالَى نِكَاحَ حَرَائِرِ أَهْلِ الكِتَابِ وأَكْلِ ذَبَائِحِهم، فقالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، والمَجُوسُ بِخِلاَفِ هذا كُلِّه، إلَّا في أَخْذِ الجِزْيةِ كما تُؤخَذُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، لِقَولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بِهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ". قالَ عبدُ المَلِكِ بنُ حَبِيبٍ: أَوَّلُ مَا فَرَضَ اللهُ الجِزْيةَ على أَهْلِ الذِّمَّةِ وبَيَّنَ كَيْفَ تُؤْخَذُ مِنْهُم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وذَلِكَ أَنَّهُ لمَّا وَجَّه عَمْرو بنُ العَاصِي إلى مَصْرَ فَافْتَتَحَها كَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُهُ في أَنْ يُقْسِمَ الأَرْضَ على الذينِ افْتَتَحُوهَا كمَا يُقْسِمَ عليهِم سَائِرَ الغَنِيمَةِ، فَكَتَبَ إليه عُمَرُ أن يُقْسِمَ مَا سَوَى الأَرْضِ ويُبْقِيهَا بِعُمَّالِهَا ولا يَقْسِمْهَا، وتَأوَّلَ قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، فأَبْقَى الأَرْضَ لِمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِم مِنَ المُسْلِمينَ بعدَ الذينَ افْتَتَحُوهَا، ثُمَّ جَعَلَ على كُلِّ عِلْجٍ مِنْهُم أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ في العَامِ، وجَعَلَ على الأَرْضِ خَرَاجاً على حِدَة، وتَرَكَهُم عُمَّالاً لها، ولَمْ يَعْرِضْ على نِسَائِهِم، ¬

_ (¬1) هذا قول جماعة من أهل الحجاز وأهل العراق، وإليه ذهب الشافعي، ينظر: الكافي لإبن عبد البر 1/ 208. (¬2) جاء في الأصل: (المجسيات)، وهو خطأ.

ولا على صِبْيَانِهِم، ولا على عَبِيدِهم شَيْئا، وجَعَلَ على أَهْلِ الوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا في العَامِ على كُلِّ بَالِغٍ فَمَا فَوْقَهُ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّما لَمْ يَأْخُذْ مِنَ النِّسَاءِ ولا مِنَ الصِّبْيَانِ لأنَّهُم لَيْسُوا مِمَّن يُقَاتِلُ، وإنَّمَا أَمَرَ اللهُ أَخْذَ الجِزْيَةِ مِنَ المُقَاتِلَةِ، وأَمَّا العَبيدُ فَانَّهُم سِلْعَة، ولا شَيءَ عَلَيْهِم في سِلْعَتِهِم. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وعَلَيْهِم مَعٍ هذَا أَرْزَاقُ المُسْلِمِينَ الذين يَحُوطُونَهُم، ويَدْفَعُونَ الضَّررَ عَنْهُم، وُيضِيفُونَ مَنْ نزلَ بِهم مِنَ المُسْلِمينَ ثَلاَثةَ أيَّامٍ. ومَن اسْتَغْنَى مِنْ أَهْلِ الجِزْيةِ لمْ يَزِدْ عليهِ على فَرِيضَةِ عُمَرَ، ومَنْ أَسْلَمَ مِنْهُم وُضِعَتْ عنهُ الجِزْيةُ، وإنْ لمْ يَبْقَ إلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ مِنَ العَامِ، ويَحْرِزُ نَفْسَهُ ومَالَهُ، وأَمَّا أَرْضُهُ فَهِي خَرَاجٌ للمُسْلِمينَ، ومَنْ مَاتَ مِنْهُم قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ وأَهْلِ دِينِه. قالَ عِيسى: ومَنْ كَبِرَ مِنْهُم أو افْتَقَرَ، رَزَقَهُ الإمَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمينَ، وقَدْ مَرَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بِشَيْخٍ كَبِير مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَسَألَ عَنهُ فأُخْبِرَ بِضَعْفِه وفَقْرِه، فَرَقَّ لَهُ عُمَرُ، وفَرَضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ المَالِ نَفَقَتَهُ. قالَ مَالِكٌ: تُطْرَحُ الضِّيَافَةُ عَنِ الذِّمَّةِ ضِيَافَةُ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ التي كَانَ فَرَضَها عَلَيْهِم عُمَرُ، مِنْ أَجْلِ أَتنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُم الآنَ فَوْقَ فَرْضِ عُمَرَ. * قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ النُّوقَ مِنْ أَهْلِ الجِزْيةِ، عِوَضَاً في جِزْيَتِهِم، فَيَحْمِلُ عليهَا في سَبِيلِ اللهِ. وإنَّما أَمَرَ بِنَحْرِ النَّاقَةِ العَمْيَاءِ التي سُئِلَ عنها، وأَطْعَمَها الأغنياءَ [970]، لأنَّها كَانَتْ مِنْ نَعَمِ الجِزْيةِ التي يَحِلُّ أَكْلُهَا للأَغْنِياءِ، ولم تَكُنْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقةِ التي لا يَحِلُّ أَكْلُهَا للأَغْنِياءِ. وكَانَ عُمَرُ يَعْدِلُ في القِسْمَةِ بينَ النَّاسِ في جَمِيعِ مَا يَقْسِمُه بَيْنَهُم، ولا يُفَضِّلُ أَحَداً مِنْ وَلَدِه في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ على غَيْرِهم مِنَ النَّاسِ، ورُبَّما أَنْقَصَ وَلَدَهُ فَأْعَطُاه دُونَ ما يُعْطِي سَائِرَ النَّاسِ.

ويَجُوزُ للإمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الجِزْيةِ الثِّيَابَ عِوَضًا في جِزْيَتِهم، كَمَا يَأْخُذُ النُّوقَ، فَيَكْسُوا تِلْكَ الثِّيَابَ لِرَجَالهِ مِنَ المُسْلِمينَ الذينَ يُتقَوَّى بِهِم على جِهَادِ العَدُوِّ. وإنَّمَا أَخَذَ عُمَرُ مِنْ نَبَطِ الشَّامِ العُشْرَ، وكَانُوا نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَةِ [976]، لأَنَّهُم خَرَجُوا بِتَجَارَاتِهِم إلى بَلَدِ الحِجَازِ، وَهُوَ غَيْرُ البَلَدِ الذي صُولحُوا عليهِ، فَلِذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُم العُشْرَ، وأَخَذَ مِنَ الطَّعَامِ والزَّيْتِ نِصْفَ العُشْرِ، أَرَادَ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ حَمْلِه إلى المَدِينَةِ، [فلهذَ] (¬1) خَفَّفَ عَنْهُم. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّما نَهَى (¬2) رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الرُّجُوعِ في الصَّدَقةِ وشِرَائِهَا بعدَ أَنْ يُخْرْجَها الرَّجُلُ مِنْ يَدِه [980]، لأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، ومَثَّلَ ذَلِكَ بالرُّجُوعِ في القَيءِ الذي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فإنْ رَجَعْتْ إلى المُتَصَدِّقِ بِمِيرَاثٍ جَازَ له حِينِئذٍ أَخْذُهَا. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (إذا) ولم أجد لها معنى، ولذا وضعت ما يتناسب مع السياق. (¬2) جاء هنا في الأصل: (نهى عنه رسول الله) والصواب حذف (عنه) لعدم مناسبتها.

باب زكاة الفطر

بابُ زَكَاةِ الفِطْرِ * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: زَكَاةُ الفِطْرِ فَرِيضَة، فَرَضَها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قالَ ابنُ عُمَرَ [989]. وقالَ غَيْرُهُ: هِى سُنَّةٌ دَاخِلَةٌ في قَوْلهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) [البقرة: 43]. وقالَ ابنُ سَلاَمٍ في قَوْلهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]. يعنِي به: زَكَاةَ الفِطْرِ (¬2). * قَوْلُ أَبي سَعِيدٍ: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) [990]، إلى آخرِ الحَدِيثِ، قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: الطَّعَامُ المَذْكُورُ في هذَا الحَدِيثِ هُوَ البُرُّ، ولَمَّا ذَكَرَ في هذا الحَدِيثِ أَشْيَاءَ تتَفَاضَلُ قِيمَتُها، ومَا سَاوَى بَيْنَهَا في الكَيْلِ لَم يَبْقَ أَنْ يَنْقُصَ مُخْرِجَ البُرِّ مِنْ صَاعٍ على كُلِّ نَفْسٍ، لإرْتفَاعِ قِيمَةِ البُرِّ على قِيمَةِ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ أَو أَقِط، وبهذَا قالَ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قالَ غَيْرُ مَالِكٍ: يُخْرَجُ في زَكَاةِ الفِطْرِ عَنِ الإنْسَانِ نِصْفُ صَاع مِنْ بُرٍّ، أَو صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ، أو تَمْرٍ، واحْتَجَّ قَائِلُ هذا بمَا ذُكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قالَ بالشَّامِ: (مَا أَرَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرِّ إلَّا يَعْدِلَ صَاعَاً مِنْ شَعِيرٍ) (¬3). ¬

_ (¬1) وردت هذه الآية في مواضع كثيرة، ومنها ما جاء في سورة البقرة. (¬2) لم أجد قول يحيى بن سلام في مختصر تفسيره لإبن أبي زمنين 2/ 509. ونقل هذا التفسير أيضا عن عطاء وأبي العالية وقتادة وغيرهم، ينظر: تفسير القرطبي 20/ 21. (¬3) رواه مسلم (985)، وأبو داود (1616)، والترمذي (673)، وابن ماجه (1829).

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يَكُونُونُ بالمَدِينَةِ يُخرِجُونَ صَاعَاً مِنْ بُرٍّ مَعَ شِدَّةِ الحَالِ، وقِلَّةِ الطَّعَامٍ، ويَأمُرُهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلكَ، فَلَمَّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِم، وَكَثُرَ عِنْدَهُم الطَّعَامُ، يُؤَدُّون إلى نِصْفِ صَاعٍ، هذَا مُحَالٌ، وهذَا شَيءٌ لا يَصِحُّ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: روَى اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، عَن كَثِيرِ بنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: "زَكَاةُ الفِطْرِ على كُلِّ حُرٍّ وعَبْدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ" (¬1). ورَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ [989]. ومِنْ هذا الحَدِيثِ قالَ مَالِكٌ: لا يُخْرِجُ الرَّجُلُ زَكَاةَ الفِطْرِ عَنْ عَبْدِه النَّصْرَانِيِّ، ويُخْرِجُهَا عَنْ عَبْدِه المُسْلِمِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الفِطْرِ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَو بيَوْمِينَ إلى الذي يَلِي دَفْعَها إلى المَسَاكِينِ، وإنْ قَدَّمَها قَبْلَ الفِطْرِ بِيَومٍ أَو يَوْمَينِ أَجْزأَهُ ذَلِكَ. وقَالَ أَشْهَبُ: لا يُجْزِيهِ تَعْرِيفُها قبلَ يومِ الفِطْرِ، وَهُوَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قبلَ الزَّوَالِ، فَعَلَيْهِ الإعَادَةُ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: المُسْتَحَبُّ عندَ مَالِكٍ أنْ تُفَرَّقَ يومَ الفِطْرِ قبلَ الغُدّو إلى المُصَلِّى، ويُؤَدِّي الرَّجُلُ الحِنْطَةَ إذا كَانَ يَأْكُلَ مِنْهَا، وكَذَلِكَ التَّمْرُ، والشَّعِيرُ، والذُّرَةُ، والدُّخْنُ إذا كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ، ولا يُؤَدِّي في زَكَاةِ الفِطْرِ تِينَاً، ولا جَوْزَاً، ولا لَوْزَاً، ولَا دَقِيقًا. قُلتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: [ما] (¬2) وَجْهُ كَرَاهِيةِ مَالِكٍ لِهذا؟ فقالَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذَا صَارَ مُشْتَرياً للزَّكَاةِ التِّي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بهذَا الذي يُخْرَجُ عَنْها، وقد نُهِيَ أَنْ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في السنن (2074)، والحاكم في المستدرك 1/ 410، بإسنادهما إلى الليث بن سعد به. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

يَشْتَرِي الرَّجُلُ صَدَقَتهُ التي تَصَدَّق بِها، لأَنَّهُ لا رَجُوعَ فيها. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: لمْ يُلْزَمُ الرَّجُلُ أنْ يُخْرِجَ زَكَاةً عَنْ عَبيدِ عَبِيدِه، مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَالَ العَبْدِ لَهُ، حتَّى يَنتزِعَهُ منهُ سَيِّدُه، فَلِذَلِكَ لا يُزَكَي الَسيِّدُ عَمَّنْ لا يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامَّا، ولمْ يُلْزَمُ العَبْدُ أَنْ يُخْرِجَها عَنْ عَبْدِه، لأن الزَّكَاةَ إنَّمَا هِي علَى الأَحْرَارِ، وَلَزِمَ الرَّجُلُ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْ خَادِمِ زَوْجَتِه، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّفَقَةَ على امْرَأتِه، وعلى خَادِمِهَا التي لا غِنَى لَها عَنْهَا. * * * تَمَّ تَفْسِيرُ كِتَابِ الزَّكَاةِ، والحمدُ لله رَبِّ العَالِمينَ، وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ، وصَحْبهِ الأَكْرَمِينَ يَتْلُوهُ على بَرَكةِ اللهِ كِتَابُ الصِّيامِ

[كتاب الصيام]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى الله على سيدنا محمَّدٍ, وعلى آله وسلَّم تَسْلِيما [كتابُ الصِّيَامِ] (¬1) قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، ثُمَّ بَيَّنَ الوَقْتَ الذي فُرِضَ فِيهِ الصَّوْمُ، فقالَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. * وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصُومُوا حتَّى تَرَوا الهِلاَلَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ" [1001]، يعنِي: لَا تَصُومُوا أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ حتَّى تَرَوُا الهِلاَلَ. "ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ"، يعنِي: ولا تَفْطِرُوا آخِرَ الشَّهْرِ حتَّى تَرَوُا هِلاَلَ شَوَّالَ. * وقَوْلُهُ: "فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم"، يعني: فإن خَفِيَ عَلَيْكُم الهِلاَلُ بِغَيْمٍ يَكُونُ في السَّمَاءِ. "فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ" [1003] مِنْ غُرَّةِ هِلاَلِ شَعْبَانَ، ثُمَّ ابْدُوا بالصّيامِ، وكَذَلِكَ في آخِرِ الشَّهْرِ، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ" [1002] أَيْ: قَدْ يَكُونُ رَمَضَانُ مِنْ تِسْعٍ وعِشْرِينَ. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أَبي بَكْرَةَ، عَنْ أَبيهِ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وذُو الحِجَّةِ" (¬2) فقالَ لِي: هذَا الحَدِيثُ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة وضعتها للتوضيح، وهي موجودة في الموطأ. (¬2) رواه مسلم (1089)، وأبو داود (2323)، والترمذي (692)، وابن ماجه (1659).

لا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ، وقدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ"، وقدْ يَكُونُ رَمَضَانُ مِنْ تِسْعَةٍ وعِشْرِينَ يَوْماً، وكَذَلِكَ ذُو الحِجَّةِ، وهذا مُدْرَكٌ بالعَيَانِ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: رَأَيتُ فِيما نَقَلَهُ أبو عُبَيْدٍ أَنَّهُ قالَ: (شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وذُو الحِجَّةِ)، يعني: لا يَنْقُصَانِ مِنَ الأَجْرِ، يُؤْجَرُ الصَّائِمُ والعَامِلُ فِيهِما وهَمُا نَاقِصَانِ، كَمَا يُؤْجَرُ فِيهِما وَهُمَا كَامِلاَنِ، وهذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ (¬1). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ مَالِكٍ في الهِلاَلِ: إذا رُؤِيَ بالعَشِيِّ أَنَّهُ لِلَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ العُلَمَاءُ في رُؤْيَةِ الهِلاَلِ بالعَشِيِّ أَنَّهُ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ، وإنَّمَا الإخْتِلاَفُ بَيْنَهُم إذا نَظَرُوا إليه قَبْلَ الزَّوَالِ، فقالَ مَالِكٌ: سَواءٌ رُؤِي قَبْلَ الزَّوَالِ أو بَعْدَهُ هُوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ. فَسَأَلتهُ عَنْ رِوَايةِ شِبَاكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَابِ قالَ: (إذا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُو لِلَّيْلَةِ المَاضِيةِ) (¬2)، فَقَالَ أَبو مُحَمَّدٍ: شِبَاكٌ رَجُلٌ ضَعِيفٌ، والمَعْرُوفُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بينَ قَبْلِ الزَّوَالِ ولَا بَعْدَهُ، وأَنَّ الهِلاَلَ لِلَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: بهذا قالَ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاس، وقالَ: إنَّمَا مَجْرَاهُ في السَّمَاءِ، ولَعَلَّهُ أَهَلَّ ذَلِكَ الوَقْتَ. قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ رَأَى هِلاَلَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ أنَّهُ يَصُومُ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ، مِنْ أَجْلِ أنَّ الإنْسَانَ مُتَعَبَّدٌ بِيَقِينِهِ، ولا يُلْزَمُ النَّاسُ الصِّيَامَ بِرُؤْيتهِ، لأنَّهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، ولا يُصَامَ بشَهَادَةِ وَاحِدٍ وإنْ كَانَ عَدْلًا، ولا يُفْطَرُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وإنْ كَانَ عَدْلاً، وبهذا قالَ أَهْلُ المَدِينَةِ. ¬

_ (¬1) لم أجد قول أبي عبيد في غريب الحديث، فلعلّه ذكره في كتاب آخر. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 163، ومن رواه من طريقه: البيهقي في السنن 4/ 212، وقال: هكذا رواه إبراهيم النخعي منقطعا.

وقالَ غَيْرُهُم مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ: يُصَامُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، واحْتَجّوا في ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ سِمَاكُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمةَ، عَنِ ابن عبَّاسٍ قالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إني رَأَيْتُ الهِلاَلَ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: قُمْ يا بِلاَلُ فَأَذِّنْ في النَّاسِ أنْ يَصُومُوا غَدَاً" (¬1)، هذَا حَدِيثٌ ليسَ هُو مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُو حَدِيثٌ يُتَوجَّهُ على وُجُوهٍ، جَائِزٌ أَنْ يَنْزِلَ الوَحِيُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذَلِكَ الوَقْتِ بِصَحَّةِ قَوْلِ الأَعْرَابِيِّ، وجَائِز أَنْ يَكُونَ قَدْ شَهِدَ شَاهِدٌ آخَرُ عندَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيِّ، فَتَمَّتِ الشَّهَادَةُ عندَهُ بِشَهَادةِ ذَلِكَ الأَعْرَابِيِّ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصِّيامِ. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وقَدْ رَوَى الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أَمَرَ بِشَاهِدَيْنِ في هِلاَلِ رَمَضَانَ (¬2)، وقدْ أَبَى عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ هَاشِمَ بنَ عُتْبَةَ وَحْدَهُ على هِلاَلِ رَمَضَانَ (¬3). قالَ مَالِكٌ: ويُقَالُ لِمَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ وَاحِدٍ على رُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضانَ، أَرَأَيْتَ إنْ أُغْمِيَ الهِلاَلُ آخِرَ الشَهْرِ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا قالَ مَالِكٌ هذا للمُخَالِفِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَقُولُ: لا يُفْطَرُ آخِرَ الشَّهْرِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، ويَقُولُ: يُصَامُ أَوَّلُ الشَّهْرِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، ولَا فَرْقَ بينَ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِه، فَلِهذَا قالَ مَالِكٌ: أَرَأَيْتَ إنْ أُغْمِيَ الهِلاَلُ آخِرَ الشَّهْرِ، فَلَمْ يُرَ وقَدْ صَامُوا ثَلاَثِينَ يَوْمًا بِشَهَادةِ الوَاحِدِ، فَمِنْ قَوْلِ المُخَالِفِ أَنَّهُم ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي 4/ 132، بإسنادهم إلى سماك به، وقال الترمذي: حديث ابن عباس فيه اختلاف، وأكثر أصحاب سماك يروونه عنه عن عكرمة مرسلا. (¬2) رواه الدارقطني (2196) من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. (¬3) رواه عبد الرزاق 4/ 197 عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: فذكره، وهو منقطع.

لا يَفْطُرُوا حتَّى يَرَوُا الهِلاَلَ، وهذا تَرْكٌ منهُ لِقَوْلهِ: يُصَامُ أَوَّلَ الشَّهْرِ بِشَهَادَةِ [وَاحِدٍ] (¬1). سَألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ أَبي عُمَيْرِ بنِ أَنسٍ، عَنْ عُمُومَتِهِ: "أَنَّ رَكْبَاً قَدِمُوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرُوا أَنَّهُم رَأَوُا الهِلاَلَ بالأَمْسِ، فأَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ بالفِطْرِ، وأَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ العِيدِ مِنَ الغَدِ" (¬2)، فقالَ لِي: هذا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، لا يَصِحُّ طَرِيقُهُ. ولَذَلِكَ قالَ مَالِكٌ: إنَّهُم لا يُصَلُّونَ صَلَاةَ العِيدِ مِنَ الغَدِ إنْ كَانَ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُم بعدَ الزَّوَالِ، والنَّوَافِلُ إذا ذَهَبتْ أَوْقَاتُها لم يكُنْ فيها إعَادَةٌ، لأنَّها لا تَشْبَهُ الفَرَائِضَ، فإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُم قبلَ الزَّوَالِ صَلُّوا صَلَاةَ العِيدِ على سُنَّتِهَا، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) رواه النسائي 3/ 180، وابن ماجه (1653)، وأحمد 5/ 57، بإسنادهم إلى أبي عمير به، وقال ابن عبد البر في التمهيد 14/ 359: وأبو عمير مجهول لا يحتج به.

باب من أجمع الصيام قبل الفجر، إلى آخر باب الصيام في السفر

بابُ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قبلَ الفَجْرِ، إلى آخِرِ بَابِ الصِّيَامِ في السَّفَرِ ذَكَرَ أَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَصُومُ إلَّا مَنْ أجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ" (¬1). * وأوقف مَالِكٌ هذَا الحَدِيثَ في المُوطَّأ على عبدِ الله بنِ عُمَرَ، وعلَى عَائِشَةَ وحَفْصَةَ، ولمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ فيهِ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) [1008 و 1009]. وقالَ مَالِكٌ: لا صِيامَ إلَّا لِمَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ. وأَجَازَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ الصِّيَامَ بِغَيْرِ تَبْيِيتٍ، واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ طَلْحَةَ (¬2)، عَنْ عَائِشَةَ بنتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَلَ عَلَيْنَا، قالَ: هَلْ عِنْدَكُم مِنْ طَعَامٍ؟ فإذا قُلْنَا: لا، قالَ: فإِنِّي صَائِمٌ" (¬3)، قالَ: فهذَا الحَدِيثُ يُبِيحُ الصِّيَامَ بِغَيْرِ تبَيِّتٍ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وهذا الحَدِيثُ قَالَ فيهِ بَعْضُ شُيُوخِنا: ليسَ فيهِ حُجَّة لِمنْ احْتَجَّ بهِ على ظَاهِرِ قَوْلهِ، وذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ قُوتِ أَهْلِهِ، فَيَسْألهُم عَنْ ذَلِكَ، فإذا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لا طَعَامَ عِنْدَهُم، قالَ: "إني صَائِمٌ"، ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2454)، ورواه الترمذي (730)، والنسائي 4/ 196، وابن خزيمة (1933)، وقال الترمذي: حديث حفصة لا تعرفه مرفوعا إلَّا من هذا الوجه، وقد روى عن نافع عن ابن عمر قوله، وهذا أصح. (¬2) هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي. (¬3) رواه ابن عبد البر في التمهيد 12/ 78 بإسناده إلى سفيان الثوري به، ورواه النسائي 4/ 195، بإسناده إلى عائشة بنت طلحة به.

أَيْ قَدْ بيَّتُ الصِّيَامَ فَلَا تَسْأَلُوا عَنِّي، وقدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وحَفْصَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا صِيَامَ إلَّا لِمَنْ بيَتَ الصِّيَامَ" (¬1)، وَهُوَ ظَاهِرُ القُرْآنِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فإذا لمْ يَجُزْ للصَّائِمِ الأكْلُ بعدَ الفَجْرِ لمْ يَكُنْ للنَّاسِ بُدٌّ منْ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُم للصَّومِ قبلَ الفَجْرِ، وهذَا هُو التَّبَيَّتُ في الصِّيَامِ. قالَ مَالِكٌ: وُيجْزِيءُ التَّبْييتُ في أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، ولَيْسَ على النَّاسِ تَبستُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، لأَنَّ الشَّهْرَ شَيءٌ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ إلى آخِرِ الشَّهْرِ. * حَدِيثُ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" [1011] يعنِي: عَجَّلُوا الأَكلَ إذا صَامُوا في رَمَضَانَ بعدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وفِي هذَا مِنَ الفِقْه: أَنَّ مَنْ وَقَفَ عِنْدَما حَدَّ اللهُ لَهُ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ، وفِيمابَيَّنَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ بِخَيْرٍ مِنْ دُنْيَاهُ، واسْتَوْجَبَ الأَجْرَ على ذَلِكَ مِنْ رَبّه في آخِرَتِهِ. قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وأَوَّلُ اللَّيْلِ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ. وذَكَرَ أَبو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَزَالُ الدّينُ (¬2) ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ، لأَنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يُؤَخّرُونَ" (¬3) يعنِي: يُؤَخِّرُونَ فِطْرَهُم إذا صَامُوا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تَمْتَثِلَ أُمَّتُهُ فِعْلَ اليَهُودِ والنَّصَارَى في ذَلِكَ. [قَالَ أَبو المُطَرّفِ]: أَرْسَلَ يحيى بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَن أَبي يُونسُ حَدِيثَ الرَّجُلِ الذي سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي 4/ 196. (¬2) جاء في الأصل: (لا يزال الناس الدين ...) والصواب حذف كلمة (الناس). (¬3) رواه أبو داود (2353)، وأحمد 2/ 450، وابن حبان (3503)، بإسنادهم إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن به.

رَمَضَانَ، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه (¬1)، وأَسْنَدَهُ القَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبي يُونسُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَرَ الحَدِيثَ (¬2). * قالَ أبو مُحَمَّدٍ: مَعْنَى غَضَبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على ذَلِكَ الرَّجُلِ حينَ رَاجَعَة الكَلاَمَ بعدَ أَنْ ذَكَرَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُصْبِحُ جُنُباً في رَمَضَانَ ثُمَّ يَغْتسِلُ ويَصُومُ [1015]، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ وغَيْرَهُ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَمْتَثِلُوا أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ اللهُ به دُونَ أمَّتِه (¬3)، فَلَمَّا قالَ لَهُ: (إنَّكَ لَمسْتَ مِثْلَنا، قَدْ غَفَر اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ)، قالَ: فكَأنَّهُ لم يَتَأَسَ به فِيما أَفْتَاهُ بهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ غَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ أبو مُحَمَّدٍ ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الفُقَهَاءِ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً في رَمَضَانَ أَفْطَرَ ذَلِكَ اليومَ، وذَلِكَ أَنَّ الأَكْلَ والشُّرْبَ والوَطْءَ مُبَاح للنَّاسِ كُلِّهِم في لَيَالِي رَمَضَانَ إلى طُلُوع الفَجْرِ، فإذا كَانَ ذلكَ مُبَاحَاً إلى طُلُوعِ الفَجْرِ لمْ يَقَعْ غُسْلُ الوَاطِئِ إلَّا بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ. [قَالَ أَبو المُطَرفِ]: في دُخُولِ أَبي بَكْرِ بنِ الحَارِثِ على مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ [1017] مِنَ الفِقْه: دُخُولُ الفُقَهَاءِ على الأُمَرَاءِ، وتَذَاكُرُهم السُّنَنَ، والبَحْثُ عَنِ الصَّحِيحِ منها، وأَخْذُهَا عَمَّن نَقَلَها عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتَرْكُ الأَخْذِ بالحَدِيثِ الذي يُخَالِفُ ظَاهِرَ القُرْآنِ، ورُجُوعُ العَالِمِ عَنْ قَوْلةٍ قَالَهَا إذا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ الصَّوَابَ في خِلاَفِها، كَمَا فَعَلَ أَبو هُرَيْرةَ، وكانَ المُخْبِرُ الذي أَخْبَرَهُ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ اليومَ"، الفَضْلُ بنُ عبَّاسٍ، وحَكَتْ عَائِشَةُ وأُمُّ سَلَمةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَطَأُ باللَّيْلِ في رَمَضَانَ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بعدَ الفَجْرِ، ويَصُومُ ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (51 أ) نسخة الظاهرية. ورواه هكذا أيضا يحيى في موطئه (1015). (¬2) موطأ مالك برواية القعنبي (479). (¬3) كررت كلمة (أمته) مرتين، فحذفت أحدهما.

ذَلِكَ اليَومَ"، وعلى هذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ: أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا في رَمَضَانَ أَنَّهُ لا يُفْطِرُ. * [قَالَ أَبوالمُطَرِّفِ]: لمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِحَدِيثِ عَطَاءٍ: (أَنَّ رَجُلاً قبَّلَ امْرَأَتهُ في رَمَضَانَ) [1020]، وإنَّما لم يأَخُذْ به لأَنَّهُ مِنْ مُرْسَلاَتِ عَطَاءٍ، وهُوَ خِلاَفُ قَوْلِ علي، وابنِ عُمَرَ، وابنِ عبَّاسٍ، وعَائِشَةَ، وَهِيَ التي قالتْ: (وأَيُّكُم أَمْلَكَ لإرْبهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) [1026]، تعنِي: أَيُّكُم أَمْلَكُ لِشَهْوتِه مِنْهُ لِنَفْسِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكرتْ في مَعْنَى حَدِيثِها: أَنَّ تَقْبيلَهُ نِسَاءَهُ في رَمَضَانَ خَاصٌ له، [إذ] (¬1) كانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ في حَالِ صِيَامِه مَا لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا غَلَبَتْ شَهْوَةُ القُبْلَةِ على المُقَبّلِ فتفسُدُ عليهِ صَوْمَهُ بإنْزَالهِ المَاءَ، وقَدْ كَانَ كَثيرٌ مِنَ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ يَجْتَنِبُونَ دُخُولَ مَنَازِلِهِم بالنَّهَارِ في رَمَضَانَ خَوْفًا على أَنْفُسِهِم مِنَ القُبْلَةِ وغَيْرِهَا. * وقالَ عُرْوَةُ: (لَمْ أَرَ أن القُبْلَةَ للصَّائِمِ تَدْعُو إلى الخَيْرِ) [1027]، يعنِي: أَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ سَبَبًا إلى فَسَادِ الصَّوْمِ. وقَدْ سُئِلَ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ عَنِ القُبْلَةِ للصَّائِمِ في رَمَضَانَ بالنَّهَارِ، فقالَ: (اللَّيْلُ قَرِيبٌ) (¬2)، فَهَذِه الآثَارُ كُلُّها خَلاَفَ مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بنُ أَبي رَبَاحٍ في ذَلِكَ (¬3)، ولِذَلِكَ لم يَأْخُذْ بهِ مَالِكٌ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّما أَفْطَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَارَاً في رَمَضَانَ حِينَ عَلاَ على شَرَفِ الكَدِيدِ [1031]، لِكَي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ فَيَنْظُرُونَ لِفِطْرِه، وقدْ كَانَ أَمَرَهُمْ بالفِطْرِ في سَفَرِهِم ذَلِكَ حِينَ خَرَجُوا مِنَ المَدِينَةِ، وقالَ لَهُم: "تَقَوَّوْا ¬

_ (¬1) في الأصل: (إذا) وهو لا يتناسب مع السياق. (¬2) لم أجد قول علي - رضي الله عنه -، وإنَّما وقفت نحوه عن مسروق، رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/ 63. (¬3) نقل رأي عطاء: ابن عبد البر في التمهيد 5/ 114، وقال: وبه قال الشعبى والحسن وأحمد وإسحاق وداود.

لِعَدُوّكُمْ" [1032]، وصَامَ هُو، فَلَمَّا عَلِمُوا بِصِيَامهِ صَامُوا، فَشَقَّ عَلَيْهِم الصَّوْمُ وجَهَدَهُم ذَلِكَ، فَلَمَّا عَلاَ على الكَدِيدِ، والكَدِيدُ العَقَبَةُ المُطِلَّةُ على الجُحْفَةِ، ونَظَرَ النَّاسُ إليه دَعَا بِمَاءٍ، فَاأَفْطَرَ وأَفْطَرَ النَّاسُ بِفِطْرِه. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: ليسَ في هذَا الحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ في السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَة، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ قَصْدُهُ إلى الفِطْرِ اخْتِيَارًا منهُ لِذَلِكَ، وإنَّما أَفْطَرَ اتِّقَاءً على النَّاسِ ورِفْقًا بِهم. وحُجَّةُ ابنِ القَاسِمِ التِّي ذَكَرَها عنهُ سُحْنُونُ في المُدَوَّنَةِ في هذِه المَسْأَلةِ أَصَحُّ مِنْ حُجَّةِ أَشْهَبَ (¬1). [قَالَ أَبو المُطَرّفِ]: (كانَ ابنُ عُمَرَ لا يَصُومُ في السَّفَرِ) [1035]، يَأْخُذُ في ذَلِكَ بِرُخْصَةِ اللهِ للمُسَافِرِ في الفِطْرِ، واسْتَحَبَّ مَالِكٌ الصَّوْمَ للمُسَافِرِ إذا لم يَشُقَّ الصَّوْمُ عليهِ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وقَوْلُ أَنَسٍ: (سَافَرَنا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في رَمَضَانَ، فَلَمْ يُعِبِ الصَّائِمِ على المُفْطِرِ، ولَا المُفْطِرُ علَى الصَّائِمِ) [1033]، هكَذا رَوَاهُ مَالِكٌ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: غَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ في هذَا الحَدِيثِ عَنْ أَنسٍ: (سَافَرْنَا مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) (¬2)، قالَ أَحْمَدُ: وهذَا هُوَ المَعْرُوفُ عَنْ أَنسَ بنِ مَالِكٍ في هذَا الحَدِيثِ (¬3). وَروَى أَبو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)، ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة 2/ 24، باب الصيام في السفر. (¬2) رواه البيهقي في السنن 3/ 145، ورواه البخاري (1845)، ومسلم (1118) وغيره بمثل رواية مالك. (¬3) هذا هو قول محمد بن وضاح، ورد ابن عبد البر في التمهيد 2/ 169، فقال: هذا عندي قلّة اتساع في علم الأثر، وقد تابع مالكا جماعة من الحفاظ ... كلهم رووه عن حميد عن أنس بمعنى حديث مالك (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء) ... إلخ.

يعني: في رَمَضَانَ، "فَيَصُومُ الصَّائِمُ، ويُفْطِرُ المُفْطِرُ، فلَا يُعِيبُ الصَّائِمُ على المُفْطِرِ، ولَا المفْطِرُ على الصَّائِمِ" (¬1). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: روَى عبدُ الرَّزَاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قتادةَ في قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قالَ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ: (مَنْ خَرَجَ في رَمَضَانَ إلى سَفرٍ، فإنَ الصَّومَ وَاجِبٌ عليهِ في سَفَرِه) (¬2)، لأنَّهُ مِمَّنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ في الحَضَرِ. قالَ قتادَةُ: وقالَ غَيْرُ عليٍّ: الفِطْر لِمَنْ خَرَجَ في رَمَضَانَ إلى سَفَرِه مُبَاحٌ، وقَدْ فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ وَبَعْدَهُ. [قَالَ أَبو المُطَرّفِ]: روَى أَبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ قالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنَيْنٍ لِثِنتيْ عَشَرَةَ لَيلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَامَ قَوْمٌ، وأَفْطَرَ قَوْمٌ، فَلَمْ يُعِبِ الصَّائِمِ على المُفْطِرِ، ولا المُفْطِرُ على الصَّائِمِ" (¬3). * [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: روَى ابنُ بكيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَن حَمْزَةَ بنَ [عَمْرو] (¬4) قالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إني رَجُلٌ أَصُومُ" (¬5)، وذَكَرَ الحَدِيثَ، وأَسْنَدَهُ، وأَرْسَلَهُ يَحيى عَن مَالِكٍ في الموطَّأ، ولمْ يَذْكُرْ فيهِ عَائِشَةَ بِصَوْمٍ [1034]، والصَّحِيحُ أنَّهُ مُسْنَدٌ كَمَا رَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ. وأَبَاحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صَوْمَ الدَّهرِ لمَن شَاءَ، وكَانَتْ عَائِشَة تَصُومُ الدَّهْرَ، وكَانَ أَبو هُرَيْرَةَ يَصُومَهُ، وفَعَلَهُ جَمَاعَة مِنَ الصَّحَابةِ والتابِعِينَ. ومَعْنَى الحَدِيثِ الذي ذَكَرَهُ أَبو دَاوُدَ منْ طرِيقِ أَبي قتادَةَ الأَنْصَارِيِّ: (أَنَّ رَجُلًا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1117) بإسناده إلى أبي نضرة عن جابر وأبي سعيد الخدري به. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف 2694. (¬3) رواه مسلم (1116)، وأحمد 3/ 45، و 74، (¬4) في الأصل: عمر، وهو خطأ. (¬5) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (53 أ) نسخة المكتبة الظاهرية.

سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّنْ يَصُومُ الدَّهْرَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا صَامَ ولا أَفْطَرَ) (¬1)، فَدَعَا - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعِينَهُ اللهُ على الصّيَامِ، ولَا على الإفْطَارِ، فَمَعْنَاهُ: أَنْ يَصُومَ أَبَداً، ولَا يُفْطِرُ في فِطْرٍ ولا أَضْحَى، فَيَصُومُ مَا قَدْ نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِ، لأَنَّهُ ثَبَتَ عنهُ - عليهِ السَّلاَمُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الفِطْرِ وَيوْمِ الأَضْحَى، وقالَ في أَيَّامِ مِنَى: (إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وشُرْبٍ) (¬2)، فَمَن صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ فقدْ خَالَفَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في صِيَامِ يومِ الفِطْرِ والأَضْحَى، فَلِذَلِكَ قالَ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: (لا صَامَ ولَا أَفْطَرَ)، وأَمَّا إذا صَامَ الدَّهْرَ وأَفْطَرَ في الفِطْرِ والأَضْحَى وأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمُبَاح لمَنْ فَعَلَ هذَا، وكَانَ اللهُ مُثِيبَهُ مِنَ الأَجْرِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ. * * * ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2425)، ورواه مسلم (1162)، والنسائي 2074، وأحمد 2965. (¬2) رواه مسلم (1141)، وأبو داود (2813)، من حديث نبيشة الهذلي وغيره.

في كفارة من أفطر في رمضان، وحجامة الصائم، وصيام يوم عاشوراء

في كَفَّارَةِ مَنْ أفْطَرَ في رَمَضَانَ، وحِجَامَةِ الصَّائِمِ، وصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ * قالَ عِيسى: العَرَقُ الذي أَمَرَ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُكَفِّرَ في رَمَضَانَ [1043] هُوَ: مِكْتَلٌ يَسَعُ مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعَاً إلى عِشْرِينَ. وأَمَرَ الذي أَعْطَاهُ إيَّاهُ لِيُكَفِّرَ بهِ عَنْ وَطْءِ أَهْلِهِ في نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَيصُومَ يَوْمًا مَكَانَ اليومَ الذي وَطِءَ فيهِ، وهذا خَاصٌّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، ولِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ مِنْ أُمَّتِهِ بِمَا شَاءَ، وقدْ قالَ لأَبي بُرْدَةَ بنِ نِيَارٍ حِينَ أَبَاحَ لَهُ يُضَحِّي بالصَّغِيرَةِ مِنَ المَعْزِ: (اذْبَحْهَا، ولَنْ تُجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) (¬1)، فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ أَكَلَ كفَّارَتَهُ الوَاجِبَةِ عليهِ أَنَّهَا بَاقِيَة عليهِ، وقَالَهُ الزهْرِيُّ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: قالَ مَالِكٌ: الذي نأْخُذُ بهِ في كَفَّارَةِ رَمَضَانَ لِمَنْ وَطِيءَ فيهِ نَهَاراً الإطْعَامَ، وَهُوَ ظَاهِرُ القُرْآنِ قَوْلُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬2) [البقرة: 184]، وإنَّمَا ذَكَرَ اللهُ --عَزَّ وَجَلَّ-فيهِ الإطْعَامَ، فَمَا لَهُ [غَيْرَ] (¬3) ذَلِكَ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: ذَكَرَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ يحيى بنِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (925)، ومسلم (1961)، من حديث البراء بن عازب. (¬2) هذه الآية جاءت القراءة فيها بأوجه كثيرة، وما وضعته إنما هو موافق لقراءة عاصم، ينظر: البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة للعلامة عبد الفتاح القاضي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ص 99 - 100. (¬3) جاء في الأصل: (ولغير) والصواب ما أثبته، مراعاة للسياق.

أَيُّوبَ، قالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: إنَّ عَطَاءَ الخُرَاسَانِيَّ يَرْوِي عَنْكَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ الذي أَفْطَرَ في رَمَضَانَ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، أَو يَنْحَرَ جَزُورًا"، فقالَ سَعِيدٌ: كَذَبَ عَطَاءٌ، إنَّمَا قالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ" (¬1). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: الكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ في كَفَّارَةِ الوَاطِئِ في رَمَضَانَ بِمِثْلِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَنْ يَعْتِقَ أَوَّلاً رَقَبَةً، فَإنْ لم يَجِدْهُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ (¬2)، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينَاً، على حَسَبِ كَفَّارَةِ الظَّهَارِ (¬3). وقالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: لَيْسَتْ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ فِيهَا المُكَفِّرَ، ولَيْسَ في كَفَّارَةِ [الظِّهَارِ] (¬4) تَخْيِير، فَوَجَبَ بهذَا الحَدِيثِ أَنْ لَا تَكُونَ مِثْلَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، والذي يَسْتَحِبُّ مَالِكٌ الإطْعَامَ، لأن به وَاقعُ تَكْفِيرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوَاطِيءِ في رَمَضَانَ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: سألتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ أَبي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوبَانَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: " [أَفْطَرَ] (¬5) الحَاجِمُ والمَحْجُومُ" (¬6)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ في هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وقدْ رَوَى أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمةَ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُو صَائِمٌ" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في العلل (5454)، وأبو داود في المراسيل (103)، والعقيلي في الضعفاء 3/ 406، والدارقطني في العلل 24610، وابن عبد البر في التمهيد 21/ 9، من طريق إلى عطاء الخراساني. (¬2) جاء العبارة في الأصل هكذا: فإن لم يجده (لا يعتق منه رقبة) صام شهرين متتابعين، وما كان بين القوسين مقحمة، والصواب حذفها مراعاة للسياق. (¬3) ينظر: المبسوط 2/ 203، وحاشية ابن عابدين 2/ 412. (¬4) جاء في الأصل: (الصيام) وهو خطأ، لأنه خلاف ما يقتضيه السياق، وينظر: التمهيد 7/ 164، والمنتقى 2/ 54. (¬5) جاء في الأصل: (افطار) وهو خطأ. (¬6) رواه أبو داود (2367)، وابن ماجه (1680)، وأحمد 5/ 277، من حديث أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي به. (¬7) رواه أبو داود (2375)، والطبراني في المعجم الكبير 11/ 234، والبيهقي في السنن 4 =

[قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: سَمِعْتُ بَعْضَ الفُقَهَاءِ يَقُولُ: "مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على حَاجمٍ ومَحْجُومٍ وَهُمَا يَغْتَابَانِ رَجُلاً، فقالَ - عليهِ السَّلاَمُ -: أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ" (¬1)، ولِهَذا قالَ سُفْيَانُ: (إنَّ الغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ) (¬2). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا كُرِهَتِ الحِجَامَةُ للصَّائِمِ خِيفَةَ التَّغْرِيرِ بالصَّائِمِ، لِئَلَّا يُمْنَعَ المُحْتَجِمُ أَو يَضْعُفَ (¬3)، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لإفْطَارِه، فإذا احْتَجَمَ وسَلِمَ لَمْ يَكُنْ بهِ بَأْسٌ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: روَى سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ الذينَ كَانُوا بِها يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: في هَذا اليوم أَظْهَرَ اللهُ مُوسَى على فِرْعَون، فَنَحْنُ نَصُومهُ تَعْظِيماً لَهُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم، فَصَامَهُ وأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قالَ: مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، ومَنْ شَاءَ تَرَكَهُ" (¬4). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: صِيَامُ يومَ عَاشُورَاءَ مُرَغَبٌ فيهِ، ولَا يُصَامُ إلَّا بِتَبيِّتٍ كمَا لا يُصَامُ رَمَضَانُ إلَّا بِتَبيِّتٍ. * وقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ الحَارِثَ بنَ هِشَامٍ أَنْ يَصُومَهُ هُوَ وأَهْلُهُ وأَمَرَهُ أَنْ يُبيتَ الصِّيَامَ [1054]. قالَ أَبو عُمَرَ: مَنْ كَانَتْ لهُ نيّهٌ في صِيَامِ يومِ عَاشُورَاءَ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ذَلِكَ اليومِ نَسِيَ أَنْ يُبيِّتَ الصِّيَامَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لَيْلَةُ يومِ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا ¬

_ = / 263، بإسنادهم إلى أيوب به. (¬1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 99، وذكره ابن حجر في الفتح 4/ 178، وضعفه. (¬2) لم أجده عن سفيان، وإنما ورد هذا القول مرفوعا، ولكنه ضعيف، ينظر: نصعب الراية 2/ 482. (¬3) لعله يريد: لئلا يعرض نفسه للهلكة والضعف. (¬4) رواه البخاري (1900)، وابن ماجه (1734)، وأحمد 1/ 231، بإسنادهم إلى سعيد بن جبير به.

أَصْبَحَ عَلِمَ أَنَّةُ يومُ عَاشُورَاءَ ولَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئاً، فإنَّهُ يَتَمَادَى على صِيَامِهِ، ويَكُونُ إنْ شَاءَ اللهُ صَائِمًا، وأما مَنْ أَكَلَ يومَ عَاشُورَاءَ بعدَ أَنْ أَصْبَحَ فلَا صِيامَ لَهُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أَنَّهُ لا يُصَامُ يَوْمُ الفِطْرِ ولَا يَوْمُ الأَضْحَى، وأَمَّا أَيَّامُ مِنَى فلَا يُصُمْهَا إلَّا المُتَمَتِّعُ الذي لا يَجِدُ الهَدْيَ، لِقَوْلهِ تعالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وكَذَلِكَ يَصُومُها مَنْ كَانَ في صِيَامٍ مُتَتَابِعٍ فَمَنَعَهُ مِنْ تتَابِعِه مَرَضٌ فَأفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ في أَيَّامِ مِنَى، فإِنَّهُ يُفْطِرُ يومَ الأَضْحَى وَيصُومُ أَيَّامَ مِنَى، واليومُ الرَّابعُ لَا يَصُومُهُ إلَّا مَنْ نَذَرَهُ أو مَنْ كَانَ في صِيَامٍ مُتَتَابِعٍ قَبْلَ ذَلِكَ.

باب الوصال، إلى آخر باب قضاء رمضان والكفارات

بابُ الوِصَالِ، إلى آخرِ بَابِ قَضَاءِ رَمَضَانَ والكَفَّارَاتِ قالَ مَالِكٌ: لا يُوَاصِلُ الصَّائِمُ مِنْ لَيْلٍ إلى لَيْلٍ، ولَا مِنْ سَحَرٍ إلى سَحَرٍ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الوِصَالِ. قالَ أَبو جَعْفَرِ بنُ عَوْنِ اللهِ: قَدْ وَاصَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأَصْحَابهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ على أَنَّ الوِصَالَ مُبَاحٌ، وإنَّمَا نَهَى عنهُ - صلى الله عليه وسلم - رَأْفَة ورَحْمَة ورِفْقَاً بأُمَّتِه، إذ ليسَ كُلُّ النَّاسِ يُطِيقُونَهُ، وقدْ قالَ بهذا قَوْمٌ مِنَ المُتَعَبِّدِينَ. * وقَالَ غَيْرُ أَبي جَعْفَرٍ: روَى أَبو سَلَمَةَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الوِصَالِ، فَقَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ، فقالَ: إنّيَ أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي" (¬1)، يعنِي: يُقَوِّينِي علَى الصِّيَامِ حتَّى أَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ، فَلَمَّا أَبَوا أَنْ يَنتهُوا عَنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِم - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَيوْماً، فَلَمَّا أَمْسُوا رَأَوُا الهِلاَلَ، فقالَ: "لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُم" كالمُنَكِّلِ لَهُم حِينَ أَبَوا أَنْ يَنتهُوا عَنِ الوِصَالِ الذي كَانَ قَدْ نَهَاهُم عنهُ، فهذا الحَدِيثُ حُجَّةٌ على مَنْ يَقُولُ بِفَضْلِ الوِصَالِ في الصِّيَامِ إذ لمْ يُوَاصِلْ بِهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلّا على جِهَةِ النكَالِ لَهُم، وقدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬2)، وقالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكُمْ والوِصَالَ، إيَّاكُمْ والوِصَالَ" [1060]، فلَا يَنْبَغِي أَنْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6869)، ومسلم (1103)، بإسنادهما إلى الزهري عن أبي سلمة به. (¬2) رواه البخاري (1856)، ومسلم (1098)، من حديث سهل بن سعد.

يُتَعَدَّى ما حَدَّهُ اللهُ، ولَا يُسْتَبَاحُ مَا نَهَى عنه رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقدَ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نَهَيْتكُم عَنْ شَيءٍ فَانتهُوا" (¬1). [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قالَ أبو مُحَمَّدٍ: أَجْمَعَ النَّاسُ كُلُّهُم عَنِ المَرْأةِ إذا حَاضَتْ في صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ المُتَتَابِعَيْنِ أَنَّهَا تَبْنِي على صِيَامِها إذا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِها. واخْتَلَفَ النَّاسُ في المَرِيضِ يَمْرَضُ في صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ المُتَتَابِعِينِ: فقالَ أَبو حَنِيفَةَ: إذا أَفْطَرَ فِيها المَرِيضُ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصّيامَ إذا صَحَّ (¬2). وقالَ مَالِكٌ: إنَّهُ يَبْنِي على صِيَامِهِ إذا صَحَّ، وذَلِكَ أَنَّ المَرَضَ شَيءٌ لا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ كالحَيْضِ الذي لا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، فأَمَّا مَنْ سَافَرَ في صِيَامٍ الشَّهْرَيْنِ المُتَتَابِعَيْنِ فَاَفَطْرَ مِنْ ضَرُورَةٍ، فإنَّهُ يَسْتَأْنِفُ صِيَامَهُ،. لأَنَّهُ قَدْ يَدْفَعُ عَنْ نفْسِهِ السَّفَرَ ولا يَدْفَع المَرَضَ، وكَذَلِكَ الحَائِضُ إذا طَهُرَتْ [وأَخَذَتْ] (¬3) أَنْ تَصِلَ الصِّيَامَ بِما صَامَتْهُ أَوَّلاً أَنَّها تَسْتَأْنِفُ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ، وكَذَلِكَ حُكْمُ المَرِيضِ إذا صَحَّ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] , وذَلِكَ مِمَّا نَذَرَهُ النَّاسُ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَلِهذَا أَمَرَ بِصِيَامِ النِّذْرِ قَبْلَ التَّطُوعِ، فإذا فَرَّطَ الرَّجُلُ في نُذُورِه التي هِي في مَالِهِ، وأَوْصَى بِها عندَ مَوْتهِ، أَخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثهِ، وُبدِّيتْ على التَّطَوِّعِ، ولَمْ تُخْرَجْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لأَنَّ ثُلُثَي مَالهِ قَدْ صَارَ لِوَرَثَتِهِ، فَلَا يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِه مِنْ مَالِ وَرَثَتِهِ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ [مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ] (¬4)، عَنْ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1337)، والترمذي (2679)، والنسائي 5/ 110، وابن ماجه (1)، من حديث أبي هريرة. (¬2) ينظر مذهب أبي حنيفة في الإستذكار 3/ 88. (¬3) كذا في الأصل، ويبدو أن سقطا ما وقع في الأصل. (¬4) جاء في الأصل: (جعفر بن محمد)، وهو خطأ، ومحمد بن جعفر هو ابن الزبير بن العوام، وهو ممن يروي عن عمه عروة بن الزبير.

عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عنهُ وَلِيُّه" (¬1)، فقَالَ لي: لَيْسَ هذا الحَدِيثُ بِصَحِيح، لأنه ثَبَتَ عَنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ: "إذا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلاَثٍ، دُعَاءُ وَلَدِه لَهُ، وصَدَقَة مَوْقُوفَةٌ قدْ أَوْقَفَها في وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ البِرّ تَجْرِي عليهِ أَجْرُهَا في قَبْرِه، وعِلْم يُنْشَرُ بَعْدَهُ قَدْ عَلَّمَهُ النَاسَ" (¬2)، فَهَذا مِما يَنْتَفعُ بهِ المَيّتُ في قَبْرِه، وقدْ قالَ ابنُ عُمَرَ: (لا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، ولَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) [1069]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَمَا لا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: ذَكَرَ أَبو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبلٍ أَنهُ قالَ في حَدِيثِ [مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ] (¬3) عن (¬4) ............................... * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1851)، ومسلم (1147)، بإسنادهم إلى محمد بن جعفر به. وذهب بعض العلماء إلى أنه هذا في النذر، ينظر: عمدة القاري 11/ 59. (¬2) هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه، وهو حديث مشهور، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وتقدم تخريجه. (¬3) جاء في الأصل: (جعفر بن محمد)، وهو خطأ، وتقدم ذكره آنفا. (¬4) سقط من الأصل بعض الأوراق، وفيها تكملة لكتاب الصيام، ثم كتاب الإعتكاف، ثم كتاب ليلة القدر.

[كتاب الجنائز]

[كتابُ الجَنَائِزِ] [مَا يَقُولُ المُصَلِّي على الجَنَازَةِ، ومَا جَاءَ في الصَّلَاةِ على الجَنَائِزِ في المَسْجِدِ] (¬1) ........................................................................ ..................................................................... ..................................................................... ......................................... فلمْ يُصَلِّ وَاحِدٌ مِنْهُم على قَبْرِه، وكَفَى بهذا حُجَّةً على مَن أَبَاحَ الصَّلَاةَ على قَبْرِ مَيّتٍ قد صُلِّيَ عليهِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَرَ. قالَ مَالِكٌ: ولَيْسَ على حَدِيثِ السَّودَاءِ العَمَلُ (¬2). قالَ عِيسَى: مَنْ دُفِنَ ولمْ يُصَلَّ، أَو قُتِلَ ولمْ يُصَلَّ عليهِ ودُفِنَ، فإني أَرَى أَنْ يُصَلَّى على قَبْرِه، وقدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ عبدِ العَزِيزِ بنِ أَبي سَلَمَةَ (¬3). سَاَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ ابنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ [سَعْدِ] (¬4) بنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ ¬

_ (¬1) سقطت ستة أبواب من الأصل، بسبب ضياع الأوراق، والأبواب في الموطأ في الجزء الثاني، من الصفحة 311، إلى الصفحة 319. (¬2) حديث المرأة السوداء الفقيرة التي توفيت رواه مالك في الموطأ (772)، باب ما جاء في التكبير على الجنائز. (¬3) نقل قول عيسى بن دينار الإِمام ابن عبد البر في التمهيد 6/ 279. (¬4) في الأصل: سعيد، وهو خطأ.

طَلْحَةَ بنِ عبدِ [الله] (¬1) بنِ عَوْفِ أَنَّه قالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ ابنِ عبَّاسِ على جِنَازَة، فَقَرأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ) (¬2)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ في المَيِّتِ: "أَخْلِصُوه بالدُّعَاءِ" (¬3)، وإذا قَرَأَ المُصَلِّي على المِيِّتِ بأُمِّ القُرْآنِ كَانَتْ قِرَأتهُ بينَ اللهِ وبينَ القَارِئ، ولمْ يَكُنْ للَمَيِّتِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، وقدْ أَمَرَنا - عليهِ السَّلاَمُ - أَنْ [نُخْلِصَهُ] (¬4) بالدُّعَاءِ. قِيلَ لَهُ: قدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ صَلاَةٍ لا يُقْرَأُ فِيها بأُمِّ القُرْآنِ فِهِي خِدَاجٌ" (¬5)، قالَ: تِلْكَ صَلاَةٌ يَكُونُ فِيهَا رُكُوع وسُجُودٌ، والصَّلاَةُ على الجَنَائِزِ إنَّما هُو دُعَاءٌ للمِيِّتِ، كَمَا أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم -. روى مَالِكٌ عَنْ أَبي النَّضْرِ: (أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ حِينَ ماتَ لِكَي تُصَلِّي عليهِ، فأَنْكَر النَّاسُ عَلَيْها ذَلِكَ) [782]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَسْمَعْ أَبو النَّضْرِ مِنْ عَائِشَةَ، وحَدِيثُهُ عَنْهَا مُرْسَلٌ. فقُلتُ لَهُ: فقدْ روَى ابنُ أَبي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحّاكِ بنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبي النَّضْرِ، عَنْ أَبي سَلَمةَ، عَنْ عَائِشَةَ قالتْ: (واللهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على ابْنَي بَيْضَاءَ سَهْلاً وسُهَيْلاَ إلَّا في المَسْجِدِ) (¬6)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هذَا حَدِيثٌ ليسَ بِثَابِتٍ، وابنُ أَبي فُدَيْكٍ ضَعِيفٌ، وقدْ أَنْكَرَ النَّاسُ على عَائِشَةَ إذْ أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسَعْدٍ في المَسْجِدِ لِتَدْعُو لَهُ (¬7)، وفِي خُرُوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَسْجِدِ إلى المُصَلَّى لِيُصَلِّي ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: عبد الرحمن، وهو خطأ، وطلحة بن عبد الله هو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف. (¬2) رواه البخاري (1270)، وأبو داود (3198)، بإسنادهما إلى ابن عيينة به. (¬3) رواه أبو داود (3199)، وابن ماجه (1497)، من حديث أبي هريرة، وليس في الحديث نهي عن القراءة، وإنَّما فيه الدعاء له بالإخلاص. (¬4) جاء في الأصل: نخلصوه، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. (¬5) تقدم تخريج هذا الحديث في كتاب الصلاة، وهو حديث صحيح مشهور. (¬6) رواه مسلم (973)، وأبو داود (3190)، بإسنادهم إلى إسماعيل بن أبي فديك به. (¬7) قال ابن حجر في الفتح 3/ 199: إن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلّموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه.

على النَّجَاشِيِّ ولَيْسَ بالحَضْرَةِ، أَقْوَى دَلِيلٍ على أَنَّهُ لا يُصَلَّى على جِنَازَةٍ في المَسْجِدِ. قُلْتُ لَهُ: فَقَدْ صُلِّيَ على عُمَرَ في المَسْجِدِ، فقالَ: إنَّما صُلِّيَ عَلَيْهِ في المَسْجِدِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَبْرَهُ كَانَ فيهِ، فَصُلِّي عليهِ عندَ قَبْرِه، ثُمَّ دُفِنَ فِيهِ. ورَوَى أَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ صَلَّى على جِنَازَةٍ في المَسْجِدِ فَلَا شَيءَ لَهُ" (¬1)، يعنِي: لا أَجْرَ لَهُ. [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وإذا صُلّيَ عَلَيْهَا في المُصَلَّى كانَ لَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الأَجْرِ، وذَلِكَ مِثْلُ وَزْنِ جَبَلِ أُحُدٍ ثَوَاباً. قالَ مَالِكٌ: لا يُصَلَّى على جِنَازَةٍ إلَّا بِوضُوءٍ أَو تَيمُّمٍ لِمَنْ لم يَجِد المَاءَ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: (لا بَأْسَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ) (¬2)، لأَنَّهُ دُعَاءٌ للمَيّتِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الإثْنَيْنِ لاثْنتَيْ عَشَرَةَ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ عَامَ الفِيلِ، وتُوفِّي يومَ الإثْنَيْنِ لاثْنتَيْ عَشَرَةَ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى لإحْدَى عَشَرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِن الهِجْرَةِ، وَهُوَ ابنُ سِتِّينَ سَنَةٍ، وقِيلَ: ابنُ ثَلاَثٍ وسِتِّينَ سَنَةً، وصَلَّى النَّاسُ عَلَيْهِ أَفْذَاذًا لَا يَؤُمُّهُم أَحَدٌ. وقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: اللهُ أَعْلَمُ مَا الَّذِي مَنَعَهُم مِنْ أَنْ يَجْمَعُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وقَدْ كَانُوا أَجْمَعُوا قَبْلَ دَفْنِهِ على خِلاَفَةِ أَبي بَكْرٍ (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3191)، بإسناده إلى أبي صالح مولى التؤمة عن أبي هريرة. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 3/ 305 - 306، وذكر ابن عبد البر في الإستذكار 3/ 277، بأنه مما شذَّ فيه. (¬3) اختلف العلماء في تعليل ذلك، فقيل: هو أمر تعبدي، وقيل: ليباشر كل واحد الصلاة عليه منه إليه، وقال الشافعي: ذلك لعظم أمر رسول الله - صلى عليه وسلم - وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه واحد، وصلوا عليه مرة بعد مرة، وقال ابن العربي: وقيل صلى عليه الناس أفذاذا لأنه كان آخر العهد به فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركة مقصوده، دون أن يكون فيها تابعا لغيره، ينظر: القبس 2/ 449، وتنوير الحوالك 1/ 180.

في دفن الميت، والوقوف للجنائز، وترك البكاء على الميت

في دَفْنِ المَيّتِ، والوُقُوفِ للجَنَائِزِ، وتَرْكِ البُكَاءِ على المَيِّتِ لمَّا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَوْتهِ في صِفَةِ قَبْرِهِ، هَلْ يُلْحَدُ أَم يُشَقُّ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُم في صِفَةِ ذَلِكَ عِلْمٌ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اصْطَلَحُوا على أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِم أَوَّلَ رَجُلِ مِمَّن يَحْفُر القُبُورَ عَمَل عَمِلَهُ، دَخَلَ أبو طَلَحْةَ الأَنْصَارِيُّ، وَهُو الذي كَانَ يَلْحَدُ بالمَدِينَةِ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكَانَ أَبو عُبَيْدةَ بنُ الجَرَّاحِ يَحْفِرُ القُبُورَ شِقًّا, وهَكَذا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ بِمَكَّةَ، تَشُق وَسَطَ القَبْرِ شِقًا، يُجْعَلُ فيهِ المَيِّتُ. وقالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعَيُّ: (اللَّحْدُ لَنا، والشِّقُّ لأَهْلِ الكِتَابِ) (¬1)، وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ في قِبْلَةِ القَبْرِ حَيْثُ يُوضَعُ المَيِّتُ على جَنْبِه الأَيْمَنِ، ووَجْهُهُ إلى القِبْلَةِ. * قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ: (مَا صَدَّقتُ بمَوْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى سمِعْتُ بِوَقْعِ الكَرَازِينِ) [792]، يعنِي: أنَّها لَمَّا سَمِعَت بِوَقْعِ المَحَافِرِ في الأَرْضِ حِينَ حُفِرَ قَبْرُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَتْ أَنَّهُ قدْ مَاتَ إذ يُحْفَرُ قَبْرُهُ. * [قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: أَمْرُ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ وسَعِيدِ بنِ زيدٍ أَنْ يُدْفَنَا بالبَقِيعِ لِفَضْلِ المَدِينَةِ، ولِمُجَاوَرَةِ الشُّهَداءِ في قبُورِهِم [794]. * ومَعْنَى قَوْلِ عُرْوَةَ: (مَا أُحِبُّ أَنْ أدْفَنَ بالبَقِيعِ) [795]، إنَّما قَالَ ذَلِكَ حِينَ كَثُرَ الدَّفْنُ فيهِ، وخَافَ أَنْ تُنْبَشَ لَهُ عِظَامُ رَجُلٍ صَالِحٍ، وتُكْسَرَ عِظَامُهُ، وحُرْمَةُ ¬

_ (¬1) هذا حديث مرفوع، رواه أبو داود (3208)، والترمذي (1045)، والنسائي 4/ 80، وابن ماجه (1555)، من حديث ابن عباس.

كَسْرِ عَظْمِ المَيِّتِ كَحُرْمَةِ كَسْرِه وَهُو حَيٌّ في الإثْمِ. * قَوْلُ عليِّ بنِ أَبي طَالِبٍ: "كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُومُ في الجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ" [797]، يعنِي: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُومُ إذا نَظَرَ إِلَى جِنَازَةٍ مُقْبلَةٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ فلَا يَقُومُ، وهَكَذَا حُكْمُ مَنْ مُزَ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ أَنْ يَجْلِسَ فَلَا يَقُومُ لَهَا. * قَوْلُ مَالِكٍ: "إنَّما نُهِيَ عَنِ القُعُودِ على القُبُورِ للمَذَاهِبِ" [799]، يعنِي: أَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا لِغَائِطٍ أَو بَوْلٍ، ويَنْبَغِي لِمَقَابِرِ المُسْلِمِينَ أَنْ تُصَانَ مِنَ النَّجَاسَاتِ والأَقْذَارِ، لأَنَّها دَارُ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. * في حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَتِيكِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عبدَ اللهِ بنَ ثَابتٍ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ [802]، فيهِ مِنَ الفِقْهِ: فَضْلُ عِيَادَةِ المَرْضَى، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَقِدُ أُمُورَ أَصْحَابهِ، ويَعُودُ مَرْضَاهُم، وفيهِ: إبَاحَةُ الصِّيَاحِ عندَ رَأْسِ المُغْمَى عليهِ إذا كَانَ في النَّزْعِ، لِكَي يَذْكُرَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وفِيه: إبَاحَةُ البُكَاءِ عَلَى مَنْ في النَّزْعٍ، وتَرْكُ البُكَاءِ بعدَ المَوْتِ، لِقَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَة"، وكَان - صلى الله عليه وسلم - أَفْصَحَ العَرَبِ، وذَلِكَ أَنَّهُم لَمْ يَعْرِفُوا (مَا الوُجُوبُ؟) حتَّى فَسَّرَهُ لَهُم بِقَوْلهِ: "إذا مَاتَ". * وقَوْلُهُ في تَسْمِيةِ الشُّهَدَاءِ: "وَالمَرْأةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ" [802]، قالَ مَالِكٌ: هُوَ أَنْ تَمُوتَ وَهِيَ حَامِلٌ وَوَلَدُهَا في بَطْنِهَا. وقالَ غَيْرُهُ: هُو أنْ تَمُوتَ مِنَ النِّفَاسِ. * قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: (المَيِّتُ يُعَذَّبُ ببُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ) [803]، قالَ عِيسَى: مَعْنَاهُ إذا أَمَرَهُم بالبُكَاءِ عَلَيْهِ بعدَ مَوْتهِ، لأَنَّهُ فَعَلً مَا قَدْ نَهَى عنهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. * ومَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةِ: (يَرْحَمُ اللهُ ابنَ عُمَرَ، أَمَا إنَّهُ لمْ يَكْذِبْ ولكِنَّهُ أَخْطَأ في سَمْعِهِ، إنَّما قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: المَيِّتُ يُعَذَّبُ ببُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ، في يَهُودِيَّةٍ كَانَ أَهْلُهَا يَبْكُونَ عَلَيْهَا، فقالَ: إنَّهُم لَيَبْكُونَ عَلَيْها وَإنَّها لَتُعَذَّبُ في قَبْرِهَا، ولم يَقُلْهُ في أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإسْلَامِ) [803]، وفيهِ مِنَ الفِقْه: أنَّ العَالِمَ مَتَى سَمعَ مُحَدِّثَا يُحَدِّثُ

بِحَدِيثٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومَعْنَى الحَدِيثِ خِلَافُ ظَاهِرهِ أَنَّ على العَالِمِ أَنْ يُبيَّنَ ذَلِكَ، وذَلِكَ أَن الأَحَادِيثَ على مَعَانِيهَا لَا على ظَوَاهِرِهَا. [قَالَ أَبو المُطَرّفِ]: إذا أَمَرَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ أَنْ يَبْكُوا عَلَيْهِ بعدَ مَوْتهِ فَبَكُوا، أثِمَ في ذَلِكَ ولَحِقَهُ ذَلِكَ في قَبْرِه، وأَثِمُوا في بُكَائِهِم، وإذا بَكَوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِه أَثِمُوا في ذَلِكَ، ولمْ يَأْثَمْ هُوَ.

باب الحسبة في المصيبة، إلى آخر الجنائز

بابُ الحِسْبَةِ فِي المُصِيبَةِ، إِلَى آخِرِ الجَنَائِزِ * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمُوتُ لأَحَدِ مِنَ المُسْلِمينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ" [805]، قالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ هَذِه الآيةَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} إلى قَوْلِهِ: {جِثِيًّا} [مريم: 71، 72]، قالَ: فَمَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَصَبَرَ عَلَيْهِم واحْتَسَبَهُم، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، إلَّا قَدْرَ مَا يَبُرُّ اللهُ بهِ قَسَمَهُ، وَهُوَ وُرُودُه على النَّارِ، والوُرُودُ: الجَوَازُ. وقالَ غَيْرُ مَالِكٍ: أَطْفَالُ المُسْلِمِينَ إذا مَاتُوا فَصَبرَ عَلَيْهِم آبَاؤُهُمْ واحْتَسَبُوهُم عِنْدَ اللهِ كَانُوا لَهُم [حِرْزًا] (¬1) مِنَ النَّارِ، يَسْتُرُهم اللهُ بِهِم مِنْهَا. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليُعَزِّ المُسْلِمُونَ في مَصَائِبِهم المُصِيبَةُ بِي" [810] معناهُ: مَنْ يُعَزَّى في مُصِيبَةٍ نَزَلتْ بهِ فَأَجَلَّ مِنْ مُصِيبَتِهِ مُصِيبَةُ النبيِّ عليهِ السَّلَامُ، فإذا ذَكَرَها سَهُلَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَتُهُ، وذَلِكَ أَنَّ المُصِيبَةَ بالنبيِّ أَعْظَمُ المَصَائِبِ في الدُّنيا، فإذا عَرَضَها المُصَابُ على مُصِيبَيهِ سَهُلَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَتُهُ، وهَذِه مَنْزِلَةٌ قدْ حُرِمَها أَهْلُ النَّارِ، قالَ اللهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]، فَلَمَّا اشْتَركُوا في العَذَابِ حُرِمُوا التَعَزِّي. قالَ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ: (تُقْطَعُ يَدُ النَّبَّاشِ) (¬2)، لأَنَّهُ دَخَلَ على المَيِّتِ في قَبْرِه الذي هُوَ بَيْتُهُ، وخَلَعَ أَكْفَانَهُ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضع ما يتناسب مع السياق. (¬2) بحثت عن قول علي - رضي الله عنه - فلم أعثر عليه.

وقالَ ابنُ مُزَيْنِ (¬1): إنَّما سُمِّي النَّبَّاشُ مُخْتَفِيًا، لأَنه يَخْتَفِي بِقَلْعِ أَكْفَانِ المَيِّتِ مِنْ عَلَيْهِ، فإذا أَخْرَجَ الكَفَنَ مِنَ القَبْرِ قُطِعَتْ يَدَهُ إذا سَاوَى رُبْعَ دِينَارٍ. * قُوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دُعَائهِ: "وَأَلْحِقْنِي بالرَّفِيقِ الأَعْلَى" [816]، سَألَ أَنْ يُلْحِقَهُ اللهُ بأعْلَى مَرَافِقِ الجَنَّةِ وأَحْسَنِها، وقدْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ ذُنوبَهُ، ولَكِنَّهُ دَعَا بِهَذا لِيَكُونَ دُعَاؤُهُ زِيَادَة في عِلْمِه. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلَامُ -: "إذا مَاتَ أَحَدُكم عُرِضَ عليهِ مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ" إلى آخِرِ الحَدِيثِ [818]، قالَ الفُقَهَاءُ: هذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِكِتَاب اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في آلِ فِرْعَونَ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُّوًا وعَشِيًا، فَكَذَلِكَ يُعْرَضُ على المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدُهم مِنَ الجَنَّةِ، ومَقَاعِدُ غَيْرِهِم مِنَ النَّارِ، ويَنْظُرُونَ إليها على حَسَبِ مَا سبَتقَ لَهُم في عِلْمِ اللهِ. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلَامُ -: "إنَّما نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَيْرٌ يُعَلَّقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ حتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إلى جَسَدِه يَوْمَ القِيَامَةِ" [818] قالَ عِيسىَ: مَنْ رَوَى (يُعَلَّقُ) بِفَتْحِ اللَامِ -فَمَعْنَاهُ تَأوِي إلى شَجَرةِ الجَنَّةِ، ومَنْ رَوَاهَا (يَعْلُقُ) بِرَفْعِ اللَامِ- فَمَعْنَاهُ تَرعَى في شَجَرِ الجَنَّةِ. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: ورَوَى هُزَيْلُ بنُ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قالَ؛ (أَرْوَاحُ الشُّهَداءِ في أَجْوَافِ طَيْرِ خُضْير تَرْعَى في الجَنَّةِ حيثُ شَاءَت، وأَرْوَاحُ أَوْلَادِ المُؤْمِنينَ في أَجْوَافِ عَصَافِير تَرْعَى في الجَنةِ، وتَأوِي إلى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَيما بالعَرْشِ، وإنَّ أَرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ في أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو وتَرُوحُ في النَّارِ، ذَلِكَ عَرْضُهَا، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (¬2) [غافر: 46]. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (محمد بن مزين)، وهو خطأ، وابن مزين هو يحيى بن إبراهيم بن مزين القرطبي، وتقدم مرارا، وسيأتي أيضًا. (¬2) والأثر رواه هناد بن السري في الزهد (366)، وابن أبي شيبة في المصنف 13/ 165، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 255، واللالكائي في أصول أعتقاد أهل السنة 6/ 1149 بإسنادهم هزيل بن شرحبيل به. ورواه مسلم (1887) بإسناده إلى مسروق =

[قَالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: هذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وهُزَيْلُ بنُ شُرَحْبِيلَ الذي رَوَاهُ لَيْسَ بِشَيءٍ (¬1)، والصَّحِيحُ في هذا قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما نَسَمَةُ المُؤْمِنِينَ طَيْرٌ يُعَلَّقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ حتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إلى جَسَدِه يَوْمَ القِيَامَةِ"، ولَمْ يَقُلْ: أَنَّ الأَرْوَاحَ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وقدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ على أَنَّهُ لا يَصِيرُ رُوُحُ أَحَدٍ في غَيْرِ جَسَدِه الذي خَرَجَ مِنْهُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ ابنِ آَدَمَ تَأْكُلُه الأَرْضُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، منهُ خُلِقَ، وفيهِ يُرَكَّبُ" [819]، يعنِي بِعَجْبِ الذَّنَبِ: العَظْمَ الصَّغِيرِ الذي يَكُونُ في آخِرِ فِقَارِ الصُّلْبِ، منهُ ابْتَدأَ خَلْقُ آدَمَ، وفيهِ يُرَكَّبُ إذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةَ النُّشُورِ. وقالَ ابنُ حَبيبٍ: حَرَّمَ اللهُ على الأَرْضِ أَنْ تَأكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبيَاءِ، وسَائِرُ الخَلْقِ تَأكُلُهُم الأرْضُ، ئُمَّ يُبْعَثُونَ في أَجْسَادِهِم التي كَانَتْ في الدُّنيَا، فهِي تَنَالُ نَعِيمَ الجَنَّةِ لِمَنْ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهِي تُحْرَقُ بالنَّار، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. * قَوْلُهُ: "إذا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وإذا كَرِهَ عَبْدِي لِقَائي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ" [821] وإِنَّما هذَا عندَ فِرَاقِ الدُّنيا والمُعَاينَةِ إلى أَوَّلِ أَسْبَابِ الآخِرَةِ، فإذا كَانَ عَمَلُ العَبْدِ صَالِحًا، ونَظَرَ عندَ مَوْتهِ إلى ثَوَابِ عَمَلِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، فَأحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وإذا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَجْلِ مَا يَتَّقِيهِ مِنَ المُجَازَاتِ عَلَيْهِ، فَكَرِهَ اللهُ عندَ ذَلِكَ لِقَاءَهُ. * حَدِيثُ الرَّجُلِ الذي لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَة قَطُّ حتَّى ماتَ [822]، رَوَاهُ حَمَّادُ بنُ ¬

_ = عن ابن مسعود به في أرواح الشهداء وأنها في جوف طير خضر، وهذه فضيلة خاصة باروح الشهداء، وينظر: التمهيد 11/ 64. (¬1) ما ذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من نقله عن بعض شيوخه في تضعيف هزيل غير سديد، فإن هذا الراوي ثقة من المخضرمين، روى له البخاري وأصحاب السنن وغيرهم، ينظر: تهذيب الكمال 30/ 172.

زَيْدٍ، وقالَ فِيهِ: (لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ إلَّا التَّوْحِيدَ) (¬1)، ولَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ في حَدِيثهِ التَّوْحِيدَ. * وقَوْلُهُ: "لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِبنِّي) [822]، يُرْوَى هذا الحَرْفُ بالتَخْفِيفِ، و (قَدَّرَ) بالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ رَوَاهُ بالتَّخْفِيفِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ هذَا الرَّجُلَ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَهِيَ إحْيَاءُ المَوْتَى، وَهِيَ بِدْعَةٌ عَظِيمَةٍ، ومَنْ رَوَاهُ (قَدَّرَ) بالتَشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ: لَئِنْ ضَيَّقَ اللهُ عليَّ ونَاقَشَنِي الحِسَابَ لَيُعَذِبَّنِي عَذَابًا شَدِيدًا، وهذِه الرِّوَايةُ تَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَجْهَلْ إحْيَاءَ اللهِ المَوْتَى، ولكِنَّهُ ابْتَدَع بِدْعَةً عَظِيمَةً، وِهِي إحْرَاقُهُ نَفْسُهُ، ثُمَّ إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تَفَضَّلَ عَلَيْهِ وغَفَرَ لَهُ بِخَشْيَتِه للهِ، وهذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كَانَ مُوحِّدًا مُقِرَّا باللهِ. وقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ: إنَّما غَفَرَ اللهُ لِهَذا الرَّجُلِ مِنْ أَجْلِ تَوْبَتِه التِّي تَابَهَا. وقَالَتْ فِرْقَةٌ آخَرَوُنَ مِنْهُم: إنَّما غَفَرَ اللهُ لَهُ بأَصْلِ تَوْحِيدِه الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ عَمَلٌ. وقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى تَفَضَّلَ على هذَا الرَّجُلِ فَغَفَر لَهُ، كمَا قالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 - 116]، فَهَذِه الآيةُ تَأوِيلُ مَا تَأَوَّلَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ في هذَا الحَدِيثِ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ" إلى آخِرِ الحَدِيثِ [823]، قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوَلَدُ على فِطْرَةِ الإسْلَامِ، وَهِي المَعْرِفَةُ باللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فَأَقَرُّوا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بالرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من حديث حماد بن زيد، وإنما رواه أحمد 1/ 398، بإسناده إلى أبي رافع عن أبي هريرة به. وقال ابن عبد البر في التمهيد 18/ 40: هذه اللفظة لم تصح من جهة النقل، لكنها صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجهها ... إلخ.

صَرَفَهُم في صُلْبِ آَدَمَ بعدَ أَنْ عَرَفُوا أَنَّهُ رَبّهُم، فَكُلّ مَوْلُودٍ إنَّما يُوَلَدُ على تِلْكَ المَعْرِفَةِ، وعلى ذَلِكَ الإقْرَارِ. وقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: "فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانهِ" يعنِي: يَجْعَلَانِه نَصْرَانِيَّاً أو يَهُودِيَّا إنْ كَانَا يَهُودِيَيْنِ أَو نَصْرَانِيَيْنِ. قالَ مَالِكٌ: ولَنْ يَقْدِرُوا على ذَلِكَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَبَاهُمَا على ذَلِكَ. قَوْلُهُ: "كَمَا تُنَافيُ الإبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ" يعْنِي: بَهِيمَةً جَمَعَتْ وَلَدَهَا في بَطْنِهَا. وقَوْلُهُ: "هَلْ تَحِسُّ مِنْ جَدْعَاءَ؟ " يَعْنِي: هَلْ تَرَى فِيهِنَّ مَجْدُوعًا؟ والجَدْعُ: النُّقْصَانُ حتَّى يَجْدَعَهُ صَاحِبُهُ، فَكَذَلِكَ المَوْلُودُ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسْلَامِ حتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهَا أَبَوَاهُ. قِيلَ لِمَالِكٍ: إنَّ أَهْلَ البدَعِ يَحْتَجّونَ عَلَيْنَا بهذَا الحَدِيثِ يَقُولُونَ: إنَّ مَعَاصِي العِبَادِ لَيْسَتْ مَقْدُورَة للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: "فأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانهِ أَو يُنَصِّرَانِهِ" قالَ مَالِكٌ: احْتَجُّوا عَلَيْهِم بآخِرِ الحَدِيثِ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" يعنِي: أنَّ هذَا كُلَّهُ قدْ قَضَى اللهُ بهِ وعَلِمَهُ، ولا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألونَ (¬1). * قَوْلُهُ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَمُرَّ الرَّجُلِ بقَبْرِ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي مَكَانَهُ" [824] مَعْنَاهُ: أنَّ الحَيَّ يَتَمَنَّى المَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الحَالِ، وتَغْيِيرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيَتَمنَّى الرَّجُلُ الصَّالِحُ عندَ ذَلِكَ المَوْتَ، طَمَعًا مِنْهُ في الرَّاحَةِ مِمَّا يَرَاهُ فَلَا يَقْدِرُ على تَغيِيرِه. * قَوْلُهُ - عليهِ السَّلَامُ - لِعُثْمَانَ بنِ مَظْعُونَ حِينَ مَاتَ: "ذَهَبْتَ ولَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بشَيءٍ" [826]، يعنِي: خَرَجْتَ مِنَ الدُّنيا "ولَمْ تَلَبَّسْ مِنْهَا بشَيءٍ"، فَغَبَطَهُ النبيُّ بَذَلِكَ، فتَرْكُ الدُّنيا والأَخْذُ مِنْهَا بالبُلْغَةِ خَيْرٌ مِنَ الإسْتِكثَارِ مِنْهَا، والرَّغْبةِ فِيهَا، ¬

_ (¬1) نقله بنحوه الجوهري في مسند الموطأ ص 445.

وقَدْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "الزُّهْدُ في الدُّنيا يُرِيحُ القَلْبَ والبَدَنَ، والرَّغْبَةُ في الدُّنيا تُورِث الهَمَّ والحَزَنَ" (¬1). * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إني بُعِثْتُ لأَهْلِ البَقِيعِ لأُصَلِّي عَلَيْهِم" [827] يعنِي: بُعِثْتُ لأَهْلِ القُبُورِ لِنَدْعُو لَهُم. قالَ أَبو مُحَمَّدِ: كَانَ هذَا قَبْلَ وَفَاتهِ بِخَمْسِ لَيَالِي كالمُوَدِّعِ للأَحْيَاءِ، وفي هذَا دَلِيلٌ على أَنَّ الدُّعَاءَ الصَّالِحَ يَلْحَقُ المَوْتَى في قُبُورِهِم، وَهُو مِنَ العَمَلِ الذي يَنْتَفِعُ بهِ المَيّتُ بعدَ مَوْتهِ في قَبْرِه. * قَوْلُ أَبي هُرَيْرَةَ: (أَسْرِعُوا بجَنَائِزِكُم) [828]، يعنِي: أَسْرِعُوا بالمَوْتَى إلى القُبُورِ، فإِمَّا أَنْ تَقْدِمُونَهُم لِخَيْرِ أَعْمَالِهِم، أَو تَضَعُوا عَنْ رِقَابِكُم ثُقْلَ حِمْلَانِهِم إنْ لم تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ يَقْدِمُونَ عَلَيْهَا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ النَّعْشَ الذي يُعْمَلُ على المَيْتَةِ، ويُرْمَى عَلَيْهَا في نَعْشِها مَا يَسْتُرُها، وكَذَلِكَ عندَ إلحَادِهَا في قَبْرِهَا. قالَ مَالِكٌ: أَوَّلَ مَنْ صُنِعَ ذَلِكَ بِهَا زينَبُ بنتُ جَحْشٍ حينَ مَاتَتْ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ قالَ للتِي صَنَعَتْهُ: (سَتَرْتيهَا سَتَرَكِ اللهُ مِنْ ذُنُوبِكِ) (¬2). * * * تَم كِتَابُ الجَنَائِزِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَتْلُوهُ كِتَابُ النُّذُورِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى * * * ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في شعب الإيمان 7/ 347، من حديث طاووس مرسلا، ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1343)، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) رواه بنحوه البيهقي في السنن 7/ 71، وابن عساكر في تاريخ دمشق 2/ 182.

تفسير كتاب النذور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيما تَفْسِيرُ كِتَابِ النُّذُورِ حدَّثنا أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ، قالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ وَضَّأْح، قالَ: حدَّثنا أَبو بَكْرِ بنُ أَبي شَيْبَةَ، قالَ: حدَّثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُرَّةَ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ [عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ] (¬1)، قالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنِ النُّذُورِ، وقالَ: لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ بهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬2). سأَلتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ هذا الحَدِيثِ، فقالَ لِي: مَعْنَاهُ أَنْ يَكونَ الإنْسَانُ في أَمْرِ شِدَّةٍ فَيَقُولُ: إنِ اللهُ أَنْجَانِي مِنْ هذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا وكَذَا، فهذَا الذي يُسْتَخْرَجُ بهِ مِنَ البَخِيلِ، وأَمَّا نَذْرُ التَّطُوعِ فقدْ أَثْنَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- على المُوفِي بِنَذْرِهِ، فقالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]. * قالَ عِيسَى: كَانَ نَذْرُ أُمِّ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ الذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقْضِيه بعدَ مَوْتِها [1710]، فِيمَا أُرَاهُ - واللهُ أَعْلَمُ - عِتْقَأ أو إطْعَامًا، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِوَفَائهِ عَنْهَا، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (عمرو بن العاصي) وهو خطأ أو وهم من المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، لأن الحديث هو حديث عبد الله بن عمر وليس عبد الله بن عمرو، كما أن عبد الله بن مرة لا يعرف أنه يروي عن ابن عمرو، وإنما يروي عن ابن عمر، ينظر: تهذيب الكمال 16/ 114. (¬2) رواه البخاري (6234) و (6315)، ومسلم (1639)، والنسائي 7/ 15، وأحمد 2/ 61، و 86، وابن حبان (4377)، كلهم بإسنادهم عن منصور بن المعتمر به.

ولمْ يَكُنْ صَوْمًا ولَا صَلَاةً، إذْ لا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، ولَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. بِظَاهِرِ حَدِيثِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ أَخَذَ مَنْ أَجَازَ كَفَّارَةَ الرَّجُلِ عَنْ غَيْرِه إذا كَفَّرَ عنهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ جَائِزًا قالَ: إنَّهُ لمَّا لمْ يَكُنْ للمُكَفِّرِ عنهُ نِيَّةٌ في تِلْكَ الكَفَّارَةِ لمْ تُجْزَ عَنْهُ. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: أَنْكَرَ مَالِكٌ الأَحَادِيثَ التي رُوِيتْ في المَشِي إلى مَسْجِدِ قُبَاءَ، ولَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ يُلْزِمُ المَشِي إلَّا إلى مَسْجِدِ مَكَّةَ خَاصَّةً [1711]. أقالَ أبو المُطَرِّفِ،: إنَّمَا أَدْخَلَ مَالِكٌ هذَا في المُوطَّأ يُؤَكِّدُ بهِ المَشْيَ إلى مَكَّةَ، لأنَّهُ إذ أَوْجَبَهُ ابنُ عبَّاسٍ على مَنْ جَعَلَتْ على نَفْسِها مَشْيًا إلى مَسْجِدِ قُبَاءَ أَنْ يَمْشِي كَانَ الوَفَاءُ بالمَشِي أَوْجَبَ على مَنْ جَعَلَهُ على نَفْسِهِ إلى مَكَّةَ. * قالَ مَالِكٌ: إنِّمَا أَوْجَبَ العُلَمَاءُ على عبدِ اللهِ بنِ أَبي حَبيبَةَ المَشِي إلى مَكَّةَ حِينَ أَعْطَى جِرْوَا، وقالَ: (عَلَى المَشِي إلى مَكَةَ) [1713]، مِنْ أَجلِ أَنَّهُ كَانَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ بَالِغًا في سِنِّه، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ مَا لَزِمَهُ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: يُقَالُ لِكُلِّ ثَمَرَةٍ مُسْتَطِيلَةٍ كالقِثَّاءِ والقَرْعِ وشِبْهِها أَجْرَاءُ، والوَاحِدُ مِنْهَا جِرْو (¬1). وقالَ عِيسَى: مَنْ حَلَفَ بالمَشِي إلى مَكَّةَ ثُمَّ حَنَثَ فإنه يَخْرُجُ مَاشِيًا مِنَ المَوْضِع الذي حَلَفَ فيهِ فَيَمْشِي، حتَى يَنتهِي إلى مَكَّةَ فَيَدْخُلَهَا بِحَجَّةٍ أَو بِعُمْرَةٍ، إلَّا أَنْ يَكونَ نَوَى أَحَدُهُما حينَ حَلَفَ، فَيُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِهِ بالذي نَوَى، ويُتِمَّهُ على سُنَّتِهِ، فإنْ عَجَزَ عَنِ المَشْي في بَعْضِ طَرِيقهِ، رَكِبَ حتَّى يأتِي مَكَّةَ، فَيُتِمَّ مَا أَحْرَمَ بهِ، إمَّا حَجَّةً وإمَّا عُمْرَةً. * وقالَ عبدُ اللهِ بنُ عَمَرَ: (وعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ مَرَّةً ثَانِيَةً إلى مَكَّةَ فَيَمْشِي) [1715]، إمَّا كَرُكُوبِهِ التِّي رَكِبَها أَوَّلًا حِينَ عَجَزَ عَنِ المَشِي، ويَرْكَبُ مَا مَشَى. ¬

_ (¬1) الجِرو -بكسر الجيم، وفيل بفتحها- الصغير من كل شيء، ويطلق -كما قال المصنف- لما استدار من الثمار كالقثاء ونحوه، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 119.

وقالَ ابنُ عبَّاس: (إذا عَجَزَ عَنِ المَشِي فإنَّه يَرْكَبُ) (¬1)، فاذا أَكْمَلَ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَج أَو عُمْرَةٍ كَانَ عَلَيْهِ الهَدِي، لِعَجْزِهِ عَنِ المَشِي ورُكُوبهِ، ولا عَوْدَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً إلى مَكَّةَ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: وجَمَعَ مَالِكٌ بينَ قَوْلِ ابنِ عُمَرَ وعبدِ اللهِ بنِ عَبَّاس في هذه المَسْأَلةِ، فَأَؤجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ ثَانِيَةً بِقَوْلِ ابنِ عُمَرَ، وأَوْجَبَ عليهِ الهَدِي بِقَوْلِ ابنِ عبَّاسٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فَرَّقَ مَشْيَهُ، ولَمْ يَسْتكمِلْهُ في سَفَرٍ وَاحِدٍ. وقَدْ ذَكَرَ أبو الرَّبِيعٍ المَصْرِيُّ (¬2) أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا: حينَ عَجَزَ في بَعْضِ طَرِيقِه إلى مَكَّةَ عَنِ المَشِي، فرَكِبَ حتَّى أَتَى مَكَّةَ، ثُمَّ أَهْدَى عَنْ رُكُوبهِ وتَرْكِهِ المَشِي، فقالَ لَهُ مَالِكٌ: إنَّ مَوْضِعَكَ لَبَعِيدٍ، قَدْ أَجْزَأَ عَنْكَ مَشْيُكَ، ولمْ يَرَ عليهِ عَوْدَةً. والمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ العَوْدَةَ، وُيهْدِي هَدْيًا بِمَكَّةَ، وأَقَلُّهُ شَاةٌ. * * * ¬

_ (¬1) رواه سحنون في المدونة 3/ 151 (¬2) هو سليمان بن بُرْد بن نجيح التُّجيبي مولاهم، الإِمام القاضي الفقيه، روى عن مالك الموطأ وغيره، وكان من كبار الفقهاء في مصر، توفي سنة (210)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 552.

باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله -عز وجل-، ولغو اليمين والكفارة في ذلك

بابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النُّذُورِ فِي مَعْصِيةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ولَغْوِ اليَمِينِ والكَفَّارَةِ في ذَلِكَ قالَ مَالِكٌ: مَنْ قَالَ: (أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي) [1725]، فَإنْ نَوَى وَجْهَ مَا يُنحَرُ مِنَ الهَدِي، فَعَلَيهِ هَدِي بَدَنةً، فإنْ لم يَجِدْ فَتقَرةً، أو شَاةً إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وإنْ لَمْ يَنْوِ وَجْهَ مَا يُقَرَّبُ بهِ إلى اللهِ فلَا شَيءَ عَلَيْهِ. [قالَ أبو المُطَرًفِ] إنَّما قَالَ هذَا مَالِكٌ لأَنَّهُ إذا نَوَى بِقَوْلهِ: (أنا أَنْحَرُ ابْنِي) القُرْبَةَ إلى اللهِ تَعَالَى فقدْ نَوَى طَاعَة، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَفدِي عنهُ، وإذا أَرَادَ نَحْرَ ابْنِهِ خَاصَّةً فقدْ نَوَى مَعْصِيَةً، ولا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، فَلِهذَا لم تَكُنْ عليهِ كَفَّارَةٌ. " [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: مَعْنَى فُتيَا ابنِ عَبَّاسٍ المَرْأَةَ التَّي سَأَلتْهُ عَنْ نَذْرِهَا نَحْرَ ابْنِهَا فَأَمَرهَا بالكَفَّارَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}، إلى قَوْلهِ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [1725] يقولُ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمَّا أَوْجَبَ على المُتَظَاهِرُ الكَفَّارَةَ، وَهوَ قَد قَالَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا، كَذَلِكَ تَجِبُ الكَفَّارَةُ على هَذِه المَرْأَةِ بِقَوْلها: (أَنا أَنْحَرُ ابْنِي)، وكَفَّارَةُ مَنْ نَذَرَ بِنَحْرِ ابْنِهِ عندَ ابنِ عَبَّاسٍ كفَّارَةُ يَمِيني باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. والذِي يَقُولُ بهِ مَالِكٌ في هذِه المَسْأَلِةِ أَنَّهَا إذا لَمْ تَنوِ وَجْهً مَا تَنْحَرُ مِنَ الهَدِي أَلَّا شَيْءَ عَلَيهَا، إلَّا أَنْ تَقُولَ: (أَنَا أَنْحَر ابْنِي عندَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ) في يَمِينٍ، ثم تَحْنَثُ، فلَا بُدَّ لَفي مِنَ الهَدِي، وهَدْيُها بَدَنَةٌ، أو بَقَرَةٌ، أَو كَبْشٌ، يُذْبَحُ بِمَكَّةَ، ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على المَسَاكِينِ. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثٍ ابنِ المُبَارَكٍ، عَنْ يُونسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي

سَلَمةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللهِ، وكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" (¬1)، فقالَ لِي: هذَا حَدِيِثٌ لَمْ يَسْمَعْهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَبي سَلَمَةَ، وإنَّمَا يَرْوِيهِ الزُّهْرِيُّ عَن سُلَيْمَانَ بنِ أَرْقَمَ، عَنْ يَحْيىَ بنِ أَبي كَثِيرٍ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَن عَائِشَةَ، وسُلَيْمَانُ بنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ، ولَا كَفَّارَةَ في نَذْرِ مَعْصِيَةٍ. قالَ أَبو المُطَرِّف (¬2): حدَّثنا أَبو جَعْفرِ بنِ عَوْنِ اللهِ، قالَ: حدَّثنا ابن الأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبي دَاوُدَ، قالَ: سعمِتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: (أَفْسَدُوا عَلَيْنَا هَذَا الحَدِيثَ) (¬3). [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: إنَّما قَالَهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَل لأَنَّ ابنَ بُكَيرٍ رَوَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ عبدِ المَلِكِ الأَيْلِيِّ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قالتْ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نًذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللهَ فَلَا يَعْصِهِ" (¬4)، وهذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَيْسَ فيهِ مَا ذَكَرَ سُلَيمَانُ بنُ أَرْقَمَ مِنَ الكَفَّارَةِ في نَذْرِ المَعْصِيَةِ، ولم يَرْوِ يحيى بنُ يَحْيىَ حَدِيثَ طَلْحَةَ هذا، [أسَقَطَهُ] (¬5) مِنْ كِتَابهِ. * [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: وقَدْ أَسْقَطَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكَفَّارَةَ عَمَّنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ في نَذْرِهِ مَا "يَشُقُّ عَليه، فَأَمَرَ الذِي نَذَرَ أَنْ يَمْشِي إِلى مَكَّةَ حَافِيًا أَنْ يَنْتَعِلَ، ويَتَهَادَى في مَشْيهِ إلى مَكَّةَ، ولَمْ يَأمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ، وأَمَّا الذي نَذَرَ أَنْ يَحْمِلَ على [عَاتِقِهِ] (¬6) خَشَبَةً إلى مَكَّةَ أَنْ يَطرَحَها عَنْ نَفْسِهِ، ولَمْ يَأمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ، ورَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3290)، والنسائي 7/ 26، وابن ماجة (2124)، بإسنادهم إلى ابن المبارك به. (¬2) جاء في الأصل: (قال وحدثنا أبو المطرف قال: حدثنا أبو جعفر ... إلخ)، وفد حذفت مالا يتناسب مع السياق. (¬3) سنن أبي داود (3291). (¬4) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (139 ب) نسخة تركيا، ورواه البخاري (6318)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي 7/ 17، بإسنادهم إلى مالك به. (¬5) في الأصل: (سقطه)، وما وضمعته هو المناسب للسياق. (¬6) جاء في الأمل: (عتقه) وهو خطأ، والعانق: ما بين المنكب والعنق، ينظر: المعجم الوسيط 2/ 582.

فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: "نَذَرَ أَنْ يَقُومَ ولَا يَقْعُدَ ولا يَسْتَظِل ولَا يَتكلَّمَ ويَصُومَ، فقالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ويَجْلِسْ ويَسْتَظِلَّ ولَيُتِمَّ صَوْمَهُ" [1723]، فَأَمَرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِطَرْحِ المَشَقَّةِ عَنْ نَفْسِهِ التِّي لَيْسَتْ بِطَاعَةٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وأَنْ يَفِي بِمَا فيهِ للهِ طَاعَةٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفارَةْ، وهذَا كُلُّهُ مِمَّا يُضْعِفُ حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بنِ أَرْقَمَ في إيجَابِ الكَفَّارَةِ في نَذْرِ المَعْصِيَةِ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ عَائِشَةَ: (لَغْوُ اليَمِينِ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ في كَلَامِهِ: لَا وَاللهِ، وبَلَا وَاللهِ) [1729]، تَعْنِي: الذِي يَلْفِظُ بهَذا في دَرَجِ كَلَامهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ الحِلْفَ باللهِ، وهذَا مَوْقُوفٌ على عَائِشَةَ في المُوطَّأ، ورَوَاهُ أَبو دَاوُدَ، عَنْ [حُمَيْدِ] (¬1) بنِ مَسْعَدةَ، عَنْ حَسَّانَ بنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اللَّغْوُ هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ: كَلَّا واللهِ، وبَلَا وَاللهِ" (¬2). ورَوَى هذَا الحَدِيثَ دَاوُدُ بنُ أَبي الفُرَاتِ، مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ مَوْقُوفًا على عَائِشَةَ، لَمْ يُذْكَرْ فيهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فَاخْتَلَفَتْ رِوَايةُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ فيهِ، مَرَّةً أَوْقَفَهُ على عَائِشَةَ وجَعَلَهُ مِنْ قَوْلهَا، ومَرَّة حَدَّثَ بهِ عَنْهَا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والصَّحِيحُ فيهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ. وقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ إبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ يَقْلِبُ الأَحَادِيثَ على وَجْهِ الغَلَطِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحَا، ولَغْوُ اليَمِينِ هُوَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ: أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ على الشَّيءِ وَهُوَ يُوقِنُ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فهَذا لا كَفَّارَةَ فيهِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، لأنَّةُ لَمْ يَقْصِد الحِنْثَ، ولَا تَعَمُّدَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (أحمد)، وهو خطأ. (¬2) سنن أبي داود (3254)، ورواه ابن حبان (4333) عن الحسن بن سفيان عن حميد بن مسعدة به. (¬3) أشار أبو داود إلى هذه المتابعة بعد روايته للحديث المسند المتقدم.

الكَذِبِ، وقَدْ تَجَاوَزَ اللهُ لِهَذِه الأُمَّةِ عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ، وهَذَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الخَطَأ الذي تَجَاوَزَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- العِبَادَ عَنْهُ. حدَّثنا أَبو جَعْفَرٍ، قالَ: حدَّثنا ابنُ الأَعْرَابِيِّ، قالَ: حدَّثنا أَبو دَاوُدَ، قالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ فقَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَقَدِ اسْتَثْنَى" (¬1). * أَوْقَفَ مَالِكٌ هذَا الحَدِيثَ في المُوَطَّأ على ابنِ عُمَرَ، ولَمْ يَبْلُغْ بهِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - * والإسْتِثْنَاءُ في اليَمِينِ لا يَكُونُ إلَّا مُتَّصِلًا باليَمِينِ في كَلَامٍ وَاحِدٍ، فإذا قَطَعَ الحَالِفُ كَلَامَهُ بينَ اليَمِينِ والإسْتِثْنَاءِ لَمْ يَنتفِعْ باسْتِثْنَائهِ، وَلَزِمَهُ الحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ إنْ حَنَثَ، وليسَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: (إنَّ للحَالِفِ أَنْ يَسْتَثْنِي في يَمِينِه ولَوْ بعدَ شَهْرٍ بشيءٍ)، ويَرُدُّ هذَا القَوْلَ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفَّرْ عَنْ يَمِينِه، ولْيَفْعَلِ الذي هُوَ خَيْرٌ" [1738]، فَلَوْ كَانَ للحَالِفِ مُبَاحٌ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ اللهُ وَلَوْ إلى شَهْرٍ، لَسَقَطَتِ الكَفَّارَةُ المَذْكُورَةُ في هذَا الحَدِيثِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّز عَنْ يَمِينِه، ولْيَفْعَلِ الذِي هُوَ خَيْرٌ" وَلَمْ يَقُلْ: فَليَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ، وَلْيَفْعَلْ. قالَ عِيسَى: ومَعْنَى هذَا الحَدِيثِ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُسْلِفَ أَحَدًا شَيْئًا، ولَا يُكَلِّمَ فُلَانًا، فهَذَا ومَا أَشْبَهَهُ لِمَنْ حَلَفَ على ذَلِكَ باللهِ أَنْ يَحْنَثَ في يَمِينِه، ويَفْعَلَ الذِي حَلَفَ عَلَيْهِ أَلَّا يَفْعَلَهُ، ويُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِه، لأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ للهِ، وللرَّجُلِ أنْ يُكَفِّرَ في اليَمِينِ باللهِ قَبْلَ الحِنْثِ وبَعْدَهُ، لأَنَّ هذَا الحَدِيثَ رُوِي بِلَفْظَيْنِ، قِيلَ: "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينهِ، وَلْيَفْعَلِ الذِي هُوَ خَيْرٌ"، ورُوي: "فَلْيَفْعَلِ الذِي هُوَ خَيْرٌ، ويُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِه"، وأَمَّا غَيْرُ اليَمِينِ باللهِ فَلَا يُكَفِّرُ الحَالِفُ بهِ إلَّا بعدَ الحِنْثِ. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3261)، ورواه أحمد 2/ 10 عن سفيان بن عيينة به.

قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: الأَيْمَانُ باللهِ أَرْبَعَةٌ: فَيَمِينَانِ مُكَفِّرَانِ، ويَمَيِنَانِ غَيْرُ مُكَفِّرَيْنِ، فالمُكَفِّرانِ قَوْلُ الرَّجُلِ: واللهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ يَبْدَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: واللهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ لَا يَفْعَلُ، فَعَلَيْهِ الكَفَّارَةُ. وأَمَّا غَيْرُ المُكَفِّرَيْنِ فَلَغُو اليَمِينِ، فَهَذَا لا كَفَّارَةَ فيهِ ولَا إثْمَ. والرَّابِعُ هُوَ القَاصِدُ بِيَمِينِه إلى الكَذِبِ، والذِي يَحْلِفُ وَهُو شَاك في الذِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، فَهَذا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ كَفَّارَة، لأَنَّ مَنْ فَعَلَ هذَا فَقَدْ قَصَدَ الكَذِبَ، واجْتَرأ على اللهِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77]. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: الحِنْثُ يَقَعُ في اليَمِينِ باليَمِينِ بِأَقَلِّ الوُجُوهِ، والبِرُّ في اليَمِينِ لا يَكُونُ إلَّا بأَكْمَلِ الوُجُوهِ، وذَلِكَ لَو أَنَّ رَجُلًا قالَ: واللهِ لا أَكَلْتُ هذَا الرَّغِيفَ، فأَكَلَ بَعْضَهُ فَهُوَ حَانِثٌ، والدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذَا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، فإذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ ثم طَلَّقَهَا قَبْلَ دُخُولهِ بِهَا، فقَدْ حَرُمَتْ على آبَائهِ وأَبْنَائهِ بِنَفْسِ العَقْدِ، وَهُوَ أَقَلُّ وُجُوهُ النَّكَاحِ، فَكذَلِكَ يَقَعُ الحِنْثُ في اليَمِينِ بِأَقَلِّ الوُجُوهِ، ولَمَّا لَمْ يُبِحِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُطَلَّقَةَ المَبْتُوتَةَ الذي طَلَّقَهَا إلَّا بِوَطْءِ صَحِيع كَامِل مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي عَلِمَ أَنَّ البَرَاءَ لا يَكُونُ إلَّا بِأَكْمَلِ الوُجُوهِ. قالَ عِيسَى: نَذْرُ المَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ جَائِزٌ عَلَيْهَا، ويَلْزَمُهَا مَا نَذَرَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَن يَضُرَّ ذَلِكَ بِزَوْجِهَا، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، مِثْل أَنْ تَنْذِرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَو شَهْرَيْنِ، أو تَنْذِرَ حَجَّةَ، فَيَقُولُ زَوْجُهَا: إنَ هذَا مِمَّا يَضُرُّ بِي، ولَا صَبْرَ لِي عَنِ النِّسَاءِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، ويَكُونُ نَذْرُهَا بَاقِيًا عَلَيْهَا، حتَّى تَجِدِ السَّبِيلَ إلى الوَفَاءِ به، ولَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ مِنْهَا شَيْئًا على أنْ أَبَاحَ لَهَا فِعْلَ مَا نَذَرَتْهُ، لَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَ مِنْهَا، ويَمْضِي عَلَيْهِ إذْنُهُ لَهَا في فِعْلِ ذَلِكَ، لأَنَّهُ تَبيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُضِرًّا بِهَا في مَنْعِهِ إيَّاهَا مِنَ الوَفَاءِ بِمَا كَانَتْ نَذَرَتْهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهَا. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: مَنْ حَلَفَ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَو بِشَيء مِنْ أَسْمَائهِ، أو

صِفَاتهِ، ثُمَّ حَنَثَ، كَانَ مُخَيَّرًا في كَفَّارَةِ يَمِينِه بينَ الكِسْوَةِ، والعِتْقِ، والإطْعَامِ، فالإطْعَامُ هُوَ أَنْ لُطْعِمَ المُكَفِّرُ عَشَرةَ مَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِمُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وُيسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَو زَادَ على المُدِّ ثُلُثَ مُدٍّ، أو نِصْفَ مُدٍّ، وإنْ كَفَّرَ بالكِسْوَةِ كَسَى المَسَاكِينَ العَشَرَةِ، فإنْ كَانُوا رِجَالًا كَسَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم قَمِيصًا، وإنْ كُنَّ نِسَاءً كَسَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَمِيصًا ومَقْنَعَةً تَسْتُرُ بِها شَعْرَهَا، وتَكْسُوا الصِّغَارَ مِثْلَ كِسْوَةِ الكِبَارِ سَوَاءٌ، وإنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبةً مُؤْمِنَة لَيْسَ فِيهَا شَرَكٌ، ولا عِتَاقَةٌ، ولَا تَدْبِيرٌ، ولا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ حتَّى لا يَجِدَ إلَّا قُوتَهُ، وذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ بعدَ تَمَامِ مَا يُكَفِّرُ به عَنْ يَمِينِه، وَهُوَ عَشَرَةُ أَمْدَادٍ مِنْ طَعَامٍ مَا يَقُوتُ بهِ نَفْسَهُ وعِيَالَهُ إن كَان لَهُ عِيَالٌ يَوْمًا وَاحِدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ في بَلَدٍ يَخَافُ على نَفسِهِ الجُوعَ، ولَا يَجِدُ مَنْ يَعْطِفُ عَلَيْهِ، فَمُبَاحٌ أَنْ يَصُومَ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فإنْ فَرَّقَ صَوْمَها أَجْزَأَهُ، وإنَّما هذَا في اليَمِينِ باللهِ وَحْدَهَا. سَألْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَمَّنْ حَلَفَ، فقالَ في يَمِينِهِ: واللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ، المَلِكِ القُدُّوسِ إنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذا، ثُمَّ فَعَلَهُ، فقالَ: قالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وإذا حَلَفَ فقَالَ: وقُدْرَةُ اللهِ، وعَظَمَةُ اللهِ، وكِبْرِيَاءُ اللهِ إنْ فَعَلْتُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ أن عَلَيْهِ ثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ. فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: مَنْ قَالَ: وَاللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ، المَلِكِ القُدُّوسِ، فإِنَّما حَلَفَ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحْدَهُ، ومَنْ قَالَ: وَقُدْرَةُ اللهِ، وعَظَمَتُهُ، وكِبْرِيَاءُ اللهِ، فَقَدْ حَلَفَ بأَشْيَاءَ ثَلَاثَةٍ، لأَنَّ القُدْرَةَ شَيٌ، والعَظَمَةُ شَيءٌ، والكِبْرِياءُ شَيءٌ، ولَكِنَّهَا أَشْيَاءُ لَيْسَتْ مُتَغَايِرَةً، ولَا مُتَبَايِنَةً، ولَا مُنْفَصِلَةً مِنْهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلِذَلِكَ [مَنْ] (¬1) حَلَفَ بِثَلَاثةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ حَنَثَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، ولِهَذا قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَالَ: عَلَى عَهْدُ اللهِ ومِيثَاقُهُ وكَفَالتهُ إنْ فَعَلْتُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، لأَنَّ العَهْدَ شَيءٌ، [والمِيثَاقَ شَيءٌ] (¬2)، والكَفَالَةُ شَيءٌ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة ضرورية للسياق. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

* [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: كَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بأَبيهِ [1749]، مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِشَيءٍ فإنَّمَا يَقْصُدُ إلى تَعْظِيمِه، ولَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَظَّمَ غَيْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وفي اليَمِينِ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- جُعِلَتِ الكَفَّارَةُ. * قَوْلُ النبيِّ لأَبي لُبَابَةَ حِينَ هَمَّ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ مَالِهِ كُلِّه ويَتَصَدَّقَ بهِ، فَقَالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُلُثُ" [1751]، إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتْرُكَ نَفْسَهُ عَدِيمًا، فَرُبَّمَا اضْطَرَّ إلى مَسْأَلةِ النَّاسِ، ومِنْ هَذَا الحَدِيثِ قالَ مَالِكٌ: فِيمَنْ قَالَ: مَالِي في المَسَاكِينِ، أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ (¬1). * [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: قالَ مَالِكٌ: ومَنْ قَالَ: مَالِي في رِتَاجِ الكَعْبَةِ، أَنَّ عَلَيْهِ كَفارَةُ يَمِينٍ (¬2)، نَحْوَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ في المُوطَّأ [1752]. وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ هَذه القَوْلَةِ، وقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيءٌ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: والرِّتَاجُ هُوَ البَابُ. قالَ: وكَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ في الذي يَقُولُ: مَالِي في حَطِيمِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ لَا شَيءَ عليهِ (¬3). قالَ: والحَطِيمُ هُوَ مَا بَيْنَ الكَعْبَةِ والمُلْتَزَمِ، بِقُرْبِ الرُّكْنِ الذِي فيهِ الحَجَرُ. ومَنْ قَالَ: أَنا أَضْرِبُ بِمَالِي حَطِيمَ الكَعْبَةِ، أَو رِتَاجَ الكَعْبَةِ، أَو أَسْتَارَ الكَعْبَةِ، فإنَّ عَلَيْهِ السَّيْرَ إلى مَكَّةَ في حَج أَو عُمْرَةٍ، لأَنَّهُ لَا يَجِدِ السَّبِيلَ إلى ذَلِكَ (¬4). وأَمَّا إذا قَالَ: مَالِي في رِتَاج الكَعْبَةِ لَمْ يَجِدِ السَّبيلَ إلى الوَفَاءِ بِذَلِكَ، لأَنَّ الرِّتَاجَ لَا يَنْقُصُ، فَيُجْعَلُ هذَا مَالُهُ فِيهِ وكَذَلِكَ الحَطِيَمُ لَا يُهْدَمُ فَيُجْعَلُ هذَا مَالِهِ فِيهِ. ¬

_ (¬1) ينظر قول مالك في المدونة 3/ 176. (¬2) المدونة 3/ 178. (¬3) المدونة 3/ 178. (¬4) المدونة 3/ 178 - 179.

وأَمَّا إذا قَالَ: أنا أَضْرِبُ بِمَالِي رِتَاجَ الكَعْبَةِ، أَو حَطِيمَ الكَعْبَةِ، أَو أَسْتَارَ الكَعْبَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ السَّيْرَ إلى مَكَّةَ، وكُلُّ مَنْ أَتَى مَكَّةَ لَمْ يَدْخُلْهَا إلَّا مُحْرِمًا، إمَّا بِحَج أو بِعُمْرَةٍ، فَهَذَا فَرَّقَ بينَ المَسْأَلَتَيْنِ. * * * تَمَّ الكِتَابُ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ يَتْلُوهُ كِتَابُ الضَّحَايا إنْ شاء الله تعالى صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا

تفسير كتاب الضحايا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آله وسلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ الضَّحَايَا * قالَ أَحمدُ بنُ خَالِدٍ: في سَنَدِ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ عَمْروِ بنِ الحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بنِ فَيْرُوزٍ - نَظَرٌ [1757]، وذَلِكَ أَن عَلِيَّ بنَ المَدِينِيِّ قالَ: لَمْ يَسْمَعْهُ عَمْرو بنُ الحَارِثِ [عَنْ] (¬1) عُبْيدِ بنِ فَيْرُوز (¬2). وَرَوَاهُ ابنُ وَهْبٍ، عَنْ [عَمْروِ] (¬3) بنِ الحَارِثِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ عبد الرَّحمنِ الدِّمَشقِيِّ، عَن عُبَيْدِ بنِ فَيرُوزٍ، وذَكَرَ الحَدِيثَ (¬4)، كَمَا ذَكَرَهُ في المُوطَّأ مالك. قالَ أَبو عُمَرَ: أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على العُيُوبِ الأَرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في هذَا الحَدِيثِ، لأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِها، واخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا، فَمِنْهُم مَن خَفَّفَهَا، ومَنْ كَرِهَهَا. قالَ: وفِي قَوْلِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ عندَ إشَارَتهِ بِيَدِه: (يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)، إعْظَامُ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنْ لَا [يُشْبَهَ] (¬5) بِشَيءٍ مِنْ حَرَكَاتِهِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: (بن)، وهو خطأ ظاهر. (¬2) نقل قول ابن المديني: البيهقي في السنن 9/ 274. (¬3) في الأصل: (عمر) وهو خطأ. (¬4) رواه الطحاوى في شرح معاني الآثار 4/ 168، وابن عبد البر في التمهيد 20/ 165، بإسنادهما إلى ابن وهب به. (¬5) جاء في الأصل: (يتشبه)، وأرى أن ما أثبته هو الصواب، ويريد: أنه ليس أحد يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحركاته وسكناته، وقد رجعت إلى كثير من الكتب التي شرحت الحديث سواء كانت لأحاديث الموطأ أو غيرها فلم أجد ما يشفي الغلة، والله أعلم.

قالَ الأَخْفَشُ: "العَجْفَاءُ التي لا تَنْقِي"، هِي التِّي لَا شَحْمَ فِيهَا ولَا مُخَّ لَهَا، والنَّقْيُ: الشَّحْمُ والمُخُّ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: الضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ، قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بالنَّحْرِ، وَهُوَ لَكُمْ سُنَّةٌ" (¬1). والذِي يُجْزِئُ في الضَّحِيَّةِ: الجَذْعُ مِنَ الضَّأْنِ، والثَّنِيُّ مِمَّا سِوَاهَا، وأَفْضَلُهَا العُجُولُ مِنَ الضَّأنِ، وخِصْيَانهُا خَيْرٌ مِنْ إنَاثِهِا، وإنَاثُهَا خَيْرٌ مِنْ عُجُولِ المَعْزِ، وعُجُولُ المَعْزِ خَيْرٌ مِنَ الإبلِ والبَقَرِ في الضَّحَايا، وأَمَّا في الهَدَايَا فالإبلُ، ثم البَقَرُ، ثُمَّ الضَّأْنُ، ثُمَّ المَعْزُ. ومَنْ ضَحَّى بأَقَلَّ مِنْ سِنِّ الجَذْعِ مِنَ الضَّأْنِ، أَو بأَقَل مِنَ الثَّنِيِّ مِمَّا سِوَاهُ لَمْ تَجُزْهُ ضَحِيَّتُهُ، وأَبْدَلَها في أَيَّامِ النَّحْرِ. قالَ أَبو عُمَرَ: الأَضْحَى يَوْمَانِ بعدَ يَوْمِ النَّحْرِ، ولَيْسَ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: أَجْمَعَ على هذَا أَهْلُ المَدِينَةِ. قالَ مَالِكٌ: ولَا يُضَحَّى فِيها بِلَيْلٍ، ومَنْ أَجَازَ أَنْ يُضَحَّى فِيهَا بِلَيْلٍ فَقَدْ جَارَ جَوْرًّا بَعِيدًا، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قالَ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، ولمْ يَذْكُرِ اللَّيَالِيَ. وقال غَيْرُ مَالِكٌ: لَمَّا ذَكَرَ اللهُ اللَّيَالِيَ في القُرْآنِ دَخَلَتِ الأَيَّامُ مَعَهَا، كَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، فَدَخَلَتْ هَهُنا الأَيَّامُ مَعَ اللَّيَالِي. وقالَ في النُّسُكِ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فَلَمْ تَدْخُلْ هَهُنا اللَّيَالِي مَعَ الأَيَّامِ. قالَ مَالِكٌ: والأَيَّامُ لمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيوْمَانِ بَعْدَهُ، وليسَ اليومُ الرَّابِعُ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (4750)، من حديث جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس، وجابر ضعيف الحديث.

مِنْهَا، وإنَّما هُوَ مِنَ المَعْدُودَاتِ، أَوَّلُهَا اليومُ الثَّانِي بعدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وآخِرُهَا اليَوْمُ الرَّابِعُ. قالَ مَالِكٌ: مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الإمَامِ يَوْمَ النَّحْرِ أَعَادَ أُضْحِيَتِهُ في أَيَّامِ النَّحْرِ. * وقَالَ غَيْرُهُ: لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: يَعْنِي لا تَذْبَحُوا قَبْلَهُ (¬1)، وقدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بُرْدَةَ بنِ [نِيَارٍ] (¬2) حِينَ ذبَحَ قَبْلَ رَسُولِ اللهِ بِالإِعَادَةِ، فقالَ لِرَسُولِ اللهِ: يا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ (¬3)، يَعْنِي مِنَ المَعْزِ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اذْبَحْهَا ولَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" [1760]، فَأَوْجَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الإعَادَةَ لَمَّا ذَبَحَ قَبْلَهُ، ورَخَّصَ لَهُ في الجَذَع مِنَ المَعْزِ إذا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، وكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ إمَامِهِ يَوْمَ النَّحْرِ أَن يُعِيدَ ضَحِيَّتَهُ في أَيَّامِ النَّحْرِ، ولَا يَذْبَحُ إلَّا الجَذَعَ مِنَ الضَّأنِ، والثَّنِي مِمَّا سِوَاهَا. كانَ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ يَحُجُّ في كُلِّ عَامٍ ويَنْحَرُ الهَدِي بِمَكَّةَ، فَمَرِضَ عَامًا بالمَدِينَةِ فَلَمْ يَشْهَدِ المَوْسِمَ مَعَ النَّاسِ، قالَ نَافِعٌ: (فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِي لَهُ كَبْشًا فَحِيلًا ثُمَّ أَذْبَحُهُ في المُصَلَّى، فَفَعَلْتُ) [1763]، فدَعَا بالحَلَّاقِ فَحَلَقَ رَأْسَهُ على حَسَبِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِمنِى إذا حَجَّ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بنِ مُسْلِمٍ، عَنْ لسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَبْحٌ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهُ، فإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، ولَا يَقْلِمَنَّ ظُفْرًا حتَّى يَذْبَحَ ضَحِيَّتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ" (¬4)، قالَ عِمْرَانُ بنُ أَنسٍ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ هَذَا ¬

_ (¬1) نقل هذا التفسير عن جابر بن عبد الله والحسن، نقله عنهما العيني في عمدة القاري 19/ 181، والسيوطي في الدر المنثور 7/ 547. (¬2) جاء في الأصل: (دينار) وهو خطأ. (¬3) العناق: هي الأنثى من ولد المعز، ويقال: ابن خمسة أشهر ونحوها، ينظر: عمدة القاري 21/ 153. (¬4) رواه مسلم (1977)، من حديث شعبة عن مالك به.

الحَدِيثِ، فقالَ لِي: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، فَقُلْتُ لِجُلَسَائهِ: قدْ رَوَاهُ عنهُ شُعْبَةُ، وحَدَّثَ عنهُ بهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، فَقَالُوا لِي: إنَّهُ إذا لَمْ يَأخُذْ بالحَدِيثِ قالَ فيهِ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي (¬1). قالَ مَالِكٌ: لَا بَأسَ بِحَلْقِ الرَّأْسِ، وتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وقَصِّ الشَّارِبِ في عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، ولَيْسَ العَمَلُ على مَا في حَدِيثِ أمِّ سَلَمَةَ مِنْ ذَلِكَ. * قَوْلُهُ: (دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى) [1766]، يَعْنِي: أَقْبَلَ أُنَاسٌ فُقَرَاءُ مِنْ أَهْلِ البَوَادِي إلى المَدِينَةِ أَيَّامَ الأَضْحَى في زَمَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَ الضَّحَايَا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ ضَحَايَاهُم لِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ويَتَصَدَّقُوا بِسَائِرِ ذَلِكَ على أُوَلِئكِ الفُقَراءِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَبَاحَ بعدَ ذَلِكَ للنَّاسِ أنْ يَأْكُلُوا مِنْ ضَحَايَاهُم ويَدَّخِرُوا لُحُومَهَا، ويَتَصَدَّقُوا مِنْهَا إنْ أَحَبُّوا. قالَ الشَّافِعيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ - عليهِ السَّلَامُ -: "ادَخِرُوا مِنَ الضَّحَايا لِثَلَاثٍ، وتَصَدَّقُوا بسَائِرِ ذَلِكَ" أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْسُوخًا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ النَّهِيُ عَنِ الَادْخَارِ إذا نَزَلَتْ شِدَّة فَيَدَّخِرُوا مِنْهَا حِينَئِذٍ لِثَلَاث، ويَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في القُبُورِ: "زُورُوَهَا ولَا تَقُولُوا هُجْرًا" [1767]، يَعْنِي: لَا تَدْعُو عِنْدَها بالوَيْلِ والحَرْبِ، وتَبْكُوا وتَفْعَلُوا مَا لَا يَرْضَى اللهُ وَرَسُولُهُ. وقَوْلُهُ: "ونَهَيْتكُمْ عَنِ الإنْتِبَاذِ فَانْتَبِذُوا" يَعْنِي: نَهَيْتُ عَنِ الإنْتِبَاذِ في الدُّبَّاءِ، والمُزَفَّتِ، والنَّقِّيرِ، والحَنْتَمِ، ثُمَّ جَاءَتِ الرُّخْصَةُ في هذَا الحَدِيثِ بإبَاحَةِ الإنْتِبَاذِ، وَحُرِّمَ المُسْكِرُ. وقالَ مَالِكٌ: ثَبَتَ نَهْيُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الإنْتِبَاذِ في الدُّباءِ، والمُزَفَّتِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النبيِّ - عليهِ السَّلَامُ -، ومِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ غَيْرُهُ: إنَّما نَهَى عنهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الفَسَادَ يُسْرِعُ إلى مَا يَنْتَبِذُ في الدُّبَّاءِ، والمُزَفَّتِ، بِخِلَافِ أَوَانِي الفَخَّارِ غَيْرِ المُزَفَّتِ. ¬

_ (¬1) نقله ابن عبد البر في التمهيد 17/ 337.

* قَوْلُ أَبي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ: "نَحَزنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الحُدَيْبِيِّةِ، البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ" [1769]. [قالَ أَبو المُطَرِّف]: أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الحَدِيثِ مَنْ أَجَازَ الإشْتِرَاكَ في الضَّحَايَا والهَدَايَا، وقَالُوا: لا بَأسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ في الضَّحِيَّةِ، وُيخْرِجَانِ الثَّمَنَ جَمِيعَا، ويَذْبَحَانِهَا ويَقْتَسِمَانِ اللَّحْمَ على قَدْرِ إخْرَاجِهِمَا للثَمَنِ، وكَذَلِكَ الهَدَايَا، ولَيسَ لَهُم في هذَا الحَدِيثِ حُجَّة، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاقَ تِلْكَ الهَدَايَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ على سَبيلِ التَّطُوعِ، لَا مِنْ أَجْلِ شَيءٍ أَحْدَثُوهُ في إحْرَامِهِم، وكَانَ ذَلِكَ الهَدْيُ قَد قُلِّدً وأشْعِرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصُدَّهُمُ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ، ومَتَى قُلِّدَ الهَدْيُ وأُشْعِرَ فَقَدْ وَجَبَ نَحْرُهُ. قالَ الأَبْهَرِيُّ: والإشْتِرَاكُ في الضَّحَايَا والهَدَايا يُوجِبُ القِسْمَةَ بينَ الشُّرَكَاءِ، والقِسْمَةُ بَيْعٌ مِنَ البيُوعِ، ولَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ النُّسُكُ بإجْمَاع، فَلِهَذا لَا يَجُوزُ الإشْتِرَاكُ في الضَّحَايًا ولَا الهَدَايَا. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: اسْتَحَبَّ مَالِكٌ للرَّجُلِ إذا كَانَ مُوسِرًا أنْ يُضَحِّي عَنْ نَفْسِهِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِكَبْشٍ بِكَبْشٍ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم، نَخوَ فِعْلِ ابنِ عُمَرَ، ومَنْ ضَحَّى عَنهُ وعَنْهُم بِكَبْشٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ عَنْهُم، وقَدْ ضَحَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنهُ وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِكَبْشٍ وَاحِدٍ. قالَ مَالِكٌ: وَيُسَتَحَبُّ للرَّجُلِ أَنْ يَأكُلَ مِنْ أُضْحِيَتِهِ، ويُطعِمَ الفُقَرَاءَ مِنْهَا، لِقَوْليِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. * * * تَمَّ الكِتَابُ، والحَمْدُ للهِ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهَلُهُ، يَتْلُوهُ كِتَابُ العَقِيقَةِ إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى

تفسير العقيقة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ العَقِيقَةِ قالَ مَالِكٌ: الذِي يَقَعُ في نَفْسِي مِنْ شَأنِ العَقِيقَةِ أَنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يَصْنَعُونَ لأَوْلَادِهِم شَيْئَا يُدْخِلُونَهُم فيهِ، وَيقُولُونَ: قَدْ أَدْخَلْنَاهُمْ في الدِّينِ، وأنَّ مِنْ شَأْنِ المُسْلِمِينَ الذَّبْحُ في ضَحَايَاهُم، وقَدْ عَقَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ حَسَنٍ وحُسَيْنٍ، فَيَقَعُ في قَلْبِي مَنْ ذَبَحَ العَقِيقَةَ عَنْهُم أنَّها مِنْ شَرِيعَةِ الإسْلَامِ. وقَدْ سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ يَذْكُرُ ذَلِكَ. * قالَ عِيسَى: لا يَجْتزِئُ بِحَلْقِ رَأْسِ الصَّبِى والتَّصَدُّقِ بِوَزْنِهِ فِضَّةً مِنَ العَقِيقَةِ، ولَكِنْ مَنْ عَقَّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاة، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ فَاطِمَةُ بِشَعْرِ حَسَنٍ وحُسَيْنٍ حِينَ حَلَقَتْهُمَا وتَصَذقَتْ بِوَزْنِ الشَّعْرِ فِضَّةً فَلَا بَأْسَ به 18391 أ. قالَ: وتُذْبَحُ العَقِيقَةُ يَوْمَ سَابِعِ المَوْلُودِ، فَمَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ فَلَا بَأسَ أَنْ يُعَقَّ عَنْهُ في يَوْمِ السَّابِعِ الثَّانِي. وقالَ ابنُ وَهْب: إنْ فَاتَهُ ذَلِكَ في السَّابِعِ الثَّانِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَقَّ عنهُ في السَّابِعِ الثَّالِثِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ "وَتُسْتَحَبُّ العَقِيقَةُ وَلَوْ بعُصْفُورٍ" [1843]، إنَّمَا هذَا على وَجْهِ التَّمْثيلِ والتَّأكِيدِ في أَمْرِ العَقِيقَةِ، ولَمْ يُرِدْ أَن يُعَقَّ بِعُصْفُورٍ، ولَا تَكُونُ العَقِيقَةُ إلَّا مِنَ الأَنْعَامِ، لأَنَّها نُسُكٌ. فَسَأَلْتُهُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ الذِي رَوَتْ عَن النبيِّ - عليه السَّلَامُ - أَنَّهُ قالَ: "يُعَقُّ

عَنِ الغُلَامِ شَاتَانِ، وعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ" (¬1)، فقالَ لِي: لَيْسَ هذَا الحَدِيثُ بثَابِتٍ، والصَّحِيحُ فيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "أَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى، وأَهْرِيقُوا عنهُ دَمًا" (¬2)، ولَمْ يَقُلْ: أَهْرِيقُوا عنهُ دَمَيْنِ. قالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا في العَقِيقَةِ أَنَّهَا تُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِ المَوْلُودِ، وتُطْبَخُ ويَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُهُا، ويُطْعَمُ مِنْهَا الجِيرَانُ، ولَا يُدْعَى لَهَا الرِّجَالُ كَمَا يُفْعَلُ في الوليمَةِ. قالَ: وكَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يُلَطّخُونَ الصبِيَّ بِشَيءٍ مِنْ دَمٍ العَقِيقَةِ، ويَجْعَلُونَ مِنْهُ في جَبْهَتِهِ نُقْطَةً. قالَ مَالِكٌ: وهذَا عِنْدَنا مَكْرُوهٌ، ولَا بَأْسَ أَنْ يُلَطَّخَ رَأْسُ الصَّبيِّ بالخَلُوقِ. وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِصَبِيٍّ فَلُطِّخَ رَأْسُهُ بِخَلُوقٍ، بَدَلًا مِنَ الدَّمِ الذِي كَانَ يَفْعَلُهُ الجَاهِلِيَّةِ بأَوْلَادِهِم. قالَ مَالِكٌ: وُيسَمَّى الصبِيُّ يَوْمَ سَابِعِه إذا عَقَّ عَنْهُ، ولَا يُعَقُّ عَنْ كَبِيرٍ كَمَا قَالَ أَهْلُ العِرَاقِ، وأَنَّهُ مَنْ لَم يُعَقَّ عَنْهُ في صِغَرِه أَنَّهُ يَعِقُّ عَنْ نَفْسِهِ إذا كَبِرَ. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ العِرَاقِ: إنَّهُ يُعَقُّ عَنِ الكَبِيرِ، فقَالَ لِي: الصَّحِيحُ في هذَا مَا قَالَهُ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ، وقَدْ أَسْلَمَ الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُم أَنَّهُ عَن عَنْ نَفْسِهِ في كِبَرِه. * * * تَمَّ الكِتَابُ، والحمدُ للهِ رَبِّ العَالِمِين يَتْلُوهُ كِتَابُ الذَّبَائِحِ إن شاء الله * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2835)، وابن ماجة (3162)، وأحمد 6/ 381. (¬2) رواه البخاري (5154)، وأبو داود (2839)، والنسائي 7/ 164، وابن ماجة (3164)، من حديث سلمان بن عامر الضبي.

تفسير كتاب الذبائح، وكتاب الصيد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وكِتَابِ الصَّيْدِ على بَرَكةِ الله تعَالَى * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذِينَ سَأَلوهُ عَنْ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ يَقْدِمُونَ عَلَيْنَا بِلُحْمَانٍ، وذَكَرَ الحَدِيثِ إلى آخِرِه [1781]. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا أَمَرَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأَكْلِ تِلْكَ اللُّحُومِ في أَوَّلِ الإسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: والتَّسْمِيةُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قُصِدَ فِيهِ إلى تَرْكِهَا، وإنَّمَا يُذَكَّى الحَيُّ ولَا يُذَكَّى المَيِّتُ، وقَدْ أَبَاحَ اللهُ ذِبَائِحَ أَهْلِ الكِتَابِ، ومَنَعَ مِنْ أَكْلِ ذِبَائِحِ المَجُوس وعَبَدةِ الأَوْثَانِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، فَهَذا مُبَاحٌ أَكْلُهُ إلَّا مَا ذَبَحُوهُ لأعْيَادِهِم وأَصْنَامِهِم فَهَذا يُترَكُ أَكْلُهُ، لأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ، وقَالَ في طَعَامِ المَجُوسِ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. * قالَ عِيسَى: إنَّمَا تَرَكَ عبدُ اللهِ بنُ عيَّاشٍ أَكْلِ الشَّاةِ التّي كَانَ أَمَرَ غُلَامَهُ بذَبْحِهَا حِينَ قالَ: سَمِّ اللهَ واذْبَحْ ولَمْ يَسْمَعْهُ سَمَّى، فقَالَ: "واللهِ لَا آكَلهَاُ" [1782]، فتَرَكَ أَكْلَهَا تَنَزُّهَا عَنْهَا، ولَمْ يَكُنْ يَلْزُمُه ذَلِكَ، لأَنَّ الغُلَامَ قَالَ لَهُ: "إنَّي سَمَّيْتُ اللهَ". وقالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا تَرَكَ أَكْلَهَا مِنْ أَجْلِ عِصْيَانهِ لَهُ.

وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَتَّهِمُهُ في دِينِه، فَلَمَّا لَمْ يَسْمَعْهُ يُسَمِّي اللهَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَقَعَ في نَفْسِهِ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ التَّسْمِيةَ مُسْتَخِفًّا، وإذا تَرَكَ المُسْلِمُ التَّسْمِيةَ عِنْدَ الذَبْحِ عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ، لأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بأَمْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وإذا تَرَكَهَا اليَهُودِيُّ أوالنَّصْرَانِيُّ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ بأَكْلِهَا بَأْسٌ، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنا أَكْلَ ذَبَائِحِهِم وقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُم يَكْفُرُونَ باللهِ. قالَ مَالِكٌ: الذَّكَاةُ قَطْعُ الحُلْقُومُ والأَوْدَاجُ، فإنْ قَطَعَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ لَمْ تُؤْكَلْ. وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: الذَّكَاةُ قَطْعُ الحُلْقُومِ والوَدَجَيْنِ والمَرَيءِ، وَهُوَ العِرْقُ الأَحْمَرُ الذِي هُوَ مَلْصُوقٌ بالحُلْقُومِ (¬1). ولَمْ يَعْرِفْ مَالِكٌ المَرِيءَ في الذَّكَاةِ. قالَ عِيسَى: الشَّطَاطُ عُودٌ مُحَدَّدُ الطَّرَفِ، والذَّكَاةُ بهِ جَائِزَةٌ عنْدَ الضَّرُورَةِ. قالَ: واللِّيطَةُ فِلْقَةُ القَصَبَةِ، والظُّرَرُ فِلْقَةُ الحَجَرِ، قالَ: فَكُلُّ مَا ذُبِحَ بهِ مِنْ هَذَا فَلَا بَأسَ بهِ إذا قَطَعَ الأَوْدَاجَ والحُلْقُومَ. * قَوْلُ زيدِ بنِ ثَابِتٍ حِينَ سُئِلَ عَنِ الشَّاةِ التي ذُبِحَتْ بعدَ أَنْ كَانَ أَصَابَهَا مَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنهُ المَوْتُ فَتَحَرَّكَتْ بعدَ الذَبْحِ، فقالَ: (إنَّ المَيتَةَ لَتَتَحْرَّكُ) [1790]، يُرِيدُ: أَنَّهُ إذا انْفَذَتْ مُقَاتِلَ الشَّاةِ بأَيِّ شَيءٍ كَانَ، ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ، لأَنَّ المَنْفُوذَةَ المُقَاتَلِ لا تَعْمَلُ فِيهَا الذكَاةُ، فتَحَرُّكُهَا بعدَ ذَبْحِهَا لا يُبِيحُ مملَهَا، فَلَيْسَ الحُكْمُ للحَرَكَةِ، إنَّمَا الحُكْمُ للحَيَاةِ، ورَخَّص فِيهَا أَبو هُرَيْرَةَ إذا تَحَرَّكَتْ بعدَ أَنْ ذُبِحَتْ، وأَمَرَ بأَكْلِهِا، وأَمَّا الشَّاةُ المَرِيضَةُ إذا ذُبِحَتْ فَتَحَرَّكَتْ بعدَ ذَلِكَ فَإنَّها تُؤْكَلُ، والفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ المَرِيضَةَ لا يُدْرَى هَلْ تَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ أَمْ لَا، وأَمَّا المَنْفُوذَةُ المُقَاتَلِ فَلَا يُشَكُّ في مَوْتهَا، فَلِذَلِكَ لا تَعْمَلُ فِيهَا الذَكَاةُ لأَنَّها مَيْتَةٌ. ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع 5/ 41، وحاشية ابن عابدين 6/ 395.

قالَ مَالِكٌ: إذا تَمَّ خَلْقُ مَا في بَطْنِ الشَّاةِ ونَبَتَ شَعْرُهُ، فَذَكَاةُ أُمِّهُ ذَكَاتُهُ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: يُرِيدُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عَضْوٍ مِنْهَا مَا لَمْ يُفَارِقْهَا، فَلَمَّا عَمِلَتِ الذَّ كَاةُ في الشَّاةِ، عَمِلَتْ في الذِي في بَطْنِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَبْحُهُ إذا خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا، لِكَي يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْ جَوْفِهِ، فَأَمَّا إذا خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا حَيَّا لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا بِذَكَاةٍ، لأَنَّ الأَمْرَ بالذِّكَاةِ قَدْ تَوَجَّه إليه، وأَمَّا إذا خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ خَلْقُهُ فَإنَّهُ لا يُؤْكَلُ، لأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُضْغَةٌ ودَمٌ مُنْعَقِدٌ، والدَّمُ لَا يُؤْكَلُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَا أَصَابَهُ الرَّجُلُ مِنَ الطَّيْرِ بِحَجَرٍ أَو بِبُنْدَقَةٍ فَخَرَقَ الجِلْدَ وبَلَغَ المُقَاتَلَ، فإنَّهُ لا يُؤْكَلُ إلَّا بِذَكَاةٍ، لأَنَّهُ مَوْقُودٌ، وكَذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ الطَّيْرُ الذي يُرْمَى وَهُوَ يَطِيرُ فَيَسْقُطُ ثُمَّ يَمُوتُ ويُوجَدُ السَّهْمُ لَمْ يَنْفَذْ مُقَاتَلَهُ، إذ لَعَلَّهُ مِنَ السَّقْطَةِ مَاتَ، والصَّدْمَةُ لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ، وكَذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ مَا أُصِيبَ بعُرْضِ المِعْرَاض فَمَاتَ مِن ذَلِكَ لأَنَّهُ رَضٌّ، والرَّضُّ لَيْس بِذَكَاةٍ، وَالمِغرَاضُ: (الكسكامت) (¬1) التي يَحْبسَها الصَّائِدُ (¬2)، ورُبَّمَا رَمَى بِهَا الصَّائِدُ، فَإنْ أَصَابَهُ بحَدِّهَا فَخَسَقَ (¬3) في الجِلْدِ، وقَطَعَ الحُلْقُومِ، فإنْ ذَلِكَ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ لأَنَّه مُذَكَيًّا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَا نَدَّ مِنَ الأَنْعَامِ الإنْسِيَّةِ واسْتَوْحَشَ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا بِذَكَاةِ الإنْسِيَّةِ، ومَا دَجَنَ مِنَ الوَحْشِ ثُمَّ نَدَّ واسْتَوْحَشَ أُكِلَ بِمَا يُؤْكَلُ بهِ الصَّيْدُ مِنَ الرَّمِي وشِبْهِه، لأَنَّهُ حِينَ اسْتَوْحَشَ رَجَعَ إلى أَصْلِهِ فَهُوَ يُؤْكَلُ بِمَا يُؤْكَلُ بهِ الصَّيْدُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَجُزْ أَكْلُ الصَّيْدِ إذا فَاتَ عَنِ الصَّائِدِ ثُمَّ وَجَدَهُ يَوْمًا آخَرَ قَدْ مَاتَ وسَهْمُهُ مُثَبَّتٌ فِيهِ، لأَنَّهُ صَيْدٌ مَشْكُوكٌ في ذَكَاتِهِ، لأَنَّهُ لَا يَدْرِي مِن أَيِّ شَيءٍ ¬

_ (¬1) هكذا رسمت هذه الكلمة في الأصل، وقد بحثت عنها كثيرا في كتب الفقه المالكي وغيره ولم أجدها، ولعلها كلمة عامية كانت مستعملة في لهجة أهل الأندلس. (¬2) المعراض -بكسر الميم وسكون العين- خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديد، وقد يكون بغير حديد، هذا هو الصحيح في تفسيره، ينظر: عمدة القاري 25/ 97. (¬3) يقال: خسق -بالسين- ويقال: خزق -بالزاي- يعني: ما شق وقطع، ينظر: مشارق الأنوار 1/ 234.

مَاتَ، وقدْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَعَّكَ والسَّهْمُ فِيهِ لَمْ يَنْفُذْ مُقَاتَلَهُ، فَيَكُونُ تَمَعَكُهُ سَبَبًا لِدُخُولِ السَّهْمِ فِيهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِذَكَاة، فَلَمَّا شَكَّ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَكَلُهُ، ولِذَلِكَ يُكْرَهُ أَكْلُ مَا صِيدَ بالسَّهْمِ المَسْمُومِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ قَتَلَ ذَلِكَ الصَّيْدَ، إنْ كَانَ السَّهْمُ أَو السُّمُّ الذي سُمَّ بهِ ذَلِكَ السَّهْمُ، وقَتْلُ السُّمِّ لَيْسَ بِذَكَاةٍ، وَلِمَا يُخَافُ على آكِلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ مِنَ السُّمِّ الذِي قتَلَهُ لا يَقْتُلُهُ أَيْضًا. سَألْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيّ بنِ حَاتِم، أَنَّهُ قالَ: "يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أَرْضِي أَرْضُ صَيْدٍ، فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وسَمَّيتَ اللهَ فَكُل مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبُكَ وَإِنْ قَتَلَ، وإنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فإنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ" (¬1)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هذَا حَدِيثٌ اضْطَرَبَ فِيهِ الشَعْبِيُّ، وفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ "كُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبُكَ وإنْ أَكَلَ مِنْهُ" (¬2). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: والعَمَلُ في هذَا عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ على قَوْلِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: (كُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبُكَ وإنْ أَكَلَ مِنْهُ) [1805]، و [1806]، وكَذَلِكَ قالَ سَعْدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ: (كُلْ وإن لَمْ تَبْقَ إِلَّا بَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ) [1807]، وقَدْ قَالَ اللهُ في الكِلَابِ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، يَعْنِي: تُعَلِّمُونَهُنَّ الأشْلَاءَ والزَّجْرَ، فَكُلُوَا مِمَّا أَمْسَكَنَ عَلَيْكُمْ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ في الذِي يُدْرِكِ الصَّيْدَ في مَخَالِبِ البَازِي، أَو فِي فِيِّ الكَلْب لَمْ يَنْفُذْ مُقَاتَلَهُ ثُمَّ يَتَرَبَّصُ بهِ حتَّى يَمُوتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، إنِّمَا قالَ ذَلِكَ لأَنَّهُ لَمَّا أً دْرَكَهُ في مَخَالِبِ البَازِي، أَو في فِيِّ الكَلْبِ وفِيهِ حَيَاةٌ مُجْتَمَعَةٌ، فَقَدْ تَوَجَّهَتْ إليه الذِّكَاةُ، فَلَمَّا أَفْرَطَ فِيهِ الصَّائِدُ حتَّى مَاتَ، فَقَدْ تَرَكَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5484)، ومسلم (1929) وغيرهما من كتب الحديث المشهورة بإسنادهم إلى عامر الشعبي به. (¬2) هذه اللفظة ليست في الصحيحين، وإنما جاءت في بعض السنن الأربعة وغيرها، وجاء مثلها في حديث أبي ثعلبة الخشني الذي رواه أبو داود (2852) وغيره، وقال العيني في عمدة القاري 3/ 46: التوفيق بين الحديث بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلًا في الإباحة، وأن يكون النهي في حديث عدي بن حاتم على معنى التنزيه دون التحريم.

تَذْكِيَتَهُ عَمْدًا، فَلِذَلِكَ لَا يَأْكُلُهُ، وإنَّمَا أَبَاحَ اللهُ أَكْلَ مَا لَمْ تَتَمَكَّنْ ذَكَاتُهُ مِنَ الصَّيْدِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ السَّبيلِ إلى ذَكَاتِهِ، لِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، يَعْنِي: مَا يُرْمَى بالنَّبْلِ والرِّمَاحِ فَيَقْتُلُ ذَلِكَ المَرْمَى فَأَبَاحَ اللهُ أَكْلَهُ، وقالَ في الكِلَابِ المُعَلَّمَةِ: (فَكُلُوأ مِمَّا أَمَّسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائده: 4]. قالَ عِيسَى: فإذَا وَجَدَ شَيْئأ مِنْ هَذا كُلِّهِ مَنْفُوذَ المُقَاتَلِ أَكَلَهُ. قالَ أَصْبَغُ: مَا قتَلَهُ الكِلَابُ بالصَّدمِ، أَو البُزَاةِ (¬1) بالشَّدِّ مِنَ الصَّيْدِ مُبَاحٌ أَكْلُهُ عِنْدَ أَشْهَبَ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَا أَجْرَحَتِ الكِلَابُ أَو البُزَاةِ مِنَ الصَّيْدِ فَقتَلتْهُ، وأَمَّا مَا قَتَلَتْهُ بالصَّدْمِ أَو بالشَّدِّ لَمْ يُؤْكَلْ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: قالَ أَصْبَغُ: وبِهَذا أَقُولُ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سَمَّاهَا في كِتَابهِ جَوَارِحَ، فإذا لَمْ يُجْرَحِ الصَّيْدُ لَمْ يُؤْكَلْ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: أَخَذَ أَهْلُ المَدِينَةِ أَكْلَ مَا صَادَهُ المُسْلِمُ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ المُعَلَّمِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الحُكْمَ في الصَّيْدِ لِلمُسِلمِ الذي يَصِيدُهُ، وُيرْسِلُ الكَلْبَ عَلَيْهِ، ويُسَمِّي اللهَ عندَ إرْسَالهِ، ولَمْ يَجُزْ أَكْلُ مَا صَادَهُ المَجُوسِيُّ بِكَلْبِ المُسْلِمِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الحُكْمَ للصَّائِدِ لَا لِلْكَلْبِ، ومِنْ هذَا كَرِهَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ أَكْلَ مَا صَادَهُ اليَهُودِيُّ أَو النَّصْرَانِيُّ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى إنَّمَا خَاطَبَ المُسْلِمِينَ بِقَوْلهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، ولَمْ يَذْكُرِ اليَهُودَ ولَا النَصَارَى. وقَالَ مَنْ أَجَازَ أَكْلَ صَيْدِ اليَهُودِ والنَّصَارَى لَمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، اسْتَدْلَلْنَا بِهَذَا على أَنَّ مَا صَادَ أَهْلُ الكِتَابِ حِلٌّ لَنَا أَكْلُهُ. ¬

_ (¬1) البُزاة -بضم الموحدة- جمع البازي، وهو ضرب من الصقور، القاموس المحيط ص 546.

* روَى يحيى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبي إدْرِيسَ الخَوْلَانِي، عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ" [1821]، ثُمَّ أَوْصَى بِهَذا الحَدِيثِ، قالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنا. ورَوَى ابنُ بُكَيْرٍ هذَا الحَدِيثَ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَن أَبي إدْرِيْسٍ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، (أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ) (¬1). وكَذَلِكَ رَوَاهُ ابنُ القَاسِمِ في مُوَطَّئِهِ، وأَوْصَلَ بهَذا الحَدِيثِ (¬2). قالَ مَالِكٌ: وهذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: وهذِه الرِّوَايةُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايةِ يحيى بنِ يحيى، لأن الحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللهُ في كِتَابهِ، وأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على تَحْرِيمِه، وَلُحُومُ السّبَاعِ مَكْرُوهَة غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، لِنَهْي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَاب مِنْهَا، ودَخَلَ مَدْخَلُهَا لُحُومُ الخَيْلِ والبِغَالِ والحَمِيرِ، لِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: عَبيدَةُ بنُ سُفْيَانَ الذي روَى عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ" [1823]، ضَعِيفٌ (¬3)، ولَذِلَكِ لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بِحَدِيثِ عَبِيدَةَ بنِ سُفْيانَ، لِضَعْفِ رِوَايَتِهِ، ولمُخَالَفَةِ الأُصُولِ. * * * ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (171 ب)، نسخة المكتبة الظاهرية. (¬2) موطأ مالك، من رواية ابن القاسم، بتلخيص القابسي (76). (¬3) عبيدة بن سفيان الحضرمي المدني ثقة، وثقه النسائي وغيره، وروى له مسلم وأصحاب السنن الأربعة، ينظر: تهذيب الكمال 19/ 264.

باب في جلود الميتة، وفيمن يضطر إلى أكل الميتة

بَابٌ في جُلُودِ المَيْتَةِ، وفِيمَنْ يُضْطَرُّ إلى أَكْلِ المَيتَةِ أَرْسَلَ ابنُ بُكَيْبر عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِشَاةٍ مَيْتَةٍ كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلَاةً لِمَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: هَلَّا انتفَعْتُم بِجِلْدِهَا"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه، وأَرْسَلَهُ (¬1). * ورَوَاهُ يَحْيىَ بنُ يحيى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابنِ عبَّاس، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَسْنَدَهُ [1829]. وكَذَلِكَ أَرْسَلَهُ القَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ كَمَا أَرْسَلَهُ عنهُ ابنُ بُكَيْرٍ (¬2). ورَوَاهُ ابنُ القَاسِمِ مُسْنَدًا عَنْ مَالِكٍ، كَمَا رَوَاهُ يَحْيىَ بنُ يَحْيىَ (¬3). واخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ، فَزَادَ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ في سَنَدِ هذَا الحَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وقَالَ أَيْضًا في آخِرهِ: "ألَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ وانْتَفَعُوا بهِ" (¬4)، ولَمْ يَذْكُرِ (الدَّبَاغَ) في هذَا الحَدِيثِ إلَّا ابنُ عُيَيَنْةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: قِيلَ لإبنِ عُيَيْنَةَ: أَفِي غَيْرِكَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ لا يَذْكُرُ ¬

_ (¬1) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (1171)، نسخة المكتبة الظاهرية. (¬2) لم أجده في رواية القعنبي المطبوعة، وإنما وجدت أبا العباس الداني ذكره في كتابه أطراف الموطأ 2/ 532 نقلا عن القعنبي في موطئه. (¬3) موطأ مالك، برواية ابن القاسم، وتلخيص القابسي (52). (¬4) رواه مسلم (363)، وأبو داود (4120)، والنسائي 7/ 171، وابن ماجة (3610)، بإسنادهم إلى ابن عيينة به.

في هذَا الحَدِيثِ (الدِّبَاغُ؟)، فقالَ: أَنَا سَمِعْتُ (الدّبَاغَ) مِنَ الزُّهْرِيِّ سَمْعَا" (¬1). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: ورَوَى هَذَا الحَدِيثَ عبدُ الرَّزاقِ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ زَوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ شَاةً لَهُمْ مَاتَتْ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَلَا دَبَغْتُم إهَابَهَا" (¬2)، يعَنِي: وَانتفَعْتُم بهِ. قالَ أَحْمَدُ: فِفِي هذَا الحَدِيثِ دَلِيل على أنَّ الانْتِفَاعَ بِجِلْدِ المَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ بعدَ الدّبَاغِ، وَهُوَ مُوَافِق لِمَا رَوَاهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. * قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: الذي يأخُذُ بهِ مَالِكٌ في جُلُودِ المَيْتَةِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: "أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمًرَ أَنْ يُسْتَمْتعً بِجُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبغَتْ" [1831]، يُرِيدُ: يُسْتَمْتَعُ بِها في غَيْرِ اللِّبَاسِ والصَّلَاةِ بِهَا، وَهِي عِنْدَهُ على أَصْلِهًا غَيْرُ طَاهِرَةٍ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: في حَدِيثِ زيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنِ ابنِ وَعْلَةٍ المَصْرِيِّ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا دُبغَ الإهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" [1830]، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: هَذا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، لأَنَ ابنَ وَعْلَةَ رَجُل مَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ (¬3)، وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ بهِ مَالِكٍ في جُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَتْ، وَقَدْ رَوَى عنهُ ابنُ عبدِ الحَكَمِ أَنَّهُ قالَ: مَنْ دَبَغَ جِلدَ مَيْتَةٍ ثُمَّ قَطَعَهُ نِعَالًا لَمْ يَبِعْهُ حتَّى يُبيِّنَ أَنَّهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى بِهِ (¬4). [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: زَادَ ابنُ بُكَيْرٍ في هذَا البَابِ في مَوَطَّئِهِ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبي سُهَيل بنِ مَالِكٍ، أعن أبيه، عَنْ كَعْبٍ الأَحْبَارِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا نَزَعَ نَعْلَيْهِ، فقالَ لَهُ كَدْب: لِمَ خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ، لَعَلَّكَ تَأَوَّلْتَ هَذَهِ الآيةَ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر في الأوسط 2/ 260، والبيهقي في السنن 1/ 15. (¬2) مصنف عبد الرزاق 1/ 63. (¬3) ابن وعلة هو عبد الرحمن بن وعلة المصري وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما، وروى حديثه مسلم والأربعة، ينظر: تهذيب الكمال 17/ 478. (¬4) نقله قول مالك المذكور: ابن عبد البر في الإستذكار 5/ 531.

إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]، ثُمَّ قَالَ لَهُ كَعْب: هَلْ تَدْرِي مِمَّا كَانتَا نَعْلَا مُوسَى؟ إنَّمَا كَانتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارِ مَيِّتٍ (¬1). قالَ أَبو عُمَرَ: إنَّمَا أَدْخَلَ مَالِكٌ هذا الحَدِيثَ في المُوطَّأ على الرُّخْصَةَ في الإنْتِعَالِ بِجُلودِ المَيْتَةِ. [قالَ أبو المُطَرِّفِ]: كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ [أَهْلِ] (¬2) الأَمْصَارِ الإنْتِفَاعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ، واحْتَجُّوا بِما رَوَاهُ ابنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عبدِ [الرَّحمن] (¬3) بنِ أَبي لَيْلَى، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ، قالَ: كَتَبَ إلينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإهَابٍ ولَا عَصَبٍ" (¬4). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: أَخَذَ بِهَذا الحَدِيثِ قَوْمٌ وَحَسِبُوهُ نَاسِخًا لإبَاحَةِ الانْتِفَاعِ بِجُلُودِ المَيْتَةِ، واحْتَجُّوا في ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنْ قَالُوا: إنَّ المَيْتَةَ مُحَرَّمَة، فَكَذَلِكَ جِلْدُهَا مُحَرَّمٌ، فَلَا يَجُوزُ أنْ يُنتفَعَ بهِ في شَيءٍ ما. قالَ أَحْمَدُ: وهذَا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِه أَحَدٌ غَيْرُ عبدِ اللهِ بنِ عُكَيْمٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومَرَّةً يَقُولُ: كَتَبَ إلينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أقَبْلَ مَوْتهِ، (¬5) بِشَهْرٍ "ألَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ ولَا عَصَبٍ"، فَاضْطَرَبتْ فِيهِ رِوَايَتُهُ، وقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ الإنْتِفَاعِ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إذ دُبِغَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدْ قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّها مَيْتَة، فقَالَ: "إنَّما حُرِّمَ أَكْلُهَا"، ثُمَّ أَبَاحَ الإنْتِفَاعَ بِجِلْدِها، وَهُوَ المُبَيِّنُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا حَرَّمَ ومَا أَبَاحَ، وهذَا الذي عليهِ أَهْلُ المَدِينَةِ. ¬

_ (¬1) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (171 ب) نسخة الظاهرية. قلت: وهذا الأثر رواه يحيى في موطئه (3396) في كتاب الجامع، باب ما جاء في الإنتعال، وكان المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سهى عنه. وما كان بين معقوفتين سقط من الأصل ولابد منه. (¬2) جاء في الأصل: (الأهل)، وهو خطأ لا يتوافق مع السياق. (¬3) جاء في الأصل (عبد الله)، وهو خطأ. (¬4) مصنف بن أبي شيبة 8/ 314 - 315، ورواه أبو داود (4127)، والترمذي (1729)، والنسائي 7/ 175، وابن ماجة (3613). (¬5) ما بين المعقوفتين زيادة من المعجم الأوسط للطبراني 1/ 251، وسنن البيهقي 1/ 15.

قالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنِ اضْطُرَّ إلى المَيْتَةِ أَنَّهُ يَأكُلُ مِنْهَا حتَّى يَشْبَعَ، ويَتَزَوَّدُ [مِنْهَا] (¬1)، وإذا وَجَد عَنْهَا غِنًى طَرَحَها [1833]. وقَالَ غَيْرُ مَالِكٍ: يَأكُلُ مِنْهَا مَا يَرُدُّ جُوعَهُ ولَا يَتَزَوَّدُ مِنْهَا. واخْتَلَفُوا في قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذا اضْطَرَّ إلى أَكْلِ المَيْتَةِ، فَقِيلَ: يَأْكُلُ مِنْهَا ولَا يَقْتُلُ نَفسَهُ، وقَالَ الكَلْبِي في تَفْسِيرِ قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَليْهِ} [البقرة: 173] (¬2) فقالَ: هُوَ اللِّصقُ يَقْطَعُ الطرِيقَ ويَعْدُو علَى النَّاسِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنَ المَيْتَةِ إذا اضْطُرَّ إليها. وقالَ الحَسَنُ: لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ولَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ، ومَعْنَى قَوْلهِ تَعَالَى عندَ الحَسَنِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولَا عَادٍ، يَعْنِي: غَيْرَ بَاغٍ فِيهَا يَأكُلُهَا وَهُو غَنِيٌّ عَنْهَا (¬3). * * * تَمَّ الكِتَابُ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين يَتْلُوهُ كِتَابُ النِّكَاحِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ. (¬2) الآية في أكثر من موضع، ومنها في سورة البقرة، الآية: (173). (¬3) رواه عبد الرزاق في التفسير 1/ 65، بإسنادهما إلى الكلبي، وإلى الحسن البصري.

تفسير كتاب النكاح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحّمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ النِّكَاحِ * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ على خِطْبَةِ أَخِيهِ" [1909]، قالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ رُكُونِ المَرْأَةِ إلى الزَّوْجِ الذي خَطَبَها ورِضَاهَا بهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَخِطَبَ المرأة على خِطْبَةِ هذا الخَاطِبَ، ولَمْ يَعْنِ بهذَا الحَدِيثِ مَنْ لمْ تَرْكَن المَرْأَةُ إليهِ ولَا رَضِيَتْ بهِ أَنْ يَخْطِبَ أَحَدٌ على خِطْبَتِهِ، وقَدْ خَطَبَ مُعَاوِيَة وأَبو جَهْمِ فَاطِمَةَ بنتَ قَيْسٍ في وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَأَتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَعْلَمَتْهُ بِخِطْبَتِهمِا جَمِيعًا إيَّاهَا في وَقْتٍ وَاحِدٍ، وشَاوَرَتْهُ في أَيِّهِما تتَزَّوج (¬1)، فلمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذَلِكَ أَنَّها لمْ تَكُنْ في وَقْتِ مَشُورَتها لَهُ قد رَكَنَتْ إلى وَاحِدٍ منهما، وهذَا الحَدِيثُ هُوَ مِثْلُ حَدِيثهِ الآخِرِ: "لَا يَسُومُ أَحَدُكُمْ على سَوْمِ أَخِيهِ" (¬2)، إنَّما هذا أَيْضًا عندَ المُفَارَقَةِ والفَرَاغِ، لا في أَوَّلِ التَّسَاوُمِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ بعدَ أَنْ قدْ كَانَتْ رَكَنَتْ إلى غَيْرِه ودَخَلَ بِها، فإنَّهُ يَتَحَلَّلُ الذي رَكَنَ إليه وُيعَرِّفُه بِمَا صَنَعَ، فَإِنْ حَلَّلَهُ وإلَّا فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ ذَلِكَ، ولَا يَلْزَمُهُ طَلَاقُهَا، وقَدْ أَثِمَ. وقالَ ابنُ وَهْبٍ: فإنْ لمْ يَجْعَلْهُ الأَوَّلُ في حِل مِمَّا صَنَعَ، فَلْيُخَلِّ سَبيلَهَا ويُطَلِّقْهَا، فَإِنْ رَغِبَ فِيها الأَوَّلُ وتَزَوَّجَها فقدْ بَرِئَ هذا مِنَ الإثِمِ، وإنْ كَرِهَ ¬

_ (¬1) حديث فاطمة بنت قيس هذا رواه مسلم (1480). (¬2) رواه مسلم (1408)، وابن ماجة (2172)، من حديث أبي هريرة.

تَزْوِيجَهَا فَلْيُرَاجِعْهَا الذي فَارَقَها بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، ولَيْسَ يُقْضَى عليهِ بالفِرَاقِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا خَطَبَهَا رَجُلُ سُوءٍ فَرَكَنَتْ إليهِ، ثُمَّ خَطَبَها رَجُلٌ صَالِحٌ، فإنَّهُ يَنْبَغِي للوَليِّ أَنْ يَحُضَّهَا على تَزْوِيجِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الذي يُعَلِّمُهَا الخَيْرَ، ويُعِينُها عليهِ، وأَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ أَنْ يَخْطِبَ أَحَدُكُمْ على خِطْبَةِ أَخِيهِ، إلَّا في رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: يُقَالُ الخِطْبَةُ -بِكَسْرِ الخَاءِ- في النِّكَاحِ، والخُطْبَةُ -بِضِمِّ الخَاءِ- في الجُمُعَةِ وشِبْهِها. * قالَ عِيسَى: قالَ ابنُ القَاسِمِ: العَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ في إبَاحَةِ تَعْرِيضِ الرَّجُلِ بالنِّكَاحِ للمَرْأَةِ المُعْتَدَّةِ، على قَوْلِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ الذي ذَكَرَهُ عنهُ في المُوطَّأَ مَالِكٌ [1912]. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَا يُوَاعِدْهَا في العِدَّةِ، فَيَقُولُ لَهَا: لا تَتَزوّجِي غَيْرِي إذا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ، فتقُولُ هِيَ: نَعَمْ، فإنْ نَكَحَها على هذه المَوَاعَدةِ بعدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِها، فَنِكَاحُه يُفْسَخُ، دَخَلَ بِها أَولمْ يَدْخُلْ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ويُكْرَهُ للرَّجُلِ أَنْ يَغْتَفِلَ المَرْأَةَ إذا خَطَبَها لَيَنْظُرَ إليها مِنْ حَيْثُ لا تَشْعُرُ بهِ، لِئَلَّا يَطَّلِعَ على عَوْرَةٍ، ولا بأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عليها بإذنٍ، ويُهْدِي لهَا مِنْ مِلْكِه مَا يَسْتَجِدُّ بهِ هَوَاهَا. * قولُ مَالِكٍ: لَيْسَ للبِكْرِ جَوَازٌ في مَالِهَا، حتَّى تَدْخُلَ بَيْتَهَا، ويُعْرَفَ مِنْ حَالِهَا [1917]. قالَ [أبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا هذَا في البِكْرِ اليَتِيمَةِ غَيْرِ ذَاتِ الأَبِ. قالَ مَالِكٌ: فإذا شَهِدَ العُدُولُ مِنْ أهْلِ الإخْتِيَارِ لهَا أَنَّهَا صَحِيحَةُ الفِعْلِ، حَسَنَةُ النَّظَرِ، جَازَفِعْلُهَا في مَالِها بعدَ بِنَاءِ زَوْجِهَا بِهَا لِسَنَةٍ. قالَ عِيسَى: وأَمَّا البكْرُ ذَاتُ الأَبِ فانَّهَا لا تَخْرُجُ مِنْ وِلَايةِ أَبِيهَا حتَّى تُنْكَحَ وإنْ عَنَّسَتْ، وحَدُّ التَّعْنِيسَ ثَلَاثونَ سَنَةَ إلى خَمْسِ وثَلَاثِينَ، إلى أَرْبَعِينَ سَنَةً.

قالَ: فإذا أَنْكَحَها أَبُوهَا وبَقِيَتْ مَعَ الزَّوْجِ سَبع سِنِينَ ولَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا في هذِه المُدَّةِ سَفَهٌ، ولَمْ يُجَدِّدْ عليهَا أَبُوهَا ثِقَافَ الوَلَايةِ (¬1) فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ وَلَايَتِهِ. قالَ أَبو عُمَرَ: قالَ غَيْرُهُ: إذا أَقَامَتْ مَعَ زَوْجِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ ولَمْ يُجَدِّد عَلَيْهَا أَبُوهَا ثِقَافَ الوَلَايَةِ فقدْ خَرَجَتْ مِنْ وَلَايَتِهِ بعدَ أَنْ تَكُونَ نَاظِرَة في مَالِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ. * * * ¬

_ (¬1) ثقاف الولاية: أي عهدها.

باب استئذان البكر والأيم، وأصل ما يكون صداقا، وإرخاء الستور

بابُ اسْتِئْذَانِ البِكْرِ والأَيِّمِ، وأَصْلِ مَا يكُونُ صُدَاقًا، وإرْخَاءِ السُّتُورِ * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الاَيِّمُ أَحَقُّ بنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، والبِكْرُ تُسْتأْذَنُ في نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُها" [1914]، قالَ مَالِكٌ: هَذَا عِنْدَنا في البِكْرِ اليَتِيمَةِ أَنَّهَا لا تُزَوَّجُ إلَّا بعدَ مَشُورَتهَا، ويَكُونُ إذْنُهَا في ذَلِكَ صُمَاتُهَا (¬1). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: لَا خِلَافَ في اليَتَامَى أَنَّهُنَّ لا يُزَوِّجُهَن الأَوْلِياءُ حتَّى يُسْتَأْمَرْنَ في ذَلِكَ، ولَا يَصِحُّ في ذَوَاتِ الأبَاءِ حَدِيثُ: أَنَّهُنَّ لا يُزَوّجُهَنَّ آبَاؤُهنَّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُسْتَأمَرْنَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَديثِ سُفْيَانِ بنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ [عَبْدِ] (¬2) اللهِ بنِ الفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا، والبِكْرُ يَسْتَأْمُرُهَا أَبُوهَا في نَفْسِهَا" (¬3)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: اضْطَرَبَ ابنُ عُيَيْنَةَ في هذَا الحَدِيثِ، ورِوَايَةُ ¬

_ (¬1) معنى (الأيِّم أحق نفسها) أي أنها أحق بنفسها من وليها، بأن تختار من الأزواج من شاءت، فتقول: أرضى فلانا، ولا أرضى فلانا، وليس المراد أن عقد النكاح إليهن دون الأولياء، والأيم هي التي لا زوج لها، وهي الثيب من النساء. (¬2) في الأصل: عبيد، وهو خطأ. (¬3) رواه مسلم (1421)، وأبو داود (2099)، والنسائي 6/ 85، بإسنادهم إلى سفيان به. وقوله (والبكر يستأمرها أبوها) أن الإستئذان عند أكثر العلماء للأب أو الجد مندوب إليه لكمال شفقتهما، بيان كان غيرهما من الأولياء وجب الإستئذان ولم يصح إنكاحها، وقال أبو حنيفة وغيره: يدب الإستئذان في كل بكر بالغة، ينظر: التمهيد 78/ 19، وعمدة القاري 20/ 116.

مَالِكٍ فيهِ أَصَحُّ، وعَلَيْهَا العَمَلُ بالمَدِينَةِ أَنَّ الأَبْكَارِ يُزَوِّجُهَنَّ آبَاؤُهُنَّ بِغَيْرِ إذْنِهِنَّ، ويُنْفَذُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ (¬1). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وقَدْ قَالَ مَالِكٍ في رِوَايةِ ابنِ عبدِ الحَكَمِ عنهُ: حَسَنٌ للأَبِ أَنْ يُشَاوِرَ ابْنتَهُ البكْرَ إذا أَرَادَ نِكَاحَهَا، وأَمَّا البكْرُ غَيْرُ ذَاتِ الأَبِ فَلَا تُزَوَّجُ إلَّا أنْ تَأْذَنَ في ذَلِكَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: صِفَةُ اسْتِئْذَانِ البكْرِ في إنْكَاحِهَا هُوَ أنْ يَقُولَ لَهَا السَّامِعَانِ: إنَّ فُلَانًا خَطَبَكِ على صُدَاقِ كَذَا، الَمُعَجَّلُ مِنْهُ كَذَا وكَذَا إلى أَجَلِ كَذَا وكَذَا، والتزَمَ لَكِ مِنَ الشُرُوطِ كَذَا وكَذَا، وَعَقَدَ عَلَيْكِ النِّكَاحَ وَليَّكِ فُلَانًا، فإنْ كُنْتِ رَاضِيَةً فَاصْمُتِي، وَإِنْ كُنْتِ كَارِهَةً فَتَكلَّمِي، فإنْ صَمَتَتْ فَيُعْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وأَمَّا [الثَّيِّبُ] (¬2) فَلَا بُدَّ لَهَا أَنْ تتكَلَّمَ أَنَّهَا رَضِيَتْ بالنِّكَاح. * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: انْفَرَدَ أَبو حَازِمِ بنُ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ بهَذا الحَدِيثِ: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ للرَّجُلِ: "قَدْ أَنكحْتُها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" [1920]. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وهذَا الحَدِيثُ خَاصٌّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والدَّلِيلُ على ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ المَرْأَةَ قَد وَهَبَت نَفْسَهَا للنبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهَذا خَاصٌّ لَهُ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إلى قَوْلهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، قالَ: وشَيءٌ آخَرُ أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ ولَمْ يَسْتَأْمِرْهَا في تَزْوِيجِه إيَّاهَا مِنْهُ، ولَمْ يَظْهَرْ لَنَا في الحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ نِكَاحَ غَيْرِه - صلى الله عليه وسلم -، ولَا ظَهَرَ لَنَا إنْ كَانَت رَضِيتْ بِمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنَ القُرْآنِ صُدَاقًا أَمْ لَا، فَكَانَ ظَاهِرُ هذَا الحَدِيثِ: أنِّي زَوَّجْتْكَهَا لأَنَّ مَعَكَ قُرْآنًا، إذ لَمْ يَأْمُرْهُ ¬

_ (¬1) ذكر ابن عبد البر في التمهيد 76/ 19 بأنه يمكن أن يكون لفظ (الثيب) جاء به على المعنى، وأنها جاءت مفسرة للفظ (الأيم)، قال: والمصير إلى التفسر أبدا أولى بأهل العلم، وعنى (يستأمرها) أي يستأذنها، وهذا محمول على الندب، أو على اليتيمة كما جاء في بعض طرقه. (¬2) في الأصل: الثايب، وهو خطأ، والصواب ما أثبته.

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتَعْلِيمِه إيَّاهَا، فهذَا كُلُّه يَدُكُ على الخُصُوصِ، ولَهِذا لَمْ يُجِزْ أَهْلُ المَدِينَةِ النِّكَاحَ بِتَعْلِيمِ القُرْآنِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَعْنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذَا الحَدِيثِ: "التَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" إنَّمَا ضَرَبَهُ مَثَلًا على جِهَةِ التَّقْلِيلِ، كَمَا قَالَ في الأَمَةِ الزَّانِيَةِ: "بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ مِنْ شَعْرٍ" (¬1)، ولَمْ يُرِدْ أَنْ تُبَاعَ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ، فَكَذَلِكَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ خَاتَمَا مِنْ حَدِيدٍ صُدَاقُ امْرَأَةٍ. قالَ مَالِكٌ: وأَقَلُّ الصَّدَاقِ رُبْعُ دِينَارٍ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: أَقَلُّ مَا يُوجَدُ عَنِ الصَّحَابةِ في مِقْدَارِ الصَّدَاقِ تَزْوِيجُ عبدِ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ على زِنَةِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ (¬2)، وذَلِكَ نَحْو رُبْعِ دَيِنَارٍ، وإنْ كَانَ قَد اخْتُلِفَ في تَقْدِيرِهَا. وحَدِيثُ النَّعْلَيْنِ لا يُعْلَمُ لَهُ تَوْقِيتٌ في الصَّدَاقِ، إذ قَدْ تُجَاوِزُ قِيمَةُ النَّعْلَيْنِ الرُّبع دِينَارٍ الذي حَدَّهُ مَالِكٌ في الصَّدَاقِ. وحَدِيثُ النَّعْلَيْنِ رَوَاهُ عَاصِمُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ: "أنَّ امْرأَةً تَزَوَّجَتْ بِنَعْلَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لَها: أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بِهَذَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ (¬3). قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: وقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ في عَاصِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ الذِي رَوَى هذا الحَدِيثَ، ولَو ثَبَتَ حَدِيثُهُ لَمْ يَكُنْ مَنْ تَعَلَّقَ بهِ أَسْعَدَ مِمَّن [روَى] (¬4) حَدِيثَ الصَّدَاقِ رُبع دِينَارٍ، إذ لَيْسَ فِيهَا ذِكْر لِقِيمَةِ النَّعْلَيْنِ، وقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَ قِيمَتَها رُبْعَ دِينَارٍ. وأَمَّا حَدِيثُ ابنِ البَيْلِمَانِيِّ الذي قالَ فيهِ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الصَّدَاقُ مَا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2046)، ومسلم (1703)، من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد. (¬2) رواه البخاري (1943)، ومسلم (1427)، من حديث أنس بن مالك. (¬3) رواه الترمذي (1113)، وأحمد 3/ 445، وأبو يعلى 13/ 151، من حديث عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، قال: فذكره. (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

تَرَاضَى عَلَيْهِ الأَهْلُونَ" (¬1)، فَهُو حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، رَوَاهُ الحَجَّاجُ بنُ أَرْطَأَةَ، عَنِ ابنِ المُغِيرَةِ (¬2) - وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ - عَنِ ابنِ البَيْلِمَانِيِّ، وابنُ البَيْلَمَانِيِّ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَوْ ثَبَتَ هذَا الحَدِيثُ لَلَزِمَ مَنْ تَعَلَّقَ بهِ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ على حَبّةٍ وتِبْنَةٍ ومَا لَا قِيمَةَ لَهُ إذا تَرَاضَيا بِذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عَادِمًا للطَّوْلِ في صُدَاقِ الحَرَائِرِ. وأَمَّا حَدِيثُ الحَارِثِ بنِ نبهَانَ، عَنْ أَبي هَارُونَ العَبْدِيِّ، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَضُرُّكُمْ إذا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ بِقَلِيلٍ أَو كَثيرٍ إذا تَرَاضَيْتُم وأَشْهَدْتُمْ" (¬3)، قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وهذَا حَدِيثٌ ليسَ بِثَابِتٍ، إذ رِوَايةُ الحَارِثِ بنِ نَبْهَان وأَبي هَارُونَ العَبْدِيِّ لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِما، ولَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، ولَوْ ثَبَتَ هذَا الحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ فيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ تَعَلَّقَ به، إذ لَا تَوْقِيتَ فِيهِ، وإنَّمَا في هذَا الحَدِيثِ إبَاحَةٌ للتَّقْلِيلِ والتَّكْثِيرِ، ولَكِنْ للتَّقْلِيلِ نِهَايَةٌ لا يَجُوزُ دُونَها، ولَا دَلِيلَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ غَيْرِ هذَا الحَدِيثِ. وعِلْمُ مَالِكٍ أَنَّهُ له بدَّ مِنْ تَوْقِيتٍ في الصَّدَاقِ، فأَخَذَ في ذَلِكَ بأَقَلِّ مَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابةِ، وَهُوَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ، واسْتَدَلَّ على ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ كِتَاب اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَدْ يُسْتَبَاحُ عُضْوٌ مِنْهَا في رُبْعِ دِينَارٍ إنْ سَرَقَتْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ بِهَذا أَلَّا يُسْتَبَاحَ فَرْجُهَا بأَقَلَّ مِنْ رُبعِ دِينَارٍ. وأَخبرنَا أَبو عِيسَى (¬4)، قالَ: حدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ يَحْيىَ (¬5)، عَنْ أَبيهِ، قالَ: مَنْ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (3600)، والبيهقي 7/ 239، من حديث محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس، ورواه أبو داود في المراسيل (215) عن عبد الرحمن بن البيلماني مرسلا. (¬2) هو عبد الملك بن المغيرة الطائفي. (¬3) رواه الدارقطني (3596)، من طريق شريك عن أبي هارون به. (¬4) هو يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي القرطبي القاضي، الإِمام الفقيه المحدث، وهو ممن يروي عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى وغيره، توفي سنة (367)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1350. (¬5) هو عبيد الله بن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي القرطبي، الفقيه المتقن، روى عن أبيه وغيره، توفي سنة (298)، ينظر: السير 13/ 531، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 818.

نَكَحَ بأَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أُمِرَ قَبْلَ البنَاءِ أَنْ يُتِمَّ لَهَا رُبعَ دِينَارٍ، فإنْ أَبَى فُسِخَ نِكَاحُهُ، فإنْ دَخَلَ بِها أُجْبِرَ على تَمَامِ رِبع دِينَارٍ. قالَ: ومَنْ نَكَحَ بِقُرْآنٍ فُسِخَ قَبْلَ البَنَاءِ، وثَبَتَ بَعْدَهُ، ولَهَا صُدَاق مِثْلُهَا في مِلَائِهَا وجَمَالِهَا ومَالِهَا. قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنَّما تُرَدُّ المَرْأَةُ مِنَ الجُنُونِ، والبَرَصِ، والجُذَامِ، ودَاءِ الفَرْجِ، لأَنَّهَا عُيُوبٌ يَمْتَنِعُ بِها الزَّوْجُ مِنَ الوَطْءِ الذي إليهِ قُصِدَ في النكِّاحِ، فإذَا غَرَّتِ المَرْأةُ مِنْ ذَلِكَ زَوْجَهَا، أُخِذَ مِنْهَا الصَّداقُ الذي دَفَعَهُ الزَّوْجُ إليهَا، ويُتْرَكُ لهَا قَدْرَ مَا تُسْتَبَاحُ بهِ، وذَلِكَ رُبع دِينَارٍ، وقَدْ تُزَادُ ذَاتُ الحَالِ على رُبع دِينَارٍ، يُتْرَكُ لَهَا مِنَ المَائةَ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ ونَحْوَها، ويُؤْخَذُ منْها بَاقِي ذَلكَ ويُرَدُّ إلى الزَّوْجِ، فإذا كَانَ الذي غَرَّ بِها الزَّوْجَ وَلِّيُهَا لَزِمَهُ غُرْمُ الصَّدَاقِ للزَّوْجِ، إلَّا قَدْرَ مَا يَتْرُكُ لَهَا مِنْهُ، وقدْ قِيلَ إنَّهُ يُغْرَمُ للزَّوْجِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ، ولَا يُتْرَكُ للوَليِّ مِنْهُ شَيءٍ، وإِنَّمَا هذَا في الوَليِّ يَعْلَمُ أنَّهُ عَالِم بهذِه العُيُوبِ الذي تُرَدُّ بهِ المَرْأَةُ فَيَكْتُمُهَا الزَّوْجَ، ولَمْ يُعَرِّفْهُ بِها، وأَمَّا الوَليُّ الذِي لا يَعْلَمُ بِعُيُوبِ المَرْأةِ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّدَاقِ، ويَكُونُ ذَلِكَ على المَرْأةِ، وللمَرْأةِ أَيْضًا أَنْ تَرُدَّ الرَّجُلَ بِمِثْلِ العُيُوبِ التِّي رَدَّها هُوَ بِها مِنْ قِبَلِهَا، فترُدُّهُ بِها. سأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ أَبي عَرُوبَةَ، عَنْ قتادَةَ، عَنْ [أبي حَسَّانَ وخَلَّاسِ بنِ عَمْروٍ، كِلَاهُمَا عَنْ] (¬1) عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنْهَا ولَمْ يَدْخُلْ بِها، ولَمْ يَفْرِضْ لَهَا، كانَ نِكَاحُهَا نِكُاحُ تَفْوِيضٍ، فقالَ: إنِّي أَقُولُ فِيهَا: أَنَّ لَهَا صُدَاقَا كَصُدَاقِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ ولَا شَطَطَ، وأَنَّ لَهَا المِيرَاثَ، وعَلَيْهَا العِدَّةَ، وإنْ يَكُنْ صَوَابَا فَمِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإنْ [يِكُنْ] (¬2) خَطَأَ فَمِنِّي ومِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَامَ إليه نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من المصادر، وقد سقط من الأصل. (¬2) من المصادر، وهو ضروري للسياق.

فَقَالُوا: نَحْنُ نشهَدُ عِنْدَكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في بَرْوَعَ بنتِ وَاشِقٍ) (¬1)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيُّ بنُ أَبي طَالِب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِه المَسْأَلَةِ، فقَالَ: (لَا صُدَاقَ لَهَا، حَسْبُهَا مِيرَاثُهَا، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ قَضَى فِيهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِخِلَافِ هَذِه، فقالَ: لَا تُصَدِّقِ الأَعْرَابَ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -). حدَّثنا بِقَوْلِ عليٍّ هذَا أَبو مُحَمَّدٍ البَاجِي (¬2)، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ، قالَ: أَخْبَرَنا أَبو يَعْقُوبَ إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ قالَ: حدَّثنا عبدُ الرَّزَاقِ، قالَ: حدَّثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عليِّ بنِ أَبي طَالِب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (¬3). [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: وَبِمِثْلِ قَوْلِ عليٍّ قَالَ فِيهَا ابنُ عُمَرَ، أَنَّ لَهَا المِيرَاثَ وعَلَيْهَا عِدَّةُ الوُفَاةَ، ولَا صُدَاقَ لَهَا، وعلى هذَا أَهْلُ المَدِينَةِ. قالَ مَالِكٌ: الذِي بِيَدِه عُقْدَةُ النكِّاحِ هُوَ الأَبُ في ابْنَتِهِ البِكْرِ، والسيِّدُ في أَمَتِهِ. وقَالَ غَيْرُهُ: الذِي بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاح هُوَ الزَّوْجُ، والذِي قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ الصحِيحُ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَا عُقْدَةَ نِكَاحٍ بِيَدِ الزَّوْج بَعْدَ الطَّلَاقِ، والمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ التَّأوِيلُ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] أَنْ يَعْقِدَ النكَاحَ فِيمَا يَسْتَقْبلُ وَهُوَ الأَبُ والسَّيِّدُ، وعَفْوُ الأَبِ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يِزِيدُ ابْنتَهُ الغِبْطَةَ عَندَ زَوْج آخَرَ، لَأَنَّ هذَا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ. قالَ عِيسَى: ولَيْسَ لابْنَتِهِ أَنْ تَتْبْعَ أَبَاهَا بِمَا عَفَى عَنْهُ الزَّوْجُ مِنْ نِصْفِ صُدَاقِهَا إذا طَلَّقَهَا قَبْلَ البِنَاءِ، وفِعْلُهُ جَائِزٌ عَلَيْهَا. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2116)، وأحمد 1/ 447، والبيهقي في السنن 7/ 246، بإسنادهم إلى سعيد بن أبي عروبة به. والوَكْس -بفتح الواو وسكون الكاف النقص، والشطط: الجور، ينظر: فتح الباري 5/ 153. (¬2) هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم القرطبي، وتقدم التعريف به. (¬3) لم أجده هكذا في مصنف عبد الرزاق، وإنما وجدته في 6/ 393، و 479، عن معمر عن جعفر بن برقان عن الحكم عن علي به، وهذا لا يثبت عن علي.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَكُنْ للنَصْرانِيَّةِ ولَا لليَهُودِتةِ إذا أَسْلَمَتْ قَبْلَ دُخُولِ زَوْجِهَا الذّمّي بِها صُدَاقٌ، لأَنَّ الفُرْقَةَ إنَّما جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، بِسَبَبِ إسْلَامِهَا قَبْلَ دُخُولهِ بِها، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ امْرَأة جَاءَتِ الفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا لا صُدَاقَ لَهَا. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قالَ عِيسَى: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ: "إذا أرْخِيتِ الشتُورِ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ" [1931]، قالَ عِيسَى: تَفْسِيرُهُ إذا عَرَّسَ الرَّجُلُ بالمَرْأَةِ، ودَخَلَ بِها، ثُمَّ طَلَّقَها فَقَالَتْ: مَسَّنِي، وقَالَ هُوَ: لَمْ أَمَسُّهَا، فالسِّتْرُ المُرْخَى عَلَيْهِا شَاهِدٌ لَهَا، تَحْلِفُ مَعَهُ، وتَأَخُذُ الصَّدَاقَ كُلَّهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وقَالهُ أَيْضًا ابنُ المَوَّازِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: أَنَا أَدِينُهَا، ولَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وتَأْخُذُ جَمِيعَ الصَّدَاقَ إذا ادَّعَتْ أَنَّهُ مَسَّهَا، فإنْ صَدَّقتِ الزَّوْجَ في قَوْلهِ: إنَّهُ لَمْ يَطَأهَا، كَانَ لَها نِصْفُ الصَّدَاقِ، وعَلَيْها العِدَّةُ لِخِلْوَتهِ بِها، ولَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا في العِدَّة. وقالَ ابنُ وَهْبٍ: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: حَيْثُ ما أَخَذَ الزَّوْجُ [في] (¬1) الغَلْقِ فالمقَوْلُ قَوْلُ المَرْأةِ في المَسِيسِ إذا ادَّعَتْهُ، كَانَ ذَلِكَ في بَيْتِهَا أو في بَيْتِ الزَّوْجِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ دُخُولَهُ عَلَيْهَا دُخُولَ زِيَارَةٍ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَيحْلِفُ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا، ويُقَوَّمُ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

باب المقام عند البكر والثيب، وما لا يجمع بينه من النساء في النكاح

بابُ المَقَامِ عِنْدَ البِّكْرِ والثَّيِّبِ، ومَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ مِنَ النِّسَاءِ فيَ النِّكَّاحِ * روَى يحيى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي بَكْرٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: لَيْسَ بِكِ على أَهْلِكِ هَوَانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي"، وذَكَرَ الحَدِيثَ (¬1)، كَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ في المُوطَّأ [1935]. وهذِه الرِّوَايةُ تُبَيِّنُ أنَّهُ إنَّمَا قَالَ لَهَا ذَلِكَ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أنْ بَقِيَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ومِنْ هَذا الحَدِيثِ قالَ مَالِكٌ: إذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ ثَيِّبَا وعِنْدَهُ غَيْرُهَا أَقَامَ عِنْدَها ثَلَاثًا، وإذا تَزَوَّجَ بِكْرًا وعِنْدَهُ غَيْرُهَا أَقَامَ عْنَدَها سَبْعًا، ثُمَّ عَدَلَ بَيْنَ نِسَائِهِ، ولَا يَحْسِبُ على التِّي أَقَامَ عِنْدَها الأَيَّامَ التي أَقَامَهَا عِنْدَهَا. وبهذَا قالَ ابنُ القَاسِمِ، أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بالقَسَمِ مِنَ التِّي أَقَامَ عِنْدَهَا. قالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: ولَمْ يَعْنِ بهَذا الحَدِيثِ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ امْرَأةٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أنْ يُقِيمَ عِنْدَها سَبْعًا أَو ثَلَاثًا، وإنَّمَا أُرِيدَ بهِ مَنْ لَهُ زَوْجَة غَيْرُهَا. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وإنَّما أُعْطِيتِ البكْرُ سَبْعًا لِقِلَّةِ مُبَاشَرَتِهَا للرِّجَالِ، فأُزِيدَتْ في عَدَدِ الأَيَّامِ عَلَى الثَّيِّبِ التي قَدْ بَاشَرَتَ الرَّجُلَ وعَرَفَتْهُ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1459)، وأبو داود (2522)، وابن ماجة (1917)، بإسنادهم إلى يحيى القطان به.

* قالَ أَبو المُطَرِّفِ: حَدِيثُ رِفَاعَةَ بنِ سِمْوَالٍ في رِوَايةِ يحيى بنِ يحيى، وابنِ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلٌ [1942] (¬1). ورَوَاهُ ابنُ القَاسِمِ وابنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَا فِيهِ: عَنِ المِسْوَرِ بنِ رِفَاعَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبيهِ، ولَمْ يَقُلْ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ في هذا الحَدِيثِ: عَنْ أَبيهِ (¬2). وقالَ ابنُ بُكَيْرٍ: عَنِ الزُّبَيْرِ في الأَوَّلِ -بالرَّفْعِ-، وقالَ في الثَّانِي: الزَّبِيرِ -بالفَتْحِ- قالَ أَحْمَدُ: الصَّوَابُ فِيهِما الزَّبِيرُ -بالفَتْحِ- وكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ (¬3). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يُبِحِ النبيُّ المَبْتُوتَةَ لِمَنْ أَبَتَّهَا إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَوَطْءٍ صَحِيحٍ، فقالَ: "حتَّى تَذُوقَ عُسَيلَتَهَا"، يَعْنِي: حتَّى يَذُوقَ الزَّوْجُ الذي تَزَوَّجَهَا حَلَاوَةَ وَطْئِهَا إيَّاهَا، فتَحِل حِينَئِذٍ للأَوَّلِ بَعْدَ عِدَّتِها، فإنْ وَطَئِهَا الذي تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حَائِضٌّ، أَو مُحْرِمَةٌ، أَوفي عِدَّةٍ، لَمْ تَحِلَّ بِذَلِكَ للأَوَّلِ إذا طَلَّقَهَا الثَّانِي، وإذا أَرَادَ الذِي تَزَوَّجَهَا بِوَطْئِه إيَّاهَا التَحْلِيلَ أَثِمَ، ولَمْ تَحِلَّ بِذَلِكَ للزَّوْجِ الذي كَانَ أَبَتَّهَا، وإذا أَرَادَتْ هِيَ بالنِّكَاحِ التَّحْلِيلَ ولَمْ يُرِدْهُ الزَّوْجُ الذي تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا وَوَطْئِهِ إيَّاهَا، فإِنَّهَا تَحِلّ بِذَلِكَ للأَوَّلِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ إلى نِكَاحٍ فَاسِدِ، وكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ عَنْهَا الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ وَطْئِه إيَّاهَا، لَحَلَّتْ بِذَلِكَ للأَوَّلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الوَفَاةِ، وهَذِه سُنَّةٌ فَسَّرَتِ القُرْآنَ، وذَلِكَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إنَّمَا قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعنِي: الزَّوْجَ الثَّانِي} فَلَا جُنَاحَ عَلَيَهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البفرة: 230]، يَعْنِي: أن يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ الأَوَّلُ الذي كَانَ أَبَتَّهَا، ولَمْ يَذْكُرْ مَوْتَ الثَّانِي. ¬

_ (¬1) موطأ مالك، برواية ابن بكير، الورقة (139 ب)، نسخة الظاهرية. (¬2) ينظر: موطأ ابن وهب (264)، ولم أجد الحديث في تلخيص القابسي لموطأ ابن القاسم، ولم أجده أيضًا في مسند الموطأ للجوهري ص 503، ولا في أطراف الموطأ للداني 4/ 553. (¬3) ينظر: أطراف الموطأ 4/ 553 - 554، والإكمال لإبن ماكولا 4/ 166.

قالَ عِيسَى: إذا أَرَدّتَ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأةٍ وبَينَ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ مِن قَرَابَتِهِا، فَمَثِّلْ أَحَدَهُمَا رَجُلًا، فإنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ المَرْأَةَ هُو يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَهُمَا في النِّكَاحِ، وإنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَلَا تَجْمَعْ بَينَهُمَا، وإنَّمَا هذَا في قَرَابَةِ النَّسَب والرَّضَاعِ، فَأَمَّا الأَجْنَبيَّاتِ فَلَا بَأسَ أنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ امْرَأة الرَّجُلِ وابْنَتَهُ مِن امْرَأَةٍ أُخرَى، وقَدْ يَنْكِحُ أُمَّ الرَّجُلِ وامْرَأتَهُ، وهذا إذا مَثَّلْتَ أَحَدُهُما رَجُلًا، لَمْ يَحِل للرَّجُلِ مِنهَا أَنْ يَنْكِحَ المَرْأةَ. * قَؤلُ زيدِ بنِ ثَابتٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ نِكَاح الأمِّ بَعْدَ الابْنَةِ إذا لمْ تَكُن الإبنَةُ مُشَت، فقَالَ: (لَا، الأُمُّ مُبْهَمَةٌ) [1950]، لَمْ يَقُل: دَخَلْتَ بالأُمِّ أَو لَمْ تَدْخُلْ. قالَ أَبو إسْحَاقَ الزَّجَّاجُ (¬1): المُبْهَمُ في كَلَامِ العَرَبِ هُوَ الكَلَامُ الذي لا مَنْفَذَ لَهُ. قَوْلُ زيدٍ: "إِنَّمَا الشَّرْطُ في الرَّبَائِبِ"، يَعْنِي: قَوْلَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]، تعْنِي: نِكَاحَ الرَّبِيْبَةِ غَيْرِ المَدْخُولِ بأُمِهَا حَلَالٌ إذا طَلَّقَ أُمَّهَا قَبلَ أَن يَدْخُلَ بِهَا. قالَ عِيسَى: كُلُّ مَنْ نَكَحَ امْرَأةَ فَلَذَّ مِنْها بِشَيءٍ رُؤْيَةً فَمَا فَوْقهَا أَوْ لَمْ يَتَلَذَذْ، فَقَدْ حَرُمَت عَلَيه أُمُهَا، وكَذَلِكَ على أَبيهِ وابْنهِ، وكُلُّ مَنْ نَكَحَ امْرَأةً فَلَذَّ مِنْهَا بِشَيءٍ فَبَنَاتُهَا وبَنَات بَنِيهَا حِلٌّ لَهُ. قالَ ابنُ عَبدِ الحَكَمِ: قَالَ مَالِكٌ: ومَنْ وَطِءَ خَتَنتَهُ (¬2) فإنه يَجْتَنِبُ وَطءَ امْرَأتِه، ومَنْ تَلَذذَّ بامْرَأةٍ حَرَامًا فَلَا يَتَزَّوَجُ ابْنَتَهَا. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: هذَا خِلَافُ مَا في المُوطَّأ [1954]، ووَجْهُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن محمد بن السرى البغدادى، الإِمام العلامة اللغوي، مصنف كتاب (معانى القرآن) وغيره، توفي سنة (311)، السير 14/ 365. (¬2) الختن: هو كل من كان من أقارب المرأة.

في المُوَطَّأ: أَنَّ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، وذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ لا يَثْبُتُ فِيهِ، وأنَّ الحَدَّ يَجِبُ فِيهِ، وأَنَّهُ لا حُرْمَةَ لَهُ، فلِهذَا لا يُحَرِّمُ الزِّنَا حَلَالًا. ووَجْهُ مَا قَالَ مَالِكٌ في غَيْرِ المُوطَّأ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا هُوَ للوَطْءِ، فإذا وَقَعَ الوَطْءُ بأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ التَّحْرِيمُ، فَإِذا وَطِءَ خَتَنَتَهُ فَارَقَ امْرَأتَهُ.

باب ما لا يجوز من النكاح، إلى آخر باب الجمع بين الأختين من ملك اليمين

بابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَاحِ، إلى آخِرِ بَابِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُختَيْنِ مِنْ مِلْكِ اليَمِينِ الشِّغَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ المُشَاغَرَةِ، وَهُوَ: رَفْعُ الكَلْبِ سَاقَهُ عِنْدَ بَوْلِهِ، فَصَارَ عَاقِدُ النِّكَاحِ على الشِّغَارِ قَاصِدَاً إلى رَفْعِ الصَّدَاقِ، وشَغَرَتْ بَلْدَةٌ سُلْطَانَ فِيهَا، أَي ارْتَفَعَتْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّغَارِ، لأَنَّ هَؤُلاَءِ إذا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ رَفَعُوا بَيْنَهُمَا الصَّدَاقَ، فَتَصِيرُ الزَّوْجَةُ مَوْهُوبَةً بِغَيْرِ صُدَاقٍ، فَلِذَلِكَ يُفْسْخُ النِّكَاحُ مَتَى عُقِدَ على الشِّغَارِ. وابنُ القَاسِمِ يَسْتَحِبُّ فَسْخَهُ بِطَلاَقٍ، وَيكُونُ لَهَا بعدَ الدُّخُولِ صُدَاقُ مِثْلِهَا. وغَيْرُ ابنِ القَاسِمِ يَفْسَخُهُ بِغَيْرِ طَلاَقٍ. * قالَ عِيسَى: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ في نِكَاحِ السِّرِّ: "لَا أُجِيزُهُ، ولَوْ كُنْتُ تُقُدِّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ) [1960]، يَعْنِي: لَوْ تَقَدَّمَ لِي فِيهِ عَهْدٌ إلى النَّاسِ أَلَّا يَعْقِدُوا نِكَاحًا في سِرٍّ لَرَجَمْتُ مَنْ فَعَلَ هَذا. قالَ عِيسَى: وهذَا تَشْدِيدٌ مِنْ عُمَرَ، والحُكْمُ فيهِ إذا وَقَعَ أَنْ يُفْسَخَ النِّكاحُ، دَخَلَ أَو لَمْ يَدْخُلْ، وكُل نِكَاحٍ اسْتَكْتَمَهُ الشُّهُودُ وإن كَثَرُوا فَهُو نِكَاحُ سِرٍّ، هذَا قَوْلُ ابنِ القَاسِمِ. وقالَ يحيى بنُ يحيى: لَا يَكُونُ نِكَاحُ سِرٍّ إلَّا مِثْلُ النِّكاحِ الذي وَقَعَ بِعَهْدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وامْرَأَةٌ، فأَمَّا إذا شَهِدَ عَليْهِ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ فَمَا زَادَ، فَلَيْسَ بِنِكَاحِ سِرٍّ. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: قِيلَ لِمَالِكٍ: أتَأْخُذُ بِفِعْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -

في ضَرْبِهِ طُلَيْحَةَ وزَوْجَهَا حِينَ تَزَوَّجَها في العِدَّةِ؟ [1961]، فقَالَ: لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ إلَّا بقَدْرِ عِلْمِهِما بِمَا قَدْ دَخَلا فيهِ، وأَمْرُ الجَاهِلِ أَخَفُّ مِنَ العَالِمِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِفِرَاقِ المُتَزَوِّجَةِ في العِدَّةِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولَيْسَ فيهِ شَيءٌ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَا قَضِيَّهٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدّيقِ، وإنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ مِنْ أَجْلِ أنَّهُمَا أَرَادا أَنْ يَسْتَبِيحَا الشَّيءَ قَبْلَ وَقْتِهِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، يعنِي: حتَّى تَنْقَضِي العِدَّةُ، فَمَنْ قَصَدَ إلى عَقْدِ النِّكَاحِ في العِدَّةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ، فَلِذَلِكَ يُفْسَخُ نِكَاحُهُ، فإنْ دَخَلَ بِها وَوَطِئَهَا في المُدَّةِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ولَمْ يَتَزَوَّجْهَا أبَدًا، عُقُوبَةً لِمَا صَنَعَ، وتُحْرَمُ بِهذَا الوَطْءِ على آبَائِهِ وأَبْنَائِهِ، ويَكُونُ لَهَا المُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ، ويَثْبُتُ فِيهِ الوَلَدُ، وعَلَيْهَا العِدَّةُ، لَكَيْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا زَوْجٌ غَيْرَهُ، وَيكُونُ فَرْجُهَا بَرِئٌ مِنَ الوَطْءِ الفَاسِدِ. وقالَ [أَبو] (¬1) عُمَرَ: تَنْظُرُ إلى مَا مَضَى مِنْ عِدَّةِ الأَوَّلِ، فَتَبْنِي عَلَيْهِ تَمَامَ عِدَّتِها مِنَ الأَوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي عِدَّةً مُسْتَأْنَفَةً. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وقَالَ أَصْبَغُ: الأَمْرُ عِنْدَنا في هذَا أَنَّهُ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا في عِدَّةٍ مِنْ وَفَاةٍ ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُما أَنَّهَا تَنْتَظِرُ أَقْصَى الأَجَلَيْنِ، تَعْتَدُّ مِنَ الهَالِكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرَا، وتَكُونَ مُحِدَّاةً في ذَلِكَ، وتَعْتَدُّ (¬2) مِنَ الذي مَسَّهَا بِثَلاَثِ حُيَّضٍ، تَدْخُلُ الحُيَّضُ في الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ والعَشَرَةِ الأَيَّامِ، لأَنَّهَا اسْتِبْرَاءٌ، فإذا انْقَضَتْ عِدَّةُ الوَفَاةِ مِنْ يَوْمِ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلاَثَ حُيَّضٍ سَقَطَ عَنْهَا الإحْدَادُ، وخَرَجَتْ مِنْ عِدَّةِ الوَفَاةِ، ولَمْ تَحِلَّ للأَزْوَاجِ حتَّى تُتِمَّ الثَّلاَثَ حُيَّضٍ، فإنْ حَاضَتْ ثَلاَثَ حُيِّضٍ قَبْلَ تَمَامِ عِدَّةِ الوَفَاةِ فإنها لَا تَحِلُّ للأَزْوَاجِ حتَّى تَنْقَضِي عِدَّةُ الوَفَاةِ. قالَ أَصْبَغُ: وإنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا في عِدَّة مِنْ طَلاَقِ البَتَّةِ كَانَ عَلَيْهَا ثَلاَثُ حُيِّضٍ، اسْتَبْرَاءً مِنْ مَسِيسِ الآخِرِ، ونُظِرَ إلى مَا مَضَى مِنْ حَيْضِ عِدَّتِها قَبْلَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وهو لابد منه. (¬2) من هنا بدأت نسخة المكتبة العتيقة بالقيروان في هذا الموضع.

الثَّانِي، فإنْ كَانَ مَضَتْ حَيْضَةٌ أَو حَيْضَتَانِ بنَتْ علَى ذَلِكَ مِنْ حُيَّضِ الإسْتَبْرَاءِ، فإذا تَمَّتْ ثَلاَثُ حُيَّضٍ مِنَ الطَّلاَقِ لَمْ يُلْزَمِ الزَّوْجُ الأَوَّلُ سُكْنَاهَا فِيمَا بَقِيَ مِن حُيِّضِ اسْتِبْرَائِهَا، وانُتَقَلَتْ حَيْثُ شَاءَتْ، حتَّى تَنْقَضِي حُيَّضُ الإسْتَبْرَاءِ. قالَ: وإنْ كَانَ طَلاَقُ الزَّوْجِ الأَوَّلِ إيَّاهَا على سُنَّةِ الطَّلاَقِ وتَزَوَّجَتْ في العِدَّةِ فُسِخَ نِكَاحُ الثَّانِي، واسْتَقْبَلَتْ بِثَلاَثِ حُيِّضٍ الإسْتِبْرَاءِ، تَبْرَئَها مِنْهُ ومِنْ بَقِيَّةِ عِدَّتِها مِنَ الأَوَّلِ، فإنْ أَرَادَ الأَوَّلُ ارْتَجَاعَهَا في بَقِيَّةِ عِدَّتِها مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وُيشْهِدُ على رَجْعَتِها، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ حتَّىْ يُتِمَّ حُيَّضِ الإسْتِبْرَاءِ مِنَ الثَّانِي. قالَ أَصْبَغُ: فإنْ كَانَتْ قَدْ حَمَلَتْ مِنَ الثَّانِي أَجْزَأَهَا الوَضْعُ مِنَ الإسْتِبْرَاءِ، ولَمْ يُجِزْهَا مِنْ عِدَّةِ الأَوَّلِ، لأَنَّ عِدَّتَهَا مِنْهُ بالحَيْضِ، فَلَا يَبْرَئَها الوَضْعُ، ولَا يَبْرَأَهَا إلَّا الحَيْضُ لأَنَّه الأَوَّلُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّما كُرِهَ نِكَاحُ الأَمَةِ على الحُرَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُبِحْ نِكَاحَ الأَمَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ، وَهُمَا: عَدَمُ الطَّوْلِ، وخَوْفُ العَنَتِ، فإذا رَضِيتِ الحُرَّةُ بِدُخُولِ الأَمَةِ عَلَيْهَا كَانَ القَسَمُ بَيْنَهُمَا بالسَّوَاءِ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الأَزْوَاجَ بالعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وإذا كَرِهَتِ الحُرَّةُ دُخُولَ الأَمَةِ عَلَيْهَا كَانَتْ بالخَيَارِ، إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعْ زَوْجِهَا، وإنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَكُنْ لِمَنْ طَلَّقَ أَمَةً ثَلاَثَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا أَنْ يَطَأَهَا حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، مِنْ أَجْلِ أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُبِحْ المَبْتوتَةَ لِمَنْ أَبَتَّهَا إلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْئِهِ إيَّاهَا (¬1) بِمِلْكِه لَهَا، وكَذَلِكَ المُسْلِمُ يَتَزوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ، ثُمَّ يُطَلَّقُهَا ثَلاَثًا، فَتَتَزَّوَجَ بَعْدَهُ نَصْرَانِيَّاً، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، أَنَّهَا لَا تَحِلَّ لِزَوْجِهَا المُسْلِمِ الذِي كَانَ أَبَتَّ طَلاَقهَا (¬2) بِوَطْءِ النَّصْرَانِيِّ إيَّاهَا، ولا يَحِلُّهَا ¬

_ (¬1) في نسخة (ق): وطئها بملكه إياها. (¬2) في (ق): الذي كان طلقها.

[للأَوَّلِ] (¬1) إلَّا وَطْءٌ صَحِيحٌ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ مِنْ سَيِّدِهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، وكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، لأَنَّ ذَلِكَ الجَنِينَ عُضْوٌ مِنْهَا، فَلَمَّا سَرَى إليه العِتْقُ بِمِلْكِ أَبِيهِ لهَا صَارَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ عُثْمَانَ في الأُخْتَيْنِ: (مَنْ مَلَكَ اليَمِينَ أَحَلَّتْهُمَا آيةٌ، وحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ) [1974]، يَعْنِي بالآيَةِ المُحَلِّلَةِ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، فهذِه أَحَلَّتْ مِلْكَ اليَمِينِ كُلِّهِ، وأَمَّا الآيَةُ المُحَرَّمَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، قالَ ابنُ سَلاَمٍ: يَعْنِي مَا قَدْ مَضَى (¬2) قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وأَمَّا الآنَ فَلَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا (¬3). * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ لابنِهِ في الجَارِيَةِ التِّي وَهَبَهُ إيَّاهَا: (لا تَقْرَبْهَا، فإني قَدْ رَأَيْتُ سَاقَهَا مُنْكَشِفَةً) [1981]، يُرِيدُ: لَا تَقْرَبْهَا للوَطْءِ، فَإنِّي قَدْ نَظَرَتُ إلى سَاقِهَا نَظْرَةَ شَهْوَةٍ، فالنَّظَرُ هُوَ أَوَّلُ أَسْبَابِ الوَطْءِ، وقَدْ حَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- على الأَبْنَاءِ مَا وَطِئَهُ الآبَاءُ، بِقَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، كَمَا حَرَّمَ على الآبَاءِ مَا وَطِئَهُ الأَبْنَاءُ، بِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]. وفِي قَوْلِ مَرْوَانَ مِنَ الفِقْه: أَنَّ الشَّيءَ المُحَرَّمِ يَمْتَنِعُ منهُ بأَقَلِّ سَبَبٍ، كَمَا مَنَعَ هُوَ ابْنَهُ مِنْ وَطْءِ الأَمَةِ التِّي وَهَبَهُ إيَّاهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ نَظَرَ إلى سَاقِهَا نَظْرَةَ شَهْوَةٍ. * * * ¬

_ (¬1) من نسخة (ق)، وفي الأصل: الأول. (¬2) في هذا الموضع انتهت نسخة القيروان. (¬3) ينظر تفسير ابن أبي زمنين 1/ 152.

باب النهي عن وطء إماء أهل الكتاب، إلى آخر كتاب النكاح

بابُ النَّهْي عَنْ وَطْءِ إمَاءِ أَهْلِ الكِتَابِ، إلى آخِرِ كِتَابِ النِّكَاحِ قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَحِلَّ لِمُسلِمٍ أنْ يَتَزَوَّجِ أَمَةَ كِتَابِيٍّ، لِئَلَّا يَرِقَّ وَلَدُهُ لِغَيْرِ مُسْلِمٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الوَلَدَ تَبَعٌ لأُمِّه في الرِّقِ، ومَنَعَ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ تَزْوِيجِ أَمَةٍ يَهُودِيَّةٍ أَو نَصْرَانِيَّةٍ وإنْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ بِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، ولَمَّا أَبَاحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- للمُسْلِمِينَ نِكَاحَ حَرَائِرِ أَهْلِ الكِتَابِ جَازَ وَطْءُ الإمَاءِ مِنْهُنَّ، ولَمَّا مَنَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ نِكَاحِ المُشْرِكَاتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الكِتَابِ كالمَجُوسِيَّاتِ وعَبَدةِ الأَوْثَانِ، فَقَالَ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وَجَبَ ألاَّ تُوطَأ الإمَاءُ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ اليَمِينِ. * قالَ عِيسَى: قَوْلُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: (المُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ أولاَتِ الأَزْوَاجِ، ويَرْجِعُ ذَلِكَ إلى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَّمَ الزِّنَا) [1986]، يُرِيدُ: أَنَّ الإحْصَانَ لا يَكُون بِزِنَا، ولَا يَكُونُ إلَّا بِنِكَاحٍ. وقالَ غَيْرُ عِيسَى: مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، ويَرْجِعُ ذَلِكَ إلى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَّمَ الزِّنَا، يَعْنِي: أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ [وتَعَالَى] (¬1) لَمَّا حَرَّمَ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي لَا يَحِلُّ وَطْئُهُنَّ بالنِّكَاحِ مِنَ القَرَابَاتِ أَضَافَ إليْهِنّ النِّسَاءَ المُحْصَنَاتِ ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ، فَجَعَلَهُنَّ مُحَرَّمَاتٍ، فَلَا يُمْكِنُ وَطْءُ ذَاتِ زَوْجٍ، إلَّا بِزِنَا، وفِي هذَا أَيْضَا رَدُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ في الأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ: أَنَّ بَيْعَهَا طَلاَقُهَا، فقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وهو ضروري للسياق.

لا تُوطَأُ إلَّا بزِنَا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى مِنْ ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ السَّبَايَا، فقَالَ: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. قالَ ابنُ القَاسِمِ: هُنَّ السَّبَايَا ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ بأَرْضهِنَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُوطَئْنَ إذا سُبَيْنَ بَعْدَ الإسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ، أَو مَوْضِعِ حَمْلٍ إنْ كَانَتْ حَامِلًا، أَو ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ في الصَّغِيرَةِ أو اليَائِسَةِ مِنَ المَحِيضِ، لأَنَّ السَّبْيَ يَهْدِمُ النِّكَاحَ. قالَ عِيسَى: والإحْصَانُ ثَلاَثَةٌ: إحْصَانُ نِكَاحٍ، وإحْصَانُ عَفَافٍ، وإحْصَانُ إسْلاَمٍ. [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: فَإحْصَانُ النِّكَاحِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]، وإحْصَانُ العَفَافِ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، وإحْصَانُ الإسْلاَمِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. * قالَ أَبو عُبَيْدِ: طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ في حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ" [1993]، وذَكَرَ الحَدِيثَ، وقَالَ: إنَّمَا رَخصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المُتْعَةِ في عُمْرَةِ القَضِيَّةِ بِمَكَّةَ، وكَانَتْ عُمْرَةُ القَضِيَّةِ بَعْدَ خَيْبَرَ بِعَامٍ. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: فَوَجْهُ الحَدِيثِ عِنْدَنَا: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُتْعَةِ"، فَهَذَا كَلاَمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: "ونَهَى عَنِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ بِخَيْبَرَ". قالَ أبو عُبَيْدٍ: وقَدْ حدَّثنا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحَسَنِ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ في عُمْرَتِهِ تَزَيَّنَ نِسَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَشَكَى ذَلِكَ أَصْحَابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليه، فَقَالَ لَهُم: تَمَتَّعُوا مِنْهُنَّ واجْعَلُوا بَيْنَكُم الأَجْلَ بَيْنَكُم وبَيْنَهَا ثَلاَثًا، فَمَا أَحْسَبُ رَجُلًا مِنْكُم يَسْتَمِكُنُ مِنْ امْرَأَةٍ ثَلاَثًا إلَّا وَلأَها الدُّبُرِ، قالَ الحَسَنُ: فَإنَّمَا كَانَتِ المُتَعَةِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ ولَا بَعْدَهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في السنن 1/ 250، عن هشيم بن بشير به، وقول الحسن خاصة رواه عبد الرزاق في المصنف 7/ 503.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: حدَّثنا بهذَا أَبو مُحَمَّدِ بن عُثْمَانَ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ، عَنْ عليِّ بنِ عبدِ العَزِيزِ، عَنْ أبي عُبَيْدِ القَاسِمِ بنِ سَلَّامٍ. قالَ ابنُ عُثْمَانَ: وحدَّثنا ابنُ خُمَيْرٍ (¬1)، عَنِ ابنِ مُزَيْنٍ، قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: المُتْعَةُ الآنَ سِفَاحٌ لَا نِكَاحٌ. قالَ عِيسَى: وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ تَمَتَّعَ الآنَ بامْرَأةٍ عَالِمًا عَامِدًا نُكُّلَ أَشَدَّ النِّكَالَ، وكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ نِكَاحٍ حَرَّمَهُ القُرْآنِ فَعَلَى مَنْ عَقَدَهُ عَالِمًا عَامِدًا الحَدُّ، يُجْلَدُ فِيهِ البِكْرُ مَائةً، ويُرْجَمُ المُحْصَنُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: المُتَعْةُ حَرَامٌ، حَرَّمَهَا النِّكَاحُ والطَّلاَقُ والعِدَّةُ، وقَدْ صَحَّ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رُجُوعَهُ عَنْ قَوْلهِ بإبَاحَتِهَا، هذَا هُوَ المَشْهُورُ عَنِ ابنِ عبَّاسِ، وسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْهَا فَقَالَتْ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6]، فالمُتْعَةُ لَيْسَتْ زَوْجِيَّةً، ولَا مِلْكَ يَمِينٍ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا جَازَ للعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ، لِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فَدَخَلَ في هذَا الخَطَابِ الحُرُّ والعَبْدُ. وقالَ غَيْرُهُ: يَرْوِي عَنِ ابنِ وَهْبٍ أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ العَبْدَ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَوْجَتَيْنِ، وهذَا خِلاَفُ مَا نَقَلَهُ عنهُ أَصْحَابُهُ، أَنَّ العَبْدَ لَهُ أنَّ يَنْكَحَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ، مِثْلَ الحُرِّ سَوَاءٌ. قالَ الأَبْهَرِيُّ: لَمَّا لَمْ يَجُزْ للرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ ابْتِدَاءً، ولَا للمَرأةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَبْدُهَا ابْتِدَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَبْقَيا على نِكَاحِهِمَا إذا مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَتَى وَقَعَ مِلْكُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبهِ وَقَعَ الفَسْخُ أَبَدًا، والفَسْخُ أَبَدًا في النِّكَاحِ هُوَ مَا يَقَعُ بِغَلَبَةٍ ولا يَقَعُ باخْتِيَارٍ، فإذا أَعْتَقتِ المَرْأةُ زَوْجَهَا بعدَ أَنْ تَشْتَرِيهِ ¬

_ (¬1) هو أبو عثمان سعيد بن خمير الرُّعيني القرطبي، الإِمام الفقيه، توفي سنة (301)، وتقدم التعريف به.

مِنْ سَيِّدِه ابْتَدَيا عَقْدَ النِّكَاحِ إذا أَرَادَ ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ في الفَسْخِ رَجْعَةٌ في العِدَّةِ، لأنَّ الرَّجْعَةَ إنَّما تَكُونُ في غَيْرِ الطَّلاَقِ البَائِنِ، وَهُو طَلاَقُ السُّنَّةِ، فهَذا الذي للزَّوْجِ فيهِ الرَّجْعَةُ في العِدَّةِ. قالَ عِيسَى: لا بَأْسَ بِتَكْنِيَةِ الذِّمِّي، كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِصَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ. وقالَ غَيْرُهُ: لا يُكْنَى اليَهُودِيُّ ولَا النَّصْرَانِيُّ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلْزَمَهُمْ الصَّغَارَ والذُّلَّ، والكُنْيَةُ هِيَ تَشْرِيفٌ للرَّجُلِ، وإنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَنِّي عُظَمَاءَ المُشْرِكِينَ على سَبِيلِ الإسْتِئلاَفِ لَهُمْ ولِمَنْ وَرَاءَهُم مِنْ عَشَائِرِهم. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: مَعَنى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ: "إنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتُهُ، وإلَّا [سَيَّرْتَنِي] (¬1) شَهْرَيْنِ" [2001] يَعْنِي: إنْ رَضِيتَ الإسْلاَمَ الذي أَدْعُوكَ إليه، وإلَّا أَنْتَ آمِنْ مُدَّةً مِنْ شَهْرَيْنِ، لَا يَعْرِضُ لَكَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمينَ، وهذَا أَصْلٌ في عَقْدِ الصُّلْحِ بينَ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ مُدَّة مَعْلُومَةً، علَى حَسَبِ مَا يَرَوْنَهُ مَصْلَحَةً لَهُم. قالَ مَالِكٌ: إذا أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا الفُرْقَةُ إذا عُرِضَ عَلَيْهِا الإسْلاَمُ فَأَبتْ أَنْ تُسْلِمَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا هذَا في غَيْرِ الكِتَابِيَّاتِ، فَأَمَّا اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرَانِيَّةُ إذا أَسْلَمَ زَوْجُهَا ولَمْ تُسْلِمْ هِيَ فإنها تَبْقَى مَعَهُ زَوْجَةً كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الإسْلاَمِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ للمُسْلِمِ تَزْوِيجُ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ، وأَمَّا إذا أَسْلَمَتِ المَرْأَةُ وزَوْجُهَا كَافِرٌ فإنَّهُ أَحَقُّ بِها إذا أَسْلَمَ مَا دَامتْ في العِدَّةِ. قالَ الأَبْهَرِيُّ: لأَنَّ إسْلاَمَهُ في عِدَّتِها بِمَنْزِلَةِ رَجْعَةٍ لهَا إذا طَلَّقَهَا، لأَنَ إسْلاَمَهُ فِعْلَةٌ، ورَجْعَتُهُ فِعْلَةٌ، فَصَحَّ بِهِما النِّكَاحُ، وبِهذَا حَكَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صَفْوَانَ حِينَ أَسْلَمَ بَعْدَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ في العِدَّةِ، وفي عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ وزَوْجَتِهِ. * قالَ عبدُ الرَّحمنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعَبْدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ: "أَوْ لِمْ وَلَوْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ، وفي الأصل: صرت.

بِشَاةٍ" [2006] يَقُولُ: أَطْعِمْ في عُرْسِكَ وَلَوْ شَاةً، وفِي هذَا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: الَتَّأْكِيدُ في وَلِيمَةِ العُرْسِ، وأَنَّ الزَّوْجَ يُؤْمَرُ بِهَا. وقَدْ حَدَّثنا أَبو القَاسِمِ [هِشَامُ] بنُ أَبِي خَلِيفَةَ بِمِصْرَ (¬1)، قالَ: حدَّثنا أَبو بِشْرٍ الدُّولاَبِيُّ، قالَ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، قالَ: حدَّثنا أَبو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قالَ: حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورِ بنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: "أَوْلَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على بَعْضِ نِسَائهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ" (¬2). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُعِيَ أَحَدُكُم إلى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا" [2008] إنَّمَا ذَلِكَ في العُرْسِ وَحْدَهُ، ولَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أن يُدْعَا إليه إلَّا أَجَابَ، صَائِمًا كَانَ أَو مُفْطِرَاً، فإنْ كَانَ مُفْطِرًا أَكَلَ، وإنْ كَانَ صَائِمًا دَعَا لَهُم ثُمَّ انْصَرَفَ، وإنَّمَا أَمَرَ بالوَليمَةِ لِكَيْ يَشْهَدَ أَمْرَ النِّكَاحِ، وقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ: "أعْلِنُوا هذِه المَنَاكِحَ، واضْرِبُوا عَلَيْهَا بالدُّفِّ" (¬3). قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: يَعْنِي بالدُّفَ هُوَ الذِي في صِفَةِ الغِرْبَالِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ أَتَى إلى وَلِيمَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا لَهْوَاً كالزَّمِيرِ والعُودِ فَلَا يَدْخُلْ ولَيَنْصَرِفْ، وأَمَّا إذا كَانَ الدُّفُ والكَبَرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ (¬4). قالَ: ويُكْرَهُ لِمَنْ دُعِيَ إلى وَلِيمَةٍ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ لَهُ: أُدْعُ مَنْ لَقِيتَ، فإذا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَمُبَاحٌ لِمَنْ دَعَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ ألَّا يُجِيبَ إلى تِلْكَ الوَليمَةِ، ومُبَاحٌ لَهُ أَنْ يُجِيبَ. * قالَ عِيسَى: الذِي وَقَعَ في نَفْسِي مِنْ مَسْأَلةِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ آثَرَ امْرَأَتَهُ ¬

_ (¬1) هو هشام بن محمد بن قرة بن أبي خليفة الرعيني المصري، المتوفى سنة (376)، وتقدمت ترجمه فيما سبق، وجاء في الأصل: (هاشم)، وهو خطأ (¬2) رواه البخاري (4877) عن محمد بن يوسف عن سفيان الثوري به. (¬3) رواه الترمذي (1089)، وابن ماجه (1895)، من حديث عائشة، ورواه أحمد 4/ 5، من حديث عبد الله بن الزبير. (¬4) الكَبَر -بالتحريك- هو الطبل ذو الوجه الواحد، المعجم الوسيط 2/ 773.

الشَّابَّة على الأُخْرَى القَسْمَ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ في المَبيتِ خَاصَّةً [2017]، وذَلِكَ أنَّ الأَثَرَةَ للرَّجُلِ جَائِزَةٌ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤْثِرَ بهِ إحْدَى زَوْجَاتِهِ مِنْ مَالِهِ بعدَ العَدْلِ في المَبِيتِ والنَّفَقَةِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وقالَهُ ابنُ القَاسِمِ. وقَالَ ابنُ نَافِعٍ: لا أُحِبُّ ذَلِكَ لأَحَدٍ، إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، يعنِي: تَتْرُكُوا الزَّوْجَةَ كالمَحْبُوسةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا أُرْخِصَ للمُحْرِمِ في مُرَاجَعَةِ امْرَأَتِهِ إذا كَانَتْ في عِدَّة مِنْهُ، مِنْ أَجْلِ أَن رَجْعَتَهُ كَلاَمٌ، يَقُولُ: أُشهِدُكُم أَنِّي قَدْ رَاجَعْتُ امْرَأَتِي، ولَيْسُ هُوَ اسْتِئْنَافُ نِكَاحٍ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مُحْرِمًا لأَجْزَأَهُ أَنْ يُرَاجِعَ بالإشْهَادِ دُونَ المَسِيسِ، بِخِلاَفِ المُولِي (¬1) الذِي لا يَصِحُّ ارْتِجَاعُهُ إلَّا بالمَسِيسِ لِمَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِطَلاَقِهِا ثُمَّ رَاجَعَهَا في عِدَّتِها فَلَمْ يَطَأْهَا حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَقَدْ بَانَتْ منهُ. * * * تَمَّ الكِتَابُ، بحَمْدِ اللهِ، وحُسْنِ عَوْنهِ، وتَأييّدِه، ويُمْنِه، وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وسلَّم يَتْلُوهُ كِتاَبُ الطَّلاَقِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى * * * ¬

_ (¬1) يعني الذي يحلف على زوجاته أو على بعضهن بأن لا يقربهن أربعة أشهر أو أكثر، وسيأتي الحديث عنه في الباب القادم.

تفسير كتاب الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ الطَّلاَقِ * قَوْلُ ابنِ عبَّاسٍ للذِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مَائَةَ تَطْلِيقَةٍ: (طَلُقَتْ مِنْكَ بِثَلاَثٍ، وسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ آيَاتِ اللهَ هُزْوًا) [2021] يَقُولُ: تَرَكْتَ الطَّلاَقَ الذي أَمَرَ اللهُ بهِ، وتَهَاوَنْتَ بِذَلِكَ، واسْتَهْزَأْتَ بأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، يَلْزَمُكَ مَا أَلْزَمْتَهُ نَفْسَكَ، ومَا نَطَقَ بهِ لِسَانُكَ. قالَ مَالِكٌ: الطَلاَقُ الذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهِ هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فيهِ طَلْقَةً، ثُمَّ يُمْهِلُهَا حتَّى تَحِيضَ ثَلاَثَ حُيَّضٍ، ولا يُتْبِعْهَا طَلاَقًا. قِيلَ لَهُ: أَفَيُطَلِّقُهَا في كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً؟ فَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وقَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بهَذِه البَلْدَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ. * قَوْلُ ابنِ مَسْعُودٍ للذِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَمَانِي تَطْلِيقَاتٍ أَنَّها قَدْ بَانَتْ مِنْكَ بِثَلاَثٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (لَا تَلْبِسُوا على أَنْفُسِكُمْ) [2022]، يَعْنِي: لَا تَخْلِطُوا على أَنْفُسِكُم، فَتَتَعَدُّوا مَا أُمِرْتُمْ بهِ في الطَّلاَقِ، فإنَّهُ (كَمَا تَقُولُونَ)، يَعْنِي: يُلْزِمَكُمْ وإنْ كُنْتُمْ قَدْ تَعَدَّيْتُمْ فَطَلَّقْتُمْ بِغَيْرِ الطَّلاَقِ الذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهِ، وَهُوَ طَلاَقُ السُّنَّةِ. قالَ الأَبْهَرِيُّ: فالطَّلاَقُ يَقَعُ بِسُنَّةٍ وبِغَيْرِ سُنَّةٍ، لأَنَّهُ شَيءٌ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ مِنْ يَدَيْهِ، كَمَا قَدْ يَعْتِقْ غُلاَمَهُ على غَيْرِ سُنَةِ العِتْقِ، فَيَلْزَمُهُ عِتْقُهُ، لأنَّهُ شَيءٌ يُخْرِجُهُ السَّيِّدُ مِنْ يَدَيْهِ، فَيَلْزِمُهُ ذَلِكَ.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ ثَلاَثًا في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. قالَ غَيْرُهُ: وُيؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، ويُلْزِمُهُ مَا طَلَّقَ بهِ. * [أبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ: (حَبْلُكِ على غَارِبِكِ) [2036]، يَعْنِي: [اذْهَبِي] (¬1) حَيْثُ شِئْتِ فَقَدْ سَرَّحْتُكِ، وغَارِبُ الجَمَلِ هُوَ مُقَدَّمُهُ، مَا بَيْنَ سَنَامَهِ إلى كَتِفِيهِ، فإذا رَمَى قَائِدُ الجَمَلِ خِطَامَهُ علَى غَارِبهِ فَقَدْ سَرَّحَهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: (حَبْلُكِ على غَارِبِكِ)، فَقَدْ سَرَّحَهَا. وكَانَ مَالِكٌ يَرَاهَا البَتَّةَ، ولا يَنْوِيهِ إلَّا في الشَّيءِ لَمْ يَدْخُلْ بِها، إنْ كَانَ أَرَادَ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَو أَكْثَرَ. وكَانَ عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أَبِي سَلَمَةَ يَنْوِيهِ في ذَلِكَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، ويَحْتَجُّ في ذَلِكَ بأَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قَالَ للرَّجُلِ: (مَا أَرَدْتَ بقَوْلِكَ: حَبْلُكِ علَى غَارِبِكِ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ الفِرَاقَ، فَقالَ لهُ عُمَرُ: هُوَ الذِي أَرَدْتَ). فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: الإشْخَاصُ في النَّوَازِلِ، لأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُوَافِيهِ بِمَكَّةَ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ فِيمَا سُئِلَ عنهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - هَلْ كَانَ القَائِلُ لِذَلِكَ دَخَلَ أو لَمْ يَدْخُلْ، وإنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ القِصَّةَ كَيْفَ وَقَعَتْ، ولَا دَلِيلَ فِيهَا على نِيَّتِهِ. وقالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَهِيَ البَتَّةُ، وإنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَعَسَى أَنْ تَكُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً إذا ادَّعَاهَا، ويَحْلِفُ على ذَلِكَ، وَلَو ثَبَتَ عِنْدِي أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قالَ ذَلِكَ مَا خَالَفْتُهُ، ولَكِنَّهُ حَدِيثٌ جَاءَ هَكَذَا. ورَوى ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لأَهْلِ زَوْجَتِهِ: شَأنُكُمْ بِها، أنَّها ¬

_ (¬1) في الأصل: اذهب، وهو مخالف للسياق.

للَّتي دَخَلَ بِهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، وفِي غَيْرِ المَدْخُولِ بِها وَاحِدَةٌ، ويَحْلِفُ إذا ادَّعَى ذَلِكَ باللهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَيتَزَوَّجَهُا إنْ شَاءَ، وتُعَدُّ عَلَيْهِ هَذِه الطَّلْقَةُ الوَاحِدَةُ، وتَبْقَى لَهُ فِيهَا طَلْقتانِ. وقالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ: لَو قَالَ في المَدْخُولِ بِها: نَوَيْتُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، كَانَ ذَلِكَ لَهُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إذ قَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: (شَأْنُكُمْ بِها)، أَي احْفَظُوهَا وأَدِّبُوهَا، فَلِذَلِكَ يَنْوِي. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ في المَرْأَةِ المَدْخُولِ بِهَا: (أنَّها تُبَانُ مِنْ زَوْجِهَا بِثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ)، إنَّما قَالَهُ لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فَالْطَلْقَةُ الثَّالِثةِ بعدَ التَّطْلِيقتيْنِ هِيَ التَّسْرِيحُ بإحْسَانٍ، وقَوْلُ مَالِكٍ في غَيْرِ المَدْخُولِ بِها تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا بِوَاحِدَةٍ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬1) [الأحزاب: 49]، يَعْنِي: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهُنَّ رَجْعَةً في العِدَّةِ، لأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنَ الذِي طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخَلَ بِها. * * * ¬

_ (¬1) وجاء في الأصل: (وإن طلقتموهن ...) وهو خطأ.

باب في التمليك، والإيلاء، والظهار

بابٌ في التَّمْلِيكِ، والإيْلَاءِ، والظِّهَارِ " قالَ أَشْهَبُ: قِيلَ لِمَالِكٍ: أَتاْخُذُ بِحَدِيثِ زَيْدٍ بنِ ثَابِتٍ في التَّمْلِيكِ [2036]؟ قالَ: لَا آخَذُ بهِ، ولَكِنَّهُ إذا مَلَّكَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ أَمْرَهَا فالقَضَاءُ مَا قَضَتْ، إلَّا أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهَا في الوَقْتِ، ويَحْلِفُ أَنَّهُ مَا مَلَكَّهَا إلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ يُشْهِدُ علَى رَجْعَتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: التَّمْلِيكُ كَلاَمٌ يَقْتَضِي جَوَابًا في الوَقْتِ، فإذا بَعُدَ مَا بَيْنَ الجَوَابِ والتَّمْلِيكِ لَمْ تَنْتفِعْ بِذَلِكَ المُمَلَّكَةُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: روَى ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ في المُمَلَّكَةِ أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا ما لَمْ يَطَأْهَا الزَّوْجُ بَعْدَ تَمْلِيكِه إيَّاهَا. وقالَ أَيْضَاً: إنَّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَا لَمْ يَكُنْ يُوْقِفُهَا السُّلْطَانُ، فإنْ وَقَفَها السُّلْطَانُ وتَرَكَتْ مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ إليهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلى مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ إليهَا سَبِيلٌ. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ المَرْأَةِ لِزَوْجِهَا حِينَ مَلَّكَهَا أَمْرَ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: (أَنْتَ الطَّلاَقُ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: أَنْتَ الطَّلاَقُ، فقَالَ: بفِيكِ الحَجَرُ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: بفِيكَ الطَّلاَقُ، فقَالَ: بفِيكِ الحَجَرُ) [2037]، إنَّمَا أَرَادُ الزَّوْجُ بهَذا القُوْلِ مُنَاكَرَتَها فِيمَا زَادَتْهُ على الوَاحَدَةِ، فَحَلَّفَهُ مَرْوانُ على ذَلِكَ، وأَبْقَاهَا لَهُ زَوْجَةً، يَعْنِي بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ الزَّوْجُ على رَجْعَتِهَا في الوَقْتِ. قالَ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: (وهَذا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إليَّ في ذَلِكَ). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنّمَا اسْتَحَبَّ القَاسِمُ هَذا الفُتْيَا مِنْ مَرْوَانَ لأنَّهُ يُرْوَى عَنِ

ابنِ عبَّاسٍ في رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ في يَدِهَا، فَطَلَّقَتْهُ ثَلاَثًا، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: (خَطّأَ اللهُ نَوْءَهَا) يَعْنِي: دَعَا عَلَيْهَا أنْ لا يُصِيبَ المَطَرُ بِلاَدَهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلاَثًا) (¬1)، يُرِيدُ ابنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا لَمَّا طَلَّقَتْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاَقًا حتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا، فهَذا هُوَ الإخْتِلاَفُ الذي سَمِعَهُ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ في هَذِه المَسْأَلةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: الإيْلاَءُ هُوَ اليَمِينُ والإمْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الشَّيءِ، يُقَالُ: آلى فُلاَنٌ أنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا وكَذَا، إذا حَلَفَ أنْ لا يَفْعَلْهُ. قالَ مَالِكٌ: ولَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُولِيًا حتَّى يَحْلِفَ أنْ لا يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فإذا زَادَ على ذَلِكَ كَانَ قَاصِدَاً إلى الضَّرَرِ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُوقِفَهُ السُّلْطَانُ على الفَيْئَةِ إلى الوَطءِ، والتَمَادِي فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فإنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ إلى الوَطْءِ طَلَّقَ عَلَيْهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً، ولَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ مَا دَامَتْ في العِدَّةِ. * وقالَ مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ: أنْ [بانْقِضَاءِ] (¬2) الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ يَقَعُ على المُولي الطَّلَاقُ [2047 و 2048]. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الصَّحِيحُ في هَذا مَا قَالَهُ عَليٌّ وابنُ عُمَرَ أَنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فإمَّا أَنْ يَفِيءَ، وإمَّا أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، وبهِ قَالَ مَالِكٌ [2045 و 2046]، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى قالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، فَهَذا حِلٌّ لا يُمْنَعُ المُولِي مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا} فَفَيْئَتُهُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بأنْ يُوقَفَ هَلْ يَفِيءَ أَمْ لَا يَفِيءَ، ولَيْسَ تُعْرَفُ فَيْئَتُهُ بانْقِضَاءِ الأَشْهُرِ دُونَ تَوْقِيفٍ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا قَالَ المُولِى عِنْدَ تَوْقِيفِ الحُكْمِ لَهُ: أَنا أَفِيءُ، ثُمَّ مَنَعَهُ مِنْ الوَطْءِ عُذْرٌ بمنٌ كانَ ارْتجَاعُهُ إيَّاهَا ثَابِتَاً عَلَيْهَا في العِدَّةِ، فإذا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَمْ يُصِبْهَا حتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا، وُقِفَ أَيْضًا، فإنْ لَمْ يَفِيءَ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ بالإيْلاَءِ الأَوَّلِ، ولَمْ تَكُنْ له عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق 6/ 520، وابن أبي شيبة 5/ 57، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 333، والبيهقي في السنن 7/ 349. (¬2) جاء في الأصل: مالاقضاء، وما وضعته هو المناسب للسياق.

لأَنَّ رَجْعَةُ المُولي لا تَصِحُّ إلَّا بالوَطْءِ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا العِدَّةَ، لِخِلْوَتِهِ بِها، ولِكَي يَدْخُلَ الزَّوْجُ الذي يَتَزَوَّجُهَا على رَحِمٍ بَرِيءٍ مِنَ [الحَمْلِ] (¬1). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَلْزَمْ مَنْ حَلَفَ أنْ لَا يَطَأ امْرَأَتَهُ حتَّى تَفْطِمَ وَلَدَها مِنَ الرَّضَاعٍ مَا يَلْزَمُ المُولِي، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الضَّرَرَ بِزَوْجَتِهِ، وإنَّمَا أَرَادَ مَصْلَحَةَ ابْنِهِ وتحَصُّنِ لَبَنُ الرَّضَاعِ لَهُ، وقَدْ كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَمَّ أنْ يَنْهَى عَنِ الغِيلَةِ [2252]، والغِيلَةُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأةً وَهِيَ تُرْضِعُ، وذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ مَنْ وَطِءَ امْرَأتهُ مُدَّةَ رَضَاعِهَا ابْنِهَا كَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًامِنْ قُوَّةِ الوَلَدِ، فَهَمِّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنْهَى عَنْ وَطْءِ التِّي تُرْضِعُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الرُّومَ وفَارسَ يَطَئُون نِسَائَهَمُ في حَالةِ الرَّضَاعِ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ أَوْلاَدَهُمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَمْرُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - مَنْ قَالَ لامْرَأَةٍ أَجْنَبيَّةٍ مِنْهُ: (إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، أنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهَا لا يَطَأهَا حتَّى يُكًفِّرَ كَفَّارَةَ المُتَظَاهِرِ [2057]، وإنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لأنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَرْطَاً إنْ وَقَعَ لَزِمَهُ، فَلَمَّا أَوْقَعَهُ بِتَزْوِيجِه إيَّاهَا لَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ، ولَوْ قَالَ لَهَا: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمِّي) ولَمْ يَقُلْ: (إنْ تَزَوَّجْتُكِ)، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيءٌ، لأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ فِيهَا على نَفْسِهِ شَرْطَاً إنْ وَقَعَ لَزِمَهُ. وقَاسَ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَوْلَ الرَّجُلِ لامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مِنْهُ: (إنْ تَزَوَّجْتُكِ فأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، وهَذا هُوَ القِيَاسُ الصَّحِيحُ، وإنَّمَا القِيَاسُ الفَاسِدُ مَنْ قَاسَ على غَيْرِ أَصْلٍ، ومَنْ قَالَ: لَا طَلاَقَ قَبْلَ نِكَاحٍ ولَا عِتْقٍ قَبْلَ مِلْكٍ، فَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لامْرَأةٍ أَجْنَبيَّةٍ مِنْهُ: (أَنْتِ طَالِقٌ)، أَو يَقُولَ لِغُلاَمِ غَيْرِه: (أَنْتَ حُرٌّ)، فهَذا لَا يَلْزَمُهُ طَلاَق ولًا عِتْقٌ، وأَمَّا مَنْ عَقَدَ قَوْلَهُ بِفِعْلٍ مَا، ثم أَوْقَعَ الذِي عَقَدَ بهِ قَوْلَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، وقَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين اجتهدت في وضعه، وجاء في الأصل: (الشفقة) ولم أجد لها معنى فحذفتها.

بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، فَمَنْ عَقَدَ على نَفْسِهِ عَقْدًا لَزِمَهُ مَا عَقَدَهُ على نَفْسِهِ إذا فَعَلَ الذي حَلَفَ عَلَيْهِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا تَظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ في كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ هُوَ لِحَلِّ عُقْدَةَ نِكَاحٍ، وإنَّمَا هُوَ للكَفَّارَةِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وهذَا بِخِلاَفِ قَوْلِ الرَّجُلِ لأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: (أَنْتُنَّ طَوَالِقُ) أَنَّهُنَّ يَطْلُقْنَ عَلَيْهِ، لأن الطَّلاَقَ هُوَ لِحَلِّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، فَلِهَذا يَطْلُقَنَ عَلَيْهِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ في أَوْسِ بنِ الصَّامِتِ، قَالَ لِزَوْجَتِهِ خَوْلَةَ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، فَأَتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَتْ ذَلِكَ إليه، وألَحَّتْ في الشَّكْوَى، فأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ} [المجادلة: 1]، إلى آخر الكَفَّارَاتِ (¬1). * قَوْلُ مَالِكٍ: (الظِّهَارُ مِنْ ذَوَاتِ المَحَارِم مِنَ الرَّضَاعِ والنَّسَبِ) [2062]، قالَ أَبو المُطَرِّفِ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عليَّ كَظهْرِ أُمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَو كَظَهْرِ أُمِّي مِنَ النَّسَبِ، فإذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَجْنَبِيَّةٍ مِنَ النَّاسِ وَقَعَ هَهُنا الإخْتِلاَفُ. فَقَالَ أَصْبَغُ: لَيْسَ عَلَيْهِ ظِهَارٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ فَرْجَ الأَجْنَبِيَّةِ لَهُ حَلاَلٌ يَوْمًا مَا. وقالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ في الأَجْنَبيَّةِ الظِّهَارُ، لأَنَّ فَرْجَ الأَجْنَبيَّةِ في وَقْتِ قَوْلِهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، كَبَعْضِ المُحَرَّمَاتِ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ فيَ الأَجْنَبِيَّةِ الظِّهَارُ. وقالَ ابنُ المَاجِشُونَ: إذا قَالَ الرَّجُلُ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَجْنَبِيَّةٍ، أَنَّهَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ. قالَ أَبو عُمَرَ: القَوْلُ في هَذه المَسْأَلةِ أنَّ الظِّهَارَ يَلْزَمُهُ، ولَا يَلْزَمُهُ طَلاَقٌ، لأَنَّ ¬

_ (¬1) روى حديث أوس بن الصامت جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس، رواه أبو داود (2223)، والترمذي (1199)، والنسائي 6/ 167.

الظِّهَارَ لَيْسَ هُوَ لِحَلِّ العُقْدَةِ، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى جَعَلَ فِيهِ الكَفَّارَةَ. * قَوْلُ مَالِكٍ: (لَيْسَ على النِّسَاءِ ظِهَارُ) [2063]، قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ المَرْأَةَ إذا تَظَاهَرَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَنَّ الكَفَّارَةَ تَلْزَمُهَا، وحُجَّةُ مَالِكٍ في ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]، ولَمْ يَقُلْ: (واللَّوَاتِي يُظَاهِرُونَ مِنْ أَزْوَاجَهِنَّ). قالَ أبو المُطَرِّفِ: اخْتُلِفَ في مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، قالَ ابنُ القَاسِمِ: إنَّ العَوْدَ هَهُنَا أَنْ يَعُودَ المُتَظَاهِرُ إلى الوَطءِ الذي كَانَ قَد امْتَنَعَ مِنْهُ بالظِّهَارِ الذي أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ. وقالَ الأَبْهَرِيُّ: وَجْهُ هذَا القَوْلِ أَنَّ الظِّهَارَ هُوَ تَحْرِيمُ الوَطْءِ، فَمَتَى عَادَ المُتَظَاهِرُ إلى الوَطْءِ الذي كَانَ قَدْ حَرَّمَهُ على نَفْسِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ. * وقالَ أَشْهَبُ: إنَّ مَعْنَى العَوْدَةِ هَهُنَا أَنْ يَجْمَعَ المُتَظَاهِرُ على إمْسَاكِ الذي تَظَاهَرَ مِنْهَا وإصَابَتِهَا، فَمَتَى أَجْمَعَ عَلى ذَلِكَ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ، وهَذا نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ [2064]. قالَ الأَبْهَرِيُّ: وَجْهُ هَذا القَوْلِ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فَأَوْجَبَ الكَفَّارَةَ بالعَوْدَةِ، فَدَلَّ أَنَّ الذِي أَوْجَبَ الكَفَّارَةَ بِشَيءٍ غَيْرِ الوَطْءِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ العَوْدُ الوَطءُ لَجَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ، ثُمَّ تَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ، فَلَمَّا مَنَعَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الوَطْءِ، وأَوْجَبَ عَلَيْهِ الكَفَّارَةَ بالعَوْدِ عُلِمَ أنَ العَوْدَ غَيْرُ الوَطْءِ، فَمَتَى أجْمَعَ [المُظَاهِرُ] (¬1) على إمْسَاكِ التِّي تَظَاهَرَ مِنْهَا وإصَابَتِها فَقَدْ لَزِمَتْهُ الكَفارَةُ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنَّما لَزِمَ الرَّجُلُ الظِّهَارَ في أَمَتِهِ إذا قالَ لَهَا: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي) بِظَاهِرِ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يكتب كاملا، وإنما كتب هكذا: (المظا).

وقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- في مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ للرَّجُلِ أَنْ يَطَأ أَمَةً وَطِئَها أَبُوهُ بِهَذِه الآيةِ، دَخَلَتْ الأَمَةُ المُتَظَاهِرِ مِنْهَا في جُمْلَةِ النِّسَاءِ المُتَظَاهِرِ مِنْهُنَّ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا تَبَيَّنَ الضَّرَرُ مِنَ المُتَظَاهِرِ بامْتِنَاعِهِ مِنَ الكَفَّارَاةِ وَقَفَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَنْ تَظَاهَرَ، فَإمَّا كَفَّرَ، وإمَّا طَلَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ. قالَ عِيسَى: مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: (كُلُّ امْرَأةٍ أتَزَوَّجُهَا عَلَيْكِ مَا عِشْتُ، فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي)، فَتَزوَّجَ عَلَيْهَا، أنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْ أَوَّلِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا شَيءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ. وقَالَ ابنُ نَافِعٍ: كُلُّ مَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا لَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ. قالَ عِيسَى: وإنْ هُوَ فَارَقَها ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَ فِرَاقِهِ لَها لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِيمَا تَزَوَّجَ بَعْدَ فِرَاقِهِ لَهَا، إلَّا أَنْ تَرْجِعَ إليهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الظِّهَارُ -، فإنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا البَتَّةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَها عَلَيْهَا فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ الذي يَحْلِفُ بالطَّلاَقِ إنْ تَزَوَّجَ على امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا البَتَّةَ، ثُمَّ يَنْكِحُهَا بَعْدَ زَوْجٍ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ يَمِينِهِ، لأَنَّ العِصْمَةَ التِّي حَلَفَ فِيهَا قَد انْقطَعَتْ بِيْنَهُمَا بِطَلاَقهِ إيَّاهَا البَتَّةَ. قالَ عِيسَى: الذي يُسْتَحَبُّ للعَبْدِ أَنْ يُكَفِّرَ بهِ في الظّهَارِ الصِّيَامُ، وإنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فَأَطْعَمَ إذا لَمْ يَقَوَ على الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، ولَا يُجْزِيهِ العِتْقُ، لأَنَّ الوَلاَءَ لِغَيْرِهِ. قَوْلُ مَالِكٍ: في العَبْدِ يَتَظَاهَرُ مِن امْرَأتِهِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ايَلاَءٌ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إلَّا أَنْ يَتَبيَّنَ ضَرَرُهُ، أو يَمْنَعَهُ سَيِّدُهُ الصَّوْمَ، فإذا كَانَ كَذَلِكَ ضُرِبَ لَهُ أَجَلُ العَبْدِ في الإيْلاَءِ نِصْفُ أَجَلِ الحُرَّ، ثُمَّ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ المُولِي. وقَالَ أَصْبَغُ: إذا مَنَعَهُ سَيِّدُهُ الصَّوْمَ فَلَيْسَ بِمُضَارٍ، ولَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ.

وقَالَ ابنُ المَاجشُونَ: لَيْسَ لِسَيْدِه أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصِّيَامِ، لأنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ في النِّكَاحِ، وهذَا مِنْ أَسْبَابِ النِّكَاحِ. قالَ عِيسَى: لَا يَجُوزُ لَهُ الإطْعَامُ بِمَنْعِ سَيِّدِه إيَّاهُ مِنَ الصِّيَامِ، لأَنَّهُ إنَّمَا يُطْعِمُ مِنْ مَالِ سَيِّدِه.

باب الخيار، وطلاق الأمة، واللعان، وطلاق البكر

بابُ الخِيَارِ، وطَلاَقِ الأَمَةِ، واللِّعَانِ، وطَلاَقِ البَكْرِ " فِي حَدِيثِ [بَرِيرَةَ] (¬1) [2072] مِنَ السُّنَنِ: إبَاحَةُ كِتَابَةِ العَبْدِ، وإنْ سَعَى وسَأَلَ النَّاسَ أَنْ يُعِينُوهُ في كِتَابَتِه، وفِيهِ: إبَاحَةُ بَيْعِ المُكَاتَبِ إذا عَجَزَ، وأنَّ الوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وفِيهِ: إبَاحَةُ قَبْولِ هَدِيَّةِ الفَقِيرِ، وفِيهِ: أنَّ بَيْعَ الأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ لَيْسَ بِطَلاَقٍ لَهَا، وأَنَّ الأَمَةَ إذا أُعْتِقَتْ تَحْتَ العَبْدِ أَنَّ لَهَا الخَيَارَ في البَقَاءِ مَعَهُ، أَو تُطَلِّقَ نَفْسَهَا بِوَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ أَو بِثَلاَثٍ، فإنْ أُعْتِقَتْ مَعَ زَوْجَها في كَلِمَةِ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لهَا الخَيَارُ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ كَمَا كَانَتْ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَكُنْ [للرَّجُلِ] (¬2) الذي جُنُّ قَبْلَ دُخُولهَا عَلَيْهِ فَفَارَقَتْهُ صُدَاقٌ، لأَنَّ الفِرَاقَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، فإنْ جُنَّ بَعْدَ دُخُولهِ عَلَيْهَا عُزِلَ عَنْهَا، وضُرِبَ لَهُ أَجَلُ سَنَةٍ لِعِلاَجِهِ نَفْسِه، فإنْ صَحَّ فِيهَا وإلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، لِيَقْطَعَ عَنْهَا الضَّرَرَ. قالَ مَالِكٌ: إذا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأتهُ فَاخْتَارَتْهُ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ طَلاَقًا، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (خَيَّرَنا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاَقًا) (¬3). قالَ مَالِكٌ: فإنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ مِنْهُ بِثَلاَثٍ، ولا يُكْرَهُ لَهُ عَلَيْهَا، بِخِلاَفِ التَّمْلِيكِ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: بريدة، وهو خطأ. (¬2) جاء في الأصل: للمرأة، وهو خطأ مخالف للسياق. (¬3) رواه البخاري (4962).

قالَ أَبو مُحَمَّدِ: لَم يَكُنْ للزَّوْجِ أَنْ يُنَاكِرَ (¬1) زَوْجَتَهُ في التَّخْيِيرِ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ في التَّمْلِيكِ، لأَنَّ مَعْنَى التَّخْييرِ التَّسْرِيحَ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في آيةِ التَّخْيِيرِ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، فَمَعْنَى التَّسْرِيحِ البِتَاتُ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فالتَّسْرِيحُ بإحْسَانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ. وخَالَفَ التَّخْيِيرُ التَّمْلِيكَ، لأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ لامْرَأتِهِ: قَدْ مَلَّكْتُكِ، أَيْ قَدْ مَلَّكْتُكِ فِيمَا قدْ جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إلى مِنْ أَنْ أُطَلِّقَكِ وَاحِدَةً أو اثْنِتَيْنِ أَو ثَلاَثَ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلِّكَهَا في بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَ القَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِه، ويَحْلِفُ أَنَّهُ مَا مَلَكَّهَا إلَّا وَاحِدَةً أو اثْنَتَيْنِ أَو ثَلاَثَ، ولَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَها في بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضِ وادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَ القَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِه، ويَحْلِفُ أَنَّهُ مَا مَلَّكهَا إلَّا وَاحِدَةً أو اثنتينِ إن ادَّعَاهُمَا، ويُشْهِدُ على رَجْعَتِهِ إيَّاها، وتَبْقَى عِنْدَهُ على بَاقِي الطَّلاَقِ، فَلِهَذا خَالَفَ التَّخْيِيرُ التَّمْلِيكَ. [أبو المُطَرِّفِ]: قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فَمَنَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الأَزْوَاجَ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الزَّوْجَاتِ، إلَّا إذا نَشَزَتِ المَرْأةُ على زَوْجِهَا فَكَرِهَتْهُ، وخِيفَ عَلَيْهَا ألَّا تُقِيمَ حُدُودَ اللهِ فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنَ القِيَامِ بِحَقِّه، فإذَا كَانَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَاحَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى للزَّوْجِ أَخْذَ مَالِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا. وقالَ بَعْضُ أَهْلِ الأَمْصَارِ: لَا يَحِلُّ للزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ عِنْدَ مُخَالَعَتِهِ إيَّاهَا إلَّا مِثْلَ مَا أَعْطَاهَا أَو دُونَ. فقالَ مَالِكٌ: مُبَاحٌ للزَّوْجِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهَا وأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وبِجَمِيعِ مَالِهَا، لأن اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. ¬

_ (¬1) معنى يناكر: أي يعادي ويخالف، ينظر المعجم الوسيط 2/ 952.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ لَكَانَتْ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ)، أَو (فِيمَا افْتَدَتْ بهِ مِنْهُ)، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كَانَ الخُلُعُ مُطْلَقَاً في كُلِّ مَا افْتَدَتْ بهِ المَرْأَةُ مِنْ زَوْجهَا، وقَدْ أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنةَ السَّلُولِ أَنْ تَرُدَّ على زَوْجِهَا مَا أَعْطَاهَا وتَزِيدَهُ (¬1)، وقدْ أَجَازَ مِثْلَهُ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ. قالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: المُخْتَلَعَةُ هِيَ التِّي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا بجَمِيعِ مَالِهَا، والمُفْتَدِيةُ هِيَ التِّي تُعْطِي بَعْضًا وتُمْسِكُ بَعْضًا، والمُبَارِيةُ هِيَ التَّي تُعْطِي قَبْلَ الدُّخُولِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ (¬2). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: رَوَى طَاوُوسٌ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ الخُلْعَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلاَقٍ، ولَا عِدَّةَ فِيهِ) (¬3). وقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: انْفَرَدَ بِهَذا القَوْلِ طَاوُوسٌ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، وأَصْحَابُ ابنِ عبَّاسٍ كُلّهُم يَرْوُونَ عَنْهُ أَنَّ الخُلُعَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ وفِيهِ العِدَّةُ. قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: يَجِبُ اللِّعَانُ بِثَلاَثةِ أَوْجُهٍ، وَجْهَانِ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِما، وَهُو أَنْ يَدَّعِي الزَّوْجُ رُؤْيَةً كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ، أَو يَنْفِي حَمْلًا يَدَّعِي قَبْلَهُ الإسْتَبْرَاءَ، والإسْتِبْرَاءُ حَيْضَةٌ. وقَالَ ابنُ المَاجِشُونَ: الإسْتِبْرَاءُ هَهُنا ثَلاَثُ حُيَّضٍ. قالَ ابنُ أبي زَيْدٍ: والوَجْهُ الثَّالِثُ المُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَقْذِفَهَا الزَّوْجُ، ولَا يَدَّعِي رُؤْيَة، ولَا يَنْفِي حَمْلًا، فأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَقُولُونَ: إنَّهُ يُحَدُّ ولَا يُلاَعَنُ، وقَالَهُ ابنُ القَاسِمِ مَرَّة، ثُمَّ رَجَعَ وقَالَ: إنْ قَذَفَها أَو نَفَى حَمْلًا لاَعَنَ، ولَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيءٍ. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن 7/ 313، من حديث ابن عباس، وهي جميلة بنت السلول. (¬2) المبارئة هي التي تباري زوجها قبل البناء، فتقول: خذ الذي لك واتركني. (¬3) رواه عبد الرزاق 6/ 487، وسعيد بن منصور 1/ 384، والبيهقي في السنن 7/ 316، بإسنادهم إلى طاوس بن كيسان به.

[أبو المُطَرِّفِ]: إنَّمَا قِيلَ في المُلاَعَنِ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ بَابِ المُشَاهَدَةِ بالأَبْصَارِ أَو بالقُلُوبِ، ولَذِلَكَ ما قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قالَ لامْرَأتِهِ: يا زَانِيَةُ، ولَمْ يَقُلْ رَأَيْتُ، ولَا نَفَى حَمْلًا، أَنَّهُ يُحَدُّ ولَا يُلاَعَنُ. وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ، ولَا يُلاَعَنُ إلَّا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ (¬1). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يُرَدُّ هذَا القُوْلَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فَدَخَلَ في هذَا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، ومَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. * وقالَ أَيْضَا أَبو حَنِيفَةَ: لَا يُوجِبُ اللِّعَانُ الفُرْقَةَ، حتَّى يُطَلِّقَ الزَّوْجُ بَعْدَ لِعَانِهِ، واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِقِصَّةِ عُوَيْمِرٍ العَجْلاَنِيِّ [2092]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ، لأَنَّ عُوَيْمِرًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِطَلاَقِهَا، وإنَّمَا كَانَ يَحْتَجُّ بِها لَوْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ. * وفِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ [2093] بَيَانٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ في هذِه المَسْأَلَةِ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بَيْنَ المُتَلاَعِنَيْنِ، وأَلْحَقَ الوَلَدَ بالمَرْأَةِ، والفِرَاقُ هُوَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجِيْنِ بِقَلْبِهِ لا باخْتِيَارٍ، والطَّلاَقُ إنَّمَا يَقَعُ باخْتِيَارٍ مِنَ الزَّوْجِ. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: قَالَ عِيسَى: إني لَا أُحِبُّ للزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ على إثْرِ اللِّعَانِ كَمَا صَنَعِ عُوَيْمِرُ العَجْلاَنِيُّ، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإنَّهُ يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ أَنَ المُلاَعِنيْنِ لا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا. قالَ مَالِكٌ: للمُسْلِمِ أَنْ يُلاَعِنَ زَوْجَتَهُ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرَانِيَّةِ في نَفْي الحَمْلِ، وفِي الرُّؤْيَةِ، لأَنَّهُ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الوَطْءِ حَمْلٌ، فَيُلْحَقُ بِي إنْ لَمْ أَنْفِهِ عَنْ نَفْسِي، فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ أَن يُلاَعِنَ في نَفِي الحَمْلِ عَنْ نَفْسِهِ، وفِي الرُّؤْيَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: يَحْلِفُ الزَّوْجُ في الرُّؤْيَةِ: أَحْلِفُ باللهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، لَقَدْ رَأَيْتُهَا تَزْنِي كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ، يَحْلِفُ هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ويَزِيدُ في الخَامِسَةِ: أَنْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتُ مِنَ الكَاذِبِينَ، ثُمَّ تَحْلِفُ هِيَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ باللهِ ¬

_ (¬1) ينظر: بدائع الصنائع 3/ 237، والمبسوط 7/ 42.

عَلَى خِلاَفِ مَا حَلَفَ بهِ الزَّوْجُ، ثُمَّ تَزِيدُ في الخَامِسَةِ: أَنْ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وتَحْلِفُ اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرَانِيَّةُ حَيْثُ يُعْظِمْنَّ مِنَ الكِتَابَيْنِ باللهِ كَمَا تَحْلِفُ المُسْلِمَةُ سَوَاءٌ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: رُوِي عَنِ ابنِ عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: (إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امِرَأَتَهُ ثَلاَثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا أنَّها طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ) (¬1)، وَبهِ قَالَ عَطَاءٌ، ولَذَلِكَ قَالَ لَهُ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرو بنِ العَاصِ: (إنَّما أَنْتَ قَاصٌّ) [2109]، أَيْ لا عِلْمَ لَكَ بِهَذِه، ثُمَّ قَالَ: (الوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، والثَّلاَثةُ تُحَرِّمُهَا، حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). * وفِي المُوطَّأ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَنَّهُ لا يَنْكِحُهَا إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، ثُمَّ قَالَ ابنُ عبَّاسٍ للذِي فَعَلَ ذَلِكَ: (إنَّكَ أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِكَ مَا كَانَ لَكَ مِنْ فَضْلٍ) [2108] يَقُولُ: أَبَنْتَ زَوْجَتَكَ مِنْكَ، ولَمْ تُمْسِكْهَا، وكَانَتْ في يَدَيْكَ فَضْلًا تَفَضَّلَ اللهُ بِهَا عَلَيْكَ. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبري في التفسير 2/ 537.

باب في طلاق المريض، والمتعة، والمفقود

بابٌ في طَلاَقِ المَرِيضِ، والمُتْعَةِ، والمَفْقُودِ * قالَ عِيسَى: مَعْنَى تَوْرِيثِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ زَوْجَةَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ مِنْهُ بَعْدَ طَلاَقِهِ إيَّاهَا [2113] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ مَرَضَهِ ذَلِكَ الذِي طَلَّقَهَا فِيهِ. وقالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: لَمَّا مَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَرِيضَ مِنَ الحُكْمِ في ثُلُثَيْ مَالِهِ بِمَا يُنْقِصُ وَرَثَتَهُ مِنْهُ، كَانَ أيضًا مَمْنُوعًا مِنْ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِم وَارِثًا، وكَذَلِكَ مَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذي قَتَلَ وَلِيَّهُ مِيرَاثَهُ، بِسَبَبِ مَا أَحْدَثَ مِنَ القَتْلِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ المَرِيضُ مَانِعًا لِزَوْجَتِهِ المِيرَاثَ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الطَّلاَقِ، ولَا فَرْقَ بَيْنَ وَارِثَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ في المِيرَاثِ بِوَجْهٍ، فَيُمْنَعُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الوَجْهِ، وآخرُ قَدْ أُخْرِجَ مِنَ المِيرَاثِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الوَجْهِ، فَلَمَّا طَلَّقَ المَرِيضُ امْرَأتَهُ في حَالِ مَرَضِهِ طَمَعًا مِنْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْ مِيرَاثِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ ووَرِثَتْهُ، كَمَا طَمَعَ قَاتِلٌ في مِيرَاثِهِ، فَمَنَعَهُ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - وحَرَمَهُ إيَّاهُ. قالَ مَالِكٌ: إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأتهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ في العِدَّةِ، أَنَّ عِدَّتَها ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، ولَهَا المِيرَاثُ مِنْهُ مَتَى مَا مَاتَ، إلَّا أَنْ يَصِحَّ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ فَلَا تَرِثْهُ. وقَالَ سُفْيَانُ: تَرِثُهُ مَا دَامَتْ في العِدَّةِ (¬1). وقالَ ابنُ أَبِي لَيْلَى: تَرِثُهُ مَا لَمْ تَتَزوَّجْ قَبْلَ مَوْتِهِ. والعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ على فِعْلِ عُثْمَانَ في زَوْجَةِ عَبْدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ. ¬

_ (¬1) ينظر: المحلى 10/ 219، والإستذكار 6/ 391 - 392.

قالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ (¬1)، إلَّا المُخْتَلَعَةَ، والمُبَارِيةَ، والمُلاَعَنَةَ، والتِّي تُطَلَّقُ قَبْلَ أَنْ تُمَسَّ وقَدْ فُرِضَ لَهَا، ولَيْسَ للمُتَعَةِ عِنْدَنا حَدٌّ غَيْرَ مَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. قالَ إسْمَاعِيلُ (¬2): وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا التُّقَى والإحْسَانُ، ولَكَانَتْ مُرْسَلَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ. وقَالَ غَيْرُهُ: أَعْلَى المُتْعَةِ خَادِمٌ، وأَدْنَاهَا خَاتَمٌ، يُرِيدُ: يُمَتِّعُ بِذَلِكَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، فَيُعْطِيهَا ذَلِكَ إذا طَلَّقَهَا. * قالَ أَبو المُطَرَّفِ: قَوْلُ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، وعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ في العَبْدِ يُطَلِّقُ الحُرَّةَ تَطْلِيَقَتَيْنِ أنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ [2125 - 2129]، وهَذا يَرْدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الطَّلَاقُ والعِدَّةُ بالنِّسَاءِ، وَهُو قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، يَقُولُ: إذَا طَلَّقَ العَبْدُ الحُرَّةَ بِتَطْلِيقَتَيْنِ أَنَّها لا تَبِينُ مِنْهُ إلَّا بِثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ (¬3). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: جَعَلَ اللهُ الطَّلاَقَ للرِّجَالِ فقالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فالخِطَابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمُرَادُ أُمَّتَهُ، وجَعَلَ اللهُ العِدَّةَ للنِّسَاءِ، فَلِذَوَاتِ الحُيَّضِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، وَلِذَوَاتِ الحَمْلِ الوَضَعُ، ولليَائِسَةِ مِنَ المَحِيضِ، واللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ ثَلاَثَةُ أشْهُرٍ، وللمُتَوفَّى عَنْهُنَ أَزْوَاجَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعَشْرًا، فَصَارَ بهذَا النَّصِّ المَتْلُوِّ الطَّلاقُ للرِّجَالِ، والعِدَّةُ للنِّسَاءِ، وبهِ قَالَ أَهْلُ المَدِينَةِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: حَكَمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لامْرَأَةِ المَفْقُودِ بفِرَاقِهِ [2134]، لِكَي يَقْطَعَ بذَلِكَ عَنْهَا الضَّرَرَ، وأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَظِرَ أَرْبَعَ سِنِينَ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، إذا المَرْأَةُ تَبْقَى أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ حَامِلًا، ثُمَّ أَمَرَهَا بِعِدَّةِ المُتَوفَّى عَنْهَا ¬

_ (¬1) المتعة هي ما يعطيه الزوج لزوجته المطلقة زيادة على الصداق لجبر خاطرها. (¬2) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي، الإِمام العلامة صاحب كتاب (أحكام القرآن) وغيره، وتقدم التعريف به. (¬3) هذا هو قول الكوفيين عموما: أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حيّ بالإضافة إلى سفيان الثوري، ينظر: المحلى 10/ 232، والإستذكار 6/ 406.

زَوْجُهَا، لِجَوَازِ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ تَحِلَّ بَعْدَ ذَلِكَ للأَزْوَاجِ، وإنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ عِدَّتِها فَلَمْ يَدْخُلْ بِها الزَّوْجُ، حتَّى قَدِمَ الغَائِبُ، فأَحَدُ قَوْلِي مَالِكٍ أَنَّ الأَوَّلَ أَحَقُّ بِها، مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا الثَّانِي، قال: ويُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ في الأَرْبَعَةِ الأَعْوَامِ، وتَنْفِقُ هِيَ على نَفْسِهَا في عِدَّةِ الوَفَاةِ، وتكُونُ فيها مُحَدَّاةٌ، ولا يُورَثُ مُالُ المَفْقُودِ حتَّى يَأْتِي عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ مَالاَ يَعِيشُهُ مِثْلُهُ.

تفسير الأقراء، والطلاق في الحيض، وأمر العدة في الحرة والأمة

تَفْسِيرُ الأقْرَاءِ، والطَّلاَقِ في الحَيْضِ، وأَمْرِ العِدَّةِ في الحُرَّةِ والأَمَةِ * مَعْنَى نَهْي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الطَّلاَقِ في الحَيْضِ [2139] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ خِلاَفُ ظَاهِرِ القُرْآنِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في كتابه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فأَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُطَلَّقَ النِّسَاءُ في وَقْتٍ يَبْتَدِينَ فِيهِ بالعِدَّةِ، وهذَا يَدُلُّ على أَنَّ الأقْرَاءَ هِي الأَطْهَارُ، وأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُطَلَّقَ المَرْأةُ في طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ، لِتَعْتَدَّ بهِ في أَقْرَائِهَا. ومَنْ جَعَلَ الأقْرَاءَ الحَيْضَ واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِما رُوِي عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ أَمَرَ الحَائِضَ أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا) (¬1)، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، والثَّابِتُ في هَذا حَدِيثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّ فِيهِ إنْ شَاءَ. وقَالَ الشَّافِعيُّ: فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ دَلِيلٌ على إبَاحَةِ الثَّلاَثِ في الطَّلاَقِ في كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدُ، وإنْ شَاءَ أَمْسَكَ"، ولَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا مِنَ الطَّلاَقِ (¬2). قالَ إسْمَاعِيلُ القَاضِي: يُقَالُ للشَّافِعِيِّ: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُنْكِرُ على عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ الطَّلاَقَ، وإنَّمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مَوْقِعَ الطَّلاقِ، فَعَلَّمَهُ مَوْضِعَهُ، وكَيْفَ يُوقِعَهُ، ولَمْ يُرِدْ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (281)، من حديث قتادة عن عروة عن زينب بنت ام سلمة، وقتادة لم يسمع من عروة بن الزبير. (¬2) كتاب الأم 5/ 180.

أَنْ يُعَرِّفَهُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، إذ كَانَ ابنُ عُمَرَ قَدْ أَصَابَ فِيهِ، ولَا أَحْسَبُ الشَّافِعيَّ يَكُونُ أَعْلَمُ بِهَذا مِنْ عُمَرَ ومِنِ ابنِ عُمَرَ، وقَدْ قَالاَ جَمِيعًا: (مَنْ طَلَّقَ ثَلاَثًا فَقَدْ عَصَى الله) (¬1)، ولَوْ كَانَ مِنَ السُّنَّةِ إبَاحَةُ طَلاَقِ الثَّلاَثِ في كَلِمَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعيُّ لَبَطُلَتِ الفَائِدَةُ في قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: يَعْنِي بهِ الرَّجْعَةَ في العِدَّةِ، وأَيُّ رَجْعَةٍ تَكُونُ بَعْدَ الثَّلاَثِ؟ , إلَّا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (¬2). وقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى قَوْلِ النبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" أَنَّ المُرَاجَعَةَ تَكُونُ بَعْدَ طَلاَقٍ يُعَدُّ على الزَّوَجِ، وإنْ كَانَ قَدْ أَوْقَعَ طَلاَقَهُ في غَيْرِ مَوْضِعِه، فَدَلَّ هَذا على أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بِسُنَّتِهِ وبِغَيْرِ سُنَّتِهِ، وأَنَّ المُرَاجَعَةَ إنَّما هِي للوَطْءِ، وقَدْ نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَ في طُهْرٍ قَدْ وَطِءِ فِيهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُطَلَّقَةَ حِينَئِذٍ لا تَدْرِي بِمَا تَبْتَدِئُ بهِ عِدَّتَها، إنْ كَانَ بالأقْرَاءِ، أو بِوضَعِ حَمْلٍ، ثُمَّ قَالَ أيضًا: (ثُمَّ تَحِيضُ)، فَلَمْ يُبِحْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ في الحَيْضِ الذي وَقَعَ بَعْدَ الطُهْرِ الذي رَاجَعَهَا فِيهِ ووَقَع فِيهِ الوَطْءَ، حتَّى تَطْهُرَ مِنْ ذَلِكَ الحَيِضِ، ثُم إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَ، وإنْ شاءَ طَلَّقَ، فَيَقَعُ طَلاَقُهُ الآنَ في طُهْرٍ لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ. قالَ عِيسَى: ولَو أَنَّهُ حِينَ ارْتَجَعَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَمْسَكَهَا حتَّى تَطْهُرَ مِن تِلْكَ الحَيْضَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ولَمْ يَنْتَظِرْ أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَةَ، ويَمْضِي عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، ولَا يُؤْمَرُ بالإرْتِجَاعِ. قالَ: ومَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ البَتَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ لم يُؤْمَرْ بِرَجْعَتِهَا، وقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وقَدْ أَثِمَ إذا أَبَتَّهَا في الحَيْضِ، ولَمْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الحَيْضَةِ في عِدَّتِها، وإنَّمَا تَسْتَقْبِلُ العِدَّةَ بَعْدَ طُهْرِهَا مِنْ تِلْكَ الحَيْضَةِ التِّي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ. * وقالتْ عَائِشَةُ -رَحِمَها اللهُ-: (الأقْرَاءُ هِيَ الأَطْهَارُ) [2140]، قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمَّا كَانَتِ المَرْأَةُ مُؤْتَمَنَةً على الحَيْضِ والحَمْلِ لِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 11. (¬2) ذكره إسماعيل القاضي في أحكام القرآن ص 243 - 244.

{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، كَانَ القَوْلُ قَوْلُهَا فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنَ الحَيْضِ والحَمْلِ، إلَّا أَنْ تَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ مَالاَ يُعْرَفُ، فَإذا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَادَّعَتِ الحَمْلَ صُدِّقَتْ فِيهِ، مَا لَمْ يَأْتِ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَانِ الذي يُوشَكُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الذِي طَلَّقَها، وقُدِّرَ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ، فَلَا يَنْفِيهِ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا باللِّعَانِ، فإذا جَاوَزَ ذَلِكَ خَمْسَ سِنِينَ لَمْ يُلْزَمِ الزَّوْجُ قَوْلَ المَرْأَةِ: إنَّ هذَا الحَمْلُ. وقالَ ابنُ وَهْبٍ: قُدِّرَ ذَلِكَ سَبْعَةُ أَعْوَامٍ. قالَ عِيسَى: وكَذَلِكَ الذي يُطَلَّقَ امْرَأتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ مُنْذُ طَلَّقَهَا، وأَنَّهُ مَاتَ في عِدَّتِها، فالقَوْلُ في ذَلِكَ قَوْلُهَا مَا دَامَتْ تُرْضِعُ، ولَها مِيرَاثُهَا مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ مِنهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ ثَلاَثَ حُيَّضٍ، فإنْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ تَرِثْهُ. قال عِيسَى: وإذا اعْتَدَّتْ المُتَوفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرا ولَمْ تَحِضْ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ للأَزْوَاجِ، إلَّا أَن تَكُونَ مِمَّنْ تَحِيضُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتْرَتَابُ بارْتفَاعِ حَيْضَتِها، فإنها تَنْتَظِرُ تَمَامَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ حَلَّتْ للأَزْوَاجِ، إلَّا أَنْ تَرْتَابَ رِيبَةً مِنْ حِسِّ بَطْنٍ فَتَقْعُدَ، حتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهَا الرِّيبَةُ، أَو يَمُرَّ بِها خَمْسُ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ مَاتَ زَوْجُهَا ثُمَّ تَنْكِحَ إنْ شَاءَتْ. قالَ: وكَذَلِكَ تَفْعَل الأَمَةُ المُتَوفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذا اسْتَرَابَتْ نَفْسَهَا بارْتفَاعِ الحَيْضَةِ أَنَّهَا تَقْعُدُ تَسْعَةَ أَشْهِرٍ، تَعُدُّ ييهَا الشَّهْرَيْنِ والخَمْسَةَ الأَيَّامِ، ثُمَّ تَنْكِحُ إنْ شَاءَتْ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ أَبو عَمْروِ بنُ حَفْصٍ قد طَلَّقَ فَاطِمَةَ بنتَ قَيْسٍ قَبْلَ خُرُوجِهِ في سَفَرِهِ تَطْلِيَقَتَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّه إليهَا بالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ يَسْكُنُ فِيهِ، فَلِذلِكَ أَبَاحَ لَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإنْتِقَالَ في العِدَّةِ مِنْ مَنْزِل إلى منزل [2155]. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَخَذَ مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ،

فَرَخَّصَ لابنةِ عبدِ الرَّحمنِ في الإنْتِقَالِ مِنَ المَكَانِ الذِي طَلَّقَها فِيهِ زَوْجُهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَائِشةَ أَنْكَرَتْ فِعْلَ مَرْوَانَ في ذَلِكَ، وقَالَتْ لَهُ: (اتَّقِ اللهَ، وارْدُدِ المَرْأةَ إلى بَيْتِهَا) [2150]، تَعْنِي: البَيْتَ الذِي طَلَّقَهَا فِيهِ زَوْجُهَا، فَاحْتَجَّ عَلَيْهَا مَرْوَانُ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لا تَحْتَجَّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ، لأنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، تَعْنِي بِذَلِكَ عَائِشَةُ: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أَبَاحَ لِفَاطِمَةَ الإنْتِقَالَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُن المَسْكَنُ لِزَوْجِهَا، وإنَّمَا كَانَ لأَهْلِ زَوْجِهَا، وكَانَتْ قَدْ آذَتْهُم بِلِسَانِهَا، فَلِهذَا رَخَّصَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الإنْتِقَالِ في العِدَّةِ، فقالَ مَرْوَانُ حِينَئِذٍ: (إنْ كَانَ بكِ الشَّرُّ فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ)، يَعْنِي مَرْوَانُ بِقَوْلهِ هذا: أَنَّ ابنةَ عبدِ الَرَّحمنِ وَقَعَ بَيْنَهَا وبَيْنَ زَوْجِهَا مِنَ الشَّرِّ نَحْوَ مَا وَقَعَ بَيْنَ فَاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ وبَيْنَ أَهْلِ زَوْجِهَا، فَلِذَلِكَ نَقَلَها مَرْوَانُ مِنْ ذَلِكَ البَيْتِ في العِدَّةِ. قالَ عِيسَى: لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَرْحَلَ المُعْتَدَّةُ مِنَ المَوْضِعِ الذي طُلِّقَتْ فِيهِ حتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وأَنَّهَا إنْ آذَتْ بِلِسَانِهَا أَهْلَ زَوْجِهَا وتَعَدَّتْ عَلَيْهِم، مُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فانْ أَبَتْ أَدَّبَهَا السُّلْطَانُ، ولَمْ يُبَحْ لَها الإنْتِقَالَ حتَّى تَتِمَّ عِدَّتُهَا. قالَ عِيسَى: والبَدَويَّةُ التي تَنْتَوِي حَيْثُ يَنْتَوِي أَهْلُهَا (¬1)، فَتَنْتَقِلُ بانْتِقَالِهِم، هُمْ أَهْلُ العُمُودِ و [الشَّعَرِ] (¬2) الذِين يَنْتَجِعُونَ المَاءَ والكَلأَ ولا قَرَارَ لَهُم، فالمُعْتَدَّةُ مِنْهُم تَنْتَقِلُ بانْتِقَالِهِم، وأَمَّا أَهْلُ القُرَى فَلَا تَنْتَقِلُ المُعْتَدَّةُ مِنْهُم بِرِحْلَةِ أَهْلِها إذا كَانَ أَهْلُ القَرْيَةِ صَالِحِينَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إلَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرَاً في حُجُورِهِم، فإنَّهُم يَرْحَلُونَها مَعَهُم. * قالَ ابنُ وَضَّاحِ: في حَدِيثِ فَاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ سُنَنٌ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ لا نَفَقَةَ للمَبْتُوتَةِ، ومِنْهَا: أنَّهَا اعْتَدَّتْ في غَيْرِ البَيْتِ الذِي طُلِّقَتْ فِيهِ، إذ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا، ومِنْها: أَنَّ المَرْأةَ الصَّالِحَةَ العَجُوزَ يَزُورُهَا الرِّجَالُ، ويُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابةُ يَفْعَلُونَ بأُمِّ شَرِيكٍ، ولَذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمِّ شَرِيكٍ: "تِلْكَ امْرَأةٌ ¬

_ (¬1) تنتوي يعني: تنزل حيث نزلوا. (¬2) جاء في الأصل: الشاد، ولم أجد لها معنى، وما وضعته هو المناسب للسياق.

يَغْشَاهَا أَصْحَابِي" [2155] فَرُبَّمَا نَظَرُوا إلى فَاطِمَةَ بِسَبَبِ دُخُولهِم إلى أُمِّ شَرِيكٍ، وفِي هَذا مُبَاعَدَةُ ما بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ إذا لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي المَحَارِم، وفِيهِ: إبَاحَةُ التَّعْرِيضِ بالنِّكَاحِ في العِدَّةِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِفَاطِمَةَ: "إذا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي"، وفِيه: أنْ يُذْكَرَ مِنَ الإنْسَانِ عِنْدَ المَشُورَةِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا أَبو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِه"، فَحَكَاهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرُوبٌ للنِّسَاءِ، ومَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ حَالَةً نُسِبَ إليهَا، فَيُقَالُ لَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الضَّرْبِ: "لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِه" لأَجْلِ كَثْرَةِ ضَرْبِهِ للنِّسَاءِ، وقَدْ يَذْهَبُ في حَوَائِجِه، ويَتَصَرَّفُ في أُمُورِهِ، وأَمَّا قَوْلُهُ في مُعَاوِيةَ: "إنَّهُ صَعْلُوكٌ" فَلَيْسَتْ هَذِه غِيبَةٌ، لأنَّهُ قَالَها حِينَ مَشُورَةِ فَاطِمَةَ إيَّاهُ في تَزْوِيجِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الذَيْنِ خَطَبَاهَا في وَقْتٍ وَاحِدٍ، والمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، فَعَلَيْهِ النُّصْحُ، وفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ تَزْوِيجُ المَوَالِي القُرَشِيَّاتِ، وكَانَتْ فَاطِمَةُ قُرَشِيَّهً وأُسَامَةُ مَوْلَى. قالَ [أبو] (¬1) المُطَرِّفِ: قَالَ سُفْيَانُ: للمُطَلَّقَةِ المَبْتُوتَةِ النَّفَقَةُ والسُّكْنَى على زَوْجِهَا الذي طَلَّقَهَا، وشَبَّهَهَا سُفْيَانُ بالحَامِلِ. وقالَ إسْمَاعِيلُ: لَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، لأن اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، ثُمَّ قَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فإنْ كَانَتِ النَّفَقَةُ تَجِبُ كَمَا تَجِبُ السُّكْنَى لمَا كَانَ للإخْتِصَاصِ مَعْنَى، فَوَجَبَ بِهَذا النَصِّ أنَّهَا الحَامِلُ التِّي لا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَها، وأَمَّا التِّي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا فَلَهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ في العِدَّةِ، حَامِلًا كَانَتْ أو غَيْرَ حَامِلٍ. " قالَ مَالِكٌ: إذا طَلَّقَ العَبْدُ الأَمَةَ ثُمَّ عُتِقَتْ فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الأَمَةِ، لَا تَنتقِلُ إلى عِدَّةِ الحُرَّةِ [2158]. وقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ: إنَّها تَنْتَقِلُ إلى عِدَّةِ الحُرَّةِ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

قالَ مَالِكٌ: فإنْ مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ في عِدَّتِهَا ولَمْ تَخْتَرْ فِرَاقَهُ بعدَ عِتْقِهَا حتَّى مَاتَ، اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرا مِنْ يَوْمِ مَاتَ. قالَ أَبوالمُطَرِّفِ: إنَّما انْتَقَلَتْ في الوَفَاةِ إلى عِدَّةِ الحُرَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمَّا أُعْتِقَتْ وَهِيَ في العِدَّةِ كَانَ لَهَا أَنْ تَبِينَ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فقدْ أَبْقَتْ نَفْسَهَا زَوْجَةً لَهُ، فَلَمَّا توفي وَهِيَ في عِدَّتِها لَزِمَهَا عِدَّةُ الحُرَّةِ في الوَفَاةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جُعِلَتْ عِدَّةُ المُسْتَحَاضَةِ سَنَةً، لِتَكُونَ مِنْهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ للحَمْلِ، ثُمَّ ثَلاَثَةً عِدَّةً، إلَّا أنْ تَسْتَرِيبَ نَفْسَهَا، فتَقْعُدُ حتَّى تَذْهَبَ عَنْهَا الرِّيَبةُ إلى أَقْصَى مَا يَجْلِسُ لَهُ النِّسَاءُ في الحَمْلِ، وقِيلَ في المُسْتَحَاضَةِ التِّي تُفَرِّقُ بينَ دَمِ الإسْتِحَاضَةِ ودَمِ الحَيْضِ، أنَّهَا تَعْتَدُ كَعِدَّةِ غَيْرِ المُسْتَحَاضَةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا أَسْلَمَتِ المَرْأةُ وزَوْجُهَا كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَتْ في العِدَّةِ، وإنْ تَزَوَّجَها بعدَ زَوْجٍ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ طَلاَقًا. [أبو المُطَرِّفِ]: قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لا يُلْزَمُ الطّلَاقُ إلَّا في النِّكَاحِ المُنْعَقِدِ على شَرِيعَةِ الإسْلاَمِ، ونِكَاحُ المُشْرِكِ لا يُقَالُ فِيهِ صَحِيحٌ ولَا فَاسِدٌ، لأنَّ الصَّحِيحَ مِنَ النِّكَاحِ مَا صَحَّ بِشَرِيعَةِ الإسْلاَمِ، والفَاسِدُ مِنْهُ مَا فَسَدَ بِشَرِيعَةِ الإسْلاَمِ، فَلِهَذا لا يُعَادُ مِنَ الطَّلَاقِ مَا وَقَعَ في حَالِ الكُفْرِ. * قالَ أَصْبَغُ: إذا عَقَدَتْ امْرَأةٌ نِكَاحَ امْرَأةٍ فُسِخَ النِّكَاحُ، وإنْ مَاتَا قَبْلَ الفَسْخِ لَمْ يَتَوارَثَا، ولَيْسَ العَمَلُ في هذَا على تَزْوِيجِ عَائِشَةَ لِبِنْتِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ زَوَّجَتْهَا وأَبُوهَا غَائِبٌ [2040]، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَاطَبَ الأَوْلِيَاءَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وقالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فَخَاطَبَ ذُكُورَ الأَوْلِيَاءِ، ولِهَذا قالَ مَالِكٌ: إنَ المَرْأةَ لَا تَكُونُ [وَصِيَّةً لِعَقْدِ] (¬1) النِّكَاحِ، إلَّا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين أصابه مسح، واستدركته من المدونة 3/ 296. ومعنى قوله: (إلَّا أن تكون وصية) يعني: إذا كان وصية جاز لها أن تستخلف من يزوّجها، ولا يجوز لها أن تباشر عقد النكاح.

أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً، فإنها تُقَدِّمُ رَجُلًا على عُقْدَةِ النِّكَاحِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا فَعَلَتْ [ذَلِكَ عَائِشَةُ] (¬1) لأَنَّهَا كَانَتْ شَيْخَةَ أَهْلِهَا، ولِمَكَانَتِهَا مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قولُ مَالِكٍ: تُمْنَعُ المُعْتَدَّةُ مِنَ [السَّفَرِ] (¬2) إلى الحَجِّ. [أَبو المُطَرِّفِ]: إنَّما هذَا مَا لَمْ تُحْرِمْ بالحَجِّ، فأَمَّا إذا أُحْرِمَتْ فإنَّهاْ تَتَمَادَى في سَفَرِهَا حتَّى تَقْضِي [حَجَّهَا، فإذا] (¬3) كَانَتْ وَفَاةَ زَوْجِهَا بَعْدَما نَفَدَتْ في سَفَرِهَا، وكَانَتْ بِمَوضِع قَريبٍ مِنْ بَلَدِهَا لَيْسَ عَلَيهَا في [الرُّجُوعِ] إلى مَنْزِلها مَؤنَةً، فإنها تَرْجِعُ تَعْتَدُّ في بَيْتِهَا، فإنْ كَانَ المَكَانُ الذي توفي فِيهِ زَوْجُهَا بَعِيدٌ [لا تَرْجِعُ] (¬4) لَها نَفذَتْ لِحَجِّهَا، وتَعْتَدُّ به مِنْ يَوْمِ مَاتَ زَوْجُهَا، فإذا رَجَعَتْ إلى بَيْتِهَا أَقَامَتْ فِيهِ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا [....] (¬5) وقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا بقِيَّةٌ مِنَ العِدَّةِ. " قالَ أبو مُحَمَّدٍ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ المَدِينَةِ يَقُولُ في أُمِّ الوَلَدِ إذا [تُوفِّي عَنْها] (¬6) سَيِّدُهَا، أنَّهَا تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرَا، وبهِ قَالَ يَزِيدُ بنُ عبدِ المَلِكِ [2199]. فَسَأَلْتُهُ عَنْ رِوَايةِ مَطَرٍ [الوَرَّاقِ] (¬7) عَنْ رَجَاءِ بنِ حَيْوَةَ، عَنْ قَبيصَةَ، عَنْ عَمْروِ بنِ العَاصي أَنَّهُ قالَ: (لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنا، عِدَّتُهَا [عِدَّةُ المُتَوفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعْشَرَا]) (¬8)، قالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هذِه قَصَّةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، ولَمْ يُدْرِكْ مَطَرُ الوَرَّاقُ رَجَاءَ بنَ حَيْوَةَ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين استظهرته بما يفهم من السياق، وقد مسح في الأصل. (¬2) ما بين المعقوفتين مسح في الأصل، واستدركته بما يفهم من السياق. (¬3) ما بين المعقوفتين وضعته بما يفهم من السياق، وقد أصابه المسح. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل بسبب مسحه، ووضعت ما يتناسب مع السياق. (¬5) أصاب المسح مقدار كلمتين، ولم أستطع استظهاره. (¬6) ما بين المعقوفتين لم يظهر، ووضعت ما يتناسب مع السياق. (¬7) لم يظهر ما بين المعقوفتين بسبب مسحه، واستظهرته بما يتوافق مع المصادر. (¬8) رواه أبو داود (2308)، وابن حبان (4300)، والحاكم 2092، بإسنادهم إلى مطر الوراق به، وما بين المعقوفتين زيادة من سنن أبي داود وقد سقطت من الأصل.

* وقَدْ أَنْكَرَ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ فِعْلَ يَزِيدِ بنِ عبدِ المَلِكِ في ذَلِكَ [2199]. * وقالَ ابنُ عُمَرَ: عِدَّتُها إذا توفي عَنْهَا سَيِّدُها حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ [2200]. قالَ أَبو حَنِيفَةَ: عِدَّةُ أُمِّ الوَلَدِ إذا توفي عَنْهَا سَيِّدُهَا بِثَلاَثِ حُيَّضٍ (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمَّا لَمْ تَكُنْ الأمُّ وَلَدٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ المُطَلَّقَاتِ لَمْ تُؤْمَرْ إذا توفي سَيِّدُها بِثَلاَثِ حُيَّضٍ، ولَمَّا لَمْ تَكُنْ مِنَ الزَّوْجَاتِ المُتَوفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجِهُنَّ لَمْ تُؤْمَرْ بِعِدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وعَشْرَا، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مُطَلَّقَةً ولا مُتَوفَّى عَنْهَا زَوْجُها أُمِرَتْ أَنْ تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ كَمَا يُفْعَلُ بِها في البَيْع، فَإنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، إلَّا أَنْ تَسْتَرِيبَ نَفْسَهَا فتَقْعُدُ حتَّى تَذْهَبَ الرِّيبَةُ، إلَّا أَنْ يَأْتِي عَلَيْهَا مِنَ الزَّمَانِ مَا لَا تَكُونُ حَامِلًا في مِثْلِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بَرَاءَةٌ لَها، وتَنْكِحُ إنْ شَاءَتْ. قالَ عِيسَى: إذا تَزَوَّجَتِ الأُمُّ وَلَدٍ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدُها قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ حَيْضَةً، فَوَطِئَها الزَّوْجُ فإنها يُفَرَّقُ بَيْنَهَما، ولَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا، وَهُوَ كَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأةً في عِدَّتِهَا وَوَطِئَها فِيها. وقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَحْرُمُ بِذَلِكَ الوَطْءِ، لأَنَّهَا لَيْسَتْ بَعْدَّةٍ مِنْ نِكَاحٍ، وإنَّمَا هِيَ عِدَّةٌ مِنْ مِلْكِ اليَمِينِ. قالَ عِيسَى: على الأُمَّةِ المُتَوفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِدَّةُ الوَفَاةِ، لأَنَّهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ المُتَوفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، إلَّا أَنْ عِدَّتَها في الوَفَاةِ شَهْرَانِ وخَمْسَ لَيَالٍ، وعِدَّتُها في الطَّلَاقِ قُرَآنِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ القُرْءَ الوَاحِدَ لا نِصْفَ لَهُ ولا يَتَبَعَّضُ، فإنَّما عَلَيْهَا قُرَآنِ، وقالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في الإمَاءِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فَلَمَّا كَانَ عَلَيْهَا نِصْفُ حَدِّ الحُرَّةِ كَانَتْ عِدَّتُهَا مِثْلَ نِصْفِ عِدَّةِ الحُرَّةِ. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: المبسوط 566.

باب الحكمين، إلى آخر باب الطلاق.

بابُ الحَكَمَيْنِ، إلى آخِرِ بَابِ الطَّلَاقِ. قالَ عِيسَى: لَو أَنَّ رَجُلًا وامْرَأتهِ اشْتَكَيَا إلى السُّلْطَانِ، وكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَهُ مُضِرٌّ بهِ فلَمْ يَتَبَيَّنْ للسُّلْطَانِ مَنِ النَّاشِزِ مَنْهُمَا، والنَّاشِزُ مِنْهُمَا هُوَ المُبْغِضُ المُسِيءُ الصُّحْبَةِ لِصَاحِبهِ، فإذا جُهِلَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمَا وَجَبَ على السُّلْطَانِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا صَالِحَاً مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ، وآخَرَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، فَيُحَكِّمُهُما بَيْنَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وامْرَأَتهِ، ويُفَوِّضُ إليهِما أَمْرَهُمَا، فَمَا رَأَيا مِنْ فرْقَةٍ بَيْنَهُمَا أو اجْتِمَاعٍ أَنْفَذَاهُ بَيْنَهُمَا، وَينْبَغِي للحَكَمَيْنِ أَنْ يَسْأَلاَ أَهْلَ المَعْرِفَةِ بِهِما، ويَكْشِفَانِ عَنْ أُمُورِهِما، فإذا بَلَغَا في الكَشْفِ عَنْهُمَا أَكْثَرَ مَا يَسْتَطِيعَانِ مِنْ ذَلِكَ حَكَمَا بَيْنَهُمَا ولَزِمَهُمَا ذَلِكَ، وإنْ رَأَيَا أنْ يُفَرَّقَا بَيْنَهُمَا على أَلاَّ يَأخُذَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبهِ شَيْئًا فَعَلاَهُ، وإنْ رَأَيا أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنَ المَرْأَةِ شَيْئَاً ويُطَلِّقَاهَا عَلَيْهِ فَعَلاَ، وإنْ رَأَيَا أَنْ يُقِرَّاهُمَا على نِكَاحِهِما فَعَلاَ، فإنْ رَأَيَا أَنْ يُطَلِّقَاهَا عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ فَعَلاَ، ولَا يُطَلِّقَاهَا عَلَيْهِ بأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ في قَوْلِ ابنِ القَاسِمِ. وقالَ أَشْهَبُ: مَا طَلَّقَا بهِ مِنْ وَاحِدَةٍ أَو ثَلاَثٍ لَزِمَ الزَّوْجَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وذَكَرَ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ لُبَابَةَ (¬1) أنَّهُ كَانَ إذا ذُكِرَ لَهُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذا شَكَا بَعْضَهُمَا بَعْضَا إلى الحَكَمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي للحَكَمِ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمَا أَمِينًا، أو في دَارٍ أَمِينٍ، وُيخْبِرُ الأَمِينُ الحَكَمَ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنْ أُمُورِهَما. ¬

_ (¬1) هو محمد بن عمر بن لبابة، أبو عبد الله القرطبي، الإِمام الفقيه المفتي، كان من أعرف الناس باختلاف أصحاب مالك، وكان عابدا زاهدا، توفي سنة (314)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1155.

فَكَانَ أَبو مُحَمَّدٍ يَقُولُ: لَسْتُ أَرَى هَذا إلَّا مَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مِنَ الطِّيِّبَاتِ التِّي أَبَاحَها اللهُ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ أَحَدٌ على نَفْسِهِ بِقَوْلهِ: كُلُّ امْرَأةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، لَمْ يُلْزَمْ قَائِلُ ذَلِكَ شَيءٌ، لأَنَّهُ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، وأَمَّا إذا سَمَّى قَبِيلَة بِعَيْيها، أَو ضَرَبَ أَجَلًا يَبْلَغُهُ عُمُرَهُ، لَزِمَهُ الطَّلَاقُ فِيمَا عَيَّنَ، والأَجَلُ الذي ضَرَبَهُ، إلَّا أَنْ يَضْرِبَ أَجَلًا بَعِيدًا لَا يَبْلُغُهُ عُمُرَهُ. [كان] (¬1) ابنُ القَاسِمِ يَقُولُ: يَتَزَوَّجُ، لأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ أَجَلًا بَعِيدًا لا يَبْلُغُهُ عُمُرَهُ فَقَدْ قَصَدَ إلى تَحْرِيمِ مَا أَحَل اللهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وتَزَوَّجْ، ولَا شَيءَ عَلَيْكَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا حُكِمَ للمَرْأةِ [على] (¬2) العِنِّينِ بالفِرَاقِ بعدَ أَنْ ضُرِبَ لَهُ أَجَلُ سَنَةٍ يُعَاب فِيهَا نَفْسَهُ، لِكَي يَقْطَعَ عَنْهَا الضَّرَرَ بامْتِنَاعِهِ مِنَ الوَطْءِ، وفِرَاقُهُ تَطْلِيقَةٌ، تَمْتَلِكُ بها المَرْأةُ أَمْرَ نَفْسِهَا، وأَمَّا إذا حَدَثَ بالزَّوْجِ العِنَّةَ بَعْدَ دُخُولِهِ بِها وَوَطْئِهِ إيَّاهَا، لَمْ يُفَرَّقْ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا، لأَنَّهُ عَيْبٌ حَدَثَ عِنْدَها لَمْ يُغِرْهَا بهْ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهِ. * قالَ الأَبْهَرِيُّ: أَمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَسْلَمَ وعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا ويُفَارِقُ سَائِرُهُنَّ [2179]، وأَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ حِينَ أَسْلَمَ وتَحْتَهُ اخْتَانِ أنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، ويُفَارِقُ الأُخْرَى (¬3)، ومَعْلُومٌ أَن الإخْتِيَارَ قَدْ يَكُونُ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (قال) وهو مخالف لسياق الكلام. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬3) رواه الترمذي (1129)، وابن ماجه (1951)، من حديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه.

بَيْنَ الأَوَاخِرِ والأَوَائِلِ، ولَوْ كَانَ الاخْتِيَارُ على التَّرْتِيبِ الأُولَى فالأُولَى لَزَالَ مَعْنَى الإخْتيَارِ الذي أَمَرَهُ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. * قَالَ عِيسَى: إنَّمَا قِيلَ لِثَابِتٍ الأَحْنَفُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مِعْوَجَّ السَّاقَيْنِ، ولَمْ يَرَ عَلَيْهِ ابنُ عُمَرَ طَلاَقًا [2181]، لأنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ مُكْرَهًا حِينَ خَشِيَ على نَفْسِهِ الضَّرْبَ، ولَمْ يَكُنْ له قَصْدٌ إلى الطَّلَاقِ بِنِيَّةٍ ولا إرَادَةٍ، وكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مُكْرَهٍ على الطَلاَقِ لا يَلْزَمُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الكُفْرَ مَنْ أُكْرِه عَلَيْهِ، والسَّكْرَانُ بخِلاَفِ ذَلِكَ، يُنْفَذُ عَلَيْهِ طَلاَقُهُ، ويَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وتَلْزَمُهُ جَمِيعُ الأَحْكَامِ، وذَلِكَ أَنَّهُ أَدْخَلَ السُّكْرَ على نَفْسِهِ، والقَلَمُ جَارٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِخِلاَفِ المَغْلُوبِ على عَقْلِهِ. وقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إلَّا مَا بَاعَهُ مِنْ عُرُوضِهِ في حَالِ سُكْرِه، فَادَّعَى حِينَ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ مَا بَاعَ، ويَتَبَيَّنُ قَدْرَ مَا ادَّعَاهُ منْ ذَلِكَ، فَبَيْعُهُ يُنْقَضُ، ويُحَدُّ ثَمَانِينَ لِشُربِ الخَمْرِ. * ورَوَى يحيى عَنْ مَالِكٍ في قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: (يا أَيُّها النبيُّ إذا طَلَّقْتُم النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ) قالَ يحيى: قالَ مَالِكٌ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ في كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً [2182] (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَرْوِ عَنْ مَالِكٍ هذَا التَّفْسِيرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا يحيى بنُ يحيى. قالَ ابنُ أَبِي زيدٍ: كَانَ أَشْهَبُ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ في كُلِّ طُهْرٍ مَرَّة مَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا في خِلاَلِ ذَلِكَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطَلَّقَهَا ثَانِيَةً، فَلَا يَسَعْهُ ذَلِكَ، لأنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُطَوِّلَ علَيْهَا العِدَّةَ، فإذا لَمْ يَرْتَجِعْهَا فلَا بَأْسَ أَنْ يُطَلِّقَهَا في كُلِّ طُهْرٍ مَرَّة. وأَنْكَرَ هذَا غَيْرُ أَشْهَبَ وقَالَ: إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ في كُلِّ طُهْرٍ مَرَّة، وَقَعَ ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 15/ 74: أي لإستقبال عدتهن، وإذا طلق في طهر لم تمس فيه فهي مستقبلة عدتها من يومئذ.

بَعْضُ طَلاَقِهِ إيَّاهَا بِغَيْرِ عِدَّة كَامِلَةٍ، وذَلِكَ أَنَّهُ تَقَعُ للطَّلْقَةِ الأُولَى عِدَّةٌ كَامِلَةٌ، وتَقَعُ للطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الأقْرَاءِ قُرآنِ، وتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الأقْرَاءِ قُرءٌ، فَيَقَعُ ذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فلِهَذا لا يَنْبَغِي أَنْ يُطَلِّقَها في كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً. * قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: في حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأَصْحَابهِ حِينَ سَأَلُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ العَزْلِ، وقَالُوا لَهُ: أنَّا نُحِبُّ العَزْلَ، وقالَ: "مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا" [2206]، يَعْنِي: مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَعْزِلُوا [عَنْ] (¬1) إمَائِكُم عِنْدَ وَطْئِكُم إيَّاهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ إلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ"، فَدَلَّ هذَا على أَنَّ الوَلَدَ قَدْ يَكُونُ مَعَ العَزْلِ، ولِهذَا قَالَ الفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِوَطءِ أَمَتِهِ، وادَّعَا أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْها مَاءَهُ، أَنَّ الوَلَدَ لا حَقَّ بهِ، إذ قَدْ يَغْلِبُهُ المَاءُ أَو بَعْضُهُ. " وقَوْلُهُم: (إنا نُحِبُّ الأثْمَانَ فِيهِ) (¬2)، دَلِيلٌ على أَنَّ الأَمَةَ إذا حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدَها أَنَّهُ لاسَبِيلَ لَهُ إلى بَيْعِها، وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ في أُمِّ إبْرَاهِيمَ: "أعْتَقَهَا وَلَدُهَا" (¬3)، وقَدْ قَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في الأَمَةِ إذا حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِها أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا [2871]، فإذا وَضَعْتْ فِهَيَ على ذَلِكَ الأَصْلِ في مَنْعِ بَيْعِها، وعلى هذا اتَّفَقَ المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ بالمَدِينَةِ، ويُذْكَرُ عَنْ عليِّ بنِ أبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ بالكُوفَةِ في بَيْع أُمِّ الوَلَدِ، فَقَامَ إليه عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فقَالَ لَهُ: (يا أَمِيرُ المُؤْمِنينَ، رَأْيُكَ في الجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلينا مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ) (¬4)، وذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا وَافَقَ أَصْحَابَهُ بالمَدِينَةِ على المَنْعِ مِنْ بَيْعِ أُمِّ الوَلَدِ، فَلِهَذا قَالَ عَبِيدَةُ هذَا القَوْلَ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة وضعتها للتوضيح. (¬2) هذه اللفظة رواها البخاري في صحيحه (2116)، والبيهقي في السنن 10/ 347، وقال: فلولا أن الإستيلاد يمنع من نقل الملك وإلا لم يكن لعزلهم محبة الأثمان فائدة. (¬3) رواه ابن ماجه (2516)، والبيهقي 10/ 346، من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. (¬4) رواه عبد الرزاق 7/ 391، والبيهقي في السنن 10/ 348، بإسنادهم إلى عَبِيدة السَّلْماني به.

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ سَبْيُ بَنِي المُصْطَلِقِ الذِي سَبَاهُم رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ اللَّوَاتِي لا يَجُوزُ وَطْئَهُنَّ الآنَ بمِلْكِ اليَمِينِ، وإنَّما أَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَطْأَهُنَّ لأَصْحَابهِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُوَلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 22]، يَعْنِي: المُشْرِكَاتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الكِتَابِ، فَهَؤُلاَءِ لَا يُوطَئْنَ الآنَ بِمِلْكِ يَمِينٍ، ولَا نِكَاحَ حتَّى يُسْلِمْنَ، لأَنَّ هذه الآيةَ حَرَّمَتْ وَطْءَ المَجُوسِيَّاتِ والوَثَنِيَّاتِ، بِخِلاَفِ الكِتَابِيَّاتِ. قالَ مَالِكٌ: مَنْ أَقَرَّ بِوَطءِ أَمَتِهِ ثُمَّ ظَهَرَ بِها حَمْلٌ فأَنْكَرَهُ وادَّعَى العَزْلَ، أَنَّ الوَلَدَ يَلْزَمُهُ، فإنْ أَنْكَرَ الوَطْءَ جَمْلَةً وَاحِدَةً ونَفَى عَنْ نَفْسِهِ الوَلَدَ لَمْ يَلْزَمْهُ. قُلْتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: هَلْ يَلْزَمُهُ يَمِينٌ؟ فقالَ: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وقَدْ عُرِضْتْ هذِه القِصَّةُ لِزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ فَلَمْ يَحْلِفْ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وَجْهُ كَرَاهِيَةِ ابنِ عُمَرَ للعَزْلِ هُوَ أَنَّ المَاءَ يَكُونُ مِنْهُ الوَلَدُ، فَإذا عَزَلَهُ الرَّجُلُ فَقَدْ أَعَانَ على تَلَفِ الوَلَدِ، وأَجَازَ ذَلِكَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وأَبَاحَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ: "إنَّ الوَلَدَ يَكُونُ مَعَ العَزْلِ" (¬1) [2209 - 2211]. قالَ عبدُ الرَّحمنِ: إنَّما لَمْ يَجُزْ للرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الحُرَّةِ إلَّا بإذْنِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا إتما نُكِحَتْ رَغْبَةً في الوَلَدِ، ولَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الأَمَةِ إلَّا بإذنِ سَيِّدَها، لأَنَّهُ إنَّما أَنْكَحَهُ إيَّاهَا سَيِّدُها طَلَبًا للنَّسْلِ ورَغْبَةً في الوَلَدِ. قالَ مَالِكٌ: لَيْسَ تَرْكُ الطِّيبِ على المَرْأَةِ في مَوْتِ أَبيِها وأَخِيهَا بِوَاجِبٍ، وإنْ تَرَكَتْهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. * قَوْلُ زَيْنَبَ: (كَانَتِ المَرْأَةُ في الجَاهِليَّةِ إذا توفي عَنْها زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا) [2217]، تَعْنِي بالحِفْشِ: البَيْتَ الحَقِيرِ أَو الخُصِّ، (وتَلْبَسُ شَرَّ ثِيَابِهَا) حُزْنًا مِنْهَا على زَوْجِهَا. ¬

_ (¬1) ليس هذا بحديث، وإنَّما هو قول لبعض العلماء، ينظر: عمدة القاري 12/ 49.

ومَعْنَى [قَوْلِهِا] (¬1): (فَتَفْتَضُّ بهِ)، يَعْنِي: أَنَّها كَانَتْ تُؤْتَى بَعْدَ العَامِ بِطَائِرٍ أَو شَبَهِهِ، فَتَمْسَحُ بهِ جِسْمَهَا لِيُزِيلَ التَّفَلَ الذي كَانَ يَجْتَمِعُ عَلَيهَا (¬2)، والوَسَخَ في طُولِ العَامِ، فقلَّمَا كَانَتْ تَتمَسَّحُ بِشِيءٍ إلَّا مَاتَ مِنْ نَتَنِ رِيحِها، ثُمَّ تُؤتَى بِبَعْرَةٍ فَتَرمِي [بهِا] (¬3) مِنْ وَرَائِها، تُرَيدُ بذَلِكَ أنَّها قَدْ رَمَتْ بالعِدَّةِ ورَاءَ ظَهْرِها كَمَا رَمَتْ بالبَعْرَةِ، فَعَوَّضَ اللهُ المُسْلِمَاتِ مِنْ هذَا كُلِّه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرَا، فالذي تَجْتَنِبُهُ الحَادُّ على زَوْجِها المَيِّتِ الطِّيبَ كُلَّهُ، والحُلِيَّ، والزِّينَةَ، ولا تَلْبسُ عَصْبًا، وَهِي ثِيَابُ اليَمَنِ المُلَوَّنةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَصْبًا غَلِيظَاً، ولَا مَصْبُوغَاً إلَّا بالسَّوَادِ، ولا تَمْتَشِطُ بِما يَخْتَمِرُ في رَأْسِهَا. واخْتُلِفَ في إحْدَادِ الكِتَابِيَّةِ على زَوْجِهَا المُسْلِمِ، فقالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: عَلَيْهَا الإحْدَادُ. وقالَ أَشْهَبُ وابنُ نَافِعٍ: لا إحْدَادَ عَلَيْهَا إذا توفي زَوْجَها المُسْلِمُ، وكُلُّهم يَرْوِيِه عَنْ مَالِكٍ. * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمْدِ اللهِ، وحُسْنِ عَوْنِه، وتَأْييدِه ويُمْنِهِ وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا يَتْلُوهُ كِتَابُ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللهُ * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: قوله، وهو خطأ مخالف لما جاء في الموطأ، لأنه ما زال من كلام زينب بنت أبي سلمة. (¬2) التفل هو: تغيير الرائحة، المعجم الوسيط 1/ 86. (¬3) جاء في الأصل: به، وهو خطأ مخالف للسياق،

تفسير كتاب الرضاع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا تفسير كتاب الرضاع * قَوْلُ عَائِشَةَ -رَحِمَها اللهُ-: "جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ لِيَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، فَسَأَلتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فقالَ: إنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِي لَه" [2234]، وقَوْلُهَا: "إنَّما أَرْضَعْتَنِي المرْأةُ، ولَمْ يُرْضعْنِي الرَّجُلُ"، تُرِيدُ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي زَوْجَةَ أَخِي هذَا الرَّجُلِ، ولمْ يُرْضِعْنِي هُوَ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلجْ عَلَيْكِ". قالتْ عَائِشَةُ: "وذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الحِجَابُ" قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فِي هَذا الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ اللَّبَنَ الذِي يَجِدُهُ هُوَ مِنْ قِبَلِ الفَحْلِ، وأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وبِهَذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (إنَّ الرَّضَاعَ للرَّجُلِ خَرَجَ مِنْ ذَكَرٍ وَاحِدٍ)، يَعْنِي: أَنَّ المَرْأةَ التِّي أَرْضَعَتْ صَبيًا أو صَبِيَّةً لِغَيْرِها إنَّمَا أَرْضعَتْهُ مِنْ لَبَنِ زَوْجهَا، فَصَارَ المُرْضِعُ ابنَا لهَا بِذَلِكَ الرَّضَاعَ، وصَارَ زَوْجُهَا وَالِدُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فاللَّبَنُ هُوَ لَبَنُ الفَحْلِ. وكَانَ الحَسَنُ يَقُولُ: (اللَّبَنُ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ)، وكَانَ لا يَرَى لَبَنَ الفَحْلِ يَحْرُمُ، [و] (¬1) حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَحِمَها اللهُ- يَرُدُّ قَوْلَهُ. وقَوْلُها: "وذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الحِجَابُ"، تَعْنِي: بعدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْتَجِبْنَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي المَحَارِمِ بِقَوْلهِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

* قَوْلُ مَالِكٍ: مَا كَانَ مِنَ الرَّضَاعِ في الحَوْلَيْنِ فإنه يُحَرِّمُ، وإنْ كَانَتْ مَصَّةً وَاحِدَةً، وبِهَذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ [2236]. وقالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: أَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ وغَيْرُهُم أَنَّ المَصَّةَ الوَاحِدَةَ رَضَاعٌ. وقَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" [2251] لَيْسَ فِيهِ تَوْقِيتٌ لِعَدَدِ الرَّضَاعِ، ومَنْ قَالَ بَعْدَ خَمْسِ رَضَعَاتِ يُحَرِّمْنَ، ونَسَبَهُ إلى القُرْآنِ، فالقُرْآنُ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ولِذَلِكَ قالَ مَالِكٌ: لَيْسَ على هذا الحَدِيثِ العَمَلُ. قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: وأَمَّا حَدِيثُ "لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولَا المَصَّتَانِ" فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ، يُرْوَى عَنِ [ابنِ] (¬1) الزُّبَيْرِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَمْ يَسْمَعْهُ ابنُ الزُّبَيْرِ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وإنَّمَا يَرْويهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وقَدْ رُوِي أَيْضًا عَنْ أُمِّ الفَضْلِ ابنةِ [الحَارِثِ] (¬4) أَنَّهَا قَالَتْ: ([لا] تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتَانِ) (¬5)، وقَدْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة لابد منها. (¬2) رواه النسائي 6/ 101، وأحمد 44، وابن حبان (4225)، والبيهقي في السنن 7/ 454، بإسنادهم إلى عبد الله بن الزبير به، ونقل البيهقي عن الشافعي أن الربيع سأله، فقال: أسمع ابن الزبير من النبي - صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم وحفظ عنه، وكان يوم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين، ثم قال البيهقي: هو كما قال الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-، إلَّا أن ابن الزبير - رضي الله عنه - إنما أخذ هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) حديث عائشة رواه مسلم (1450)، وأبو داود (2063)، والترمذي (115)، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه (1941)، وأحمد 6/ 95. قال ابن حبان 10/ 41: لست أنكر أن يكون ابن الزبير سمع هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم، فمرة أدى ما سمع، وأخرى روى عنها، وهذا شيء مستفيض في الصحابة، قد يسمع أحدهم الشيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم ثم يسمعه بعد عمن هو أجل عنده خطرا، وأعظم لديه قدرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم، فمرة يؤدي ما سمع، وترة يروي عن ذلك الأجل، ولا تكون روايته عمن فوقه لذلك الشيء بدال على بطلان سماع ذلك الشيء. (¬4) جاء في الأصل: الزبير، وهو خطأ، وأم الفضل هي امرأة العباس بن عبد المطلب، وهي أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية، ينظر: الإصابة 8/ 276. (¬5) ما بين المعقوفتين زيادة لابد منها، وحديث أم الفضل رواه النسائي 6/ 150، وابن =

رُوِي أيضًا عَنْ ابنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (لا تُحَرِّمُ إلَّا [سَبْعُ] (¬1) رَضَعَاتٍ) (¬2). قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: فهَذا كُلُّهُ يُضْعِفُ حَدِيثَ: (لَا تَحْرُمُ المَصَّةُ ولَا المَصَّتَانِ)، وقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: (لَا تَحْرُمُ إلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ)، وأَرْسَلَتْ سَالِمَ بنَ عبدِ اللهِ إلى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بنتِ أَبِي بَكْرٍ، فقَالَتْ: (أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حتَّى يَدْخُلَ عليَّ إذا كَبِرَ)، لِكَي تَكُونَ خَالَتُهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَرْضَعَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ سَالِمٌ لا يَدْخُلُ علَى عَائِشَةَ إلَّا وبَيْنَهُ وبَيْنَها حِجَابٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لَهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ [2239]. " قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (كُلُّ مَا كَانَ في الحَوْلَيْنِ مِنَ الرَّضَاعِ وإنْ كَانَتْ قَطْرَةً فَهُو يُحَرِّمُ، ومَا كَانَ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ مِنَ الرَّضَاعِ فإنَّمَا هُوَ طَعَامٌ يَأْكُلُه المُرْضِعُ) [2242]، يُرِيدُ: أنَّهُ لَا يُحَرِّمُ الرَّضَاعُ الذي يَكُونُ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ كَمَا لَا يُحَرِّمُ الطَّعَامُ. وقالَ مَالِكٌ: مَا زَادَ على الحَوْلَيْنِ بالشَّهْرِ ونَحْوِه فإنَّهُ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ في الحَوْلَيْنِ، ومَا زَادَ على ذَلِكَ فلَا يُحَرِّمُ (¬3). قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ مَالِكٍ هَذه القَوْلَةَ، واحْتَجُّوا بأن اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى قالَ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] في الرَّضَاعِ، وقالَ: والآيةُ مُحْتَمِلَةٌ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وذَلِكَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمَّا قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} دَلَّ على أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُتِمَّهَا أَنَّ ¬

_ = ماجه (1940)، وأحمد 6/ 340، ورواه مسلم (1451) وغيره، بلفظ (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان) والإملاجة هي المصّة. (¬1) في الأصل: سبعة، وهو خطأ ظاهر. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف 4687، وذكره ابن حجر في الفتح 9/ 146، وقال: أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها، وذكره ابن عبد البر في التمهيد 8/ 264، وقال: والصحيح عنها خمس رضعات. (¬3) نقله ابن عبد البر في التمهيد 8/ 263، ونسبه إلى ابن وهب عن مالك في موطئه.

الحَدَّ لَهُ دُونَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، فَلَمَّا كَانَ للأَبَوَيْنِ الفِصَالُ مِنَ الحَوْلَيْنِ بالإجْتِهَادِ كَانَ لَهُمَا الزِّيَادَةُ على الحَوْلَيْنِ بالإجْتِهَادِ، ولَمْ يَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةَ، فَصَيَّرَ الأَغْلَبَ مِنْ قِوَامِ بَدَنِ المُرْضِعِ الطَّعَامَ دُونَ اللَّبَنِ، وقدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" (¬1)، يَعْنِي: أَنَّها تَسُدُّ جُوعَ المُرْضِع، فإذا كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَرِيبَةَ مِنَ الحَوْلَيْنِ كَانَ الحُكْمُ مَا أَرْضَعَ في تِلْكَ الزّيَادَةِ حُكمَ مَا أُرْضِعَ في الحَوْلَيْنِ. وقالَ بَعْضُ أَهْلِ الكُوفَةِ (¬2): يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ على الحَوْلَيْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَيَكُونَ حُكْمُ مَا أُرْضِعَ في هَذِه الزِّيَادَةِ على الحَوْلَيْنِ حُكْمَ مَا أُرْضِعَ في الحَوْلَيْنِ، والذِي قَالَهُ مَالِكٌ عليهِ أَهْلُ المَدِينَةِ. * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: لا رَضَاعَةَ لِكَبِيرٍ، وأَمَرَ الرَّجُلَ الذِي أَرْضَعَتْ زَوْجَتُهُ جَارِيتَهُ طَمَعَا مِنْها أَنْ تَصِيرَ لَهَا [ابنَتَها] (¬3) فَتُحَرِّمَها بِذَلِكَ على زَوْجِهَا، فأَمَرَ بِضَرْبِ زَوْجَتِهِ، لِزَعْمِهَا أَنَّها تُحَرِّمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى، ولَا رَسُولُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -[2248]. وقَدْ ظَنَّ أَبو مُوسَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ في الكِبَرِ تُحَرِّمُ، فَاَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ، وقَالَ: (لَا رَضَاعَةَ إلَّا مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ)، ومَا كَانَ مِنْهَا في حَالِ الكِبَرِ، فَلَا يَقَعُ بهِ التَّحْرِيمُ [2249]. * وقالَ أَزْوَاجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في رَضَاعِ سَهْلَةَ بنتِ سُهَيْلِ سَالِمًا حِينَ أَمَرَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَفَعَلَتْهُ، فَكَانَتْ تَرَاهُ ابنًا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فإنَّ هذَا خَاصٌّ، ورُخْصَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في رَضَاعِ سَالِمٍ وَحْدَهُ في حَالِ كِبَرِه، وعَلَى هذَا ثَبَتَ [عَنْ] (¬4) أَزْوَاجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الرَّضَاعَةِ التِّي تُحَرِّمُ إنَّما تَكُونُ في حَالِ الصّغَرِ [2247]. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: كَانَتِ العَرَبُ تَقُولُ: مَنْ وَطِءَ امْرَأتَهُ وَهِي تُرْضِعُ في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2504)، ومسلم (1455)، من حديث عائشة. (¬2) ينظر: بدائع الصنائع 4/ 6، وحاشية ابن عابدين 3/ 211. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، ووضعت ما رأيته مناسبا للسياق. (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

عَامَيّ الرَّضَاع كَانَ نُقْصَانًا في الوَلَدِ، فَهَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنْهَى عَنِ الغِيلَةِ [2252]، يَعْنِي: أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الرُّومَ وفَارسَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلاَدَهُم فَلَمْ يَنْهِ عَنْ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ للرُّومِ وفَارِسَ [لَهُمْ] (¬1) حُكْمًا [مَعَ] (¬2) أَنَّهُم كُفَّارٌ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ أَخَوَاتُهَا وبَنَاتُ أَخِيهَا، ولَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا [2241]، وهَذا خِلاَفٌ لِمَا في حَدِيثِ عُمَرَ عَنْهَا، ولَمَا في حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْهَا أَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الفَحْلِ، وقَدْ قَالَتْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما أَرْضَعَتْنِي امْرَأةٌ، ولَمْ يُرْضِعْنِي رَجُلٌ"، فقالَ لَهَا: "إنَّهُ عُمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ"، فَجَعَلَ اللَّبَنَ مِنْ قِبَلِ الفَحْلِ، وبهذَا قَالَ أَهْلُ المَدِينَةِ، وأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِه إذا كَانَ في الحَولَيْنِ ومَا قَارَبَهُمَا. * * * تَمَّ كِتَابُ الرَّضَاعِ بِحَمْدِ اللهِ وحُسْنِ عَوْنهِ وتَأْيِيدِه ويُمْنِه وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا وبِتَمَامهِ تَمَّ السِّفْرُ الأَوَّلِ، ويَتْلُوهُ في التَّالِي: كِتَابُ العِتْقِ، والمُدَبَّرِ، والمُكَاتَبِ، والبُيُوعِ، والأَقْضِيَةِ، والشُّفْعَةِ، والقِرَاضِ، والمُسَاقَاةِ، وكِرَاءِ الأَرْضِ، والفَرَائِضِ، والجِهَادِ، والحَجِّ، والعُقُولِ، والقَسَامَةِ، والرَّجْمِ، والحُدُودِ، وكِتَابُ الجَامِعِ، إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (¬3) * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليست واضحة في الأصل، واجتهدت في وضعت ما يتناسب مع السياق. (¬2) جاء في الأصل: (غير)، وما وضعته هو المناسب للكلام. (¬3) أضاف الناسخ أو غيره نقولات كثيرة في مسائل في الذبائح والعقيقة من كتب الفقهاء المالكية، ومنهم ابن أبي زيد القيرواني في كتابه الرسالة، وجاءت هذه النقولات في ثلاث ورقات من صفحة 126 - 128، ولم أدخلها في الكتاب لعدم صلتها به.

تفسير كتاب العتق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ العِتْقِ قالَ مَالِكٌ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِه إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، واسْتُتِمَّ عِتْقُ جَمِيعِ العَبْدِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عُتِقَ مِنَ العَبْدِ مَا عُتِقَ، وسَوَاءٌ كَانَ عِتْقُ الشَّرِيكِ بإذنِ شَرِيكِهِ، أو بِغَيْرِ إذْنِهِ أَنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَهْلُ العِرَاقِ يَقُولُونَ (¬1): إذا لَمْ يَبْلُغْ مَالُ المُعْتِقِ ثَمَنَ العَبْدِ، فإنَ العَبْدَ يَسْتَسْعِي النَّاسَ في فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، واحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بمَا رَوَاهُ قتَادةُ، [عَنِ النَّضْرِ بنِ أَنسٍ] (¬2)، عَنْ بَشِيرِ بنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْصِهِ كُلَّه في مَالهِ إذا كَانَ لَهُ مَالٌ، وإلا لَسْتَسْعَى العَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" (¬3). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: حَدِيثُ الإسْتِسْعَاءِ الإضْطِرَابُ فِيهِ كَثِيرٌ، وبَعْضُ الرُّوَاةِ لا يَذْكُرْ فيهِ الإسْتِسْعَاءَ. ¬

_ (¬1) ينظر: شرح فتح القدير 4/ 466. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة لابد منها. (¬3) رواه البخاري (2492)، ومسلم (1503)، بإسنادهما إلى قتادة به. قال ابن الأثير في النهاية 2/ 370: استسعاء العبد إذا أعتق بعضه ورق بعضه، هو أن يسعى في فكاك ما بقي من رقّه، فيعمل ويكسب، ويصرف ثمنه إلى مولاه، فسمِّي تصرفه في كسبه سعاية. وقوله: (غير مشقوق عليه) أي لا يكلفه فوق طاقته، وقيل: معناه استسعى العبد لسيده، أي يستخدمه مالك باقيه بقدر ما فيه من الرق، ولا يحمله مالا يقدر عليه.

" قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يَرُدُّ حُكْمَ حَدِيثِ الإسْتِسْعَاءِ حُكْمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الأَعْبُدِ الستَّةِ الذينَ أَعْتَقَهُم الرَّجُلُ عَنْدَ مَوْتهِ، فأَسْهَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُم، فَأَعْتَقَ ثُلُثَهُمْ، ولمْ يَأْمُرْهُم بالإسْتِسْعَاءِ في فِكَاكِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقَابِهِم [2862]. قالَ أَحمدُ بنُ خَالِدٍ: رَوَى مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكَاً لَهُ في عَبْدٍ، قُوِّمَ مَا بَقِيَ مِنْهُ في مَالِهِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه (¬1). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وهذِه لَفْظَةٌ جَيِّدَةٍ، يَعْنِي: أُقِيمَ مَا بَقِيَ مِنْهُ في مَالهِ، ويَدُلُّ أَيْضَاً على أَنَّهُ إنَّمَا يُقَوِّمُ عَلَيْهِ مُعْتِقُ بَعْضِهِ، لأَنَّ المُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ شَيْئَاً، وإنَّمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ العَبْدِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: روَى يحيى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يحيى بنِ سَعِيدٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ أَبِي الحَسَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، وَهُوَ خَطَأٌ، لأَنَّ الحَسَنَ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ [2862] (¬2)، والصَّحِيحُ فِيهِ: مَالِكٌ، عَنْ يحيى بنِ سَعِيدٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ أَبِي الحَسَنِ، وعَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، وهَكَذا رَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ وغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ (¬3). قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ أَعْتَقَ عَبيدًا لَهُ عَنْدَ مَوْتهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُم، فإنْ كَانُوا يَنْقَسِمُونَ على ثَلاَثةِ أَجْزَاءٍ قُسِمُوا كًذَلِكَ، ثُمَّ كُتِبَ أَسْمَاؤُهُم في ثَلاَثةِ بطائِقٍ، فِي كُلِّ بِطَاقَةٍ اسْمًا في الجُزْءِ، ثُمَّ تُلَفُّ كُلُّ بِطَاقَةٍ في طِينٍ أو قِيرٍ، ويَحْضُرُ ذَلِكَ عُدُولٌ مِنَ المُسْلِمينَ، ثُمَّ يُدْعَا إنْسَانٌ فَيُعْطَاهَا، فَيَجْعَلَها في حِجْرِه، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 9/ 150 عن معمر به، ورواه مسلم (1501) بإسناده إلى عبد الرزاق به. (¬2) جاء في موطا مالك بتحقيق الدكتور محمد بن مصطفى الأعظمي 5/ 1124 (وعن) بدلا عن (عن) وهو خطأ. (¬3) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (128 ب) نسخة تركيا، ولم يذكر فيه يحيى بن سعيد، ونقل محقق كتاب الأطراف للداني 4/ 512 عن الخشني في أخبار الفقهاء بأن ذكر يحيى بن سعيد مما تفرد به يحيى بن يحيى الليثي، وأنه وهم في ذلك.

أَخْرِجْ وَاحِدَةً، فإذا أَخْرَجَها كُسِرَتِ الطِّيَنَةُ عَنْهَا، وأُعْتِقَ الجُزْءُ [الذي] (¬1) في تِلْكَ البِطَاقَةِ، ويُرَقُّ الآخَرُونَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإنْ كَانُوا لا يَنْقَسِمُونَ أَثْلاَثًا كُتِبَ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم وقِيمَتُهُ في بِطَاقَةٍ، ثُمَّ يُفْعَلُ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَوَّلًا عُتِقَ، ثُمَّ يُفْعَلُ بالذي يَلَيْهِ كَذَلِكَ حتَّى يَسْتَغْرِقَ الثُلُثَ كُلَّهُ، ثُمَّ يُرَقُّ مَا بَقِيَ (¬2). وقالَ ابنُ نَافِعٍ: لا سَهْمَانِ في الرَّقِيقِ عندَ العِتْقِ إذا كَانَ للهَالِكِ شَيءٌ مِنَ المَالِ، إنَّما يُسْهَمُ بَيْنَهُم إذا لَمْ يَكُنْ للهَالِكِ شَيءٌ إلَّا تِلْكَ الرَّقِيقِ، كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الرَّقِيقِ الستَّةِ الذينَ أَعْتَقَهُم سَيدُهُم عندَ مَوْتهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ تَرَكَ مَالًا غَيْرَهُم، فإذا كَانَ للهَالِكِ مَالًا غيْرَهُم لَمْ يُسْهِم بَيْنَهُم، ولَكِنْ يَجْرِي العِتْقُ بَيْنَهُم بالحِصَصِ، فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم مَا يَنُوبُهُ في الثُلُثِ في المُحَاصَّاةِ، ويُرَقُّ سَائِرُ ذَلِكَ لِوَرَثةِ المَيِّتِ (¬3). أخبرنا أبو عِيسَى (¬4)، قالَ: حدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ يحيى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا تَبِعَهُ مَالُهُ، إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيهِ سَيِّدُهُ" (¬5). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يَعْنِي يَسْتَثْنِيهِ السيِّدُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ العِتْقِ، ولَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ هذَا الحَدِيثِ في المُوطَّأ. * وقالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ في العَبْدِ يُعْتَقُ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ مَالُهُ إذا لَمْ يَسْتَثْنِيهِ السيِّدُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ العِتْقِ [2865]. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: التي، وهو مخالف للسياق، ولما جاء في تفسير ابن مزين. (¬2) نقل قول ابن القاسم ابن مزين في كتابه تفسير الموطأ، كما في النص رقم (205). (¬3) نقل قول ابن نافع ابن مزين في تفسيره، رقم (206)، ونقله أيضًا عبد الملك بن حبيب في تفسيره 2/ 88. (¬4) هو يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي القرطبي، الإمام العلامة، وهو راوي الموطأ عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى، وتقدم التعريف بهما. (¬5) رواه أبو داود (3962)، وابن ماجه (2529)، بإسنادهم إلى الليث به.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِه مُثْلَةً فَاحِشَةً قَاصِدَاً لِذَلِكَ، عُتِقَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ المُثْلَةُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ إليها فَلَا يُعْتَقُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ وإنْ كَانتْ فَاحِشَة. قالَ: ولَا يُعتَقُ عَلَيْهِ بِمُثْلَةٍ يَسِيرَةٍ وإنْ قَصَدَ إليها. قالَ: ولا يَكُونُ الجَلْدُ مُثْلَةً، إلاَ أَنْ يُسْرِفَ في ذَلِكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: واخْتُلِفَ في السَّفِيهِ إذا مَثَّلَ بِعَبْدِه، فَقِيلَ: لا يُعتَقُ عَلَيْهِ، وقِيلَ: يُعتَقُ عَلَيْهِ، لأَئهُ حَذٌ لَزِمَهُ لا يُسْقِطْهُ عَنْهُ سَفَهُهُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للأَمَةِ السَّوْدَاءِ التِّي شَاوَرَها سَيِّدُها في عِتْقِهَا، فقالَ لَهَا: "أَيْنَ اللهُ؟ فَقَالتْ: في السَّمَاءِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى قَوْلهِ: "أَعتِقْها فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يحتَمِلُ هذَا الحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ في أَوَّلِ الإسْلاَمِ، وذَلِكَ أَنَّ أبا عُبَيْد, ذَكَرَ في رِسَالةِ الإيمَانِ (¬1): أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أقَامَ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ يَدعُو إلى شَهادِةِ أنْ لا إله إلاَ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَمَنْ أَجَابَهُ كَانَ مُؤْمِناً، ثُمَّ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ، والزَّكَاةُ والصِّيَامُ والحجُ بالمَدِينَةِ، ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى صِفَةَ المُؤْمِنِينَ في كِتَابهِ، فقالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1، 10]، فهذه صِفَاتُ المُؤْمِنِينَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فالإيمَانُ قَوْل باللِّسَانِ، وإخْلاَص بالقَلْبِ، وعَمَل بالجَوَارِحِ، وإصَابَةُ السُنَّةِ، وفِي هذا الحَدِيثِ بَيَان أَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في السَّمَاءِ، فَوْقَ عَرْشِهِ، وَهُو في كُلّ مَكَان بِعِلْمِهِ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، إلى آخِرِ الآيةِ، يَعْنِي: يُحِيطَ بِهِم عِلْمَاً، ويَعلَمُ مَا يُسِرونَ ومَا يُعلِنُونَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ وَاجِبَةٌ فأَعْتَقَ غَيْرَ مُسْلِمَة لَمْ تُجْزهِ، لأَنَّ ¬

_ (¬1) رجعت إلى رسالة أبي عبيد في الإيمان المطبوعة بتحقيق الشيخ العلامة المحدث ناصر الدين الألباني -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فلم أجد هذا النقل الذي ذكره المصنف.

النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمر بِعِتْقِ السَّوْدَاءِ إلَّا بعدَ صِحَّةِ إسْلاَمِها، فَمَنْ أَعتَقَ في الرِّقَابِ الوَاجِبَةِ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ لَمْ تُجْزِه، وكانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعتِقَ غَيْرَها، ولا بَأْسَ أَنْ يَعتِقَ غَيْرَ المُسْلِمَةِ في التَّطَوُّعِ. * [قالَ أَبو المُطَرِّفِ]: أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بنَ عُبَادَةَ أَنْ يعتِقَ عَنْ أُمِّهِ بعدَما هلَكَتْ، فَدَلَّ هذَا الحَدِيثُ على أَنَّ ثَوَابَ هذا العِتْقِ يَجْرِي على المَيِّتِ، ويُلْحِقَهُ في قَبْرِه، كَمَا قَدْ يُلْحِقُهُ دُعَاءُ وَلَدِه بَعْدَهُ، فَضْلاً مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- على عِبَادِه. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: مَنْ كَفَّرَ عَنْ أَحَدٍ بأمرهِ أَو بِغَيْرِ أمرِهِ أُجْزِي ذَلِكَ عَنْهُ، إلَّا في قَوْلِ أَشْهبَ، فإنَّهُ قالَ: لا يَجْزِي ذَلِكَ عَنْهُ إذا كَفَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، لأنَّهُ لا نِيّة للحَالِفِ في تِلْكَ الكَفَّارَةِ التِّي كُفرَتْ عَنْهُ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَسْنَدَ يَحيىَ عَنْ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الرِّقَابِ أَيُّها أَفْضَلُ؟ فقالَ: "أَعلاها ثَمَناً (¬1)، وأَنْفَسها عِنْدَ أَهْلِها". وأَرسَلَهُ أَصحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ، لَمْ يَذْكُرُوا فيهِ عَائِشَةَ. * * * ¬

_ (¬1) كذا في الأصل (أعلاها) بالعين، وجاء في الموطأ: (أغلاها) بالغين، وأشار محقق الكتاب الدكتور محمد مصطفى الأعظمي إلى أنه في هامش نسخة: (أعلاها) لإبن وضاح.

تفسير الولاء

تَفْسِيرُ الوَلَاءِ * قالَ ابنُ مُزَين: قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: مَعْنَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ عِنْدِي واشْتِرَاءُ عَائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ، إنَّمَا كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ كِتَابتها، فَلِذَلِكَ أَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَها شِرَاءَها (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ يُحتَجُّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ في إجَازَةِ بَيع المُكَاتَبِ وإنْ لَمْ يَغجَزْ عَنِ الكِتَابَةِ، وذَلِكَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنْ بَيع الوَلَاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ، وعَقْدُ الكِتَابَةِ هُوَ عَقْدُ الوَلَاءِ، إلَّا أَنْ يَعجَزَ المُكَاتَبُ، فَلِسَيِّدِه حِينَئِذٍ بَيْعُهُ إنْ شَاءَ. قالَ: ومَعْنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ حِينَ أَبَى مَوَالِي بَرِيرَةَ أَنْ يَبيعُوها مِنْها إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُم الوَلَاءُ، فقالَ لَها: "اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ"، يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ لا يَلْزَمُكِ، لأَنَّهُ قَد كَانَ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الوَلَاءُ لِمَنْ أَعتَقَ". قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فهذا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ شَرط لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ولَا في سُنَّةِ رَسُولهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اشْتَرَطَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أنَّه لا يُنتفَعُ بِشَرطِهِ، كَمَا لَمْ يَنتفِع مَوَالِي بَرِيرَةَ بِشَرطِهِم الذي اشْتَرَطُوُه على عَائِشَةَ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ بَيع الوَلَاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ في مُكَاتَبٍ بَاعَهُ أَهْلُهُ مِنْ رَجُلٍ على أَنْ يُعتِقَهُ، ويَكُونُ الوَلَاءُ للبَاعَةِ، فقالَ: الوَلَاءُ لِمَنْ أَعتَقَ، والشَّرْطُ بَاطِلٌ (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر تفسير الموطأ لابن مزين، رقم (197). (¬2) نقله ابن مزين في تفسيره، رقم (199).

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّما لَمْ يَجُزْ للعَبْدِ أَنْ يَبْتَاعَ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِه على أَنَّهُ يُوَالِي مَنْ شَاءَ، مِنْ أَجْلِ أنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ وَاهِبَاً وَلاَئَهُ لِمَنْ يُرِيدُ، وقَدْ نَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الوَلَاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا قَضَى عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ بالوَلَاءِ بِوَلاَءِ وَلَدِ عَبْدِه الذي أَعتَقَهُ الزبَيْرِ، وكَانَ لِذَلِكَ العَبْدُ وَلدٌ مِنِ امرَأةٍ مُعتَقَةٍ قَدْ كَانَ أَعتَقَها غَيْرُ الزُّبَيْرِ، وكَانُوا أَحرَارَاً بِحُريَّةِ أُمِّهِم، يَرِثُهُم مَوَالِي أُمّهِمِ ما دَامَ أَبُوهُم عَبْدَاً، فَلَمَّا أعتَقَ الزُّبَيْرُ أَبَاهُم لَحَقُوا بأَبِيهِم، يَرِثُهُم ويَرِثُونه، وانتقَلَ وَلاَؤُهُم إلى مَوَالِي أَبِيهِم الذي أَعتَقَهُم. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَرِثْ عَصَبةُ المُلاَعَنَةِ العَرِبيَّةِ وَلَدها لأَنَّهُم خُؤُولَةٌ (¬1)، والخؤولة لا يَرِثُونَ، ووَرِثَ وَلَدُ المُلاَعَنَةِ المَوْلَى مَوَالِي أُمِّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُم مَوَالِيهِ، إذْ لَمْ يَصِحَّ نَسَبُهُ مِنْ أَبيهِ الذي نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ مَوْلَى لِمَوَالِي أُمَهِ. *اقالَ أَبو المُطَرِّفِ: روَى غَيْرُ يَحيىَ عَنْ مَالِكٍ في مَسْأَلةِ جَرِّ الجَدِّ الوَلاَءَ (¬2)، فَقَالَ فِيها: وإنَّ العَبْدَ كَانَ لَهُ ابْنَانِ حُرَّانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وأَبُوهُ عَبْدٌ جَرَّ الجَدُّ أَبو الأَبِ الوَلاَءَ، وكَانَ المِيرَاثُ بَيْنَهُما نِصفَيْنِ (¬3)، وهذِه الرِّوَايةُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايةِ يَحيىَ الذي قالَ فِيها: جَرُّ الجَدِّ الوَلاَءَ بالوَلَاءِ والمِيرَاثِ، وإنَّما صَحَّتْ الرِّوَايةُ الأُولَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وتَرَكَ جَدَّاً وأَخَا كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ الجَدِّ والأخ نِصْفَيْنِ، ويَنْفَرِدُ الجدُّ بِجَرِّ وَلاَءِ مَوَالِي ابنِ ابْنِهِ إلى نَفْسِهِ، وإلى مَوَالِيهِ الذي أَعتَقُوه. ¬

_ (¬1) الخؤلة، مصدر للخال، أي هم إخوة الأم، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 263. (¬2) جر -بفتح الجيم وتشديد الراء- أي سحب الجد الولاء له، ينظر: أوجز المسالك 12/ 5 (¬3) نسب ابن عبد البر في الإستذكار 8/ 412 هذا القول إلى رواية مطرّف وأبي المصعب عن مالك.

تفسير مسألة موالي بني العاص بن هشام حين تنازعوا فيها

تَفْسِيرُ مَسْأَلةِ مَوَالِي بَنِي العَاص بنِ هِشَامٍ حِينَ تَنَازَعُوا فِيها * هُوَ أَنَّ مَوْلَى للعَاصِ بنِ هِشَامٍ هلَكَ وتَرَكَ أَخَاً مَوْلَاهُ لأَبيهِ، وَهُو الرَّجُلُ لِعَلَّةٍ (¬1)، يَغنِي: أَنَّهُ أَخٌ مِنْ رَبِيبَتِهِ، وتَرَكَ ابنَ أَخِ مَوْلَاهُ لأَبيهِ وأُمّهِ، فَصَارَ مِيرَاثُ المَوْلَى الهالِكِ لأَخِي مَوْلَاهُ للأَبِ دُونَ ابنِ أَخِي مَوْلَاهُ لأَبيهِ وأُمِّهِ، وذَلِكَ أَنَّ الأَخ للأَبِ أَوْلَى بالمِيرَاثِ مِن ابنِ الأَخِ للأَبِ والأُمِّ. تَفْسِيرُ مَسْألَةِ ابنِ المَرْأةِ الجُهَنِيَّةِ وإذا مَاتَ مَوْلَى أُمّهِ فاخْتَلَفَ وَرَثَةُ الإبنِ في مِيرَاثهِ مَعَ عَصَبَةِ الأُمّ، فَقَضَى أَبَانُ للجُهنيّينِ بِوَلاَءِ المَوَالِي، وذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابنُ المَرأَةِ الجُهنِيَّةِ الذي كَانَ قَدْ وَرِثَ أُمه وَوَلاَءَ مَوَالِيها، مَاتَ بَعدَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ المَوَالِي وتَرَكَ هذَا المَيِّتَ عَصَبةَ مَوْلَاتهِ الجُهنِيَّةِ، ووَرِثَهُ ابنُ مَوْلَاتهِ الذي مَاتَ قَبْلَهُ، ولَم يَكُنْ في وَرَثَةِ ابْنَةِ مَوْلَاتهِ ذَكَرٌ يَرِثُ المَوْلَى المُتَوفَّى، فَلِذَلِكَ صَارَ مِيرَاثُهُ لِعَصَبةِ مَوْلَاتهِ دُونَ وَرَثةِ ابنِ مَوْلَاتهِ، وذَلِكَ أَنَّ النساءً لا يَرِثْنَ مِنَ الوَلَاءِ إلَّا ما أُعتَقْنَ أَو أُعتَقَ مَنْ أَعتَقْنَ، وبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ للزُّبَيْرِ بِوَلاَءِ مَوَالِي أمهَ، فَلَمَّا انْقَرضَ وَلَدُ الجُهنيةِ الذُكُورِ رَجَعَ وَلَاءُ مَوَالِيها إلى عَصَبَتِها دُونَ بَنَاتِها. قالَ ابنُ القَاسِمِ: للمَرأَةِ وَلَاءٌ مَا أُعتِقَتْ، وعَقْلُهُم على قَوْمِها، وإنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِوَلَدِها الدُّكُورِ ولَبِنَيِهِم الدُّكُورِ، لَيْسَ للبَنَاتِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المَولَى أَخ في الدِّينِ وبعَمَةٌ (¬2)، أَحَق النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ أَقْرَبُهُم مِنَ المُعتِقِ" (¬3). ¬

_ (¬1) لعلَّة -بفتح العين واللام الثقيلة- أي من أُمّ أخرىِ، والجمع علات، وبنو العلات: بنو أمهات شتى، ينظر: الإقتضاب 2/ 333. (¬2) نعمة: الأوّلي نعمة، وهو العتق. (¬3) رواه سعيد بن منصور 1/ 94، والدارمي (3049)، وابن مزين في تفسير الموطأ =

* قالَ مَالِكٌ: (أَحسَنُ مَا سَمِعْتُ في السَّائِئةِ (¬1) أنَّهُ لا يُوَالِي أَحَداً، وأَن مِيرَاثَهُ للمُسْلِمِينَ، وعَقْلَهُ عَلَيْهِم). وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: أَنا أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ، وأَنْهى عَنْهُ، فإنْ وَقَعَ كَانَ وَلاَؤُه لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، ومِيرَاثُهُ لَهُم، وعَقْلُهُ عَلَيْهِم (¬2). وقالَ ابنُ نَافِع: لا سَائِبَةَ اليومَ في الإسْلاَمِ، ومَنْ أعتَقَ سَائِبَة كَانَ وَلاُؤُه لَهُ (¬3). وقالَ أَصبَغُ: لَا بَأْسَ بِعِتْقِ السَّائِبَةِ ابْتِدَاء، والدَّلِيلُ على إجَازَتهِ: العِتْقُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهُو عِتْقُ سَائِبَةٍ، ووَلاَؤُهُ لِجَمَاعةِ المُسْلِمِينَ، هُم يَرِثُوهُ، ويعقِلُونَ عَنْهُ، ومَنْ أَعتَقَ عَبْداً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وجَعَلَ وَلاَؤُه لَهُ ضَمِنَ الزَّكَاةَ، ونَفِذَ عِتْقُ العَبْدِ ولَم يُنْقَضْ. * * * تَمَّ كِتَابُ العِتْقِ بِحَمدِ اللهِ تعاَلى يَتْلُوهُ كِتَابُ المُدَبَّرِ بِحَوْلِ اللهِ وقُوَّتهِ * * * ¬

_ = (212)، والبيهقي في السنن 10/ 304، بإسنادهم إلى الزهري، وهو مرسل. (¬1) السائبة هي أن يقول السيّد لعبده: أنت سائبة، يريد به العتق، ولا خلاف في جوازه ولزومه، وإنما كره مالك العتق بلفظ سائبة لإستعمال الجاهلية لها في الأنعام، ينظر: أوجز المسالك 12/ 26. (¬2) نقله ابن مزين في تفسيره (200). (¬3) نقله ابن مزين في تفسيره (201)، وابن عبد البر في التمهيد 3/ 74، وفي الإستذكار 8/ 422

تفسير كتاب المدبر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسلَّم تَسْلِيما تَفْسِيرُ كِتَابِ المُدَبَّرِ (¬1) قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: لمَّا أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على انْتِقَالِ اسْمِ المُدَبَّرِ فَسَمُّوهُ مُدَبَّرَاً، وَجَبَ أَنْ يَنتقِلَ حُكْمُهُ في أَنْ لا يُبَاعَ في حَيَاةِ مُدَبِّرِه، فإن احْتَجَّ مُحتَجٌّ في أَنَّ المُدَبَّرَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِحَدِيثِ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باعَ مُدَبَّرَاً"، قِيلَ لِمَن احتَجَّ بِذَلِكَ في بَيع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لَهُ دَلِيل على قَوْلنَا أَنَّهُ لَا يَبعهُ سَيِّدُهُ ولا يُحَوِّلُهُ عَنْ وَجْهِ التَّدبِيرِ، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا بَاعَهُ في دَيْنٍ كَانَ علىَ سَيّدِه الذي دَبَّرَهُ، فَلَمَّا بَطُلَ أَنْ يَلِي النبيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْعَهُ لِغَيْرِ مَعنَى، لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ حُكْمُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَأَنْفَذَ مَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ، واحتُمِلَ بَيْعُهُ إيَّاهُ لِدَيْنٍ بعدَ المَوْتِ، أَو لِدَيْنٍ قَبْلَ المَوْتِ كَانَ على المُدَبَّرِ الذي دَبَّرَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِي عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ لِمُدَبَّرَ مَال غَيْرُه فَمَاتَ المُدَبَّرُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَشْتَرِي هذَا المُدَبَّرُ" (¬2)، وقَن قَضَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - به. بطَالِ بَيع المُدَبَّرِ في مَلأِ خَيْرِ القُرُونِ، فَمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَعنَى قَوْلِ السَّيِّدِ: دَبَّزتُ عَبْدِي، أَيْ أَنْفَذْتُ عِتْقَهُ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي بَعدَ مَوتي. ¬

_ (¬1) المدبر: مأخوذ من الدبر، لأن السيد أعتقه بعد مماته، والممات دبر الحياة، وقيل: لأن السيد دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه، وأمر آخرته بإعتاقه، ينظر: عمدة القاري 12/ 49 (¬2) رواه البخاري (2034)، ومسلم (997)، من حديث جابر.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٌ في المُدَبَّرِ يَبْتَاعُ جَارَيةً، ثُمَ يَطَأَها فتَحمِلُ مِنْهُ وتَلِدُ، ثُمَّ يعتَقُ المُدَبَّرُ بَغدَ مَوْتِ سَيِّدِه، فقالَ: تَكُونُ الجَارِيَةُ التي وَلَدَتْ مِنْهُ في حَالِ التدبِيرِ مَالاً مِنْ مَالِهِ، يُسَلَّمُ إليه إذا عُتِقَ. وقَالَ أَيضاً: إنَّها تَكُونُ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ إذا أُعْتِقَ بِسَببِ ذَلِكَ الوَلَدِ الذي وَلَدَتْ مِنْهُ في حَالِ التَّدبِيرِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ في المُكَاتَبِ يَبْتَاعُ جَارِيَةً فتَلِدُ مِنْهُ في حَالِ الكِتَابَةِ ثُمَّ يعتَقُ المُكَاتَبُ، فقالَ: إنَّها تَكُونُ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وقالَ: إنَّها لا تَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ الوَلَدِ أُمَّ وَلَدٍ. قالَ: وحُكْمُ وَلَدِ المُدَبَّرِ ووَلَدِ المُكَاتَبِ إذا وُلِدَ لَهُمَا في حَالِ التَدبِيرِ والكِتَابَةِ مِنْ إمهِما وَلَا أَنَّ حُكْمَ الوَلَدِ كَحُكْمِهِما، يُعتَقُونَ بِعِتْقِهِما، وُيرَقونَ بِرِقَهِما إنْ لَمْ يُعتَقَا. [أبو المُطَزفِ]: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ وابنِ القَاسِمِ في السيّدِ يَقُولُ لِعَبْدِه: (أَنْتَ حر وعَلَيْكَ خَمسُونَ)، فقَالَ مالك: لا يُعتَقُ إلاَ بأَدَاءِ الخَمسِينَ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: هُو حُرّ ولَا شَيءَ عَلَيْهِ مِنَ الخَمسِينَ، جَعَلَ ابنُ القَاسِمِ قَوْلَ السيدِ: (وعَلَيْكَ خَمسُونَ) نَدَماً مِنَ السيِّد، وكانَّهُ أَلْزَمَهُ إياها بعدَ العِتْقِ، وجَعَلَهُ مالك كَلاَماً وَاحِداً مُتَّصِلاً بَعضَهُ بِبعضٍ. قالَ أَبو مُحمَدٍ: الصَّحِيحُ في هذِه المَسْأَلةِ ما قَالَ مالِكٌ، والنَّاسُ عِنْدَ شُرُوطِهِم الجَائِزَةِ بَيْنَهُم، فهَذا رَجُلٌ إنَّما أعتَقَ عَبْدَهُ إذا دَفَعَ إليه الخَمسِينَ التي شَرَطَها عليهِ (¬1). قالَ أَبو عُمَرَ: إذا قَالَ الرَّجُلُ في مَرَضِهِ: (فُلاَن حُرٌّ، وفُلاَن حُرٌّ، وفُلاَنٌ حُرٌّ، ¬

_ (¬1) ينظر كتاب التوسط بين مالك وابن القاسم لأبي عبيد القاسم بن خلف الجبيري ص 161، وقال: وكلا القولين له وجه في النظر، غير أن قول مالك أعلى القولين وأولاهما بالصواب عندي.

لِعَبيدِه إنْ حَدَثَ بِي حَدَثُ المَوْتِ)، أنَّ هذه وَصيةً أَوْصَى بِها، يَتَحَاصُّونَ في الثُلثِ ولَا قُرعَةَ بَيْنَهُم، وكَذَلِكَ لَو دَبَّرَهُم في مَرَضِهِ في كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُبَدَّا وَاحدٌ مِنْهُم قَبْلَ صَاحِبهِ، و [إنَّما لَهُم] (¬1) الثُلُثُ على جَمِيعِهم، فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم حِضَتَهُ مِنَ الثُلُثِ، فإنْ لم يَدَع مَالاً غَيْرَهُم عُتِقَ ثُلُثُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُم. * قالَ مَالِكٌ: وإذا دَبَّرَ الرَّجُلُ رَقِيقَاَ لَهُ جَمِيعَاً في صِحَّتهِ ولَيْسَ لَهُ مَال غَيْرُهُم فَدَبَرَ بَعضُهُم قَبْلَ بَغضٍ ثُمَّ مَاتَ، بُدِّأَ بِعِتْقِ الأَؤَلِ مِنْهُم تَدبِيرَاً، ثُمَّ الذِي يَلِيهِ، ثمَّ الذي يَلِيهِ، حتَّى يَسْتَكْمِلَ الثُّلُثَ. وقالَ غَيُرُه: إذا [اسْتَغْرقَتْ] (¬2) قِيمَةُ الأَوَّلِ جَمِيعَ الثُّلُثِ عُتِقَ فِيهِ، وبَطُلَ تَدبِيرُ مَنْ بعدَ. قالَ أَبو عُمَرَ: إذا دَبَّرَ الزَجُلُ عَبيدَاً لَهُ وَاحِدَاً بَعْدَ وَاحِدٍ في صَحتهِ ثُمَّ مَاتَ وطَرأَ عَلَيْهِ دَيْن فإنَّهُ يُبَاعُ في الدَّيْنِ الآخِرِ فَالآخِرِ إلى مَبْلَغِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يعتَقُ ثُلُثُ البَاقِينَ بَعدَ مَوْتهِ. * قَوْلُ سَعِيدِ بنِ المُسَيبِ: (إذا دَبَّرَ الرَّجُلُ جَارِيتَهُ فَلَهُ أَنْ يَطَأَها) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ سَيدَها قَدْ يَمُوتُ عَنْ غَيْرِ مَالٍ فَلَا يُعتقُ مِنْها إلاَ ثُلثها، وبَقِيَ سَائِرُها رِقَّاً للوَرَثةِ، وقَدْ يَمُوتُ سَيِّدُها عَنْ دَيْنٍ [يَقْتَرِفهُ] (¬3) فتبَاعُ في الدَّيْنِ ولا تُعتَقُ، فَلِهذِه الوُجُوه جَازَ للرَّجُلِ وَطءَ مُدَبَّرَتهِ. قالَ أَبو المُطرَّفِ: ومَعنَى قَوْلِ مَالِكٍ: (لا يَجُوزُ بَيْعُ خدمَةِ المُدَبَّرِ)، إنَّما كَرِهَ ذَلِكَ إذا بِيعَ إلى أَجَلٍ بَعِيدِ لأَنَّهُ غَرَر، إذْ قد يَمُوتُ سَيَّدُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فأَمَا الأَجَلُ القَرِيبُ فَذَلِكَ جَائِز، كَمَا قَدْ تُبَاعُ خدمَةُ العَبْدِ المُعَمَّرِ الأَجَلِ القَرِيبِ، بِخِلاَفِ العَبْدِ المُطْلَقِ الذي تَجُوزُ بإجَارَتهِ السنِينَ العَشَرةِ ونَحوِها، والفَرْقُ بَيْنَهُمَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ (3011)، وجاء في الأصل: (بعض)، وما وضعته هو الصحيح. (¬2) جاء في الأصل: (اعترقت)، وليس له معنى، وما وضعته هو المتوافق مع السياق. (¬3) في الأصل: يقترفها، وما وضعته هو المتوافق مع سياق الكلام.

أَنَّ إجَارَةَ العَبْدِ المُطْلَقِ إنَّمَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ العَبْدِ، والعَبْدُ المُعَمَّرُ تَنْفَسِخُ الإجَارَةُ فِيهِ بِمَوْتِ العَبْدِ، أَو بِمَوْتِ الذي أَعمَرَهُ بالغَرَرِ في مَسْأَلتِهِ أَكْثَر، فَلَمَّا كَثُرَ غَرَرُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ خِدمتِهِ إلى أَجَلٍ بَعِيد، وكَذَلِكَ تَنْفَسِخُ إجَارَةُ خِدمَةِ المُدَبَّرِ بِمَوْتهِ، أَو بِمَوْتِ سَيِّدِه إذا عُتِقَ. قَوْلُ مَالِكٌ: (في العَبْدِ يَكُونُ بينَ الرَّجُلَيْن، فَيُدَبر أَحَدُهُما حِصَّتَهُ أنَّهُمَا يَتَقَؤَمَانِهِ، فإذا أخَذَ الذي دَبَّرَ كَانَ مُدَبَّراً كُلُّهُ). وقَالَ فِيهِ رَبِيعَةُ: إذا أَخَذَهُ الذي دَبَّرَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيءٌ مُدَبَّراً، وانتقَضَ مَا فَعَلَهُ الشَرِيكُ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: الذي قَالَهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ أَقْيَسُ وأَصَحُّ، كَمَا أَنَّهُ إذا أَعتَقَ نِضفَ عَبْدٍ لَهُ فِيهِ شَرِيك أَئهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِه ويُعتَقُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذا أَخَذَ حِصَّةَ شَرِيكِه في العَبْدِ المُدَبَّرِ بالقِيمَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تدبِيرُهُ. وقد اخْتُلِفَ أَيْضَا قَوْلُ مَالِكٍ في هذه المَسْأَلةِ، فَرَوى عنهُ ابنُ عبدِ الحَكَمِ نَحوَ قَوْلِ رَبِيعَةَ فِيها. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ في العَبْدِ المُدَبَّرِ إذا جَرَحَ، ثُمَّ هلَكَ سَيِّدُهُ ولَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، وعلى سَيِّدِه دَيْنٌ، أَنَّهُ يُبَدَّأُ بِعَقْلِ الجَرْحٍ فَيُقْضَى مِنْ ثَمَنِ العَبْدِ، ثُمَّ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُ سَيِّدِه، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى مَا تقِيَ مِنَ العَبْدِ فيُغتَقُ ثُلُثُ مَا بقِيَ مِنْهُ، وُيرَقُّ سَائِرُه للوَرَثةِ. إنَّما قَالَ: (يُبَدَّأُ بِعَقْلِ الجَزحِ فَيُقْضَى مِنْ ثَمَنِ العَبْدِ) مِنْ أَجْلِ أَنَّ العَبْدَ مرتهنٌ بالجِنَايَةِ، كَمَا يَكُونُ مُرتَهنَاً بِها في حَيَاةِ سَيِّدِه، إلَّا أَنْ يَفْتَكَّهُ سَيِّدُه بأرشِ الجِنَايَةِ. ثُمَّ قَالَ: (يُقْضَى الدَّيْنُ بعدَ ذَلِكَ) مِنْ أَجْلِ أَن الدَّيْنَ يُبَدَّأُ قَبْلَ الوَصِيَّةِ والتَّدبَرُ وَصِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ بُدأَ الدَّيْنُ قَبْلَهَا، ثُمَّ يُعتَقُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ على أَنَّهُ مِنْ مَالهِ، وتَرَكَ مُدَبَّرَاً لا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُعتَقُ ثُلُثُه، ويُرَقُّ سَائِرُهُ للوَرَثةِ. * قَوْلُ مَالِكٍ: (في المُدَبَّرِ إذا جَرَحَ رَجُلاً فَأَسْلَمَهُ سَيّدُهُ إلى المَجْرُوحِ، ثُمَّ

هلَكَ سَيّدُهُ وعَلَيْهِ دَيْنٌ، ولَم يَتْرُكْ مَالاً غَيْرَهُ، فقالَ وَرَثَتُهُ: نَحْنُ [نُسَلّمُهُ] (¬1) إلى صَاحِبِ الجَرْحِ، وقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: أَنَا أَزِيدُ على ذَلِكَ) قالَ مَالِكٌ: (إذا زَادَ الغَرِيمُ شَيْئاً فَهُوَ أَوْلَى بهِ)، وتَفْسِيرُ هذِه المَسْأَلةِ: مُدَبَّرٌ قِيمَتُهُ مَائةِ دِينَارٍ جَنَى جِنَايَةً قِيمَتُها خَمْسُونَ دِينَارَاً، أو على سَيِّدِه خَمْسُونَ دِينَارَاً، فَصَارَ البَبْدُ مُسْتَهْلَكَاً بِقِيمَةِ الجِنَايةِ والدَّيْنِ، فَصَارَ مِلْكَا لِصَاحِبِ الجِنَايةِ والدَّينِ، ولَم يَفْضُلْ مِنْهُ فَضْلَةٌ تُقَوَّمُ للعَبْدِ مِنْها، حُجَّةٌ في عِتْقِ شَيءٍ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ في ذَلِكَ فإذا الجِنَايَةُ مُبَدَّأَةٌ على الدَّيْنِ، وذَلِكَ أَنَّ العَبْدَ مُرتَهنٌ بِها، فَأُعطِيَ في الجِنَايَةِ، ويُغْرَمُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ قِيمَتُهُ، إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: عِنْدِي في العَبْدِ سِتُّونَ دِينَارَاً، فَيَكُونُ أَوْلَى بهِ، لأَنَّهُ يُغْرَمُ مِنْها للمَجْنِي عَلَيْهِ الخَمْسِينَ، ويَبْقَى العَبْدُ بَيَد الغَرِيمِ، ويَسْقُطُ مِنْ ذِمَّةِ المُتَوفَّى عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، تَفْضُلُ بَعدَ الدَّيْنِ والجِنَايَةِ يُقَوَّمُ بِها للعَبْدِ، حُجَّةٌ في عِتْقِ جُزْءٍ مِنْهُ مِمَّا خَرَجَ لَهُ في المُحَاصَّاةِ. * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمْدِ اللهِ تعَالَى يَتْلُوهُ كِتَابُ المُكَاتَبِ، بِحَوْلِ اللهِ * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: نسلموه، وما وضعته هو المتوافق مع الموطأ.

تفسير كتاب المكاتب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى الله على مُحَمَّدٍ، وعلى آله وسلَّم تَسْلِيما تَفْسِيرُ كِتَابِ المُكَاتَبِ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، قالَ عَبيدَةُ السلْمَاني: يعنِي إنْ عَلمتُم فِيهِم أَمَانة، لِئَلَّا يَأخُذُوا أَموَالَ النَّاسِ فَيَسْتَعِينُونَ بِهاَ في كِتَابتهِم، ويَنفَعُونَها إلى سَادَاتِهِم (¬1). قالَ مالك: ولَيْسَ فرض على الرَّجُلِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إذا مَا سَأَلهُ ذَلِكَ، وإنَّمَا هُوَ أمرٌ أَذِنَ اللْهُ فِيهِ للنَّاسِ. وقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، هذا نَدبٌ ولَيْسَ بِفرضٍ. قالَ أَبو المُطَرفِ: قالَ إبْرَاهِيمُ النَخَعِي: هذا شَيءٌ حُثَّ عَلَيْهِ المَوْلَى وغَيْرُه (¬2). وجَعَلَ الشَّافِعيُّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَرْضَا على سَادَاتِ المُكَاتَبِين، وذَلِكَ أَنْ يَضَعُوا لَهُم مِنَ الكِتَابةِ بعضَها (¬3). وأَنْكَوَ إسْمَاعِيلُ القَاضِى هذا مِنْ قَؤلِ الشَّافِعيِّ، وقالَ: كلَّ مَا يَأْتِي في القُرْآنِ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 8/ 370. (¬2) نقله الجصاص في أحكام القرآن 5/ 181. (¬3) ينظر: الأم 8/ 31.

فَرْضٌ معْطُوفٌ على نَدب، أَلا تَرَى إلى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فَالحَجُّ فَرْض، والعُمْرَةُ سُنَّة، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، فالعدلُ فَرْضٌ، والإحسَانُ نَدْبٌ. قالَ إسْمَاعِيلُ القَاضِي: وهذا واللهُ أَعلَمُ مِثْلُ قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، فَهذا طَرِيقُهُ طَرِيقُ النَّدبِ، فَكَذِلَكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، إنَّما هُوَ نَدْبٌ إلى فِعلِ الخَيْرِ. وقالَ إسْمَاعِيلُ: ولا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ شَيء مَعلُومٍ وَهُوَ الكِتَابِةُ، بِشَيء مَجْهُولا لا يُعرَفُ مِقْدَارُهُ، والفُرُوضُ مَحدُودةٌ، وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أَنَّهُ ندبٌ لا فَرضٌ، كَمَا قالَهُ مَالِكٌ وإبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُ وجَمَاعَةٌ سِوَاهُمَا. * قالَ أبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ شَيءٌ)، وبهذا قالَ ابنُ عُمَرَ، وقَالَتْهُ عَائِشَةُ زَوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَهُ عَدَدٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ. ورَوَى أَهْلُ الكُوفَةِ مِنْ طَرِيقِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (إذا أَدَّى المُكَاتَبُ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ مِنَ الكِتَابَةِ فَهُوَ غَرِيم مِنَ الغُرَمَاءِ) (¬1)، يَغنِي: أَنَّهُ إذا عَجَز بَغدَ أَنْ أَدَّى مِنَ الكِتَابَةِ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ لَمْ يَرُدُّهُ إلى السيِّدِ في الرِّقِ، وكَانَ غِريمَاً مِنْ غرَمَاءِ سَيِّدِه، يتبِعه السيِّدُ بِما فِيها في ذِمَّتِهِ إلى أَن يُؤَدِّيها إليه. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: والعَمَلُ في هَذه المَسْألةِ عِندِ أَهلِ المَدِينَةِ على قَوْلِ عَائِشَةَ وابنِ عمَرَ، فَمَتَى مَا عَجَزَ المكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ بَاقِي كِتَابَتِهِ، وإن كانَ ذَلِكَ يَسِيرَاً كَانَ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 8/ 411، وابن حزم في المحلى 9/ 230، وقال ابن عبد البر في الإستذكار 8/ 435: هذا قول ترده السنة الثابتة في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قفمت من كتابتها شيئا، وينظر قول أبي حنيفة وأصحابه في بدائع الصنائع 4/ 153.

سَيِّدُهُ بالخَيَارِ في تَعجِيزِه إيَّاهُ ونَقْضِ كِتَابتهِ، ويَبْقَى بِيَدِه عَبْداً كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُكَاتِبَهُ. * قَوْلُ مَالك: (إذا هلَكَ المُكَاتَبُ وتَرَكَ مَالاً أَكثَرَ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ، ولَهُ وَلدٌ وُلِدُوا في كتَابَتِهِ، أَو كاتَبَ عَلْيَهِم، وُرِثُوا مَا بقِيَ مِنَ المَالِ بَعدَ أَدَاءِ مَا بقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كتَابَتهِ). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَرثْهُ وَلَدُهُ الأَحرَارُ، لأَنَّهُ مَاتَ عَبْداً، والحُرُّ لا يَرِثُ العَبْدَ، ولَم يَكُن مَا بَقِيَ مِنْ مَالهِ بعدَ قَضَاءِ كِتَابَتِهِ لِسَيِّدِه مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَد اسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ مَا قَدْ عَاقَدَهُ عَلَيْهِ فَصَارَ بَاقِي مَالهِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بهِ على كِتَابتهِ، وَهُم الوَلَدُ الذينَ وُلِدُوا لَهُ في كِتَابتهِ، أَو كَاتَبَ عَلَيْهِم. قالَ غَيْرُهُ: وكَذَلِكَ حُكْمُ وَلَدِ الوَلَدِ، والإخْوَةِ، والأَبَوَيْنِ، والجُدُودِ، في مِثْلِ هذه المَسْاَلةِ يأخُذُ السَيِّدُ بَاقِي كِتَابتهِ مِنْ مَالِ المُكَاتَبِ، ثُمَّ يَرِثُ البَاقِي مِنْ مَالِ المُكَاتَبِ هؤُلاَءِ المَذْكُورِينَ إذا كَانُوا مَعَهُ في كِتَابة وَاحِدَةٍ. * قالَ عِيسَى: إنَّما قُسِمَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ كِتَابَةِ ابنِ المُتَوكِّلِ بعدَ قَضَاءِ كِتَابتهِ بَيْنِ ابْنَتِهِ ومَوْلاَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّها كَانَتْ وُلِدَتْ لَهُ في حَالِ الكِتَابَةِ، وبهذا قَضَى عبدُ المَلِكِ بنُ مَروَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ، فَلَم يُنْكِرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أُجِيزَتْ كِتَابَةُ المُكَاتَبِ لِعَبْدِه إذا لَمْ يَظْهر مِنْهُ في ذَلِكَ مُحَابَاة لِعَبْدِه، وذَلِكَ أَنْ يُكَاتِبَهُ باَقَلَّ مِنْ كِتَابَتِهِ مَالَه، فإنْ فَعَلَ ذَلِكَ رُدَّتْ كِتَابَتُهُ لَهُ، وفُسِخَ ذَلِكَ، لأَنَّ في ذَلِكَ تَلَفاً لِمَالهِ، وفِيهِ ضَرَرٌ على سَيِّدِه، إذ قَدْ يَغجَزُ هُوَ عَنْ كِتَابتهِ، فَيُبَاعُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ هذا العَبْدُ الذي كَاتَبَهُ هُوَ، وأَمَّا إذا كَاتَبَهُ بِمِثْلِ كِتَابتهِ بَعْدَ ذَلِكَ ولَم تَزِدْ كِتَابَتُهُ [فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ] (¬1) قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ في مُكَاتَب بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَنْظَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَقِّه وأَبَى الآخَرُ أَنْ يُنْظِرَهُ ثم مَاتَ المُكَاتَبُ، وذَكَرَ المَسْأَلَةَ إلى آخِرها. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدركته بما جاء في الموطأ (2927).

تفسير كيف يتحاصان في تركة المكاتب

تَفْسِيرُ كَيْفَ يَتَحَاصَّانِ في تَرِكَةِ المُكَاتَبِ هُوَ أَنْ يَعلَمَ قَدرَ مَا بَقِيَ الذي لَمْ يُنْظرهُ، فَيَعلَمُ قَدرَ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الكِتَابَةِ، ثُمَّ يُقْسِمُ ذَلِكَ المَالَ الذي تَرَكَهُ المُكَاتَبُ بَيْنَهُمَا على قَدرِ مَا بَقِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الكِتَابَةِ مِمَّا قَلَّ أو كَثُرَ. قالَ عِيسَى: إذا انْعَقَدتِ الكِتَابَةُ بَيْنَ السَيِّدِ وعَبْدِه بِحَمَالَةٍ سَقَطَتْ عَنْهُ الحَمَالَةُ، ومَضَتِ الكِتَابَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ حَمِيلٍ. وقالَ غَيْرُهُ: لَوْ تَعَجَّلَ المُكَاتَبُ العِتْقَ بالحَمَالَةِ التي تَحَمَّلَها عنهُ الحَمِيلُ لَجَازَ ذَلِكَ، وعُتِقَ العَبْدُ، وأُتْبِعَ السَيِّدُ الحَمِيلَ بالكِتَابَةِ إنْ عَجَزَ العَبْدُ عَنْ أَدَائها. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا كَاتَبَ السَيِّدُ ثَلاَثَةَ أَعبُدٍ كِتَابَة وَاحِدَةً ولَا رَحِمَ بَيْنَهُم، فَبْغضُهُم حَمِيلاً عَنْ بَعْضٍ، فإنْ مَاتَ أَحَدُهُم عَنْ مَالٍ أَدَّى عَنْهُم جَمِيعَ مَا عَلَيْهِم مِنْ مَالِ المَيِّتِ وعُتِقُوا، وأَتْبَعَهُم السَيِّدُ بِحُصَصِهِم مِنَ الكِتَابَةِ التِّي أُدِّيتْ عَنْهُم مِنْ مَالِ المَيِّتِ، يَقْضِي ذَلِكَ عَلَيْهِم على قَدرِ طَاقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم على السَّعِي في الكِتَابَةِ، ولا يُنْظَرُ في ذَلِكَ إلى أَثْمَانِهِم، لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الذي ثَمَنُهُ عُشْرُونَ دِينَارَاً أَقْوَى على السَّعِي في الكِتَابَةِ مِنَ الذي ثَمَنُهُ مَائةُ دِينَارٍ، فَلِهذَا يَقْضِي على كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم مَا أَدَّى عَنْهُم على قَدرِ قُوَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم على السَّعِي في الكِتَابَةِ. قالَ: وإذا كَانُوا قَرَابَةً يَتَوَارَثُونَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُم عَنْ مَالٍ فَعُتِقُوا بِمَالِهِ لَمْ يتبعهم السَّيِّدُ حِينَئِذٍ بِمَا أَدَّى عَنْهُم مِنْ مَالِ المَيِّتِ، وكَانَ فَضْلُ المَالِ الذي هلَكَ عَنْهُ المَيِّتُ بَغدَ أَدَاءِ كِتَابَتِهِم للسَّيِّدِ، وإنَّمَا لَمْ يُتْبعهُمْ السَّيِّدِ في هذِه المَسْأَلَةِ بِمَا أَدَّى عَنْهُم مِنْ مَالِ المَيِّتِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المَيِّتَ لَو أَعتَقُهُم مِنْ مَالِهِ في حَيَاتِهِ لَمْ يُتْبِعهم بِذَلِكَ، لأَنَّهُم قَرَابَة يَتَوَارَثُونَ، بِخِلاَفِ الذينِ لا يَتَوَارَثُونَ.

باب القطاعة في الكتابة وجراح المكاتب

بابُ القِطَاعَةِ في الكِتَابةِ (¬1) وجِرَاحِ المُكَاتَبِ كَرِة بعضُ النَّاسِ مُقَاطَعَةَ السَّيِّدِ مُكَاتِبَهُ عَلَيْهِ، ويُسْقِطُ عَنْهُ بَعضَهُ، مِثْلَ أَنْ يُكَاتِبَهُ بألف إلى عَشَرَةٍ أَعوَام، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بعدَ مُدَّةٍ: عَجِّلْ مَائِةً وأَنْتَ حُرٌّ، فقالَ مَنْ أَنْكرَ هذَا: إنْ هذَا لا يَجُوزُ، لأَتهُ مِنْ قَبيلِ (ضع وَتَعَجَّلْ) (¬2)، وهذا حَرَامٌ، ولَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ، وإنَّمَا هُوَ إحسَانٌ مِنْ قِبَلِ السَّيِّدِ، كَمَا أَنَّ أَصلَ الكِتَابَةِ إحسَانٌ مِنْ قِبَلِ السَّيِّدِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا قَاطَعَ أَحَدُ الشِّرِيكَيْنِ المُكَاتَبَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِه، ثُمَّ عَجَزَ المُكَاتَبُ كَانَتْ رَقَبَتُهُ للذِي تَمَسَّكَ بالرِّقِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَأخُذَ قَاطِعُ نِصفِ مَا يَعضُلُهُ بهِ، ويرجِعُ العَبْدُ بَيْنَهُمَا على حَسَبِ اشْتِرَاكِهِما فيهِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ. قالَ: وإنْ مَاتَ العَبْدُ كَانَ مِيرَاثُهُ للذِي لَمْ يُقَاطِعهُ، لأَنَّهُ حِينَ قَاطَعَهُ الذِي قَاطَعَهُ قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وأَبْقَاهُ عَبْدا لِشَرِيكِه، وإنْ كَانَ الذِي قَاطَعَهُ قَدْ أَخَذَ ¬

_ (¬1) القطاعة -بفتح القاف وقيل بالكسر- اسم مصدر قاطع، والمصدر المقاطعة، سميت بذلك لأن العبد قطع طلب سيده عنه بما أعطاه، كأن يقول الرجل لعبده: إن جئتني بعشرة دنانير إلى أجل كذا وكذا فأنت حر يقاطعه على ذلك، فإن جاء بها فهو حر، أو لأن السيد قطع له بتمام حريته بذلك، أو قطع له بعض كما كان له عنده، ينظر: أوجز المسالك 12/ 90. (¬2) هذه مسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة (ضع وتعجل) وصورتها: أن يكون لرجل على آخر دين إلى أجل مثل أن يكون عليه مائة درهم إلى شهر فيقول له رب الدين: عجّل في خمسين، وأنا أضع عنك خمسين، وهو حرام، لأنه باب من أبواب الربا، ينظر: الثمر الداني شرح رسالة القيرواني للأزهري ص 507.

أَكْثَرَ مِما تَرَكَ العَبْدُ فإنَّهُ يرجِعُ عَلَيْهِ الذي لَمْ يُقَاطِعهُ، فَيَأْخُذُ منهُ نِصْفَ مَا يَفضُلُه بهِ، وهذا إذا كانَ العَبْدُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإنْ قَاطَعَهُ أَحَدُهُمَا بإذنِ شَرِيكِه ثُمَ مَاتَ العَبْدُ أَو عَجَزً، وكَانَ الذي لَمْ يُقَاطِعهُ قَد استَوْفَى مِثْلَ مَا أَخَذَ الذي قَاطَعَهُ أَو أَكثَرَ كَانَ العَبْدُ بَيْنَهُمَا نصفَيْنِ، وإنْ كَانَ الذي اسْتَوْفَى أَقَلَّ خُيرَ الذي قَاطَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَدفَعَ إليه نِضفَ مَا يَفْضُلُه بهِ، ويَرْجِعُ في حِصَّتِهِ مِنَ العَبْدِ، أو يَكونَ العَبْدُ كُلُّه للذِي لَمْ يُقَاطِعهُ، قال: وإنَّمَا هذَا إذا عَجَزَ العَبْدُ، وأما إذا مَاتَ العَبْدُ فإنَّهُ يَسْتَوفِي الذي لَمْ يُقَاطِعهُ مِنْ تَرِكَةِ العَبْدِ جَمِيعَ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الكِتابَةِ، وكانَ مَا بَقِيَ مِن مَالِ المُكَاتَبِ المَيِّتِ بَيْنَهُمَا نِصفَيْنِ (¬1). قالَ ابنُ نَافع: إذا قَاطَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ المُكَاتَبَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِه، ثُمَ [يَعجَز] (¬2) المُكَاتَبٌ أَو يَمُوتُ فإنَي أَرَى أَنْ يَفسِخَ ذَلِكَ، وَيرجِعَ الذي لَمْ يُقَاطِعهُ على نَصِيبهِ مِنَ الرَّقَبةِ إنْ عَجَزَ العَبْدُ، أَو على نصِيبهِ مِنَ المِيرَاثِ إنْ مَاتَ العَبْدُ على ما أَحَبَّ صَاحِبُهُ أَو كَرِة، أَو على مَا أَحبَّ هذا أَو كَرِهَ، ولَيْسَت حَالُهُ كَحَالِ مَن قَاطَعَ مُكَاتَبَاً بإذنِ شَرِيكِهِ (¬3). قالَ عِيسَى: في مُكَاتَبَيْنِ كُوتِبا جَمِيعَاً فَجَرَحَ أَحَدُهُمَا رَجُلاً جَرْحَاً فِيهِ عَقْلٌ يعجَزُ الجَارِحُ عَنْ أَدَاءِ عَقلِ ذَلِكَ الجَرحِ، فأدَّى صَاحِبُهُ عَقْلَ ذلك الجَرح، ثمّ عُتِقَا جَمِيعَاً بأَدَائِهِما جَمِيعَ الكِتَابَةِ، فإنهُ يُتْبِعُ المُودِى الجَارِحَ بِمَا وَدَى مِن دِيَةِ الجَرحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الجَارِحُ مِنْ قَرَابَةِ المُودِي، ويكونُ مِمَّن يَعتِقُ عَلَيْهِ إذا مَلَكَهُ، فإنهُ لا يُتْبِعهُ شَيءٌ بِمَا وَدَى عَنْهُ منْ ذَلِكَ. قالَ عيسَى: وإنْ جَرَحَ أَحَدُ المُكَاتِبين صَاحِبَهُ خَطَأً ولَا رَحِمَ بَيْنهُمَا، فإنَّهُ يُقَالُ للجَارِحِ: أَعقِلْ مَا جَنَيْتَ، وتَكونَانِ على كِتَابتكُمَا، ويُحْسَبُ ذَلِكَ لَكُمَا مِنْ آخِرِ ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم من أوله: الإِمام ابن مزين في تفسيره، رقم (138 - 140). (¬2) جاء في الأصل: عجز، وهو مخالف للسياق، ولما جاء في تفسير ابن مزين. (¬3) نفل قول ابن نافع: ابن مزين في تفسيره رقم (142 - 143).

الكِتَابَةِ، فإنْ أَدَّاهُ كَانَا على كِتَابتهِما، وحُسِبَ لَهُمَا عَقْلُ ذَلِكَ الجَرحِ، وذَلِكَ مِنَ الكِتَابَةِ، فإذا أُعتِقَا بأَدَاءِ الكِتَابَةِ أُتْبِعَ المَجْرُوحُ الجَارِحَ بِنصفِ عَقْلِ ذَلِكَ الجَرحِ، وذَلِكَ لِمَا قَضَى بهِ عَنِ الجَارِحِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابتهِ، وهذا إذا كَانَا في الكِتَابةِ سَوَاءٌ، فينْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ في أَدَاءِ الكِتَابَةِ فإنَّهُ يَتْبَعُ المَجْرُوحُ الجَارِحَ بِقَدرِ مَا قَضَى عَنْهُ على حِسَابِ ما كَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الكِتَابَةِ. قالَ: وإنْ عَجَزَ الجَارِحُ عَنْ أَدَاءِ عَقْلِ الجَرْحِ فَخَافَ المَجْرُوحُ أَنْ يعجَزَ بِعَجْزِ الجَارِحِ، فَأَدَّى عَقْلَ ذَلِكَ الجَرْحِ، ثُمَّ عُتِقَا جَمِيعَا، فَأَدَّى بِهِما الكِتَابَةَ أَتْبَعَ المَجْرُوحُ الجَارِحَ بِجَمِيعِ عَقْلِ الجَرحِ، فَإنْ كَانَ الجَارِحُ مِمَّنْ يعتِقُ على المَجْرُوحِ إذا مَلَكَهُ لَمْ يُتْبعهُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ (¬1). قالَ عِيسَى: وإذا كَانَ الزَّوْجَانِ في كِتَابَةٍ وَاحِدَةٍ فأُعْتِقَا بِسِعَايةِ أَحَدِهِما في الكِتَابَةِ لم يتبع صَاحِبَهُ بِشَيءٍ مِمَّا وَدَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، وأَيُّهُما مَاتَ عَنْ مَال فِيهِ وَفَاءٌ بالكِتَابَةِ وفَضْلٌ أَخَذَ السَيِّدُ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الكِتَابَةِ مِنْ مَالِ المَيِّتِ، ووَرِثَ فَضْلَةَ المَالِ بالرِّقِ بَغدَ مِيرَاثهِ الزَّوْجَ أو الزَّوْجَةَ، ولَم يَرجِع على الذي أَعتَقَ مِنْهُما بِشَيءٍ مِمَّا عَتَقَ بهِ مِنْ مَالِ المَيّتِ مِنْهُما، كَمَا أنَّ المَيِّتَ لَو كَانَ حَيَّا لم يَرجِع على صَاحِبهِ بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَ للسَّيِّدِ أَنْ يَبِيَعَ ما كَاتَبَ بهِ عَبْدَهُ مِنَ العُرُوضِ المَوْصُوفَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنْ بَيع العرضِ المَوْصُوفِ جَائِزٌ بالدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمَ، وبالغَرضِ المُخَالِفِ للعَرضِ المَبِيعِ إذا قَبَضَ ذَلِكَ البَائِعُ ولم يَتَأَخر قَبْضُهُ، لأَنَّهُ إنْ أَخَّرَ القَبْضَ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بالدَيْنِ. قالَ: فإنْ أَدَّى ذلكَ المُكَاتَبُ خَرَجَ حُرَّاً، وبَقِيَ وَلاَؤُهُ للذِي عَقَدَ لَهُ الكِتَابَةَ، وذَلِكَ أَنَّ المُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ جَمِيعَ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ، وإنْ عَجَزَ المُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الكِتَابَةِ كَانَ عَبْداً للذي اشْتَرَى كِتَابَتَهُ، وذَلِكَ أَنَّ المُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابتهِ شَيءٌ، فَلَمَّا عَجَزَ صَارَ عَبْدَاً للذي اشْتَرَى كِتَابتهُ. ¬

_ (¬1) نقله بنحوه ابن مزين في تفسيره، رقم (146).

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يَجُوزُ للسَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بالعُرُوضِ المَوْصُوفَةِ، والدَّوَابِ المَنْعُوتَةِ، وُينْجِمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ أَنْجُمَا مُعتَدِلَةً مَعلُومَة على حَسَبِ مَا يَتَرَاضِيَانِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، وإذا وَقَعَتِ الكِتَابَةُ بعُرُوضٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وفُسِخَتِ الكِتَابَةُ، وإذا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِه: أُكَاتِبُكَ على عَرضِ كَذَا، وعلى رَأْسٍ مِنْ جِنْسِ كَذَا، ولَم يَذْكُز لِذَلِكَ صفَةً فإنْ لِسَيِّدِه الوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ العَرضِ، ومِنْ ذَلِكَ الرَّقِيقِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا كَاتَبَ العَبْدُ على نَفْسِهِ وعَلَى أُمِّ وَلَدِه فَذَلِكَ انْتِزَاعٌ مِنَ السَّيِّدِ لَها مِنَ العَبْدِ، فَلِذَلِكَ لَا يَطَأها المُكَاتَبُ، فإنْ مَاتَ المُكَاتَبُ كَانَ لَها أَنْ تَسْعَى في الكِتَابَةِ، وإنْ [أَدَّتْ] (¬1) الكِتَابَةَ لَمْ يَكُنْ المُكَاتَبُ عَلَيْها سَبِيلٌ، إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَها بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ إنْ رَضِيَتْ به، ويكُونُ وَلاَؤُها لِسَيِّدِ المُكَاتَبِ. فالَ عِيسَى: إذا مَاتَ المُكَاتَبُ وتَرَكَ أَوْلاَداً صِغَاراً وأُمَّ وَلَدٍ، ولَم يَتْرُكْ مَالاً يُؤَدِّي مِنْهُ نُجُومَهُم إلى أَنْ يَبْلُغُوا السَّعْيَ فَيَسْعُوا في كِتَابَتِهِم، فإنَّ أُمَّ وَلَدِ أَبِيهِم تُبَاعُ فَيُؤَدَّى عَنْهُم مِنْ ثَمَنِهِا نُجُومَهُم إلى أَنْ يَبْلُغُوا السَّعْيَ، فإنْ أَدُّوا أُعتِقُوا، وإن عَجَزُوا عَنِ الأَدَاءِ رُقُّوا. وقالَ ابنُ نَافِعٍ: لا تُبَاعُ لَهُم إلَّا أَنْ يَكُونَ في ثَمَنِها مَا أَنْ بِيعَتْ بهِ عُتِقُوا فِيهِ، وإلَّا فَلَا تُبَاعُ. قالَ عِيسَى: وإذا مَاتَ المُكَاتَبُ وتَرَكَ أُمَّ وَلَدِه، ولَم يَتْرُكْ مَالاً وقَد كُوتِبَ مَعَهُ غَيْرُ وَلَدِه فأَدُّوا بعدَ مَوْتهِ كِتَابتهُم، فإنَّ أُمَّ وَلَدِه مَال مِنْ مَالِ المَيِّتِ يَأْخُذَها سَيِّدُهُ، وقَد كَانَ الذينَ كُوتِبُوا مَعَ سَيِّدِها المَيِّتِ إذا خَافُوا العَجْزَ على أَنْفُسِهِم أنْ تُبَاعَ لَهُم، وَيسْتَعِينُونَ بِثَمَنِها في كِتَابَتِهِم، فإنْ عُتِقُوا أَتْبَعَهُم السَّيِّدُ بِثَمَنِها على قَدرِ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم، كان اسْتَغْنُوا عَنْها وأَدُّوا عَنْ أَنْفُسِهِم لَمْ تُغتَقْ مَعَهُم ورَقَّتْ للسَّيِّدِ، ولَا تُعتَقُ أُمُّ وَلَدِ المُكَاتَبِ إلَّا مَعَ سَيِّدِها، أَو مَعَ وَلَدِه، كَانَ وَلَدُهُ مِنْها أَو مِنْ غَيْرِها. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ودت) وهو كلام عامي غير فصيح.

في عتق المكاتب إذا عجل ما عليه، وميراث المكاتب إذا مات، والوصية له بما عليه

في عِتْقِ المُكَاتَبِ إذا عجَّل مَا عَلَيْهِ، وِميرَاثِ المُكَاتَبِ إذا مَاتَ، والوَصِيَّةِ لَهُ بِما عَلَيْهِ * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قالَ أُبو مُحَمَّدٍ: إنَّما لَزِمَ السَّيِّدُ أَنْ يَقْبضَ مَا عَجَّلَهُ لَهُ مُكَاتِبُهُ مِنَ الكِتَابَةِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَجَلُها مِنْ أَجْلِ أنَّ مِرفَقَ التأَجُلَ في الكِتَابةِ هُوَ المُكَاتَبِ لا السيِّدُ، فإذا عَجَّلَ ذَلِكَ المُكَاتَبُ لَزِمَ السيدُ القَبْضَ، وبِهذا قَضَى عُمَرُ وعُثْمَانُ، وقَضَى به مَروَانُ بنُ الحَكَمِ على الفَرَافِصَةَ بنِ عُمَيْرٍ ويُعتَقُ حِينَئِذٍ العَبْدُ، ويَسْقُطُ عَنْهُ السَّفَرُ والخِدمَةُ التي يَشْتَرِطُهُا عليهِ السَّيِّدُ. قالَ أُبو مُحَمَّدٍ: إنَّما يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ عَنِ المُكَاتِبِ إذا كَانَ المُشْتَرطُ تَافِها يَسِيرَاً في جُمْلَةِ الكِتَابَةِ، وأَمَّا إذا كَانَتِ الخِدمَةُ أَكْثَرَ الكِتَابَةِ لَمْ يُعتَقِ المُكَاتَبُ، وإنَّ عَجَّلَ ما عليهِ مِنَ الكِتَابَةِ، إلَّا بِتَمَامِ الخِدْمَةِ التي بِها انْعَقَدتِ الكِتَابَةُ بَيْنَ السيَّدِ والعَبْدِ. قالَ عِيسَى: وإذا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ كِتَابتهِ ضَحَايا، أَدَّى قِيمَتَها نَقْدَاً، لأنَّها كَبَعضِ النُّجُومِ التِّي عَلَيْهِ، فَلَا يَتُمُّ عِتْقُهُ وإنْ عَجَّلَ مَا عَلَيْهِ، إلاَ بأَدَاءِ قِيمَةِ الضَّحَايا التي كَانَتْ عَلَيْهِ (¬1). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا اجْتَمَعَ الإخْوَةُ في الكِتَابَةِ، فَوُلدَ لأَحَدِهِم وَلدٌ، ثُمَّ مَاتَ الذي وُلدُ لَهُ الوَلَدُ عَنْ مَالٍ، أُدِّي عَنْ هؤُلاَءِ الإخْوَةِ بَاقِي الكِتَابَةِ مِنْ مَالِ المَيِّتِ، فَإنْ فَضَل بعدَ ذَلِكَ مِنْ مَالهِ فَضْل كَانَ لِوَلَدِ المُتَوفَّى دُونَ إخْوَتهِ الذينَ كَانُوا مَعَهُ في كِتَابَتِهِ، ولَا يَبِيعُ الوَلَدُ أعمَامَهُ بِما وَدَى عَنْهُم مِنْ مَالِ أَبيهِ الذينَ ¬

_ (¬1) نقله بنحوه ابن مزين في تفسيره، رقم (165 - 166).

عُتِقُوا بهِ، كَمَا أنَّ المَيِّتَ كَانَ لا يتبِعُهُم بِمَا يُودِّي عَنْهُم مِنْ مَالٍ بعدَ عِتْقِهِم، وقَالهُ مَالِكٌ. قالَ ابنُ مُزَيْن: وقَالَ أَصبَغُ بنُ الفَرَجِ: إذا أَدَّى الوَلَدُ بَاقِي الكِتَابَةِ عَنْ أَعْمَامهِ مِنْ مَالِ نَفْسِه وعُتِقُوا بعدَ ذَلِكَ أَتْبَعَهُم بعدَ عِتْقِهِم بِمَا وَدَى عَنْهُم على قَدرِ سَعَايةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم في الكِتَابةِ. قالَ أصبَغُ: وإنْ أَدَّى عَنْهُم مِنْ مَالِ أَبيهِ المَيِّتِ لَمْ يَرْجِعْ على أَعمَامهِ بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أنَّ أَبَاهُ المُتَوفَّى كَانَ لَا يَرجِعُ على إخْوَتهِ بِشَيءٍ مِمَّا يُودَّي عَنْهُم مِنَ الكِتَابةِ. قالَ عِيسَى: إذا لم يَكُنْ للمُكَاتَبِ وَلَدٌ كَاتَبَ عَلَيْهِم، ولَا وُلِدُوا لَهُ في كِتَابتهِ، فإنَّ إخْوَتَهُ يُؤَدُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِم مَا بَقِيَ عَلَيْهِم مِنْ كِتَابَتِهِم مِنْ مَالِ أَخِيهِم المُتَوفَّى ثُمَّ يَرِثُونَ بَقِيّة مَالِ أَخِيهِم المُتَوفَّى. قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: وقَالَ ابنُ نَافِع: لا يَرِثُ المُكَاتَبُ إذا مَاتَ عَنْ فَضْلَةِ مَالٍ أَحدٍ مِمَّنْ كوتبَ مَعَهُ إلَّا الوَلَدُ خَاصَّةً، وأَمَّا الآبَاءُ والإخْوَةُ وغَيْرُهُم فَلَا أَرَى أَنْ يَرِثُوهُ، ويَكُونُ ذَلِكَ لِسَيِّدِه (¬1) وقالَ ابنُ القَا سِمِ: يَرِثُهُ وَلَدُهُ، وَوَلَدُ وَلَدِه، وأَبَوُهُ، وَجَدُّهُ، وإخْوتُهُ، ولَا يَرِثُهُ مِنْ قَرَابتِهِ مَنْ إذا مَلَكَهُم لَمْ يُعتَقُوا عَلَيْهِ (¬2). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَجَازَ مَالِكٌ للسيِّدِ أَنْ يَعتِقَ مِنَ المُكَاتِبينَ الذينَ كُوتِبُوا كِتَابَة وَاحِدَة الشَّيْخَ الذي لا رَجَاءَ فِيهِ للسَّعَايةِ، والصَّغِيرَ السِّنِّ. وقالَ ابنُ نَافِع: لَا يَجُوزُ للسَّيِّدِ أَنْ يَعتِقَ مِنَ المُكَاتِبينَ صَغِيرَاً لا يَرضَى أَصحَابُهُ الذينَ كُوتِبُوا مَعَهُ، فإنْ رَضُوا بِذَلِكَ بعدَ العِتْقِ وَسَعُوا عَنْهُم في الكِتَابَةِ، وإنْ لَمْ يَزضُوا بِذَلِكَ لَمْ يُنْفَذْ عِتْقُ السَّيَدِ، لأَنَّ الصَّغِيرَ قَدْ يَكْبَرُ وَيسْعَى في الكِتَابةِ ¬

_ (¬1) نقله ابن مزين عن ابن نافع في تفسيره، رقم (160). (¬2) نقله ابن مزين عن أصبغ عن ابن القاسم بنحوه، ينظر: تفسير ابن مزين رقم (161).

مَعَ الكِبَارِ، وهذا بِخِلاَفِ الشَّيْخِ الذي لا رَجَاءَ فِيهِ للسَّعَايةِ، وعِتْقُ مِثْلُ هذا يُنْفَذُ على أَصحَابهِ المُكَاتَبينَ مَعَهُ، وكَذَلِكَ يُنْفَذُ عَلَيْهِم عِتْقُ الصَّغِيرِ الذي لَا رَجَاءَ فِيهِ للسَّعَايةِ، ولَم يَبْقَ مِنْ أَجَلِ الكِتَابَةِ مَا قَدْ يَقْوَى بهِ ذَلِكَ الصَّغِيرُ على الأَدَاءِ مَعَ أَصحَابهِ (¬1). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ: إذا وَضَعَ السَّيِّدُ عَنْ مُكَاتَبِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ أَوَّلِ كِتَابتهِ أو مِنْ آخِرِها، وذَكَرَ المَسْأَلَةَ إلى آخِرِها قالَ ابنُ القَاسِمِ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ على المُكَاتَبِ ثَلاَثُمَائةِ دِينَارٍ، فإنْ كَانَ سَيِّدُهُ وَضَعَ عَنْهُ المَائَةَ الأُولَى نُظِرَ كَم قِيمَتُها لَو كَانَتْ تُبَاعُ نَقْدَاً في قُربِ مَحَلِّها وتَأْخِيرِها، لأَنَّ آخِرَ النُّجُومِ لَيْسَ هُوَ مِثْلُ أَوَّلها في القِيمَةِ على حَالِ العَبْدِ في مَلاَئهِ، وقَدْرِ قُوَّتِهِ على الأَدَاءِ، فإنْ كَانَتْ قِيمَةُ المَائةِ الأُولَى خَمسِينَ دِينَارَاً، قِيلَ: فَمَا قِيمَةُ المَائةِ الثَّانِيَةِ؟ فتؤْخَذُ ثَلاَثِينَ دِينَارَاً، ثُمَّ يُقَالُ: مَا قِيمَةُ المَائةِ الثَّالِثَةِ؟ فتؤْخَذُ عِشْرِينَ دِينَاراً، فإذا وَضَعَ عَنْهُ النَّجْمُ الأَوَّلُ كَانَ الذي وَضَعَ عَنْهُ سَيِّدُه نِصْفُ رَقَبَتِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ: أَيُّ ذَلِكَ كَانَ أَقَلَّ في القِيمَةِ، نِصْفُ رَقَبتِهِ، أَو النَّجْمُ [الأوَّلُ] (¬2)؟ فَيُوضَعُ ذَلِكَ في ثُلُثِ المَيِّتِ، فإنْ خَرَجَ مِنَ الثُلُثِ عُتِقَ نِصفُهُ، وإذا وَضَعَ عَنْهُ النَّجْمُ الأَوْسَطُ أو الآخَرُ فإنَّهُ يُحسَبُ ذَلِكَ على نحوِ مَا تَقَدَّمَ، ويَدْخُلُ في ثُلُثِ المَيِّتِ الذي هُوَ أَقَلُّ، ولا يَدخُلُ في ثُلُثهِ النَّجْمُ الأَوَّلُ ولا الثَّانِي ولا الثَّالِثُ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنْ رَقَبَتِهِ، لأَنَّ السَّيِّدَ لَو وَضعَ عَنْهُ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يدخُلْ في ثُلُثِهِ إلَّا الذي هُوَ أَقَلُّ في القِيمَةِ مِنْ رَقَبَتِهِ، أَو مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الكِتَابَةِ، وذَلِكَ أَنَّ الوَصَايَا تَدخُلُ مَعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْراً لأَهْلِ الوَصَايا أَنْ تَتِمَّ وَصَايَاهُم، ولَيْسَ على الوَرَثةِ في ذَلِكَ ضَرَرٌ، فإنْ كَانَ النَّجْمُ الأَوَّلُ نِصْفَهُ ولَم يَتْرُك المُتَوفَّى مَالاً غَيْرَهُ، خُيّرَ الوَرَثةُ بَيْنَ ¬

_ (¬1) نقل قول ابن نافع هذا: ابن مزين في تفسيره (164) عن يحيى بن يحيى عن ابن نافع. (¬2) جاء في الأصل: أول، وما وضعته هو المناسب للسياق، وهو الموافق لما جاء في تفسير ابن مزين.

أَنْ يُمضُوا ذَلِكَ النَّجْمَ بِعَيْنهِ الأَوَّلِ، ويَعتِقُوا الذي كَانَ يُصِيبُهُم مِنَ قِيمَةِ رَقَبَةِ النِّصْفَ، ويُسْقَطُ ذَلِكَ النَّجْمُ بِعَيْيهِ، ويَكُونُ لَهُم النَّجْمَانِ البَاقِيَانِ، فإن اسْتَوفُوا ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُم وعُتِقَ المُكَاتبُ، وإنْ عَجَزَ عَنِ الأَدَاءِ لَمْ يُرَقَّ مِنْهُ إلَّا نصفُهُ، فينْ أَبَوا أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ عُتِقَ مِنَ المُكَاتَبِ الثُلُثُ وَوُضِعَ عَنْهُ مِنْ كُلّ نَجْمٍ ثُلُثُهُ، وإنْ عَجَزَ كَانَ ثُلُثَهُ حُرَّاً، وثُلُثَاهُ رَقِيقَاً للوَرَثةِ، ويَكُونُ لَهُ مِنْ نَفْسهِ بِقَدرِ مَا فِيهِ مِنَ الحُرِّيَةِ (¬1). * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمدِ اللهِ تَعَالَى يَتْلُوهُ كِتَابُ البِيُوعِ إنْ شَاءَ اللهُ * * * ¬

_ (¬1) نقل تفسير ابن القاسم: ابن مزين في تفسيره (183)، ثم عقب عليه بقوله: وليس في شيء من الكتب والسماعات بأتم ولا أوضح مما هي في هذا الموضع.

تفسير البيوع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسلَّم تَسْلِيماً تَفْسِيرُ البِيُوعِ * مالك، عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ كِتَابِ عمروِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّه: "أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ بَيع العُرْبَانِ". يُقَالُ: إنَّ الثِّقَةَ الذي [لم] (¬1) يُسَمِّه مَالِكٌ في سَنَدِ هذا الحَدِيثِ هُوَ بُكَيْرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأَشَجِّ، ولَم يَروُه عنهُ مَالِكٌ، ولَكِنَهُ أَخَذَ مِنْ وَلَدِه مخْرَمَةَ، فكَانَ يُكَنِّي عَنْ بُكَيْرٍ ولَا يُصَرِّحُ باسْمِهِ (¬2). وقال لِي أَبو مُحَمَّدٍ: أَحَادِيثُ عَمروِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَده مُرسَلَةٌ، لأَنَّ عمراً يروِيها عَنْ أَبيهِ شُعَيْبٍ، عَنْ جَدِّه مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمروِ بنِ العَاصِي، ومُحَمَّدٌ جَدُّ عمروِ بنِ شُعَيْب لَيْستْ لَهُ صُحبَةٌ، وقالَ يحيى بنُ مَعِين: أَحَادِيثُ عَمروِ بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبيه عَنْ جَدِّه صِحَاحٌ. قالَ عِيسَى بنُ دِينَار: إذا انْعَقَدَ الكِرَاءُ أو البَيْعُ على حَسَبِ مَا ذَكَرهُ مالك في حَدِيثِ العُربَانِ فُسِخَ جَمِيعُ ذَلِكَ، فإنْ فَاتَ كَانَتْ فِيهِ القِيمَةُ، لأنَّهُ شَيء تَخَاطَرا فِيهِ، وَهُو مِنْ أَكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ، لأَنَّهُ يَتْرُكُ له العُرْبَانِ إذا دَفَعَهُ إليه [إذا]، (¬3) لَمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد 24/ 176: أشبه ما قيل فيه أنه أخذه عن ابن لهيعة، أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة، ثم رواه بأسانيده إلى ابن وهب عن عمرو بن شعيب به. (¬3) ما بين المعقوفتين استدركه الناسخ في الحاشية لكنه لم يظهر في التصوير، وقد اجتهدت ما رأيته مناسبا للسياق.

يَتِمُّ البَيْعُ بَيْنَهُما أَو الكِرَاءُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وهذَا حَرَامٌ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: العَبيدُ والإماء صِنْف وَاحِدٌ، إلَّا ذُو النَّفَاذِ والمَعْرِفَةِ والتِّجَارَةِ مِنَ الدُّكُورِ، وذَوَاتِ الصَّنْعَةِ مِنَ الإمَاءِ، فإذا اخْتَلَفُوا فَبَانَ اخْتِلاَفُهُم جَازَ أنْ يُسْلِمَ بَعضُهُم في بعض بِصِفَةٍ مَعلُومة، وأَجَلٍ مَعلُومٍ، فإنْ لم يَخْتَلِفُوا لم يَجْزِ مِنْهُم وَاحدٌ باثْنَيْنِ إلى أَجَل، وَيجُوزُ ذَلِكَ يَداً بِيَدٍ. قالَ الأَبْهرِيُّ: إنَّما جَازَ للمُسْلَمِ أَنْ يَبِيعَ ما سَلِمَ فِيهِ مِنَ العُرُوضِ بِصِفَةٍ وأَجَلٍ مِنْ غَيْرِ الذي سَلِمَ إليه فِيها قَبْلَ قَبْضِها، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُسْلَمَ قَدْ مَلَكَ ذَلِكَ الشَيءَ، فالمُسْلَمُ مَنْ يُعَدُّ الصَّفْقَةَ وبالضَفَةِ، فَلِذَلكَ جَازَ لَهُ بَيْعُ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ إذا بَاعَهُ، [ومَا كَانَ] (¬1) بِدَيْنٍ لم يَجُزْ، لأَنَّهُ يَدخُلُه فَسْخُ دَيْن في دَيْنٍ، وقَدْ نُهِيَ عَنِ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مالِكٍ: (لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى جَنِين في بَطْنِ أُمِّه إذا بِيعَتْ، لأن ذَلِكَ غَرَرٌ لا يَجُوزُ). قالَ عِيسَى: فإذا وَقَعَ هذا البَيْعُ فُسِخَ، فَإنْ مَاتَتِ الأَمَةُ بالوِلاَدةِ، أو باخْتِلاَفِ الأَسْوَاقِ، وبِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الفَوْتِ مَضَى البَيع، وكَانَتْ فِيهِ القِيمَةُ يَوْمَ قُبضَتِ الأَمَةُ على غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ بالِغَةً بِمَا بَلَغَتْ. قالَ: وإنْ وُلِدَتِ الأَمَةُ وقَبضَ مُسْتَثَني الجَنِينِ الجَنِينَ، فَعُثِرَ على ذَلِكَ بِحُدثَانِ قَبْضِه إيَّاهُ رُدَّ إلى مُبْتَاع الَأُمَّ، وغُرِمَ قِيمَتها يَوْمَ قَبْضِها، فإنْ فَاتَ الجَنِينُ عندَ مُسْتَثنِيهِ بِشَيءٍ مِنْ وُجُوهِ الفوْتِ، كَانَ للبَائِعِ على المُبْتَاعِ قِيمَةُ الأُمّ يَوْمَ بَاعها بلا اسْتِثْنَاءٍ، وكَانَ للمُبْتَاعِ على البَائِعِ قِيمَةُ الجَنِينِ يَوْمَ قَبْضِهِ، ثُمَّ يَبيعَانِ الجَنِينَ والأُمَّ مِنْ مَالِكٍ وَاحِدٍ إنْ عُثِرَ على ذَلِكَ قبلَ إثْغَار الجَنِينِ، مِنْ أَجْلِ النَّهِي الذي جَاءَ عَنِ التَّفْرِقَةِ بينَ الأُمِّ وَوَلَدِها الصَّغِيرِ حتَّى يَثْغَرَ (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين استدركه الناسخ بالحاشية، ولكنه لم يظهر في التصوير، ولذا اجتهدت في وضعت ما رأيته مناسبا للسياق. (¬2) ينظر: الإستذكار 7/ 44 - 45.

قالَ: واشْتِرَاءُ الجَنِينِ في بَطْنِ أُمِّه بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَائهِ عندَ البَيْعِ، العَمَلُ فِيهِ سَواءٌ على حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ العَمَلِ في اسْتِثْنَائهِ عِنْدَ البَيْعِ. * قَوْلُ مَالِكٍ: (في الرجُلِ يَبْتَاعُ العَبْدَ بمِائةِ دِينَارٍ إلى أَجَلِ ثُمَ يَنْدَمُ البَائِعُ)، وذَكَرَ المَسْأَلةَ إلى آخِرِها، إنَّما جَازَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ في هذِه المَسْأَلةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَائِعَ العَبْدِ ابْتَاعَهُ مِنَ الذي كَانَ [بَاعَهُ] (¬1) مِنْهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وبمِائةِ دِينَارٍ مَحَاها عَنِ المُبْتَاعِ مِنْهُ أوَّلاً فَجَازَ ذَلِكَ، لأَنَّ هذا كُلَّهُ ثَمَنٌ مُعَجَّلٌ، وكَذَلِكَ يَجُوزُ لَو كَانَتِ العَشَرَةُ الدَّنَانِيرَ التي يَزِيدُهُ إيَّاها إلى أَجَلٍ، لأَنَّهُ ابْتَاعَ العَبْدَ بِثَمَن، بَعضُهُ نَقدٌ، وَهِي المِائةُ التي مَحَاها عَنِ المُبْتَاعِ مِنْهُ أَوَّلاً، وَهُو البَائِعُ مِنْهُ آخِرَاً، وبعض الثَّمَنِ إلى أَجَل مُسَمَّى، وَهِيَ العَشَرَةُ التي يَزِيدُه إيَّاها إلى أَجَلٍ، فَسَلِمَا مِنْ ذَهبٍ نَقْدٍ بِذَهبِ إلى أَجَلٍ، وجَازَ مَا فَعَلاَهُ. * قالَ مَالِكٌ: (فإذا نَدِمَ المُبْتَاعُ في شِرَائهِ العَبْدَ فَسَأَلَ البَائِعَ أنْ يُقِيلَهُ فِيهِ، ويَزِيدهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ نَقْداً, أَو إلى أَجَل أَبْعَدَ مِنَ الأَجَلِ الذي اشْتَرَى إليه العَبْدَ لَمْ يَجُزْ). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّما لَمْ يَجُزْ هذا لأَنَّ البَائِعَ بَاعَ مِنَ المُبْتَاعِ مِنْهُ أَوَّلاً مِائةَ دِينَارٍ له عَلَيْهِ إلى سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَحِل أَجَلُها بعَبْدٍ وبِعَشَرةِ دَنَانِيرَ نَقْداً لِمَوَالِي أَجَل أَبْعَدَ مِنَ السَّنَةِ، فَدَخَلَ في ذَلِكَ الذَهبُ بالذهب إلى أَجَلٍ، وهذا رِبَا، ولَو كَانَتِ الزِّيَادةُ التي يَزِيدُه إيَّاها المُبْتَاعُ عِنْدَ الأَجَلِ الأَوَّلِ وشَرَطَ المُقَاصَّاةَ بَيْنَهُما لَجَازَ ذَلِكَ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحُطُّ عندَ الأَجَلِ مِائةً عَنْ صَاحِبهِ، ويَنفَعُ المُبْتَاعُ الزّيَادَةَ التي زَادَهُ إيَّاها في ذَلِكَ الحِينِ، ويَسْلَمَانِ مِنْ ذَهبٍ بِذَهبٍ إلى أَجَل. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (فِي رَجُل بَاعَ جَارِية مِنْ رَجُلٍ بمِائه دِينَارٍ إلى أَجَلٍ، ثُمَّ اشْتَرَاها مِنْهُ باَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ الذي بَاعَها إليه أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصلُحُ)، إنَّما لَمْ يَصلح ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ البَائِعَ الأَوَّلِ يَأخُذُ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: بعد، ولم أجد لها معنى، والصواب ما أثبته.

مِائةً عِنْدَ الأَجَلِ ثُمَّ يَنفَعُ مِائَةً وعَشَرَةَ، فهذا هُوَ الرِّبَا، ولَو أنَّهُ ابْتَاعَها مِنْهُ بتِسْعِينَ دِينَارَاً لَجَازَ ذَلِكَ، لأَنَّ دَافِعَ المِائَةِ يَنتظِرُ عِنْدَ الأَجَلِ تِسْعِينَ، فَلا تُهْمَةَ في هذا، ولَو أَنَّهُ اشْتَرَاها قَبْلَ الأَجَلِ الذي بَاعَها إليه أَوَّلاً بأَكْثرَ مِمَّا بَاعَها بهِ لَجَازَ، لأَنَّهُ يَدفَعُ مِائةً وعَشَرةَ ويَنْتَظِرُ إذا حَلَّ الأَجَلُ مِائةً، فالرِّبا فِيهِ، فإن ابْتَاعَةا قَبْلَ الأَجَلِ بأَقَلَّ مِمَّا بَاعها بهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَدفَعُ تِسْعِينَ وَيشْتَرِي السِّلْعَةَ إلى نَفْسِهِ ثم يَأْخُذُ مِائةً عِنْدَ الأَجَلِ، فهذا أَعطَى تِسْعِينَ في مِائةٍ، وهَذا رِبَا.

باب ما جاء في مال المملوك إذا بيع، إلى آخر عيوب الرقيق

بابُ مَا جَاءَ في مَالِ المَمْلُوكِ إذا بِيع، إلى آخِرِ عِيُوبِ الرَّقِيقِ قالَ أَبو المُطَرّفِ: روَى [سُفْيَانُ بنُ حُسَيْنٍ] (¬1) عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِم، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "مَنْ بَاعَ عَبْداً ولَهُ مَالٌ فَمَالُهُ للبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" (¬2). * أَوْقَفَ مَالِكٌ هذَا الحَدِيثَ في المُوطَّأ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، على عُمَرَ، ولَم يَبْلُغْ بهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هذا أَحَدُ الأَحَادِيثِ الأَربَعَةِ التي أَسْنَدَها سَالِمٌ، وأَوْقَفَها نَافِعٌ على ابنِ عُمَرَ (¬3). قالَ عِيسَى: لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَاعَ عَبْداً ولَهُ مَالٌ أَنْ يَسْتَثْنِي نِصْفَ مَالهِ أَو جُزْءً مِنْهُ، لأَنَّ السُّنَّةَ إتمَا جَاءَتْ باسْتِثْنَائهِ كُلِّه أَو تَركِهِ كُلِّهِ، فإنْ وَقَعَ مِثْلُ هذا البَيْعِ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (عيينة)، وهو خطأ، والصواب ما أثبته. (¬2) رواه البزار 1/ 224، والدارقطني في العلل 2/ 51، بإسنادهما إلى سفيان بن حسين به، وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم قال فيه (عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم) إلا سفيان بن حسين فأخطأ فيه، والحفاظ يروونه عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح. قلت: وحديث ابن عمر هذا رواه مسلم (1543) وأبو داود (3433)، والنسائي 7/ 297، وابن ماجه (2211). (¬3) قال ابن المديني: والقول فيها قول سالم، وقد توبع سالم على ذلك، نقله ابن عبد البر في التمهيد 13/ 282.

فُسِخَ، إلَّا أَنْ يَفُوتَ العَبْدُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُؤ الفَوْتِ، فَيَكُونُ لِمُشْتَرِيه بِقِيمَتهِ يَوْم ابْتَاعَهُ، وُيردُّ الذيُّ الذي كَانَ اسْتَثْنَى مِنْ مَالهِ. قالَ عِيسَى: وأَجَازَ أَشْهبُ أَنْ يَسْتَثْنِي المُبْتَاعُ نصفَ مَالِ العَبْدِ أَو جُزْءً مِنْهُ. وقالَ: لَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِه جَازَ أَنْ يَسْتَثْنِي نِصْفَهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَ لِمُبْتَاعِ العَبْدِ أَنْ يَسْتَثْنِي مَالَ العَبْدِ، مَعلُوماً كَانَ أَو مَجْهُولاً، لأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَثْنِيهِ للعَبْدِ، وَهُو يُلْغَى في الصَّفْقَةِ، ألاَ تَرَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ على السَّيِّدِ فِيهِ، وأَنَّ العَبْدَ يَتَسرَّرُ في مَالهِ بِغَيْرِ إذنِ سَيِّدِه، فَمَالهُ لَهُ مَا لَمْ يَنْزِعهُ مِنْهُ السَّيِّدُ، وهذا بِخِلاَفِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنَ الرَّجُلِ شَيْئاً مَعلُوماً ومَجْهُولاً صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَهذا لا يَجُوزُ، لأَنَّهُ لا يَدرِي مَا قَدرُ المَعلُومِ مِنَ المَجْهُولِ الذي اشْتَرَى، فَيَدخُلُه الغَرَرُ، وقَن نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيع الغَرَرِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: العُهْدَةُ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ معلُومَةٌ في الرَّقِيقِ (¬1)، ولِذَلِكَ كَانَ أَبَانُ بنُ عُثْمَانَ وهِشَامُ بنُ إسْمَاعِيلَ يَذْكُرَانِها في خُطْبَتِهِما ومعنَى تَخدِيدِ ثَلاَثَةِ أَيامٍ في العُهْدَةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ [حُمَّى] (¬2) الرِّبع تَظْهرُ على المَحمُومِ في مُدَّةِ الثَّلاَثةِ أيام، ومَعنَى تَحدِيدِ السَّنَةِ فِيها مِنْ أَجْلِ اخْتِلاَفِ فُصُولِ السَّنَةِ، فتَخْتَلِفُ الطَّبَائِعُ الأربَعُ، فَيَظْهرُ العَيْبُ الذي هو مُسْتكِنٌّ في العَبْدِ أَو الأَمَةِ في أَحَدِ فُصُولِ العَامِ، ورَوَى قتَادةُ عَنِ [الحَسَنِ] (¬3)، عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ ¬

_ (¬1) العهدة هي: تعلق المبيع بضمان البائع مدة معينة، وهي قسمان: عهدة سنة، وهي طويلة الزمان قليلة الضمان، وعهدة ثلاث، وهي قليلة الزمان كثيرة الضمان، وقال الخطابي: معناه أن يشتري العبد أو الجارية ولا يشترط البائع البراءة من العيب، فما أصاب المشتري به من عيب في الأيام الثلاثة فهو من مال البائع ويرد بلا بينة، فإن وجد به عيبا بعد الثلاث لم يرد إلا ببينة، ينظر: عون المعبود 9/ 200 - 201، وأوجز المسالك 12/ 321. (¬2) جاء في الأصل: الحمى، وهو خطأ مخالف للسياق، والرِّبع بكسر الراء -وهي التي تأتي يوما وتقلع يومين، ينظر: المنتقى للباجي 4/ 172 (¬3) في الأصل: الحسين، وهو خطأ، والحسن هو البصري.

الجُهنِيِّ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثةُ أَيَّام" (¬1). قالَ عِيسَى: إنَّمَا تَلْزَمُ العُهْدَةُ أَهْلَ كُلِّ بَلدٍ قَدْ عَرَفُوها وجَرُوا عَلَيْها، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَها المُبْتَاعُ علَى البَائِعِ، فَتَلْزَمُهُ في أَيِّ بَلدٍ وَقَعَ البَيع بَيْنَهُمَا فِيهِ، ويُلْزَمُ البَائِعُ المُوَاضَعَةَ في التي تُوطَءُ مِنَ الإمَاءِ (¬2)، حتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ صَحِيحَيما، لِئَلَّا يُوَطَءَ فرجٌ مَشْكُوكٌ في بَرَاءَتِهِ مِنَ الحَملِ. قالَ عِيسَى: الذي ثَبَتَ عَلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ البَرَاءَةَ في الرَّقِيقِ إنَّمَا تَكُونُ في بَيْعِ السُّلْطَانِ خَاصَّةً، لَا مِنْ أَهْلِ المِيرَاثِ ولا غَيْرِهِم. * قالَ أَبو المُطَرفِ: هذا خِلاَفُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ، وفِي بَيْعِ ابنِ عُمَرَ عَبْدَهُ بالبَرَاءَةِ دَلِيلٌ على أَنَّهُ كَانَ بَيْعَاً معرُوفَاً عِنْدَهُم، وذَلِكَ أنْ يَتَبرَّأَ البَائِعُ إلى المُبْتَاعِ عندَ عُقْدةِ البَيع مِنْ عُيُوب لا يَعلَمُها في عَبْدِه أَو أَمَتِهِ، إلَّا أنَّ الضمَان يَلْحَقُهُ فِيمَا يَجِدُهُ المُشْتَرِي مِنَ العُيُوبِ في العَبْدِ أَو الأَمَةِ، فَيُلْزَمُ حِينَئِذٍ البَائِعُ اليَمِينَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِمَا يَظْهرُ مِنَ العُيُوبِ حِينَ بَاعَ، فإنْ حَلَفَ سَقَطَتْ عَنْهُ التَّبعَةُ فِيها، وبهذَا حَكَمَ عُثْمَانُ على ابنِ عُمَرَ في العَبْدِ الذي كَانَ قَدْ بَاعَهُ بالبَرَاءَةِ، فإَباءُ ابنُ عُمَرَ مِنَ اليَمِينِ وتَنَزُّهُ عَنْها إتِقَاء للشُّهْرَةِ، وخَافَ أنْ يَنْزِلَ بهِ بَلاَءٌ أنْ يَقُولَ النَّاسُ: إنَّمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِسَببِ يَمِييه، وهذه مَسْأَلةٌ اختلفَ فِيها شُيُوخُنا، فَحَدَّثني بَغضُ مَنْ لَقِيتُهُ عَنِ ابنِ لُبَابَةَ (¬3) أَنَّهُ قالَ: مَنْ وَجَبتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَهُو فِيها صَادِقٌ فَلَم يَخلِفْها أَنَّهُ مُرَائِي. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابنُ عُمَرَ تَرَكَ اليَمِينَ إذ عَلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3506)، وأحمد 4/ 150، والبيهقي 5/ 323، بإسنادهم إلى قتادة به. (¬2) المواضعة هي أن توضع الجارية على يدي امراة عدلة حتى تحيض، فإن حاضت تم البيع فيها وضمانها مدة المواضعة من البائع والنفقة عليه، ينظر: التاج والإكليل 4/ 478. (¬3) هو محمد بن عمر بن لبابة الأندلسي، الإِمام الفقيه، المتوفى سنة (314)، وتقدم التعريف به.

عَلَيْهِ في رَدّ العَبْدِ إليه، ولَا يُظَنُّ به أَنَّهُ بَاعَهُ بالبَرَاءَةِ وَهُوَ عَالِم بالعَيْبِ، لأَنَّ هذا مِنَ الغِشِّ الذي لا يَحِلُّ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ: فِيمَنْ بَاعَ عَبْداً وبهِ عَيْبٌ فَكَتَمهُ البَائِعُ المُبْتَاعَ، ثُمَّ حَدَثَ بهِ عندَ المُبْتَاعِ عَيْبٌ مُفْسِدٌ، فإنَّ المُبْتَاعَ بالخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ العَيْبِ مِنَ البَائِعِ أَخَذَهُ، وإنْ أَحَبَّ أنْ يَرُدَّ قِيمَةَ العَبْدِ، ويَرُدُّ مَعَهُ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ مِنَ العَيْبِ المُفْسِدِ فَعَلَ ذَلِكَ، وتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذا أَرَادَ أنْ يُمسِكَ العَبْدَ وَيرجِعَ بِقِيمَةِ العَيْبِ الأَوَّلِ فإنَّ العَبْدَ يُقَامُ صَحِيحَاً يَوْمَ وَقَعَ البَيْعُ، فَيُقَالُ: قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَاراً، ثُمَّ يُقَوَّمُ بالعَيْبِ القَدِيمِ فتوجَدُ قِيمَتُهُ أربَعِينَ دِينَاراً، فَبَيْنَ القِيمَتَيْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَهُوَ خُمسُ الثَّمَنِ الأَوَّلِ، فَيَرْجِعُ المُشْتَرِي على البَائِعِ بِخُمسِ الثَّمَنِ الذي كَانَ دَفَعَهُ إليه كَائِناً مَا كَانَ، وإنْ أَرَادَ المُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ العَبْدَ ويَرُدَّ قِيمَةَ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ مِنْ قِيمَةِ العَيْبِ المُفْسِدِ، فإنَّكَ تَغرِفُ قِيمَتَهُ أوَّلاً صَحِيحَا، فَقَدْ قُلْنَا أَنَّها خَمْسُونَ دِينَارَاً، أَو قِيمَتُهُ بالعَيْبِ القَدِيمِ أَربَعُونَ دِينَاراً، فَوقَعَ على العَيْبِ القَدِيمِ مِنَ القِيمَةِ خُمسُ جَمِيعِ الثَّمَنِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الآنَ بالعَيْبِ الذي حَدَثَ عِنْدَ المُشْتَرِي، فَتُوجَدُ قِيمَتُهُ ثَلاَثِينَ دِينَاراً، فَبَيْنَ القِيمَتَيْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَهُوَ رُبع الثَّمَنِ، فَيَرُدُّ المُشْتَرِي مَعَ العَبْدِ رُبع الثَّمَنِ بعدَ إسْقَاطِ خُمسِ الثَّمَنِ أَوَّلاً لِقِيمَةِ العَيْبِ القَدِيمِ. قالَ: وأَمَّا إذا كَانَ العَيْبُ الذي حَدَثَ عندَ المُشْتَرِي خَفِيفَاً، مِثْلَ الحُمَّى والرَّمَدِ رَدَّهُ بالعَيْبِ الأَوَّلِ، ولا يَكُونُ عَلَيْهِ لِما حَدَثَ عندَهُ مِنَ العَيْبِ الخَفِيفِ شَيءٍ. قالَ عِيسَى: ولَو قَالَ البَائِعُ للمُبْتَاعِ بعدَ أَنْ حَدَثَ عِندَهُ العَيْبُ المُفْسِدُ فَجْأَةً لِيَرُدُّه على البَائعِ بالعَيْبِ القَدِيمِ، قالَ له البَائِعُ: إن شِئْتَ رُدَّهُ عَليَّ ولا غُرْمَ عَلَيْكَ فِيمَا حَدَثَ عِنْدَكَ، وإنْ شِئْتَ احبسْهُ بالعَيْبِ القَدِيمِ الذي بِعْتَهُ أنا مِنْكَ ولَا غُزمَ لَكَ عَلَيَّ، فَزَعَمَ ابنُ القَاسِمِ أَنَّ ذَلِكً لَهُ. قالَ عِيسَى: ولَسْتُ أَرَى أَنَا ذَلك، بلْ يَكُونُ المُشْتَرِي على البَائِعِ بالخِيَارِ،

كَمَا قَالَ مَالِكٌ، لأَئهُ تدلِيسن بالعَيْبِ حِينَ بَاعَهُ، فَالمُشْتَرِي عَلَيْهِ في ذَلِكَ بالخِيَارِ. قالَ أَبو محمد: لَم يَخْتَلِفْ فِيمَن اشْتَرَى جَارِيَة بِكْراً فَوَطِئَها، ثُمَ وَجَدَ بِها عَيْبَاً فَرَدَّها أَنَّهُ يَرُدُّ مَعَها مَا نَقَصَها الإفْتِضَاضِ، وأَمَّا غَيْرُ البكْرِ فَلَا شَيءَ لِبَائِعها في وَطْء المُبْتَاعِ لَها، لأَنَّ الوَطْءَ لا يُنْقِصُها كَمَا يَنْقُصُ البِكْرُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: روَى يحيى بنُ بُكَيْير عَنْ مَالِكٍ: (فِيمَنْ بَاعَ عَبْداً، أو وَلِيدَةً، أو حَيَوانا بالبَرَاءَةِ، فَقَد بَرِأَ مِنْ كُل عَيْبٍ) (¬1). * ورَوَى أَضحَابُ مَالِكٍ عنهُ في هذه المَسْأَلةِ: (مَنْ بَاعَ عَبْدَاً أَو وَلِيدَةً) ولَم يَذْكُروا: (أو حَيَواناً)، وذَلِكَ أَنَّ البَرَاءَةَ مِنَ العُيُوبِ الخَفِيةِ لا تَجُوزُ في الدَّوَابِ وشِبْهِها، ولا تَجُوزُ البَرَاءةُ إلَّا في الرَقِيقِ، لأَنَّ البَائِعَ قد يَتَوصَّلُ إلى مَعرِفَةِ مَا بِعَبْدِه أو أَمَتِهِ، ويَبْعُدُ ذَلِكَ في سَائِرِ الحَيَوانِ، فإذا بَاعَ عَبْداً أَو وَلِيدَة وشَرَطَ البَرَاءَةَ مِنْ تَبعَةِ العُيُوبِ فَقَن بَرِيءَ مِمَّا لا يَعلَمُهُ، إلَّا في الجَارِيةِ الرَّائِعَةِ (¬2)، فإنَّةا لَا تُبَاَعُ بالبَرَاءةِ مِنَ الحَمْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حملاً ظَاهِراً، فانْ كَانَتْ مِنْ وَخْشِ الرَّقِيقِ (¬3) جَازَ أَنْ تُبَاعَ بالبَرَاءَةِ مِنَ الحَمْلِ، وذَلِكَ أَنَّ الحَملَ في الوَخْشِ زِيَادَة في ثَمَنِها، والحَملُ في الرَّائِعَةِ مِنَ الرَّقِيقِ نُقْصَانٌ مِنْ ثَمَنِها. قالَ عِيسَى: عَن ابنِ القَاسِمِ: فِيمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ في صَفْقَة وَاحِدَةٍ فَوَجَدَ المُشْتَرِي بأَحَدِهِما عَيْباً أَنَّهُ يَنْظُرُ، فإنْ كَانَ المَعِيبُ وَجْة الصَّفْقَةِ رَدَّهُما جَمِيعَا وأَخَذَ الثَّمَنَ الذي دَفَعَه (¬4). ¬

_ (¬1) موطأ مالك، رواية ابن بكير، الورقة (94 ب)، نسخة تركيا. (¬2) يعني: الجارية الجميلة. (¬3) الوخش: الرديء من كل شيء، والمراد هنا الجارية التي تراد للخدمة. وقد رد هذا القول ابن حزم في المحلى 4088 وقال: وهذا قول لا دليل عليه أصلا، وما نعلم أحدا سبق إليه أصلا ... إلخ. (¬4) ينظر: التاج والإكليل 4/ 459.

قالَ ابنُ سَحْنُونَ (¬1): وذَلِكَ أَنْ يَقَعَ للمَعِيبِ مِنَ الثَّمَنِ أَكْثَرَ مِنْ نِضفِ الثَّمَنِ كُلِّهِ، فإنْ كَانَ المَعِيبُ أَقَلَّ ثَمَنا أَو كَانَا مُعتَدِلَيْنِ في الثَّمَنِ فإنَّما لَهُ رَدُّ المَعِيبِ وحْدَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أَو يَحْبِسَهُما بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. * قالَ أَبو المُطرِّفِ: وهذا الحُكْمُ في مَسْاَلةِ الجَارِيةِ التي بِيعَتْ بالجَارِيَتَيْنِ، وتَفْسِيرُ مَالِكٍ في المُوطَّأ لَها يَدُلُّ على أَنَّهُما كَانتَا مُعتَدِلَتَيْنِ في الثَّمَنِ قال أبو المُطَرِّفِ: رَوَى هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (الخَرَاجُ بالضَّمَانِ) (¬2)، ولِهذا الحَدِيثِ قَالَ مالك: إنَّهُ مَنْ رَدَّ عَبْداً بِعَيْبٍ وَجَدَهُ فِيهِ وقَن اسْتَغَلَّهُ أَنَّ الغَلَّةَ للمُشْتَرِي بِضَمَانهِ إيَّاهُ، وبِهذا قالَ أَهْلُ المَدِينَةِ. * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لإبن مَسْعُودٍ حِينَ ابْتَاعَ جَارِيةً مِنْ زَوْجَتِهِ على شَرطِ أَنَّهُ يَبيعَها مِنْها، فقالَ لهُ عُمَرُ: (لا تَقْرَبْها وفِيها شَرْطٌ لأَحَدٍ)، إنَّمَا قالَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ البَائِعَةَ منهُ الجَارِيةَ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ ثَمَنِها بَعضَهُ، لأَنْ يَبيعَها مِنْها إذا أَرَادَ بَيْعها بِثَمَني مَجْهُولٍ لا يُدرَى أَيَقِلُّ أَم يَكْثُرُ، وهذا مِنْ بِيُوعِ الحًرَامٍ التي لا تَحِلُّ، مَتى اشْتَرَاها المُشْتَرِي بهذا الشَّرطِ فَلَم يَملِكْها مِلْكَاً تَامَّاً، لأن شَرطَ البَائِعِ بَاقٍ فِيها، فَلِهذا الوَجْهِ لا يَجُوزُ للمُشْتَرِي وَطْئُها، ويُفْسَخُ البَيْعُ فِيها مَا لَمْ يَفِتْ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّما جَازَ للرَّجُلِ أَنْ يَطَأ مُدَبَّرَتهِ مِنْ أَجْلِ أنَّ التَّدبِيرَ قَدْ يَرُدُّهُ ¬

_ (¬1) هو محمد بن سحنون بن سعيد، الإِمام العلامة الفقيه، توفي سنة (256)، ينظر: تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1072. (¬2) رواه أبو داود (3510)، وأحمد 6/ 80، و 116، وابن حبان (4927)، بإسنادهم إلى هشام بن عروة به. وقال البغوي في شرح السنة 1638: والمراد بالخراج الدخل والمنفعة، ومعنى الحديث أن من اشترى شيئا فاستغله بأن كان عبدا فأخذ كسبه أو دارا فسكنها او أجرها فأخذ غلتها، أو دابة فركبها، أو أكراها فأخذ الكراء، ثم وجد بها عيبا قديما، فله أن يردها إلى بائعها، وتكون الغلة للمشتري، لأن المبيع كان مضمونا عليه ... إلخ.

الدَّيْنُ أو مَوْتُ السَّيِّدِ عَنْ غَيْرِ مَالٍ، فَلَا يُعتَقُ مِنْها إلَّا ثُلثها، فَلِهذَا جَازَ للرَّجُلِ وَطْءُ مُدَبَّرَتِهِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وَجْهُ تَركِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ وَطْءَ الجَارِيةِ التي كَانَتْ قَدْ أُهْدِيتْ لَهُ وكَانَتْ ذَاتُ زَوْجٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الزَّوْجِيَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً بَيْنَهُا وبينَ زَوْجِها، ولَا يَفْسَخْها نَزْعُ السَّيِّدُ إيَّاها مِنْ زَوْجِها وبَيْعُهُ لَها، وهذا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ بَيْعَ الأَمَةِ ذَاتُ الزَّوْجِ هُوَ طَلاَقُهَا (¬1). وقالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: إنَّ بَيْعَها لَيْسَ بِطَلَاقٍ لَها. * * * ¬

_ (¬1) هذا قول لإبن مسعود وابن عباس، وجماهير العلماء على خلف قولهما، ينظر: التمهيد 22/ 184

في بيع النخل، والعرايا، والجوائح

في بَيع النَّخْلِ، والعَرَايا، والجَوَائِحِ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبرَتْ فَثَمَرُها لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطها المُبْتَاعُ"، إنَّما قالَ ذِلَكَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّخِيلَ إذا أُبِّرَتْ فَقَدْ صَارَتِ الثَّمَرَةُ عَيْنَاً قَائِمَة، وقَدْ عَالَجَها البَائِعُ بإبَّارِهِ إيَّاها، فَهُو إذا بَاعَ الأُصُولَ في هذِه الحَالِ لَمْ تَدخُل الثَّمَرَةُ في مِلْكِ المُشْتَرِي، إلَّا باشْتِرَاطِهِ إيَّاها لِنَفْسِهِ، فإذا بَاعَ البَائِعُ الأُصُولَ قَبْلَ الإبَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيها شَيءٌ، إذ لَمْ يَتَقدَّف له فِيها عِلاِجٌ ولَا قِيَامٌ، والإبَّارُ هُو التَّذْكِيرُ، وَهُو أنْ يُؤْخَذَ مِنْ طَلْعِ الذَّكَرِ مِنَ النَّخِيلِ فَيُوضعَ على طَلْعِ النَّخِيلِ التي تُثْمِرُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً لِبَقَاءِ الثَّمَرِ في النَّخْلِ المَأْبُورَةِ، ويُقَالُ لَهُ أَيضاً التَّلْقِيحُ. قالَ ابنُ المَوَّازِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ في شِرَاءِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الأُصُولِ في صَفْقَةٍ أُخْرَى وقَد أُبِّرَتِ الثَّمَرةِ، فقالَ: (لَا يَجُوزُ شِرَاؤُها قَرُبَ أو بَعُدَ، وكَذَلِكَ مَالُ العَبْدِ)، وقالَ أَيضاً: إنَّه جَائِزٌ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا يَجُوزُ لِمُشْتَرِي النَّخِيلِ وفِيها ثَمَرةٌ مَأبُورَةٌ أَنْ يَسْتَثْنِي نِصْفَها، لأن السُّنَّةَ جَاءَتْ في اسْتِثْنَاءِها كُلِّها أَو تركِها، ورُخِّصَ في ذَلِكَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وهذا عِنْدِي مِنْ بَيْعِ الثَّمَرةِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُو صَلاَحُها، فإذا اسْتُثْنِيتْ كُلّها كَانَتْ مُلْغَاةً في الصَّفْقَةِ، فَجَازَ ذَلِكَ. قَوْلُ النبيِّ - عليهِ السَّلاَمُ -: "لا تُبَاعُ الثِّمَارُ حتَّى تُزْهِيَ"، إنَّما قالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ زُهْوَها هُوَ ابْتِدَاءُ صَلاَحِها، وأَمَّا قَبْلَ زُهْوها فإنَّما يدخِلُ المُشْتَرِي على غَرَرٍ، لأَنَّه لا يَدرِي هلْ تَتِمُّ الثَّمَرةُ أَم لَا تَتِمُّ؟.

قِيلَ لِمَالِكٍ: فَالحَائِطُ تُزْهِي فِيهِ النَّخْلَةُ أَيُبَاعُ ذَلِكَ الحَائِطُ؟ فَقَالَ: مَا أدرَكْتُ النَّاسَ إلاَ على إجَازَتهِ، يُرِيدُ: النَّخْلَةَ التي لَيْسَتْ بِبَاكُورَةٍ (¬1)، وطِيبُ بَعضِها قَرِيب مِنْ بَعض. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: مَغنَى بَيع زَيْدِ بنِ ثَابت ثَمَرِ حِيطَانهِ عِنْدَ طُلُوعِ الثرَيَّا، يَغنِي: أَنَّهُ كَانَ يَبيعُها إذا طَلُعَتْ [الثُّريَّا] (¬2) في السَّمَاءِ آخِرَ اللَّيْلِ في وَجْهِ السَّحَرِ، وَهِيَ لا تَطْلُعُ في ذَلِكَ الوَقْتِ إلَّا وَقَد بَدَا صَلاَح الثِّمَارِ بالحِجَازِ (¬3). وقالَ مَالِكٌ: لا تُبَاعُ إلَّا إذا أَزْهتْ، كَما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَجَازَ أَهْلُ المَدِينَةِ بَيع المَقَاثِي وشِبْهِها (¬4)، كَمَا جَازَ شِرَاءُ اللَّبَنِ مِنَ المُرضِعِ مُدَّةَ عَامَي الرَّضَاعِ، فينْ دَخَلَ في ذَلِكَ جَائِحَةٌ وَجَبَ الرُّجُوعُ على البَائِعِ بالجَائِحَةِ، وذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ انْقِضَاءِ ثَمَرَةِ المَقَاثِي مَعرُوف عندَ النَّاسِ، فإذا دَخَلَتْ في ذَلِكَ جَائِحَةٌ بِنَقْصِ عُلِم قُدَّرَ مَا اجْتَنَى المُشْتَرِي، وقِيمَةُ ما أُجِيحَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يرجِعُ المُشْتَرِي بِقِيمَةِ مَا أُجِيحَ مِنْ ذَلِكَ على البَائِعِ. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: العَرَايا وَاحِدَتُها عَرِيَّة، وَهِيَ النَّخْلَةُ يُغرِيها صَاحِبُها رَجُلاً مُحتَاجَا، يَهِبُ لَه ثَمَرُها عَامَا أَو أَعوَاما (¬5). قالَ الأَبْهرِيُّ: وَهُوَ فِغل مَعرُوف يَضنَعُهُ المُعَرِّي بالمُعَرَّى، وجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيها بِخَزصِها إلى الجِذَاذِ فِيمَا قَدَرُهُ خمسَةُ أَوْسُق فَدُونَها، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الباكورة: هي التي تسبق طيب غيرها بالزمن الطويل الذي لا يحصل معه تتابع الطيب، فهذه لا يجوز بيع الحائط بطيبها، ويجوز بيعها وحدها، ينظر: الثمر الداني 1/ 510. (¬2) جاء في الأصل: الثرايا، والصواب ما أثبته. (¬3) ذكر ابن عبد البر في التمهيد 2/ 193 بأن طلوع الثريا إنما يكون قبيل فصل الصيف في حدود الثاني عشر ليلة مضت من شهر أيار، وهو شهر مايو. (¬4) المقاثي: هي الخضروات وما أشبهها من مثل البطيخ والقثاء، ومثل الجزر واللفت، وبيع المقائي ليس من الغرر، لأنه يسير والحاجة داعية إليه. (¬5) ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 287.

رَخَّصَ في ذَلِكَ، وفِي شِرَاءِ المُعَرِّي العَرِيَّةَ مِنَ المُعَرَّى مَنْفَعَة، وذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِشِرَائهِ لها دُخُولَ المُعَرَّى إلى الحَائِطِ وخُرُوجُهُ عنه، لأنَّهُ رُبَّما اسْتَضَرَّ بِذَلِكَ المُعَرِّي، وفي ذَلِكَ أيضاً رِفْق بالمُعَرَّى، لأَنَّهُ يُسْقَطُ عنهُ بِذَلِكَ قِيَامُهُ على عَرِيَّتهِ، وحِرَاسَتِها، وجِذَاذِها، وهذا كُلُّهُ فِعْل مَعرُوف، ولِذَلكَ جَازَ فيهِ مَا لَمْ يَجُزْ في البَيْعِ، وهذا يَجُوزُ للمُعَرِّي، ولِكُلِّ مَنْ لَهُ في الحَائِطِ سَبَبٌ كَسَببِ المُعَرِّي، فإذا كَانَتِ العَرِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ خَمسَةِ أَوْسُقٍ بِيعَتْ بالدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمَ نَقْداً وإلى أَجَلٍ. وقالَ النُّعمَانُ: إنَّما جَازَ شِرَاءُ العَرِيَّةِ بالثَّمَرةِ إلى أَجَلٍ لأَنَّها عَطِيّه لَمْ تُقْبَضْ، ولو شَاءَ المُعَرِّي أَنْ يَمنَعَ مِنْها المُعَرَّى لَمَنَعَ، فَلَمَّا أَعطَاهُ بِخَرصِها تَمراً إلى الجِذَاذِ كانَ أَيضاً ذَلِكَ بِمَنْزِلةِ الأَوَّلِ صِلَةً منهُ للمُعَرَّى، فَلِذَلِكَ جَوَّزْنَاهُ (¬1). قالَ الأَبْهرِيُّ: هذا القَوْلُ غَلَط، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ في بَيْعِ العَرَايا، فَكَيف يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ المُعَرَّى شَيْئاً لا يَملِكُهُ، أَو يَشْتَرِي المُعَرِّي مِلْكَاً قَدْ مَلَكَهُ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيعَهُ مَالِكُهُ؟ ,. ساَلتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ ابنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونسُ بنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بنِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرخَصَ في بَيع العَرَايا بالتمرِ والرُّطَبِ" (¬2)، فقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: انْفَردَ بِهذا الحَدِيثِ يُونُسَ عَنِ الزّهْرِيِّ، لَمْ يَروهِ عنهُ غَيْرُهُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: ورَأَيْتُ لِبعضِ شُيُوخِنَا قالَ: مَعنَى هذا الحَدِيثِ أَنْ يأْكُلَ ¬

_ (¬1) ينظر قول أبي حنيفة النعمان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في: الحجة على أهل المدينة للشيباني 2/ 547، ونقله ابن عبد البر في التمهيد 2/ 333، وقال: وهو قول مخالف لصحيح الأثر في ذلك، فوجب أن لا يعرج عليه. (¬2) رواه أبو داود (3362)، والنسائي 7/ 267، والبيهقي 4/ 20، بإسنادهم إلى ابن وهب به، ورواه البخاري (2072)، ومسلم (1539) بالتخيير، وذلك من حديث سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره.

المُعَرّي رُطَبُ العَرِيَّةِ، ويُؤَدِّي خَرصَها تَمْراً في خَمسَةِ أَوْسُق. وجَعَلَ ابنُ القَاسِمِ في العَرِيَّةِ إذا أُشْتُرِيتْ بِخَزصِها تَفراَ وأَصَابتها الجَائِحَةُ أَنَّ لِمُشْتَرِيها الرُّجُوعَ على المُعَرِّي البَائِعِ لها بالجَائِحَةِ في الثُّلُثِ فَمَا زَادَ. وقالَ أَشْهبُ: لَا جَائِحَةُ، لأَنَ أَصلَها فِعلٌ مُعرُوفٌ. " قالَ أَبو المُطَرِّفِ: مَعنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ الجَائِحَةِ: "تَأَتَى أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرَاً" يَغنِي: حَلَفَ أنْ لَا يَفْعَلَ ما يَلْزَمُهُ مِنَ الرُّجُوعِ عليهِ بالجَائِحَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتَأَلّي، قالَ: "هُوَ لَهُ يا رَسُولَ اللهِ"، فَقِيلَ: إنَّهُ رَدَّ جَمِيعَ الثمَنِ الذي كَانَ قَبَضَهُ مِنْ مُبْتَاعِ الحَائِطِ مِنْهُ. وجدّثنا أَبو جَعفَرِ (¬1)، قالَ: حدَّثنا ابنُ الأَعرَابِيِّ، قالَ: حدَّثنا أَبو دَاوُدَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بغتَ مِنْ أَخِيكَ تَمراً فأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأخُذَ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ شَيءٍ" (¬2). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: هذَا حَدِيثٌ في الرُّجُوعِ بالجَائِحَةِ (¬3). وقالَ ابنُ أَبي زَيْد: لَمَّا لَمْ يَأتِ في حَدِيثِ الجَائِحَةِ تَوْقِيتٌ لِمَا يُوضَعُ مِنْها وَجَبَ أَنْ يُوضَعَ مِنْها الثُلُثُ الذي جَعَلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَيِّزِ الكَثيرِ، بِقَوْلهِ: "الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ" (¬4)، وقَد يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوضَعَ مِنَ الجَوَائِحِ مَا لا بالَ له، إذ لا بُدَّ مِنْ سُقُوطِ شَيءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ، فإذا ذَهبَ الثُّلُثُ فَمَا فَوْقَة وَجَبَ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ على البَائِعِ. ¬

_ (¬1) هو أبو جعفر بن عون الله القرطبي، تقدم التعريف به. (¬2) سنن أبي داود (3470) عن سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني عن ابن وهب به، ورواه مسلم (1554) عن أبي الطاهر عن ابن وهب به. (¬3) كرر في الأصل كلمة (حديث) مرتين، وقد حذفت أحدهما. (¬4) رواه البخاري في مواضع، ومنها (1233)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.

وقالَ يَحيىَ بنُ سَعِيدٍ الأَنْصَاريُّ: (لَا جَائِحَةَ في الثِّمَارِ فِيمَا دُونَ ثُلُثِ رَأْسِ مَالِ المُشْتَرِي في سُنَّةِ المُسْلِمِينَ) (¬1). فإذا كَانَ المُجَاحُ قَدرَ الثُّلُثِ مِنَ الجَمِيعِ فَمَا فَوْقَهُ رَجَعَ المُشْتَرِي بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ، فالنَّارُ جَائِحَةٌ، والجَيْشُ المَارُّ على الثِّمَارِ فَيَنتهِبُونَها جَائِحَةٌ، والطَّيْرُ الغَالِبُ المُفْسِدُ للتِّينِ جَائِحَة، وسُمُومُ الحَرِّ إذا أَفْسَدَ التِّينِ وأَسْقَطَ وَرَقَهُ جَائِحَة، يُرجَعُ بِهذا كُلِّه على البَائِعِ إذا كَانَ المُجَاحُ الثُّلُثُ مِنَ الجَمِيعِ فَمَا زَادَ، وإذا كَانَتِ الجَائِحَةُ مِنْ قِبَلِ المَاءِ رَجَعَ بِها المُشْتَرِي على البَائِعِ فِيمَا قَلَّ أَو كَثُرَ، لأَنَّ المُشْتَرِي إنَّما اشْتَرَى المَاءَ المَعلُومَ، فإذا نَقَصَهُ شَيءٌ مِمَّا اشْتَرَى وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ مَا نَقَصَهُ، وفي الثِّمَارِ إنَّما يَدخُلُ على أنَّهُ يُسْقِطُ بَغضَهُ، فإذا سَقَطَ مِنْهُ اليَسِيرُ لم يَرجِع بهِ، إلَّا أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ الكَثيرُ، وَهُو الثُّلُثُ فَمَا فَوْقَ، فَحِينَئِذٍ يَرجِعُ بهِ، والحُكْمُ في جَائِحَةِ البقْلِ كَالحُكْمِ في جَائِحَةِ المَاءِ سَوَاءٌ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3472)، وسحنون في المدونة 8/ 326، بإسنادهما إلى يحيى بن سعيد به. (¬2) جاء هنا في الأصل: (تم الجزء بحمد الله تعالى وحسن عونه، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم، يتلوه بحول الله تعالى: باب ما يجوز من استثناء ثمر الحائط، بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد، وعلى آله وسلم تسليما) وهذا كله فيما يبدو من الناسخ، والكلام متصل بعضه ببعض دون هذه الزيادة، ولذا وضعته في الهامش.

ما يجوز من استثناء ثمر الحائط إذا بيع، وما يكره من بيع الثمر

ما يَجُوزُ مِن اسْتِثْنَاءِ ثَمَرِ الحَائِطِ إذا بِيِعَ، ومَا يُكْرهُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ (¬1) إنَّما جَازَ لِمَنْ بَاعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ بثَمَن مَعلُومٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ كَيْلاً معلُوماً فِيمَا يَكُونُ قَدرَ ثُلُثِ الجَمِيعِ فَدُونَ، مِنْ أًجْلِ أَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ للصَّفْقَةِ، ولَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ البَائِعُ على المُبْتَاعِ رَطْباً ويَابِسَاً، وتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنْ يَبيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَ حَائِطِه بِمِائةِ دِينَارٍ، ويَسْتَثْنِي مِنْهُ ثَلاَثِينَ دِينَاراً كَذَا وكَذَا قَفِيزَاً (¬2)، إذا كَانَت الأَقْفِزَةُ المُسْتَثْنَاةُ قدرَ ثُلُثِ الحَائِطِ فَمَا دُونَ مِنْ جَمِيعِ ثَمَرِ الحَائِطِ، فإنْ أَصَابَ ثَمَرُ ذَلِكَ الحَائِطِ جَائِحَةٌ بالثُّلُثِ فَمَا فَوْقَهُ وُضِعَ عَنِ المُشْتَرِي مِنَ الكَيْلِ المُسْتَثْنَى بِقدرِ الجَائِحَةِ مِنَ الجَمِيعِ، فإذا كَانَ المُسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ، ودَخَلَتْهُ المُخَاطَرَةُ والمُزَابَنَةُ، لأَنَّ المُسْتَثْنَى يَكُونُ حِينَئِذٍ مَغلُومَ الكَيْلِ مِنْ مَجْهُولِ الكَيْلِ، فإذا وَقَعَ مِثْلُ هذا البَيع فُسِخَ، فإنْ جَدَّ المُبْتَاعُ الثَّمَرةَ رَدَّها، فإنْ فَاتَتْ رَدَّ مِثْلَ مَكِيلَتِها مِنْ صِنْفِها، فإن لم يَجِدْ مِثْلَها أَو لَمْ يعرِفْ لَها كَيْلاً كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُها يومَ جَذها، وأَخَذَ جَمِيعَ الثمَنِ مِنَ البَائِعِ، وأَخَذَ مِنْهُ أُجْرَةَ قِيَامِهِ على الثمَرَةِ وجِذَاذُه لها، وضَمَانُ الثمَرةِ مَا كَانَتْ قَائِمَةً في رُؤُوسِ النَّخْلِ مِنَ البَائِعِ. قالَ عِيسَى: وأَمَّا الذي يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِه وَيسْتَثْنِي لِنَفْسِهِ نِصْفَ الثَّمَرَةِ أَو ثُلثها ¬

_ (¬1) في الموطأ 4/ 899: (التمر) وأشار المحقق إلى أنه في نسخة أخرى (الثمر) وأن عليه علامة التصحيح، وأنه في نسخة أخرى: (الثمار)، وكل هذا يرجح ما جاء عند المصنف. (¬2) القفيز: مكيال كان يكال به قديما، ويختلف مقداره في البلاد، ويعادل تقريبا نحو ستة عشر كيلو جرام، ينظر: المعجم الوسيط 2/ 751.

أو جُزْءً مِنْها فَهُو جَائِزٌ، لأنَّهُ شَرِيكٌ للمُبْتَاعِ بِقَدرِ الجُزْءِ الذي اسْتَثْنَى مِنَ الثَّمَرةِ لِنَفْسِهِ. * قَوْلُ مَالِكٍ في الذي يَبِيعُ تَفرَ نَخْله ويَسْتَثْنِي لِنَفْسِهِ تمرَ نَخْلَةٍ أَو نَخَلاَتٍ يَخْتَارُها مِنَ الحَائِطِ ويُسَمِّي عَدَدَها أَنَّهُ لا بَأْسَ بِذَلِكَ، لأَنَّهُ شَيءٌ حَبَسَهُ مِنْ حَائِطِه، وبَاعَ مَا سِوَى ذَلِكَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَيْسَ يُعْجِني هذا القَوْلُ مِنْ مَالِكٍ، ولَم أَر عِنْدَهُ في هذِه المَسْأَلةِ حُجَّة، ولَقَد أَوْقَفَنِي فِيها نَحْواً مِنْ أَربَعِينَ لَيْلَةً يَنْظُرُ فِيها، ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَاها إلَّا مِثْلُ الغَنَمِ يَبيعُها الرَّجُلُ على أَنْ يَخْتَارَ مِنْها لِنَفْسِهِ شَاةً أو شِيَاهَاً يُسَمِّيها ويَذْكُرُ عِدَّتَها. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَيْسَت النَّخْلُ مِثْلُ الغَنَمِ، لأن الغَنَمَ يَجُوزُ بَيْعها مُتَفَاضِلَةً، والتَّمْرَ لا يَجُوزُ فِيها التَّفَاضُلِ، قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإنْ وَقَعَ مِثْلُ هذا البَيْعِ أَجَزْتُهُ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِيهِ (¬1). قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإذا اسْتَئْنَى البَائِعُ لِنَفْسِهِ عَدَدَ أُصُولٍ مِنَ الحَائِطِ الذي بَاعَهُ ولَم يَشْتَرِطْ أَنْ يَخْتَارَها جَازَ البَيع وكَانَ البَائِعُ شَرِيكَاً للمُبْتَاعِ بقَدرِ عَدَدِ تِلْكَ الأُصُولِ التي اسْتَثْنَاها لِنَفْسِهِ في جَمِيعِ الحَائِطِ الذي بَاعَ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: الجَنِيبُ مِنَ التَّفرِ هُوَ أَطْيَبُ التَّمر، والجَمعُ مِنَ التمرِ هُوَ أَصنَاف مُخْتَيفَةٌ تُجْمَعُ، فَيَكُونُ مِنْبها الطَّيِّبُ والوَسَطُ والدُّونُ، وإنَّمَا نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامِلَهُ على خَيْبَرَ على ابْتِيَاعِ صَاعٍ مِن تجنِيبٍ بِصَاعَيْنٍ مِنْ جَمعٍ لأَنهُ رِبَا، إذ لا يُبَاعُ التَمرُ بالتمرِ إلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، وإنَّمَا لَمْ يَنْقُضْ تِلْك الصَّفْقَةَ لأَنَّهُ كَانَ ¬

_ (¬1) نقل قول مالك وتعقيب ابن القاسم عليه: أبو عبيد القاسم بن خلف الطرطوشي في كتابه التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة ص 98، وابن عبد البر في الإستذكار 7/ 145 - 146، وّقال أبو عبيد: وقول مالك في ذلك أولى بالصواب عندي.

ذَلِكَ قَبْلَ نزولِ آيةِ الرِّبا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيها: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، ثُمَّ عَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عامِلَهُ كَيْفَ يَصِلُ إلى أَخْد الطَّيِّبِ مِنَ التمرِ، فقالَ: "بعٍ الجَمعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيباً"، يُرِيدُ: إذا لم يَكُن البَيع والإبْتَيَاعُ مِنْ رَجُلى وَاحِدٍ، لأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ التمرُ بالتّمرِ مُتَفَاضِلاً، وتَكُونُ الدَّرَاهِمُ بِيْنَهُما مُلْغَاةً. قالَ أَبو عُمَرَ: لا بَأْسَ أَنْ يَخْلِطَ التَّمْرَ وشِبْهِه بَعْضَهُ بِبَعْضٍ للأَكْلِ الطَّيِّب مَعَ الدُّونِ، وأَمَّا عِنْدَ البَيع فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلِطَ دَنِيءٌ بجَيِّدٍ لأَنَّهُ غِشٌّ ولا يَحِلُّ الغِشَّ. * قالَ أَبو مُصعَبٍ الزُّهْرِيُّ: مَعنَى قَوْلِ [سَعِد] (¬1) حِينَ سُئِلَ عَنِ البَيْضَاءِ بالسُّلْتِ، فقالَ: (أيَّهُمُا أَفْضَلُ؟)، يُرِيدُ: أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ في الكَيْلِ، فَلِهذا نَهى عنهُ إلَّا مِثْلاً بِمِثْل، ومَنْ بَاعَ صَاعَاً مِنْ تَمر بِصَاعٍ مِنْ رُطَب دَخَلهُ التَّفَاضُلُ بينَ التَفرِ، لأَنَّ الصَّاعَ مِنَ الرُّطَبِ إذا يَبَسَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَاع مِنْ تَمْرٍ فَيَكُونُ التَّمْرُ بالتَّمْرِ لَيْسَ مِثْلا بِمِثْلٍ، ولا بَأسَ بالرُّطَبِ بالرطَبِ مِثْلاً بِمِثْل إذا كَانَ يَداً بِيَدٍ. قالَ أَبو عُمَرَ: مَغنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحَدِيثِ: "أينْقُصُ الرّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالَ: نَعم" هذا الحَدِيثُ أَصل في الرَّدِّ إلى أَهْلِ الصَّنَاعَاتِ في العُيُوبِ، وذَلِكَ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَفهمَ أَهْلَ النَّخْلِ عَمَّا يَعرِفُونَهُ فَعَرَّفوهُ. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (سعيد)، وهو خطأ، وسعد هو ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

تفسير بيع المزابته، إلى آخر باب بيع الفاكهة

تَفْسِيرُ بَيع المُزَابَتهِ، إلى آخِر بَاب بَيْعِ الفَاكِهةِ أَصلُ المُزَابَنَةِ في كَلَامِ العَرَبِ: المُدَافَعَةُ، ومِنْهُ قِيلَ: زَبَانِيَةُ النَّارِ، لأَنَّهُم يَدْفَعُونَ أَهْلَها فِيها، فَصَارَ المُتَعَامِلاَنِ بِمَا فِيه مُزَابَنَةً قَاصِدِينَ إلى دَفْعِ الحَقّ الذي كَانَ يَلْزَمُهُمَا في البَثعِ، فَمَن اشْتَرَى ثَمَراً في رُؤُوسِ النَّخْلِ بِتمرٍ كَيْلاً، أَو اشْتَرى عِنَباً بِزَبِيب كَيْلاً خَالَفَ قَوْلَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "التَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَيدَاً بِيَدٍ" (¬1) لِعَدَمِ المُمَاثَلَةِ والمُنَاجَزَةِ. قالَ: والمُحَاقَلَةُ المَنْهِيُّ عَنْها هِيَ كِرَاءُ الأَرْضِ بالحِنْطَةِ، وهذا لَا يَجُوزُ، لأَنَّةُ يَدخُلُه طَعَام بِطَعَامٍ إلى أَجَلٍ، ورَوَى جَابَرُ بنُ عبدِ اللهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنِ المُزَابَنَةِ، والمُحَاقَلةِ، والمُخَابَرَة" (¬2). قالَ ابنُ خَالِدٍ (¬3): كَريُ الأَرضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنها هِيَ المُخَابَرةُ، ومِنْ هذا قِيلَ للزارِعِ الخَبِيرُ، لأَنَّهُ يُخْبِرُ الأَرضَ بِزِرَاعَتِهِ إيَّاها. قالَ مَالِكٌ: المُزَابَنَةُ بَيع مَكِيلٍ بِجُزَافٍ مِنْ صِنْفِهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ في الكَيْلِ. * قالَ عِيسَى: الخَبَطُ وَرَقٌ تعْتَلِفُهُ الجَمَالُ، يُخْبَطُ لَها بالفَضَاءِ فَتَأْكُلَهُ، والقَضْبُ عَلَف تَعتَلِفُهُ الدَّوَابُّ، والكُرْسُفُ هُوَ القُطْنُ، فإذا لَمْ يَعلَمُ صَاحِبُ الخَبَطِ، أو القَضْبِ، أو القُطْنِ وَزْنَ ذَلِكَ ولَا عَدَدَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فقالَ لَهُ: زِنْهُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1583) و (1584)، من حديث عبادة، ومن حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) رواه مسلم (1535)، بإسناده إلى جابر به. (¬3) هو أحمد بن خالد بن الجبّاب القرطبي الإِمام الفقيه، وتقدم التعريف به.

فِمَا نَقَصَ مِنْ كَذَا وكَذَا رَطْلاً فأنا أَغْرِمُ لَكَ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ، ومَا زَادَ فَهُو لِي بِسَببِ ضَمَانِي لَكَ مَا يَنْقُصُ، أو قالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ في ثَوْبهِ، كَانَ هذا مِنَ الغَرَرِ والقِمَارِ، وَهُو مِنْ أَكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ الحَرَامِ الذي لا يَجُوزُ أَكْلُهُ، وتَدخُلُهُ أَيْضَاً المُزَابَنَةُ، لأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ كَيْلاً مَعلُومَاً أو وَزْناً معلُومَاً يَضْمِنُهُ عَنْ وَزْنٍ أَو كَيْلٍ مَجْهُولٍ لا يُعرَفُ كَيْلَهُ ولَا وَزْنَهُ، ومِثْلُ هذِه المَسْأَلةِ الشَّبَهُ الذي ذَكَرَهُ مالك في المُوطَّأ، والشَّبَهُ: الصفْرُ الأَحمَرُ الذي يَشْبَهُ الذَّهبُ (¬1)، ولِذلِكَ قِيلَ لَهُ الشَّبَهُ، والآنُكُ هُوَ القِصدِيرُ، والكَتَمُ هُو شَيءُ يُصبَغُ بهِ الشّعرُ يُسَوِّدُه قَلِيلاً، والسَّلِيخَةُ هِي عِصَارَةُ حَبِّ البَانِ الزَّيْتِ (¬2) الذي يَخْرُجُ مِنَ الحَبِّ قَبْلَ أَنْ يَغْلِي على النَّارِ، ويُطْرَحُ فِيهِ الكَافُورُ والطِّيبُ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ باناً طَيِّباً. قالَ الأَبْهرِيُّ: البُيُوعُ على أَربَعَةِ أَوْجُهٍ: بَيع الأَعيَانِ الحَاضِرَةِ. وبَيْعُها إذا كَانَتْ غَائِبَةً على وَضفِ السَّامِعِ، أَو وَضفِ غَيْرِه، ولَا يَجُوزُ النَّقْدُ في هذا إلَّا مَا كَانَ مَأمُوناً لا يَخْتَلِفُ كالدُّوُرِ والأَرَضِينَ. والوَجْهُ الثَّالِثُ: السَّلَمُ في شَيءٍ مَوْصُوفٍ إلى أَجَلٍ مَعلُوم، ولَا يَكُونُ في شَيءٍ بِعَيْيهِ. والوَجْهُ الرَّابعُ: السَّلَفُ، وَهُوَ مَعرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ، يَسْلِفُ الرَّجُلُ إلى بَائِعِ الفَاكِهةِ أَو الرُّطَبِ أو الخَبَّازِ أَو الجَزَّارِ في شَيءٍ مَعلُوم [وَوَقْتٍ] (¬3) مَعلُومٍ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيتَهِ الإرْتفَاقُ، و [إنَّ] (¬4) بالإنْسَانِ حَاجَةً إلى أَن يَأخُذَ لِعِيالِهِ كُلَّ يَوم شَيْئاً معلُوماً، ولَو أَخَذَ ذَلِكَ المُشْتَرِي كُلَّهُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ لَفَسَدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ولا ¬

_ (¬1) الشبه -بفتح المعجمة والموحدة- أعلى النحاس، يشبه المذهب، ينظر: شرح الزرقاني 3/ 193. (¬2) البان: نوع من الشجر، سبط القوام، ليّن ورقه كورق الصفصاف، ويشبّه به النساء الحسان في الطول واللين، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 77. (¬3) ما بين المعقوفتين كتبه الناسخ في الحاشية لكنه لم يظهر في التصوير، وقد اجتهدت ما رأيته مناسبا للسياق. (¬4) جاء في الأصل: (إذ)، وما وضعته هو المناسب مع سياق الكلام.

تَجُوزُ هذِه الصَّفْقَةُ إلَّا أَنْ يُسَمِّي قَدرَ ما يَأخُذُ مِنْ ذَلِكَ في كُلِّ يَوْمٍ، لأَنَّهُ إذا لم يَكُن مَعلُوماً دَخَلَهُ الغَرَرُ، إذ لا يَنرِي البَائِعُ كَيْفَ يَدفَعُ، ولا المُشْتَرِي كَيْفَ يَقْبِضُ، فإذا كَانَ مَا يَأْخُذُ في كُلِّ يَوْمٍ مَعلُوماً سَلَفَا مِنَ الغَرَرِ صَحَّ البَيْعُ بَيْنَهُمَا. قالَ عِيسَى: مَن اشْتَرَى رُطَباً مِنْ نَخْل مُسَمَّاة كَيْلاً أَو وَزْنا فَقَبَضَ بعضَ مَا اشْتَرَى ثُمَّ فَنِيَ الرُّطَبُ، أَو اشْتَرَى لَبَناً مِنْ غَنَمٍ مُسَمَّاةٍ كَيْلاً يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئأ معلُوماً فَفَنِيَ رُطَبُ ذَلِكَ الحَائِطِ، أو انْقَطَعَ لَبَنُ تِلْكَ الغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوفِي المُشْتَرِي مَا اشْتَرى مِنْ ذَلِكَ فإنَّهُما يَتَحَاسَبَانِ على عَدَدِ الكَيْلِ الذي قَبَضَهُ المُشْتَرِي مِنَ البَائِعِ، وَيرُدُّ عليهِ البَائِعُ بِقَدرِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَقْبِضُهُ منهُ ولَا يُؤَخرُهُ بهِ، فإنْ أَخَّرَهُ به دَخَلَهُ الدَّيْنُ بالدَّيْنِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَا يُسْلِمُ في رُطَبِ حَائط بِعَيْيهِ إلَّا إذا أَزْهى وصَارَ بُسْرَاً، ويُشْتَرطُ أَنْ يأْخُذَ ذَلِكَ رُطَباً، ويَضْرِبَ فى ذَلِكَ أَجَلاً لا يُتْمِرُ ذَلِكَ الرُّطَبُ إلى ذَلِكَ الأَجَلِ، وُيسَمِّ ما يأَخُذُ مِنْ ذَلِكَ في يَوْم، وَيشْرَعُ المُشْتَرِي في الأَخْذِ عندَ عَقْدِ الشَّرَاءِ، ويُقَدِّمُ رَأْسَ المَالِ أَو يُؤخِّرُهُ إن شَاءَ، لأَنَّهُ شَيءٌ بِعَيْنهِ ولَيْسَ هُوَ بِمَضْمُونٍ في الذِّمَّةِ. قالَ: ومَنِ اشْتَرَى مِنَ الرُّطَابِ وأَصحَابِ الحَوَانِيتِ فَيَنْقَطِعُ ذَلِكَ للشَّيءِ المُشْتَرَى مِنْ أَيْدِي النَّاسِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَوفي المُشْتَرِي جَمِيعَ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ، فإئهُ يَزجِعُ على البَائِعِ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ، ولَهُ أَنْ يَأخُذَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ مَا شَاءَ مِنَ الطَّعَامِ وغَيْرِه إذا لَمْ يُؤَخِّرهُ بهِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ في هذِه المَسْأَلةِ: إنَّهُ يَتَأَخَّرُ مَا بَقِيَ للمُشْتَرِي على البَائِع إلى السَّنَةِ المُقْبِلةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فقالَ: يُحَاسِبُ المُشْتَرِي صَاحِبَ الرُّطَبِ، ثُمَ يَأْخُذُ مِنْهُ بَقِيَّةَ رَأسِ مَالِهِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ طَلَبَ التَّأخِيرَ مِنْهُمَا بالبَاقِي إلى قَابِلٍ كانَ ذَلِكَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا على المُحَاسَبةِ فِيمَا قَبَضَ وفِيمَا بَقِيَ، فَيَأْخُذُ حِينَئِذٍ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ رَأْسِ

مَالِهِ على حِسَاب مَا قَبَضَ، أَو يَأخُذُ مِنْهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَيَّ سِلْعَةٍ شَاءَ، حَاشَا الطَّعَامِ، لَأَنَّهُ يَصِيرُ في الطَّعَامِ اقْتَضَاءُ طَعَامٍ حَاضِرٍ مِنْ طَعَامٍ مُؤَجَّلٍ، إذْ قد كَانَ لهُ أَنْ يُؤَخِّرُهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الرُّطَبِ أو مِنَ الفَاكِهةِ إلى قَلِيلٍ، فاَخَذَ مَكَانَهُ طَعَاماً مُعَجَّلاً، فَيَدخُلَهُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ لَيْسَ يَدَاً بِيَدٍ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وكَانَ يُخَفِّفُ ذَلِكَ أَضبَغُ بنُ الفَرَجِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ للمُسْلَمِ على البَائِعِ مِنْ ثَمَنٍ يَأْخُذُ فِيهِ طَعَاماً مُعَجَّلاً، وذَلِكَ جَائِزٌ، ولَو أَخَّرَهُ بهِ لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنَاً بِدَيْنٍ. قالَ أَبو المُطَرَفِ: روَى يَحيىَ بنُ يَحيىَ، عَنْ مَالِكٌ في الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ الرَّجُلِ الحَائِطَ، فِيهِ أَلْوَانٌ مِنَ النَّخِيلِ: العَجْوَةُ، والكَبيسُ، والعَذْقُ، فَيَسْتَثْنِي مِنْها البَائِعُ ثَمَرَ النَّخْلَةِ أو النَّخْلاَتِ يَخْتَارُها، وذَكَرَ المًسْالَةَ إلى آخِرهَا. ورَوَى ابنُ بكَيرٍ عَنْ مَالِكٌ: فَيَشْتَرِي مِنْها ثَمَرَ النَّخْلَةِ أَو النَّخَلاَتِ (¬1)، وهذا هُوَ الصَّحِيحُ، لأَنَّ المُشْتَرِي هُوَ الذي يُرِيدُ أَنْ يَخْتَارَها مِنْ حَائِطِ البَائِعِ، وهذا لا يَجُوزُ، لأَنَّهُ يدخُلَهُ التفَاضُلُ بينَ التَّمرِ، وقد بيَنَ مَالِكٌ وَجْة فَسَادِ هذِه المَسْأَلةِ في المُوطَّأ بِمَا أَغْنَى عَنْ تَفْسِيرِه ههُنا. قَوْلُ مَالِكٍ فِي الفَاكِهةِ التي تَيْبَسُ وتُنخَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ بَعضُها بِبَعضٍ إذا كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، إلَّا يَدأ بِيَدٍ، ومِثْلاً بِمِثْل، وهذا مِنْ قَوْلهِ يَدُلُّ على أَنَّها إذا كَانَتْ رَطْبَةً قَبْلَ أَنْ تَيْبَسَ أَنَّها تُبَاعُ مِثْلاً بِمِثْلٍ، كَيْلاً بِكَيْلٍ. وقد قالَ مَالِكٌ في كِتَابِ السَّلَمِ الثَّالِثِ مِنَ المُدَوَّنَةِ: أَنَّهُ لا بَأسَ بالرَّطْبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ (¬2). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا اخْتَلَفَتْ أَضنَاف الفَاكِهةِ اليَابِسَةِ المُدَّخَرةِ جَازَ أَنْ تُبَاعَ ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (107 أ)، نسخة تركيا. (¬2) المدونة 6/ 406.

مُتَفَاضِلَةً يَداً بِيَدٍ، وأَمَّا مَا لَا يُدَّخَرُ مِنْها كالقِثَّاءِ والبَطِّيخِ والتُّفَاحِ وشِبهِ ذَلِكَ، فالتَّفَاضُلُ في كُلِّ صِنْف مِنْها جَائِز يَدَاً بيد، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ إلى أَجَلٍ، لأَنَّها لَيْسَتْ أَقْوَاتا ولا تَشْبَهُ الفَاكِهةَ التي تُدخَرَ، لأَنَّ تِلْكَ تَجْرِي مَجْرَى الأَقْوَاتِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّفَاضُلُ في صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْها، ولَا تُبَاعُ إلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، ويَدَاً بِيَدٍ.

في بيع الذهب والورق، والمراطلة بهما والصرف

في بيَع الذَّهَب والوَرِقِ، والمُرَاطَلَةِ بِهِما (¬1) والصَّرْفِ قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للسَّعْدَينِ حِينَ بَاعَا الإنَاءَ مِنَ الفِضَّةِ أَو مِنَ الذَهبِ باَكْثَرَ مِنْ وَزْيهِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فقالَ لَهُمَا: "أربَيْتُمَا فَرُدَّا" قالَ أَبو المُطَرفِ: هذا أَصل في رَدِّ الرِّبَا، وأَنَّهُ لا قِيمَةَ للصِّنَاعةِ في المُرَاطَلَةِ، ومَن اشْتَرَى [دمى] (¬2) الوَرِقِ فقد أَربَى، وكَانَ السَّعدَانِ: سَعدُ بنُ عبَادَةَ، وسَعدُ بن مَالك. وفي هَذا الحَدِيثِ مِن الفِقْهِ: أن الغَنَائمَ تُبَاع بأَرضِ العَدُوِّ، وأَنَّ الإمَامَ يُقَدِّمُ على بَيْعِهِا أَهْلَ الأَمَانةِ والثِّقَةِ، ثُمَّ يَتَعَاهدُ ذَلِكَ بِنفْسِهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ صَوَاباً أَمْضَاهُ، ومَا كَانَ خَطَأً رَدَّهُ، والرِّبا لَا يَحِلُّ تَمَلكُهُ، و [إنَّه] (¬3) مَتَى وَقَعَ البَيْعُ به نُقِضَ. * قَول ابنِ عُمَرَ للصَّايغِ الذي سَالهُ عنْ بَيعِ الفِضة المَصُوغَةِ بالمَضْرُوبةِ مُتَفَاضِلَةً، فقالَ لَهُ: "لا تَبع ذَلِكَ إلَّا وَزْناً بوَزن" يُرِيدُ: أَن الصِّيَاغَةَ في الفِضَّةِ لا يُحتسَبُ بها في المُرَاطَلَةِ. * ولَيْسَ العَمَلُ في هذه المَسألةِ على إجَازَةِ مُعَاوِيةَ لِذَلِكَ، وقدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبو الدَّرْدَاء جينَ رَاجَعهُ في ذَلِكَ، حتَّى قَالَ: (لا أُسَاكنُكَ بأَرضٍ أَنْتَ فِيها) قالَ أَبو عُمرَ: هذِه قولَة شّدِيدَةٌ، وتَؤُولُ إلى مَعنَى الهُجرانِ الذي نَهَى عَنْهُ ¬

_ (¬1) المراطلة: هي بيع النفد بنقد من نوعه. (¬2) هذه الكلمة هكذا رسمت في الأصل، وقد قلبتها على أوجه كثيرة ولم أعرفها. (¬3) جاء في الأصل: (ان)، وما وضعته هو المناسب للسياق.

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قالَ: "لا يَحِلُّ لِمُسْلم أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَث" (¬1) فَذَكَزتُ قَوْلَ أَبي عُمَرَ لأَبي مُحَمّدٍ، فقالَ لِي: هذِه قِصَّةٌ اضْطَرَبتْ الرِّوَايةُ فِيها، فَرَوَاها أَهْلُ البَصرَةِ أَنَّها كَانَتْ بَيْنِ عِمرَانَ بنِ الحُصَيْنِ وبينَ مُعَاوِيةَ، ورَوَاها أَهْلُ الشَّامِ أنها كَانَتْ بينَ أَبي ذَر وبينَ مُعَاوِيةَ، فَاضْطَربتْ الرِّوَايةُ فِيها، وإنَّمَا أَدخَلَها مَالِكٌ في المُوطَّأ لِقَوْلِ عُمَرَ بنِ الخطَّاب: "لا تُبَاعُ الفِضَّةُ المَصُوغَةُ بالمَضْرُوبةِ إلَّا وَزْناً بِوَزْنٍ"، وقالَ أيضا: "الدِّينَارُ بالدِّينَارِ، والدِّرْهمُ بالدِّرْهَمِ، ولَا يُبَاعُ كَالِئٌ بِنَاجِزٍ" يَعنِي: لَا يُبَاعُ طَعَامٌ غَائِب بِطَعَامٍ حَاضِرٍ، كَانَ مِنْ صِنْفِهِ أَو مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ، ولَا يُبَاعُ شَيءٌ مِنَ العُرُوضِ بِشَيءٍ مِنْ صِنْفِهِ حَاضِرٌ بِغَائِب، وكَذَلِكَ جَمِيعُ الإدَامِ والأشْرِبةِ إلَّا المَاءُ وَحدَهُ، فإنَّهُ يُرَخَصُّ فِيه مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (لا رِبَا إلَّا فِي ذَهبٍ، أَو فِضَّةٍ، أَو مَا [يُكَالُ] (¬2)، أَو يُوَزَنُ، مِمَّا يُوكَلُ أَو يُشْرَبُ) قالَ عِيسَى: الرِّبا يَقَعُ عندَ مَالك فِيمَا ذَكَرَهُ ابنُ المُسَيَّبِ وغَيْرُهُ مِنَ الأَشْيَاءِ، يُعرَفُ ذَلِكَ على حَالِ نزولِها إذا تَعَامَلَ الرَّجُلاَنِ بالرِّبَا. وقالَ غيرُ عِيسَى: مَغنَى قَوْلِ ابنِ المُسَيَّب: لا رِبَا إلَّا في ذَهبٍ، أَو فِضَّةٍ، أو مَا يُؤْكَلُ أَو يُشْرَبُ، مِمَّا يُكَالُ، أَو يُوزَنُ، أَنًّ المُنَاجَزَةَ إذا لَمْ تَكُنْ في الذهبِ، أَو الوَرِقِ، أَوفي الأَطْعِمَةِ، والأَشْرِبةِ إذا بِيعَ بَغضُ ذَلِكَ ببَعضٍ غَيْرَ مُنَاجَزَةٍ، ولَا يَداً بِيَدٍ فإنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ رِبا، ولِذَلِكَ أَدخَلَهُ مَالِكٌ في المُوَطَّأ في بابِ المُنَاجَزَةِ، ولَم يَقْصِد ابنُ المُسَيَّبِ بِقَوْلهِ هذا إلى ذِكْرِ شَيءٍ مِنَ العُرُوضِ التي لَيْسَتْ مَأكُولَةً ولا مَشْرُوبَةً، فَيتأَوَّلُ عَلَيْهِ إجَازَةُ بَيع عَرْضٍ بِعَزضٍ مِنْ صِنْفِهِ مُتَفَاضِلاً إلى أَجَلٍ، هذا لَا يَقُولُهُ سَعِيدٌ، لأَنَّهُ رِبا، بِسَببِ التَّأخِيرِ، وَيجُوزُ ذَلِكَ يَداً بِيدٍ، لأَنَّ العُرُوضَ ¬

_ (¬1) رواه مالك (3365)، والبخاري (5727)، ومسلم (2560)، من حديث أبي أيوب الأنصاري. (¬2) جاء في الأصل: يؤكل، والتصويب من الموطأ.

لَيْستْ مِنَ العَيْنِ، ولَا مِنَ الأَقْوَاتِ التي مَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحَابُهُ بعدَهُ مِنْ بَيع بَعضِها بِبعضٍ مِنْ صِنف وَاحِدٍ، إلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَداً بِيَدٍ. * قَوْلُهُ: (قَطْعُ الدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمَ مِنَ الفَسَادِ في الأَرضِ)، قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا يَكُونَ هذا فِسَادَاً إذا جَرَت الدَّنَانِيرُ والدَّرَاهِمُ بينَ النَّاسِ عَدَداً لَا وَزْنا، فَيعمَدُ أَهْلُ الفَسَادِ إليها يَتَقَصُّونَها مِنْ حَوَالِيها، ثُمَّ يَتَبَايَعُونَ بِها، ويُغْرُونَ بِها النَّاسَ، فَهذا منَ الفَسَادِ في الأرضِ، وأَمَّا إذا جَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ بالوَزْنِ لم يَكْنُ قَطْعُها مِنَ الفَسَادِ في الأَرضِ، لأَنَّها تُجْمَعُ في المِيزَانِ، فَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ أَوْزَنَ مِنْ دَرَاهِمِ البَلَدِ الذي هُوَ فِيهِ، وكَانَتْ تَجْرِي عِنْدَهُم عَدَداً فَلَا يَتَقَصَّ دَرَاهِمَهُ الوَافِيةَ، ولْيَبِع تِلْكَ الدَّرَاهِمَ التي مَعَهُ بِذهب، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِذَلِكَ الذهبِ دَرَاهِمَ [جواز] (¬1) ذَلِكَ البَلَدِ الذي هُوَ فِيهِ، ولا يَكُونُ بَيْعُهُ وشِرَاؤُهُ مِنْ رَجُل وَاحِدٍ، لِئَلَّا يَكُونَ عَيْنٌ بأَكْثَرَ منهُ، ويَكُونَ الصَّرفُ بَيْنَهُما مُلْغَى. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَجَازَ أَهْلُ المَدِينةِ بَيْعُ المُصحَفِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الفِضَّةِ قَدرَ ثُلُثِ ثَمَنِهِ فأَدنَى أَنْ يُبَاعَ بالفِضَّةِ نَقْداً، وكَذَلِكَ السَّيْفُ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الفِضَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ بالفِضَّةِ، وكَذَلِكَ أَجَازُوُهُ في الذَّهَبِ إذا كَانَ الذَّهَبُ في المُصحَفِ أَو السَّيْفِ قَدرَ الثُّلُثِ فَدُونَ أَنْ يُبَاعَ بالذهبِ نَقْدَاً، ولا يَجُوزُ إلى أَجَلٍ. وأَجَازَ أَشْهبُ إلى أَجَلٍ. وحُجَّتُهُم في إجَازَةِ ذَلِكَ: قَوْلُ النبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "مَنْ بَاعَ عَبْداً ولَهُ مَالٌ فَمَالُهُ للبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ" (¬2)، وقَد يَكُونُ مَالُ العَبْدِ ذهبا أَو فِضَّةً، وَهُو يُبَاعُ بالذهبِ أو بالفِضَّةِ، فإذا كَانَ مَا فِي المُصحَفِ أو السَّيْفِ مِنَ الفِضَّةِ أَو الذّهبِ قَدرَ ثُلُثِ ذَلِكَ فَكَانَ تَبَعاً للصَّفْقَةِ، وإذا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ بِيعَ الذي فِيهِ الذَهبُ بالفِضَّةِ، والذي فِيهِ الفِضَّةُ بالذهبِ يَداً بِيَدٍ، ولَا يَجُوزُ إلى أَجَلٍ، لأَنَّهُ ¬

_ (¬1) كذا رسمت هذه الكلمة في الأصل، ولم أجد لها معنى، وكأنه يريد أن يشتري دراهم تشابه قيمة دراهم البلد الذي هوفيه. (¬2) رواه البخاري (2379)، ومسلم (1543)، من حديث ابن عمر.

يَصِيرُ في الآجِلِ بَيْعُ فِضَّةٍ وعَرضٍ نَقْداً بفِضةٍ إلى أَجَلٍ، أَو ذَهبا نَقْداً وعَرضَاً بِذَهبٍ إلى أَجَلٍ، ولَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لأَنَّ الذَّهَبَ بالفِضَّةِ رِبَاً، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ. وقَالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: إذا كَانَتِ الفِضَّةُ أو الذَّهَبُ في السَّيْفِ أَوفي المُصحَفِ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ بِيعَ ذَلِكَ بالعُرُوضِ، يَدَاً بِيَدٍ، وإلى أَجَلٍ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: بَيَّنَ النبيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ المُنَاجَزَةَ إذا لَمْ تَكُنْ في الصَّرفِ كَانَ ذَلِكَ رِبَاً، ولِذَلِكَ قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: (وإن استنَظَرَكَ إلى أَنْ يَلجَ بَيتَهُ فَلَا تُنْظِرهُ) ورَوَى غَيْرُ مَالِكٍ حَدِيثَ عُمَرَ هذا عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "الذّهبُ بالوَرِقِ رِبَاً، إلَّا هاءَ وَهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رِبَاً، إلَّا هاءَ وَهاءَ، والشَّعِيرُ بالشَعِيرُ رِباً، إلَّا هاءَ وَهاءَ، والمِلْحُ بالمِلْحِ رِباً، إلَّا هاءَ وَهاءَ" (¬1). وهكَذا أَيْضَاً رَوَاهُ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ عَنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومَعنَى قَوْلهِ: "هاءَ وَهاءَ" أَي: خُذْ وَاعطِي، يُرِيدُ يَدَاً بِيَدٍ. قَوْلُ ابنِ أَبي زَيْدٍ: لَمَّا ذَكَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحَدِيثِ أَعلَى الأَقْوَاتِ، وَهُوَ البُرُّ، وذَكَرَ أَقَلَّ المُؤْتَدِمَاتِ وَهُوَ المِلْحُ، أَلْحَقَ العُلَمَاءُ مَا لَمْ يُسَمَّ مِنْ قُوتٍ أَو إدَامٍ بِمَا سَمَّى مِمَّا يَشْبههُ في تَخرِيمِ التَّفَاضُلِ في الجِنْسِ الوَاحِدِ، وقَد نَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عامِلَهُ على خَيْبَرَ أَنْ يُبَادِلَ الجَمعَ بالجَنِيبِ مُتَفَاضِلاً، فَلَمَّا لم يَجُزْ ذَلِكَ في الجَنِيبِ مِنْهُ بالجَمْعِ، وَهُمَا اسْمَانِ، إلَّا أَنَّهُمَا في النَّفْع وفِي الخِلْقَةِ مُشْتَبهانِ كَانَ كَذَلِكَ كُلَّ مَا أَشْبَة التَّمرَ مِنَ الطَعَامِ. قالَ: ولَيْسَ إفْرَادُ الشَّعِيرِ بالتَّسْمِيةِ الذي يمنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ البُرِّ، وقَدْ جَمَعَ المُسْلِمُونَ بَيْنَ الضَّأنِ والمَعزِ في الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّعِيرِ والقَمْحِ أَنْ يُجْمَعَا في الزَّكَاةِ والبَيع والمُبَادَلَةِ، لأَنَّهُمَا صِنْفٌ وَاحدٌ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2134)، ومسلم (1586). (¬2) رواه مسلم (1587).

قالَ ابنُ أَبي زيدِ: فإن احتَجَّ محْتَجٌّ بِمَا يُرْوَى في حَدِيثِ عُبَادَةَ: "بِيعُوا القَمحَ بالشَّعِيرِ كَيْفَ شِئْتُم"، قِيلَ لِمَن احْتَجَّ بهِ: إنَّمَا هذا فُتْيا مِنْ نَاقِلِ الحَدِيثِ، ولَيْسَ هُوَ بِثَابِتٍ، وهذا السُّلْتُ مُفْرَدٌ باسْمِهِ، وقَد حَكَمَ لَهُ بِحُكمِ البُرِّ مَنْ يُخَالِفُنَا في الشَّعِيرِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ البُرِّ والشَّعِيرِ كَحُكْمِ البُرِّ والسُّلْتِ، وهذا مَا لَا خِلاَفُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينةِ، أَنَّ البُرَّ والشَعِيرَ صِنْفٌ وَاحِدٌ. * قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ صَرَفَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَوَجَدَ في الدَّرَاهِمِ درهماً زَائِفَاً فَرَدَّهُ على الصرَافِ أَنَّهُ يَنتقِضُ الصَّرفُ بَيْنَهُمَا، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الصرفِ المُتَأخِّر بعضَهُ. وقالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: إذا كَانَ الصّرفُ جَمْلَةَ دَنَانِيرَ فَوَجَدَ في الدَّرَاهِمِ زِيُوفَاً، أَنَّهُ يُنتقَصُ مِنْ ذَلِكَ الصرفِ دِينَارٌ وَاحِدٌ إذا كَانَت الزيُوفُ قَدرَ مَا يَقَعُ مِنَ الصرفِ لَهُ دِينَارٌ، فإن كَانَت أَكْثَرَ مِنْ صرفِ دِينَارٍ وَاحِدٍ انتقِصَ مِنَ الصَّرْفِ دِينَارَانِ. قالَ: فإنْ كَانَ قَابِضُ الدَّرَاهِم قد أَنْفَقَ الجِيَادَ مِنْها رَدَّ مِثْلها مَعَ الزِّيُوفِ، وانتقَضَ الصَّرفُ بَيْنَهُما. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: ويُرْوَى عَنِ الزهْرِيِّ أنَّهُ أَجَازَ الصَّرفَ بَيْنَهُمَا إذا أَبْدَلَ لَهُ الزِّيُوفَ التِّي رَدَّها إلى الصَّرَّافِ. قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ رَاطَلَ ذَهباً بِذَهبٍ وكَانَ بَيْنَ الذهبينِ فَضلُ مِثْقَالٍ، فأعطَاهُ صَاحِبُهُ قِيمَتَهُ مِنَ الوَرِقِ أَو غَيْرِها أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، إنَّمَا لَمْ يُجِزْ هذا لأَنهُ يَصِيرُ فِضة وذهبا بِذَهب، وكَذَلِكَ لَو أَعطَاهُ في المِثْقَالِ الرائِدِ عَرضَا لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ يَصِيرُ عَرضَاً وذَهبا بِذَهبٍ، وذَلِكَ غَيْرُ جَائز، لأَنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " الذهبُ بالذَّهبِ مِثْلاً بمِثْلٍ"، فإذا كَانَ مَعَ أَحَد مِنَ الذَّهبَيْنِ أَو الفِضَّتَيْنِ شَيْءٌ غَيْرَهُمَا خَرَجَاَ عَنْ حَدِّ المُمَاثَلَةِ التي أَبَاحَها النييُّ - عليهِ السلَامُ - في المُرَاطَلةِ، وكَذَلِكَ إنْ رَجَحَتْ إحدَى الذَهبَيْنِ أَو الفِضَّتَيْنِ فأَرَادَ صَاحِبُ الرجحَانِ أَنْ يُحَلِّلَ صَاحِبَهُ مِنَ الرُّجحَانِ لم يَجُزْ، لأَنَّهُ يَصِيرُ ذلِكَ فِضة أَو ذَهبا بأَكْثَرَ مِنْ وَزْها فَيَصِيرُ ذَلِكَ رِبَا، وإذا تَرَاطَلَ الرَجُلانِ وكَانَ ذَهَبُ أَحَدِهِمَا أَجْوَدُ مِنَ الآجِرِ، فَجَعَلَ

صَاحِبُ الجَيِّدِ مَعَ ذَهبهِ ذَهباً دُونَ صَاحِبهِ لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ يَخْرُجُ بِفعلهِ ذَلِكَ عَنِ المَعرُوفِ إلى حَدِّ المُكَايَسَةِ (¬1)، فَلَا يَصِيرُ الذَّهبُ بالذَّهبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وكَذَلِكَ يَصِيرُ إذا بَادَلَ حِنْطَةً جَيّدَة بحِنْطَة دُونَها، وجَعَلَ صَاحِبُ الجَيِّدَةِ مِنْهُما مَعَ حِنْطَتِهِ حِنْطَة دُونَها لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَصِيرُ الحِنْطَةُ بالحِنْطَةِ غَيْرَ مُمَاثَلةٍ بعضَها بِبَعض، فإذا كَانَتْ الحِنْطَةُ الجَيّدةُ كُلُّها خَالِصَة وكَانَتْ الدُّونُ كُلّبها في الجِهةِ الأُخْرَى جَازَ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَصِيرُ إحسَانا مِنْ قِبَلِ قَابِضِ ذَلِكَ، ولَوْ فَعَلَ أَيْضا في المذهب مِثْلَ ذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ، لأَنَّهُ دَفَعَ جَيِّدَ أَكْلِهِ وأَخَذَ دُونَ مَا دفعَ، فَصَارَ ذَلِكَ إحسَاناً مِنْهُ. * * * ¬

_ (¬1) المكايسة: هي المحاكرة والمضايقة في المساومة في البيع والشراء، وعدم السماحة فيه.

باب العينة وشبهها، وبيع الطعام إلى أجل

بابُ العِينَةِ وشِبْهِها، وبَيع الطَّعَامِ إلى أَجَلٍ إنمَا تَزجَمَ مَالِكٌ هذا البَابَ بِبَابِ العِينَةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بالعِينَةِ في الطعَامِ، فكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُم يُشَارِطُ الرَّجُلَ على أَنْ يَشْتَرِي لَهُ طَعَاماً بِثَمَنٍ، ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوفِيهِ بِثَمَنٍ إلى أَجَلٍ بأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ بهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ، فَنَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، وقالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلَا يَبِعهُ حتَى يَسْتَوْييهِ" فإذا ابْتَاعَ رَجُلٌ طَعَاماً واكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ فَقَن مَلَكَهُ وصَارَ في ذِمَّتِهِ، وأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ فَهُوَ في ذِمَّةِ البَائِعِ حتَى يَكِيلَهُ المُشْتَرِي، والدلِيلُ على أَنَّهُ في ذِمَّةِ البَائِعِ حتَى يَدفَعَهُ إلى المُشْتَرِي قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59]، فَالكَيْلُ على البَائِعِ، فَلَمَّا كَانَ الكَيْلُ عَلَيْهِ كَانَ في ذِمتِهِ حتَّى يدفَعَهُ إلى المُشْتَرِي، وأَمَّا مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً جُزَافاً فَلَهُ بَيْعُهُ بأَكْثَرَ مِمَّا ابْتَاعَهُ به، وإن لَمْ يَنْقُلْهُ مِنْ مَكَانِهِ الذي ابْتَاعَهُ فِيهِ، لأَنَّ بِعَقْدِ الصَّفْقَةِ ودَفْعِ الثَّمَنِ دَخَلَ في ذِمَّةِ المُشْتَرِي، والجُزَافُ هُوَ مَا يَسْتَوِي فِيهِ عِلْمُ البَائِعِ والمُشْتَرِي، فإذا عَلِمَ البَائِعُ كَيْلَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُجَازَفَةً وكَتَمَ المُشْتَرِي كَيْلَهُ كَانَ بالخِيَارِ، إنْ شَاءَ قَبَضَهُ، وإنْ شَاءَ رَدَّهُ على البَائِعِ بِمَا كَتَمَهُ إيَّاهُ، وهذا حُكْمُ العُيُوبِ المَكْتُومَةِ في السِّلَعِ المَبِيعَةِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ في مَسْأَلةِ الصكُوكِ التي كَرِهها زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ إنَّمَا هي صُكُوك مَكْتُوبَة تَخْرُجُ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ لأَقْوَامٍ بأَعيَانِهِم، فِيها أَعدَادٌ مِنَ الطَّعَامِ لِكُل وَاحِدٍ على قَنرِ مَنْزِلَتِهِ، عَطَايَا لَهُم لَيْسَتْ أَجْراً، ولَا عِوَضَاً مِنْ شَيءٍ، فَيَبِيُعَونَ ذَلِكَ الطَّعَامَ المَكْتُوبَ في تِلْكَ الصُّكُوكِ مِنْ قَوْمٍ مِنَ التُّجّارِ، فَيَنْهضُ

المُشْتَرُونَ إلى [الهدايين] (¬1) فَيَقْبِضُونَ مِنْهُم تِلْكَ الأَطْعِمَةِ لأَنْفُسِهِم، فَمِنْ هؤُلاَءِ التُّجّارِ مَنْ بَاعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ الذي في تِلْكَ الصُّكُوكِ مَكْتُوبٌ مِنْ غَيْرِه بِرِبْح قَبْلِ أَنْ يَقْبضَهُ مِنَ [الهدايين]، فَسُئِلَ زَيْدُ بنُ ثَابِت، فقالَ: (هذا رِبَا)، لاَنهُم ابْتَاعُوا طَعًاماً مَكِيلا وبَاعُوا مِنْ غَيْرِهِم قَبْلَ أَنْ يَسْتَوفُوهُ، فَرَدَّ ذَلِكَ مَروَانُ بنُ الحَكَمِ وفَسَخَ البَيْعَةَ الآخِرَةَ وأَبْقَى البَيْعَةَ الأُولَى، ولَوْ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ أَخَذَهُ أَهْلُ العَطَايا على خِدمة يَخْدِمُونَها لَمْ يَجُزْ لَهُم أَنْ يَبِيعُوهُ حتَّى يَقْبِضُوهُ، لأَنَّهُم يَبْتَاعُونَهُ حِينَئذٍ بِخِدمَتِهِم فَلَا يَبِيعُوهُ حتَّى يَقْبِضُوهُ لأَنْفُسِهِم. قَالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا كَرِة ابنُ المُسَيَّبِ لِمَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً مِنْ طَعَامِ الأَرزَاق أَنْ يُسْلِمَ إليه في طَعَامٍ، ويَنْوِي أَنْ يُوفيَ الذي أَسْلَمَ إليه في الطَّعَامِ أن يُوفِيهِ إيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ الذي ابْتَاعَهُ مِنْ طَعَامِ الأرزَاقِ، وإنَّما كَرِة ذَلِكَ لأَنَّهُ صَارَ بِنيتِهِ هذِه بَائِعَاً لِطَعَامٍ قَبْلَ قَبْضِهِ. وقد خَفَّفَ هذا أَشْهبُ، وكَرِههُ ابنُ القَاسِمِ. قالَ أَبو المُطَرّفِ: إنَّما كُرِة أَنْ يَقْتَضِيَ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ بِيعَ إلى أَجَلِ طَعَامٍ لأَنَّهُ يَصِيرُ الطعَامُ بالطَّعَامِ لَيْسَ يَداً بِيَدٍ، والثَّمَنُ بَيْنَ البَائِعِ والمُشْتَرِي مُلْغَى، وأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ على رَجُلٍ ثَمَنٌ مِنْ طَعَامٍ بَاعَهُ مِنْهُ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ رَجُل آخَرَ طَعَاماً فأَحَالَ بِثَمَنِ هذا الطَّعَامِ الذي بَإعَهُ مِنْهُ على الذي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الطَّعَامِ الأَوَّلِ لمِ يَكُنْ بِهذا بَأْسٌ، وإنَّمَا يَكُونُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إذا كَانَ البَيع والإبْتِيَاعُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لأَنَّهُ يَكُونُ طَعَاماً بِطَعَامٍ ليْسَ يَدَاً بِيَدٍ، والثَّمَنُ بَيْنَهُمَا مُلْغَى. * * * ¬

_ (¬1) كذا رسمت هذه الكلمة في الموضعين، وقد قلبتها من أوجه مختلفة فلم أجد لها معنى، ورجعت إلى كثير من كتب الحديث والفقه، فلم أصل إلى شيء.

باب السلفة في الطعام، إلى آخر باب الحكرة

باب السُّلْفَةِ في الطَّعَامِ، إلى آخِرِ بَابِ الحكْرَةِ ورَوَى ابنُ عبَّاسٍ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَلَفَ في تَمرٍ فَلْيُسْلِفْ في صِنْفٍ معلُومٍ، وكَيْلٍ مَعلُومٍ، وأَجَلٍ معلُومٍ" (¬1). بهالَ أَبو المُطَرِّفِ: هذا الحَدِيثُ أَصلٌ في السَّلَمِ، فإذا لَمْ يَحضَرِ السَّلَمُ بالصِّفَةِ والكَيْلِ والأَجَلِ دَخَلَهُ الغَرَرُ، لأَنَّ المُشْتَرِي لَا يَدرِي حِينَئِذٍ مَا اشْتَرَى، ولَا البَائِعُ مَا بَاعَ، ولَا يَنرِي البَائِعُ مَتَى يَدفَعُ، ولا المُشْتَرِي مَتَى يَقبِضُ، وكَذَلِكَ إذا لم يُقَذمُ المُشْتَرِي رَأْسَ المَالِ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بالدَّيْنِ، وقد رُخِّصَ في أَنْ يَتَاَخَّرَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ اليومَ واليَوْمَيْنِ بعدَ عَقْدِ الصفْقَةِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَ بَيعُ الزرعِ إذا يَبَسَ لأَنَّهُ قَدْ سَلِمَ مِنَ العَاهَاتِ، وأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ وَييْبَسَ فَشِرَاؤُهُ غَرَرٌ، إذ لَا يدرِي هلْ يَتِمُّ أَمْ لا، ولَم يَجُزْ بَيْعُهُ بعدَ أَنْ يَيْبَسَ على أَنْ يَكُونَ على البَائِعِ دَرسُهُ وتَذْرِيَتُهُ، لأَنه إنَّما بَاعَ مِنْهُ الآنَ مَا يَخرُجُ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَرئي فَيَدخُلُهُ الغَرَرُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَتْ الإقَالَةُ في الطَعَامِ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لأَنه فِعل مَغرُوف إذا قَبَض المَقِيلُ رَأْسَ مَالِهِ الذي دَفَعَهُ فِيهِ ولَم يُؤَخِّرْهُ بهِ، فإنْ أَخَّرَهُ دَخَلَهُ الديْنُ بالديْنِ، وكَذَلِكَ إنْ قَبَضَ غَيْرَ رأْسِ مَالِهِ الذي دَفَعَهُ أَوَّلاً صَارَ بَيع الطعَامِ قَبلَ أَنْ يَسْتَوفِي، وإذا حَلَّ أَجَلُ الطَّعَامِ المُسْلَمِ فِيهِ فَدَفَعَ الذي عَلَيهِ السَّلَمَ أَفْضَلَ مِنَ الصِّفَةِ التي عَلَيْهِ أَو دُوثَها لم يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، لأَنَّها تَكُونُ حِينَئذٍ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2124).

مُبْدَلَةً، إنْ أَعطَاهُ أَفْضَلَ فَهُوَ إحسَانٌ مِن قِبَلِ الدَّافعِ، وإنْ دَفَعَ أدنَى مِنَ الصِّفَةِ فَقَبلَها وَهُوَ تَجَاوُزٌ مِنَ القَابضِ وصَارَ ذَلِكَ مُبَادَلَةٌ فإنْ دَفَعَ إليه مِنْ غَيْرِ الصِّفَةِ التي سَلم إليه فِيها لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ يَدخُلُهُ بَيع الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى، ولَم يَكُنْ حِينَئِذٍ مُبَادَلَةً. * قالَ أَبو المُطرفِ: جَعَلَ [ابنُ مُعَيْقِيبٍ] (¬1) الدَّوْسِي وسَعدُ بنُ أبي وَقاصٍ القَمحَ والشعِيرَ صِنْفَاَ وَاحِدَاً في مُبَادَلةِ بَعضِهِ بِبَعضٍ، فَقالا فِيهِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، ويَدَاً بِيَدٍ،؛ لأَنَّهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، وبِهذا قالَ أَهْلُ المَدِينَةِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا كَرِهَ ابنُ المُسَيَّبِ لِمَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً بِدِينَارٍ ونِصْفِ درْهَمٍ أَنْ يُعطِي مَعَ الدِّينَارِ طَعَاماً لِنِصْفِ الدّرهمِ الزَّائِدِ على الدِّينَارِ، لأَنَّهُ يَصِير ذلِكَ طَعَاماً وذهباً بِطَعَامٍ، فَيدخُلُهُ الطَّعَامُ بالطَّعَامِ لَيْسَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وكَذَلِكَ إنْ أَعطَاهُ في النّضفِ الدِّرهمِ طَعَاما مِنَ الطَّعَامِ الذي ابْتَاعَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ دَخَلَهُ بَيْعُ الطَّعَامٍ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى، فإذا دَفَعَ إليه دِينَارَاً أَو دِرْهَماً وأَخَذَ بقِيَّةَ دِرْهَمهِ طَعَاماً جَازَ ذلِكَ، لأَنَّهُ يَصِيرُ دِينَاراً ودَرهما في طَعَامٍ، وإنَّمَا تَقَعُ مثلُ هذِه الصَّفْقَةِ في بَلَدٍ لا يَجْرِي فِيهِ إلَّا الدَّرَاهِمُ الصِّحَاحُ، وأَمَّا إذا جَرَتْ فِيهِ القِطَعُ والفُلُوسُ وَجَدَ المُشْتَرِي السَّبِيلَ إلى دَفْعِ دِينَارٍ ونصْفِ دِرْهَمٍ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وَجْهُ كَرَاهِيةِ مَالِكٍ لِمَنْ سَلَمَ في طَّعَامٍ إلى أَجَلٍ مَحَلَّ الأجَلِ أَنْ يَبِيعَ مِنَ الذي عَلَيْهِ الطَعَامُ طَعَاما بِثَمَنٍ إلى أَجَلٍ ثُمَّ يَقْبضُ ذَلِكَ الطَّعَامَ مِنَ الذي بَاعَهُ مِنْهُ عَنْ سَلَفَهِ الذي لَهُ عَلَيْهِ, لأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: معيقب، والصواب ما أثبته كما في الموطأ، وقال ابن عبد البر في الإستذكار 7/ 218: هكذا روى يحيى هذا الحديث فقال فيه: عن ابن معيقيب، وتبعه ابن بكير وابن عفير، وأما القعنبي وطائفة فإنهم قالوا فيه: عن معيقيب أ. هـ قلت: وقد بني الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرحه على رواية يحيى وابن بكير، فما أثبته هو الصحيح.

وتَفْسِيرُ ذَلِكَ: رَجُلٌ سَلَّمَ إلى رَجُلٍ دِينَاراً في مُدي مِنْ قَمحٍ إلى أَجَلٍ (¬1)، فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ تَقَاضَاهُ إيَّاهُ فَلَم يَجِنهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّ السَّلَمِ: أَبِيعُكَ مُدْياً مِنْ قَفحٍ عِنْدِي بِدِينَارَيْنِ إلى أَجَلٍ، ثُمَّ أَقْبِضُ مِنْكَ بِهذا المُدْيِّ عَنِ المُدْيِّ الذي سَلَّمتُ إليكَ فِيهِ، فَصَارَ أنْ بَاعَ مُدياً قَبْلَ أَنْ يَقْبضَهُ بِثَمَنٍ إلى أَجَلٍ، فَيَدخُلُهُ بَيع الطَّعَام قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى، لأَنَّ المُدْيَّ الذي بَاعَهُ أَمَّنَهُ أُخْرَى بِدِينَارَيْنِ قَدْ صَرَفهُ [إليه] (¬2)، وصَارَتِ الدِّينَارَانِ ثَمَناً للمُديِّ المُسْلَمِ فِيهِ، ويَدخُلُهُ أيضاً دَراهِمُ بأَكْثَرَ مِنْها إلى أَجَلٍ، وكأَنَّهُ أَسْلَفَهُ دِينَاراً نَقْداً في دِينَارينِ إلى أَجَلٍ، ويَدخُلُهُ أَيضَاً دَرَاهِمَ باَكْثَرَ مِنْها إلى أَجَلٍ، ويَدخُلُهُ أَيْضَا فَسْخُ دَيْنٍ في دَيْنٍ، وذَلِكَ أَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ مُديّ مِنْ طَعَامٍ فَفَسَخُهُ في دِينَارَيْنٍ إلى أَجَلٍ، وهذا حَرَامٌ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَحِل للرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ طَعَاماً بكَسْرٍ مِنْ درْهَمٍ على أَنْ يُعطِي بِذَلِكَ الكَسْرِ طَعَاما إلى أَجَلٍ، لأَنَّهُ يَصِيرُ الطَعَامُ بالطَعَامِ لَيْسَ يَداً بِيَدٍ، والكَسْرُ بَيْنَهُما مُلْغَى، وأَمَّا إذا أَخَذَ طَعَاماً بِكَسْرِ درهم إلى أَجَلٍ ثُمَّ دَفَعَ دِرهماً وأَخَذَ بِبَقِتتِهِ طَعَامَاً لَمْ يَكُنْ به بَأْس، لأَنَّهُ صَارَ طَعَاماً كُلَّهُ بِفِضَّةٍ. * قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ بَاعَ طَعَاماً جُزَافَا فإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِي مِنْهُ كَيْلاً قَدرَ ثُلُثِ ذَلِكَ الطَّعَامِ المَبِيعِ فَدُونَ، فإنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُلُثِ لَمْ يَجُزْ. قالَ عِيسَى: مَعنَاهُ أَنْ يَسْتَثْنِي ذَلِكَ البَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ المُبْتَاعُ على ذَلِكَ الطعَامِ ويَكُونُ مِنَ المُسْتَثْنَى مِنَ الطَّعَامِ مُقَاصَّاتٍ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَ بهِ البَائعُ أَوَّلاً، فإذا وَقَعَ الإسْتِثْنَاءُ بعدَ أَنْ غَابَ المُبْتَاعُ [عَنِ] (¬3) الطعَامِ أَو اشْتَراهُ مِنْهُ بِنَقدٍ بأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَهُ بهِ أَوَّلاً لَمْ يَصلُحْ، لأَنَّهُ بَيْعٌ وسَلَفٌ، وذَلِكَ أَنْ البَائِعَ الأَوَّلَ بَاعَ طَعَاماً جُزَافاً ولم يَنْقُدِ الثَّمَنَ فَقَبَضَهُ المُشْتَرِي وغَابَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ابْتَاعَ ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية 4/ 310: والمدي مكيال لأهل الشام يسع خمسة عشر مكوكا، والمكوك صالح ونصف، وقيل: أكثر من ذلك. (¬2) جاء في الأصل: إليك، وهو خطأ مخالف لسياق الكلام. (¬3) جاء في الأصل: على، وما وضعته هو الصحيح المناسب للسياق.

البَائِعُ مِنَ المُشْتَرِي مِثْلَ ثُلُثِ تِلْكَ الصُّبْرَةِ كَيْلاً (¬1)، فَصَارَ بَيْعَاً وسَلَفَاً، وذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ صُبْرَةً على إنْ أَسْلَفَهُ مِنْها الكَيْلَ الذي أَخَذَهُ مِنْهُ آخِراً، وَهُوَ الثُلُثُ الذي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسهِ مِنَ الصُّبْرَةِ المَبيعَةِ، وكَذَلِكَ إذا ابْتَاعَهُ مِنْهُ بِنَقَدٍ بأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَهُ بهِ أَوَّلاً دَخَلَهُ البَيع والسَّلَفُ، لأَنَّهُ يَصِيرُ مَا يَحُطُهُ مِنْ ثَمَنِ ثُلُثِ ذَلِكَ الطَّعَامِ سَلَفاً أَسْلَفَهُ إيَّاهُ، يَقَبْضُ مِنْهُ تِلْكَ الحَطِيطَةَ إذا قَبَضَ ثَمَنَ الصُّبْرَةِ (¬2)، فإذا وَقَعَ مِثْلَ هذا البَيع فُسِخَ، فإنْ فَاتَ ذَلِكَ غُرِمَ قَابِضُ الصُّبْرَةِ قِيمَتَها يَوْمَ قَبَضَها، وإذا كَانَ المُسْتَثْنَى مِنَ الصُّبْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ كَيْلِها دَخَلَتْهُ المُزَابَنَةُ، لأَنَّ الطَّعَامَ المُسْتَثْنَى مِنَ الصُّبْرَةِ المَبيعَةِ مَعلُومٌ كَيْلُهُ مِنْ مَجْهُولٍ كَيْلِهِ، فَيَنخُلُهُ بَيع مَغلُومٍ بِمَجْهُول مِنْ صِنْفٍ وَاحِدَ. قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (لَا حُكْرَةَ في سُوقِنَا)، وَوَقَعَ في غَيْرِ المُوطَّأ مِنْ طَرِيقِ ابنِ المُسَيَّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بنِ أَبي مَعمَر، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا يَحتَكِرُ إلَّا خَاطِئ"ـ (¬3). قالَ الفُقَةاءُ: إنَّمَا هذا إذا قَلَّ الطَّعَامُ في الأَسْوَاقِ واحتَاجَ النَّاسُ إليه، فإنَّ مَنِ اختَكَرَ حِينَئذٍ فَهُوَ مُضرٌّ بالنَّاسِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيَتُبْ مِنْهُ إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلْيَبع ذَلِكَ الطَّعَامَ مِنْ أَهْلِ الحَاجَةِ إليه بِمِثْلِ مَا ابْتَاعَهُ بهِ. قَالُوا: وأَمَّا إذا كَثُرَ الطَّعَامُ في الأَسْوَاقِ وبَارَ فِيها فَلَا بَأْسَ بإحكَارِهِ حِينَئِذٍ، وكَذَلِكَ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ المَأْكُولاَتِ والمَشْرُوبَاتِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ على عُمُدِ (¬4) كبِدِه في الشِّتَاءِ والصَّيْفِ فَلْيَبع كَيْفَ شَاءَ الله)، يَعنِي بهذا الذينَ يَجْلِبُونَ ¬

_ (¬1) الصبرة: الكومة من الطعام، يقال: اشترى الطعام صبرة، يعني: جزافا بلا كيل أو وزن، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 506. (¬2) الحطيطة: ما يحط من جملة الحساب فينقص منه، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 182. (¬3) رواه مسلم (1605)، وأبو داود (3447)، والترمذي (1267)، وابن ماجه (2154)، بإسنادهم إلى سعيد بن المسيب به. (¬4) كذا في الأصل، وجاء في الموطأ: عمود.

الطَّعَامَ إلى المَدِينَةِ مِنَ النَّوَاحِي في شِدَّةِ الحَر والبَردِ، فَهُؤَلاءِ يَبيعُونَ كَيْفَ شَاءَ اللهُ ولَا يَقَوُّمُ عَلَيْهِم الطعَامُ، فإنْ كَسَدَ عَلَيْهِم ولَم يَبِيعُوهُ كَانُوا فيَ ضِيَافَةِ عُمَرُ حتَّى يَبِيعُوا، ولَا يُقَالُ لِهؤُلاءِ كَمَا قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لِحَاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ: (إمّا أَنْ تَزِيدَ في السِّعْرِ، وإمَّا أنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا قالَ هذا عُمَرُ لِحَاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي مَعَ النَّاسِ في السُّوقِ كَمَا يَشْتَرُونَ، ثُمَّ كَانَ يَحُطُّ مِنْ سِعرِ النَّاسِ، [إذ] (¬1) كَانَ النّاسُ يَبِيعُونَ أربَعَةَ أَمدَادٍ بِدِرهم، وَيبِيعُ هُوَ ثَلاَثَةَ أَمدَادٍ بِدرَهمٍ، فقالَ لَهُ عُمَرُ: إمَّا أَنْ تَبِيعَ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ، وإلَّا فَقُم مِنَ السَّوقِ. قالَ عِيسَى: وَكُلُّ مَنْ نَقَصَ مِنْ سِعرِ النَّاسِ مِنَ التُّجَّارِ خَاصَّةً الذينَ يَشْتَرُونَ في السُّوقِ فإنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيعِ كَمَا يَبِيعُ النَاسُ، وإلَّا أُقِيمَ مِنَ السُّوقِ، وَهُو بِخِلاَفِ جُلَّابِ الطعَامِ الذينَ يَبِيعُون بأَسْوَامٍ مُخْتَلِفَةِ. قالَ عِيسَى: وكَانَ رَبِيعَةُ بنُ أَبي عَبْدِ الرَّحمنِ يَرَى التَّغْرِيمَ على أَهْلِ الحَوَانِيتِ، ويَقُولُ: يَجْعَلُ لَهُم السُّلْطَانُ فَضْلاَ على قدرِ شُخُوصِهِم في ذَلِكَ، ثم يُقَوُّمُ عَلَيْهِم، فَمَنْ بَاعَ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَقَامَهُ مِنَ السُّوقِ. وقالَ اللَيْثُ بنُ سَعدٍ: إنْ تَعَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهم بِقدرِ اجْتِهادِ السُّلْطَانِ ضُرِبُوا على تَعَدِّيهِم. وذَكَرَ العَلاَءُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَ رَجُلًا جَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، سَعِّرْ، فقالَ: بَلِ اللهُ تبَارَكَ وتَعَالَى يَخْفِضُ ويَرفَعُ، وإني لأَرجُو أَن أَلْقَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بِلاَ مَظْلَمَة قِبَلِي لأَحَدٍ" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) رواه أبو داود (3450)، وأحمد 2/ 337، والبيهقي 6/ 29، بإسنادهم إلى العلاء بن عبد الرحمن الحُرَقي به.

باب في بيع الحيوان والسلف فيه، إلى آخر باب النهي عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن

بابُ في بَيع الحَيَوانِ والسَّلَفِ فِيهِ، إلى آخِرِ باب النَّهِي عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، ومَهْرِ البًغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ * أَجَازَ أَهْلُ المَدِينَةِ أَنْ يُسْلَمَ للحَيْوَانِ بَعضُهُ في بَعضٍ إذا اخْتَلَفَتْ مَنَافِعُهُ، فأَمَّا الإبِلُ [فَهُيَ] (¬1) أَنْ تَخْتَلِفَ بالرُّحْلَةِ والحُمُولَةِ، نَحو جَمَلِ عَلَيٍّ المَعرُوفِ بِعُصَيْفِيرِ، وإنَّمَا قِيلَ لَهُ عُصَيْفِيرُ لِعِظَمِه، فَسُمّي بِضِدِّهِ، وكَذَلِكَ رَاحِلَةُ ابنِ عُمَرَ كَانَتْ مَغرُوفَةً بالحُمُولَةِ، فإذا اخْتَلَفَت الإبلُ هذا الإخْتِلاَفُ جَازَ أَنْ يُسْلِمَ بَعضَها في بَعْضٍ إلى أَجَل، وكَذَلِكَ البقرُ إذا اخْتَلَفتْ بالحرْثِ والقُوَّةِ جَازَ أَنْ يُسْلِمَ بَعضَها في بَعضٍ إلى أَجَلٍ، وإذا اخْتَلَفَتِ الخَيْلُ بالسُّرعَةِ والنَّجَابَةِ يُسْلِمُ بَعضَها في بَعضٍ بِصِفةٍ وأَجَلٍ، فإذا تَقَارَبَ الحَيَوانُ بَعضُهُ مِنْ بَعضٍ في الصّفَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْلِمَ بَعضَها في بَعضٍ. * قالَ أَبو المُطَرّفِ: إذا بَاعَ الرَّجُلُ جَمَلاً بِجَمَلٍ وزِيَادَةِ دِراهم يَداً بِيَدٍ جَازَ ذَلِكَ، لأَنَّهُمَا سَلِمَا مِنَ الرِّبَا مَعَ المُنَاجَزَةِ، وكَذَلِكَ يَجُوزُ إذا تَعَجَّلَ الجَمَلاَنِ وتَأَخَّرتِ الدَّرَاهِمُ، لأَنَّهُمَا سَلِمَا مِنَ الرّبَا مَعَ المُنَاجَزَةِ في قَبْضِ الجَمَلَيْنِ، وأَمَّا إذا تأَخَّرَ أَحَدُ الجَمَلَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، قُبضَتِ الدَّرَاهِمُ أَو لَمْ تُقْبَضْ، ويَدخُلُهُ جَمَل نَقْداً بجَمَل إلى أَجَل وَزِياَدةِ دَرَاهِمَ، فَهًذا الرِّبا بِعَيْيهِ، وَهُوَ أَنْ يَنفَعَ شَيءٌ في مِثْلِهِ إلى أجَلٍ وَزِيادَةُ دَرَاهِمَ. قالَ أَبو المُطَرّفِ: قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (لا رِبَا في الحَيَوانِ)، يُرِيدُ: إذا بِيعَ بَعضُها بِبَعض إلى أَجَلٍ واخْتَلَفتِ بالرّحلَةِ والحُمُولَةِ والقُوَّةِ والحَرثِ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: فهو، والصواب ما أثبته مراعاة للسياق.

والسُّرعَةِ والنَّجَابةِ، فإذا اخْتَلَفَتْ هكَذا جَازَ أَنْ يُسْلِمَ بعضَها في بَعضٍ إلى أَجَلٍ إذا وُصِفَ المُسْلَمُ فِيهِ، وضرِبَ لأَخْذِهِ أَجَلٌ. قالَ سَعِيد: (وإنَّمَا نُهِيَ مِنَ الحَيَوانِ عَنِ المَضَامِينِ، والمَلاَقِيحِ، وحَبَلِ الحَبَلَةِ). (قالَ الزُّهْرِيُّ: فَالمَضَامِينُ: مَا فِي بُطُونِ إنَاثِ الإبلِ، والمَلاَقِيحُ: مَا فِي ظُهُورِ الجِمَالِ) وقالَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ: المَلاَقِيحُ مَا فِي بُطُونِ الإنَاثِ، وَالمَضَامِينُ: مَا فِي أَصلاَبِ الفُحُولِ (¬1). قالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ في الجَاهِلِيةِ يَشْتَرِي مِنَ الآخَرِ مَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ قَبْلَ نِتَاجِها، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ بَيع مَجْهُول، وكَانَ أَيْضَاً بعضُهُم يَشْتَرِي مِنْ بعضٍ نِتَاجَ بِنتَاجِ النَاقَةِ، وَهُوَ حَبَلُ الحَبَلَةِ، فَهذَا كُلُّهُ مِنْ بَيْعِ الغَرَرِ، ومِنْ أَكْلَ المَالِ بالبَاطِلِ، لأَنَّ هذا المَبِيعَ لَا هُوَ مَوْصُوفٌ ولَا هُوَ مَرْئيٌّ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيع اللّحمِ بالحَيَوانِ مِنْ جِةةِ عَدَمِ المُمَاثَلَةِ في اللَّحمِ، إذ لَا يدرِي هلْ في هذِه المَذْبُوحَةِ مِثْلَ مَا فِي هذِه الحَيَّةِ أَم لا؟، ولِهذا نَهي عَنْ بَيع الجَمَلِ الشَّارِفِ الذي لا يَصلُحُ إلَّا لِلَّحمِ بِشِيَاهٍ أَحْيَاءَ، لأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ بالحَيَوانِ، ولَوْ كَانَ الجَمَلُ الشَّارِفُ مِمَّا يَصلُحُ لِلْبَقَاءِ والحَمُولَةِ لَجَازِ بَيْعُهُ بِشِيَاهٍ أَحْيَاءَ، لأَنَّ هذا حَيَوانٌ بِحَيَوانٍ، ولَا خِلاَفَ في جَوَازِ هذا. والفُحُومُ ثَلاَثَةُ أَضنَافٍ: فَذَواتُ الأَربعِ صِنْفٌ وَاحِدٌ، والطَّيْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، والحِيتَانُ كُلها صِنْفٌ وَاحِدٌ لا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مِنْ صِنْفٍ مِنْ هذه الأَصنَافِ حَي بِمَذْبُوح يَدَاً بِيَدٍ، فإذا كَانا مِنْ صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ حَيٌّ بِمَذْبُوح ¬

_ (¬1) هذا قول أبي عبيد في غريب الحديث 1/ 207، وهو أيضا قول عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ينظر: غريب الموطأ 1/ 385.

يَدَاً بِيَدٍ، إذ جَائِزٌ أَنْ تُبَاعَ ذَوَاتُ الأربَعِ بِلَحمِ الطَّيْرِ أَو بِلَحمِ الحُوتِ مُتَفَاضِلاً يَدَاً بِيَدٍ لَا إلى أَجَلٍ. " ورَوَى يَحيىَ عَنْ مَالِكٍ، عَن ابنِ شِهابٍ، عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، وعَن أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ. ورَوَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَن ابنِ شِهابٍ، عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ (¬1)، وهذا هُوَ الصَّحِيحُ، لأَنَ الزُّهْرِيَّ لَيْسَ يَزوِي عَنْ أَبي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ، وإنَّمَا يروِي عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: نَهْيُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مَهْرِ البَغِيِّ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ إجَارَةً على الزِّنَا، وقَد حَرَّمَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى الزِّنَا، فأجرَتُهُ مُحرَّمَة"، وحُلْوَانُ الكَاهِنُ هُوَ ما يُعطَى الكَاهِنُ عَنِ التَكَهُّنِ، وهذا أَيْضَاً حَرَامٌ، وكَذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ المُنَجِّمُ على التَّنْجِيمِ، والسَّاحِرُ على عَمَلِ السحرِ. قالَ عِيسَى: والكَلْبُ الذي نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِهِ هِيَ كِلاَبُ الضَّوَارِيِّ وغَيْرِها، غَيْرَ أَنَّ مَالِكَاً قَدْ رَخَّصَ في بَيع الكَلْبِ الضَّارِي للصَّيْدِ في المِيرَاثِ إذا كَانَ ثَمَنُهُ لِيَتِيمٍ، وكَذَلِكَ يُبَاعُ في الدَّيْنِ والمَغْنَمِ، وإنَّمَا يُكْرَهُ للرَّجُلِ بَيْعُهُ ابْتِدَاءً، للحَدِيثِ الذي جَاءَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيع الكِلاَبِ. وقالَ مَالِكٌ: مَنْ قتَلَ كَلْبَاً ضَارِياً لِرَجُلٍ ضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ، مِنْ أَجْلِ مَنْفَعِتهِ به. وأَنْكَرَ الشَّافِعِيّ هذه المَسْأَلةَ، وقَالَ لأَصحَابِ مَالِكٍ: أَنتم لَا تُجْزُونَ بَيع الكِلاَبِ ثُمَّ تُوجِبُونَ القِيمَةَ على مَنْ قَتَلَ لِرَجُلٍ كَلْبَاً، فَلَا يَخْلُو أنْ تَكُونَ القِيمَةُ ثَمَناً للكَلْبِ أَوغَيْرَ ثَمَنٍ (¬2). فقالَ لَهُ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ: إنَّمَا البَيع هو مَا يَقَعُ باتِّفَاقٍ مِنَ البَائِعِ والمُشْتَرِي، وأَخْذُ ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (104 ب)، نسخة تركيا. (¬2) ينظر: الأم 7/ 221، والتمهيد 8/ 400.

القِيمَةِ عَنِ الكَلْبِ المَقْتُولِ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ حَكَمَ بهِ السُّلْطَانُ للمَجْنِيِّ عليهِ، عِوَضاً مِنْ مَنْفَعَتِهِ بِكَلْبِه، فَخَرَجَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْعَاً مُتفَقَاً عَلَيْهِ، وقَد أَجْمَعْنا نَحْنُ وأَنْتَ على المَنع مِن بَيع أُمِّ الوَلَدِ، ثُم أَوْجَبْنَا فِيها القِيمَةَ لِسَيِّدِها على مَنْ قَتَلَبها، فَكَذَلِكَ أَوْجَبْنَا على قَاتِلِ الكَلْبِ الضارِي، وكَلْبِ المَاشِيَةِ كَمَا أَوْجَبْنَاها في أُمِّ الوَلَدِ إذا قُتِلَتْ لِمَنْفَعَةِ سَيّدِها بِها، ونَحنُ لَا نَقُولُ بِبَيْعِها.

في البيع السلف، وبيع العروض

في البَيْعِ السَّلَفِ، وبَيْعِ العُرُوضِ قالَ أَبو مُحمَدٍ: لَيْسَ يُوجَدُ في النَّهي عَنِ البَيع والسَّلَفِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ بَيْع وسَلَفٍ". وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: ثَبَتَتْ السُّنَةُ في بَيع وسَلَفٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، ولَم يَذْكُر في ذَلِكَ حَدِيثاً. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وذَلِكَ أَنَّ بَيع الرَّجُلِ للسِّلْعَةِ مِنَ الرَّجُلِ على إنْ سَلَفَ البَائِعُ للمُبْتِاعِ ذَهباً، أَو وَرِقاً، أو عَرَضَا، أَو على أَنْ يُسْلِفَ المُبْتَاعُ البَائِعَ مِثْلَ ذَلِكَ، فإنْ نزَلَ ذَلِكَ فُسِخَ البَيْعُ بَيْنَهُمَا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإنْ لَمْ يَعلم بِفَسَادِ ذَلِكَ حتَّى فَاتَتِ السِّلْعَةُ عندَ المُشْتَرِي بِحَوَالةِ سُوقٍ فَمَا فوْقَهُ نُظِرَ، فإنْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ البَائِعُ فَلَهُ الأَقَلُّ مِنَ الثَّمَنِ أَو مِنَ القِيمَةِ يَوْمَ القَبْضِ ويَرُدُّ السَّلَفَ، وإنْ كَانَ مِنَ المُبْتَاعِ فَعَلَيْهِ الأكثَرُ مِنَ الثَّمَنِ أَو مِنَ القِيمَةِ، وذَلِكَ أَنَّ البَائِعَ إذا قالَ للمُبْتَاعِ: أَبِيعُكَ سِلْعَتِي هذِه بِعَشَرةِ دَرَاهِمَ على أَنْ تَسْلِفَنِي خَمسَةً فَقَن حَطَّهُ مِنْ ثَمَنِ سِلْعَتِهِ بِفِضةٍ، بِسَببِ السَّلَفِ الذي أَسْلَفَهُ إيَّاهُ، فَصَارَ سَلَفا جَرَّ مَنْفَعَةً، وكَذَلِكَ أَيضا إذا قالَ لَهُ: أَبِيعُكَ سِلْعَتِي بِعَشَرَةٍ على أَنْ أَسْلِفَكَ خَمسَةً، فَقَد اسْتَزَادَ عَلَيْهِ في ثَمَنِ السِّلْعَةِ مِنْ جِهةِ السَّلَفِ الذي أَسْلَفَهُ إيَّاهُ، فَصَارَ سَلَفاً جَرَّ مَنْفَعَةً، وهذا هُوَ الرِّبَا بِعَيْيهِ، وُينْقَضُ البَيع ويُرَدُّ السَّلَفُ، إلَّا أَنْ يَرضَى مُشْتَرِطُ السَّلَفِ أَنْ يُسْقِطَ شَرطَهُ ويَنْفَذُ البَيع، فَذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَقْبضِ السَّلَفَ وَيغِيبُ عَلَيْهِ ولَم تَفِتِ السِّلْعَةُ، فإنْ قَبَضَ السَّلَفَ وغَابَ عَلَيْهِ فُسِخَ البَيْعُ. قالَ عِيسَى: الثِّيَابُ الشَطَوِيَّةُ تَعْمَلُ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ يُقَالُ لَها شَطَا، وَهِيَ

ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ، والقَصَبِيّهُ ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ تُعمَلُ بِتِنِّيس، والأتْرِيْبَةُ تُعمَلُ بأَتْرِيبٍ، والقَسِيَّةُ تُعمَلُ بِقَسِيٍّ، وهذِه كُلُّهُا ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ تُعمَلُ بِهذِه القُرَى، وَهِيَ مِنْ قُرَى مِضرَ، وأَمَّا اليَمَانِيَّةُ فَهِي البُرُودُ التي تُعمَلُ باليَمَنِ، وأَمَّا الزِّيقَةُ والشَّقَائِقُ هِيَ أَيضَاً ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ، وأَمَّا الهرَويَّةُ، والمَرويَّةُ، والقُوْهِيّهُ، والفُزقُبيَّةُ فَهِيَ كُلها مِنْ قُطْنٍ تُغمَلُ بِكُورِ خُرَاسَانَ، وجَازَ أَنْ يُسْلِمَ بَعْضَ هذِه الثِّيَابَ في بَغضٍ مُتَفَاضِلَةً، مِنْ أَجْلِ اخْتِلاَفِ أغْرَاضِ النَّاسِ فِيها باخْتِلاَفِ صِفَاتها، وكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ رَقِيقَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْها في غَلِيظِهِ، وغَلِيظُهُ في رَقِيقِهِ إلى أَجَلٍ مُسَمَّى لاخْتِلاَفِ الصِّفَتَيْنِ، فإذا بِغتَ هذِه الأَصْنَافَ كُلَّهَا يَداً بِيد جَازَ فِيها التَّفَاضُلُ، وَهِيَ بِخِلاَفِ الطَّعَامِ والإدَامِ الذي لا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيه في الجِنْسِ الوَاحِدِ. قالَ عِيسَى: السَّبَائِبُ هِيَ الأردِيةُ والعَمَائِمُ. ومَغنَى قَوْلِ ابنِ عَئاسٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِها فِيهِ قَبْلَ قَبْضِها، فقالَ: (تِلْكَ الوَرِقُ بالوَرِقِ)، وفَسَّرَ هذا مَالِكٌ: أَنَّ المُسْلَمَ في تِلْكَ السَّبَائِبِ أَرَادَ أَنْ يَبيعَها مِنْ المُسْلَمِ إليهِ بأَكْثَرَ مِمَّا ابْتَاعَها بهِ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِها فَصَارَ ذَلِكَ رِبَا، ولَو بَاَعَها مِنْ غَيْرِه بأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِها وأَحَالَهُ بِها على الذي سَلَمَ إليه هُو فِيها أَوَّلاً جَازَ، لأَنَّهُ إنَّما بَاعَ ثِيَابا مِنْ غَيْرِ الذي كَانَ هُوَ قَد ابْتَاعَها مِنْهُ وَهِيَ ثِيَابٌ قَدْ مَلَكَها بَعدَ صِفْقَةِ السَّلَمِ فِيها وبِوَضفِ البَائعِ لها، فَلِهَذا جَازَ لَهُ بَيْعُها مِنْ غَيْرِ الذي ابْتَاعَها هُوَ منه. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فَسَّر مَالِكٌ في المُوطَّأ قَوْلَ ابنِ عبَّاسٍ في هذِه المَسْأَلَةِ بِخِلاَفِ مَا يُروَى في ذَلِكَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، وذَلِكَ أَنَ أبا دَاوُدَ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ ابنِ عبَّاسٍ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذا اشْتَرَى أَحَدُكُم طَعَاماً فَلَا يَبِعهُ حتَّى يَقْبِضَهُ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ: وأَحسَبُ كُلَّ شَيءٍ مِثْلَ الطَّعَامِ لَا يُبَاعُ حتَّى يُسْتَوفَى" (¬1). وكانَ ابنُ عُمَرَ يُجِيزُ بَيْعَ العُرُوضِ المُسْلَمِ فِيها والتي تُشْتَرى على الصِّفَةِ مِنْ ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3497).

قَبْلِ أَنْ تُقْبَضَ إذا بِيعَتْ مِنْ غَيْرِ الذي اشْتُرِيتْ مِنْهُ وقَبَضَ البَائِعُ الثَّمَنَ ولم يُؤَخِّرهُ، وَهِيَ بِخِلاَفِ الطَّعَامِ، وتَعَلَّقَ قَوْمٌ في هذِه المَسْأَلةِ مِنْ أَهْلِ الأَمصَارِ بِقَوْلِ ابنِ عبَّاسٍ فَلَم يُجِيزُوا بَيع شَيءٍ مِنَ العُرُوضِ قَبْلَ قَبْضِها كالطَعامِ سَوَاءً، وجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإنَّمَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ الذي نُهِيَ عَنْهُ في بَيع الطَّعَامِ المَكِيلِ خَاصَّةً قَبْلَ قَبْضِهِ لا في العُرُوضِ، وقَد أَجَازَ مَنْ يُخَالِفُ أَهْلَ المَدِينَةِ في هذِه المَسْأَلَةِ عِتْقَ مَن اشْتَرَى عَبْداً ثُمَّ أَغتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبضَهُ، ولَيْسَ يَجُوزُ عِتْقُ مَالا يَملِكُهُ الإنْسَانُ كَمَا لا يَجُوزُ بَيع مَالا يَملِكُهُ، فأَمَّا مًا مَلَكَهُ بالصِّفَةِ فَجَائِز لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَ لِمَنْ سَلَمَ عَيْنَا في عَرضٍ مَوْصُوفٍ أَنْ يَبيعَهُ مِنَ الذي هُوَ عَلَيْهِ إذا حَلَّ أَجَلُهُ بِعَزضٍ مِنَ العُرُوضِ يَقْبضُهُ مِنْهُ في الوَقْتِ، لأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ بَيع عَزضٍ حَاضِرٍ بِعَرضٍ اَخَرَ، فَصَارَ العَرضُ بالعرضِ يَداً بِيَدٍ، فإذا لم يَحِلَّ أَجَلُ العَرْضِ المُسْلَمِ فِيهِ أَوَّلاً لَمْ يَبعهُ مِنَ الذي هُو عليه ولا مِنْ غَيْرِه إلَّا بِعَزضٍ مُخَالِفٍ للعَرضِ المُسْلَمِ فيهِ، وذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ العَرْضُ المَقْبُوضُ الآنَ عِوَضَاً مِنَ الثَّمَنِ الذي دَفَعَهُ المُسْلَمُ أَوَّلاً، ولَا يَجُوزُ أنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ بِعَرضٍ مِثْلِهِ، لأَنَّهُ يَدخُلُهُ تَعجِيلُ حَق على طَرحِ الضَّمَانِ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ رِبا، إنَّما جَازَ لِمَنْ سَلَمَ في أربَعَةِ أَثْوَابٍ مَوْصُوفَةٍ إلى أَجَلٍ أَنْ يَأْخُذَ عَنْدَ الأَجَلَ ثَمَانِيَةَ أَثْوَابٍ دُونَ الصِّفَةِ المُسْلَمِ فِيها مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ بَيع عَرَضٍ بِعَرَضٍ مُتَفَاضِلاً يَداً بِيَدٍ، وذَلِكَ جَائِز، ولَم يَجُزْ ذَلِكَ قَبْلَ الأَجَلِ لأَتهُ يُغطِيهِ ثَمَانِيَةً نَقْدَاً في أَربَعَةٍ مِنْ غَيْرِ صفَتِها قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَجَلُها على أَنْ يَقْبِضَها مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الأَجَلِ، فَيَدخُلُهُ البَيع والسَّلَفُ، ويَدخُلُهُ الزِّيَادَةُ على أَنْ طُرِحَ عَنْهُ الضَّمَانَ، وكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيهِ قَبْلَ الأَجَلِ أَدنَى مِنْ صفَتِها، لأَنَّهُ يَدخُلَهُ (ضَعْ وتَعَجَّلْ) (¬1)، وَهُوَ الرِّبَا. ¬

_ (¬1) سبق ان ذكرنا تفسير هذه الكلمة في كتاب المكاتب، باب القطاعة في الكتابة.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا جَازَ انْ تُبَاعَ العُرُوضُ المَكِيلَةُ والمَوْزُونة مُتَفَاضِلَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَداً بِيَدٍ لأنها خَارِجَةٌ عَنِ الذَهبِ والفِضَّةِ والأَطْعِمَةِ والأَشْرِبَةِ التي ثَبَتَ النهْيُ عَنْ بَيْعها مُتَفَاضِلَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَمَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنَ العُرُوضِ جُزَافَاً جَازَ لَهُ بَيع ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ بِنَقْدٍ وإلى أَجَل، لأَنَّ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ في مِلْكِهِ بعدَ الصِّفْقَةِ، ومَا اشْتَرى مِنَ العُرُوضِ على الكَيْلِ أَو الوَزْنِ جَازَ لِمُشْتَرِيها بَيْعُها بِنَقْد قَبْلَ أَنْ يَقْبضَها مِنْ بَائِعِها، ولَا يَبعها بِدَيْنٍ لأَنَّهَا في ذِمَّةِ البَائِعِ الأَوَّلِ حتَّى يَكِيلَها أَو يَزِنَها لِمَنْ بَاعَها مِنْهُ، فإنْ بًاعَها مُشْتَرِيها بِدَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يَقْبضَها دَخَلَهُ فَسْخُ دَيْنٍ في دَيْنٍ، وإذا بَاعَها بِنَقْدٍ سَلِمَ مِنَ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ، وصَارَ المُشْتَرِي لَها آخِرَاً بِمَنْزِلَةِ المُشْتَرِي الأَوَّلِ البَائِعُ لَها آخِرَاً.

باب بيعتين في بيعة، إلى آخر باب بيع المرابحة

بابُ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ، إلى آخِرِ بَابِ بَيْعِ المُرَابَحَةِ قالَ أَبو المُطَرّفِ: حدَّثنا أَبو مُحَمَّدٍ القُلْزُمِيُّ بِمصرَ (¬1)، قالَ: حدَّثنا ابنُ الجَارُود (¬2)، قال: حدَّثنا عبدُ اللهِ بنُ [هاشِم] (¬3)، قالَ: حدَّثنا يَحيىَ بنُ سَعِيدٍ القَطَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عمرو، عَنْ أَبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعةٍ" (¬4). * قالَ أبو المُطَرّفِ: هذا الحَدِيثُ عندَ مَالِكٍ في المُوطَّأ بَلاَغٌ, وأَسْنَدُهُ القَطَّانُ عَنِ النبيِّ - عليهِ السَّلاَمُ -. ¬

_ (¬1) هو أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسن القُلزمي، قال ابن الطحان: يروي عن عبد الله بن الجارود النيسابوري وغيره، وسمعت منه، مات سنة (385)، ينظر: معجم البلدان 4/ 388. (¬2) هو عبد الله بن علي بن الجارود أبو محمد النيسابوري، نزيل مكة، الإِمام المحدث الناقد، صاحب كتاب المنتقى، يروي عنه ابن عدي والطبراني وأبو حامد بن الشرقي وغيرهم، توفي سنة (307)، ينظر: تذكرة الحفاظ 3/ 794. (¬3) جاء في الأصل: هشام، وهو خطأ، وعبد الله بن هاشم هو الطوسي، المحدث الثقة، شيخ مسلم وغيره، ينظر: تهذيب الكمال 16/ 237. (¬4) رواه ابن عبد البر في التمهيد 24/ 389 عن شيخه المصنف القنازعي عن أبي محمد القلزمي به. ورواه ابن الجارود في المنتقى (600) عن عبد الله بن هاشم به. ورواه النسائي 7/ 295، بإسناده إلى يحيى القطان به، ورواه أبو داود (3461)، والترمذي (1231)، بإسنادها إلى محمد بن عمرو بن علقمة به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: أصلُ مَا يُعْرَفُ بهِ فِسَادُ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ هُوَ: أَنْ يَتَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ بأَمرَيْنِ إنْ فُسِخَتْ إخدَهُمَا في الآخِرِ كَانَ حَرَامَاً، وذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: خُذْ سِلْعَتِي بِعَشَرَةٍ نَقْدَاً أَو بِخمسَةَ عَشَرٍ إلى أَجَلٍ، أَو يَكُونَ إنْ فُسِخَتْ أحدُهُمَا في الآخِرِ لَمْ يَكُنْ حَرَامَاً، وكَانَ غَرَراً لا يُنرَى مَا عَقَدَ بهِ البَائِعُ بَيع سِلْعَتِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: خُذْها بِدِينَارٍ نَقْداً أَو بِشَاةٍ مَوْصُوفَةٍ إلى أَجَلٍ، فَهذا أَمِنَ المُخَاطَرَةَ، ويُفْسَخُ هذا البَيع إذا وَقَعَ، إلَّا أَنْ تَفُوتَ السِّلْعَةُ، فَيَكُونَ على المُبْتَاع قِيمَتها يَوْمَ قَبَضَها. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَمَّا إذا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا على وَجْهِ المُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، لأَنَّ المُشْتَرِي في أَحَدِ الثَّمَنَيْنِ بالخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَيَضَاً أَخَذَ، وإنْ شَاءَ تَرَكَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: سَأَلْنَا مَالِكَاً عَنِ الذي يَسُومُ بالسِّلْعَةِ فَيَقُولُ صَاحِبها بِكَذَا وكَذَا، فَيَقُولُ السَّائِمُ: قَدْ أَخَذْتُها، فَيَقُولُ البَائِعُ: لَمْ أَرِدْ وَجْهَ بَيْعٍ ولا أَبِيعُها مِنْكَ، يَخلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهذا بَيْعَهَا، فإنْ لَمْ يَخلِفْ لَزِمَهُ البَيع. قالَ مَالِكٌ: وإذا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: بِكَم سِلْعَتُكَ؟ فَيَقُولُ: بِكَذا وكَذَا، فَيَقُولُ: قَدْ أَخَذْتُها، ولَكِئي أَذْهبُ فَأَسْتَشِيرُ فِيها، فَيَذْهبُ بِها، ثُمَّ يَأْتِيهِ بالثَمَنِ فَيَقُولُ: لا أَبِيعُها، إنَّمَا كَانَ هَذا مِنِّي على وَجْهِ المُسَاوَمَةِ، ولَم أَرِدْ وَجْهَ بَيْعٍ. قالَ مَالِكٌ: البَيْعُ لَهُ لاَزِمٌ وَهُوَ نَادِمٌ في بَيْعِهَا، ولَيْسَ هذا مِثْلُ الأَوَّلِ الذي لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ السِّلْعَةِ ولَا ذَهبَ بِها. وَجْهُ كَرَاهِيَةِ ابنِ عُمَرَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: ابِتَع لِي هذا البَعِيرَ بِنَقْدٍ حتَّى ابضاعَهُ مِنْكَ إلى أَجَلٍ، إنَّما كَرِهَهُ ابنُ عُمَرَ لأَنَّ الذي اشْتَرَى البَعِيرَ بِعَشَرَةٍ وبَاعَهُ باثْنتَيْ عَشَرَ إلى أَجَلٍ إنَّمَا أَسْلَفَهُ عَشَرَةً لِيَأْخُذُ مِنْهُ اثْنتَي عَشَرَ، فإنْ بَاعَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا ابْتَاعَهُ بهِ إلى أَجَلٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، لأَنَّهُ أَسْلَفَهُ الثَّمَنَ ولَم يَزد عَلَيْهِ شَيْئَاً، فإذا بَاعَهُ مِنْهُ بأَكْثَرَ فُسِخَ البَيْعُ، إلَّا أَنْ يَفُوتَ، فَتَكُونُ فِيهِ القِيمَةُ يَوْمَ قَبَضَهُ

المُشْتَرِي، وقِيلَ: إنَّ لَهُ الإثْنتَيْ عَشَرَ، بِسَببِ ضَمَانِهِ البَعِيرَ لَو مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ، وأَحسَنُ لَهُ أَنْ يَتَورَّعَ عَنْ أَخْذِ الزِّيَادَة. قالَ ابنُ القَاسِمِ: العِينَةُ المَكْرُوهةُ أَن يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: بِعنِي سِلْعَةَ كَذَا إلى أَجَلِ كَذَا، فَيقُولُ: مَا عِنْدِي ولَكَن ابْتَاعُها لَكَ بِعَشَرَة وأَبِيعُكَها باثنَتِي عَشَرَ، فَهذا لا يَجُوزُ، لأَنَّها عَشَرَ نَقْدَاً باثْنَتِي عَشَرَ إلى أَجَلٍ والسِّلْعَةُ بَيْنَهُمَا مُلْغَاة. قالَ: والعِينَةُ الجَائِزَةُ أَنْ يَسْتَعِدَّ الرَّجُلُ بالسِّلَعِ لِمَنْ يَشْتَرِيها مِنْهُ، فَمَنْ جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَاعِدَهُ بَاعَ مِنْهُ بِنَقْدٍ وإلى أَجَلٍ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَرسَلَ مالك في المُوطَّأ حَدِيثَ النَّهِي عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. وحدَّثنا بهِ أَبو مُحَمَّدِ بنُ عُثْمَانَ (¬1)، قالَ: حدَّثنا أَحمَدُ بنُ خَالِدٍ، عَنِ ابنِ وَضَّاحٍ، عَنِ ابنِ أَبي شَيْبَةَ، عَنِ ابنِ إدرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَغرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّهُ نَهى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ" (¬2)، وذَكَرَ الحَدِيثَ مُسْنَداً. * قَوْلُ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً على أَنَّهُ لا نُقْصَانَ على المُبْتَاعِ أَنَّهُ مِنْ بَيع الغَرَرِ والمُخَاطَرَةِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا لَمْ يَكُنْ حُكْمُ فَسَادِ هذه الصَّفْقَةِ كَحُكْمِ البَيْعِ الفَاسِدِ الذي تَكُونُ فِيهِ القِيمَةُ إذا فَاتَتِ السِّلْعَةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَائِعِ هذِه السِّلْعَةَ بِهذا الشَّرطِ أَبْقَى حُكْمَهُ فِيها بِقَوْلهِ للذي بَاعَها مِنْهُ: بعها ولَا نُقْصَان عَلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُ بَاقٍ فِيها كَانَ لَهُ مَا زَادَ على الثَّمَنِ الذي بَاعَها بهِ وعَلَيْهِ مَا نَقُصَ، وكَانَ لَهُ أُجْرَةُ البَائِعِ في بَيْعِهِ إيَّاها واقْتَضائِهُ ثَمَنُها، وأَمَّا إذا بَاعَ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ سِلْعَة بِثَمَنٍ ¬

_ (¬1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي القرطبي. (¬2) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف 6/ 132 عن عبد الله بن إدريس به، ورواه مسلم (1513)، والترمذي (1230)، والنسائي 7/ 262، وابن ماجه (2194)، بإسنادهم إلى عبيد الله بن عمر العُمَري به.

مَعلُوم وقَبَضَها المُشْتَرِي ثُم سَألَ البَائِعُ مِنْهُ أَن يُقِيلَهُ فِيها فَأَبَى، وقالَ لَهُ: بعها ولَا نقصَان عَلَيْكَ، فهذا لا بَأْسَ بهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُخَاطَرَةِ، وإنَّمَا هذا شَيءٌ وُضِعَ لَهُ بَعدَ البَيْعِ، ويَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَاطَ في بَيْعِبها بأَبْلَغَ طَاقَتِهِ، فإنْ بَاعَها به. قَلَّ مِنْ ثَمَنها بالشيءِ اليَسِيرِ لَزِمَ ذَلِكَ رَبها، لأَنَّهُ ائتمَنَهُ على ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَبيعها بِمَا يُسْتَنكَرُ [منهُ] (¬1) فَيَلْزَمُهُ غُرِمَ مَا قَصَّرَ بهِ عَنْ ثَمَنها، لأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في ذَلِكَ. * فَسَّرَ مَالِكٌ في المُوَطَا حَدِيثَ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ. ثُمَّ قَالَ في الثَّوْبِ المُدْرَجِ في طَيِّهِ، والسَّاجِ المُدْرَجِ في جِرَابهِ أَنَّهُمَا لَا يُبَاعَا حتَّى يُنْشَرَ، أَو يُنْظَرَ إلى مَا فِي أَجْوَافِهِما، فَبهذا لَمْ يَشْتَرِ المُشْتَرِي ذَلِكَ فَقَد دَخَلَ على غَرَرٍ واشْتَرَى مَا لَا يَدرِي، وهذا خِلاَفُ مَا يُبَاعُ على البَرْنَامجِ، لأَنَّ بَيْعَ البَرْنَامجِ (¬2) بَيْع على صِفَةٍ، والبَيع على الصِّفَةِ جَائِزٌ، وبَيع المُلاَمَسَةِ بَيع غيْرُ مَوْصُوفٍ ولَا مَرئي، فَصَارَ مِنْ بَيغ الغَرَرِ، فَهذا يُفْسَخُ إذا وَقَعَ مَا لَم يَفِتْ، فإنْ فَاتَ فَفَيِه القِيمَةُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لا يحسِبُ البَائِعُ في رَأْسِ مَالِهِ في بَيع المُرَابَحَةِ نَفَقَتَهُ على نَفْسِهِ في سَفَرة، كَان المَالُ لَهُ، أَو أَخَذَهُ قِرَاضَاً، ولا يَحسَبُ جُعْلُ السِّمسَارِ، ولَا أَجْرَ الشَّدِّ، ولَا الطَّيَّ، ولَا كِرَاءَ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، فأَمَّا كِرَاءُ الحُمُولَةِ والنَّفَقَةِ على الرَّقِيقِ فينَّهُ يُحسَبُ في أَصلِ المَالِ، ولَا يُحسَبُ لَهُ رِبْحٌ إلَّا أَنْ يُربِحُوهُ في ذَلِكَ كُلِّهِ بعدَ العِلْمِ بهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فاَمَّا القِصَارَةُ، والصُّبْغُ، والخِيَاطَةُ فينَّهُ يُحسَبُ ذَلِكَ في أَصلِ الثَّمَنِ ويُضْرِبُ عَلَيْهِ الرّبْحَ، لأَنَّهُ زِيَادَة في الثِّيَابِ، وعَيْنٌ قَائِمَةٌ فِيها. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: من، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) كرر الناسخ جملة (بيع البرنامج) مرتين والصواب حذف أحدهما مراعاة للسياق. والبرنامج -بفتح الباء وكسر الميم- هو الدفتر المكتوب فيه أوصاف ما في العدل من الثياب المبيعة لتشترى على تلك الصفة لا يوقف على عينها لغيبتها في عدلها ولا ينظر إليها، ينظر: التمهيد 13/ 14، والشرح الكبير 3/ 24.

قالَ أَبو المُطَرفِ: مَنْ كَذَبَ في بَيْعِ المُرَابَحَةِ فقالَ: قَامَتْ عَلَيَّ بِمِائَة، وإنَّمَا كَانَ اشْتَرَاها بِتِسْعِينَ وبَاعَها بِمِائة وعَشَرَةٍ، ثُم صَحَّ كَذِبُهُ بعدَ فَوَاتِ السِّلْعَةِ عندَ المُشْتَرِي أَنَّ البَائِعَ يُخَيَّرُ، فإنْ أَحَبَّ فَلَهُ قِيمَةُ سِلْعَتِهِ يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ القِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَها بهِ مَعَ الكَذِبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قد رَضِيَ أَنْ يَبِيعَها مَعَ كَذِبهِ في رَأْسِ مَالِهِ بِمِائةٍ وعَشَرَةٍ. * قالَ مَالِكٌ: وإنْ أَحَبَّ ضُرِبَ لَهُ الرّبْحُ على التِّسْعِينَ الذي هِي رَأْسُ مَالِهِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ التِّسْعونَ مَعَ رِبْحها تِسْعَة، فإنْ كَانَتِ القِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَة وتسعِينَ دِينَاراً لَمْ يُنَقِّصِ والبَائِعُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ الصَّحِيحِ ورِبْحِهِ، لأَنَّ المُشْتَرِي رَضِيَ بِذَلِكَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: ومَنْ غَلَطَ على نَفْسِهِ في بَيع المُرَابَحَةِ، فقالَ: قَامَتْ عَليَّ بِمِائَه دِينَار ثُمَّ بَاعَها بِمِائيما وعَشَرَةٍ، ثُمَّ صَحَّ غَلَطهُ وشُهِدَ لَهُ أنْ بِمِائةٍ وعَشَرَة اشْتَرَاها، وقَد فَاتَتِ السِّلْعَةُ عندَ المُشْتَرِي، أَنَّ المُشْتَرِيَّ يُخَيَّرُ، فإنْ شَاءَ أَعطَى البَائِعَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ يَوْمَ قَبَضَها، وإنْ شَاءَ أَعطَاهُ الثَّمَنَ الذي ابْتَاعَها بهِ مَعَ رِبْحِها الذي وَافَقَهُ عَلَيْهِ، وذَلِكَ مِائةٌ وإحدَى وعِشْرُونَ دِينَارَاً، إلَّا أَنْ تَكُونَ القِيمَةُ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الذي اشْتَرَاها بهِ المُشْتَرِي، وَهُوَ عَشَرَةٌ ومِائَة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَقّصُهِ مِنْ مِائة وعَشَرَة، لأَنَّ المُشْتَرِي قد رَضِيَ بِذَلِكَ، ولأَنَّ البَائِعَ إنَّمَا جَاءَ لِيَأخُذَ مِنْهُ مَا غَلِطَ بهِ على نَفْسِهِ، فإذا كَانَتِ القِيمَةُ أَكْثَرُ مِنْ ضَربِ الرِّبْحِ على رَأْسِ مَالِ البَائِع الصَّحِيحِ مَعَ رِبْحِها لَمْ يَكُنْ للبَائِعِ على المُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْ ضَرْبِ الرِّبْحِ على رَأسِ المَالِ الصَّحِيحِ، لأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يَربَحَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدَاً، وإذا لَمْ تَفِتِ السّلْعَةُ عنْدَ المُشْتَرِي في هَاتَيْنِ المَسْأَلَتيْنِ بِشَيءٍ مِنْ وُجُوهِ الفَوْتِ أَنَّهُ يَكُونُ بالخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَها بِمَا قَالَ البَائِعُ، وإنْ شَاءَ رَدَّها. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: صِفَةُ بَيْعِ البَرْنَامِجِ هُوَ أنْ يَأتِي البَائِعُ بِثيَاب رَفِيعَةٍ مَطْوِية مَشْدُودَة في عِدل قَدْ كَتَبَ صِفَاتَها، وذرعَها، ورُقُومَها، فَيَبيعُها مِنَ التُّجْارِ على صِفَةِ مَا في كِتَابِهِ، فإذا وَجَدُوها على صِفَةِ الكِتَابِ الذي ابْتًاعُوها عليهِ لَزِمَتْهُم،

وأُجِيزَ هذا البَيْعُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ في نَشْرِها على البَائِعِ ضَرَراً والبَيْعِ على الصِّفَةِ جَائِزٌ، بِخِلاَفِ ما يَتَمَكَّنُ نَشْرَهُ وتَقْلِيبَهُ، ومَا كَانَ ذَلِكَ مُمكِنَاً فِيهِ ولَم يُبَعْ إلَّا بعدَ النشْرِ والتَّقْلِيبِ، فإنْ بِيعَ بِغَيْرِ نشرٍ ولَا تَقْلِيبٍ لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ المُلاَمَسَةِ التي نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهَا.

البيع على الخيار، والدين في الربا، وجامع الدين والحول

البيع على الخِيَارِ، والدَّيْنُ في الرِّبَا، وجَامِعُ الدَّيْن والحَوْلِ * قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ في حَدِيثِ "المُتَبايِعَانِ بالخِيارِ" حَدِّ لِوَقِتِ الإفْتِرَاقِ يَنْتَهِيانِ إليهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ بينَ عَقْدِ البَيْع وسَائِرِ العُقُودِ التي تَلْزَمُ باللَّفْظِ دُونَ التَّفَرُّقِ، كَمَا قالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وهذا افْتِرَاق بالكَلاَمِ، وشَيءٌ اخرُ أَنَّ المُتَسَاوِمَيْنَ يَقَعُ عَلَيْهِما اسْمُ المُتَبَايِعَيْنِ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبعْ بَعضُكُم على بَيْعِ بَعضِ"، فَسَمَّى المُسَاوَمَةَ بَيْعَاً، فَيَكُونُ مَعنَى الحَدِيثِ: المُتَسَاوِمَيْنِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفرَّقَا على عَقْدِ بَيْعٍ، فإذا انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا البَيْعُ لَزِمَهُمَا، وقَد اخْتُلِفَ في حَدِيثِ: "المُتبُايِعَيْنِ بالخِيَار" فَفِي بَعضِ الرِّوَاياتِ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ البَائِعِ، أَو يَتَرَادَّانِ، وفِي حَدِيثِ آخَرَ: إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ في ثَمَنِ السلْعَةِ أُحِلَفَ البَائِعُ. * قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: فَلَو كَانَ الخِيَارُ لَهُمَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا يَمِينٌ، وكَانَ لِمَن شَاءَ مِنْهُمَا الرَّدُّ دُونَ الإخْتِلاَفُ في الثَّمَنِ، والصَّرفُ بَيع ولا خِيَارٌ فِيهِ، لِقَوْلهِ - عليهِ السَّلاَمُ -: "الذَّهبُ بالوَرِقِ رِبا، إلَّا هَاءَ وَهَاءَ" قالَ ابنُ القَاسِمِ: فَالْعَمَلُ عِنْدَنا في البَيْعِ أَنهُ يَنْعَقِدُ باللَّفْظِ، وقَد قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (البَيْعُ يَنْعَقِدُ باللَّفْظِ) (¬1)، فهذا كُلّهُ يَدُكُ على أَنَّهُ إذا انْعَقَدَ البَيْعُ أنْ لَا خِيَارَ فِيهِ لأَحَدٍ. ¬

_ (¬1) بحثت عن قول عمر هذا ولم أجده.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ في المُتَبَايِعَيْنِ إذا اخْتَلَفَا في ثَمَنِ السِّلْعَةِ، فأَوَّلُ قَوْلَيْ مَالِكٍ: أنَّ المُبْتَاعَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الثمَنِ مَعَ يَمِينه وإنْ لَمْ تَفِتِ السِّلْعَةُ، وبِهذا قالَ ابنُ وَهْبٍ. وقالَ أَشْهبُ: إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ويَتَرَادَّانِ البَيْع وإنْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ في يَدِ المُبْتَاعِ، يُرِيدُ: أَنَّهُ يُغْرَمُ قِيمَتُها بعدَ يَمِينِه. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: إنْ لَمْ تَفِتِ السِّلْعَةُ حَلَفَ البَائِعُ اوَّلاً على مَا يَدَّعِي، ثُمَّ يَكُونُ المُبْتَاعُ بالخِيَار إنْ شَاءَ أَخَذَ السِّلْعَةَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ البَائِعُ، وإنْ شَاءَ حَلَفَ على مَا يَدَّعِي ثُمَّ يَرُدها، إلَّا أَنْ يَزضَى قَبْلَ انْ يَفْسَخَ السُّلْطَانُ البَيْع بَيْنَهُمَا أَنْ يَأخُذَها بِمَا قَالَ البَائِعُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ، وإذا فَاتَتِ السَّلْعَةُ بِحَوَالةِ أَسْوَاقٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي يَحلِفُ أَنَّهُ أتى بِمَا يَشْبهُ ثَمَنَها، وإنْ أتى بِمَا لَا يَشْبِهُ ثَمَنَها كَانَ القَوْلُ قَوْلَ البَائِعِ، إلَّا أَنْ يَأتِي أَيْضَاً بِمَا لا يَشْبهُ، فَإنْ أتى بِمَا لَا يَشْبهُ رُدَّ إلى مِثْلِ ثَمَنِهَا (¬1). قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ واشْتَرَطَ البَائِعُ أَو المُبْتَاعُ مَشُورَةَ غَيْرِه في ذَلِكَ كَانَ لِمُشْتَرِطِ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَيْضَاً البَيْعُ أو رَدُّهُ دُونَ مَشُورَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ المُشْتَرِطِ اسْتِشَارَتَهُ. وقالَ ابنُ نَافِعٍ: يَلْزَمَهُمَا مَا شَرطَا مِنْ ذَلِكَ ولْيَسْأَلْ ذَلِكَ الرَّجُلِ المُشْتَرِطِ اسْتِشَارَتَهُ، فإنْ أَجَازَ البَيْعَ بَيْنَهُمَا لَزِمَهُمَا، وإنْ رَدَّهُ فَهُو مَردُودٌ عَنْهُمَا. * قالَ عِيسَى: دَارُ نَخْلَةَ هِيَ دَارٌ بالمَدِينَةِ تُبَاعُ فِيهَا البُرُودُ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا كَرِهَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ (ضَع وتَعَجَّلْ) لأَنَّهُ رِبَا، وذَلِكَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يَبِيعُ عَيْنَاً إلى أَجَل بأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدَاً، وأَمَّا إذا حَلَّ بهِ أَجَلُ الدَّيْنِ فَوَضَعَ عَنْهُ صَاحِبُ المَالِ مِنْهُ فَهُوَ جَائِز، لأَنَّهُ إحسَانٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ المَالِ وليسَ ذَلِكَ رِبَا، ¬

_ (¬1) نقل أقوال مالك في هذه المسألة وأقوال أصحابه بمثل ما نقله المصنف: ابن عبد البر في كتاب الكافي 1/ 226 - 227.

ومَا لَا يَحِلُّ للرَّجُلِ أَكْلُهُ مِنَ المُبْتَاعِ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطْعَمهُ أَهْلُهُ، ويَجُوزُ إذا تَابَ مِن ذَلِكَ أَنْ يُطْعَمهُ المُسَاكِينَ. قالىَ عِيسَى فِي الذي يَكُونُ له الدَّيْنُ على الرَّجُلِ فإذا تَقَاضَاهُ إيَّاهُ عَسَرَ لَهُ، فَيَقُولُ لَهُ: بعنِي سِلْعَةً بِثَمَن إلى أَجَلٍ أَقْضِيكَ ثَمَنَها عَنْ هذا الدَّيْنِ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي، لأَنًّ ثَمَنَ السِّلْعَةِ التي بَاعها رَبُّ الدَّيْنِ آخِراً مِنَ الذي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، رَجَعَ إليه، وفُسِخَ دَيْنُهُ الأَوَّلُ الذي قَدْ حَلَّ لَهُ على غَرِيمِهِ في دَيْنٍ إلى أَجَلٍ، فَصَارَ دَيْنَاً في دَيْني، ويُفْسَخُ البَيْعُ في هذه السِّلْعَةِ التي بَاعَها رَبُّ الدَّيْنِ آخِرَا مِنَ الذي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مَا لَمْ تَفِتِ السلْعَةُ، فإنْ فَاتَتْ غُرِمَ قِيمَتُها. * قَوْلُهُ: "مَطلُ الغَنِيِّ ظُلْم"، يَغنِي: مَطْلُ مَنْ حَل عَلَيْهِ دَيْن وَهُوَ مَلِيء يَفطِلُ صَاحِبُهُ، فهُو ظَالِمٌ، ومَنْ لم يَكُنْ مَلِيئَا بِدَيْنهِ فَقَد عَذَرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَوْلهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. قالَ أبو المُطَرِّفِ: الحَوَالَةُ فعل مَعرُوف نَدَبَ إليهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْليِ: "وإذا أُتْبِعَ أَحَدُكُم على مَلِيء فَلْيُتْبِعْ". والحَوَالَةُ رُخْصَة مِنَ الدِّينِ، مَنْ رَضِيَ بِذِّمةِ مُحَالٍ عَلَيْهِ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ المُحِيلِ مِنَ الدَّيْنِ الذي كَانَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ المُحِيلُ المُحَالَ مِنْ مُعدَمٍ أو مُفْلِسٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ حِينَئِذٍ على غَرِيمِهِ الأَوَّلِ، إلَّا أَنْ يَرْضى بِذِمَّةِ هذا المُعْدَمِ، وَهُوَ عَالِمٌ بعَدَمِهِ فَلَا رُجُوعُ لَهُ على الأَوَّلِ، والحَمَالةُ بِخِلاَفِ الحَوَالةِ، ولِرَبِّ المَالِ إذا حَلَّ أًجَلُهُ أَنْ يَأخُذَ بِمَالهِ إنْ شَاءَ الغَرِيمُ، وإنْ شَاءَ الحَمِيلُ. وقالَ أَيْضَاً: لَا يُغْرَمُ الحَمِيلُ إلَّا في عَدَمِ الغَرِيمِ أَو غَيْبَتِهِ. قالَ أَبو المُطَرّفِ: لَم يُلْزَم مَنْ سَلَمَ في سِلْعَةٍ إلى أَجَلٍ أنْ يَقْبضَها قَبْلَ الأَجَلِ، لأَنَّهُ إنَّمَا أَبقَاها في ذِمَّةِ البَائِع لَها مِنْهُ طَمَعَاً في نِفَاقِها، إلَّا أَنْ يَتَقَارَبَ الأَجَلُ مِثْلَ اليَوْمَيْنِ، فإنَّهُ يَلْزَمُهُ حِينَئِذ قبَضها مِنْ دَافِعَها إليه. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَاكْتَالَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ على شَرْطِ تَصدِيقِه في الكَيْلِ، أَنَّهُ إنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وإنْ بَاعَهُ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ,

إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لأَنَّهُ إذا بَاعَهُ بالنَّقْدِ لَمْ تَلْحَقْهُ في ذَلِكَ تُهْمَة مِنْ قِبَلِ المُشْتَرِي في أَنْ يَتْرُكَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الكَيْلِ لِوَجْهٍ يَنتفِعُ بهِ، لأَنَّهُ قَدْ عَجَّلَ النَّقْدَ للبَائِع، وأَمَّا إذا بَاعَهُ مِنْهُ بِدَيْنٍ فَالتُهْمَةُ تَلْحَقُهُ في أَنْ يَتْرُكَ لَهُ كَيْلَ الطَّعَامِ، بِسَببِ تَأْخِيرِ النَقْدِ والكَيْلِ لَهُ زِيَادَةً ونُقْصَانَ، فَلِهذا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بالدَّيْنِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا لَمْ يَجُزْ شِرَاءُ دَيْنٍ على غَائِبٍ لأَنَّهُ مُنتظِرٌ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الذي عَلَيْهِ الدَّيْنِ مُفْلِسَاً ولَا يَدْرِي ذَلِكَ المُشْتَرِي، وكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ مَا عَلَيْهِ وإنْ كَانَ حَاضِرَاً غَيْرَ مُقَرِّ بالدَّيْنِ وإنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بهِ بَيِّنَةٌ، لأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي هِبَةَ الدَّيْنِ، فالذي يَشْتَرِي ذَلِكَ يَشْتَرِي خُصُومَةً، ويدخُلُ على غُرَرٍ، فإذا أَقَرَّ بالدَّيْنِ فَشِرَاءُ ما عَلَيْهِ جَائِز، فإنْ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنَاً، بِيعَ بِعَرَضٍ نَقْداً، وإنْ كَانَ عَرَضَاً بِيعَ بالعَيْنِ والعَرَضُ المُخَالِفُ لَهُ نَقْداً، فإنْ كَانَ إلى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ، لأَنَّهُ فُسِخَ دَيْنٍ في دَيْنٍ، وإنْ كَانَ ذَهباً لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِفِضَّةٍ ولَا ذَهبٍ.

باب في الشركة، والتولية، وإفلاس الغريم

بابُ في الشِّرْكَةِ، والتَّوْلِيةِ، وإفْلاس الغَرِيمِ إذا بَاعَ الرَّجُلُ ثِيَاباً مَخْتَلِفَةَ الصِّفَاتِ فَاسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ مِنْ صِنْفٍ مِنْها عَدَداً يَخْتَارُهُ، فإنَّ ذَلِك جَائِزٌ، مِثْلَ أَنْ يَبْتَعَ عدلاً فِيهِ خَمْسُونَ ثَوْباً عَشَرَةٌ مِنْ خَزٍّ، وعَشَرَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، وعَشَرَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، وعَشَرَةٌ مِنْ قُطْنٍ، وعَشَرَةٌ مِنْ كَتَّانٍ، فَيَسْتَثْنِي البَائِعُ مِنْها عَدَداً عندَ الصَّفْقَةِ مُخْتَارَةً مِنْ أَحدٍ الأَصْنَافِ، فهذا جَائِزٌ ولَهُ شَرطُهُ، وإذا لم يُسَمِّ مِنْ أَيِّ الأَضنَافِ يَخْتَارُ العَدَدَ الذي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ، فإنَّهُ يَكُونُ شَرِيكَاً للمُشْتَرِي مِنْهُ بِقدرِ ما اسْتَئْنَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ في جُمْلَةِ مَا بَاعَ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الثِّيَابِ. قالَ أبو المُطَرِّفِ: أَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ على إجَازَةِ الشِّرْكِ والتَّوْليةِ والإقَالَةِ في الطَّعَامِ وغَيْرِه قَبْلِ قَبْضِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فِعْلٌ مَعْرُوفٌ، ولَيْسَ يُوجَدُ في ذَلِكَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا مَا أَرسَلَهُ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وذَكَرَهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ (¬1). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَن اشْتَرَى سِلْعَةً ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيها غَيْرُهُ أَنَّ التَّبِعَةَ فِيها على المُشَرِّكِ، إلَّا أنْ يَشْتَرِطَ المُشَرّكُ على الذي أَشْرَكَهُ بِحَضْرَةِ البَيْع في وَقْتِ الشَرْكَةِ أَنَّ بَيْعَتَكَ فِيها على البَائِعِ الأَوَّلِ، فَيْنَفَعُهُ شَرطُهُ، وتَكُونُ حِينَئِذٍ تَبعَةُ المُشَزكِ فِيمَا يَلْحَقُهُ في السِّلْعَةِ على البَائِعِ الأَوَّلِ، وإنْ بَعُدَ شَرْطُ المُشرِّكِ مِنْ عًقْدِ الصَّفْقَةِ لَمْ يُنتفَع بهِ، وكَانَتِ التَّبعَةُ في ذَلِكَ على المُشَرِّكِ، إنَّما كَانَتِ التَّبعَةُ على المُشَرِّكِ أو المُوْلي مِنْ أًجْلِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَلَّكَةُ مَا أَشْرَكَ فِيهِ أَوَّلاً بِعَقْدِ الصَّفْقَةِ، فماذا أَشْرَكَ أَوَّلاً بِحَضْرَةِ البَائِعِ الأَوَّلِ واشْتَرَطَ التَّبِعَةَ عَلَيْهِ نَفَعَهُ شَرطُهُ، ¬

_ (¬1) لم أجد هذا البلاغ في الموطأ، ولم ينسبه أحد إليه.

لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذ مَالِكَأ لِمَا أَشْرَكَ فِيهِ، أَو وَلاَّهُ مُلْكَأ تَامَاً، وأَمَّا إذا بَعُدَ شَرطُهُ مِنْ عَقْدِ الصَفْقَةِ لَمْ يَنتفِع بهِ، لأَنَّهُ قَدْ ملَكَهُ ذَلِكَ مِلْكَاً تَامَّا، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ التَّبِعَةُ، ولَم يَنْتفِعْ بِشَرطِهِ. * قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُل: أَشْرِكْنِي بِنِصْفِها وأَنَا أَبِيعُها لَكَ أَنَّهُ جَائِزٌ، يَعْنِي: إذا ضَرَبَ لِبَيْعِها أَجَلاً، لأَنَّهُ بَيْعٌ وإجَارَة، والبَيع والإجَارَةُ جَائِزٌ أنْ يَجْتَمِعَانِ في صَفْقةٍ وَاحِدَة، فإنْ لَمْ يَضْرِبْ لِبَيْعِهِ إيَّاها أَجَلاً لَمْ يَجُزْ. قالَ عِيسَى: فإنْ بَاعَها فى نِصْفِ الأَجَلِ الذي ضَرَبَهُ لِبَيْعها كَانَ لَهُ نِصْفُ الأُجْرَةِ في بَيْعِهِ إيَّاها. وتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنْ يُقَالَ مَا قِيمَةُ نِصْفِ هذِه السِّلْعَةِ على اشْتِرَاطِ قِيَامِ المُشْتَرِي في بَيْعِهِ النِّضفَ الآخَرِ شَهْراً، فإنْ قِيلَ: قِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قِيلَ: فَمَا قِيمَتُها بِغَيْرِ اشْتِرَاطٍ؟ فإنْ قِيلَ: اثْنتَيْ عَشَرَ درهماً، فبينَ القِيمَتَيْنِ دِرهمَانِ، وَهُوَ السُّدُسِ مِنَ الثَّمَنِ كُلِّهِ، فإذا خَدَمَهُ في بَيْعِها نِصفُ شَهْرٍ وَجَبَ لَهُ مِنَ الأُجْرَةِ نِصْفَها، فَهذا وَجْهُ العَمَلِ في هذِه المَسْأَلةِ. * قالَ أَحمَدُ بنُ خَالِدٍ: رَوَى حَدِيثَ التَّفْلِيسِ أَصحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ مرسَلاً، إلَّا عبدَ الرَّزَاقِ فإنَّهُ أَسْنَدَهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزّهْرِيِّ، عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعَاً فَأفْلَسَ الذي ابْتَاعَهُ مِنْه"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه (¬1). قالَ أَحمدُ بنُ خَالِدٍ: وأَصحَابُ مَالِكٍ لا يَذْكُرُونَ في سَنَدِ هذا الحَدِيثِ أبا هُرَيْرَةَ، وإنَّمَا يَروُنَهُ مرسَلاً عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وبِهذا أَخَذَ مالك، والزُّهْرِيُّ قَبْلَهُ، كَانَا يَقُولاَنِ: صَاحِبُ المُبْتَاعِ أَحق بِمَتَاعِهِ إذا وَجَدَهُ في حَالِ الفَلَسِ، وَهُوَ في المَوْتِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق 2648.

* قالَ أَحمَدُ: وذَهبَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ المَوْتَ والفَلَسَ سَوَاءٌ، وأنَّ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَأْخُذَها في المَوْتِ، كَمَا يَأْخُذَها في الفَلَسِ، واحتَجَّ في ذَلِكَ بِمَا [رَوَاهُ] (¬1) ابنُ أَبي ذِئْبٍ، عَنْ أَبي المُعتَمِرِ، عَنْ عُمَرَ بنِ خَلْدَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ مَاتَ أَو أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" (¬2). قالَ أَحمَدُ: ولَيْسَ يُعَارِضُ حَدِيثُ الزّهْرِيِّ بِحَدِيثِ أَبي المُعتَمِرِ الذي لم يَروِهِ إلَّا ابنُ أَبي ذَئْبٍ، وقالَ النَّسَائِيُّ أحمدُ بنُ شُعَيْبٍ: ابنُ أَبي ذِئْبٍ رَجُلٌ ضَعِيفٌ (¬3). قالَ أَحمَدُ بنُ خَالِدٍ: والمُفْلِسُ في النَّظَرِ يُفَارِقُ المَيِّتَ، لأَنَّ المُفْلِسَ تَبْقَى ذِمَّتُهُ لِسَائِرِ غُرَمَائِهِ، والمَيّتُ لا تَبْقَى لَهُ ذِمَّةٌ بعدَ مَوْتهِ، فَلِهذا افْتَرَقَ حُكْمَهُمَا في الحَيَاةِ والمَمَاتِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا اشْتَرَى المُفْلِسُ بُقْعَةً بِدَيْنٍ، ثُمَّ بَنَاها، فَطَلبَ رَبُّهَا ثَمَنَهَا، أَنَّها تُقَوَّمُ البُقْعَةُ، ويَقُوَّمُ البُنْيَانُ، والخِيَارُ في هذه المَسْأَلةِ للغُرَمَاءِ، إنْ أَحَبُّوا أَنْ يَدفَعُوا إلى صَاحِبِ البُقْعَةِ ثَمَنَ بُقْعَتِهِ ويأْخُذُونَها لأَنْفُسِهِم كَانَ ذَلِكَ لَهُم، وإلَّا قُوّمَ البُنْيَانُ قَائِمَاً، فَيُعْرَفُ مَا قِيمَةُ الدَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ: مَا قِيمَةُ البُقْعَةِ بَرَاحَاً بِلا بِنَاءٍ؟ فَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ لِصَاحِبِ البُقْعَةِ قِيمَةُ بُقْعَتِهِ، ويَكُونُ للغُرَمَاءِ قِيمَةُ البُنْيَانِ، يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُم على قَدْرِ دِيُوبهِم، وإنَّمَا أَخَذَ صَاحِبُ البُقْعَةِ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لأَنَّهُ وَجَدَ سِلْعَتَهُ قَائِمَةً بِعَينها، فَكَانَ أَحَقَّ بِها مِنْ سَائِرِ الغُرَمَاءِ. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: رواها، وهو خطأ لا يتناسب مع السياق. (¬2) رواه ابن ماجه (2360)، والشافعي في الأم 3/ 199، والدارقطني في السنن (2900)، بإسنادهم إلى ابن أبي ذئب به. (¬3) لم أجد تضعيف النسائي لإبن أبي ذئب، وإنَّما وجدت أنه يوثقه، وهذا هو الصحيح، فإن ابن أبي ذئب أحد الأئمة المشهورين ممن أجمع على توثيقه، ينظر: تهذيب الكمال 25/ 630. وكان الأولى تضعيف الحديث بأبي المعتمر وهو رجل مجهول لا يعرف، بنظر: لسان الميزان 7/ 484.

باب ما يكون من المساومة، إلى آخر كتاب البيوع

بابُ مَا يكُونُ مِنَ المُسَاوَمَةِ، إلى آخِرِ كِتَابِ البِيُوعِ * في رَدِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خِيَارَاً مَكَانَ البَكْرِ الذي اسْتَسْلَفَهُ مِنَ الفِقْهِ: إجَازَةُ السَّلَفِ في الحَيَوانِ، ورَدُّ المُسْتَسْلِفِ أَفْضَلَ مِنَ العَيْنِ الذي اسْتَسْلَفَهُ إذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا على شَرطٍ، أو عَادَةٍ جَرَتْ بَيْنَ المُسْلَفِ والمُسْتَسْلِفِ، ولا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ عَدَداً مِنَ الذي اسْتَسْلَفَ، وكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَد اسْتَسْلَفَ ذَلِكَ البَكْرِ لِغَيرهِ، ولِذَلِكَ رَدَّهُ إلى صَاحِبهِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، ولَو اسْتَسْلَفَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَرُدهُ مِنْ إبلِ الصَّدَقَةِ، لأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ. * قالَ أَبو المُطَرَّفِ: لَمْ يَجُزْ لِمَنْ أَسْلَفَ طَعَاماً في بَلَدٍ أَنْ يَشْتَرِطَ قَبْضَهُ في غَيْرِ البَلَدِ الذي أَسْلَفَهُ فِيهِ، لأَنَّهُ يربَحُ في ذَلِكَ المُسْلَفِ حِمْلاَنَهُ مِنَ البَلَدِ الذي أَسْلَفَهُ فِيهِ إلى البَلَدِ الذي اشْتَرَطَ قَبْضهُ فِيهِ، والزِّيَادَةُ في السَّلَفِ رِبَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أُسْقِطَ شَرطُهُ، وأَخَذَهُ في البَلَدِ الذي دَفَعَهُ فِيهِ، وقَد قَالَ ابنُ عُمَرَ للذي سَألهُ عَمَّن أَسْلَفَ واشْتَرطَ الريَادَةَ فأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وقالَ: (شُقَّ الصَّحِيفَةَ) يَعنِي: أَسْقِطِ الشّرطَ الذي اشْتَرَطَهُ في الزِّيَادَةِ، (فإنْ أَعطَاكَ الذي عَلَيْهِ السَّلَفُ أَفْضَلَ عَنْ طِيبِ نَفْسم مِنْهُ فَاقْبَلْهُ)، يُرِيدُ: مَا لَمْ تَكُنْ عَادَةً جَرَيا عَلَيْها فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُ حِينَئِذٍ إلَّا مِثْلَ الذي أسْلَفَهُ إيَّاهُ، ولهذا الوَجْهِ كُرِهَتْ هدِيَّةُ المديَانِ (¬1)، لأَنَّها زِيَادَة في السَّلَفِ، وذَلِكَ رِبَا. ¬

_ (¬1) المديان: هو الكثير الدَّيْن الذي علته الديون، وهو مفعال من الدَّيْن للمبالغة، ينظر: النهاية 2/ 150.

* قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَجُزِ السَّلَفُ في الجَوَارِي، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَباً إلى عَارِيَةِ الفُرُوجِ، فإذا وَقَعَ مِثْلُ هذا نُقِضَ السَّلَفُ، مَا لَمْ يَغِبِ المُسْتَسْلِفِ على الجَارِيةِ ويَطَأَها، فإذا وَطِئَها لَزِمَتْهُ قِيمَتُها يَوْمَ قَبَضَها. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيع"، يُرِيدُ: لا تَلَقَّوُا جُلاَّبَ السِّلَعِ لِلْبَيْعِ، فَتَبْتَاعُونَها مِنْهُم قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا بِهَا الأَسْوَاقَ، ثُمَّ تَبِيعُونَها مِنْ أَهْلِ الأَسْوَاقِ غَالِيَة، فتَضُرُّوا بِهم. وقُولُه: "لا تَنَاجَشُوا"، يَعْنِي: لَا تَغطُوا في السِّلَع فَوْقَ أَثْمَانِها، ولَيْسَ الشِّرَاءُ مِنْ شَأْنِكُم، لِكَي يَغْتَرَّ بِذَلِكَ غَيْرُكُم مِمَّنْ يُرِيدُ الشًّرَاءَ، فَيَزِيدُ في ثَمَنِ السِّلْعَةِ لِزَيَادَةِ النَّاجِشِ في ثَمَنِها، فَيَضُرُّ ذَلِكَ بالمُشْتَرِي. وقَوْلُهُ: "لَا تُصَرُّوا الإبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ" يَعْنِي: لَا تَتْرُكُوا حِلاَبَها إذا أَرَدْتُم بَيْعَها لِكَي يَجْتَمعَ اللَّبَنُ في ضُرُوعِها فتَعْظُمُ بِذَلِكَ ضُرُوعُها، فإذا نَظَرَ إليها المُشْتَرِي رَغِبَ فِيها، وزَادَ في ثَمَنِها، وظَنَّ أنَّ لَبَنَها غَزِيرٌ، وهذا غِشّ وتَدلِيسٌ، فَمَنِ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً كَانَ بالخِيَارِ بَغدَ أَنْ يَحلِبها، إنْ شَاءَ أمسَكَها، وإنْ شَاءَ رَدَّهَا وصَاعَاً مِنْ تَمْرٍ. وهذا الحَدِيثُ أَصْلٌ في الرَّدِّ بالعُيُوبِ في الحَيَوانِ وغَيْرِه، فإذا كَانُوا بِبَلَدٍ لَا تَفرَ فِيهِ أَعطَى مَكَانَ الصَّاعِ مِنَ التَّفرِ صَاعَاً مِنْ طَعَامٍ، ولَا يَجُوزُ للذي تُرَدُّ عَلَيْهِ المَصرُورَةَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الصَّاعَ مِنَ التَّفرِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوفِيَهُ، لأَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الصَّاعَ بالَّلَبنِ المصرُورِ في الضَّرعِ حِينَ بَاعَها مِنَ الذي اشْتَرَاها مِنْهُ، فإذا بَاعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ دَخَلَهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى، وصَارَ الَّلَبنُ المَخلُوبُ مِنَ المُصَرَّاةِ في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ الذي بهِ يَبِينُ صُرُّها لِمُشْتَرِيها بلاَ ثَمَنٍ، مِنْ أَجْلِ ضَمَانِهِ إيَّاها قَبْلَ أَنْ يَرُدَّها، وهذا يُقَوِّي حَدِيثَ "الخَرَاجُ بالضَّمَانِ" (¬1)، لأَنَّهُ في مَعنَاهُ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريج الحديث في هذا الكتاب، بابُ مَا جَاءَ في مَالِ المَمْلُوكِ إذا بِيعَ، إلى آخِرِ عِيُوبِ الرقيق.

قالَ عِيسَى: وَلَو جَاءَ بالَّلَبَنِ الذي طَلَبَ مِنها أَوَّلَ مَرَّة فَرَدَّهُ مَعَهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، ولَزِمَهُ غُرمُ الصَّاعِ. قالَ: وَلَو عَلِمَ أَنَّها مَصْرُورَةً بإقْرَارٍ مِنَ البَائِعِ فَرَدّها قَبْلَ أَنْ يَحلِبها لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمُ الصَّاعِ، لأنَّهُ لَم يَحلِب اللَّبَنِ الذي بِسَبَبهِ يَلْزَمُهُ غُرْمُ الصَّاعِ. قالَ: وَلَو حَلَبَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ حَلَبَها الثَّانِيَةَ فَنَقَصَ لَبَنُها، فَظَنَّ أَنَّهُ مِن اسْتَنْكَارِ المُرضِعِ، ثُمَّ حَلَبَها الثَّالِثَ فتَبَيَّنَ لَهُ صُرها، فأَرَادَ رَدّها فإنَّهُ يَحْلِفُ باللهِ مَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رِضَاً بِها، ثُمَّ يَرُدّها ويَرُدُّ مَعَها الصَّاعَ الذي أَمَرَ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقِيلَ: إذا كَانَتْ كَبِيرَةً رَدَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدةٍ حَلَبَها صَاعَاً مِنْ تَمْرٍ. وقَيِلَ: بلْ يَرُدُّ عَنْها كُلُّها بعدَ حِلاَبهِ إيَّاها صَاعَاً مِنْ تَمْرٍ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فِي الذي يَتَلَّقَى السِّلَعِ قَبْلَ أَنْ يُهْبِطَ بِها الأَسْوَاقَ أَنَّها تُؤْخَذُ مِنْهُ، وتُوقَفُ للنَّاسِ في السُّوقِ، فَيَشْتَرُونَها بِمَا اشْتَرَاها بهِ، فإنْ لَم يُوجَد مَنْ يَشْتَرِيها رُدَّتْ عَلَيْهِ، فإنْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ عَنْدَهُ ولَم تُوجَد مَعَهُ وكانَ مُتَعَوِّدَاً بِذَلِكَ أَدَّبَهُ السُّلْطَانُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَوِّدَاً بِذَلِكَ نَهاهُ أَنْ يَعُودَ، وخَلَّى سَبِيلَهُ. وقَوْلُهُ: "لا يَبِعْ حَاضِر لِبَادٍ"، يَعْنِي: لا يَتَولَّى أَهْلُ الحَضَرِ بَيع سِلَعِ أَهْلِ البَوَادِي، لأَنَّ ذَلِكَ ضَرَو على أَهْلِ الحَوَاضِرِ، وقَد رَوَى سُفْيَانُ، عَن أَبي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزِقُ اللهُ بعضَهُم مِنْ بَعضٍ" (¬1). قالَ ابنُ أَبي أُوَيْسٍ: وهذا نَظَر مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأهْلِ الحَاضِرَةِ على أَهْلِ البَادِيَةِ لِفَضْلِهِم عَلَيْهم لإقَامَتِهِم (¬2) الجَمَاعَاتِ، ولِعِلْمِهِم بالسُّنَنِ. قالَ عِيسَى: ولا بَاسَ أَنْ يَشْتَرِي حَاضِرٌ لِبَادٍ، [وأَمَّا إذا بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ] (¬3) فإنَّهُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1522)، والترمذي (1223)، وابن ماجه (2176)، وأحمد 3/ 307، بإسنادهم إلى سفيان بن عيينة به. (¬2) من هنا تبدأ قطعة نسخة القيروان في هذا الموضع، وهي التي رمزت لها بحرف (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق).

يُفْسَخُ البَيْع مَا لَمْ تَفِتِ السِّلْعَةُ، ويُؤَدَّبُ البَائِعُ إنْ كَانَ عَالِمَاً بِمَكْرُوهِ ذَلِكَ. قالَ: وأَمَّا مَنْ بَاعَ على النَّجَشِ فَالمُشْتَرِي رَدُّ تِلْكَ السِّلْعَةِ إنْ شَاءَ، فإنْ فَاتَتْ نُظِرَ إلى قِيمَتِهَا يَوْمَ البَيْع، فإنْ كَانَتِ القِيمَةُ أَقَل مِنَ الثَّمَنِ الذي دَفَعَهُ المُشْتَرِي فِيها رَدَّ البَائِعُ على المُشْتَرِي مَا زَادَ على قِيمَةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ. قالَ: ومَنْ سَامَ على سَوْمِ أَخِيهِ بَعْدَ أَنْ رَكَنَ البَائِعُ إلى السَّائِمِ، فَابْتَاعَها السَّائِمُ الآخَرُ، فإنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ لَمْ تَفِتْ فَلْيَعرِضها على الذي سَامَ بِها أَوَّلاً، فإنْ أَرَادَها أَسْلَمَها إليه بالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاها بهِ، وإنَّما أَمرَهُ أَنْ يَعرِضَها عَلَيْهِ، لأَنَّهُ اشْتَرَاها في وَقْتٍ قَدْ مُنِعَ مِنْ شِرَائِهِ إيَّاها، بِسَببِ رُكُونِ البَائِعِ إلى السَّائِمِ الأَوَّلِ فأَضَرَّ بهِ. وكَذَلِكَ لا يَنْبَغِي للمُسْلَمِ أَنْ يَسُومَ على سَوْمِ اليَهُودِيِّ أَو النَّصْرَانِيِّ عندَ رُكُونِ البَائِعِ إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لأن لَهُم ذِمَّةً، ولَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَرَّ بِهِم. ذَكَرَ أَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بنِ مَالِكٌ: "أَنَّ رَجُلًا كَانَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في عُقْدَتِهِ ضَعفٌ، وكَانَ يَبْتَاعُ السِّلَعَ، فأتى أَهْلُهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، [أُحجُرْ] (¬1) على فُلاَنٍ، فإنَّهُ يَبْتَاعُ وفِي عُقْدَتِهِ ضَعف، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَهاهُ عَنِ البَيْع، فقالَ: لَا أَصبرُ عَنْ ذَلِكَ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ البَيْع فَقلْ: هاءَ، ولَا خِلَابَةَ" (¬2). * قالَ أبو المُطَرِّفِ (¬3): هذا الحَدِيثُ يُبيِّنُ حَدِيثَ مَالِكٍ في المُوطَّأ إذ لِكُلِ بَائِعِ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ بِمَا شَاءَ إذا بَاعَها مِمَّنْ يَجُوزُ مُبَايَعَتَهُ ولَا يُنْظَرُ إلى مَا اشْتَرَى البَائِعُ في ثَمَنِ سِلْعَتِه، إلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ المُشْتَرِي: بعنِي ولَا خِلاَبَةَ، فَلَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من سنن أبي داود، وجاء في الأصل، وفي (ق): حجر. (¬2) سنن أبي داود (3501) من حديث قتادة عن أنس به. ورواه الترمذي (1250)، والنسائي 7/ 252، وابن ماجه (2354)، وأحمد 3/ 217. وقوله: (في عقدته ضعف) أي: في رأيه ونظره في مصالح نفسه. وقوله: (لاخلابة) -بكسر الخاء وتخفيف اللام- أي: لا خديعة، ينظر: تحفة الأحوذي 4/ 380. (¬3) في ق: (ع).

يبعها مِنْهُ حِينَئِذٍ، إلَّا بِمَا تُسَاوِي، فإنْ فَعَلَ رَدَّها عَلَيْهِ وقَبَضَ مِنْهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ (¬1): لَمْ يَجُزْ للرَّجُلِ أنْ يَبْتَاعَ مَا يَتَمَكَّنُ لَهُ عَدَدُهُ جُزَافَاً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ قَصَدَ إلى تَرْكِ العَدَدِ في مِثْلِ هذا فَقد قَصَدَ الغَرَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُقِضَ البَيْعُ مَا لَمْ يَفِتِ المَبِيعُ، وكَانَتْ في ذَلِكَ القِيمَةُ إنْ فَاتَ يَوْمَ قَبَضَ ذَلِكَ المُشْتَرِي (¬2). قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ بَاعَ شَيْئاً لِغَيْرِه على وَجْهِ الجُعْلِ أَنهُ لَا بَأْسَ بهِ إذا سَمَّى الجَاعِلُ المَجْعُولَ (¬3) لَهُ ثَمَناً يَبِيعُ بهِ سِلْعَتَهُ، فإنْ لَمْ يَتَهيَّأ لَهُ بَيْعُها لَم يَكُنْ لَهُ شَيءٌ مِنَ الجُعلِ الذي جُعِلَ لَهُ، وهذا طَرِيقُ الجُعْلِ عِنْدَ العُلَمَاءِ، ودَلِيلُهُم عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، فَلَم يُؤَقِّتْ في الجُغلِ أَجَلاً، وجَعَلَ لَهُ جُعلَهُ إذا جَاءَ بالصُّوَاعِ، فَدَلَّ هذا على أَنَّهُ إنْ طَلَبَهُ ولَم يَأتِ بهِ أَنَّهُ لَا شَيءَ لَهُ مِنَ الجُعْلِ. قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: فالجُعلُ خَارِج مِنْ مَعَانِي الإجَارَةِ بِوجُوهٍ كَثيرَةٍ، مِنْ ذَلِكَ: أنَّهُ لا أَجَلَ فِيهِ، وأنَّ المَجْعُولَ لَهُ أَنْ يَدَعَ العَمَلَ مَتَى شَاءَ، وأَنَّه لَا شَيءَ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ سعيهِ حتَّى يتِمَّ بَيْعُ الثوْبِ أَو الشَّيءِ الذي جُعِلَ لَهُ الجُعلُ بِسَببِه. قالَ: والإجَارَةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لَا تَكُونُ إلَّا في عَمَلٍ مَعلُومٍ، وأَجَلٍ مَعلُومٍ، وثَمَنٍ مَعلُومٍ، ويَكُونُ للعَامِلِ مِنَ الأُجْرَةِ بقَدرِ مَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ، والدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذا قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27]، فَانْعَقَدتِ ¬

_ (¬1) في (ق): ع. (¬2) جاء في نسخة (ق): مالم يفت المبيع (فإن فات كانت في ذلك القيمة يوم قبض ذلك المشتري)، ولا فرق بين ماجاء في هذه النسخة ونسخة الأصل إلا في التقديم والتأخير. (¬3) في (ق): للمجعول.

الإجَارَةُ بَيْنَ مُوسَى ووَالِدِ زَوْجَتهِ (- صلَى اللهُ عَلَيْهِما -) (¬1) في عَمَلٍ مَعلُومٍ، وأَجَلٍ مُؤْقَّتٍ، وثَمَنٍ مَغلُومٍ، وَهُوَ صُدَاقُ الزَّوْجِ، وشَرَعَ مُوسَى (- صلى الله عليه وسلم -) (¬2) في ذَلِكَ الوَقْتِ في الرِّعَايةِ، وهَذَا حُكْمُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرَاً بِعَيْيهِ في عَمَل مَعلُومٍ أَنَّهُ يَشْرَعُ في العَمَلِ في الوَقْتِ. * * * تَمَّ كِتَابُ البُيُوعِ بِحمدِ اللهِ ونعمَتهِ، وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آَلهِ وسَلَّمَ يَتْلُوهُ كِتَابُ الأَقْضِيَةِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى * * * ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) من (ق).

تفسير كتاب الأقضية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ الأَقْضِيَةِ قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وإنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ" يَعنِي: أَنَا بَشَرٌ لا عِلْمَ لِي بِبَوَاطِنِ أُمُورِكُم التي تَخْتَصِمُونَ فِيها إليَّ، وهذا فِيمَا لَمْ يُطْلِعهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ، فأَمَّا مَا أَغلَمَهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى إياهُ فَهُوَ بَائِنٌ فِيهِ عَنْ سَائِرِ البَشَرِ. وقَوْلُهُ: "فَلَعَلَّ بَعضَكُم أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بعضٍ"، يَعنِي: يَكُونَ أَفْطَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعضٍ (¬1)، وأَجْدَلَ في كَلاَمِهِ مِنْ صًاحِبهِ الذي يُخَاصِمُهُ. وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: اللَّحَنُ -بِفَتْحِ الحَاءِ- الفِطْنَةُ، واللّحنُ -بَجَزْمِ الحَاءِ- الخَطَأُ في الكَلاَمِ (¬2). قالَ أَبو المُطرَّفِ (¬3): في هذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ قَضَاءَ القَاضِي لَا يَحِلُّ للمُقْضَى لَهُ مَالَ المُقْضَى عَلَيْهِ إذا ادّعَى [عَلَيْه] (¬4) مَا لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "حُرمَةُ مَالِ المُسْلِمِ ¬

_ (¬1) قوله (من بعض) لا توجد في نسخة (ق). (¬2) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام 2/ 42. (¬3) في نسخة (ق): ع. (¬4) من نسخة (ق).

كَحُرمَةِ دَمِهِ" (¬1)، فَحَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-[المَالَ] (¬2) كَمَا حَرَّمَ الدَّمَ، فَمَنْ أَخَذَ [مِنْ] (¬3) مَالِ أَخِيهِ بغَيْرِ [حَقِّه] (¬4) لَمْ يَحِل لَهُ، وكَانَ عَلَيْهِ [حَرَامٌ] (¬5)، فَالحُكْمُ مِنَ الحَكَمِ المُجْتَهِدِ إنَّمَا هُوَ على ظَاهِرِ الأَمرِ لَا على بَاطِنِه، وحَقِيقَةُ معرِفَةِ الأمُورِ البَاطِنَةِ إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَيْسَ يُزِيلُ حُكْمُ الحَاكِمِ مَا يَعلَمُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الحَلاَلِ [و] (¬6) الحَرَامِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ [الحَاكَمَ] (¬7) لو عَلِمَ مَا شَهِدَ بهِ عِنْدَهُ الشَّاهِدَانِ أَنَّهُ زُورٌ مَا حَكَمَ بهِ ولا أَنْفَذَهُ، [فَكَذَلِكَ يُلْزَمُ] (¬8) المَخكُومُ لَهُ أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ أَخْذَ مَا حَكَمَ لَهُ بهِ الحَاكِمُ الذي لَوْ عَلِمَ أن ما حَكَمَ بهِ بَاطِلٌ مَا حَكَمَ بهِ. ومَنْ قَالَ: إنَّ قَضَاءَ [القَاضِي] (¬9) يَحِلّ للمَحكُومٍ لَهُ مَا حَكَمَ لَهُ بهِ القَاضِي لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ في رَجُلَيْنِ شَهِدا لِرَجُلٍ أَنَّ ابْنتَهُ أَمَتُهُ، فَقضَى لَهُ بِها القَاضِي أَنْ يَبِيحَ وَطئَها لأَبِيها الذي شُهِدَ لَهُ أَنَّها أَمَتُهُ، ونَعُوذُ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ القَوْلِ بِهذا. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ (¬10): قَؤلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ اخْتَصَمَ إليهِ مُشلِمٌ ويَهُودِيّ، فَرَأَى أَنَّ الحَقَّ لليَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ بهِ)، فِي هذا مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ الحَكَمَ إذا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَحَدَ (¬11) الخَصمَيْنِ علَى حَق أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بهِ، ولَيْسَ العَمَلُ عَلَى هذا عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ، ولَيْسَ يَقْضِي القَاضِي عِنْدَهُم على المَطْلُوبِ ¬

_ (¬1) رواه أحمد 4461، وأبو يعلى الموصلي 9/ 55، والطبراني في المعجم الكبير 10/ 159، من حديث ابن مسعود، وإسناده ضعيف. (¬2) ما بين المعقوفتين من نسخة (ق). (¬3) من الأصل، وسقطت من (ق). (¬4) في (ق): حق. (¬5) في نسخة (ق): حراما. (¬6) في (ف): أو. (¬7) من (ق)، وفي الأصل: الحكم. (¬8) في (ق): وكذلك يلزمه. (¬9) في (ق): القضاة. (¬10) في (ف): ع. (¬11) إلى هنا انتهت نسخة القيروان، وهي التي رمزت لها بحرف (ق) في هذا الموضع.

إلَّا بالبينَةِ العَادِلَةِ بِعدلٍ يُعْذَرُ إلى المَحكُومِ عَلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِمَا شُهِدَ بهِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا ضَرَبَ عُمَرُ اليَهُودِيَ حِينَ قَالَ لَهُ: (واللهِ لَقَد قَضَيْتَ بالحَقِّ)، لأَنَّهُ مَدَحَهُ في وَجْهِهِ، وقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوه المداحِينَ" (¬1). وقالَ أَبو عُمَرَ: إنَّمَا ضَرَبَهُ لادَّعَائِهِ مَغرِفَةَ الحَقِّ الذي هُوَ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَجِدُ في التَّوْرَاةِ أَنَ الحَكَمَ إذا قَصَدَ الحَقَّ والعَدْلَ في أَحكَامِهِ كَانَ مُوَفَقَاً مُسَدَّدَاً، صدَّقَهُ عُمَرُ في ذَلِكَ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فِي كِتَاب اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دَلِيل على صَحّةِ قَوْلِ ذَلِكَ اليَهُودِي، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص: 26]، فَكُلُّ مَنْ لم يَتبِعِ الهوَى في حُكْمِهِ كَانَ مُوققَا مُسَدَدَاً مُعَاناً بالمَلاَئِكَةِ، ومَنْ قَصَدَ البَاطِلَ في حُكْمِهِ لم يُوفَقْ، ولَم يُسَدَّد، ولا أَعَانتهُ المَلاَئِكَةُ. ورَوَى أَبو هُرَيْرَةَ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ المُسْلِمينَ حتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غَلَبَهُ عدلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الجَنَةُ، ومَنْ غَلَبَهُ جَوْرَهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ" (¬2). قالَ أَبو المُطَرّفِ: قَوْلُهُ "أَلاَ أُخْبِرُكمُ بخَيْرِ الشهدَاءِ" وذَكَرَ الحَدِيثَ، مَعنَى هذا الحَدِيثِ: رَجُل سَمِعَ رَجُلًا يُطلقُ امرَأتَهُ أَو يَعتِقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ جَحَدَ الطَّلاَقَ أَو العِتْقَ، فَوَجَبَ على مَنْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ امرَأتَهُ أَو يَعتِقُ عَبْدَهُ أنْ يَأتِي السلْطَانَ فَيَشْةدُ عِنْدَهُ بِمَا سَمِعَ مِنْ ذَلِكَ، قَبْلِ أَنْ يُسْئَلُ عَنْ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، ولَيْسَ هذا الحَدِيثُ في كُلِّ الشَّهَادَاتِ، وأَمَا مَنْ كَانتْ عِنْدَهُ شهادة في حَقٍّ مِنَ الحُقُوقِ فَدُعِيَ إلى أَدَائِها فَوَاجَبٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُها، إذ في كِتْمَانِها قَطْعُ حَقٍّ، وعَوْن على ظُلْمٍ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3001)، والترمذي (2393)، وابن ماجه (3742)، من حديث المقداد بن عمرو. (¬2) رواه أبو داود (3575)، بإسناده إلى أبي هريرة به.

* قولُ عُمَرَ: (واللهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُل في الإسلَامِ بغَيْرِ العدلِ)، يَعنِي: لا يُقْضَى بِشَهادَةِ غَيْرِ العَدْلِ على أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ. قالَ أَبو محمد: افْتُتِحَ العِرَاقُ في أَيَّامِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وكَانَ النَّاسُ بِها أَخْلاَطاً مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، فَكَانَ مِنْهُم مَنْ يَتَرَخَّصُ في شَهادَاتِ الزُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهادَةِ غَيْرِ العَدْلِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا رِضَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ. قالَ أَبو عُمَرَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّبَاً عَلَيْهِ الكَذِبُ، ولَم يُظْهِرِ الكَبَائِرَ، وكَانَ الخَيْرُ عَلَيْهِ غَالِبا جَازَتْ شَهادَتُهُ وتَعدِيلُهُ. وقالَ قَوْمٌ: لَا تَجُوزُ إلَّا شَهادَةُ مَنْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بهِ، وانتهى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. قالَ أَبو عُمَرَ: وهذه قَوْلَةٌ شَدِيدَةٌ، والأَوَّلُ أحسَنُ. قالَ أَبو المُطَرّفِ: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (لَا تَجُوزُ شَهادَةُ خَصمٍ ولَا ظَنِينٍ)، يَعنِي (بالخَصمِ): الذي يُخَاصِمُ الرَجُلَ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا تَجُوزُ شَهادَتُهُ عَلَيْهِ، و (الظَّنِينُ): هُوَ المُتَّهمُ الذي لَا يُؤْمَنُ بِتِلْكَ الشَّهادَةِ، كَالأَبِ لابْنِهِ، أَو الزَّوْجَيْنِ أَحَدُهُمَا للأَخِرِ، وتَجُوزُ شَهادَةُ الأَخِ العَدْلِ لأَخِيهِ، إلَّا في الوَلَاءِ، لأَنَّهُ يَجُرُّ ذَلِكَ إلى نَفْسِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا تَابَ المَحدُودُ قُبلَتْ شَهادَتُهُ، لِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4، 5] فَوَجَبَ بِهذا النَّصّ أَنْ تُقْبَلَ شَهادَةُ المحدُودِ إذا تَابَ وأَصلَحَ، فإذا قَبِلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- تَوْبَةَ عَبْدِه كَانَ العِبَادُ بالقَبُولِ أَحَقَّ وأَوْلَى، ولَم يَخْتِلفْ أَحَدٌ فِي أَنَ الزانِيَ إذا تَابَ قُبلَتْ شَهَدَادَتُهُ، فَرَامِيهِ بالزِّنَا أَيْسَرُ جُرْمَاً مِنْهُ إذا نزعَ عَنْ ذَلِكَ، وتَابَ، وصَلُحَتْ حًالتهُ. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ معنَى قَوْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأَبي بَكْرَةَ:

(تُبْ تُقْبَلُ شَهادَتُكَ) (¬1)، أَيْ: كَذِّبْ نَفْسَكَ فِيمَا شَهِدتَ بهِ على المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ، وكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهادَتُكَ في غَيْرِ ذَلِكَ. فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: لَسْتُ أَعرِفُ مَا مَغنَى هذا القَوْلِ، لأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَبو بَكْرَةَ فِيمَا شَهِدَ بهِ على المُغِيرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِقَاً أَو كَاذِباً، فإنْ كَانَ كَاذِباً فَقَد ازتَفِعَ عَنْهُ الكَذِبُ بِتَوْبتهِ وصَلاَحِ حَالِهِ، وإنْ كَانَ فِيمَا شَهِدَ بهِ عَلَيْهِ صَادِقَاً، فَلَا مَعنى لِمَنْ شَهِدَ بِحَق فَحُدَّ بِسَبَبِ شَهادَتِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْراً وصَلاَحا أنْ يُقَالَ لَهُ بَعدَ ذَلِكَ: كَذبْ نَفْسَكَ الآنَ، وكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهادَتُكُ، فَيَكُونُ قَدْ صُرِفَ مِنْ حَالَةِ الصَّلاَحِ إلى حَالَةِ الفِسْقِ الذي لا تَجُوزُ شَهادَةُ صَاحِبهِ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا أَرَادَهُ عُمَرُ في هذا إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ. قالَ عِيسَى: تُقْبَلُ شَهادَةُ المحدُودِ إذا ظَهرتْ تَوْبَتُهُ، وصَلُحَتْ حَالُهُ، ولَا يُسْئَلُ أَمُقِيمٌ هُو على مَا شَهِدَ بهِ أَم نَازِعٌ عَنْهُ. وقالَ قَوْمٌ: تُقْبَلُ شَهدادَتُهُ إلَّا في مِثْلِ الشَّيءِ الذي حُدَّ فِيهِ، لأَنَّهُ يُتَّهَمُ في أَنْ يُحِب أَنْ يَجِدَ لِنَفْسِهِ شَبيها فِي مِثْلِ مَا فَعَلَهُ هُوَ أَوَّلاً، وُيذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَالَ: (وَدَّتِ الزَّانِيَةُ أَنَّ النِّسَاءَ كُلُّهُنَّ زَوَانِي) (¬2)، والقَوْلُ الأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ ابنِ القَاسِمِ. * * * ¬

_ (¬1) رواه الشافعي في الأم 4/ 116، والبيهقي في السنن 10/ 152، وعلقه البخاري في صحيحه (2504). (¬2) ذكره ابن قدامة في المغني 10/ 190، والخطاب في مواهب الجليل 6/ 161، ولم أجده في موضع آخر.

باب القضاء في اليمين مع الشاهد

باب القَضَاءِ في اليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَرسَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ (القَضَاءِ باليَمِنِ مَعَ الشَّاهِدِ)، وأَسْنَدَهُ غَيْرُهُ عَنْ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّد، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ مُرسَلٌ، كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، والقَضَاءُ باليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَفرٌ ثَابِتٌ بالمَدِينَةِ، الفُتْيَا عِنْدَهُمْ، والدَّلِيلُ على صَحَّتِهِ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فَلَمَّا كَانَ القَوْلُ قَوْلَ المُرتَهِنُ فِيمَا يَدعِيهِ في الرَّهْنِ الذي يَشْهدُ لَهُ ويَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ ويَقْتَضِي، وَجَبَ أَن يَكُونَ القَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَعَ شَاهِدِه فِيمَا يَدَّعِيهِ ويَخلِفُ ويَقتضَى حَقُّهُ، وذَلِكَ في الأَموَالِ خَاصَّةً. * قالَ مالك: ولَا يُقْضَى بِذَلِكَ في طَلاَقٍ ولَا عِتْقٍ. * قالَ: وإذا ادَّعَا العَبْدُ أَنَّ سَيَّدَهُ أَعتَقَهُ وشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ حَلَفَ السَّيِّدُ أَنَّهُ مَا أَغتَقَهُ وسَقَطَتْ دَعوَى العَبْدِ، وكَذَلِكَ إذا ادَّعَتِ المَرأةُ أَنَّ زَوْجها طَلَّقَها، فَشَهِدَ لَها بِذَلِكَ شَاهِدٌ، حَلَفَ الزَّوْجُ أنَّهُ مَا طَلَّقَها، وسَقَطَتْ دَعوَى المَرأةِ، غَيْرَ أَنَّها لَا تَتَزينُ لَهُ، ولا يَطَأَها إلَّا وَهِيَ كَارِهةٌ لِذَلِكَ، فإنْ أَبَى سَيِّدُ العَبْدِ عَنِ اليَمِينِ أَنَّهُ مَا أعتَقَهُ، سَجَنَهُ السُّلْطَانُ حتَّى يَحلِفَ. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1344)، وابن ماجه (2369)، والبيهقي في السنن 1/ 169.، بإسنادهم إلى جعفر بن محمد به، ورواه أبو داود (3610)، والترمذي (1343)، وابن ماجه (2368) من حديث أبي هريرة.

وقِيلَ أَيْضَاً: إنَّهُ إذا أَبَى عَنِ اليَمِينِ أَنَّهُ مَا طَلَّقَهَا سَجَنَهُ السُّلْطَانُ سَنَةً، فَإن انْقَضَتِ السَّنَةُ ولَمْ يَحْلِفْ، خَلَّى بَيْنَهُ وبَيْنَها. وقالَ ابنُ نَافِعٍ: إنْ أَبَى الزَّوْجُ مِنَ اليَمِين وأَضَرَّ ذَلِكَ بالمَرْأَةِ بِسَببِ طُولِ سَجْنِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بحُكْمِ المُولي، فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ كَمَا يُطَلِّقُ على المُولي بَعدَ أَربَعَةِ أَشْهُرٍ طَلْقَةً يُمَلكُ بِهَا أَمرَ نَفْسِهَا. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إذا شَهِدَ رَجُلٌ وامرَأتَانِ أَنَ لِفُلَانٍ على فُلاَنٍ مَالاً فَلَم يُوجَدْ للمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَال يُؤَدِّي مِنْهُ مَا شُهِدَ بهِ عَلَيْهِ، إلَّا عَبْداً أَعْتَقَهُ، فإنَّ عِتْقَهُ يُنْقَضُ، ولَم نُعمِلْ شَهادَة للمَرْأَتَيْنِ ههُنَا في المَعتِقِ، وإنَّمَا عُمِلتْ في مَالٍ، ثُمَّ وَجَبَ على الحَكَم أَنْ يَجْمَعَ على صَاحِبِ ذَلِكَ المَالِ مَالَهُ، فَلَمِ يَجِدْ مِنْ حَيْثُ يَجْمَعُهُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ نَقْضِ العِتْقِ الذي أَحدَثَهُ المَشْهُودُ عَلَيْهِ بالمَالِ فنَقَضَهُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَمْ يَثْبُتْ مالك على القَوْلَةِ التي رُويتْ عَنْهُ في المُوطأ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَاً لَهُ ثُمَّ أتَى رَجُل فَادَّعَى على المُعتِقِ مَالاً، وأثبَتَ الخُلْطَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المدَعَى عَلَيْةِ في المُوطَّأ بعدَ هذا، فَيُقَالُ لِسَيِّدِ العَبْدِ: اخلِفْ مَا عَلَيْكَ مَا ادَعَى، فإنْ نَكَلَ فَقَالَ: يَخلِفُ صَاحِبُ الحَق، وتُرَدُّ بِذَلِكَ عِتَاقَةُ العَبْدِ، فَلَم يَثْبُتْ مالك على هذِه القَوْلَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَا تُرَدُّ عِتَاقَةُ هذا العَبْدِ بِسَببِ نُكُولِ سَيِّدِه عَنِ اليَمِينِ التي لَزِمَتْهُ في الدّعوَى التي ادُّعِيتْ عَلَيْهِ، لأَنَه يُتَّهَمُ في بَعضِ العِتْقِ، وقَد ثَبَتَ العِتْقُ، فَلَا يُرَدُّ بِنُكُولِ السَّيِّدِ عَنِ اليَمِينِ في هذِه المَسْأَلةِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ نَكَحَ أَمَة فَأَتَى سَيِّدُها بِرَجُلٍ وامرَأَتَيْنِ فَشَهِدُوا أَنَّ الذي ادَّعَى على زَوْجَتِهِ كَانَ قَد اشْتَرَاها مَعَ غَيْرِهِ مِنَ القَائِمِ فِيهَا بِكَذَا وكَذَا دِينَارَاً، فإنَ الحَقَّ يَثْبُتُ على المَشْهُودِ عَلَيْهِ، وتَحرُمُ الأَمَةُ على الروْجِ، وَيكُونُ فِرَاقَا بَيْنَهُمَا. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا حُرَمَتِ الأَمَةُ في هذه المَسْأَلَةِ على زَوْجِها بِثَبَاتِ الشَّهادَةِ

أَنَّ للزَّوْجِ فِيهَا شَرِيكَاً، وَلَو لَمْ يَكُنْ لَهُ أيضًا فِيهَا شَرِيكَاً مَا جَازَ لَهُ وَطْئُها، لأَنَّهُ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَمَةً، وإنَّمَا ادَّعَاهَا زَوْجَةً فَأَكْذَبَتْهُ البيِّنَةُ، ولَمْ تُعْمَلْ أيضًا شَهَادَةُ المَرْأَتَيْنِ هَهُنَا في الطَّلَاقِ، وإنَّمَا عُمِلَتْ فِي رَجُلَيْنِ [اشْتَرَيَا] (¬1) مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً بِثَمَنٍ إلى أَجَلٍ ثُمَّ ادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا زَوْجَة، فَلَمَّا أَكْذَبتْهُ البيِّنَةُ وَجَبَ على الحَكَمِ فُسْخُ النكِّاحِ الذي ادَّعَاهُ المُدَّعِي، وأنْ يُجْمَعَ ثَمَنُ الجَارِيَةِ على بَائِعِهَا الذي شُهِدَ لَهُ بِثَمَنِهَا رَجُلٌ وامْرَأتانِ، وشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ في الطَّلاَقِ كَمَا لا تَجُوزُ في العِتْقِ، وإنَّمَا تَجُوزُ في الأَمْوَالِ وفِيمَا يَحْضَرْنَ فِيهِ مِنَ الوَلاَدَةِ، وعِيُوبِ النِّسَاءِ التي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ. قالَ أَبو مُحَمّدٍ: وكَذَلِكَ مَسْأَلةُ المَرْأتيْنِ اللَّتيْنِ شَهِدَتَا مَعَ الرَّجُل أَنَّ الذي افْتَرَى عَلَيْهِ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ الحَدُّ عَنِ المُفْتَرِي، فإنَّمَا يَسْقُط ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ أنَّ شَهَادَةَ المَرْأتيْنِ هَهُنَا إنَّمَا هِي في مَالٍ، وذَلِكَ أَنَّ العَبْدَ مَالٌ مِنَ الأَمْوَالِ، ثُمَّ وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْضِي الحَكَمُ في قُصَّةٍ أُخْرَى بَيْنَ حُرٍّ وعَبْدٍ، افْتَرَى الحُرُّ على العَبْدِ فَلَمْ يُلْزَمِ الحُرُّ في ذَلِكَ حَدًّا، إذ لَا يُحَدُّ الحُرُّ في افْتِرَائِهِ، وشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ في الفِرْيَةِ، ولَا في الحُدُودِ. قالَ مَالِكٌ: ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَكُونُ اليَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ، ويُحْتَجُّ بقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. قالَ: فإذَا لَمْ يَأْتِ المُدَّعِي بِمِثْلِ هَذِه البينَةِ، أَو يَأْتِي بِشَاهِدَيْنِ فَلَا شَيءَ لَهُ، ولَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ. * قالَ مَالِكٌ: فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ هَذا: أَرَأَيْتَ لَو أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى على رَجُلٍ مَالًا أليْسَ يَحْلِفُ المَطْلُوبُ وتَسْقُطُ عَنْهُ الدَّعْوَى، فإنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ أليْسَ يَحْلِفُ الطَّالِبُ، ويَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَدَّعِيهِ، فَهَذا مَا لَا خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ أَقَرَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: اشترايا، وهو خطأ والصواب ما أثبته.

بِهَذا لَزِمَهُ أَنْ يُقِرَّ باليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الذي ثَبَتَتِ بهِ السُّنَّةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَصًّا في القُرْآنِ، كَمَا صَارَتْ هَذِه المَسْأَلةُ المُتَقَدِّمَةُ مُجْتَمِعًا عَلَيْهَا، ولَيْسَتْ مَنْصُوصَةً في القُرْآنِ [2682]. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: والسُّنَنُ الثَّابِتَةُ مُفَسِّرَةٌ للقُرْآنِ، وإنَّمَا احْتَجَّ مَالِكٌ لِهَذِه المَسْأَلةِ في المُوَطَّأ، لِقُوَّةِ الإخْتِلاَفِ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الأَمْصَارِ.

القضاء فيمن هلك وعليه دين وله دين فيه شاهد واحد

القَضَاءُ فِيمَنْ هَلَكَ وعَلَيْهِ دَيْنٌ ولَهُ دَيْنٌ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ * وَقَعَ في مُوطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ، قالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ يَهْلَكُ ولَهُ دَيْنٌ وعَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وعَلَيْهِ دَيْنٌ للنَّاسِ فَيَأْبَى وَرَثتهُ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِم، فإنَّ الغُرَمَاءَ يَحْلِفُونَ ويَأْخُذُونَ حُقُوقَهُم (¬1)، فَوَقَعَتْ في هَذه الرِّوَايةِ اليَمِينُ على الغُرَمَاءِ مَعَ شَاهِدِ المَيِّتِ لَهُ بالدَّيْنِ الذي توفي، وَهُو قبْلَ المَشْهُودِ عَلَيْهِ بهِ، ولَمْ تَقَعْ على الغُرَمَاءِ يَمِينٌ في دَعْوَاهَمُ أَوَّلًا على المَيِّتِ، وهَذا الفُتْيَا مُوَافِقٌ لِتَرْجَمَةِ يَحْيىَ بنِ يَحْيىَ في المَوْطَأ [2683]، وأَمَّا على حَسَبِ مَا ذَكَرَهُ يَحْيىَ في نَفْسِ المَسْأَلةِ، فإنَّهُ يَلْزَمُ الغُرَماءُ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِفُوا على دَيْنهِم مَعَ شَاهِدِهم، ثُمَّ يَحْلِفُونَ أيضًا مَعَ الشَّاهِدِ الذي شُهِدَ على حَق المَيِّتِ، فَجَوَابُ رِوَايةِ يحيي بنِ يحيي في هَذِه المَسْأَلةِ هُوَ جَوَابُ رِوَايةِ ابنِ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إذا بَقِيتْ فَضْلَةٌ بعدَ أَنْ أَخَذَ غُرَمَاءُ المَيِّتِ حُقُوقَهُم، ولَمْ يَثْبُتْ عُذْرٌ للَوَرثَةِ في [إبَائِهِم] (¬2) عَنِ اليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ على دَيْن [مُوَرِّثهِم] (¬3) فَرُدَّتْ فَضْلَةُ المَالِ على الذي أُخِذَ مِنْهُ المَالُ، وأَرَادَ الوَرَثَةُ أَنْ يُحَلِّفُوهُ على أَنَّهُ لمْ يَكُنْ للَمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالٌ للوَرَثةِ، فإنْ أَبى أَنْ يَحْلِفَ على ذَلِكَ رُدَّتْ فَضْلَةُ المَالِ إلى وَرَثةِ المَيِّتِ، لأَنَّ إبَائِهِ عَنِ اليَمِينِ في ذَلِكَ كالشَّاهِدِ يَشْهَدُ لَهُم. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَجْمَعَ الفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ على أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَنِ ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، ورقة (161 أ)، نسخة الظاهرية. (¬2) في الأصل: إبايتهم، وما وضعته هو الصحيح. (¬3) جاء في الأصل: موروثهم، وهو خطأ.

أُدَّعِيَ عَلَيْهِ بِدَعْوَى إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الخِلْطَةِ بَيْنَ المُدَّعِي والمُدَّعَى عَلَيْهِ. وقالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ: (تَحْدُثُ للنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الفُجُورِ) (¬1)، يُرِيدُ بِهَذا القَوْلِ: أنه مَنْ لَا يَتَق اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَأتِي إلى أَهْلِ التَّهَاوِنِ، فَيَدَّعِي قِبَلِهِم حُقُوقَاً طَمَعًا مِنْهُ أنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ اليَمِينُ، فَيَحْلِفُ ويَأْخُذُ، أَو يَفْتَدِي مِنْهُ المَطْلُوبُ، فأَحْدَثَ لَهُم أَنْ يُثْبتُوا الخِلْطَةَ، فإذا أَثْبَتُوهَا وَجَبْتِ اليَمِينُ على المُدَّعَى عَلَيْهِ، ولَهُ صَرْفُهَا على المُدَّعِي. قالَ ابنُ القَاسِمِ: الخِلْطَةُ تثبَتُ بالبَيع والشَّرَاءِ والسَّلَفِ بعدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِرَارًا، وتَسْقُطُ الخِلْطَةُ في الصُّنَّاعِ، والمُتَهَمِ، والمُقِرِّ بِدَيْني عِنْدَ المَوْتِ. * * * ¬

_ (¬1) ذكره ابن حزم في الإحكام 6/ 164، وعزاه ابن حجر في الفتح 13/ 144 من قول مالك.

باب في شهادة الصبيان، واليمين على المنبر، والرهن، والكراء

بابٌ في شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ، واليَمِينِ على المِنْبَرِ، والرَّهَنِ، والكِرَاءِ قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: أَجَازَ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ مُعَاوِيةُ بنُ أَبي سُفْيَانَ، وعَبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ، وعَطَاءٌ، والحَسَنُ، والنَّخَعَيُّ، وجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ. وسُئِلَ عَنْهَا ابنُ عبَّاسٍ، فقالَ: قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقالَ ابنُ أَبي مُلَيْكَةَ: فَمَا رَأَيْتُ القُضَاةَ أَخَذُوا فِيهَا إلَّا بِقَوْلِ ابنِ الزُّبَيْرِ (¬1)، فإنَّمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُم لِحَالِ الضَّرُورَةِ، كَشَهَادةِ النِّسَاءِ في الإسْتِهْلاَلِ، وفي أُمُورِ النِّسَاءِ، وقَدْ جَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العِفَاص، والوِكَاءَ دَلِيلًا على اللُّقَطَةِ، فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ أُجِيزَتْ لِحَالِ الضَّرُورَةِ، ولِعَدَمِ مَنْ يَحْضُرُهمْ مِنَ الرِّجَالِ، إذا انْفَرَدُوا بأَنْفُسِهِم لا يَحْضُرُهمْ فِيهَا الرِّجَالُ، وإنَّمَا أُجِيزَتْ شَهادَتُهُم لِحَفْظِ الدِّمَاءِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإذا شَهِدَ صَبِيَّانِ على صَبِيٍّ أَنَّهُ جَرَحَ صَبِيًّا، أو قَتَلَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، ولَا تُبَالِي كَانَ الشَّاهِدَانِ مَعَ الجَارِحِ والمَجْرُوحِ في جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أو كَانُوا في جَمَاعَةٍ أُخْرَى، ولا تَجُوزُ شَهَادَتُهُم لِصَغِيرٍ على كَبِيرٍ، أَو لِكَبِيرٍ على صَغِيرٍ، وإنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُم، خَاصَّةً إذا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، أو يُتَخَبَّبُوا (¬2)، ويَشْهَدُ على شَهَادَتِهِم العُدُولُ. ¬

_ (¬1) ذكره ابن حزم في المحلى 4209. (¬2) التخبيب هو أن يعلموا الخبَّ، وهو المكر، وذلك بأن يدخل بين الصبيان كبير على وجه يمكنه من أن يلقتهم، قاله الباجي كما في التاج والإكليل 6/ 177، وينظر: التعليق على الموطأ للوقشي 2/ 183.

* حَدِيثُ أَبي أُمَامَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ" [2693]، قالَ أَبو المُطَرِّفِ: يُقَالُ في هَذا الحَدِيثِ أَنَّ أبا أُمَامَةَ الذي رَوَاهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ هُوَ [أَبو] (¬1) أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ، وإنَّمَا هُوَ [أَبَو] (¬2) أُمَامَةَ الحَارِثيُّ مِنْ بَنِي النَّجّارِ، ولَمْ يَصِحّ لأَبي أُمَامَةَ الحَارِثيِّ سِمَاع مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وطَرِيقُ هَذا الحَدِيثِ طَرِيقُ الوَعِيدِ، ولَا تُحَرَّمُ الجَنَّةُ ويُخَلَّدُ في النَّارِ إلَّا أَهْلُ الكُفْرِ، وقَدْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمينَ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقُوا فِيهَا، فَيْدْخَلُونَ الجَنَّةَ، لا خِلاَفَ بينَ أَهْلِ السُّنَّةِ في هَذَا. ورُوِيَ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ مَعْنَى الوَعِيدِ فَهُوَ كَمَا قالَ، ولَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ على التَّرْهِيبِ والتَّغْلِيظِ، لأَنَّ في ذَلِكَ إبْطَالٌ للَمَوَارِثةِ، وإشَارَةٌ إلى خُلْفِ الوَعْدِ الذي وَعَدَ اللهُ بهِ المُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ، لأَنَّ الله هُوَ الصَّادِقُ فِي قَوْلهِ، وكَذَلِكَ رَسُولُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَادِقٌ في قَوْلهِ. وفِيهِ تَطَرَّقٌ للإرْجَاءِ في مَذْهَبِهِم: الإيمَانُ قَوْلٌ. ومَنْ دَخَلَ النَّارُ خَرَجَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ، ولَا يُخَلَّدُ مُوَحِّدٌ في النَّارِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبي [عُبَيْدٍ] (¬3) لَا لَفْظُهُ بِنَفْسِهِ. * واليَمِينُ في المِنْبَرِ على الحُقُوقِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ، ولِذَلِكَ قَضَى به مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ على زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ زَيْدٌ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ زَيْدٍ مَعْرُوفًا لأَنْكَرَهُ على مَرْوَانَ [2695]. قالَ مَالِكٌ: ولَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا في رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا، ¬

_ (¬1) في الأصل: أبا. (¬2) جاء في الأصل أيضا: أبا. (¬3) جاء في الأصل: عبيدة، وهو خطأ، وقد بحثت عن قول أبي عبيد في كتاب الإيمان فلم أجده، فلعلّه في موضع آخر من كتبه الأخرى.

وفِي جَوَامِعِ الأَمْصَارِ يَحْلِفُ فِيهَا فِي رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا، ومَا نَقَصَ مَنْ رُبع دِينَارٍ حَلَفَ مَن وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِين في غَيْرِ الجَامعِ [2696]. * حَدِيثُ "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" [2698] حديثٌ مُرْسَلٌ، ولَا يُسْنَدُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: يُقَالُ: غَلَقَ الرَّهْنُ إذا لَمْ يُفَكَّ (¬1). قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ الرَّاهِنِ للمُرْتَهِنِ: إنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ إلى أَجَلِ كَذَا وكَذَا، وإلَّا فالرَّهْنُ لَكَ، هُوَ مِنْ أَكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ، وذَلِكَ أَنَّ المُرْتَهِنَ لَا يَدْرِي هَلْ يَصِحُّ لهُ الرَّهْنُ أَو الثَّمَنُ الذي رَهَنَهُ بهِ صَاحِبُهُ، فَهَذا مِنَ الغَرَرِ، وأَكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ الذي لَا يَحِلُّ، فإذا وَقَعَ مِثْلُ هَذا وقَبَضَ المُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لِنَفْسِهِ ثم عَثَرَ على ذَلِكَ صَرَفَهُ إلى رَبِّهِ الذي رَهَنَهُ إيَّاهُ، وقَدْ دَفَعَ إليه رَبُّهُ مَا رَهَنَهُ بهِ، فإنْ فَاتَ عِنْدَ المُرْتَهِنُ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، ولَهُ مَا رَهَنَهُ بهِ صَاحِبُهُ، يَرْجِعُ بِذَلِكَ على الرَّاهِنِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا ارْتَهَنَ رَجُلٌ أُصُولَ نَخْل وقَدْ عَلِمَ أَنَّها تُثْمِرُ في كُلِّ عَامٍ، فَمَتَى لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ رَهْنا عِنْدَهُ مِنَ الأصُولِ لَمْ تَدْخلِ الثَّمَرَةُ في الرَّهْنِ وَهِي للرَّاهِنِ، وقَدْ يَجُوزُ أيضًا أنْ تُرْهَنُ الثَّمَرَةُ وَهِيَ قَائِمَةٌ في رُؤُوسِ النَّخْلِ دُوَنَ الأُصُولِ إذا قَبَضَ المُرْتَهِنُ الأُصُولَ مَعَ الثَّمَرَةِ، ويَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا مَحُوزًا، وجَنِينُ الأَمَةِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، لأَنَّهُ لا يُسْتَطَاعُ على قَبْضِهِ، ولَا يُدْرَى صِفَتُهُ، وكَيْفَ هُوَ، وإنَّمَا يَكُونُ رَهْنًا كُلُّ مَا يُرَى ويُحَازُ ويُقْبَضُ، قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فَمَتَى لَمْ يَقْبِص الرَّهْنُ، ويُحَازُ على الرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ. قالَ [أَبو] (¬2) المُطَرِّفِ: إنَّمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بالرَّهْنِ عِنْدَ البَيْع والسَّلَفِ على ¬

_ (¬1) غريب الحديث لأبي عبيد 4/ 71. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

سَبيلِ التَّوَثُقِ، وحِفْظِ الأَمْوَالِ، كَمَا أَمَرَ بالإشْهَادِ عِنْدَ البَيْع والسَّلَفِ لِتحْفَظَ بِذَلِكَ أَمْوَالُ البَاعَةِ، وأَرْبَابُ السَّلَفِ، ولِيَحْفِظ الذي عَلَيْهِ المَالُ دَيْنَهُ، لأَنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ: بيِّنَةٌ بالحَقِّ، أَو لَهُ رَهْنٌ بهِ لَمْ يُجْحَدْ مَا عَلَيْهِ مِنَ المَالِ. إنَّمَا صَارَتْ مُصِيبَةُ الرَّهْنِ إذا ظَهَرَ هَلاَكُهُ مِنَ الرَّاهِنِ مِنْ أَجْلِ أَنْ المُرْتَهِنَ لَمْ يَقْبضْهُ عِوَضًا مِنَ الثمَنِ الذي رَهَنَ بِهِ، وإنَّمَا قَبَضَهُ على سَبيلِ التَّوَثّقِ مِنْ حَقِّه الذَي على الرَّاهِنِ، وأما إذا لَمْ يَظْهَرْ هَلاَكُهُ إلَّا بِقَوْلهِ فالَضَّمَانُ حِينَئِذٍ على المُرْتَهِنِ، لأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، وإذا لَمْ يَقْبِضْهُ على وَجْهِ الأَمَانَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانهُ. إنَّماُ بُدِّئ المُرْتَهِنُ عِنْد اخْتِلاَفِهِ مَعَ الرَّاهنُ في صِفَةِ الرَّهْنِ مِنْ (¬1) أَجْلِ قُرْبِ عَقْدِهِ بالرَّهْنِ، وصَارَ الرَّهْنُ إذا حَضَرَ شَاهِدًا للمُرْتَهِنِ بِمَا يُقَابِلُ الرَّهْنَ مِنَ الثمَنِ، فَلِذَلِكَ يَسْتَحِق مِنْ دَعْوَاهُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ مَعَ يَمِينهِ، ومَا زَادَ على ذَلِكَ فَهُوَ مُدَّع فِيهِ، فَلِذَلِكَ لا يُصَدَّقُ في دَعْوَاهُ، ويَحْلِفُ الرَّاهن حِينَئِذٍ على تِلْكَ الزِّيَادَةِ التي يَدَّعِيهَا المُرْتَهِنُ على قِيمَةِ الرَّهْنِ، لأَنَّهُ مُدَّعَى عَلَيْهِ، وكُلّ مُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ اليَمِينُ فِيمَا أدُّعِي بهِ عَلَيْهِ، ولَهُ صَرْفُهَا على المُدَّعِي، فإنْ لَمْ يَحْلِفْهَا بَطُلَ مَا يَدَّعِيهِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ (¬2): مَسْأَلةُ اخْتِلاَفِ الرَّاهِنِ والمُرْتَهِنِ في صِفَةِ الرَّهْنِ، ومَا رَهَنَ بِهِ مُفَسَّرَةٌ في المُوَطَّأ، فَلِذَلِكَ لَمْ أَذْكُرْهَا هَهُنَا [2711]. قَوْلُهُ فِي مُكْتَرِي الدَّابَّةِ يَتَعَدَّى بِهَا حِينَ يَبْلُغُ بِهَا البَلْدَ الذي تَكَارَى إليهِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الكِرَاءِ [2715]، إنَّمَا يَلْزَمُة نِصْفُ الكِرَاءِ إذا كَانَ سُوْمُ السَّيْرِ والإنصِرَافِ وَاحِدًا، وأَمَّا إذا اخْتَلَفَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةُ مَا رَكِبَ، يُقْصَرُ حِينَئِذٍ جَمِيع الكِرَاءِ على السَّيْرِ والإنْصِرَافِ، فَمَا وَقَعَ للسَّيْرِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ على الرَّاكِبِ مَعَ ضَمَانِهِ لِقِيمَةِ الدَّابَّةِ، [وإن] (¬3) اخْتَارَ ذَلِكَ صَاحِبُهَا، وإنَّمَا يَضْمَنُهَا مُكتَرِيهَا ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ قطعة نسخة القيروان في هذا الموضع. (¬2) في (ق): ع. (¬3) في (ق): إن.

لِصَاحِبِها لِتَعَدَّيهِ عَلَيْهِ فِيهَا، [ومَنْعِهِ] (¬1) إيَّاهُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وحَبْسِهَا عَنْ أَسْوَاقِهَا، فَصَارَ بِهَذا مُتَعَدِّيَا على صَاحِبِها، [فَلِذَلِكَ أُلزِمَ ضَمَانُها له إنْ أَرَادَ ذَلِكَ صَاحِبُهَا] (¬2)، وإنْ أَرَادَ أَخْذَ كِرَاءَ مَا رَكِبهَا فِيهِ وَقْتَ تَعَدِّيهِ بِهَا كَانَ ذَلِكَ أيضًا لِصَاحِبِهَا. * * * ¬

_ (¬1) في (ق): فمنعه. (¬2) من (ق).

باب القضاء في المستكرهة، إلى آخر باب أحكام المرتد

بابُ القَضَاءِ في المسْتَكْرَهَةِ، إلى آخِرِ بَابِ أحْكَامِ المُرْتَدِّ * إنَّمَا قَضَى عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوَانَ للمُغْتَصَبةِ بِصُدَاقِهَا على مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا [2719] لأَنَّهُ تَلَذِّذَ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا، وعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ حَدُّ الزِّنَا، وهَذا إذا ثَبَتَ الغَصْبُ، وكَانَ المُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الظِّنَّةُ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ (¬1): قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَن اسْتَهْلَكَ حَيَوانًا أَو عُرُضًا أَنَّهُ يُغْرَمُ [لِصَاحِبهَا] (¬2) قِيمَةُ مَا اسْتُهْلِكَتْ لَهُ وَهُو أَعْدَلُ [2722]، يُرِيدُ: أَنَّ القِيمَةَ في ذَلِكَ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُغْرَمَ مِثْلُ مَا اسْتَهْلَكَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ على المُسْتَهْلِكِ مِثْلُ الشَّيءِ الذي اسْتَهْلَكَهُ، كَمَا ضَمِنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ الصَّحْفَةَ التي كَسَرتْهَا لأُمِّ سَلَمَةَ. وذَلِكَ مَا حَدَّثنا بهِ أَبو عَدِيِّ المُقْرِئُ بِمِصْرَ (¬3)، قالَ: حدَّثنا دَاوُدُ بنُ إبْرَاهِيمَ (¬4)، قالَ: حدَّثنا عبدُ الأَعْلَى بنُ حَمَّادٍ، قالَ: حدَّثنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبي المُتَوكِّلِ: "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةٍ زَوْجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْ في يَوْمِ عَائِشَةَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَوَضَعْتَها بينَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابهِ، فَالْتَحَفَتْ عَائِشَةُ ¬

_ (¬1) في نسخة (ق): ع. (¬2) في (ق): لصاحبه. (¬3) هو عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج، المعروف بابن الإِمام المصري، المقرئ مُسْنِد الدِّيار المصرية في زمانه، توفي سنة (381)، معرفة القراء الكبار 1/ 346. (¬4) هو أبو شيبة داود بن إبراهيم بن داود بن يزيد البغدادي، نزيل مصر، المحدث الثقة، توفي سنة (310)، السير 14/ 244.

بِكِسَائِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ فَضَرَبتِ القَصْعَةَ فَكَسَرَتْهَا فِلْقَتَيْنِ، فَجَمَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الفِلْقَتَيْنِ وجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، ثُمَّ قَالَ: غَارَتْ أُمُّكُمْ، فَأَكَلُوا الطَّعَامَ، ثُمَّ جَاءَتْ عَائِشَةُ بِصَحْفَتِهَا، وَوَضَعْتَها بينَ يَدَي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَكَلُوا مَا في صَحْفَةِ عَائِشَةَ بَعَثَ بِهَا إلى أُمِّ سَلَمَةَ، وبَعَثَ بالصَّحْفَةِ المَكْسُورَةِ إلى عَائِشَةَ" (¬1). قالَ مَالِكٌ: والقِيمَةُ في هَذا في الحَيَوانِ أَعْدَلُ. * حَدِيثُ "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" [2726] مُرْسَلٌ في المُوطَّأ، وحَدَّثنا بهِ أَبو أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ بِمَكَّةَ (¬2)، قالَ: حدَّثنا أَبو [الحُسَينِ] مُحَمَّدُ بنُ صَالح (¬3)، قالَ: حدَّثنا أَبو [حُمَةَ] (¬4)، قالَ: حدَّثنا أَبو قُرَّةَ (¬5)، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أيُوبَ السَّخِتْيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه" (¬6). وذَكَر الحَدِيثَ مُسْنَدًا، وهَذَا الحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الإسْلَامِ، لَا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إلى نِصْرَانِيَّةٍ، ولَا مِنْ نَصْرَانِيِّةٍ إلى مَجُوسِيَّةٍ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الإسْلَامِ إلى الكُفْرِ وأَظْهَرَهُ فإنَّهُ يُسْتَتاَبُ، فإنْ تَابَ وإلَّا قُتِلَ، إلَّا ¬

_ (¬1) رواه النسائي 7/ 70، بإسناده إلى حماد بن سلمة به، ورواه البخاري (4927)، وأبو داود (3567)، وابن ماجه (2334)، من حديث حميد عن أنس به. (¬2) هو الحسين بن علي بن محمد بن يحيى التميمي النيسابوري، المعروف بـ (حسينك)، الإِمام المحدث الثقة، توفي سنة (375)، السير 16/ 407. (¬3) هو محمد بن صالح السروي الطبري، ذكره السمعاني في الأنساب 2493، وجاء في الأصل: (أبو الحسن) وهو خطأ. (¬4) جاء في الأصل وفي نسخة (ق): حية، وهو خطأ, وأبو حُمة هو محمد بن يوسف الزَّبيدي، وهو صدوق، ينظر: تهذيب الكمال 27/ 66. (¬5) هو موسى بن طارق الزَّبِيدي، وهو ثقة، روى له النسائي، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. (¬6) رواه البخاري (6524)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي 7/ 104، وابن ماجه (2535).

الزِّنْدِيقَ الذي يُظْهِرُ الإسْلاَمَ، ويُسَرُّ الكُفْرَ، وتَشْهَدُ [بِذَلِكَ عَلَيْهِ] (¬1) البيِّنَةُ، فإنَّهُ يُقْتَلُ ولَا يُسْتَتَابُ، وَيكُونُ مِيرَاثُهُ للمُسْلِمِينَ فَيْئَاً إذا قالَ: إنِّي تَائِبٌ مِمَّا شُهِدَ بهِ عَلَيَّ، وهَذَا قَوْلُ ابنِ نَافِعٍ. وقَالَ ابنُ القَاسِمِ: بلْ يَكُونُ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ المُسْلِمينَ. وقالَ ابنُ بُكَيْرٍ البَغْدَادِي (¬2): قَدْ عَارَضَ مُعَارِضٌ في الزِّنْدِيقِ الذي تَأْسُرُهُ البيِّنَةُ فَيَقُولُ: إنِّي تَائِبٌ، [فَيُقْتَلُ] (¬3)، فَقَالَ المُعَارِضُ: هَلْ عِنْدَكُمْ كَافِرٌ أَمْ غَيْرِ كَافِرٍ؟، فإنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا [يَرِثْهُ] (¬4) وَرَثتهُ [المُسْلِمُونَ] (¬5)، وإنْ كَانَ غَيْرَ كَافِرٍ فَلَا يُقْتَلُ. قالَ ابنُ بُكَيْرٍ: فَيُقَالُ لِمَنْ قالَ هَذا: قَدْ حَكَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ابنِ وَلِيدَةِ زُمْعَةَ بأنْ أَلْحَقَهُ بِزُمْعَةَ، ثُمَّ أَمَرَ أُخْتَهُ سَوْدَةَ بنتَ زُمْعَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا [رَأَى] (¬6) مِنْ شَبَهِه بِعُتْبَةَ، فَهُوَ لِسَوْدَةَ أَخٌ في النَّسَبِ والمُوَارَثَةِ (¬7)، وحُكْمُهُ في الحِجَابِ غَيْرُ حُكْمِ الأَخ، فَكَذَلِكَ الزَّنْدِيقُ حُكْمُهُ حُكْمُ الكَافِرِ في القَتْلِ، وحُكْمُهُ حُكْمُ المُسْلِمِ في المِيرَاثِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفٍ (¬8): قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: "هَلْ مِنْ مُغَرِّبةِ خَبَرٍ؟ " [2728]، يَعْنِي: هُلْ كَانَ فِيكُم مِنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ لا عَهْدَ لَكُمْ بِمِثْلِهِ. ¬

_ (¬1) في (ق): عليه بذلك. (¬2) هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي القاضي الفقيه، روى عن القاضي إسماعيل وغيره، توفي سنة (305)، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 2/ 1000. (¬3) في نسخة القيروان: ثم يقتل. (¬4) من (ق)، وفي الأصل: يرثونه. (¬5) من (ق)، وفي الأصل: المسلمين. (¬6) من (ق)، وفي الأصل: أرى. (¬7) هذا حديث مشهور رواه البخاري (1948)، ومالك في الموطأ (2736) وغيرهما من حديث عائشة. (¬8) في (ق): ع.

ثم قالَ في المرْتَدِّ المَقْتُولِ: "هَلَّا استَتبتُمُوهُ (¬1) ثَلاَثًا، وأَطْعَمْتُمُوهُ كُل يَوْمٍ رَغِيفَاً"، فإنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - باستِتَابَةِ المُرْتَدِّ، لأَنَّهُ أَظْهَرَ الكفْرَ وأَعْلَنَ بهِ، وَهُوَ بِخِلاَفِ الزِّنْدِيقِ الذي يَسُرُّ الكُفْرَ وُيظْهِرُ الإسْلاَمَ، فَلِذَلِكَ لَا يُسْتَتَابُ، ولَا تُقْبَلُ تَوْبتُهُ، لأَنَّهُ لا يُدْرَى هَلْ هُوَ صَادِق في تَوْبتهِ أَمْ كَاذِبٌ، وقَدْ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- في أَهْلِ الكُفْرِ المُعلِنِينَ بِكُفرِهِم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، والرِّدْةُ تَحْبطُ جَمِيعَ الأَعْمَالِ، لِقَوْلِ الله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فإذا ارْتَدَّ الرَّجُلُ بَعْدَ إنْ حَجَّ ثُمَّ تَابَ مِن ردَّتِهِ استَأْنَفَ الحَجَّ، وسَقَطَت عَنهُ أَيْمَانه بالعِتْقِ والظِّهَارِ وغَيْرِهَا، غَيرَ أَنَّهُ لا تَسْقُطُ عَنهُ حُقُوقُ النَّاسِ قِبَلَهُ، هِيَ بَاقِيَة عَلَيْهِ حتَّى يُؤَدِّيهَا. وقالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أَنْ يُطْعَمَ (¬2) المُرتَدُّ في أيَّامُ استِتَابَتِهِ كُل يَومٍ رَغِيفَاً لِكَي يَجُوعَ، فَيتمَثَّل بألَمِ الجُوُعِ أَلمُ السَّيْفِ، فَرُبمَا كَان ذَلِكَ سبَبًا لِتَوْبَتِهِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: بلْ يُطْعَمُ كُل يَوْمٍ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الطَّعَامِ في غَيْرِ تَفَكُّهٍ، ويُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. وقالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ المُرتَدِّ هَلْ لَهُ حَدٌّ يُترَكُ إليهِ؟ فقالَ: إنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. ثم قالَ مَالِكٌ: لا يَأْتِي مِنَ الإستِظهَارِ الأَخِيرِ، يُرِيدُ: أَنَّهُ يُزَادُ على الثَّلاَثَةِ أيَّامٍ في الإستِتَابَةِ. وذَكَرَ أَبو [مُحمَّدٍ] (¬3) في المرُتَدِّ أَنَّهُ يُستَتَابُ نِصْفَ شَهْرٍ. ¬

_ (¬1) كذا في الأصلين، وجاء في الموطأ: (أفلا حبستموه). (¬2) إلى هنا انتهت نسخة مكتبة القيروان في هذا الموضع. (¬3) جاء في الأصل: أبو داود، وهو خطأ، والصحيح ما ذكرته، ومما يدل عليه أنه ذكر أبا عمر بعد ذلك، وهذا هو منهج المؤلف في كتابه، كما أني رجعت إلى سنن أبي داود فلم أجد قولا له في هذه المسألة.

وأَفْتَى أَبو عُمَرَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ شَهْرًا. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وذَهَبَ عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أَبي سَلَمَةَ في المُرْتَدّ أَنَّهُ يُقْتَلُ وإنْ تَابَ ورَاجَعَ الإسْلاَمَ، وجَعَلَهُ كَحَدٍّ لَزِمَهُ لا يَزَالَهُ عَنْهُ رُجُوعُهُ إلى الإسْلَامِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". وقالَ سَحْنونُ: لَمْ يَخْتَلفِ الصَّحَابةُ أيَّامَ الرِّدَّةِ في قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ مِنْ رِدَّتِهِ، ولَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا تَابَ مِنْهُم ورَاجَعَ الإسْلاَمَ، وكَفَى بِهَذا حُجَّةً على مَنْ قَالَ إنَّهُ يُقْتَلُ المُرْتَدُّ وإنْ تَابَ، واللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: إذا ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ لَمْ تُقْتَلْ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ في الجِهَادِ (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يَرُدُّ قَوْلَ أَبي حَنِيفَةَ هَذَا قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)، وهَذا عَامٌّ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، ولَيْسَ هُوَ فِيمَنْ غَيَّر دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ بِدِينٍ سِوَاهُ مِنْ دِينِ الكُفْرِ، لأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَلاَلَةٍ إلى ضَلاَلَةٍ. ¬

_ (¬1) ينظر قول أبي حنيفة في: البحر الرائق 5/ 139، وشرح فتح القدير 6/ 72.

القضاء فيمن وجد مع امرأة رجلا فقتلها، وحكم المنبوذ

القَضَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأةٍ رَجلًا فَقَتَلَها، وحُكْمُ المَنْبُوذِ قالَ أَبو عُبَيْدٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] قال سَعْدٌ (¬1): "يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إن رَأَى رَجُل مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا فَقتَلَهُ فتَقْتُلُونَهُ، وإنْ أَخْبَرَ بِمَا رَأَى جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، أَفَلا يَضْرِبُهُ بالسَّيْفِ؟ فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَفَى بالسَّيْفِ شَا"، أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: كَفَى بالسَّيْفِ شَاهِدًا، ثُمَّ أَمْسَكَ، وقالَ: "لَوْلاَ أَنْ يَتَتَابَعَ فِيهِ الغَيْرَانُ والسَّكْرَانُ"، فأَمْسَكَ عَنِ الجَوَابِ خِيفَةَ أَنْ تُسْتَبَاحَ الدِّمَاءُ بالدَّعَاوَى. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: والتّتابعُ التَّهَافُتُ، وفِعْلُ الشَّيءِ (¬2) بَغْيرِ تَثَبُّتٍ (¬3). ومَعْنَى هَذا الحَدِيثِ: أَنْ يَأتِي الرَّجُلُ الغَيُورُ فَيَجِدُ في دَارِهِ بَعْضَ مَنْ لَا يَجِبُّ قَتْلَهُ إنْ دَخَلَها، فَيَظُنُّ بهِ ظَنَّ سُوءٍ فَيَقْتُلَهُ، أَو يَأتِي وَهُوَ سَكْرَانُ فَيَقْتُلُ مَنْ لَا يَجِبُّ أَنْ يَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأتِهِ، فَلَوْلاَ هَذَانِ السَّبَبانِ مَا كَانَ على مَنْ وَجَدَ مَعَ امْرْأتِهِ مَنْ يُزَانِيهَا قَوَدًا إذا قَتَلَهُ، فإذا وَجَدَ مَعَهَا مَنْ يُزَانِيهَا فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أتى بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّهُم رَأَوا ذَلِكَ مِنْهُ ومِنْهَا كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ القَوَدُ. ¬

_ (¬1) سعد هو ابن عبادة، وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم (1497) من حديث أبي هريرة. (¬2) كذا في الأصل، وفي التمهيد 21/ 257، وجاء في غريب الحديث لأبي عبيد: (الشر) بدلا من كلمة (الشيء)، وكذا في النهاية لإبن الأثير 1/ 202. (¬3) غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 132 - 133.

وقالَ ابنُ القَاسِمِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ دِيَةُ البكْرِ في مِثْلِ هَذا القَتْلِ على القَاتِلِ في مَالِهِ لَا على عَاقِلَتِهِ، وذَلِكَ أَنَّ القَاتِلَ قُتِلَ من حَدَّهُ الجَلْدُ لَا القَتْلُ، فَلِذَلِكَ يُؤَدِّي دِيتَهُ إلى أَوْلِيائِهِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ عَلِي بنِ أَبي طَالبٍ: (أَنا أَبو حَسَنٍ إن لَمْ يَأتِ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطِ برُمَّته) [2731]، يَعْنِي: إنْ لَمْ يَأتِ القَاتِلُ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّهُم رَأَوا ذَلِكَ مِنْهَمَا كَالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ وإلَّا قُتِلَ القَاتِلُ، لأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هَذا القَتْلِ، فإذا شَهِدَتْ لَهُ البيِّنَةُ بِرُؤيَةِ الزِّنَا ارْتَفَعَ عَنْهُ القَتْلُ، ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ. وقَوْلُهُ لَهُ: (أَنا أَبو حَسَنٍ)، إنَّما قَالَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْجَبَتْهُ فِرَاسَتُهُ في هَذِه المَسْأَلةِ، إذ سُئِلَ عَنْهَا فقالَ: (إنَّ هَذا لشَيءٍ مَا هُوَ بَأَرْضِي)، يُرِيدُ: أَنَّ هَذِه القِصَّةَ لَوْ نَزَلَتْ بأَرْضِي وفِي نَظَرِي لَرُفِعَتْ إليَّ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّها نَزَلَتْ بأَرْضِ الشَّامِ، قالَ: (أَنا أَبو حَسَنِ)، ثُمَّ أَفْتَاهُ فِيهَا بالوَاجِبِ، وهَذَا مِنْ فِرَاسَةِ المُؤْمِنِ. * قالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - للَّذي وَجَدَ المَنْبُوذَ فأتَاهُ بهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: (مَا حَمَلَكَ على أَخْذِ هَذِه النَّسَمَةِ؟ فقالَ: وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً) [2733]، قَالَ مَالِكٌ: اتَّهَمَهُ عُمَرُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ أتاهُ لِكَي يَفْرِضَ لَهُ في بَيْتِ المَالِ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عَرِيفُ ذَلِكَ الرَّجُلِ: (يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّهُ رَجُلٌ صَالحٌ)، يَعْنِي: لَا يُخَاطِبُكَ إلَّا بالحَقِّ، صَدَّقَهُ حِينَئِذٍ عُمَرُ في قَوْلهِ، وقَالَ لَهُ: (اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ)، يَعْنِي: هَذا المَنْبُوذُ حُرٌّ لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَيْهِ مِلْكٌ. وقَوْلُهُ: (ولَكَ وَلاَؤهُ)، يَعْنِي: أَنْتَ الذي تتَولَّى تَرْبِيَتَهُ، والقِيَامَ بأُمُورِهِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: وهَذِه وِلاَيَةُ الإسْلاَمُ لا وِلاَيَةُ العِتْقِ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬1). وقَوْلُهُ: (وعَلَينَا نَفَقَتُهُ)، يَعْنِي: يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِينَ. قالَ عِيسَى: كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَدْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وقَسَّمَ ¬

_ (¬1) تقدم تخرج هذا الحديث في باب العتق.

النَّاسَ أَقْسَامًا، وجَعَلَ على أَهْلِ كُلِّ دِيوَانٍ عَرِيفًا يَنْظُرُ عَلَيْهِم، فَكَانَ الرَّجُلُ الذي وَجَدَ المَنْبُوذَ مِن دِيوَانِ الذي زَكَّاهُ عِنْدَ عُمَرَ لَهُ. وفِي غَيْرِ المُوطَّأ قالَ: (فَزَكَّانِي عَرِيفِي) (¬1) فالتَّزْكِيَةُ إذا كَانَتْ على غَيْرِ وَجْهِ التَّعْدِيلِ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الوَاحِدِ، لأَنَّهُ نَقلُ خَبَرٍ، وخَبَرُ الوَاحِدِ مَقبُولٌ، وإذا كَانَت على سَبيلِ التَّعْدِيلِ لَمْ يُقْبَل فِيهَا إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، لأَنَّهَا شَهَادَةٌ، ولَا يُقْطَعُ في شَيءٍ بأقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وهَذا حُكْمُ التَّجْرِيحِ في نَقْلِ الخَبَرِ، وفي الشَّهَادَةِ بالجُرْحَةِ. * * * ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما وجدته بلفظ: (فذكره عريفي لعمر) رواه البيهقي في السنن 10/ 298.

باب في إلحاق الولد بأبيه، وحكم ميراثه

بابٌ في إلحْاقِ الوَلَدِ بأَبِيهِ، وحُكْمِ مِيرَاثِهِ * قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ الزِّنَا في الجَاهِليةِ ظَاهِرًا، وكُنَّ الزَّوَانِي لَهُنَّ رَايَاتٍ يَنْصِبْنَهَا في دُورِهِنَّ، فَمَنْ أَرَادَ الزَّانِيَةَ أتاهَا فَزَنَى بِهَا، فَيَأْتِيهَا هَذا، وَيأْتِيهَا هَذا، فإذا وَلَدَتِ الزَّانِيَةُ وَلَدًا ألصَقَتْهُ بِمَنْ شَاءَتْ مِنْ أُولَئِكَ الذينَ زَنَوا بِهَا، فَنَسَبتْ إليهِ وَيكُونُ ابْنَهُ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَاهَرَ بامْرَأةٍ لَا يَمْلِكَها، أَو بِحُرَّة لَا يَمْلِكَهَا فَالْوَلَدُ وَلَدُ زِنَا، لَا يَرِثُ ولَا يُورَثُ" (¬1)، وصَارَ الوَلَدُ لِصَاحِبِ الفِرَاشِ إذا ادَّعَاهُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلَدُ للفِرَاشِ وللَعَاهِرِ الحَجَرُ" [2736]، أَي: لَا شَيءَ للزَّانِي في الوَلَدِ إذا ادَّعَاهُ صَاحِبُ الفِرَاشِ، وَهُوَ السَّيِّدُ، أَو الزَّوْجُ. قالَ: وهَذِه كَلِمَةٌ تَقُولُهَا العَرَبُ لِمَنْ طَلَبَ شَيْئَاً لَيْسَ هُوَ لَهُ، تَقُولُ: بِفِيكَ الحَجَرُ. وقالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الفُقَهَاءِ: إنَّمَا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالوَلَدِ للفِرَاشِ مِنْ أَجْلِ ابنِ نُوح - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا في قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، فَرُويَ عَنِ الحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ابنُ نُوحٍ مِنْ صُلْبِ نُوحٍ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2113)، وابن ماجه (2745)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه ابن لهيعة، وقد توبع، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم بأن الزاني لا يرث من أبيه، كما قال الترمذي. (¬2) رواه عبد الرزاق في التفسير 2/ 306.

وقالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ ابنُهُ لِصُلْبهِ، ومَا كَانَ اللهُ لِيَبْتَلِي نَبِيًّا مُكَرَّمًا في أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذا (¬1). وصَدَّقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا القَوْلَ، وقالَ: "الوَلَدُ للفِرَاشِ"، يَعْنِي: هُوَ للَّذي يَمْلِكُ المَرْأَةَ مِلْكًا تَامًّا، ويَفْتَرِشُها عِنْدَ الوَطْءِ. ومَعْنَى قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى في ابنِ نُوحٍ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، يَعْنِي: أنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُلجِئَهُم مَعَكَ في السَّفِينَةِ، بَلْ هُوَ مِنَ المُغْرَقِينَ بِكُفرِهِ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: فِي حَدِيثِ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ مِنَ الفِقْهِ: إنْفَاذُ عَهْدِ المُوصِي بَعْدَ مَوْتهِ، وإلحْاقُ الوَلَدِ بِصَاحِبِ الفِرَاشِ، والقَضَاءُ بالشَّبَهِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِسَوْدَةَ بنتِ زُمْعَةَ: "احْتِجِبي مِنْهُ" أَي: احْتَجِبي مِن ابنِ وَلِيدَةِ زُمْعَةَ، وَهُوَ أَخُوهَا لأَبِيهَا، وإنَّمَا أَمَرَهَا بذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رَأَى الوَلَدَ المُدَّعَا يَشْبَهُ عُتْبَةَ بنِ أَبي وَقَّاصٍ مُدَّعِيهِ، فَجَعَلَ الشَّبَهَ عَلَّةً قَضَى بِهَا، وهَذا أَصْلٌ في القَضَاءِ بالشُّبُهَاتِ. * قَوْلُ المَرأَةِ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ حِينَ سَألها عَنِ المَرْأَةِ التي تَزَوَّجتْ وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَتْ: (إنَّ هَذِه المَرْأَةَ لَمَّا مَاتَ زَوْجُهَا كَانَتْ مِنْهُ حَامِلًا، فَلَمَّا حَاضَتْ وَهِيَ في عِدَّةِ المُتَوفَّى حُشَّ وَلَدُهَا في بَطْنِهَا) [2737]، تَعْنِي: ضَعُفَ وَرَقَّ، فَلَمَّا وَطِئَهَا الزَّوْجُ الذي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وأَصَابَ الوَلَدُ مَاءَ الرَّجُلِ الذي تَزَوَّجَهَا تَحَرَّكَ الوَلَدُ في بَطْنِهَا، وقَوِيَ فَوَلَدَتْهُ تَامًّا، فَصَدَّقَهَا عُمَرُ في ذَلِكَ، فَهَذا دَلِيل صَحِيحٌ على أَنَّ الحَامِلَ تَحِيضُ، ولِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ قَوْلَ تِلْكَ المَرْأةِ التي أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الحَامِلَ تَحِيضُ، ولَا أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ، وهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الحَامِلَ لَا تَحِيضُ (¬2)، لأَنَّ الحَمْلَ ضِدُّ الحَيْضِ، كَمَا تَحْمِلُ ¬

_ (¬1) هذا قول ابن عباس، رواه عبد الرزاق في التفسير 2/ 307، ونصه: (هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية). (¬2) هذا قول أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وغيره، ينظر: المبسوط للسرخسي 2/ 20، والمغني لإبن قدامة 1/ 218.

المَرْأةُ وَهِيَ حَائِضٌ إذا وُطِئَت، فَكَذَلِكَ تَحِيضُ وَهِيَ حَامِلٌ. وفِي هَذِه القِصَّةِ أيضًا مِنَ الفِقْهِ: طَرْحُ العُقُوبةِ عَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأةً في عِدَّتِهَا إذا لَمْ يَقْصِدْ بِتَزوِيجِهِ إيَّاهَا في العِدَّةِ مُخَالَفَةَ مَا نَهَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ بِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، يَعْنِي: حتَّى تنقَضِي عِدَّةُ المُعْتَدةِ، وذَلِكَ أَن هَذِه المَرْأةَ تَزَوَّجَتْ في عِدَّتِهَا، فَحَكَمَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ بِفَسْخِ نِكَاحِهَا، وهَذا أَصْل في أَنَ النكَاحَ الفَاسدَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ، وُيفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وبَعْدَ الدُّخُولِ، وهَذا إذا كَان الفَسَادُ في العَقْدِ، وأَمَّا إذا كَانَ الفَسَادُ مِنْ جِهَةِ الصَّدَاقِ فإنه يُفْسَخُ قَبْلَ البِنَاءِ، وَيثْبُتُ بعدَ البنَاءِ، ويَكُونُ للزَّوْجَةِ فِيهِ صُدَاقُ مِثلِهَا على زَوْجِهَا، وفِي مِثْلِ هَذِه القِصَّةِ لا يُلحَقُ الوُلَدُ بِمَن وُلدَ في عَصَبَتِهِ أقلَّ مِنْ سِتةِ أَشْهُرٍ، وفِيهَا أيضًا أَنَ أُمُورَ النسَاءِ يُرْجَعُ فِيهَا إلى قَوْلِ النِّسَاءِ العَارِفَاتِ بأُمُورِهِن فِيمَا لَا يَطلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ، وهَذَا أَصْلٌ في الرَّدِّ عِندَ الحُكمِ إلى أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ: (أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ أَوْلاَدَ الجَاهِليَّهَ بِمَن ادَّعَاهُمْ في الإسْلَامِ) [2738]. قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - يُلْصِقُ أَوْلاَدَ الجَاهِلِيهَ بِمَن ادَّعَاهُم في الإسْلَامِ إذا كَانُوا لِزَنيَّةَ. قالَ: وكَذَلِكَ الحُكمُ اليومَ فِيمَن أَسْلَمَ مِنَ المُشْرِكِينَ فَادَّعَا وَلَدًا لِزَنيَّةٍ كَانَ قَد زَنَى بامْرَأَةٍ مُشرِكَةٍ فَأتَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ في الإسْلَامِ، فإنه يُلْصَقُ بهِ وَيكُونُ ابنَهُ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيهِ مَعَهُ سيِّدُ أَمَةٍ، أو زَوْجُ حُرَّةٍ، فَيَكُونُ أَوْلَى بهِ. قالَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ: (فأتَى رَجُلاَنِ كلاَهُمَا يَدَّعِي وَلدَ امْرَأةٍ، فَدَعَا عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَائِفَاً فَنَظَرَ إليهِمَا)، وذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا، ومَعْنَاهَا: أَن رَجُلَيْنِ ادَّعَيا وَلَدًا وُلِدَ في الجَاهِليَّةِ، وَوَطِءَ الآخَرُ في إثْرِ الأَوَّلِ، فَالحُكْمُ في مِثلِ هَذا أَنْ

يُدْعَا للوَلَدِ القَافَةُ (¬1)، فَيَنْظُرُ إليهِ وإليهِمَا، فَمَنْ أَلْصَقَتْهُ بهِ القَافَةُ مِنهُمَا لَصَقَ بهِ، ولا يُجْزِئُ مِنَ القَافَةِ إلَّا اثْنَانِ عَدْلاَنِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: فإذا قَالَتِ القَافَةُ لَقَد اشتَركَا فِيهِ، كَانَ الحُكمُ في ذَلِكَ أَنْ يُقَالُ للغُلاَم إذا بَلَغَ الحُلُمَ: وَالِي أَيُّهُمَا شِئتَ، فإذا وَالَى أَحَدَهُمَا كَانَ ابْنَهُ، فإذا ادَّعيَاهُ مِنْ أَمَةٍ كَانَا قَدْ مَلَكَاها جَمِيعًا عُتِقَتِ الجَارِيَةُ مِنهُمَا، وذَلِكَ أَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهَا أُمَّ وَلَدٍ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ويَتفِقَانِ جَميِعًا على الصَّبِيِّ حتَّى يَبلُغَ مَبْلَغَ المُوَالاَةِ، فإذا بَلَغَها وَوَالَى أَحَدَهُمَا لَمْ يَغرَمْ لَهُ الآخَرُ نِصْفَ النَّفَقَةِ، لأَنَّهُ إنَّما اتَّفَقَ على وَلَدٍ يَدَّعِيهِ مِن أَمَةٍ قَدْ مَلَكَها بِشِرَاءٍ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَو مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَبْلغ مَبْلَغَ المُوَلاَةِ عَن مَالٍ، وَرِثَاهُ جَمِيعًا. قالَ: وَلَو مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ المُوَلاَةِ وُقِفَ مِيرَاثُهُ مِنهُ، فإنْ وَالَى المَيِّتَ أُخِذَ مِيرَاثُهُ مِنْهُ، وإنْ وَالَى الحَيَّ أُخِذَ ذَلِكَ السَّهْمَ الذي كَانَ وَقَفَ لَهُ وَرَثَةُ ذَلِكَ الهَالِكِ، أَو بَيْتُ مَالِ المُسْلِمِينَ إنْ لَم يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ. وقالَ ابنُ نَافِعٍ: العَمَلُ في هَذِه المَسْأَلةِ أَنْ يُقَالُ للقَافَةِ: أَلْحِقُوهُ بأَقرَبِهِم بهِ شَبَهًا، ولا يُتْرَكُ وَمُوْلاَهُ أَحَدِهِمَا. إنَّمَا قُضِيَ في الأَمَةِ التي غَرَّت رَجُلًا بِنَفسِهَا، وذَكَرَت لَهُ أَنَهَا حُرَّةٌ، وتَزَوَّجَهَا وأتتْ بِوَلَدٍ، ثم استَحَقَّهَا سَيَّدُها أَمَة، فأَخَذَهَا وقَضَى لَهُ بقِيمَةِ وَلَدِهَا على الذي كَانَ تَزَوَّجَهَا، مِنْ أَجْلِ أَن الوَلَدَ نَمَا في الأَمَةِ وزِيَادَة، وإنَّما زَادَ في مِلْكِ سَيِّدِه إذ لم تَخرُج مِن يَدِهِ بِبيعٍ ولَا هِبَةٍ، ولَمْ يَأْخُذِ الوَلَدَ مِنْ أَجْلِ شُبْهَةِ الزَّوْجِيَّةِ، ولَمْ يَكُنْ ¬

_ (¬1) القافة مفرد قائف، وهو الذي يتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شَبَه الرجل بأخيه وأبيه، يقال: فلان يقُوف الأثر ويقتافه قيافة مثل: قفا الأثر واقتفاه، ينظر: النهاية 4/ 121.

حُكْمُ الزَّوْج حُكْمُ الغَاصِبِ الذي يَكُونُ وَلَدُهُ رَقِيقًا لِسَيِّدِ الأَمَةِ، وعَلَيْهِ الحَدُّ بهِ في وَطْئِهِ إيَّاهَا (¬1). * قَوْلُ مَالِكٍ في الرَّجُلِ يَهْلَكُ ولَهُ بَنُونَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: قَدْ أَقَرَّ أَبِي أَنَّ فُلاَنًا ابْنَهُ، أَنَّ ذَلِكَ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ [2742]، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، والذي يَشْهَدُ أَنَّ هَذا أَخُوهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ ولَا يَتَوَارَثُ مَعَهُ، وإنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّ بِيَدِه لِهَذا مَالًا، فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ إليه، ولَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ [أَقَرَّا] (¬2) بأَخٍ ثَالِثٍ، لَقِيلَ لَهُمَا: ادْفَعَا إليهِ مِيرَاثَهُ، ولَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ نَسَبَهُ، ولَوْ كَانَ عَدْلَيْنِ لَثَبَتَ النَّسَبُ بِشَهَادَتِهِمَا. * * * ¬

_ (¬1) نقل هذا القول عن مالك أيضًا: سحنون في المدونة 5/ 54. (¬2) في الأصل: أقر، وهو خطأ، والصواب ما أثبته مراعاة للسياق.

باب القضاء في أمهات الأولاد، وعمارة الموات، وحكم المياه

بابُ القَضَاءِ في أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وعِمَارَةِ المَوَاتِ، وحُكْمِ المِيَاهِ * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَؤونَ وَلاَئِدَهُمْ) [2746]، وَذَكَر القِصَّةَ، إلى قَوْلهِ: (لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ قَدْ أَلَمَّ بهَا إلَّا أَلْحَقْتُ بهِ وَلدَهَا)، فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: إنْكَارُ الأَئِمَةِ على سَادَاتِ الإمَاءِ وَطْئُهُنَّ، وإبَاحَةُ الخُرُوجِ لَهُنَّ خِيفَةَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّكُّ في حَملِهِنَّ، وفِيهِ: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِوَطْءِ أَمَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ، فَادَّعَا أَنَّهُ عَزَلَ مَاءَهُ عَنْهَا في وَقْتِ وَطْئِهِ إيَّاهَا، أنَّ الوَلَدَ لاَحِق بِهِ، لأَنَّ الوَلَدَ يَكُونُ مَعَ العَزْلِ، وقَدْ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سُئِلَ عَنِ العَزْلِ: "مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ إلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ" (¬1)، فإنْ أَنْكَرَ السَّيِّدُ الوَطْءَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، أَو أَقَرَّ بهِ وادَّعَى أنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا اسْتِبْرَاءً صَحِيحًا، ثُمَّ لَمْ يَطَأْهَا حتَّى ظَهَرَ هَذا الحَمْلُ، ونَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، لم يُلْحَقْ بهِ، ولَمْ يَلْزَمْهُ في ذَلِكَ يَمِينٌ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إذا جَنَتْ أُمُّ الوَلَدِ جِنَايَةً كَانَ على سَيِّدِهَا الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا، أو مِنْ قِيمَةِ أَرْشِ الجِنَايةِ، يُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا عَنْهَا، وذَلِكَ أَنَّهُ لا يَجِدُ السَّبِيلُ إلى إسْلاَمِهَا في الجِنَايَةِ مِنْ أَجْلِ الحُرِّيَةِ التي فِيهَا، وذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرُجُ حُرَّةً مِنْ رَأْسِ مَالِ سَيِّدِهَا بِمَوْتهِ، فإذا جَنَتْ مَا قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا، أَو كَانتْ قِيمَتُهَا مِائَة، لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الجِنَايَةِ إلَّا قِيمَةُ جِنَايَتِهِ، ولَو كَانَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعِينَ لَمْ يُلْزَمُ السَّيِّدُ إلَّا إخْرَاجُ أَرْبَعِينَ، ولَا ظُلْمُ هَهُنَا على صَاحِبِ الجِنَايةِ، لأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ تُسْلَمُ إليهِ في الجِنَايَةِ لَوْلاَ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فإذا دَفَعَ إليه قِيمَتَهَا لَمْ يَظْلِمْهُ، وإنَّمَا تُقَوَّمُ أَمَةٌ بِغَيْرِ مَالِهَا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2404)، ومسلم (1438)، من حديث أبي سعيد الخدري.

وقالَ المُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحمنِ (¬1)، وعبدُ المَلِكِ بنُ المَاجِشُونَ: إنَّهَا تُقَوَّمُ في الجِنَايَةِ بِمَالِهَا، فإنْ كَانَتْ جِنَايَتُهَا أَكثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يُلْزَمُ السَّيِّدُ غُرْمَ مَا زَادَ على قِيمَتِهَا، ولَمْ تتبْعْ هِيَ بِشَيءٍ مِمَّا زَادَ الأَرْشُ على قِيمَتِهَا مِنَ الجِنَايَةِ وإن عُتِقَتْ. قالَ مَالِكٌ: ولَيْسَ على عَاقِلَةِ سَيِّدِهَا شَيءٌ مِنْ جِنَايَتِهَا، لأَنَ العَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ جِنَايَةَ العَبِيدِ. * قَوْلُ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ حِينَ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَخَذَ ابْنَهُ عَاصِمًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَلَّقَ أُمُّهُ، إذْ وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَنَازَعَتْهُ فِيهِ جَدَّةُ الصَّبِيِّ، فتَحَاكَمَا في ذَلِكَ إلى أَبي بَكْرٍ الصدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَقَضَى للجَدَّةِ بِحَضَانَةِ ابنِ ابنَتِهَا [2838]. ومِنْ هَذا الحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الجدَّةَ أَحَقُّ بالحَضَانَةِ، والأُمُّ أَحَق بِحَضَانَةِ ابْنِهَا مِنَ الأَبِ، لِقَول اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، يَعْنِي: لا يُنْزَعُ مِنْهَا في حَالِ الصِّغَرِ. * قالَ مَالِكٌ: إلَّا أَن تتزوَّجَ، فإنَّ للأَبِ حِينَئِذٍ أَخْذُ وَلَدِهِ إذا دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَها أُمُّ أو أُخْتٌ، فَيَكُونَانِ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الوَلَدِ مِنَ الأَبِ، فإنْ انتقَلَ الأَبُ إلى بَلَدٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَخذُ وَلَدِهِ. * حَدِيثُ "سيلِ مَهْزُوزٍ ومُذَيْنيبٍ"، مُرْسَلٌ فِي رِوَايةِ مَالِكٍ [2754] ومِثْلُهُ حَدِيثُ: "مَنْ أَحْيَا أَرضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ، ولَيْسَ لِعِرقٍ ظَالِمٍ حَقٌ" [2750]. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا هَذا في فَيَافِيَ الأَرْضِ التي لَا تَكُونُ مِنْ حَوْزٍ وَاحِدٍ، وحَيثُ لَا يتَشَاحُّ النَّاسُ فِيهَا، والعِرْقُ الظَّاِلمُ: هُوَ كُلُّ مَا أُنْبتَ لَهُ فِيهَا، وأَمَّا المَوَاتُ القَرِيبُ مِنَ العِمَارَةِ فَلَيسَ لأَحَدٍ أَنْ يَعْمُرَ تِلكَ إلَّا بقَطِيعَةٍ مِنَ الإمَامِ، وأَمَّا مَا بَعُدَ عَنْهُ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا، وإحْيَاءُ الأَرْضِ: حَفْرُ الآبَارِ، وإجْرَاءُ العُيُونِ، ¬

_ (¬1) هو المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن القُرشي المخزومي المدني الإِمام الفقيه، توفي في سنة (186)، ترتيب المدارك 3/ 2، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1263.

وغَرْسُ الثِّمَارِ، والبُنْيَانُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ الأَرْضُ التي أَحْيَاهَا، ولِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِه مَالًا لَهُمْ، وتُورَثُ عَنْهُم، لأَنهمْ مَلَكُوهَا بإحْيَائِهِمْ لَهَا. قالَ ابنُ وَهْبٍ: مَهْزُوزٌ ومُذَينيبٌ هُمَا وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيةِ المَدِينَةِ، يُسْقَيَانِ بالسَّيْلِ عِنْدَ نزولِ الأَمْطَارِ، وكَثْرَةِ المِيَاهِ، فإذا حَصَلَتْ بالسَّيْلِ سَقَى مِنْ ذَلِكَ المَاءِ أَهْلُ الحَوَائِطِ حَوَائِطَهُم، فَيَسْقِي الأَوَّل حَائِطَهُ حتَّى يَرْوِيهِ، وَيكُونُ المَاءُ فِيهِ كُلُّهُ إلى كَعْبيهِ، ثُمَّ يُرْسِلُ فَضْلَةَ المَاءِ إلى صَاحِبهِ الذي يَلَيهِ، فَيَفَعَلُ في حَائِطِه نَحْوَ مَا فَعَلَ الأَوَّلُ، يُعَمُّ بِذَلِكَ المَاءُ جَمِيعَ حَائِطِهِ، وَيكُونُ فِيهِ المَاءُ إلى كَعْبَيْهِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إلى الذي يَلِيهِ حتَّى يَعُمَّ بِذَلِكَ المَاءَ جَمِيعَ الحِيطَانِ أَو مَا عَمَّ مِنْهَا، هَذا تَفْسِيرُ ابنِ وَهْبٍ. وقالَ زِيَادُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ (¬1) عَنْ مَالِكٍ: تَفْسِيرُ قِسْمَةِ ذَلِكَ هُوَ أَنْ يُجْرِي الأَوَّل مِنْ ذَلِكَ المَاءِ في سَاقِيَةِ إلى حَائِطِهِ حتَى يَرْوِيهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ الذي يَلِيهِ كَذَلِكَ، ثم الذي يَلِيهِ كَذَلِكَ أيضًا مَا بَقِيَ مِنَ المَاءِ شَيءٌ. قالَ: وهَذِه السُّنَّةُ فِيهِما وفِيمَا يَشْبَهَهُمَا مِمَّا لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ، فَالأَوَّلُ أَحَقُّ بالتَّبْدِيةِ، ثُمَّ الذي يَلِيهِ، ثُمَّ الذي يَلِيهِ، إلى آخِرِهِم رَجُلًا. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بهِ الكَلأُ" [2755]، يُرِيدُ: لَا يُمْنَعُ مُاءُ آبَارِ المَاشِيَةِ التي في الصَّحَارِي، ومَنْ سُبقَ إليها بِمَاشِيتِهِ كَانَ أَولَى بالتَّبْدِيةِ، يَسْقِي مِنْهُ مَاشِيتَهُ، ثم لَا يَمْنَعُ فَضْلَ ذَلِكَ لِغَيْرهِ، لأَنَّهُ إذا مَنَعَ فَضْلَةً مِنْ غَيْرهِ امْتَنَعَ أَهْلُ المَوَاشِي أَنْ يَرْعَوا الكَلأَ الذي حَوْلَ المَاءِ، وذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لا يَرْعَى مَاشِيَتَهُ في مَكَانٍ لا يَجِدُ فِيهَا مَاءً، والكَلأُ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ. * وقَوْلُهُ: "لا يُمْنَعُ نَقْعُ بِئْرٍ" [2756]، يَقُولُ: مَنْ كَانَتْ لَهُ بِئْرٌ فِيهَا فَضْلُ مَاءٍ عَنْ سَقِي حَائِطِه، أَو زَرْعِهِ، ولَهُ جَارٌ قَد انْقَطَعَ مَاءُ بِئْرِه وقَدْ زَرَعَ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْنَعُ جَارَهُ ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله اللَّخمي، الملقب بشَبْطُون، سمع من مالك الموطأ، وله عنه في الفتاوى كتاب، وكان زاهدا، توفي سنة (193) وقيل بعدها، ينظر: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 490.

أَنْ يَسْقِي بِفَضْلِ مَاءِهِ، ولَيْسَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ولَكِنْ يُؤْمَرُ بهِ، وُيحَضُّ عَلَيْهِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ، ويُجْبَرُ عَلَيْهِ، ويُؤَدِّي إليهِ في ذَلِكَ الثَّمَنَ. * وقَالَ غَيْرُهُ: يُقْضَى عَلَتهِ بِذَلِكَ لِجَارِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ يَكُونُ عَلَيْهِ. * قَوْلُهُ: "لَا [ضَررَ] (¬1) ولَا ضِرَارَ" [2758] مَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَضُرَّ الإنْسَانُ بِجَارِهِ ولَا بِغَيْرِهِ، والضِّرَارُ: هُوَ أَنْ يَفْعَلَ الإنْسَانُ شَيْئًا يَضُرُّ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وبِغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ مَا يَسْتَضِرُّ بهِ جَارُهُ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. * قَوْلُهُ: "لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ خَشَبةً يَغْرِزُهَا في جِدَارِهِ" [2759] إنَّمَا هَذا مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على طَرِيقِ الرِّفْقِ بالجَارِ لَا على الإلْزَامِ، ولِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابةُ يَعْرِضُونَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ إذْ كَانَ يُحَدِّثُهُم بِهَذا الحَدِيثِ، ولَوْ كَانَ عِنْدَهُم على الإلْزَامِ مَا أَعْرَضُوا عَنْهُ، فَالأحَادِيثُ الوَارِدَةُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هيَ علَى حَسَبِ مَا تَلَقَّاهَا أَصْحَابُهُ عَنْهُ لا على ظَوَاهِرِهَا. قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: لَيْسَ العَمَلُ على إجْرَاءِ مَمَرِّ الخَلِيجِ في أَرْضِ مُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، ولَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِمَالِ أَخِيهِ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ. * ومَعْنَى قَوْلهِ: (نَشْرَبُ بهِ أَوَلًا وَآخِرًا) [2760] يَعْنِي: تَسْقِي بهِ أَرْضَكَ مَتَى شِئْتَ، لأَنَّهُ سَائِرٌ في أَرْضِكَ. * قالَ عِيسَى: وأَمَّا حُكْمُهُ في تَحْوِيلِ الرَّبِيع الذي كَانَ في حَائِطِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ إلى نَاحِيةٍ أُخْرَى مِنَ الحَائِطِ، فإنَّهُ لَمْ يَكُنْ على عَبْدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ في ذَلِكَ ضَرَرٌ [2761]. والرَّبِيعُ: السَّاقِيَةُ التي يَجْرِي فِيهَا المَاءُ. قالَ عِيسَى: وأَمَّا مَالِكٌ فَلَا يَرَى تَحْوِيلَهُ عَنْ مَوْضِعِه إلى غَيْرِه وإنْ لَمْ يَضُرَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: ضرار، وهو خطأ ظاهر.

ذَلِكَ بِصَاحِبهِ، إلَّا أنْ يَرْضَى بِذَلِكَ صَاحِبُ الحَائِطِ، ولَا يُؤْخَذُ مِلْكُ أَحَدٍ إلَّا بإذْنِهِ، وقَدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلَّا بإذْنِهِ" (¬1)، فَمَنَعَ مِنْ حَلْبِ اللَّبَنِ بغَيْرِ إذْنِ صَاحِبهِ، وَهُوَ يَحْلِبُ غُدْوَةً، ويَرْجِعُ عَشِيَّةً، فكيف يَأْخُذُ مَا لَا يَرْجِعُ إذا أَخَذَ؟!. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2303)، ومسلم (1725)، ومالك في الموطأ (3559)، من حديث ابن عمر.

القضاء في قسم الأموال، والحكم في الضواري من البهائم

القَضَاءُ في قَسْمِ الأَمْوَالِ، والحُكْمُ في الضَّوَارِي مِنَ البَهَائِمِ * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا دَارٍ أَو أَرْضٍ قُسِمَتْ في الجَاهِلِيَّهَ فَهِيَ على قَسْمِ الجَاهِلِيَّة، وأيُّمَا دَارٍ أَو أَرْضٍ أَدرَكَها الإسْلاَمُ [ولَمْ تُقْسَمْ] (¬1) فَهِيَ على قَسْمِ الإسْلاَم" [2763] قالَ ابنُ القَاسِمِ: إنَّمَا هَذا في مُشرِكِي العَرَبِ والمَجُوسِ، فَمَنْ مَاتَ مِنهُمْ ولَمْ يَقْسِمْ وَرَثتهُ مِيرَاثَهُمْ مِنْهُ حتَى أَسْلَمُوا، فإنَّ ذَلِكَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِقَسْمِ الإسْلَامِ، وأما مَنْ مَاتَ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى فَلَمْ يَقْسِمْ وَرثتهُ مِيرَاثَهُمْ مِنْهُ حتَّى أَسْلَمُوا فَهُو على قِسمَتِهِم الذي هُوَ حُكْمُ أَهْلِ دِينهِمْ، ولَا يَزِيدُ إسْلاَمُهُمْ في مَوَارِيثِهِم شَيْئًا (¬2). * وقالَ ابنُ نَافِعٍ: الحَدِيثُ عَامٌ في أَهلِ الكُفْرِ كُلّهِم، فَمَنْ وَرِثَ مِنْهُمْ دَارًا أَو أَرْضًا فَلَمْ يَقْسِمُوا ذَلِكَ حتَّى أَسْلَمُوا، فإنَّ مَوَارِيِثِمْ تَرْجِعُ في ذَلِكَ إلى قَسْمِ الإسْلَامِ. قالَ: فإنْ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ ولَمْ يُسْلِمِ البَعْضُ قُسِمَ ذَلِكَ بينَهُمِ على قَسْمِ دِينِهِمْ، إلَّا أَنْ يَرْضَى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ بِقَسْمِ الإسْلَامِ، فإنَّهُ يُقْسَمُ بينهُمْ ذَلِكَ على قَسمِ الإسْلَامِ (¬3). ¬

_ (¬1) هذه الزيادة من الموطأ. (¬2) نقله ابن عبد البر في التمهيد 2/ 52. (¬3) نقله ابن عبد البر في الموضع السابق، وقال: وهذا أولى لما فيه من استعمال الحديث على عمومه في أهل الجاهلية ... إلخ.

* قَوْل مَالِكٍ: (لا يُقْسَمُ البَعْلُ مَعَ النَّضْحِ) [2764] إنَّمَا قالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ: أنَّ القِسْمَةَ بالقُرعَةِ لا تَكُونُ إلَّا في صِفةٍ وَاحِدَةٍ، والبَعْلُ والنَّضْحُ صِنْفَانِ مُختلِفَانِ، فَلِذَلِكَ يُقْسَمُ كُل صِنفٍ مِنْهُمَا على حِدَةٍ، فإن قُسِمَا مَعًا دَخَلَهُ الغَرَرُ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وقِسمَةُ المُرَاضَاةِ تَجُوزُ في أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، لأَنَّهَا بَيْعٌ مِنَ البِيُوعِ، ولَا تَكُونُ قِسْمَةُ المُرَاضَاةِ إلَّا بَيْنَ المَالِكِينَ لأَنْفُسِهِم بَيْنَ الأَيْتَامِ إلَّا بالقُرْعَةِ. * قَوْلُهُ: (الضَّوَارِي والحَرِيسَة) [2765] يَعْنِي بالضَّوَاوِي: المَاشِيَةَ التي قَدْ ضَرِيت تأكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ (¬1)، وكَذَلِكَ مَا [يُحْتَرَسُ] (¬2) مِنْ جَمِيعِ البَهَائِمِ يُقَالُ لَهَا حَرِيسَةٌ. قالَ ابنُ القَاسمِ: مَا أَفْسَدَتِ المَوَاشي باللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ على أَهْلِهِ، مُحْصَرًا كَانَ الحَائِطُ أو الزرْعُ الذي أَفْسَدَت فِيهِ اْلمَاشِيَةُ أَو غَيْرَ مُحْصَرٍ، قَلِيلًا كانَ ذَلِكَ الفَسَادُ أو كَثيرِاً، ولَيْسَ لأربَابِ المَاشِيَةِ أَن يَسْلِمُوهَا في تِلْكَ الجِنَايةِ التي جَنَتهَا، وذَلِكَ أَنَ الجِنَايَةَ مِنْ قِبَلِ أَصْحَابِ المَوَاشِي بِسَببِ تَضْيِيعِهِم لِحِفظِهَا، ومَا أَفْسَدَتِ المَوَاشِي مِنْ ذَلِكَ بالنَّهَارِ فَلَا ضَمَانَ على أَهْلِهَا في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، لأَن على أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بالنَّهَارِ، وعلى أَهْلِ المَوَاشي حِفْظُهُا باللَّيْلِ. وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: لَا شَيءَ على أَربَابِ المَوَاشِي فِيمَا أَفْسَدَتْهُ، لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارًا، لأَنَّهَا مِنَ العَجْمَاءِ التَي قالَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ جَرْحَهَا جُبَارٌ" (¬3) لَا دِيةَ فِيهَا (¬4). والصَّحِيحُ في هَذا مَا قَالَ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الجِنَايَةَ إنَّمَا هِيَ ¬

_ (¬1) ضريت: أي اعتادت على أكل زرع الناس وأذيتهم بذلك، وتسمى أيضًا العوادي، ينظر: الإقتضاب 2/ 264. (¬2) جاء في الأصل: يحرس، وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وينظر الإقتضاب. (¬3) رواه البخاري (6514)، ومسلم (1710)، من حديث أبي هريرة، وهوفي موطأ مالك من رواية محمد بن الحسن عنه (677). (¬4) ينظر: التمهيد 11/ 85، وأوجز المسالك 14/ 146.

مِنْ قِبَلِ أَصْحَابِ المَوَاشِي الذينَ سَرَّحُوهَا باللَّيْلِ، لِتَضْيِيعِهِمْ لِحِفْظِهَا حِينَ أَفْسَدَتْ مَا أَفْسَدَتْ مِنْ ذَلِكَ. قالَ أَصْبَغُ: ولَيْسَ لأَهْلِ المَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوهَا في قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذَوَّادٍ يَذُودُونَهَا، حتَّى يُخْرِجُوهَا عَنِ الأَجِنَّةِ والزُّرُوعِ، فإذا بَلَغُوا المَرَاعِي سَرَّحُوهَا، فَمَا شَذَّ مِنْهَا إلى الزَّرْعِ والأَجِنَّةِ كَانَ على أَصْحَابِ الزُّرُوعِ حِفْظَهَا ودَفْعَهَا عَنْ زُرُوعِهِمْ. * قالَ عِيسَى: الذي يَقَعُ في نَفْسِي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَطَعَ أَيْدِي رَقِيقَ حَاطِبٍ [2767] لأَنَّهُم سَرَقُوا نَاقَةَ المُزَنيِّ مِنْ حِرْزِهَا ولَمْ يَسْرِقُوهَا مِنَ المَرْعَى، ولَيْسَ يُلْزَمُ السَّيِّدُ غُرْمَ مَا سَرَقَ عَبْدُهُ إذا قُطِعَتْ يَدُ العَبْدِ، وإنَّمَا على العَبْدِ أَنْ يُغْرَمَ قِيمَةُ السَّرَقَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِه إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وإلَّا فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، وإنَّمَا يَكُونُ في رَقَبَةِ العَبْدِ مَا كَانَ مِنْ سَرِقَةٍ لَا قَطْعَ فِيهَا، ويُخَيَّرُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ بينَ افْتِكَاكِهِ بِقِيمَةِ السَّرِقَةِ، وبينَ أَنْ يُسْلِمَهُ إلى الذي سَرَقَهَا مِنْهُ، وإذا قَتَلَ الرَّجُلُ جَمَلًا صَالَ عَلَيْهِ وثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ بِبيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ صَالَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمَ الجَمَلِ المَقْتُولِ، وهَذا قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، وبهِ قَالَ مَالِكٌ (¬1). وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَةُ الجَمَلِ لِصَاحِبهِ وإنْ قَامَتْ لَهُ بيِّنَةٌ بِصَوْلَتِهِ عَلَيْهِ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "جَرْحُ العُجْمَاءِ جُبَارٍ" (¬2). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الصَّحِيحُ في هَذا مَا قَالَ مَالِكٌ وأَهْلُ المَدِينَةِ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ للرَّجُلِ قَتْلُ الرَّجُلِ إذا أَرَادَ قَتْلَهُ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقتَلهُ، ولَا يَكُونُ عَلَيْهِ في ذَلِكَ قَوَدٌ، ولَا دِيَةٌ، فَلِهَذا سَقَطَ عَنْ قَاتِل الجَمَلِ ضَمَانهُ إذا صَالَ عَلَيْهِ، ولَيْسَتْ حُرْمَةُ المَالِ أَجَلُّ مِنْ حُرْمَةِ الدَّمِ الذي يَسْقُط فِيهِ عَنِ القَاتِلِ القَوَدُ، وسَقَطَتْ عَنْهُ فِيهِ الدِّيَةُ. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: الكافي لإبن عبد البر 1/ 606. (¬2) هذا قول زفر من الحنفية، أما قول الإِمام أبي حنيفة فهو أنه إذا صال فلا شيء عليه بقتله، ينظر: تبيين الحقائق 2/ 67.

القضاء فيما يعطى الصناع، إلى آخر باب الإعتصار

القَضَاءُ فِيمَا يُعْطَى الصُّنَّاعُ، إلى آخِرِ بَابِ الإعْتِصَارِ قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: قَضَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ (¬1)، وقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (لا يَصْلُحُ للنَّاسِ إلَّا ذَلِكَ) (¬2)، لا غِنَى بالنَّاسِ عَنْهُم، وإذ لَمْ يُعْطُوا مَا اسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِ على وَجْهِ الأمَانَةِ فَكَانَ تَضْمِينُهُم أَصْلَحَ للعَامَّةِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: يَضْمَنُ الصُّنَّاعُ مَا عَمِلُوهُ، بأَجْرٍ عَمِلُوهُ أو بِغَيْرِ أَجْرٍ، إلَّا مَا قَامَتْ لَهُمْ بهِ البيِّنَةُ العَادِلَةُ عِنْدَ هَلاَكِهِ مِنْ نَارٍ، أو صَاعِقَةٍ، أَو حُرِقَتْ بَيْتُ الصَّانِعِ، فَيَكُونُ القَوْلُ في ذَلِكَ قَوْلَهُ، ويَحْلِفُ ويَبْرَأُ مِنَ التَّبِعَةِ في ذَلِكَ، لأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَكُنْ على لاَبِسِ الثَّوْبِ الذي أَعْطَاهُ إيَّاهُ الصُّنَّاعُ حِينَ أْخَطَأَ بهِ فَلَبِسَهُ وَهُو يَظُنُّ أَنَّهُ ثَوْبَهُ فَلَم يَكُنْ عَلَيْهِ في لِبَاسِهِ غُرْمٌ، لأَنَّهُ لَبسَهُ غيْرَ مُتَعَدٍّ في لِبَاسِهِ، ولَو لَبسَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غيْرُ ثَوْبِهِ لَضَمِنَهُ إذا أَخْلَقَهُ، فإنْ لمْ يَخْلَقْهُ رَدَّهُ وغَرِمَ قِيمَةَ لِبَاسِهِ إيَّاهُ، وانْتِفَاعِهِ بهِ. * حَدِيثُ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ الذي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في آخِرِه: "ارْتَجِعْهُ" [2782]، قالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: الذي أَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَشِيرٍ مَالٌ غَيْرَ ذَلِكَ العَبْدِ الذي نَحَلَهُ ابْنَهُ، فَلِذَلِكَ قالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْتَجِعْهُ". ¬

_ (¬1) رواه سحنون في المدونة 8/ 8. (¬2) رواه البيهقي في السنن 6/ 122، وذكر بأن أهل الحديث لا يثبتونه.

قِيلَ لِمَالِكٍ: فإذا لَمْ يَكُنْ للنَّاحِلِ مَالٌ غَيْرُهُ أيرْتَجِعْهُ بَعْدَ النَّحْلَةِ؟ فقالَ: إنَّ ذَلِكَ لِيُقَالُ، وقَدْ قُضِيَ بهِ عِنْدَنَا بالمَدِينَةِ (¬1). وقالَ غَيْرُ مَالِكٍ: إنَّهُ لَمَّا قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في غَيْرِ هَذا الحَدِيثِ: "سَاوُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ" (¬2)، يَعْنِي في العَطَايَا، وكَانَ بَشِير قَدْ نَحَلَ ابْنَهُ غُلاَمًا دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وأَعْلَمَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، كَرِهَ لَهُ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولَمْ يُحَرِّمْهُ، ولَوْ كَانَ حَرَامًا مَا نَحَلَ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ابْنتَهُ عَائِشَةَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وإنَّما يُكْرَهُ للأَبِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُورِثُ بَيْنَ وَلَدِهِ العَدَاوةَ، ويُبْغِضُونَهُ على فِعْلِهِ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ إذا وَقَعَ مِثْلُ هَذا نُفِذَ ولَمْ يُرَدُّ. وقالَ أَبو مُحَمَّدٍ: هَذا الحَدِيثُ أَصْل في إبَاحَةِ اعْتِصَارِ الرَّجُلِ مَا وَهَبَهُ ابْنَهُ، أَو نَحَلَهُ إيَّاه (¬3). * قالَ عِيسَى: قَوْلُ أَبي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ: (إني كنتُ نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقَاً) [2783]، يُرِيدُ: كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ ثَمَنِ نَخْلِي إذا جَدَدْتُهُ، فَمَرِضَ أَبو بَكْرٍ قَبْلَ أَن يَجِدَّ النَّخْلِ فَلَمْ يَكُنْ لِعَائِشَةَ مِنْ تِلْكَ النَّحْلَةِ شَيءٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَازَتْهَا في صَحَّةِ أَبِيهَا، وهَذا أَصْلٌ في الحِيَازَةِ أَن النَّحْلَةَ، أَو الهِبَةَ، أَو الصَّدْقَةَ إذا لَمْ تَحُزْ مِنْ دَافِعِهَا ولَمْ يَقْبضْ ذَلِكَ مِنْهُ حتَّى يَمْرَضَ النَّاحِلُ، أَو الوَاهِبُ، أَو المُتَصَدَّقُ، أَو يَمُوتُ أَنَّ ذَلِك لا يَنْفُذُ إذا كَانَ لِوَارِثٍ، فإنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَارِثٍ أُخْرِجَ لَهُ مِنَ الثُّلُثِ إذا أَوْصَى بِذَلِكَ. قالَ عِيسَى: وكَانَ لأَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ زَوْجَةً يُقَالُ لَهَا بِنْتُ خَارِجَةَ، فقالَ لِعَائِشَةَ: (إنَّ حَمْلَ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارَيةً)، فَكَانَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ أَبو بَكْرٍ ¬

_ (¬1) نقل هذا القول ابن عبد البر في التمهيد 7/ 236. (¬2) رواه سعيد بن منصور في السنن (293) طبعة الأعظمي، من حديث يحيى بن أبي كثير مرسلا، ورواه الخطيب في تاريخه 11/ 107 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. (¬3) الإعتصار: هو الحبس والمنع، وقيل: الإرتجاع، ويراد بها هنا الرجوع في الهبة دون عوض، يراجع: حاشية الدسوقي 3/ 271.

رَضيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَدتْ لَهُ ابْنَةُ خَارِجَةَ جَارِيَة يُقَالُ لَها أُمُّ كُلْثُومٍ، فَنَرَى واللهُ أَعْلَمُ أَن أبا بَكْرٍ رأى ذَلِكَ رُؤْيَا فتَأَوَّلَهَا، وكَانَ مِنْ أَعْبَرِ النَّاسِ للرُّؤْيَا. * قوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أبْنَاءَهُمْ نَحْلًا ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا) [2784]، وذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا، يُرِيدُ عُمَرُ: أَنَّهُ مَنْ نَحَلَ ابْنًا لَهُ كَبيرًا نَحْلًا فَلَمْ يُحِزْهَا الكَبِيرُ المَالِكُ لأَمْرِ نَفْسِهِ حتَّى مَاتَ الأَبُ فَهِيَ بَاطِلٌ، وأَمَّا الولَدُ الصَّغِيرُ فَحِيازَةُ الأَبِ لَهُ حِيَازَةٌ حتَّى يَبْلُغَ مَبلَغَ القَبْضِ لِنَفْسِهِ، وقَدْ بيَّنَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بنُ عَفانَ، ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ عَنْهُ في آخِرِ كِتَابِ الأَقْضِيَةِ مِنَ المُوطَّأ [2850]. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: لَمْ يَجُزْ لِمَنْ وَهَبَ هِبَةً على وَجْهِ الصَّدَقَةِ، أَو لِصَلَةِ رَحِم أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَا وُهِبَ لِوَجْهِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَلَا رُجُوعَ فِيهِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاجِعُ في هِبَتِهِ كَالكَلْب يَعُودُ في قَيْئِهِ" [980] (¬1)، فأَكْلُ القَيءِ حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ فِيمَا وُهِبَ لِوَجْهِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حَرَامٌ، وأما هِبةُ الثَّوَابِ فَمَتَى لَمْ يَرْضَ مِنْهَا صاحِبُهَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، لأنهَا بَيعٌ مِنَ البيوعِ. قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ على جَوَازِ الإعْتِصَارِ في الهِبَةِ والنَّحْلَةِ لِمَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ أو وَهَبَهُ، وذَلِكَ أَنَ الرَّجُلَ قَدْ يَطْلُبَ مُرَاضَاةَ ابْنِهِ بِمَا يَهِبَهُ إيَّاهُ لِيَسْتَزِيدَ مِنْ بِرِّهِ لَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَنْفَذَ ذَلِكَ لَهُ، فَلَمَّا أَضْمَرَ هَذا في نَفْسِهِ عِنْدَ النَّحْلَةِ أو الهِبَةِ جَازَ لَهُ اعْتِصَارُهَا، وأما الصَّدَقَةُ والحَبْسُ فَلَا اعْتِصَارَ في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وإنَّمَا يَعْتَصِرُ الأَبُ الهِبَةَ أَو النَّحْلَةَ مِنْ وَلَدِهِ مَا لَمْ يَتَزوَجِ الوَلَدُ عَلَيْهَا أَو الابْنَةُ، أَو يُدَايِنُ الابْنُ النَاسَ على مَا بِيَدِه مِنْ ذَلِكَ، فماذا وَقَعَ مِثْلُ هَذا لم يَجُزْ للأَبِ أنْ يَعْتَصِرَ حِينَئِذٍ مَا وَهَبَ ابْنَهُ ونَحْلَهُ إيَّاهُ، لأَن النَاسَ إنَّمَا دَايَنُوهُ على مِلْكِهِ لِذَلِكَ، وكَذَلِكَ الزوْجُ إنَّمَا رَفَعَ في صُدَاقِ زَوْجَتِهِ، مِنْ أَجْلِ مَا نَحَلَها بهِ أَبُوهَا، وللأُمِّ أيضًا أَنْ تَعْتَصِرَ مَا وَهَبْتَهُ ابْنَهَا مَا لَمْ يَكُنِ الإبنُ يَتيمًا، وذَلِكَ أَنَّ اليتِيمَ لا يُوهِبُ شَيْئًا إلَّا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4281)، ومسلم (1619)، من حديث عمر بن الخطاب.

باب القضاء في العمرى واللقطة واستهلاكها

بابُ القَضَاءِ في العُمْرَى واللُّقَطَةِ واسْتِهْلاَكِهَا * رَوَى يَحْيىَ في حَدِيثِ العُمْرَى بأَنَّهَا للَّذي يُعْطَاهَا: (لَا تَرْجِعُ إلى الذي أَعْطَاهَا أَبَدًا) [2797]، ولَمْ يَرْوِ أَحَدٌ في هَذا الحَدِيثِ أَبَدًا إلَّا يَحْيىَ بنُ يحيى. قالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: ولَيْسَ على حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ في العُمْرَى العَمَلُ، ولَوَدِدتُ أَنَّهُ مُحِيَ مِنَ المُوطَّأ. * قالَ أَبو المُطَرّفِ: سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ هَذا الحَدِيثِ، فَقَالَ لِي: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ومَعْنَاهُ قَائِمٌ، وذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرًا لَهُ ولِعَقِبهِ، فَامْتَدَّ العَقِبُ فإنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلى المُعْمِرِ ولَا إلى وَرَثَتِهِ مَادَامَ أَحَدٌ مِنْ عَقِبِ المُعْمَرِ حَيًّا، فَإذا انْقَرَضَ عَقِبُهُ رَجَعَتِ العُمْرَى [إلى] (¬1) المُعْمِرِ الذي كَانَ أَعْمَرَهَا إنْ كَانَ حَيًّا، أو إلى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيّتًّا، وإنَّمَا تَجْرِي هَذه الأَشْيَاءُ على شُرُوطِ أَصْحَابِهَا كَمَا قالَ القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ لِمَكْحُولٍ حِينَ سَأَلهُ عَنِ العُمْرَى ومَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا، فقالَ لَهُ: (مَا أَدْرَكتُ النَّاسَ إلَّا على شُرُوطِهِم فِيمَا أُعْطُوهُ) [2798]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: ومَنْ رَوَى: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالعُمْرَى للوَارِثِ" (¬2)، بِغَيْرِ تَفْسِيرٍ فَقَدْ أَخْطَأَ في تَاْوِيلِهِ، إذْ يَجْعَلُ العُمْرَى لَا تَرْجِعُ إلى مُعْمِرِهَا، وإلى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا قَالَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: أَعْمَرْتُكَ وعَقِبِكَ، فإنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلى ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) رواه بهذا اللفظ ابن حبان في صحيحه (2133)، من حديث زيد بن ثابت، ورواه بنحوه أبو داود (3559)، والنسائي 6/ 271، وابن ماجه (2381).

الذي أَعْمَرَهَا مَا دَامَ المُعْمَرُ حَيًّا، أو أَحَدٌ مِنْ عَقِبهِ، فإذا انْقَرَضُوا رَجَعَتِ العُمْرَى إلى مُعْمِرِهَا إنْ كَانَ حيًّا، أَو إلى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا، وأَمَّا الذي لَا يَرْجِعُ مِيرَاثَاً فَهُوَ الحَبْسُ، ولَكِنَّهُ يَرْجِعُ حَبْسًا إلى أَقْرَبِ النَّاقِلِ بالمُحْبِسِ لا إلى المُحْبِسِ نَفْسِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَمَّا الرُّقْبَى فَهِيَ الدَّارُ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبهِ: إنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَنَصِيبِي حَبْسٌ عَلَيْكَ، وإنْ مِتَّ قَبْلِي فَنَصِيُبَكَ حَبْسٌ عَلَيَّ، فَهَذا لَا يَحِلُّ ويُفْسَخُ إنْ وَقَعَ، وتَبْقَى حِصَّةُ كُلّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا لِصَاحِبهِ كَمَا كَانَتْ أَوَلَ مَرَةٍ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في اللُّقَطَةِ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكاءَهَا" [2802]، يَعْنِي بالعِفَاصِ: الخِرْقَةَ التِّي تَكُونُ فِيهَا اللُّقَطَةُ، وَالوِكَاءُ: الخَيْطُ الذي تُرْبَطُ بهِ. ثُمَّ قالَ: "عَرِّفَهَا سَنة، فإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إليه، وإلَّا فَشَأنُكَ بهَا"، يَعْنِي: إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بِعَلاَمَتِهَا وذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ أو الفِضَّةِ دُفِعَتْ إَليه، ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ في ذَلِكَ يَمِينٌ، فإنْ لَمْ يَأْتِ لَهَا طَالِبٌ فَعَلَ فِيهَا مُلْتَقِطُهَا مَا يُفْعَلُ بالوَدِيعَةِ إذا كَانَتْ عِنْدَهُ وطَالَ بَقَاءُهَا وأَيِسَ مِنْ صَاحِبهَا، إنْ شَاءَ تَسَلَّفَهَا، وإنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا وضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا إنْ جَاءَ، ولَمْ تَجُزِ الصَّدَقَةُ بِهَا. ولَمْ يَرِدِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلهِ: "شَأنُكَ بهَا" أَنْ يجعلها مَالًا لِمُلْتَقَطِهَا إذا عَرَّفها سَنَةً، إذْ لا يَرْتَفِعُ مِلْكُ الإنْسَانُ عَنْ مَالِهِ إلَّا بِهِبةٍ أو بِعِوَضٍ. وفَرَّقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْنَ اللُّقَطَةِ والشَّاةِ، فَقَالَ فِيهَا: "هِيَ لَكَ، أَو لأَخِيكَ، أَو للذِّئْبِ"، ولَمْ يَقُلْهُ في لُقَطَةِ العَيْنِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ حُكْمُ العَيْنِ الذي لا يُتَقَّى عَلَيْهِ الفَسَادُ بِطُولِ بَقَائِهِ، وبَيْنَ الطَّعَامِ الذي يُتَقَّى عَلَيْهِ الفَسَادُ. وقَوْلُهُ فِي الإبِلِ: "مَا لَكَ ولَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤهَا وحِذَاؤهَا"، يَعْنِي: أَنَّهَا تَصْبِرُ على المَاءِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَو أَكْثَرَ حتَّى تَجِدَ السَّبِيلَ إليه، ولَا يَضُرُّهَا العَطَشُ كَمَا يَضُرُّ سَائِرُ الحَيَوانِ. (ومَعَهَا حِذَاؤهَا)، يَعْنِي: أَخْفَافَهَا.

وقَوْلُهُ في الشَّاةِ: "هِيَ لَكَ، أَو لأَخِيكَ، أَو للذئبِ"، يعْنِي: إذا وَجَدَها الرَّجُلُ في الفَيَافِي وفِي البُعْدِ مِنَ القُرَى فَهِيَ لَهُ إنْ أَرَادَهَا، فإنْ تَرَكَهَا في ذَلِكَ المَكانِ أَخَذَهَا غَيْرُهُ، أَو أكَلَتهَا السِّبَاعُ، وذَلِكَ أَئهَا لا تَستَطِيعُ الامْتِنَاعَ مِنَ السِّبَاعِ كَمَا تَمْتَنِعُ مِنْهَا الإبِلُ، فتَدْفَعُهَا عَنْ أَذِيَتهَا بأَخْفَافِهَا، ووِكْضِهَا إيَّاهَا، فأَمَّا إذا وَجَدَ الرَّجُلُ شَاةَ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ لَمْ يَحِل لَهُ أَخْذُهَا، ولَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ المُقِيمِينَ حتَى يَأْتِيَ اللهُ بِصَاحِبِهَا، ومَن وَجَدَ طَعَامًا بِقُرْبِ قَرْيَةٍ عَرَّفَهُ، فإنْ لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ وخَشِيَ عَلَيْهِ الفَسَادَ تَصَدَّقَ بهِ، فإنْ كَانَ مُحْتَاجًا إليهِ أكَلَهُ، ولَمْ يَضمَنْهُ لِصَاحِبهِ إنْ جَاءَ يَطلُبُهُ، وقَدْ وَجَدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَمْرَةً بالمَدِينَةِ في الطَرِيقِ، فقالَ: "لَوْلاَ أَنَّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقةِ لأكلْتُهَا" (¬1)، فَإنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ أكلِهَا إذ خَشِيَ أَنْ تَكونَ مِنَ الصَّدَقَةِ التي لَا تَحِلُّ لَهُ، ولَو كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الصدقة لأكلَهَا، فَلِهَذا أُسْقِطَ الغُرْمُ عَنْ أكْلِ الطعَامِ المُلْتَقَطِ إذا أَكَلَهُ مِنْ حَاجَةٍ. قالَ أَبو مَحَمَّدِ: إنَّمَا صَارَتِ اللُّقَطَةُ في رَقَبَةِ العَبْدِ إذا اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ السَّنَةِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَرِّفْهَا سَنهً، ثم شَأْنُكَ بِهَا"، فلَم يَجْعَلْ فيهَا تصَرُّفَا لملتقطها إلَّا بَعْدَ السَّنَةِ، فَإذا أَتْلَفَهَا العَبْدُ المُلْتَقِطُ لَها بَعْدَ السنة كَانَتْ في ذِمَّتِهِ لاخْتِلاَفِ النَّاسِ فِيهَا، إذْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُبِيحُهَا لِمُلْتَقَطِهَا بَعْدَ السَّنَةِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ثَابتَ بنَ الضحَّاكِ بإرْسَالِ البَعِيرِ الذي وَجَدَهُ بالحرَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ [2808] لأَنهُ أَخْطَأَ في أَخْذِهِ إيَّاهُ، وقَدْ مَنَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَخْذِ ضَالَّةِ الإبِلِ فَقَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا"، وهَذا بخِلاَفِ العُرُوضِ، ومَنْ وَجَدَ عُرُضًا فَأَخَذَهُ وعَرَّفَهُ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلى المَوْضِعِ الذي وَجَدَهُ فِيهِ، فإنْ فَعَلَ وتَلَفَ ضَمِنَهُ لِصَاحِبهِ إذا جَاءَ بِعَلاَمَتِهِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2299)، ومسلم (1071)، من حديث أنس.

* ومعنَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (من أَخَذَ ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ) [2809]، يَعْنِي: من أَخَذَ بَعِيرًا ضَاَلًا فَهُوَ مُخطِئٌ، ويقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَخَذَ مَالِكٌ في ضَوَالِّ الإبِلِ أَنَّهَا تُوْسَلُ حَيْثُ وُجِدَتْ, ولَم يَأْخُذْ بِعَمَلِ عُثْمَانَ في بَيْعِهِ إيَّاهَا، ودَفعِ ثَمَنِهَا لأصحَابِهَا [2810]، وفَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - على وَجْهِ الإجْتِهَادِ، وحِفْظِ مَالِ المُسْلِمِينَ.

باب صدقة الحي عن الميت، والأمر بالوصية

بابُ صَدَقَةِ الحَيِّ عَنِ المَيِّتِ، والأَمْرِ بالوَصِيَّةِ * رَوَى يحيى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَمْرو بنِ شُرَحْبيلَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ [2812]، وهَذا خَطَأٌ، وَرَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ عَمْروِ بنِ شُرَحْبِيلَ بنِ سَعِيدِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ (¬1)، وهذا هُوَ الصَّحِيحُ في سَنَدِ هَذا الحَدِيثِ. وقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُرْسَل، لأَنَّ شُرْحِبيلَ بنَ سَعِيدٍ لَمْ يُدْرِكْ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ. * قَوْلُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: "إن أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا" [2813]، يَعْنِي: أَنَّهَا مَاتَتْ بَغْتَةً ولَمْ تتُصَدَّقْ عَنْ نَفْسِهَا بِشَيءٍ، فَأَمَرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهَا، فَدَلَّ هَذا الحَدِيثُ على أَنَّ الصَّدَقَةَ تَنْفَعُ المَيِّتَ في قَبْرهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "إذا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلاَثٍ"، فَذَكَرَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، والعِلْمَ الذي يُنْشَرُ بَعْدَهُ مِمَّا كَانَ قَدْ عَلَّمَهُ هُوَ النَّاسَ، ودَعْوَةَ الوَلَدِ الصَّالِحِ (¬2). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ تَصَدَّقَ على أَبَوَيْهِ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ مَاتَا أَنْ يَرِثَ ذَلِكَ عَنْهُمَا، ولَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِغَيْرٍ إلَّا بِرَضَا المُتَصَدِّقِينَ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاجع في هِبتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئهِ"، وقَالَ لِمَنْ تَصَدَّقَ على أَبوَيْهِ ثم مَاتَا: "قَدْ أُجِرْتَ في صَدَقَتِكَ، وخُذْهَا بِمِيرَاثِكَ" [2814]. ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (166 أ)، نسخة تركيا. (¬2) رواه مسلم (1631)، من حديث أبي هريرة.

قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا حَضَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الوَصِيَّةِ لِكَيْ يَتَبَرَّأَ الإنْسَانُ مِنْ تَبِاعَاتٍ عَلَيْهِ، ولِكَي يُقَدِّمُ مِنْ مَالِهِ مَا يَرْجُو نَفْعَهُ وبَرَكَتَهُ في آخِرَتهِ. وقَالَ الزُّهْرِيُّ: (جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الوَصِيَّةَ حَقًّا مِمَّا قَلَّ مِنَ المَالِ أَو كَثُرَ) (¬1)، وبهَذا قَالَ ابنُ عُمَرَ في حَدِيثِهِ الذي رَوَاهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ (¬2). * بَيَانٌ بِنَسْخِ الوَصِيَّةِ وتَبْدِيلِهَا بِغَيْرِهَا لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتَهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبةً" [2817]، فَدَلَّ هَذا الحَدِيثُ على الأَمْرِ بالوَصيَّةِ فِيمَا قَلَّ أَو كَثُرَ مِنَ المَالِ، وعَلَى جَوَازِ نَسْخِهَا بِغَيْرِهَا إنْ شَاءَ ذَلِكَ صَاحِبُهَا. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَعْنَى قَوْلِ الرجل: دَبَّرْتُ عَبْدِي، أَيْ أَنْفَذْتُ عِتْقَهُ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي إذا وَلَّيْتُ الدُّنيا ظَهْرِي بِخُرُوجِي مِنْهَا مَيِّتًا، فَلِهَذا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ في التَّدْبِيرِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: أَجَازَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ [2820]، وعَلَيْهِ العَمَلُ بالمَدِينَةِ، وأُجِيزَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لأَنَّهَا إنَّمَا تُنْفَذُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتهِ في وَقْتٍ لا يُخْشَى عَلَيْهِ تَلَفُ مَالِهِ، وأَنَّهُ يُؤْجَرُ فِيهَا كَمَا يُؤْجَرُ غَيْرُهُ. * حَدِيثُ سَعْدِ بنِ أَبي وَقاصٍ [2824] مِنَ الفِقْهِ: فَضْلُ عِيَادَةِ المَرْضَى، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعُودُ المَرْضَى، ويُوَاصِلُ أَصْحَابَهُ بِنَفْسِهِ، وهَذا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وفِيهِ بَيَانُ أَنَّ يَدَ المُتَصَدِّقِ خَيْرٌ مِنْ يَدِ المُتَصدِّقِ عَلَيْهِ، وأنَّ الإسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ خَيْر مِنَ الحَاجَةِ إليهِم، وفِيهِ أنَّ الرَّجُلَ يُؤْجَرُ في نَفَقَتِهِ على عِيَالِهِ إذا أَنْفَقَ عَلَيْهِم مِنْ حَلاَلٍ، وأَجْمَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى ذِكْرَ الوَصِيَّةَ في كِتَابهِ، فَقَالَ: ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في التفسير 1/ 68، وعنه الطبري في التفسير 2/ 121، من طريق معمر عنه، وذكره ابن حجر في الفتح 5/ 356 وقال: هو ثابت عنه. (¬2) كذا جاء في الأصل، ويبدو أن سقطا ما وقع في الأصل، وقول ابن عمر لم يرد في الموطأ، وإنما جاء في صحيح مسلم (1627) بعد أن ذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور قال عبد الله: (ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وعندي وصيتي).

{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ثم بيَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُرَادَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ المُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَالَ: "الثُلُثُ والثُلُثُ كثيرٌ". ومَعْنَى قَوْله - صلى الله عليه وسلم - لِسَعْدٍ: "وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتَفعَ بِكَ أَقْوَامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ" أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَبْقَاهُ حتَّى أُمِّرَ على العِرَاقِ، فَقتلَ قَوْمًا كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلَامِ فَضُرُّوا بِهِ، واسْتَتَابَ قَوْمًا كَانَ يَسْجَعُونَ بِتَسْجِيعِ مُسَيْلَمَةَ الكَذابِ فتَابُوا وانتفَعُوا بهِ. وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في آخِرِ الحَدِيثِ: "لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ، يُرثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ مَاتَ بِمَكَّةَ"، قالَ عِيسَى: (البَائِسُ) كَلِمَةٌ تُقَالُ للإنْسَانِ إذا نَزَلَتْ بِهِ مُصِيبَةٌ، وكَانَ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ قَدْ أَسْلَمَ بِمَكةَ قَبْلَ الفَتْحِ، ثُمَّ أَقَامَ بِهَا حتَّى مَاتَ فِيهَا ولَمْ يُهَاجِرْ مِنْهَا إلى المَدِينَةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ، فَرَثَى لَهُ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِتَرْكِهِ الهِجْرَةَ التي كَانَتْ فَرْضًا على كُلِّ مُسْلِمٍ في أَوَّلِ الإسْلَامِ أَن يُهَاجِرَ مِنْ بَلَدِهِ إذا أَسْلَمَ فِيهِ إلى المَدِينَةِ، حتَّى ارْتَفَعَتِ الهِجْرَةُ عَامَ الفَتحِ حِينَ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونيَّةٌ" (¬1). وفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: الخُوْفُ على مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهِ التِّي تَلْزَمُهُ حتَّى مَاتَ ولَمْ يَأتِ بِهَا وإنْ كَانَ مُوحِّدًا حتَّى مَاتَ على التَّوْحِيدِ، لأَنَ الإيمَانَ قَوْلٌ، وعَمَلٌ، ونيَّة، وإصَابَةُ السُّنَّةِ. * قَوْلُ مَالِكٌ في الذي يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، ويَقُولُ: غُلاَمِي يَخْدِمُ فُلاَنًا مَا عَاشَ، فإذا مَاتَ فُلاَنٌ فَغُلاَمِي حُرٌّ، فَيُوجَدُ العَبْدُ ثُلُثَ مَالِ المَيِّتِ، فإنْ خَدَمَةُ العَبْدُ تُقُوِّمَ، ثم يَتَحَاصَّانِ فِيهَا [2825]. تَفْسِيرُ ذَلِكَ: هُوَ أنْ يُنْظَرَ إلى عُمُرِ العَبْدِ وإلى عُمُرِ المُوصِي بالرَّقَبةِ، فَأَيهَما كَانَ أَقَلَّ عُمُرٍ مِنْ صَاحِبهِ أُقِيمَتْ خِدْمَةُ العَبْدِ تِلْكَ المُدَّةِ. واسْتَحَبَّ ابنُ القَاسِمِ في ذَلِكَ تَعْمِيرَ سَبْعِينَ سَنَةٍ، يُقَالُ مَا قِيمَةُ خِدْمَةِ هذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1737)، ومسلم (1353)، من حديث ابن عباس.

العَبْدِ مُدَّةَ بَاقِي عُمُرِهِ، فتؤْخُذُ قِيمَتُهَا ثَلاَثُونَ دِينَارًا، ثُمَّ يُقَالُ: مَا قِيمَةُ العَبْدِ، فتؤْخَذُ قِيمَتُهُ عُشْرُونَ دِينَارًا، فَيأْخُذُ المُوصَى لَهُ بالثُلُثِ مِنْ أُجْرَةِ العَبْدِ أَو مِنْ خِدْمَتِهِ الخَمْسِينَ، ويَأْخُذُ الذي أَوْصَى لَهُ بالخِدْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الثَّلاَثةَ الأَخْمَاسِ، فإذا مَاتَ المُوصَى لَهُ بالعَبْدِ خَرَجَ العَبْدُ حُرًّا بِمَوْتهِ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: إنَّمَا مُنِعَتِ الحَامِلُ إذا دَنَا وِلاَدُهَا مِنْ أَنْ تُوصِي بأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا مَرِيضَة في تِلْكَ الحَالِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] [2828]، يَعْنِي: لَمَّا أُثْقِلَتْ بِحَمْلِ الوَلَدِ [صَارَتْ] (¬1) مَرِيضَةً، وهذا حُكْمُ كُلِّ مَرِيضٍ أَنْ لَا يُوصِي بأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ وَرَثتهُ، وإذا كَانَ الإنْسَانُ صَحِيحًا جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ في مَالِهِ مَا شَاءَ، إلَّا المَرْأةَ ذَاتَ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا -وإن كَانَتْ صَحِيحَةً- أَنْ تَهِبَ مِنْ مَالِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وذَلِكَ أَنَّ زَوْجَهَا إنَّمَا تَزَوَّجَها، ورَفَعَ في صُدَاقِهَا لِمَالِهَا، فإذا زَادَتْ في هِبَتِهَا على الثُلُثِ رَدَّ الزَّوجُ جَمِيعَهُ، لأَنَّهَا قَصَدتْ بهِ الضَّرَرَ، وقَدْ قِيلَ: يُنْفَذُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ الثُلُثِ، ويَرُدُّ الزَّوْجُ مَا زَادَ على ذَلِكَ. وقَالَ قتَادَةُ في تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، قالَ: (نُسِخَ مِنْها الوَالِدَيْنِ، وبَقِيَ الأَقْرَبُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ) (¬2). فَمُبَاحٌ للرَّجُلِ أَنْ يُوصِي لِقَرَابَتِهِ الذينَ لا يَرِثُونَهُ في حَالِ وَصِيَّتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ وَصِيَّتهِ. وقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبيرُ مَالٍ فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ) (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: وصارت، بإضافة واو، وهو خطأ، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) رواه عبد الرزاق في التفسير 1/ 68 عن معمر عن قتادة به، وعنه الطبري في تفسيره 2/ 118. (¬3) رواه عبد الرزاق في التفسير 1/ 68 عن معمر عن هشام عن أبيه عن علي - رضي الله عنه -، ورواه من طريقه: الطبري في التفسير 2/ 121.

وقالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ في قَوْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، قالَ: (مَنْ تَرَكَ خَمْسِمَائةَ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِي) (¬1). وقالَ غَيْرُهُ: الوَصِيَّةُ حَقٌّ فِيمَا قَلَّ مِنَ المَالِ أَو كَثُرَ (¬2). * وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ شَيءٌ يُوصِي فِيهِ" [2818] وذَكَرَ الحَدِيثَ، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا وَجَبَ أَنْ يُجِيزَ الوَرَثَةَ فِيمَا زَادَ المُوصِي على الثُلُثِ بَيْنَ إجَارتهِ وَرَدِّهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ للمُوصِي التَّصَرُّفَ في ثُلُثِ مَالِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ شَرِيكًا للوَرَثةِ في جَمِيعِ المَالِ، فإذا عَيَّنَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا في وَصِيَّتِهِ فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ وَرَثتهُ بالذي عَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ، فَإذا أَجَازُوا ذَلِكَ نَفَذَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُمْ بهِ، ودَفَعَ إليهِم، وإنْ أَبَوا أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ قِيلَ لَهُم: ادْفَعُوا ثُلُثَ مَالِ المَيِّتِ إلى أَهْلِ الوَصَايَا في وَصَايَاهُم، إذ لَا ضرَرَ عَلَيْكُم في ذَلِكَ، وإذا اسْتَأْذَنَ الرَّجُلُ وَرَثَتَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ في أَنْ يُوصِي لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِقَطِيعٍ مِنْ مَالِهِ فأَذِنُوا لَهُ في ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْته كَانَ لَهُم الرُّجُوعُ عَنْهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ حِينَ أَذِنُوا لَهُ في ذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ مَالِكِينَ لِشَيءٍ مِنْ مَالِهِ، بِخِلاَفِ إذْنِهِم لَهُ في حَالِ مَرَضِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُم إذا كَانَ مَرِيضًا في مَالِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُ المُوصِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، فَلِذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِم مَا يَأْذَنُوا فِيهِ في حَالِ مَرَضِهِ، ولا يَكُونُ لَهُم سَبِيلٌ إلى الرُّجُوعِ في شَيءٍ مِنْهُ. * قالَ عِيسَى: قَوْلُ المُخَنَّثِ في ابْنَةِ غَيْلاَنَ: "إنَّهَا تُقْبِلُ بأرْبَعٍ، وتُدْبِرُ بثَمَانٍ" [2837]، يَعْنِي: أَنَّهَا إذا أَقْبَلَتْ نَظَرتَ إلى أَرْبَعَةِ أَعْكَانٍ في بَطْنِهَا، فإذا أَدْبَرَتْ صَارَتْ ثَمَانَيَةَ، أَرْبَعَة في خَاصِرَتهَا اليُمْنَى، وأَرْبَعَةً في اليُسْرَى، فَلَمَّا سَمِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَصْفَهُ للنِّسَاءِ كَوَصْفِ ذُكُورِ الرِّجَالِ لَهُنَّ مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ على ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في التفسير 1/ 69، عن معمر عن ابان عن إبراهيم به، ورواه من طريقه: الطبري في التفسير 2/ 121. (¬2) هذا قول الزهري، كما في تفسير الطبري 2/ 121، وقال: وأولى هذا الأقوال بالصواب ما قال الزهري.

النِّسَاءِ، ولَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ الذينَ أُبِيحَ لَهُم الدُّخُولُ على غَيْرِ ذَوَاتِ المَحَارِمِ. ورَوَى عِكْرِمَةُ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بِيُوتكُمْ" (¬1)، يَعْنِي: المُخَنِّثينَ مِنَ الرِّجَالِ، لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَيْكُم النِّسَاءَ. * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ سَلْمَانَ: (إنَ الأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وإنَّمَا يُقَدِّسُ الإنْسَانُ عَمَلَهُ) [2842]، يَعْنِي: إنَّمَا يُطَهِّرُ الإنْسَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ العَمَلُ الصَّالحُ الذي يُرَادُ بِهِ وَجْهَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى. وقَوْلُهُ: (بَلَغَنِي أنَّكَ جُعِلْتَ طَبِيبًا تُدَاوِي)، يَعْنِي: جُعِلْتَ قَاضِيًا تَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ. (فإنْ كنتَ تُبْرِئُ فَنِعمَّا لَكَ)، يَعْنِي: إنْ كُنْتَ عَالِمًا تَحْكُمُ بالعَدْلِ فَهَنِيئًا لَكَ. (وإنْ كنتَ مُتَطَبِّبًا)، يَعْنِي: إنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُ كَيْفَ تَحْكُمُ. (فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ إنْسَانًا فَتدْخُلَ النَّارَ)، يَعْنِي: احْذَرْ أَنْ تَحْكُمَ على أَحَدٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ فتَدْخُلَ النَّارَ، وهَذا واللهُ أَعْلَمُ، فِيمَنْ قَصَدَ في حُكْمِهِ إلى الجَوْرِ، وقَدْ رَوَى بُرَيْدَةُ بنُ [الحُصَيبِ بنِ] (¬2) عَبْدِ اللهِ الأَسْلَمِيُّ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "القُضاةُ ثَلاَثَةٌ، وَاحِدٌ في الجَنَّةِ، واثْنَانِ في النَّارِ، فأَمَّا الذي فِي الجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ وقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَجَارَ في الحُكْمِ، فَهُوَ في النَّارِ، ورَجُلٌ قَضَى للنَّاسِ على جَهْلٍ، فَهُوَ في النَّارِ" (¬3). * قالَ أَبو المُطَرِّفِ: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (إنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفَعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينهِ وأَمَانَتِهِ الَّتي ائتمَنَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وأَمَرَهُ أَنْ يَرِينَ بِذَلِكَ وَجْهَهُ، فتَرَكَ ذَلِكَ وَرَضِيَ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الحَاجَّ) [2846]، وذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5547)، بإسناده إلى عكرمة به. (¬2) زيادة لابد منها، وينظر: تهذيب الكمال 4/ 53. (¬3) رواه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315).

قالَ ابنُ وَهْب: الأُسَيْفعُ هُوَ تَصْغِيرُ أَسْفَعَ، وَهُوَ الأَسْوَدُ، وكَانَ رَجُلًا يُشَاهِدُ مَوَاسِمَ الحَجِّ، ثم يَشْتَرِي الرَّوَاحِلَ الشَرِيعَةَ السَّيْرِ بأَعْلَى الثمَنِ، ثم يُسْرِعُ السَّيْرَ إلى المَدِينَه لِيُقَالَ: صَبَىَ فُلاَنٌ الحَاجَّ، وهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الرِّيَاءِ الذينَ لا يُرِيدُونَ بأَعمَالِهِمْ وَجْهَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فَلَا تُزَكُوا أَعْمَالَكُم عَنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَقَوْلُهُ: (قدْ رِينَ بهِ)، يَعْنِي: قَدْ شُهِرَ بِهِ وأَحَاطَ بهِ الدَّيْنُ. (فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ)، يَعْنِي: دَيْنًا ثَابِتًا بالبَيِّنَةِ. (فَلْيَأْتِنَا نُقسِمُ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ)، وهَذا حُكْمُ المُفْلِسِ يَكونُ غُرَمَاؤُهُ أُسْوَةٌ في مَالِهِ على قَدْرِ مَا لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: (وإيَّاكمْ والدَّينَ، فإن أَوَّلَهُ هَمٌّ، وآخِرَه حَرْبٌ)، يَعنِي: الدَّيْنَ الذي يُسْتَدَانُ في سَفَهٍ، وأَمَّا مَا يُسْتَدَانُ في طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فاللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى يُعِينُ على أَدَائِهِ. * * * تَمَّ كِتَابُ الأَقْضِيَةِ بِحَمدِ اللهِ وعَوْنه، وصلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وَسَلَّمَ. يَتْلُوهُ كِتَابُ الشُّفْعَةِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى

تفسير كتاب الشفعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِير كِتَابِ الشُّفْعةِ * [قالَ أَبوالمُطَرِّفِ] (¬1): وَوَى مَالِكٌ في المُوطَّ حدِيثَ الشُّفعَةِ مرْسَلًا [2633]، ورَوَاه عَبد [الوَاحِدِ] (¬2)، عَنْ مَعمرٍ، فَي الزهريِّ، عَن أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمن، عن جَابِرِ بنِ عبدِ الله الأَنْصَاريِّ، قالَ: "إنَّمَا جَعَلَ رَسولُ اللهِ الشُّفْعَه فِيمّا لَمْ يُقْسَم، فَإذا وَقَعَتِ الحُدُود، وضرِبتِ الطرِقُ فَلَا شفْعَةَ" (¬3). [قالَ] (¬4) عَبْدُ الرَّحمنِ: هَذا الحَدِيث أَصل في الشفعة أنَّهَا لا تَكون فيمَا وّتَعَعت فِيهِ الحُدُودُ مِنْ رَبع، أو أُرضٍ، أو عقَارٍ، ولَا يكُونُ إلَّا بين الشُّركاءِ الذينَ لَمْ يَقْسِمُوا ذَلكَ، إنْ بَاعَ أحَدُهُم نَصِيبهُ كَانَ لِشُرَكائه الشُّفْعةَ في ذلِكَ. وروَى سُفيَانُ بن عيَيْنَةَ، عنِ إبرَاهِيم بنِ ميسَرَة، عَن عمرو بنِ الشَّرِيدِ, عن أَبي رَافَعٍ، أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الجَارُ أحقُّ، بِصَقَبِهِ" (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين وضعته للتوضيح، وقد وضع الناسخ بدله حرف: (ع). (¬2) جاء في الأصل: عبد الرحمن وهو خطأ, وعبد الواحد هو ابن زياد من رواة البخاري وغيره. (¬3) رواه البخاري (2138) بإسناده إلى عبد الواحد بن زياد به, وله طرق كثيرة عن معمر وغيره, في الكتب الستة وسواها. (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة وضعتها للتوضيح، وكذا ما يأتي مثله بعد ذلك. (¬5) رواه البخاري (6576)، وابن ماجه (2495) , بإسنادهما إلى ابن عيينة به.

[قالَ] عبدُ الرَّحمنِ: أَخَذَ قُوْمٌ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ بِظَاهِرِ هَذا الحَدِيثِ وأَوْجَبُوا الشُّفْعَةَ للجَارِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الصَّقَبَ القُرْبَ، ولَيْسَ هَذا الحَدِيثُ بِمُخَالِفٍ للأَوَّلِ، إذ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ للشَرِيكِ في المَالِ جَارٌ، وَهُوَ أَصْقَبُ الجِيرَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الحَدِيثَيْنِ وَاحِدًا، فَلَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ إلَّا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِيمَا لَمْ يَقْسِمُوهُ مِنَ الرِّبَاعِ والأَرَضِينَ، وبِهَذا قَالَ ابنُ المُسَيَّبِ، وسَلُيْمَانُ بنُ يَسَارٍ، وأَهْلُ المَدِينَةِ، وبِهِ قَالَ مَالِكٌ. * [قالَ، عبدُ الرَّحمنِ: وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ في الشَّفِيعِ والمُشْتَرِي يَخْتَلِفَانِ في قِيمَةِ ثَمَنِ الشَّقْصِ إذا اشْتَرَى بِعِوَضٍ فَقَالَ بِخِلاَفِ المُشْتَرِي فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ القِيمَةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُشْتَرِي هَهُنَا مُدَّعَى عَلَيْهِ، وكُلُّ مُدَّعَى عَلَيْهِ إذا لَمْ يُثْبتْ المُدَّعِي دَعْوَاهُ أَنَّ اليَمِينَ تَجِبُ على المُدَّعَى عَلَيْهِ [2636]. قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: مَنْ طَلَبَ شُفْعَةً فِيمَا قَدْ بِيعَ بِثَمَنٍ إلى أَجَلٍ ولَمْ يَكُنْ مَلِيئًا ولَمْ يَجِدْ مَنْ يَتَحَمَّلُ لَهُ بالمَالِ إلى الأَجَلِ الذي بِيعَ إليهِ الشَّقْصُ الذي طَلَبَ فِيهِ الشُّفْعَةَ، فأَسْقَطَ عِنْدَ ذَلِكَ السُّلْطَانُ شُفْعَتَهُ، ثُمَّ أَيْسَرَ بالمَالِ قَبْلَ الأَجَلِ الذي بِيعَ إليهِ ذَلِكَ الشَّقْصُ أَنَّهُ لا شُفْعَةَ لَهُ فِيهِ، لأَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ أَبْطَلَها، وإنْ لَمْ يُرْفَعْ ذَلِكَ إلى السُّلْطَانِ وكَانَ أَجَلُ بَيع ذَلِكَ الشَّقْصِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فالشُّفْعَةُ للشَّفِيعِ ثَابِتَةٌ إلى انْقِضَاءِ السَّنَةِ، وإنْ كَانَ حَاضِرًا. قالَ: ولَا تَقْطَعُ شُفْعَةُ الغَائِبِ غَيْبَتَهُ وإنْ طَالَتْ (¬1). قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنِ ابْتَاعَ مَا فِيهِ شُفْعَةً لِغَائِبٍ رُفِعَ أَمْرُهُ إلى السُّلْطَانِ فَكَتَبَ لَهُ إلى قَاضِي البَلَدِ الذي فِيهِ الشَّفِيعُ، فَيُوقِفُ القَاضِي ذَلِكَ الشَّفِيعُ على الأَخْذِ أَو التَّرْكِ، فإنْ تَرَكَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَمْ يَحِدَّ لَنا مَالِكٌ في قُرْبِ البَلَدِ حَدًّا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وقَدْ يَكُونُ الضَّعِيفُ والمَرْأَةُ على مَيْسَرَةِ يَوْمٍ أَو أَقَلَّ فَلَا ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى بن دينار: ابن مزين في تفسيره، رقم (73)

يَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ لِطَلَبِ شُفْعَتِهِ، وإنَّمَا في هَذا اجْتِهَادُ السُّلْطَانِ إذا نَزَلَ عَنْ [أَفْضَلِ مَا يَرَاهُ] (¬1)، وإذا كَانَ الشَّفِيعُ حَاضِرًا فَالشُّفْعَةُ لَهُ إلى انْقِضَاءِ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ البَيْع، وعَلَيْهِ اليَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَوَقُّفُهُ عَنِ الأَخْذِ بالشُّفْعَةِ تَرْكًا مِنْهُ لَهَا، فإذا حَلَفَ أَخَذَ شُفْعَتَهُ، وللمُبْتَاعِ تَوْقِيفُ الشَّفِيعِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، فإمَّا أَخَذَ الشُّفْعَةَ، وإمَّا تَرَكَهَا، فإنْ أَخَذَها أَخَّرَهُ السُّلْطَانُ بالثَّمَنِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ونَحْوِهَا على حَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ قِلَّةِ المَالِ وكَثْرَتهِ. وقالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: مَنِ ابْتَاعَ مَا فِيه شُفْعَةٌ لِرَجُلٍ حَاضِرٍ فَأَقَامَ المُشْتَرِي بِحَضْرَةِ الشَّفِيعِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ طَلَبَ شُفْعَتَهُ، أَنَّهُ يَحْلِفُ الشَّفِيعُ باللهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بالبَيع، وأَنَّهُ لم يَزَلْ مُجْمِعًا على الأَخْذِ بالشُفْعَةِ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمَنِ: الصَّغِيرُ الذي لَا وَصِيَّ لَهُ على شُفْعَتِهِ حتَّى يَبْلُغَ ويَرْشَدَ، والبِكْرُ على شُفْعَتِهَا حتَّى تُنْكَحَ ويَبْنِي بِهَا زَوْجُهَا، ويُعْرَفَ حَالُهَا ورُشْدُهَا، فإنْ كَانَ عَلَيْهِمَا وَصِيٌّ رَفَعَ المُشْتَرِي ذَلِكَ إلى القَاضِي فَكَلَّفَهُ البيِّنَةَ على أَنَّ التَّرْكَ لَهُمَا أَفْضَلُ أَو الأَخْذُ بالشُّفْعَةِ، فإذا أَمَرَهُ القَاضِي بالتَّرْكِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ شُفْعَةٌ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: إنَّمَا لَمْ تَكُنْ الشُّفْعَةُ في البَئْرِ إذا قُسِمَتِ الأَرْضُ وبَقِيتِ البئْرُ التِّي تُسْقَى بِهَا تِلْكَ الأَرْضُ المَقْسُومَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ، وكَذَلِكَ فَحلُ النَّخْلِ إذا قُسِمَتِ النَّخْلُ وبَقِيَ ذَلِكَ الفَحْلُ الذي تُذَكَّرُ بهِ تِلْكَ النَّخِيلُ المَقْسُومَةُ، فبَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ البئْرِ أَو مِنْ فَحْلِ النَّخْلِ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ شُفْعَةٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَسِمُ ولَا يُحَدَّدُ بَعْدَ القِسْمَةِ، وإنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا يُحَدَّدُ وُيقْسَمُ، وأما إذا كَانَتِ الأَرْضُ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ فَبَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ مِنَ البِئْرِ فإنَّ الشُّفْعَةَ في ذَلِكَ لِشُرَكَائِهِ، وكَذَلِكَ النَّخِيلُ إذا لَمْ تَكُنْ مَقْسُومَةً ولَهَا فَحْلٌ تُذَكَّرُ بهِ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ مِنَ الفَحْلِ فإنَّ لِشُرَكَائِهِ الشُّفْعَةَ في ذَلِكَ إنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليس واضحا في الأصل، وقد اجتهدت ما رأيته مناسبا مع السياق، وينظر: الإستذكار 7/ 558.

أَحَبُّوا الأَخْذَ بِهَا، وكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ في عَرَصَةِ الدَّارِ التّي قَدْ قُسِمَتْ بِيُوتُهَا، وتُرِكَتِ العَرَصَةُ مُنتفَعَةٌ لأَهْلِ الدَّارِ يَرْتَفِقُونَ بِهَا، فَبَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مَنْفَعَتَهُ في تِلْكَ العَرَصَةِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا لأشْرَاكِهِ، وأَمَّا إذا لَمْ تُقْسَم البُيُوتُ كَانَتِ الشُّفْعَةُ في العَرَصَةِ إذا بِيعَتِ المَنْفَعَةُ مِنْها (¬1). * * * تَمَّ كِتَابُ الشُّفْعَةِ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى. يَتْلُوهُ كِتَابُ القِرَاضِ بِحَوْلِ اللهِ. * * * ¬

_ (¬1) ذكر ابن عبد البر في كتاب الكافي 1/ 437 نحو ما ذكره المصنف، وكذا نقل ابن مزين نحوه عن عيسى بن دينار، ينظر: تفسيره رقم (93 - 94).

تفسير كتاب القراض

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ القِرَاضِ قالَ أَبو المُطَرِّفِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ مَرْوَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: قَالَ اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: كَانَ القِرَاضُ في الجَاهِلِيَّةُ مَعْرُوفَاً، فَأُقِرَّ فِي الإسْلَامِ، وصَارَ سُنَّةً، وعَمِلَ بهِ عُمَرُ بنُ الخُطَّابِ، وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، والصَّحَابةُ، والتَّابِعُونَ، وَهُوَ كَالَّذِي سَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المُسَاقَاةِ سَوَاءٌ، وذَلِكَ مُسْتَخْرَج بالرُّخْصَةِ مِنَ الإجَارَةِ المَجْهُولَةِ، كَاسْتِخْرَاجِ العَرِيَّةِ، وكَالشرْكِ، والتَّوْليَةِ والإقَالَةِ في الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوفَى، وهَذِه كُلّهُا رُخَصٌ، وصَارَتْ كُلّهَا سُنَنًا مَعْمُولًا بِهَا، والعَمَلُ في القِرَاضِ على مَا جَرَى مِنْ سُنَّتِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ذَلِكَ بِفَسَادِ عَقْدٍ أَو بِشَرْطٍ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ رُخْصَةِ القِرَاضِ إلى فَسَادِهِ. * قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: قَالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: إنَّمَا أَخَذَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مِنْ وَلَدَيْهِ نِصْفَ رِبْحِ المَالِ حِينَ دَفَعَهُ أَبو مُوسَى إليهِما سَلَفَاً، وكَانَ ذَلِكَ المَالُ مِنْ مَالِ اللهِ الذي هُوَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، فَقَاسَمَهُمَا عُمَرُ رِبْحَ ذَلِكَ المَالِ على حَسَبِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِعُمَّالِهِ الذينَ يَكْسِبُونَ الأَمْوَالَ في عِمَالاَتِهِمْ [2534] (¬1). قالَ عِيسَى: ولَو لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ وعُبَيْدُ اللهِ مِنْ جِهَةِ ضَمَانِهِمَا لِذَلِكَ المَالَ لو تَلَفَ بأَيْدِيهِمَا، وبذَلِكَ احْتَجَّ عُبَيْدُ اللهِ على أَبيهِ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَهُ: (أَرَأيتَ لَوْ تَلِفَ المَالُ ألسْنَا كُنَّا نَضْمَنُهُ؟) ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير الموطأ لإبن مزين، رقم (36)، فقد نقل كلام عيسى بن دينار بنحوه.

قالَ عِيسَى: فَكُلُّ مَنْ ضَمِنَ مَالًا بإدْخَالِهِ إيَّاهُ في مَنْفَعَتِهِ كالْوَدِيعَةِ فَرِبْحُ ذَلِكَ المَالِ لَهُ، مِنْ أَجْلِ ضَمَانِهِ لِذَلِكَ المَالِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ جَدُّ العَلاَءِ بنِ عَبْدِ الرَّحمنِ تَاجِرًا في سُوقِ المَدِينَةِ، وكَانَ في أَصْلُهُ عَبْدًا، فَلَمَّا عَهِدَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إلى النَّاسِ أَلَّا يحجِرَ في السُّوقِ إلَّا مَنْ يَفْقَهُ خَشِيَ جَدُّ العَلاَءِ أَنْ يُقَامَ مِنَ السُّوقِ، فأَخَذَ مَالًا مِنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ قِرَاضًا، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ [2535].

ما يجوز من القراض، وما لا يجوز منه

ما يَجُوزُ مِنَ القِرَاضِ، ومَا لا يَجُوزُ مِنْهُ قالَ عِيسَى: لَا يَجُوزُ لِرَبِّ المَالِ أنْ يَدْفَعَ مَالَهُ قِرَاضًا ويَشْتَرِطَ على العَامِلِ ضَمَانَهُ إنْ تَلِفَ، ولَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى العَامِلِ على أَنْ يَتَّجِرَ بهِ أَجَلًا مَا، ولَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ سِلْعَةً يَبِيعُهَا وَيتَّجِرُ قِرَاضًا، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ إلى العَامِلِ على شَيءٍ مُهْمَلٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ، فَهَذا كُلُّهُ يُرَدُّ فِيهِ العَامِلُ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ. قالَ عِيسَى: وأَمَّا مَا يُرَدُّ فِيهِ العَامِلُ إلى أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ المَالِ على العَامِلِ أَلَّا يَشْتَرِي إلَّا مِنْ فُلَانٍ، أَو مِنْ عَمَلِ فُلَانٍ، أَو أَنْ يَقْعُدَ بهِ في حَانُوت مَا لا يَخْرُجُ مِنْهُ، أَو أَنْ يُخْرَجَ بالمَالِ إلى بَلَدٍ بِعَيْيهِ لَا يَعْدُوُهُ، أَو على أَنْ يَشْتَرِي سِلْعَةً لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ تَخْلُفُ في شِتَاءٍ أَو صَيْفٍ، أَو يُقَارِضَهُ على أَنْ يُسْلِفَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ مَالًا، أَو على أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبهِ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ، أَو على أَنْ يَهِبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ هِبَةً، أو على أَنْ يُنْفِقَ العَامِلُ على نَفْسِهِ في سَفَرِهِ مِنَ المَالِ، أو عَلَى أَنْ لا يَكْتَسِي في السَّفَرِ البَعِيدِ، أَو على أَنْ يَدْفَعَ إليه المَالَيْنِ أَحَدُهُمَا على النِّصْفِ، والآخَرِ على الثُّلُثِ عَلَى أَنْ لَا يَخْلِطُهُمَا جَمِيعًا، أو يُقَارِضُهُ على أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ حَافِظًا يَحْفَظُ عَلَيْهِ، أَو يَدْفَعُ إليهِ المَالَ على أَنْ تَكُونَ زَكَاةُ المَالِ مِنْ رِبْحِ المَالِ، فَفِي جَمِيعِ هَذِه الوُجُوهِ كُلِّها أَنَّهَا لِصَاحِبِ المَالِ والنُّقْصَانُ عَلَيْهِ، وللعَامِلِ في ذَلِكَ إذا عَمِلَ أُجْرَةُ مِثْلِهِ (¬1). قالَ عِيسَى: وهَذَا كُلُّه قَوْلُ ابنِ القَاسِمِ. ¬

_ (¬1) نقل كلام عيسى بن دينار هذا: ابن مزين في تفسيره، رقم (37)

قال: وأَمَّا أشَهْبُ فَيَقُولُ في جَمِيعِ القِرَاضِ الفَاسِدِ: أَنَّهُمَا يُرَدَّانَ فِيهِ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِمَا، وَيبْطُلُ مَا عَقَدَاهُ بَيْنَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الفَاسِدِ، وكَانَ يَقُولُ: إنَّمَا أَرَادَ القِرَاضَ واشْتَرَطَا فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ، فأَبْطَلَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ، وَرَدَّهُمَا إلى قِرَاضِ مِثْلِهِمَا (¬1). * [قَالَ] عَبْدُ الرَّحمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (لَا يَصْلُحُ القِرَاضُ إِلَّا في العَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ)، ثُمَّ قَالَ في آخِرِ المَسْأَلَةِ: (ومنَ البُيُوعِ مَا يَجُوزُ إذا تَفَاوَتَ أَمْرُهُ وتَفَاحَشَ رَدُّهُ، فأَمَّا الرِّبَا فَلَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا الرَّدُّ أَبَدَا) [2544]. قالَ عِيسَى: ضَرَبَ مَالِكٌ بِهَذِه المَسْأَلَةِ مَثَلًا أَنَّ للمرَاضِ مَكْرُوهًا وحَرَامًا، كَمَا أنَّ للبُيُوعِ مَكْرُوهًا وحرَامًا، فَمَكْرُوهُ القِرَاضِ هُوَ مَا يُرَدُّ فِيهِ العَامِلُ إذا عَمِلَ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ كَالمُقَارِضِ بالعُرُوضِ، والمُقَارِضِ على الضَّمَانِ، والمُقَارِضِ إلى أَجَلى، فَهَذا كُلُّهُ يُرَدُّ فِيهِ العَامِلُ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ كَمَا لا يُنْقَضُ البَيْعُ في مَكْرُوهِ البَيْعِ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَ بهِ لسِلْعَتَهُ إذا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِن القِيمَةِ. قالَ: وأَمَّا حَرَامُ القِرَاضِ فَهُوَ مَا يُرَدُّ فِيهِ العَامِلُ إذا عَمِلَ بالمَالِ إلى أُجْرَةِ مِثلِهِ، وَيَخْرَجُ مِت وِبْحِهِ الذي كَانَ اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَن البَائِعَ في البَيْعِ الحَرَامِ يُرْجَعُ عِنْدَ فَوَاتِ السِّلْعَةِ إلى قِيمَتِهَا، كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الذي بَاعَ بِهِ سِلْعَتَهُ أَو أَكْثَرَ، فَهَذا تَأوِيلُ قَوْلِ مَالِكٍ حِينَ ضَرَبَ المِثَالَ بِمَكرُوهِ البُيُوعِ وحَرَامِهَا، بِمَكْرُوهِ القِرَاضِ وحَرَامِهِ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: قَوْلُ مَالِكٍ في الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ على الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيسْألهُ أَنْ يَتَرْكَهُ عِنْدَهُ قِرَاضَا أَنَّ ذَلِكَ يُكرَهُ [2542]. قالَ عِيسَى: فَإِنْ وَقَعَ مِثلُ هَذا فَالرِّبْحُ للعَامِلِ وعَلَيْهِ أَنْ يُؤَذَى المَالَ الذي كَانَ ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى عن أشهب: ابن مزين في تفسره وقم (49)، وابن عبد البر في الإستذكار 7/ 469. (¬2) نقل كلام عيسى كله: ابن مزين في تفسيره وقم (56).

عَلَيْهِ إلى رَبِّهِ، ولَا رِبْحَ هَهُنَا إلى رَبِّ المَالِ، لأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَفًا يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وهَذا حَرَامٌ لا يَجُوزُ، وهَذا الدَّيْنُ إذا كَانَ مِنْ سَلَفٍ فَيَكُونُ سَلَفَا جَرَّ مَنْفَعَةً، وأَمَّا إذا كَانَ مِنْ بَيع فَكَأَنَّهُ زَادَهُ في الأَجَلِ على أَنْ يَزِيدَهُ في مَالِهِ، فَهَذا لَا يَجُوزُ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: في المُتَقَارِضَيْنِ يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا على صَاحِبهِ زِيَادَةً يَزْدَادَهَا، فَيَعْمَلُ العَامِلُ وَيرْبَحُ، أَنَّ مُشْتَرِطَ الزِّيَادَةَ مِنْهُمَا مُخَيَّر إنْ شَاءَ أَبْطَلَها وكَانَا عَلَى قِرَاضِهِمَا الأَوَّلِ، وإنْ أَبَى ذَلِكَ أَبْطَلْنَاهَا، وكَانَ للعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، وكَانَ الرِّبح لِصَاحِبِ المَالِ، والضَّمَانُ عَلَيْهِ (¬1). إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ للَعَامِلِ أَنْ يُهْدِي إلى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ مَالِ القِرَاضِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُتْلَفُ المَالُ في غَيْرِ مَنْفَعَةِ رَبِّهِ، وجَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَ عَنْ بَعْضِ مَنْ بَاعَ مِنْهُ سِلْعَةً مِنْ مَالِ القِرَاضِ، لأَنَّهُ يَسْتَدِيمُ بِذَلِكَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَضَعُ عَنهُ لِيُنْمِي بِذَلِكَ مَالَ القِرَاضِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: إنَّمَا قَالَ مَالِكٌ: لَا يَصْلُحُ لِرَبّ المَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ على العَامِلِ الزَّكَاةَ في حِصَّتِهِ مِنَ الرّبْحِ [2551]، لأَنَّهُ رُبَّمَا يَصِيرُ عَمَلُهُ بَاطِلًا، وذَلِكَ لَو أَنَّهُ أَخَذَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَرَبِحَ فِيهَا دِينَارَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ في زَكَاةِ المَالِ، لَذَهَبَ عَمَلُهُ بَاطَلًا، ولَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُون مَعَ القِرَاضِ بَيع ولَا سَلَفٌ ولَا كِرَاءٌ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ المَالِ إذا أَدْخَلَ في القِرَاضِ شَيْئَا مِنْ هَذه الوُجُوهِ فَقَدْ قَصَدَ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ، وهَذا لَا يَجُوزُ في القِرَاضِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإذا وَقَعَ مَعَ القِرَاضِ بَيع فأُدْرِكَ قَبْلَ العَمَلِ وفَوَاتِ السِّلْعَةِ فُسِخَ البَيْع والقِرَاضُ، وإذا أُدْرِكَتِ السْلْعَةُ لَمْ تفُتْ وقَدْ عَمِلَ العَامِلُ فُسِخَ البَيْعُ في السِّلْعَةِ، وكَانَ العَامِلُ أَجِيرًا في القِرَاضِ، وإنْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ وقَدْ عُمِلَ في المَالِ فَكَذَلِكَ أَيْضَا يَكُونَ لِبَائِعِهَا قِيمَةُ سِلْعَتِهِ، ويُرَدُّ القِرَاضُ إلى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، ويَكُونُ ¬

_ (¬1) نقل كلام ابن نافع بمثله: ابن مزين في تفسيره رقم (47)، وعلق عليه ابن مزين بقوله: قول ابن نافع في هذه المسألة قبل أن يعمل حسن، وبعد أن يعمل فهو أجير، وكان الربح لصاحب المال والضمان منه.

النَّمَاءُ والنُّقْصَانُ لِرَبِّ المَالِ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بَيْعًا على أَنْ يُقَارِضَهُ فَكَأنَّ البَائِعَ قَدْ تَرَكَ لَهُ فَضْلًا في سِلْعَتِهِ مِنْ أَجْلِ القِرَاضِ، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ البَيْعِ والسَّلَفِ، وذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، ويَصِيرُ ذَلِكَ أَيْضَا كَأنَّ المُقَارِضَ قَدْ زَادَ رَبَّ المَالِ في ثَمَنِ السِّلْعَةِ التي بَاعَهَا مِنْهُ على أَنْ قَارَضَهُ، فَصَارَ أَنْ أَعْطَاهُ فَضْلًا في قِرَاضِهِ وزِيَادَةً زَادَ إيَّاهَا مِنْ أَجْلِ القِرَاضِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وهَذِه وُجُوهُ بُيِّنَةُ الفَسَادِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم بطوله: ابن مزين في تفسيره، رقم (60).

باب القراض في العروض والتعدي، وما لا يجوز من ذلك

بابُ القِرَاضِ فِي العُرُوضِ والتَّعَدِّي، ومَا لا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: إذا وَقَعَ القِرَاضُ بَيْنَ المُتَقَارِضَيْنِ بالعُرُوضِ كَانَ للعَامِلِ أُجْرَهُ في بَيع تِلْكَ العُرُوضِ واقْتِضَاءِ ثَمَنِهَا، ويُرَدُّ العَامِلُ إذا عَمِلَ على ذَلِكَ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ، ويَسْقُطُ مَا كَانَا عَقَدَاهُ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّسْمِيةِ، لأَنَّهُ يَخْشَى أَن يَكُونَ رَبُّ المَالِ لَو عَلِمَ أَنَّهُ يَغْرِمُ للعَامِلِ أُجْرَتَهُ في بَيْع العُرُوضِ التي قَارَضَهُ بِهَا لَمْ يَرْضَ أَنْ يُقَارِضَهُ على مِثْلِ ذَلِكَ الجُزْءِ الذي قَارَضهُ عَلَيْهِ، فالعَدْلُ في أَمْرِهِمَا أَنْ يُرَدَّ إلى قِرَاضِ المِثْلِ يَوْمَ نَضَّ المَالُ الذي بِيعَ بِهِ تِلْكَ العُرُوضِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: لَا يَجُوزُ القِرَاضُ إلى أَجَلٍ، فإذا وَقَعَ ذَلِكَ بَيْنَ المُتَقَارِضَيْنِ فُسِخَ القِرَاضُ قَبْلَ العَمَلِ، فَإذا عَمِلَ العَامِلُ بالمَالِ رُدَّ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ المَالِ إنَّمَا دَفَعَ مَالَهُ واشْتَرَطَ الأَجَلَ، طَمَعًا مِنْهُ في نَمَاءِ مَالِهِ، ولَو عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يُقَارِضَ العَامِلَ على مِثْلِ ذَلِكَ الجُزْءِ الذي قَارَضَهُ عَلَيْهِ، فَلِهَذا يُرَدُّ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا تَسَلَّفَ العَامِلُ مِنْ مَالِ المُقَارِضِ مَالًا فَابْتَاعَ بهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وحَمَلَتْ فَإنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ إذا كَانَ لَهُ مَالٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُتْبِعَ بِقِيمَتِهَا دَيْنَا إلى مَيْسَرَة، ولَسْتُ آخَذُ في هَذِه المَسْأَلةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ: أَنَّهَا تُبَاعُ إذا لَمْ يَكُنْ للعَامِلِ مَالٌ، وُيجْبَرُ رَأْسُ [المَالِ] (¬1) مِنْ ثَمَنِهَا. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: الذي قَالَهُ مَالِكٌ في هَذه المَسْأَلةِ هُوَ الصَّحِيحُ إنْ ¬

_ (¬1) في الأصل: مال، وما وضعته هو الذي يقتضيه السياق.

شَاءَ اللهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ تَعَدَّى على مَالِ غَيْرِهِ فَابْتَاعَ بهِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ مُلْكَهُ عَلَيْهِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَلِذَلِكَ تُبَاعُ هَذِه الجَارِيَةُ، وُيجْبَرُ المَالُ مِنْ ثَمَنِهَا (¬1). وبِهَذا قَالَ أَصْبَغُ بنُ الفَرَجٍ، واحْتَجَّ. في ذَلِكَ بأَنْ قَالَ: إنَّ العَامِلَ لَمَّا اسْتَسْلَفَ المَالَ مِنَ القِرَاضِ الذي كَان بِيَدِه وابْتَاعَ بهِ جَارِيَةً لِنَفْسِهِ قَدْ صَارَ فَارًّا بالمَالِ عَنِ القِرَاضِ وأَرَادَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ تُبَاعُ الجَارِيَةُ عَلَيْهِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ بِقِيمَتِهَا. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإذا اشْتَرَى العَامِلُ جَارِيَةً للقِرَاضِ فتَعَدَّى عَلَيْهَا بَعْدَ شِرَائِهِ إيَّاهَا فَوَطِئَهَا وحَمَلَتْ، فانِّي أَرَى أَنْ تُبَاعَ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، ويُتْبَعُ بِقِيمَةِ الوَلَدِ دَيْنًا عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ في مَالِ القِرَاضِ فَضْلٌ، فَيَكُونُ للعَامِلِ في الجَارِيةِ شَرِيكٌ بِقَدْرِ فَضْلِهِ، فَيَكُونُ بمَنْزِلَةِ مَنْ وَطِءَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ رَجُلٍ إنْ كَانَ مَلِيئًا قُوِّمَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا كَانَ رَبُّ المَالِ بالخَيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنَ الجَارِيةِ قَدْرَ نَصِيبه مِنْهَا، ويَكُونُ لَهُ عَلَى الوَاطِءِ مِنْ قِيمَةِ الوَلَدِ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الأُمِّ إنْ كَانَ لَهُ مِنْهَا النِّصْفَ، أو الثُّلُثَ، أو الرُّبُعَ، أَو أَكْثَرَ أَو أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أُتْبِعَ الوَاطِى مِنْ قِيمَةِ الوَلَدِ بِقَدْرِ الحِصَّةِ التي تَصِيرُ لَهُ في الأُمِّ دَيْنَا عَلَيْهِ، وإنَّ أَحَبَّ رَبُّ المَالِ أَنْ يُبَاعَ لَهُ قَدْرُ نَصِيبه مِنْ تِلْكَ الجَارِيةِ بِيعَ، فإنْ نَقَصَ ثَمَنَها مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِه مِنْهَا يَوْمَ وَطَئَهَا المُتَعَدَّي أَتْبَعَهُ رَبُّ المَالِ بِذَلِكَ النُّقْصَانِ، وبِقَدْرِ نَصِيبِه مِنْ قِيمَةِ الوَلَدِ دَيْنًا عَلَيْهِ في ذِمَّتِهِ (¬2). قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: أَحْسَنُ مَا في هَذِه المَسْأَلةِ أَنَّهُ مَنْ ضَمِنَ قِيمَةَ أَمَةٍ مِنْ شَرِيكٍ أو مُقَارِضٍ لِسَبَبِ وَطْئِهِ إيَّاهَا أَنَّهُ لَا شَيءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الوَلَدِ، ولَا يَجْتَمعُ عَلَيْهِ تَضْمِينُ الأُمِّ وقِيمَةُ الوَلَدِ، وقَالَهُ أَشْهَبُ، وابنُ نَافِعٍ (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن مزين في تفسيره (66): وقول مالك هو أصل الفقه بعينه، وهو مذهب مالك في كتبه، وهو الحق، وهو قول أصبغ وقال: الحق ما قال مالك وغيره باطل. (¬2) نقل قول ابن القاسم بطوله: ابن مزين في تفسيره (67). (¬3) قال ابن مزين في تفسيره (68)، وقال عقبه: وهذا الذي عليه جماعة المسلمين، وهو الصواب إن شاء الله.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلَةُ ابنِ القَاسِمِ صَحِيحَةٌ، وذَلِكَ أَنَّ الوَلَدَ زِيَادَةٌ في الجَارِيةِ ونَمَاءٌ، وإنَّمَا نَمَتْ هَذِه الزِّيَادَةُ في حِصَّةِ رَبّ المَالِ مِنْ تِلْكَ الجَارِيةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ قِيمَةُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الوَلَدِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا خَرَجَ العَامِلُ بالمَالِ إلى البَلَدِ القَرِيبِ واشْتَرَى بهِ السِّلَعَ كَانَتْ لَهُ النَّفَقَةُ، ولَيْسَتْ لَهُ كِسْوَةٌ، إلَّا أنْ تَطُولَ إقَامَتُهُ في ذَلِكَ المَكَانِ القَرِيبِ، ويَكُونَ المَالُ كَثِيْرًا، فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ الكِسْوَةُ والنَّفَقَةُ. قالَ: وإذا أَخَذَ العَامِلُ مَالًا قَلِيلًا وسَافرَ بِهِ سَفَرًا بَعِيدًا لَمْ تَكُنْ لَهُ نَفَقَةٌ ولَا كُسْوَةٌ، لأَنَّ المَالَ يَذْهَبُ في ذَلِكَ، وإنَّمَا يُنْظَرُ في هَذا إلى المَالِ وقَدْرِ السَّفَرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ على حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَمْ يَحِدَّ لَنا مَالِكٌ في هَذا حَدًّا، ولَكِنْ تَكُونُ نَفَقَةُ العَامِلِ وكُسْوَتُهُ مِنْ مَالِ القِرَاضِ قَصْدًا. قالَ: وإذا كَانَ المُقَارضُ إنَّمَا يَتَّجرُ بالمَالِ في بَلَدِه لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَقَة ولَا كُسْوَةٌ (¬1). قالَ مَالِكٌ: وإذا اشْتَغَلَ بَعْضَ نَهَارِهِ في السُّوقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَغَدَّى مِنَ المَالِ بالأَفْلُسِ (¬2). * قالَ ابنُ القَاسِمِ: فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ غُرَمَاءِ العَامِلِ وبَيْنَ غُرَمَاءِ رَبِّ المَالِ إذا كَانَ عَلَيْهِمَا دَيْن، فقالَ في غُرَمَاءِ العَامِلِ مَا قَالَهُ في الموطأ [2581]، وقال في غُرَمَاءِ رَبّ المَالِ: إنَّما يُنْظَرُ في العُرُوضِ التِّي بِيَدِ العَامِلِ، فإنْ كَانَ لِبَيْعِهَا اليومَ وَجْهٌ بِيعَتْ وأُعْطِي العَامِلُ رِبْحَهُ مِنْ ثَمَنِهَا، ثُمَّ قَضَى السُّلْطَانُ غُرَمَاءَ رَبِّ المَالِ دِيُونَهُمْ مِنْ رَأْسِ مَالِ رَبِّ المَالِ ورِبْحِهِ إنْ كَانَتْ دِيُونَهُمْ تَفْتَرِقُ ذَلِكَ، وإلَّا يُقَدّرُ دِيُونَهُمْ، ثُمَّ يَكْتُبُ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةً للعَامِلِ بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ على رَبِّ ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم في مسألة خروج العامل بالمال: ابن مزين في تفسيره (70). (¬2) ينظر: المدونة 8/ 421.

المَالِ، ولَا يَحْكُمُ السُّلْطَانُ بِمِثْلِ هَذا لِغُرَمَاءِ العَامِلِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ العَامِلَ لَا رِبْحَ لَهُ حتَّى يُحَالسِبَ رَبَّ المَالِ، ويَقْبضُ رَبّ المَالِ رَأْسَ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، فَلِهَذا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ غُرَمَاءِ العَامِلِ، وغُرَمَاءِ رَبِّ المَالِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا يَنْبَغِي للمُقَارِضِ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ رِبْحًا مِنَ المَالِ حتَّى يُحَصِّلَ المَالَ كُلَّهُ ويَقْبِضَهُ صَاحِبُهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرّبْحَ على شِرْكِهمَا في القِرَاضِ. قالَ: فإنْ اقْتَسَمَا رِبْحًا ولَمْ يَحْضُرْ رَأْسُ المَالِ أَو حَضَرَ ولَمْ يَقْبِضْهُ صَاحِبُهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ نُقْصَانٌ في المَالِ فإنَّهَمُا يَتَرَادَّانِ الرِّبْحَ الذي اقْتَسَمَاهُ حتَّى يُجْبَرَ بهِ رَأْسُ المَالِ، ولَا يَكُونُ لَهُمَا رِبْحٌ حتَى يَتُمَّ رَأْسُ المَالِ (¬1). قالَ ابنُ القَاسِمِ: في اخْتِلَافِ المُتَقَارِضَيْنِ في رِبْحِ المَالِ إذا ادَّعَا أَحَدُهُمَا خِلَافَ مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ، وكَانَ هَذا قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ العَامِلُ بالمَالِ، فإنَّهُ يُرَدُّ إلى صَاحِبهِ وَينْحَلّ القِرَاضُ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا على شَيءٍ مَعْلُومٍ، وإذا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ أَنْ عَمِلَ العَامِلُ بالمَالِ فالقَوْلُ قَوْلُ العَامِلِ فِيمَا يَشْبَهُ قِرَاضُ مِثْلِه مَعَ يَمِينِه. وقالَ أَشْهَبُ: إنْ جَاءَ العَامِلُ بِمَا لَا يَشْبَهُ رُدَّ العَامِلُ إلى قِرَاضِ مِثْلِهِ مَعَ يَمِينِه. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمنِ: القِرَاضُ إنَّمَا يُلْزَمُ بالعَمَلِ، وَهُوَ يَشْبَهُ الجُعْلَ في عَقْدِهِ. * * * تَمَّ كِتَابُ القِرَاضِ بِحَمْدِ اللهِ. يَتْلُوهُ كِتَابُ المُسَاقَاةِ بِحَوْلِ اللهِ * * * ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم في هذه المسألة: ابن مزين في تفسيره (61)

تفسير كتاب المساقاة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ المُسَاقَاةِ * [قالَ] (¬1) عبدُ الرَّحمنِ: أَرْسَلَ مَالِكٌ في المُوطَّأ حَدِيثَ المُسَاقَاةِ ولمَ يُسْنِدْهُ [2594]، وحَدَّثنا به أَبو جَعْفَرِ بنُ عَوْنِ اللهِ، قالَ: حدَّثنا ابنُ الأَعْرَابِيِّ، قالَ: حدَّثنا أَبو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، عَنْ يحيى بنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَو زَرْعٍ" (¬2). فَذَاكَرْتُ أبا مُحَمَّدٍ هَذا الحَدِيثَ، فقَالَ: لَمْ يُدْخِلْهُ مَالِكٌ في المُوطَّأ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ" (¬3). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: وإنَّمَا سَاقَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ خَيْبَرَ مِنْ أَجْلِ اشْتِغَالِهِ بالجَهَادِ في سَبِيلِ اللهِ، وأَمَرَ بِخَرْصِ ثِمَارِهَا على اليَهُودِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَأمَنْهُمْ عَلَيْهَا. * قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: لَيْسَ العَمَلُ في المُسَاقَاةِ على فِعْلِ عَبْدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ في خَرْصِهِ على اليَهُودِ [2594]، ولا تَصْلُحُ القِسْمَةُ في المُسَاقَاةِ إلَّا كَيْلًا، إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ حَاجَةُ المُسَاقِينَ، مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، ويُرِيدُ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة تتناسب مع السياق، وكذا ما سوف يأتي مثله بعد ذلك. (¬2) سنن أبي داود (3408) عن أحمد بن حنبل به، ورواه البخاري (2203) بإسناده إلى عبيد الله به، ورواه مسلم (1551) عن أحمد بن حنبل به. (¬3) رواه البخاري (2164)، ومسلم (1547).

الآخَرُ أَنْ يَأْكلَهَا ولَا يَبِيعُهَا، فَتقْتَسِمَانِهَا حِينَئِذٍ بالخَرْصِ (¬1). ولَيْسَ العَمَلُ في المُسَاقَاةِ أَنْ تَكُونَ إلى غَيْرِ أَجَلٍ مَعْلُومٍ، كَمَا في ظَاهِرِ حَدِيثِ الزُّهْرِي، عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، أَنَّ النبيَّ قالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ: "أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ على أَن التَّمْرَ بَيْنَنَا وبَيْنكُمْ"، ولا تَكُونُ المُسَاقَاةِ إلَّا لأَجَلٍ مَعْلُومٍ، ويُكْرَهُ فِيهَا مَا طَالَ مِنَ السِّنِينٍ، ولا بَأْسَ بالعَشْرِ سِنِينَ فَدُونَها، وإنَّمَا فَعَلَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَنَّ اللهَ أَفَاءَهَا عَلَيْهِ بَغيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ أَهْلُهَا له كالعَبِيدِ الذين يَجُوزُ بينَ السَّيِّدِ وعَبْدِهِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الحُزيْنِ. قالَ ابنُ سُحْنُونَ: المُسَاقَاةُ كَالإجَارَةِ، بِخِلَافِ القِرَاضِ، وتَلْزَمُ المُسَاقَاةِ بالتَعَاقُدِ بَيْنَ المُسَاقَيْنِ، والقِرَاضُ كَالجُعْلِ يَلْزَمُ إذا شَرَعَ العَامِلُ في العَمَلِ، فإذا انْعَقَدتِ المُسَاقَاةُ بَيْنَ المُسَاقَيْنِ ثُمَّ بَدَا لأَحَدِهِمَا فِيهَا قَبْلَ العَمَلِ لَزِمَتْهُمَا جَمِيعًا على حَسَبِ مَا عَقَدَاهَا (¬2). * قالَ مَالِكٌ: في العَيْنِ تَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَيَنْقَطِعُ مَاؤُهَا، وذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا [2599]. قالَ عَبْدُ الرَّحمَنِ: ذَكَرَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ تَفْسِيرَهَا في كِتَابِهِ، فقالَ: مَنْ سَاقَى رَجُلًا حَائِطًا فَغَارَتِ البِئْرُ، فَأَرَادَ العَامِلُ أنْ يُنْفِقَ فِيهَا مِنْ مَالِهِ ويَكُونُ حَقُّهُ في ثَمَرةِ النَّخْلِ وتَكُونُ رَهْنًا في يَدَيْهِ حتَّى يَسْتَوفِي نَفَقَتَهُ فَذَلِكَ لَهُ، فإنْ بَقِيتْ عِنْدَهُ وأَبى صَاحِبُهَا أَنْ يَقْبضَهَا ويَدْفَعُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ في نَصِيبه مِنَ العَيْنِ فَبَاعَهَا الشَّرِيكُ فَلَمْ يَفِ ثَمَنَها بالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ما أَخْرَجَتِ الثَّمَرَةُ، ولَمْ يُتْبَعْ صَاحِبُهُ بِبقِيَّةِ النَّفَقَةِ، لأَنَّ العَامِلَ في المُسَاقَاةِ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيهَا على أَنَّ لَهُ الزِّيَادَةَ وعَلَيْهِ النُقْصَانُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا بَأْسَ بالبَيَاضِ القَلِيلِ في المُسَاقَاةِ أَنْ يَزْرَعَهُ العَامِلُ مِنْ ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى بن دينار: ابن مزين في تفسيره (105). (¬2) ينظر: التاج والإكليل 5/ 176.

عِنْدِهِ، فَمَا نَبَتَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ بَيْنَ المُسَاقَيْنِ على حَسَبِ شَرْطِهِمَا في المُسَاقَاةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وأَجَلُّ ذَلِكَ أنْ يُلْغِى البَيَاضَ اليَسِيرَ في المُسَاقَاةِ للعَامِلِ، وَيزْرَعَهُ لِنَفْسِهِ، فَمَا نَبَتَ فِيهِ مِنْ شَيءٍ كَان لَهُ، وقَدْرُ البَيَاضِ اليَسِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ الثُّلُثِ مِنَ السَّوادِ فَدُونَ (¬1). قالَ مَالِكٌ: وكَانَ بَيَاضُ خَيْبَرَ يَسِيرًا بَيْنَ أَضْعَافِ سَوَادِهَا (¬2). قالَ غَيْرُهُ: فَكَانَ اليَهُودُ يَزْرَعُونَ ذَلِكَ البَيَاضَ، ويُؤْخَذُ مِنْهُم شَطْرَ مَا يَنْبُتُ فِيهِ. قالَ عِيسَى: إذا اشْتَرَطَ أَحَدُ المُسَاقِينَ على صَاحِبهِ زِيَادَةً يُزَادَهَا عَلَيْهِ، أَو اشْتَرَطَ الدَّاخِلَ لِنَفْسِهِ بَيَاضًا لَيْسَ هُوَ تَبَعًا في المُسَاقَاةِ، أَو اشْتَرَطَ رَبُّ المَالِ أَنْ يَزْرَعَ في البَيَاضِ، أَو اشْتَرَطَ العَامِلُ أَنَّ البَذْرَ الذي يَزْرَعُهُ في البَيَاضِ على رَبِّ المَالِ، أو اشْتَرَطَ العَامِلُ على رَبِّ المَالِ نَفَقَةَ الرَّقِيقِ أَو نَفَقَةَ بَعْضِهِمْ، أو اشْتَرَطَ العَامِلُ على رَبِّ المَالِ رَقِيقًا لَيسُوا في المَالِ حِينَ عَقَدَا فِيهِ المُسَاقَاةِ، فإنَّ هَذا كُلَّهَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنْ عَمِلَ العَامِلُ على هَذِه الوُجُوهِ، أَو على شَيءٍ مِنْهَا فإِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِه، وَيتَرَادَّانِ الفَضْلَ، يُرِيدُ يُسْقِطَانِ الزِّيَادَةَ فِيمَا بَيْنَهُمَا (¬3). * قَوْلُ مَالِكٍ: لا يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسَاقٍ أَو مُقَارِضٍ أَنْ يَسْتَثْنِي مِنَ المَالِ، ولَا مِنَ النَّخْلِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبهِ [2601]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحمَنِ: تَفْسِيرُ هَذا هُوَ أَنْ يَقُولَ رَبُّ المَالِ للعَامِلِ: هَذِه عَشَرَةُ دَنَانِيرَ اتَّجِرْ لِي بِهَا خَاصَّةً على أَنْ أَدْفَعَ إليكَ مَالًا قِرَاضًا تَتَّجرُ بهِ ويَكُونُ رِبْحُهُ بَيْنِي وبَيْنَكَ على وَجْهِ كَذَا وكَذَا، ويَقُولُ لَهُ رَبُّ الحَائِطِ: أَدْفَعُ إليكَ هَذا الحَائِطَ مُسَاقَاةً على جُزْءِ كَذَا وكَذَا على أَنْ تَحْفَرَ لِي هَذِه الأُصُولَ، وثُوَيْرُهَا ونُجْوُهَا لِي خَاصَّةً، فَهَذا لَا يَجُوزُ، لأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ على أَنْ يَتَجِرَ لهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَو يَعْمَلَ لَهُ ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم: ابن عبد البر في التمهيد 6/ 474. (¬2) نقله ابن عبد البر في التمهيد في الموضع السابق. (¬3) نقل قول عيسى بن دينار: ابن مزين في تفسيره، رقم (109).

في أُصُولهِ التِّي أَرَاهَا إيَّاهَا بِشَيءٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وقَدْ يَقِلُّ ذَلِكَ مَرَّةً ويَكْثُرُ أُخْرَى، فَهَذا لَا يَصْلُحُ، فَلَمَّا انْضَافَ هَذا الغَرَرُ إلى القِرَاضِ أَو إلى المُسَاقَاةِ فَسَدَ ذَلِكَ، فإذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذا كَانَ للعَامِلِ في المَالِ قِرَاضُ مِثْلِهِ، وفِي المُسَاقَاةِ مُسَاقَاةُ مِثْلِهِ، ويأخُذُ أُجْرَتَهُ في [تِجَارَتِهِ] (¬1) بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ، وأُجْرَةَ حَفْرِ تِلْكَ الأُصُولِ ومَؤُنَتِهَا. * قالَ عِيسَى: (سَدُّ الحِظَارِ) (¬2) الذي يَجُوزُ لِرَبِّ المَالِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ على العَامِلِ هُوَ: مَا يَحْظَرُ بهِ على النَّخِيلِ مِنَ السِّيَاجَاتِ والزُّرُوْبِ، يُرْبَطُ مُاؤُهَا مِنْهَا، ومَا أَنْثَلَمَ مِنْ جِدَارِ الحَائِطِ إذا كَانَ يَسِيرًا تَكْفِي فِيهِ النَّفَقَةُ. قالَ: (وَخَمُّ العَيْنِ) هُوَ: كَنْسُهَا مِنَ الحَمْأَةِ ونَحْوِهَا. (وسَرْوُ الشَّرَبِ) هُوَ: تَنْقِيةُ مَنَابِعِ المَاءِ حَوْلَ الشَّجَرِ أَو النَّخْلِ. (وإبَّارُ النَّخِيلِ) هُوَ: تَذْكِيرُهَا. (وقَطْعُ الجَرِيدِ) هُوَ: زَبْرُ النَّخْلِ. (وَجَدُّ [التَّمْرِ]) (¬3) هُوَ: قِطَافُهَا، فَهَذا كُلُّهُ جَائِزٌ لِرَبِّ النَّخْلِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ على العَامِلِ، لأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَهُمَا جَمِيعًا [2602]. ولَا يَجُوزُ لِرَبِّ المَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ على العَامِلِ ظَفِيرَةً بَيْنَهُمَا، والظَّفِيرَةُ: الصِّهْرِيجُ الذي يَجْتَمِعُ فِيهِ المَاءُ. وكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَيْنًا يَرْفَعُهَا، يَعْنِي: يُنَقِّي مَنَاهِرَهَا مِنْ وَرَائِهَا (¬4)، ويَسْتَخْرِجَ مَائَهَا. وكَذَلِكَ كُلُّ شَيءٍ فِيهِ النَّفَقَةُ على العَامِلِ وتَبْقَى مَنْفَعَةُ ذَلِكَ لِرَبِّ المَالِ، فإنِ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: تجرة، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) السد -بالسين، ويقال: بالشين المعجمة- هو تحصين الجدار وسد الثُّلْمة، والحِظَار، جمع حَظِيرة، وهي العيدان التي بأعلى الحائط لتمنع من التسور عليه، ينظر: الإستذكار 7/ 521، والإقتضاب 2/ 303. (¬3) في الأصل: الطمر، وهو خطأ، وينظر: الإقتضاب 2/ 304. (¬4) المنهر هو الخرق في الجدار يدخل فيه الماء، النهاية 4/ 366.

اشْتَرطَ رَبُّ المَالِ على العَامِلِ شَيْئًا مِنْ هَذا ثُمَّ عَمِلَ العَامِلُ رُدَّ إلى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ، وكَانَ للعَامِلِ على رَبّ المَالِ قِيمَةُ مَا يَنَالُهُ قَائِمًا مُثَبَّتَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ. قالَ عِيسَى: وكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِرَبِّ المَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ على العَامِلِ أَنْ يَغْرِسَ لَهُ كَذَا وكَذَا نَخْلَةً يأْتِي العَامِلُ بالأُصُولِ مِنْ عِنْدِه، لأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ يَزْدَادَهَا رَبُّ المَالِ عَلَى العَامِلِ، فإنْ وَقَعَ مِثْلُ هَذا كَانَ للعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِيمَا سَقَى وعَالَجَ، وَيُرَدُّ إلى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ، ويُعْطَى قِيمَةُ غَرْسِهِ مَقْلُوعًا كَمَا جَاءَ بهِ يَوْمَ غَرْسِهِ، وتَنْفَسِخُ المُسَاقَاةِ بَيْنَهُمَا (¬1). [قال] عَبْدُ الرَّحمنِ: المُسَاقَاةُ عِنْدَ مَالِكٍ جَائِزَةٌ في الأُصُولِ كُلِّهَا مِمَّا يَتَّصِلُ ثَمَرُهَا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلى آخِرِه، وكَذَلِكَ المقَاثِي، والوَرْدُ، واليَاسمِينُ، ولمَ تَجُز المَسَاقَاةِ في الجَوْزِ والقَصَبِ، لأَنَّ ذَلِكَ يَأْتِي بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ الأُصُولِ (¬2). قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: قالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: تَفْسِيرُ مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الأَرْضِ التِّي يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ في مُسَاقَاةِ الأُصُولِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ للرَّجُلِ حَائِطٌ يُنْفِقُ في مَؤُنَتِهِ كُلِّهَا مِائَةَ دِينَارٍ، وَيبِيعُ ثَمَرَتَهُ بِمِائَتِي دِينَارٍ، فَغَلَّتُهُ الآنَ مِائَةُ دِينَارٍ، فإنْ كَانَتْ قِيمَةُ كِرَاءِ الأَرْضِ خَمْسِينَ دِينَارًا فَأَدْنَى فَالمُسَاقَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ، وتَدْخُلُ الأَرْضُ في المُسَاقَاةِ حِينَئِذٍ، فإنْ كَانَتْ قِيمَةُ الأَرْضِ أَكْثَرَ مِنَ الثُلُثِ لمَ يَجُزْ أَنْ تَدْخُلَ في المُسَاقَاةِ، لأَنَّهُ يَدْخُلُ ذَلِكَ كِرَاءُ الأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وهَذا لا يَجُوزُ، وإذا كَانَتْ قِيمَةُ الأَرْضِ أَقَلَّ مِنَ الثُلُثِ كَانَتْ مُلْغَاةً في المُسَاقَاةِ (¬3). * لَمْ يأْخُذْ ابنُ نَافِعٍ بِقَوْلِ مَالِكٍ في المُوطَّأ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ للعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى بن دينار من أوله إلى هنا: ابن مزين في تفسيره في أول كتاب المساقاة. (¬2) قوله: (يأتي بطنا بعد بطن) يعني حولا بعد حول، مثل النخيل والأعناب والزيتون والرمان وما أشبه ذلك من الأصول، أما المقاثي والبقول ونحوها فلا تجوز المساقاة فيها، ينظر: الكافي 2/ 38. (¬3) قول عيسى بن دينار نقله ابن مزين في تفسيره، رقم (116).

على رَبِّ المَالِ رَقِيقًا يَعْمَلُ بِهِ في الحَائِطِ لَيْسُوا فِيهِ حِينَ سَاقَاهُ إيَّاه [2620]. قالَ ابنُ نَافِعٍ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ العَامِلُ على رَبِّ المَالِ عِدَّةً مِنَ الرَّقِيقِ وإنْ لَمْ يَكُونُوا في الحَائِطِ حِينَ سَاقَاهُ إيَّاهُ (¬1). وقالَ ابنُ القَاسِمِ: لَا بَأْسَ أنْ يَشْتَرِطَ العَامِلُ على رَبِّ المَالِ الغُلَامَ الوَاحِدِ والدَّابَّةَ وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في الحَائِطِ إذا كَانَ حَائِطًا عَظِيمَا، وحَكَاهُ ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ (¬2). [قالَ] عبدُ الرَّحمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: مَنْ سَاقَى حَائِطًا فالزَّكَاةُ في جَمِيعِه قَبْلَ القَسْمِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في الحَائِطِ إلَّا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ. قالَ الأَبْهَرِيُّ: إنَّمَا وَجَبتْ هَهُنَا الزَّكَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَجِبُ بِبُدُّوِ صِلَاحِ الثَّمَرةِ قَبْلِ الجُذَاذِ، وفِي هَذِه الحَالِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ العَامِلِ غَيْرُ الثَّمَرَةِ، وإنَّمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا مِلْكُهُ وتتحَصَّلُ لَهُ بالجُذَاذِ، وقَبْلَ الجُذَاذِ قَدِ اسْتَقَرَّ فِيهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ الشَّرِيكَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنَ الثَّمَرَةِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِمَا في ذَلِكَ الزَّكَاةُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مِلْكَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِرٌّ على الثَّمَرَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ إلى الجُذَاذِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الزَّكَاةِ في ذَلِكَ لِعَدَمِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ في مِلْكِهِ، وأَحَدُهَا عِلْمُهُ. * * * تَمَّ كِتَابُ المُسَاقَاةِ، بِحَمْدِ اللهِ وعَوْنِهِ، وصَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وسَلَّمَ يَتْلُوهُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى * * * ¬

_ (¬1) نقل قول عبد الله بن نافع: ابن مزين في تفسيره (113)، وابن عبد البر في الإستذكار 7/ 536. (¬2) نقله ابن مزين في تفسيره (113)، وقال: قول مالك أحسن.

تفسير كراء الأرض

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِرَاءِ الأَرْضِ * [قالَ]، عَبْدُ الرَّحمَنِ: أَدْخَلَ مَالِكٌ في المُوَطَّأ حَدِيثَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في النَّهِي عَنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَسَّرٍ [2624]، وحدَّثنا بهِ أَبو عِيسَى (¬1)، قالَ: حدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ أَبيهِ يحيى، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ أَبي عَبْدِ الرَّحمَنِ وإسْحَاقَ بنِ عبدِ اللهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بنِ قَيْسٍ، أنَّهُ سَألَ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، فقَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا"، قالَ حَنْظَلَةُ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ كِرَائِهَا بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فقالَ: لَا بَأْسَ بهِ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا الحَدِيثُ يُفَسِّرُ وَجْهَ النَّهِي عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ كَيْفَ هُوَ، وقَدْ رَوَى مَالِكٌ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُزَابَنَةَ، والمُحَاقَلَةِ" [2316]، والمُحَاقَلَةُ: إكْرَاءُ الأَرْضِ بالحِنْطَةِ وشَبَهِهَا. قالَ عِيسَى: لَا يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ بِشَيءٍ إذا زُرِعَ فِيهَا نَبْتٌ (¬3). وقالَ مَالِكٌ: لَا تُكْرَى الأَرْضُ بِشَيءٍ مِمَّا يُؤْكَلُ أو يُشْرَبُ. ¬

_ (¬1) هو يحيى بن عبد الله بن يحيى القرطبي، وهو ممن يروي عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي، وتقدم التعريف بهما. (¬2) رواه البيهقي في السنن 6/ 132، بإسناده الليث به. (¬3) نقل قول عيسى بن دينار: ابن مزين في تفسيره (119).

قالَ ابنُ القَاسِمِ: وذَلِكَ فِيمَا أَرَى مِنْ قِبَلِ الطَّعَامِ بالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا، وبَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلى أَجَلٍ (¬1). قالَ: ومَنْ تَرَكَ كِرَاءَ أَرْضِهِ بالذَّهَبِ أَو الوَرِقِ وَأكْرَاهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يُخْرَجُ مِنْهَا فَقَدْ دَخَلَ في الغَرَرِ المَنْهِيّ عَنْهُ، لأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقِلُّ ويَكْثُرُ فَلَا يَدْرِي قَدْرَ كَمْ يَصِيرُ لَهُ في كِرَائِهَا، وكِرَاؤُهَا بالعَيْنِ هُوَ شَيءٌ مَعْرُوفٌ لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ، وهَذا قَوْلُ مَالِكٍ. وقالَ ابنُ مُزَيْنٍ: قالَ اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: إنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ بشَيءٍ مِمَّا يُخْرَجُ مِنْهَا إذا كَانَ مَضْمُونًا على المُسْتكْرِي، رُفِعَ أَولمَ يُرْفَعْ، فأَمَّا أَنْ يُكْرِيهَا صَاحِبُهَا بِبَعْضِ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعِهِ الذي يُزْرَعُ فِيهَا نِصْفًا أو ثُلُثًا أَو رُبْعًا ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَضْمُونًا على المُسْتَكْرِي، فَذَلِكَ حَلَالٌ جَائِزٌ. قالَ عِيسَى: مَنْ أَكْرَاهَا بِمِثْلِ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ فُسِخَتْ كِرَاؤُهُ، فإنْ عَمِلَ على ذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُ مِثْلَ كِرَاءِ الأَرْضِ بالذَّهَبِ أَو الوَرِقِ. قالَ عِيسَى: وقالَ ابنُ نَافِعٍ: لا تُكْرَى الأَرْضُ بِقَمْحٍ، ولَا شَعِيْرٍ، ولَا سُلْتٍ، ولَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى بِسَائِرِ ذَلِكَ على أَنْ يُزْرَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا تُسْتكْرَى بهِ. قالَ عِيسَى: مَنْ أَكْرَاهَا بِمِثْلِ مَا قَالَ ابنُ نَافِع لَمْ أَفْسَخْ كِرَائَهُ إذا عَمِلَ وتَمَّ عَمَلُهُ، وأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فالكِرَاءُ مَفْسُوخٌ (¬2). وقالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: لَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ بالثِّيَابِ والحَيَوانِ، ومَنْ أَكْرَاهَا فأَصَابَ الزَّرْعُ جَائِحَةً أَو عَاهَةً فَالكِرَاءُ لَهُ لَازِمٌ، ولَا تُوضَعُ عَنْهُ الجَائِحَةُ إلَّا في المَاءِ، أَو فِيمَا اجْتِيحَ مِنْ قِبَلِ المَاءِ. * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمْدِ اللهِ وعَوْنهِ، يَتْلُوهُ كِتَابُ الفَرَائِضِ بِحَوْلِ اللهِ ¬

_ (¬1) نقل قول مالك وابن القاسم: ابن مزين في تفسيره (122). (¬2) قول ابن مزين جاء بنحوه في تفسيره في آخر كتاب المساقاة، وكذا ما نقله عن عيسى بن دينار.

تفسير كتاب الفرائض مما لم يقع في كتاب ابن مزين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا تَفْسِيرُ كِتَابِ الفَرَائِضِ مِمَّا لَمْ يقَعْ في كَتَابِ ابنِ مُزَيْنٍ أَخْبَرنَا أَبو مُحَمَّدِ بنُ أَبي زَيْدٍ: ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَهْلَ المَوَارِثِ في سُورَةِ النِّسَاءِ، وقَامَتِ السّنَّةُ بِتَوْرِيثِ الأَقْرَبِ فالأَقْرَبِ مِنَ العَصَبةِ، وبِتَوْرِيثِ الجَدَّةِ، ومَوْلَى النِّعْمَةِ، وأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ على تَوْرِيثِ الجَدِّ أَبِ الأَبِ، واخْتُلِفَ في قَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَلَا يَرِثُ أَحَدٌ إلَّا بِسَبَبِ قَرَابَةٍ، أو بِوَلَاءِ عِتَاقَةٍ، أو بِعِصْمَةِ نِكَاحٍ. وأَخْبَرنِي أَبو الطيب الجَرِيرِيُّ بِمِصْرَ (¬1)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لا يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ إلًّا عَشَرَة، وَهُمْ: الجَدُّ وإنْ عَلَا، والأَبُ، والإبنُ، وابنُ الإبنِ وإنْ سَفَلَ، والأَخُ، وابنُ الأَخ، والعَمُّ، وابنُ العَمِّ، والزَّوْجُ، ومَوْلَى النَّعْمَةِ، وَهُوَ الذي يُنْعِمُ على عَبْدِه بالعِتْقِ. قالَ أَبو جَعْفَرٍ: وَيرِثُ مِنَ النِّسَاءِ سَبع نِسْوَةٍ: الأُمُّ، والجَدَّةُ، والإبْنَةُ، وابنتُ الإبْنِ، والأُخْتُ، والزَّوْجَةُ، ومَوْلَاةُ النِّعْمَةِ، وَهِيَ التِّي تُنْعِمُ على عَبْدِهَا أَو على أَمَتِهَا بالعِتْقِ، فَلَا يَرِثُ مِنَ القَرَابَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ (¬2). ¬

_ (¬1) هو أبو الطيّب أحمد بن سليمان بن عمرو الجَرِيري، ويقال: الحريري - بالحاء - كان فقيها على مذهب ابن جَرِير الطبري، وانتقل من بغداد إلى مصر فسكنها، وكان موجودا سنة (352)، يراجع: تاريخ بغداد 4/ 179، والأنساب 2/ 52، وتوضيح المشتبه 2/ 283. (¬2) بحثت عن كلام ابن جرير هذا في التفسير وفي تهذيب الآثار فلم أجده، ويبدو أنه في كتابه الآخر المسمى (اختلاف الفقهاء) ولم يطبع منه إلا جزء يسير، وهو القَدْر الذي عُثر =

* قالَ مَالِكٌ: مِيرَاثُ البَنِينِ مِنْ آبَائِهِم للذَّكَرِ مثْلُ حَظِّ الأُنْثِيَيْنِ إذا كَانُوا رِجَالًا ونِسَاءً، {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فإنْ كَانَ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الفَرَائِضِ وكَانَ فِيهِم ذَكَرٌ بُدِيءَ بأَهْلِ الفَرَائِضِ فَأُعْطُوا فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ، للوَلَدِ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثِيَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فَلَمْ يَذْكُرْ هَهُنَا كَمْ لِلاثْنتَيْنِ مِنَ المِيرَاثِ، فَقِيلَ: إنَّمَا أَعْطَى الاثْنتَانِ الثُلُثَيْنِ، بِدِلَالَةِ أنَّ الوَاحِدَةَ إذَا كَانَتْ مَعَ الإبْنِ فَلَهَا الثُلُثُ، وَهُوَ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ البنْتِ، فَوَجَبَ أَلَّا تَنْقَضِي الثَّانِيَةُ مِنَ الثُلُثِ مَعَ مَنْ هُوَ مِثْلُهَا في القُوَّةِ، وشَيءٌ آخَرُ أنَّ اللهَ لَمَّا جَعَلَ للأُخْتَيْنِ الثُلُثَيْنِ بِقَوْلهِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وكَانَتِ الأَخَوَاتُ أَبْعَدَ مِنَ البَنَاتِ كَانَ البِنْتَانِ أَوْلَى أَنْ لَا يَنْقُصْنَ مِنَ الثُلُثَيْنِ. * قَوْلُ مَالِكٍ: (إذا اجْتَمَعَ الوَلَدُ للصُّلْبِ وَوَلَدُ الوَلَدِ فَكَانَ في الوَلَدِ للصُّلْبِ ذَكَرٌ فإنَّهُ لَا مِيرَاثَ مَعَهُ لأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الإبْنِ) [1850]، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ: لأَنَّ ابنَ الرَّجُلِ أَقْرَبُ إليهِ مِن ابنِ ابْنِهِ. * (فَإنْ كَانَ الوَلَدُ لِلصُّلْبِ ابْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإنَّهُ لا مِيرَاثَ حِينَئِذٍ لِبَنَاتِ الإبْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ بَنَاتِ الإبْنِ ذَكَرٌ هُوَ مِنَ المُتَوفَّى بمَنْزِلَةِ بَنَاتِ الإبْنِ أَو أَسْفَلَ مِنْهُنَّ، فإنَّهُ يُرَدُّ على مَنْ هُوَ بمَنْزِلَتِهِ ومَنْ فَوْقَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ فَضْلًا إنْ فَضَلَ، فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ، للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) [1850]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا قَالَ: (إنَّ بَنَاتِ الإبْنِ لا يَدْخُلْنَ مَعَ البَنَاتِ في الثُلُثَيْنِ) مِنْ أَجْلِ أَنَّ البَنَاتِ قَد اسْتكْمَلْنَ الثُلُثَيْنِ، وَهُوَ فَرْضُ البَنَاتِ، فَلِذَلِكَ لا يُدْخِلُ مَعَهُنَّ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الإبْنِ، فإذَا كَانَ مَعَ بَنَاتِ الإبْنِ ذَكَر صَارَ لَهُ ولِمَنْ مَعَهُ في دَرَجَتِهِ ولِمَنْ فَوْقَهُ مِنْ بَنَاتِ الإبْنِ مَا فَضَلَ، للذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، ¬

_ = عليه، وليس فيه كتاب الفرائض.

فالذِّكَرُ هُوَ الذي يَعْصِبُهنَّ، كَمَا يُعْصِبُ الوَلَدُ للصُّلْبِ البَنَاتَ، وهَذا قَوْلُ عَلِي بنِ أَبي طَالِبٍ وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، وعَلَيْهِ أَهْلُ المَدِينَةِ. ولَا خِلَافَ بَأَنَّ للأَبَوَيْنِ مَعَ الوَلَدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ المُتَوفَّى وَلَدًا، ولَا وَلَدَ ابْنٍ، ذَكَرًا أَو انْثَى، فإنَّهُ يُبْدَأُ بأَهْلِ الفَرَائِضِ فَيُعْطَوْنَ فَرَائِضَهُمْ، ثُم يَكُونُ للأَبِ مَا بَقِيَ، إِلَّا أَنْ يَبْقَى أَقَل مِنَ السُّدُسِ فَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا يُبْدَأُ بأَهْلِ الفَرَائِضِ قَبْلَ الأَبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقونَ المِيرَاثَ بالفَرْضِ المُجَرَّدِ، فَوَجَبَ تَبْدِيَتُهُمْ، ثُمَّ يُعْطَى الأَبُ مَا بَقِيَ، لأَنَّ فِيهِ رَحِمًا وتَعْصِيبًا، فَيُعْطَى مَا اسْتَحَقَهُ بالرَّحِمِ، ثُمَّ يَأخُذُ مَا بَقِيَ عَنْ أَهْلِ الفَرَائِضِ بالتَّعصِيبِ، فإذَا لَمْ يُصِبْهُ بالتَّعْصِيبِ شَيءٌ لَمْ يُنْقَصْ مِنَ الفَرْضِ، وفَرْضُهُ السُّدُسُ، فإذا انْفَرَدَ الأبوَانِ بالمَالِ كَانَ للأُمِّ الثُلُثُ وللأَبِ الثُلُثَانِ، لِقَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، فَصَارَ البَاقِي للأَبِ بِهَذَا الظَّاهِرِ. فإذَا كَانَ مَعَ الأَبَوَيْنِ زَوْجٌّ أَو زَوْجَةٌ كَانَ للزَّوْجِ النَّصْفُ، وللأُمِّ الثُلُثُ مِمَّا بَقِيَ، ومَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاللأَبِ، ويَكُونُ للزَّوْجَةِ الرُّبُعِ، وللأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، ومَا بَقِيَ للأَبِ، إِنَّمَا كَانَ للأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِىَ بَعْدَ إخْرَاجِ فَرِيضَةِ الزَّوْجِ أَو فَرِيضَةِ الزَّوْجَةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَأخُذُ السُّدُسُ مَعَ الوَلَدِ ومَعَ الأَخَوَيْنِ، فَحُجِبت الأُمُّ عَنِ الثُلُثِ إلى السُّدُسِ بالوَلَدِ وبالأَبَوَيْنِ فَصَاعِدًا، فَصَارَ سَبيَلُهَمَا - أَعْنِي الأَبَويْنِ فِيمَا يَبْقَى مِنَ المَالِ بَعْدَ أَهْلِ الفَرَائِضِ كَسَبيلهِمَا لَو انْفَرَدا بالمًالِ، وشَيءٌ آخَرُ وَهُوَ إنَّمَا جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- للأُمِّ الثُّلُثَ حَيْثُ جَعَلَ للأَبِ الثُلُثَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُزَادَ عَلَيْهِ اللأُمُّ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لمَ يَرِثْ الإخوَةُ للأُمِّ مَعَ الوَلَدِ، ولَا مَعَ وَلَدِ الوَلَدِ، ولَا مَعَ الأَبِ، ولَا مَعَ الجَدِّ شَيئًا، لأَنَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، والكلَالَةُ هَهُنَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ ولَا وَالِدٌ،

فَمَتَى كَانَ للمِيِّتِ وَلَدٌ وإنْ سَفَلَ، وَوَالِدٍ وإنْ عَلَا فَلَا يَرِثُ فِيهِ إخْوَتُهُ لأُمِّه شَيْئًا، وعلى هَذا أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ، وصَارَتْ مَنْزِلَةُ الإخْوَةِ للأُمِّ في المِيرَاثِ سَوَاءٌ، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}، فَلِهَذا صَارَ سَهْمُ الأَخِ والأُخْتِ للأُمِّ سَوَاءٌ في المِيرَاثِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا لَمْ يَرِثْ الإخْوَةُ للأَبِ والأُمِّ مَعَ الوَلَدِ الذَّكَرِ، ولَا مَعَ وَلَدِ الإبْنِ الذَّكَرِ شَيْئًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الابْنَ أَقْرَبُ إلى المَيِّتِ، وذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ هُوَ مِنْهُ، وأَخُوُهُ هُوَ وَلَدُ وَالِدِه، وشَيءٌ آخَرُ إنَّمَا يُبْدَأُ في الفَرَائِضِ بِمَنْ لَهُ سَهْمٌ مُسَمَّى قَبْلَ العَصَبةِ، لأَنَّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مُسَمَّى لَا يَسْقُطُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ومَنْ يَأْخُذُ بالتَّعْصِيبِ قَدْ يَسْقُطُ إذا لَمْ يَبْقَ مِنَ المَالِ شَيءٌ، فَلِهَذا وَجَبَ تَبْدِيَةُ أَهْلِ الفَرَائِضِ قَبْلَ العَصَبَةِ، ولَا خِلَافَ في هَذا بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا شُرِكَ بَنُو الأَبِ والأُمّ مَعَ الإخْوَةِ للأُمِّ في الثُلُثِ في فَرِيضَةِ المُشْتَركَةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ إخْوَةُ المُتَوفَّى لأُمِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَوَى في مِيرَاثِهِمْ، بِسَببِ أُمِّهمْ، وهَذِه الفَرِيضَةُ تُسَمَّى الحِمَارِيَّةِ (¬1)، وذَلِكَ أَنَّ بَنِي الأُمِّ والأَبِ قَالُوا لِبَنِي الأُمِّ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا حِمَارٌ أَلَيْسَتْ أُمُّنَا وَاحِدَةٌ، وشَرَكَ بَيْنَهُمْ في هَذِه الفَرِيضَةِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وزيدُ بنُ ثَابِتٍ، وبهِ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ المَدِينَةِ. قالَ أَبو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ: إنَّمَا لَمْ يَرِث الجَدُّ أَبُ الأَبِ مَعِ الأَبِ شَيْئًا لأَنَّ الأَبَ أَقْرَبُ مِنَ الجَدِّ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الجَدَّ يُدْلِي بالأَبِ، فَإذا كَان مَنْ يُدْلِي به بَاقِيًا فَهُوَ أَحَقُّ بالمِيرَاثِ، وفُرِضَ للجَدِّ السُّدُسُ مَعَ الوَلَدِ الذَّكَرِ، ومَعَ ابنِ الإبْنِ الذَّكَرِ، مِنْ أَجْلِ وِلَادَتِهِ، لَا مِنْ أَجْلِ التَّعْصِيبِ، كَمَا يُفْرَضُ للجَدَّةِ السُّدُسُ مَعَ الوَلَدِ الذَّكَرِ، ومَعَ وَلَدِ الوَلَدِ الدَّكَرِ السُّدُسُ، فأَمَّا إذا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ ذَكَر، ولَا وَلَا ابنٌ ذَكَرٌ، وكَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الفَرَائِضِ، بُدِيءَ بأَهْلِ الفَرَائِضِ المُسَمَّاةِ فَأُعْطُوا فَرَائِضَهَمُ، ثُمَّ كَانَ للجَدِّ مَا بَقِيَ، إذا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ السُّدُسِ، يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَعْصِيبِه، فإنْ بَقِيَ ¬

_ (¬1) كما تسمى أيضًا: الحجريّة، واليمِّية، لأنهم قالوا لعمر: هب أن أبانا كان حمارا أو حجرا ملقى في اليم، أي في البحر، ينظر: الإستذكار 5/ 579.

أَقَلُّ مِنَ السُّدُسِ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ السُّدُسِ، لأَنَّهُ يَأْخُذُ بالوِلَادَةِ [لَا بالزِّيَادَةِ] (¬1)، ولَا سَبِيلَ إلى تَغَيُّرِ فَرْضِ الوِلَادَةِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ في الجَدِّ مَعَ الإخْوَةِ مَذْهَبُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، يُقَاسِمُ بِهَ الإخْوَةُ المِيرَاثَ إذا كَانَ المُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنَ الثُلُثِ وهَذا إذا انْفَرَدَ الجَدُّ والإخْوَةُ بالمَالِ، أَو يُعْطِيهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَهْلِ الفَرَائِضِ، أَو السُّدُسُ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الجَدِّ أَقْوَى مِنْ سَبَب الإخْوَةِ، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مَعَ الوَلَدِ الذَّكَرِ السُّدُسُ، ولَيْسَ يَأخُذُ الإخْوَةُ مَعَ الوَلَدِ الذَّكَرِ شَيْئًا، فَلِهَذا الوَجْهِ أُضِيفَ إلى سُدُسِ الجَدِّ الذي يَسْتَحِقُّهُ بالرَّحِمِ سُدُس أخَرُ، فَأُعْطِيَ الثُلُثُ لِتَأْكِيدِ قَرَابَتِهِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الجَدَّ يَحْجِبُ الإخْوَةَ للأُمِّ عَنِ الثُلُثِ، والإخْوَةُ للأَبِ لَا يَحْجِبُونَهُ عَنْهُ، فَبِهَذا السَّبَبِ يَأْخُذُ الثُلُثُ. قالَ: وأَمَّا مُقَاسَمَةُ الجَدِّ الأُخْتَ المِيرَاثَ فَيَأْخُذُ الجَدُّ الثُلُثَيْنِ والأُخْتُ الثُلُثُ إذا انْفَرَدَا جَمِيعَا بالمِيرَاثِ، فَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الأَخَ لَمَّا كَانَ يُقَاسِمُ الأُخْتَ وَهُوَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الجَدِّ، وكَانَتِ الأُخْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا الثُّلُثَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مَعَ الجَدِّ، ولَمْ يَنْقُصِ الجَدُّ مِنَ الثُلُثَيْنِ إذْ كَانَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ أَخِيهَا. وأَمَّا مَسْأَلَةُ: (فإنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ للأُخْتِ شَيءٌ لا تَأْخُذُه ولَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهَا فُرِضَ لَهَا النِّصْفُ ضَرُورَةً)، وذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ في سُدُسِ الجَدِّ، ولَا في ثُلُثِ الأُمِّ، ولَا في نِصْفِ الزَّوْجِ، ولَا بُدَّ أَنْ تُعْطَى فَرِيضَتَها، إذْ لَيْسَ في هَذِه المَسْأَلةِ مَنْ يَمْنَعُهَا المِيرَاثَ، ولَا مَنْ يَحْجِبُهَا عَنْهُ، فَاُعْطِيتْ فَرِيضَتَها، وَهِيَ النِّصْفُ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلى أَصْلِ المَسْأَلَةِ، فَيُجْمَعُ سَهْمُهَا وسَهْمُ الجَدِّ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ للجَدِّ سَهْمَانِ، وللأُخْتِ سَهْم. وأَمَّا مُعَادَةُ الإخْوَةِ والأَخَواتِ الشَّقَائِقِ الجَدَّ بالإخْوَةِ والأَخَوَاتِ للأَبِ فَيَمْنَعُونَهُ بِهِم كَثْرَةُ المِيرَاثِ، فَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الإخْوَةَ للأَبِ والأُمِّ يَحْتَجُّونَ على ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت في وضعه بما يتناسب مع السياق.

الجَدِّ، فَيَقُولُونَ لَهُ: إذا كَانَ الإخْوَةُ والأَخَوَاتُ للأَبِ لَو انْفَرَدُوا مَعَكَ أَيُّهَا الجَدُّ بالمِيرَاثِ لَوَرِثُوا مَعَكَ ولَمْ تَمْنَعْهُم المِيرَاثَ، فَكَذَلِكَ إذا كُنَّا نَحْنُ مَعَهُمْ فَلَيْسَ تَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُورَثُوا مَعَكَ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَحْنُ مَعَهُم إلى الأَصْلِ، فَيَقُولُ: أَنْتُمْ لَا تَرِثُونَ مَعَنَا شَيْئًا حتَّى نَأخُذَ مِنْ أَيْدِيهِم مَا كَانُوا أَخَذُوُ 5 مَعَ الجَدِّ، فإذا كَانَتْ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ رَجَعَتْ عَلَيْهِم حتَّى تَسْتكْمِلَ نِصْفَ المَالِ، فَمَا بَقِيَ فَالِلإخْوَةِ للأَبِ، فإنْ لَمْ يَبْقَ شَيءٌ فَلَا شَيءَ لَهُمْ، لأَنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ بالتَّعْصِيبِ إذا كَانُوا اخْوَة أو أَخَوَاتٍ، والأُخْتُ الشَّقِيقَةُ إنَّمَا تَسْتَحِقُّ بالفَرْضِ فَكَانَتْ أَوْلَى، ولأَنَّهَا أَقْرَبَ رَحِمًا، فإذا كَانَتْ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وأَخَوَاتٌ لأَبٍ فإنَّ الشَّقِيقَةَ تَرْجِعُ عَلَيْهِم إلى تَمَامِ النِّصْفِ، ومَا بَقِيَ لَهُمْ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا حُجِبتِ الأُمُّ الجَدَّةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الجَدَّةَ إنَّمَا تُدْلِي بِسَببِ ابْنَتِهَا، ومُحَالٌ أَنْ تَأْخُذَ سَهْمَ مَنْ يُدْلِي بِهَا مَعَ وُجُودِهَا حَيَّةً. ولَمْ تَرِثِ الجَدَّةُ أمُّ الأَبِ مَعَ الأُمِّ شَيْئًا لأَنَّ الأُمَّ لَمَّا كَانَتْ تَمْنَعُ الجَدَّةَ أُمَّ الأُمِّ الِميرَاثَ، وَهِيَ أَقْوَى الجَدَّاتِ سَبَبًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تُدْلِي بالأُمِّ وَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ الجَدَّةَ التِّي هِيَ مِنْ جهَةِ الأَبِ، إذ كَانَ الأَبُ [...] (¬1)، فإذا اجْتَمَعَتِ الجَدَّتَانِ ولَيْسَ مَعَهُمَا أُمُّ ولَا أَبٌ فإنْ كَانَتْ أُمُّ الأُمِّ أَقْعَدَهُمَا فَلَهَا السُّدُسُ دُونَ أُمِّ الأَبِ (¬2)، وإنْ كَانَتْ أُمُّ الأَبِ أَقْعَدَهُمَا، أَو كَانَتْ في القُعْدَدِ سَوَاءٌ فَالسُّدُسِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا كَانَتِ الجَدَّةُ أُمُّ الأُمِّ إذا كَانتْ قُعْدًا أَوْلَى بالسُّدُسِ مِنْ أُمِّ الأَبِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا قَدْ جَمَعَتْ قُرْبَ المَنْزِلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنتَهَا التِّي هِيَ الأُمُّ تَمْنَعُ الجَدَّاتِ المِيرَاثَ، فَكَذَلِكَ أمُّهُا تَمْنَعُ الجَدَّاتُ المِيرَاثَ إذا لَمْ يَكُونُوا في دَرَجَتِهَا، إلَّا أَنْ يَبْعُدَ قُرْبُهَا ومَنْزِلتهَا، وتَقْرُبُ مَنْزِلَةُ التِّي هِيَ مِنْ جِهَةِ الأَبِ، فَيَقَاوِمُ تَأْكِيدُ سَبَبِهَا قُرْبَ مَنْزِلَةِ التي مِنْ قِبَلِ الأَبِ، فَيْشَتِركَانِ حِينَئِذٍ في السُّدُسِ، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين كلمة لم أهتد إليها، ولعلها (ميتا). (¬2) قوله: (أقعدهما) يعني: أقربهما نسبا.

كانَّ المَيتَ تَرَكَ جَدَّتَهُ أُمَّ أمِّهِ، وجَدَّتَهُ أُمَّ أُمَّ أَبِيهِ، فَالسُّدُسُ هَهُنَا لأُمِّ أُمِّهِ، وإنْ تَرَكَ أُمَّ أَبيهِ، وأُمَّ أُمِّهِ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ، ولا يَرِثُ غَيْرَهُمَا مِنَ الجَدَّاتِ عِنْدَ مَالِكٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَصْلَ مِيرَاثِ الأَجْدَادِ والجَدَّاتِ الأَبَوَانِ، فإذا عُدِمُوا وَرِثَ اللَّذَانِ يُدْلِي بِهِمَا، وَهُمَا الجَدُ والجَدَّاتُ، فَالجَدُّ أَبو الأَبِ، والجَدَّةُ أُمُّ الأُمّ، وأُمُّ الأَبِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الأَجْدَادِ والجَدَّاتِ، وبهِ قَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ.

تفسير مسائل ذوي الأرحام

تَفْسِيرُ مَسَائِلِ ذَوِي الأَرْحَامِ إنَّمَا كَانَ الأَخُ الشَّقِيقُ أَوْلَى بالمِيرَاثِ مِنَ الأَخِ للأَبِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الأَخَ الشَّقِيقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الأَخِ للأَبِ، لأَنَّه جَمِعَ رَحِمًا وتَعْصِيبًا، فَمَنْ جَمَعَ الشَّيْئَيِنِ أَوْلَى مِمَّنْ جَمَعَ شَيْئًا وَاحِدًا. وكَانَ الأَخ للأَبِ أَوْلَى بالمِيرَاثِ مِنْ ابنِ الأَخِ الشَّقِيقِ، لأَنَّ أَخَا الإنْسَانِ أَقْرَبُ إليهِ مِنِ ابنِ أَخِيهِ. وكَانَ ابنُ الأَخ الشَّقِيقِ أَوْلَى مِنِ ابْنِ الأَخِ للأَبِ، لأَنَّهُ جَمَعَ رَحِمًا وتَعْصِيبًا. وكَانَ ابنُ الأَخِ الشَّقِيقِ أَوْلَى مِنَ العَمِّ أَخِي الأَبِ للأَبِ والأُمِّ، وذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ أَخِي الإنْسَانِ أَقْرَبُ إليهِ مِنْ عَمِّهِ، لأَنَّ وَلَدَ أَخِيهِ هُوَ وَلَدُ وَلَدِ أَبيهِ، وعَمَّهُ هُوَ وَلَدُ وَلَدِ جَدِّهِ دُونَ أَبيِهِ. وكَانَ العَمُّ مِنْ قِبَلِ الأَبِ والأُمِّ أَوْلَى مِنَ العَمِّ أَخِي الأَبِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَقْوَى سَبَبًا مِنْهُ، لأَنَّهُ قَد اجْتَمَعَ إليهِ القُرُبَاءُ مِنْ جِهَةِ أَبيهِ وأُمِّهِ. وكَانَ العَمُّ أَخُ الأَبِ مِنْ قِبَلِ الأَب أَوْلَى مِنَ العَمِّ أَخِي الأَبِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ والأُمِّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلى المَيِّتِ وأَقْوَى سَبَبًا. وكَانَ ابنُ العَمِّ مِنْ قِبَلِ الأَبِ والأُمِّ أَوْلَى مِنْ ابنِ العَمِّ مِنْ قِبَلِ الأَبِ، لأَنَّهُ جَمَعَ رَحِمًا وتَعْصِيبًا.

وكَانَ ابنُ العَمِّ مِنْ قِبَلِ الأَبِ أَوْلَى مِنْ عَمِّ الأَبِ أَخِي الأَبِ للأَبِ والأُمِّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلى المَيِّتِ، لأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ جَدِّهِ، والَاخَرُ مِنْ وَلَدِ أَبِي جَدِّهِ، وَجَدُ الإنْسَانُ أَقْرَبُ إليهِ مِنْ جَدِّ جَدِّهِ. وكَانَ الجَدُّ أَبو الأَبِ أَوْلَى مِن ابنِ الأَخ للأَبِ والأُمِّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الجَدَّ يَتَوصَّلُ إلى المِيِّتِ بابْنِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا أَبو أَبيهِ، وابنُ الأَخِ يَتَوصَّلُ إليهِ بأَبيهِ أَخِي المَيِّتِ، فَيَقُولُ: أَنا ابنُ أَخِيهِ، والأَخُ إنَّمَا يتُوَصَّلُ بالأَبِ، فَصَارَتْ وَصْلَةُ ابنُ الأَخِ أَبْعَدَ مِنَ الجَدِّ، فَلِذَلِكَ ضَعُفَ سَبَبُهُ، وشَيءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الفَرَائِضِ جَعَلُوا الجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الأَخِ، فإذا اجْتَمَعَ الأَخُ وابنُ الأَخِ كَانَ المِيرَاثُ للأَخِ دُونَ ابنِ الأَخِ، ولَا خِلَافَ في هَذا. * قالَ مَالِكٌ: وابنُ الأَخ للأَبٍ والأُمِّ أَوْلَى بِهَوُلَاءِ المَوَالِي مِنَ الجَدِّ [1887]. وقالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: إنَّمَا كَانَ ابنُ الاخ أَوْلَى بالوِلَايةِ مِنَ الجَدِّ، وكَانَ الجَدُّ أَوْلَى بالمِيرَاثِ مِن ابنِ الأَخِ مِنْ قِبَلِ لَو أَنَّ رَجُلَّا هَلَكَ وتَرَكَ وَلَدًا ذُكُورًا ومَوَالِي وتَرَكَ أَبَوَيْهِ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَمَا بَقِيَ فَلِلْوَلَدِ، فإنْ هَلَكَ بَعْضُ المَوَالِي كَانَ مِيرَاثُ المَوْلَى لِوَلَدِه دُونَ أَبَوَيْهِ، فَكَذَلِكَ الجَدُّ أَوْلَى بالمِيرَاثِ مِنِ ابنِ الأَخِ، وابنُ الأَخِ أَوْلَى بِوَلَاءِ المَوَالِي. * قالَ مَالِكٌ: وابنُ الأَخِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ والأُمِّ أَوْلَى مِنَ العَمِّ أَخِي الأَبِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ والأُمِّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابنَ الأَخِ مِنْ وَلَدِ الأَبِ، والعَمَّ مِنْ وَلَدِ الجَدِّ، وَوَلَدُ الأَبِ أَوْلَى بالمِيرَاثِ، لِقُرْبِهِم مِنَ المَيِّتِ [1885]. قالَ الأَبْهَرِيُّ: ولَمْ يَرِثْ ابنُ الأَخِ للأُمِّ، ولَا جَدٌّ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ، ولَا عَمُّ أَخَوَاتٍ للأُمِّ، ولَا خَالٌ، ولَا خَالَةٌ، ولَا جَدَّةُ أُمِّ أَبي الأُمِّ، ولَا بِنْتُ الأَخِ، ولَا عَمَّهٌ، لأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ في كِتَابِ اللهِ فَرْضٌ، ولَا في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيءٌ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُعْطُوا شَيْئًا مِنْ جِهَةِ الإجْتِهَادِ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ بَيَّنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ المِيرَاثَ،

وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ ذَكَرُ نَصٌّ ولَا دِلَالَةٌ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُعْطَوُا شَيْئًا مِنَ المِيرَاثِ، وهَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ المَدِينَةِ. * * * تَمَّ كِتَابُ الفَرَائِضِ بِحَمْدِ اللهِ يَتْلُوهُ كِتَابُ الجَهِادِ بِحَوْلِ اللهِ

تفسير كتاب الجهاد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ الجِهَادِ قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المُجَاهِدِ [فِي سَبِيلِ اللهِ] (¬1) كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ [الدَّائِمِ، الذي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ، ولا صِيَامٍ حتَى يَرْجِعَ" [1616]، ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَثَلًا للمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ بالصِّيَامِ والقِيَامِ الَّذِينِ هُمَا مِنْ أَرْفَعِ الأَعْمَالِ، ولَوْلَا مُجَاهَدَةَ العَدُّوِّ لَضًعُفَ الإسْلَامُ، وغَلَبَ العَدُوُّ المُسْلِمِينَ، والجِهَادُ فَرِيضَةٌ عَامَّةٌ يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا. وقالَ [أَبو] (¬2) عُمَرَ: لَيْسَ هُوَ بِفَرْضٍ، ولَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَيجْزِي فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ العَدُوُّ بِمَدِينَةِ المُسْلِمِينَ وَيُحَاصِرُوهُمْ، فَوَاجِبٌ عَلَى المُسْلِمِينَ نَصْرَهُم والدَّفْعُ عَنْهُمْ، وكَذَلِكَ طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَامَّةٌ يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا، ومَنْ كَان فِيهِ مَوْضِع للإمَامَةِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ قُوَّةُ الطلَبِ، ويُلْزَمُ كُلُّ مُؤْمِنٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ مَالَا يَسَعْهُ جَهْلُهُ. وقالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ، ولَوْلَا العِلْمُ مَا عُلِمَ الجِهَادُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، ولِرَجُل سِتْرٌ، وعَلَى رَجُلٍ ¬

_ (¬1) ما بيت المعمَوفتين زيادة من الموطأ. (¬2) جاء في الأصل: (ابن) وهو خطأ فيما يغلب على ظني، وأبو عمر هو شيخ المصنف، فقيه مشهور، وقد تقدم مرارا، أما ابن عمر فلا علاقة له بالكلام المذكور.

وِزْرٌ" [1618]، وذَكَرَ الحَدِيثَ. قال عِيسَى: الذي هِيَ لَهُ أَجْرٌ هُوَ الذي أَعَدَّهَا للجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ. وقَوْلُهُ: "فأَطَالَ لَهَا في مَرْجٍ أَو رَوْضَةٍ"، يَعْنِي: طَوَّلَ لَهَا حَبْلَهَا الذي رَبَطَهَا بهِ في مَرْجٍ لِتَرْعَى فِيهِ أو رَوْضَةٍ، فَالمَرْجُ: المُطْمَئَنُ مِنَ الأَرْضِ، والرَّوْضَةُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَرْضِ. وقَوْلُهُ: "فَاسْتنَّتْ شَرَفًا أَو شَرَفَيْنِ"، يَعْنِي: قَطَعَتِ الحَبْلَ الذي رُبِطَتْ بِهِ، لِكَيْ تَرْعَى، فَجَعَلَتْ تَجْرِي مِنْ شَرَفٍ إلى شَرَفٍ، فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنَاتٍ لِصَاحِبهَا، لأَنَّهُ أَرَادَ باتَّخَاذِهَا وَجْهَ اللهِ، والجِهَادَ في سَبِيلِهِ، فَكَيْفَ مَا تَقَلَّبَتْ بِهَا الحَالُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ. قال: "وَرَجُلٌ رَبَطَها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا"، يَعْنِي: أَنَّهُ اتَّخَذَهَا لِيَسْتَغْنِي بِمَا يَكْسِبُهُ على ظُهُورِهَا عَنْ مَا في أَيْدِي النَّاسِ، ويَتَصَدَّقُ مِمَّا يَكْسِبُهُ عَلَيْهَا على الفُقَرَاءِ أَو يُنْزِيهَا على إنَاثِ الخَيْلِ لِمَنْ سَأَلَهُ ذَلِكَ بِلَا أَجْرٍ يأَخُذُهُ عَلَيْهِ، فَهِيَ لِهَذا سِتْرٌ، وَهُوَ مَأجُورٌ عَلَى هَذَا. "وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا، وَرِياءً، ونَوَاءً لأَهْلِ الإسْلَام"، يَعْنِي: اتَّخَذَهَا [عَدَاوَة] (¬1) عَلَى أَهْلِ الإسْلَامِ، والمُنَاوَأةُ: هِيَ المُعَادَاةُ، فهِيَ على هَذَا وِزْرٌ، [لأَنَّهُ] (¬2) لَمْ يَرِدِ اللهَ بِشَيءٍ مِنْ عَمَلِهِ. وهَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ في اكْتِسَابِ المَال، وإنْفَاقِهِ، فَمَنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَلَالٍ وأَنْفَقَهُ في وُجُوهِ البِرِّ، وأَطْعَمَ مِنْهُ الجَائِعَ وأَحْيَاهُ، كَانَ مَالُهُ بَرَكَةً عَلَيْهِ في آخِرَتهِ، والذي يَكْسِبُ المَالَ مِنْ حلِّهِ، ويُنْفِقُهُ في مَصَالِحِه، ويَتَعَفَّفُ بهِ عَمَّا في أَيْدِي النَّاسِ هُوَ أَيْضًا في ذَلِكَ مَأْجُورٌ، وأَمَّا مَنْ جَمَعَهُ مِنْ حَرَامٍ، وأَنْفَقَهُ في غَيْرِ طَاعَةٍ فَوِزْرُهُ عَلَيهِ، لإسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَ اللهُ ونَهَى عَنْهُ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (عدة)، وهو خطأ، وما وضعته هو المناسب للسياق، وينظر: الإقتضاب 2/ 8. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

وقَوْلُهُ في آخِرِ الحَدِيثِ إذْ سُئِلَ عَنِ الحُمُرِ، فَقَالَ: "لَمْ يُنْزِلْ عَلَى فِيهَا شَيءٌ إِلَّا هَذِه الآيةُ الفَاذَّةُ الجَامِعَةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} "، يَعْنِي: أَنَّهُ مَنْ أَحْسَنَ إليهَا رَأَى إحْسَانَهُ في الآخِرَةِ، ومَنْ أَسَاءَ إليهَا وكَلَّفَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا رأَى إسَاثَدهُ في الآخِرةِ، واللهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، ويُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ. وقَوْلُهُ في الآيةِ: إنَّهَا "جَامِعَةٌ فَاذةٌ"، يَعْنِي: مُنْفَرِدَةً في مَعْنَاهَا، جَمَعَتْ أَعْمَالَ البِرِّ كُلِّهَا دَقِيقِهَا وجَلِيلِهَا، وكَذَلِكَ أَعْمَالُ المَعَاصِي. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ، واليُسْرِ، والمَنْشَطِ، والمَكْرَهِ" [1620]، قالَ أَبو عُمَرَ: هَذَا الحَدِيثُ هُوَ نَحْوُ قَوْلهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، ثُمَّ نُسِخَ هَدْا بِقَوْلهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، إلى آخرِ الآيةِ. وقَوْلُهُ في آخِرِ الحَدِيثِ: "وأنَ لَا تُنَازعُ الأَمْرَ أَهْلَهُ"، يَعْنِي: لَا تَخْرُجَ عَلَى الأَئِمَةِ فَنُقَاتِلُهُمْ، فَالسَّمْعُ والطَاعَةُ على المُسْلِمِينَ لِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمَرَهَمُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلَهُمُ الأَجْرُ، وعَلَى الرَّعِيّهِ الشُّكْرُ، وإنْ جَارُوَا فَعَلَيْهِمُ الوِزْرُ، وعَلَى الرَّعِيّةِ الصَّبْرُ والدُّعَاءُ إلى اللهِ في كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ. * وفِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: "كنَا إذا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ والطَاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطْعَتُمْ" [3601]، فَجَاءَتِ الرُّخْصَةُ في هَذَا الحَدِيثِ أنْ لَا يَتَكَلَّفَ الإنْسَانُ لإمَامِهِ مَا يَضُرُّ بهِ في دِينِهِ، ومَا كَانَ فيهِ طَاعَةٌ للهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُؤْمَرُ بهِ إذا أَطَاقَ ذَلِكَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في كِتَابهِ: (لَن [يَغْلِبَ] (¬1) عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) [1621]، يَعْنِي: قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة من الموطأ.

قالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: العُسْرُ المُكَرَّرُ ذِكرُهُ هَهُنَا وَاحِدٌ، لأَنَّهُ مُعَرَّفَة بالأَلَفِ واللامِ، واليُسْرُ الأَوَّلُ هُوَ غَيرُ اليُسْرِ الثَّانِي لأنَّهُمَا نَكِرَتَانِ، والنَّكِرَةُ في كَلَامِ العَرَبِ هُوَ شَيءٌ شَائِعٌ في جِنْسِهِ لَا يَخُصٌّ بهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، فَلِذَلِكَ قالَ: (لا يَغلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيَنِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200]، يَعْنِي: {اصْبِرُوا} عَلَى طَاعَةِ اللهِ، {وَصَابِرُوا}: صَابِرُوا المُشْرِكِينَ، {وَرَابِطُوا}، يَعْنِي: جَاهِدُوا في سَبيلِ اللهِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] والفَلَاحُ: البَقَاءُ في الجَنَّةِ، و (لَعَلَّ) مِنَ اللهِ حَتْمٌ وَاجِبٌ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَعْنَى نَهْي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أَرْضِ العَدُوِّ خِيفَةَ أَن تَقَعَ المَصَاحِفُ في أَيدِي العَدْوِّ فَيَحْرقُونَهَا، وإِنَّمَا هَذا واللهُ أَعْلَمُ عِنْدَ قِلَّةِ الجُيُوشِ، وخَوْفِ المُشْرِكينِ، وإنَّمَا عِندَ الكَثْرَةِ فَلَا بَأْسَ بِحِمْلَانِ المُصَاحِفِ في الغَزَوَاتِ. * قالَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ: نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَن قَتْلِ النِّسَاءِ والوِلْدَانِ [1625]، نَسَخَ حَدِيثَ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ الذي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ سَألَ النبيَّ عَنِ الخَيْلِ تُصِيبُ مِن أَوْلَادِ المُشْرِكينَ فتَقْتُلُهُمْ عِنْدَ الغَارَاتِ عَلَيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: "هُم مِنْهُمْ" (¬1)، فَجَاءَ في هَذا الحَدِيثِ أَوَّلًا إِبَاحَةِ قْتُلُهُمْ ثُمَّ نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَتلِ النِّسَاءِ والولْدَانِ، فَصَارَ هَذا الحَدِيثُ نَاسِخًا لِمَا قَبْلَهُ، وبِهَذا أَمَرَ أَبُو بَكرٍ يَزِيدَ بنَ أَبي سُفْيَانَ [1627]. قالَ عِيسَى: المُحَبِّسينَ أَنْفُسَهُم الذَّينَ نَهَى أَبُو بَكرٍ عَنْ قْتُلُهُمْ هُمُ الرُّهْبَانُ أَهْلُ الدِّيَارَاتِ، وأَهْلُ الصَّوَامِعِ الَّذِينَ قَد انْقَطًعُوا عَنِ النَّاسِ، فَهُؤَلاء يُتْرَكُون، ولَا يُعْرَضُ لَهُم جِزْيَةِ: مِن أَجْلِ أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَن مُقَاتَلَةِ المُسْلِمِينَ، ويُتْرَكُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3012)، ومسلم (1745).

لَهُم مِنْ أَمْوَالِهِم قَدْرُ مَا يَعِيشُونَ بهِ، وإنَّمَا فَعَلَ بِهِم أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ لَا شَوْكَةُ فِيهِم ولَا مُقَاتَلَةُ، وأَمَا الَّذينَ (فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤُوسِهِمْ) فَهُمُ الشَّمَامِسَةُ (¬1)، وهَؤُلَاءِ يُقْتَلُونَ إذا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، وأَمَّا الكَبِيرُ الذي لَا نِكَايَةَ عِنْدَهُ ولَا تَدْبِيرَ فإنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فإذا كَانَ مِمَّنُ يُدَبِّرُ أَمْرَ الحَرْبِ، ويُحرَّضُ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ فإِنَّهُ يُقْتَلُ، وقَدْ قتَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - درَيْدَ بنَ الصّمَّةِ، وَهُوَ ابنُ عِشْرينَ ومِائَةِ سَنَةٍ، لِتَحْرِيضِهِ أَصْحَابهِ على مُقَاتِلَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونَصْرِه بالحُرُوبِ (¬2). وقَوْلُ أَبي بَكَرٍ: (لَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا) قالَ ابنُ القَاسِمِ: إنَّمَا هَذَا في كُلِّ بَلَدٍ يَرْتَجِ المُسْلِمُونَ إذا غَنِمُوهُ البَقَاءَ فِيهَا وسُكْنَاهَا، فإنَّهُا لَا تُخْرَّبُ، ولَا تُقْطَعُ ثِمَارُهَا، وأَمَّا إذا كَانَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ المُسْلِمِينَ فَإنَّهَا تُخَرَّبُ مَسَاكِنُهَا، وتُقْطَعُ ثِمَارُهَا، وتُحْرَقُ زُرُوعُهَا. قالَ: ولَا بَأْسَ إذا عَسُرَ إخْرَاجُ العَسَلِ مِنَ اللُّجَجِ أَنْ يُغْرَّقَ في المَاءِ، لِكي يَخْرُجَ مِنْهُ النَّحْلُ، ولَا يُحْرَّقُ بالنَّارِ. * قالَ مَالِكٌ: لَيْسَ العَمَلُ على قَوْلِ عُمَرَ فِيمَنْ أَمَّنَ مُشْرِكًا فَقَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَّنَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلِ ذَلِكَ [1630]، وإنَّمَا فِيهِ العُقُوبةُ، يُعَاقِبُ السُّلْطَانُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَةً شَدِيدَة. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ هَذا القَوْلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" (¬3)، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرَ مَالِكٌ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ. * قالَ مَالِكٌ: وقَدْ يُقْتَلُ المُؤْمِنُ بالكَافِرِ إذا قَتَلَهُ قَتْلَ غِيلَةٍ أَو حَرَابَةٍ [3215]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: الحِرَابَةُ هِيَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، ومِنْهُ قِيلَ: قَوْمٌ حِرَابٌ إذا ¬

_ (¬1) الشمامسة جمع شماس، وهو من يقوم بالخدمة الكنسية، ومرتبته دون القسيس، المعجم الوسيط 1/ 494. (¬2) رواه البخاري (4068)، ومسلم (2498)، من حديث أبي موسى الأشعري. (¬3) رواه البخاري (111) من حديث علي - رضي الله عنه -.

قَطَعُوا الطَّرِيقَ، [واسْتَبَاحُوا] (¬1) الأَمْوَالَ والأَنْفُسَ، والغِيلَةُ: هُوَ أَنْ يَخْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ حتَّى يَأْمَنَهُ فَيُدْخَلَهُ بَيْتًا ثُمَّ يَقْتُلُهُ على مَالِهِ، فَفِي مِثْلِ هَذا كُلِّهِ يُقْتَلُ المُؤْمِنُ بالكَافِرِ، لأَنَّهُ نَقَضَ العَهْدَ الذي عَقَدَهُ المُسْلِمُونَ لأَهْلِ الذِّمَّةِ. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: واستباح، وما وضعته هو المناسب للسياق.

باب ما يعطى الرجل في سبيل الله، وجامع النفل

بابُ مَا يُعْطَى الرَّجُلُ في سَبِيلِ اللهِ، وجَامِعِ النَّفْلِ * قالَ مَالِكٌ: كَانَ الغَزُو إلى الشَّامِ إذْ كَانَ ابنُ عُمَرَ يُعْطِي الشَّيءَ في سَبيلِ اللهِ، ثُمَّ يَقُولُ للَّذِي يُعْطِيهِ إيَّاهُ: "إذا بَلَغْتَ بهِ وَادِي القُرَى فَشَأنُكَ بهِ) [1633]، أَي: افْعَلْ مَا شِئْتَ بهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ بِهِ أَوَّلَ مَوْضِعِ الجِهَادِ، فإذا بَلَغَ الرَّجُلُ بِمَا يُعْطَاهُ على أَنْ يُجَاهِدَ بهِ رَأْسَ مَغْزَاتِهِ، فَالَّذِي يُعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَصْنَعُ بهِ مَا شَاءَ. قالَ عِيسَى: وأَمَّا إذا أُعْطِيَ الرَّجُلُ الشَّيءَ لِيُنْفِقُهُ في الغَزْوِ فَأنْفَقَ، ثُمَّ فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ بِيَدِه فإنَّهُ يَجْعَلُهَا في سَبِيلِ اللهِ، وإنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ للغَزْوِ فَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ بِيَدِه بَعْدِ نَفَقَاتِهِ في غَزْوِهِ، فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رُوِيَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إني أَتَيْتُ لأُجَاهِدَ مَعَكَ وتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ إليهِمَا فأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا" (¬1)، فَلِهَذَا الحَدِيثِ قالَ مَالِكٌ: لَا يُغْزَى بِغَيْرِ إذْنِ الأَبَوَيْنِ، إلَّا أَنْ يَفْجَأَ العَدُوُّ مَدِينَةً للمُسْلِمِينَ ويُغِيرُوا عَلَيْهَا، فَوَاجِبٌ على النَّاسِ الخُرُوجُ إليهِم للمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ، ولَا يُسْتأذْنُ الأَبَوَانِ في مِثْلِ هَذَا. * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: رَوَى مَالِكٌ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ عَلَى الشَّكِّ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، أَو أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، ونُفِّلُوا بَعِيرًا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2528)، وابن ماجة (2782)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

بَعِيرًا" [1673]، وَرَواهُ [يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ] (¬1) عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إبَلًا كَثيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، [أَو أَحَدَ] (¬2) عَشَرَ بَعِيرًا، ونُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا". [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا نَفَّلَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الخُمُسِ، ولَمْ يُنَفِّلْهُمْ مِنْ خُمْسِ الخُمُسِ كَمَا قَالَ الشَافِعيُّ (¬3)، وذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ النَّفْلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ خُمْسِ الخُمُسِ، وسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: كَانَتِ السَّرِيَّةُ التِّي كَانَ فِيهَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عَشَرَةَ رِجَالٍ، فَغَنِمُوا مِائةً وخَمْسِينَ بَعِيرًا، فَلِّلنَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُمُسُهَا بِثَلَاثِينَ، البَاقِي مِائَةٌ وعِشْرُونَ مَقْسُومَةً على عَشَرَةِ رِجَالٍ، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، فإذَا قُسِمَتِ الثَّلَاثِينُ التِّي صَارَتْ للَّنَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْمَاسًا صَارَ في كُلِّ خَمْسِينَ مِنْهَا سِتَّةُ أَبْعُرَةٍ، فإذَا قُسِمَتِ السِّتَّةُ أَبْعُرَةٍ التِّي هِيَ خَمْسُ الخُمُسِ عَلَى عَشَرَةٍ لَمْ يَقَعْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ القَوْمِ العَشَرَةِ إلَّا أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ بَعِيرٍ فَلَمْ يُوَافَقْ ذَلِكَ. * قَوْلُهُ في الحَدِيثِ: "ونمِّلُوا بَعِيرًّا بَعِيرًا" فَوَجَبَ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفْلُ مِنْ جُمْلَةِ الخُمُسِ لَا مَنْ خُمْسِ الخُمُسِ، وقَدْ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيكُمْ) [1666]، يَعْنِي: أَنَّهُ يُنَفِّلُ مِنْهُ مَنْ رَأَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَيْسَ العَمَلُ بالمَدِينَةِ على قَوْلِ ابنِ المُسَيَّبِ: (أَنَّ النَّاسَ كانُوا يَعْدِلُونَ البَعِيرَ بعَشْرِ شيَاهٍ) [1638]، في قِسْمَةِ الغَنِيمَةِ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ العُرُوضِ المُخْتَلِفَةِ التي تَكُونُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بالقُرْعَةِ، لأَنَّهُ غَرَرٌ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ سَهْمُ أَحَدُهُمْ، فَلِذَلِكَ لَا يِجُوزُ (¬4). ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (أبو نجب)، وهو خطأ ظاهر. (¬2) جاء في الأصل: (اثني عشر)، وهو خطأ أيضًا. (¬3) ينظر قوله في كتابه: الأم 4/ 143. (¬4) نقل كلام ابن القاسم: ابن مزين في تفسير كتاب الجهاد، الورقة (17)، وابن عبد البر في الإستذكار 5/ 183.

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: والدَّلِيلُ على أَنَّ جَمِيعَ مَا في العَسْكَرِ شُرَكَاءُ في الغَنِيمَةِ قَوْلُهُ تعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41]، وسَائِرُ الأَجْنَاسِ الأَرْبَعَةِ لأَهْلِ العَسْكَرِ، وهَذا أَصْل في شِرْكَةِ القَوْمِ بأَبْدَانِهِمْ إذا كَانُوا في عَمَلٍ وَاحِدٍ. قالَ عِيسَى: بَيْعُ الغَنِيمَةِ بالنَّقْدِ، وقِسْمُ الثَّمَنِ في بَلَدِ العَدُوِّ أَعْدَلُ، إِلَّا أنْ لَا يَجِدُوا مَنْ يَبْتَاعَهَا مِنْهُمْ بالنَّقْدِ، فَيَفسِمُهَا الإمَامُ حِينَئِذٍ بَيْنَ أَهْلِ العَسْكَرِ بالقِيمَةِ، ولَا يَبِيعُهَا مِنَ النَّاسِ بالدَّينِ. وقالَ ابنُ نَافِع: إذا اضْطَرَّ الإمَامُ إلى بَيْعِهَا بالدَّيْنِ بَاعَهَا، وكَتَبَ الثَّمَنَ على المُشْتَرِينَ حتَّى يَخْرُجُوا إلى بَلَدِ الإسْلَامِ فَيَأْخُذُه مِنْهُمْ ثُمَّ يَقْسِمُهُ. قالَ: وبَيع الغَنِيمَةِ بأَرْضِ العَدُوِّ هُوَ الوَاجِبُ. لأَنَّهُمْ أَوْلَى بِرُخصِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ الذينَ لمَ يُشَاهِدُوا غَنِيمَتَهَا. * قالَ مَالِكٌ في الأَجِيرِ إذا حَضَرَ القِتَالُ وقَاتَلَ: قُسِمَ لَهُ [1639]. قالَ ابنُ القَاسِمِ: سَوَاءٌ قَاتَلَ قَبْلَ الغَنِيمَةِ أَو بَعْدَهَا فإنَّهُ يُقْسَمُ لَهُ إذا قَاتَلَ ولَو مَرَّةً وَاحِدَةً، فإنْ لَمْ يُقَاتَلْ ولَمْ يَحْضَرِ القِتَالَ لَمْ يُقْسَمْ لَهُ شَيءٌ مِنَ الغَنِيمَةِ.

باب مالا خمس فيه، إلى آخر باب السلب في النفل

بابُ مَالَا خُمُسَ فِيهِ، إلى آخِرِ بَابِ السَّلَبِ في النَّفْلِ قالَ ابنُ القَاسِمِ: إذا نَزَلَ العَدُوُّ عَلَى سَاحِلِ البَحَرِ وَزَعَمُوا أنَّهُمْ تُجَّار ولَمْ يَتَبَيِّنْ ذَلِكَ فِيهِم، فإنَّ الإمَامَ يَفْعَلُ فِيهِم مَا يُؤَدِّيهِ إليهِ اجْتِهَادُهُ، ومَا فِيهِ النَّظَرُ للمُسْلِمِينَ. قَدْ قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَنَائِمَ أَهْلِ النَّضِيرِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وأَرْبَعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَفَاءَهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ خَيْلٍ، ولَا رِكَابٍ، فَقَسَمَها على حَسَبِ مَا أَدَّاهُ إليهِ اجْتِهَادُهُ ولَمْ يُخَمِّسْهَا، فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَا أَفَاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى المُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ المُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ. قالَ: ويَكُونُ إلى الإمَامِ قَتْلُ هَؤُلَاءِ إنْ شَاءَ إنْ لَمْ يَكُونُوا تُجَّارًا، فإنْ كَانُوا تُجَّارًا لَمْ يُقْتَلُوا، وإنْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَخْذِ المَاءِ والزَّادِ فَلِلْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُمْ مِنَ الخُرُوجِ إلَّا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِهِم بَعْضَهَا، فَإنْ لَمْ يَكُونُوا تُجَّارًا فَهُمْ حَلَالٌ لِمَنْ وَجَدَهُمْ مِنَ الأَئِمَةِ، يَفْعَلُ فِيهِم مَا يَشَاءُ مِنَ القَتْلِ والسَّبِيِّ وغَيْرِ ذَلِكَ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على إبَاحَةِ أَكْلِ طَعَامِ المُشْرِكِينَ بأَرْضِ العَدُوِّ بِغَيْرِ إذْنِ الإمَامِ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ: "أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا في زَمَانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا وعَسَلًا فَلَمْ يُخَمِّسْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وتَرَكَهُ لأَهْلِ العَسْكَرِ" (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا صُرِفَ إلى عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ فَرَسَهُ وعَبْدَهُ قَبْلَ قَسْمِ الغَنِيمَةِ [1648]، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَالُهُ ومِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ، فإذا قُسِمَ مِثْلُ ذَلِكَ ولَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2701)، وابن حبان (4825)، بإسنادهما إلى نافع به.

لِمُسْلِم ثُمَّ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ البَيْع ثُمَّ لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا بالثَّمَنِ، لأَنَّهُ بِيعَ ذَلِكَ باجْتِهَادِ الإمَامِ فَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَحِلَّ اسْتِرْقَاقُ أُمّ الوَلَدِ وإنْ قُسِمَتِ الجِزْيَةُ التِّي فِيهَا، وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في أُمِّ وَلَدَةٍ: "أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا" (¬1)، وإذا بِيعَتْ أُمُّ وَلَدِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ في الغَنِيمَةِ فَدَاهَا الإمَامُ، فإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَدَاهَا سَيِّدُهَا، ويُتْبَعُ بثَمَنِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُفْدِيهَا بهِ في الوَقْتِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ أَبو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيَّ يُسَمَّى فَارِسَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منْ أَجْلِ شيَجَاعَتِهِ، وإنَّمَا نَفَّلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - درْعَ المُشْرِكِ الذي كَانَ أَبو قتَادَةَ قَدْ قتَلَهُ بَعْدَمَا بَرَدَ القِتَالُ، على سَبيلِ الإجْتِهَادِ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَعْطَاهُ إيَّاهُ بإقْرَارِ الرَّجُلِ الذي كَانَ الدِّرْعُ عِنْدَهُ، وهَذا حُكْمُ كُلِّ مُقِرٍّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ لَهُ في يَدَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إليهِ [1654]. وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: السَّلَبُ مِنَ الخُمُسِ، وَيكُونُ ذَلِكَ في أَوَّلِ مَغْنَمٍ، وأَخْذُهُ على وَجْهِ الإجْتِهَادِ مِنَ الإمَامِ، ولَا يَجُوزُ نَفْل قَبْلَ الغَنِيمَةِ، وإنَّمَا قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" بَعْدَمَا بَرَدَ القِتَالُ، وهَذا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، لِقَوْلهِ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا"، ومَنِ ادَّعَى أَنَّهُ فِيمَا مَضَى وفِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ على ذَلِكَ، وإِنَّمَا فَعَلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِحُنَيْنٍ بَعْدَمَا بَرَدَ القِتَالُ، ويَدُلُّ على أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بهِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَازِمًا في المُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ الدِّرْعَ أَبَا قَتَادَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بغَيْرِ يِمِينٍ، ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطَى مِثْلُ هَذا مِنَ الخُمُسِ إذا رَأَى الإمَامُ ذَلِكَ مَصْلَحَة، فَالاجْتِهَادُ في هَذا مُؤْتَنَفٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ في غَيْرِ يَوْمِ حُنَيْنٍ، ولَا فَعَلَهُ أَبو بَكْرٍ ولَا عُمَرُ، فَلَيْسَ السَّلَبُ للقَاتِلِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ حتَّى يَقُولَهُ الإمَامُ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ على وَجْهِ الإجْتِهَادِ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة (2516)، من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. (¬2) نقل كلام ابن أبي زيد القيرواني: ابن عبد البر في التمهيد 23/ 246، وفي الإستذكار 5/ 206.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَعْنَى قَوْلِ أَبي قتَادَةَ: (فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ المَوْتِ)، يُرِيدُ: أَنُّهُ وَجَدَ عَضَّةَ المَوْتِ مِنْ شِدَّةِ ضَمِّهِ ذَلِكَ المُشْرِكُ لَهُ حِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ ضَرْبِ [أَبي] (¬1) قتَادَةَ إيَّاهُ بالسَّيْفِ. وقَوْلُهُ: (فَبعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بهِ مَخْرَفًا)، يَعْنِي: ابْتَعْتُ بِثَمَنِهِ حَائِطَ نَخْل في بَنِي سَلِمَةَ (¬2). [يُخْتَرَفُ] (¬3) مِنْهُ التَّمْرُ، يُرِيدُ: يُجْتَنَى بهِ التَّمْرَ. وقَوْلُهُ: (لأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ في الإسْلَام)، يِعْنِي: اكْتَسَبْتُهُ في الإسْلَامِ، واكْتِسَابُ المَالِ الحَلَالِ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وقَدْ قَالَ النبيُّ لعَمْروِ بنِ العَاصِ: "نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ للرَّجُلِ الصَّالِحُ" (¬4). قالَ ابنُ القَاسِمِ لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ الإمَامُ بَعْدَ أن بَرَدَ القِتَالُ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، أُخْرِجُهُ لَهُ مِنَ الخُمُسِ)، إذا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الإمَامِ على وَجْهِ الإجْتِهَادِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَا أُحِبُّ للإمَامِ أَنْ يَبْعَثَ الخَيْلَ ويَجْعَلَ لِمَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ شَيْئًا جُزْءَ مَعْلُومًا مِنَ الغَنِيمَةِ، لأَنَّ في ذَلِكَ فَسَادُ نِيَّاتِ النَّاسِ، وكَرِهَهُ مَالِكٌ. وقَالَ: لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ في مِثْلِ هَذا الوَجْهِ المَكْرُوهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ رِجَالٌ لَمْ يَقْصِدُوا بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ قَصْدَ أُولَئِكَ، وإنَّمَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ رَغْبَة في الجِهَادِ، ونكِهَايَةُ للعَدُوّ، لَمْ [يَكُنْ] (¬5) بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ بَأْسٌ (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة لابد منها. (¬2) سلمة -بكسر اللام- هم بطن من الأنصار، وهم قوم أبي قتادة. (¬3) جاء في الأصل: يحترب، وهو خطأ. (¬4) رواه أحمد 1974، والبخاري في الأدب المفرد (299)، بإسنادهما إلى عمرو بن العاص. (¬5) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وقد أشار الناسخ إلى سقطا ما في الهامش ولكنه لم يظهر في التصوير (¬6) ينظر قول ابن القاسم ونقله عن مالك في: المدونة 3/ 59.

قالَ مَالِكٌ: وقَدْ فَعَلَهُ بُكَيْرِ بنِ الأَشَجِّ حِينَ نَادَى أَمِيرَ الجَيْشِ الذي كَانَ فِيهِم بُكَيْرٌ: (مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وكَذَا)، فَتَبَادَرَ القَوْمُ للقِتَالِ حِرْصًا مِنْهُمْ للأَخذِ مَا قَدْ جُعِلَ لَهُمْ، فَأَلقَى بُكَيْرٌ سِلَاحَهُ، وامْتَنَعَ مِنَ الخُرُوجِ مَعَهُمْ. قالَ مَالِكٌ: ثُم فَكَّرَ سَاعَةً وأَخَذَ سِلَاحَهُ، وقَالَ: (اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا لِهَذَا خَرَجْتُ، وإنَّمَا خَرَجْتُ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَكَ)، ثُم تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وكَانُوا غُزَاةً في البَحْرِ. قالَ مَالِكٌ: وذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَيقَظَ مِن نَؤمِهِ قَبلَ خُرُوجهِ إلى القِتَالِ، فقَالَ: (إني رَأَيْتُ في مَنَامِي أَنِّي أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، وسُقِيتُ فِيهَا لَبَنَاً، ولأُجَرِّبَن ذَلِكَ)، قالَ: فَاسْتَقَاء، فَفَاءَ لَبَنًا، وكَانُوا بِمَوْضِعٍ لَا لَبَنَ فِيهِ. قالَ مَالِكٌ: وهَذِه قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، ويُكْرِمُ اللهُ مَنْ أَطَاعَهَ بِمَا شَاءَ (¬1). * قالَ عِيسَى: كَانَ صَبِيغٌ يُتَّهَمُ بِرَأي الخَوَارِجِ وأَهْلِ الأَهْوَاءِ، فَسَألَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ عَنِ الذَّارِيَاتِ، والمُرْسَلَاتِ، والنَّازِعَاتِ، فَأمَرَ بهِ فَضُرِبَ بِجَرَائِدِ النَّخِيلِ حتَّى [أُدْمِي] (¬2) جَسَدُهُ، فَلَمَّا هَمَّ أَن يَبْرَأَ أَعَادَ عَلَيْهِ الضَّرْبَ، فقالَ لَهُ صَبِيغٌ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَقَتلٌ مُرِيحٌ، وإِن كُنْتَ تُرِيدُ دَوَائِي فَقَدْ بَلَغَنِي الدَّوَاءَ، فَخَلَّى عَنْهُ ونَفَاهُ إلى العِرَاقِ، وَكَتَبَ إلى أَبي مُوسَى أَلَّا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِن مُجَالَسَتِهِ، فَلَما حَسُنَت حَالَهُ وظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ كَتَبَ بِذَلِكَ أَبو مُوسَى إلى عُمَرَ بنِ الخطاب، فأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُخْلِي بَيْنَهُ وبَيْنَ مُجَالَسَةِ النَّاسِ، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ للَّذِي سَأَلهُ عَنِ الَأَنْفَالِ: مَا هِيَ؟ فَأجَابَهُ ابنُ عَبَّاسِ، ثُم سَأَلهُ عَنْهَا مَرَّةً ¬

_ (¬1) هذه القصة نقلها ابن مزين في تفسير كتاب الجهاد، الورقة (9 ب) عت ابن القاسم قال: بلغني عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، فذكرها بنحوها، ورواها البيهقي في شعب الإيمان 7/ 51، من طريق آخر بنحوه. (¬2) جاء في الأصل، وفي تفسير ابن مزين الورقة (112)، وما وضعته هو المناسب للسياق، وكذا في الإصابة 3/ 458، وفي سنن الدارمي (144): دمى جسده.

أُخْرَى سُؤَالَ [مُتَعَنِّتٍ] (¬1)، فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (مَثَلُكَ مِثْلُ صَبِيغٍ الذي سَأَلَ مُتَعَنِّتًا، فَضَرَبهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ) [1655]. فَفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: أَنَّهُ مَنْ سَأَلَ عَالِمًا عَنْ مَسْأَلةٍ فَجَاوَبَهُ عَنْهَا أَنْ يَقْنَعَ بِجَوَابِهِ، ولَا يَتَعَسَّفَ في سُؤَالِهِ، فَمَنْ فَعَلَ هَذا وأَكْثَرَ مِنْهُ عُوقِبَ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ اعْتَرَضَ في سُنَّةِ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَصحَابُهُ، وَوَقَفَ عِنْدَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِمَا لَمْ يَقُلْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ أُدِّبَ حتَّى يَتُوبَ، كَمَا تَابَ صَبِيغٌ، ورَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ. * * * ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (معنت)، وما وضعته هو المناسب للسياق.

باب القسم للخيل، وذكر الغلول، وباقي أبواب الجهاد

بابُ القَسْمِ للخَيْلِ، وذِكْرِ الغُلُولِ، وبَاقِي أَبْوَابِ الجِهَادِ حدَّثنا أَبو جَعْفِرٍ، قالَ: حدَّثنا ابنُ الأَعْرَابِيِّ، قالَ: حدَّثنا أَبو دَاوُدَ، قالَ: حدَّثنا أَحْمَدُ بنُ [حَنْبَل] (¬1)، قالَ: حَدَّثنا أَبو مُعَاوِيةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، لَهُ سَهْم، وسَهْمَانِ للفَرَسِ" (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ هَذَا الحَدِيثَ في المُوَطَّأ، وقَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ هَذَا. قالَ: والبَرَاذِينُ بِمَنْزِلَةِ الخَيْلِ إذا أَجَازَهَا الوَالِي، وَهِيَ القَوِيَّةُ اللَاحِقَةُ بالخَيْلِ في قُوَّتهَا، وحَمْلِهَا للرَّكْضِ، فَهَذهِ يُسْهَمُ لَهَا كَمَا يُسْهَمُ للخَيْلِ (¬3). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للَّذِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ بَيْنَهُمْ غَنِمَتَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: "لَوْ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ سَمَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، ولَا جَبَانًا، ولَا كَذَّابَاً" [1666]. قالَ عِيسَى: يُقَالُ لِمَا نَبَتَ في [...] (¬4) جِبَالِ مَكَّةَ: السَّمَرُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: لَوْ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: خليل، وهو خطأ. (¬2) رواه أبو داود (2733) عن أحمد بن حنبل به. (¬3) نقل ابن مزين قول مالك في تفسير كتاب الجهاد، الورقة (2 أب). (¬4) توجد هنا كلمة رسمت هكذا: (شعرا)، وهي كذلك في تفسير ابن مزين، ولم أجد لها معنى، ولعلها: (صحراء)

غَنِمْتُمْ مِثْلَ عَدَدِ تِلْكَ السَّمَرِ إبِلًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ، (ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، ولَا جَبَانَا، ولَا كَذَابًا) (¬1). قالَ عِيسَى: لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الأَنْبيَاءِ البُخْلُ، ولَا الجُبْنُ، وقَدْ يَكُونَ المُؤْمِنُ بَخِيلًا وَجَبَانًا، ولَا يَكُونُ كَدَّابًا، لأَنَّ الَكَذَّبَ مُجَانِبٌ للإيمَانِ. وقَوْلُهُ في هَذَا الحَدِيثِ: (أَدَّوُا الخَائِطَ والمِخْيَطَ)، يَعْنِي: أَدُّوا الخَيْطَ والإِبْرَةَ مِنَ الغَنِيمَةِ ومَا قَلَّ مِنَ الغُلُولِ، (فإنَّ الغُلُولَ عَارٌ، ونَارٌ، وَشَنَارٌ على أَهْلِهِ)، فَالعَارُ: العَيْبُ، والشَّنَارُ: الفَضِيحَةُ. قالَ عِيسَى: هَذَا كُلُّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ، ومَعْنَاهُ العَيْبُ. وقَوْلُهُ: (شِرَاك مِنْ نَارٍ)، يَعْنِي: إذا أَخَذَهُ الرَّجُلُ مِنَ المَغْنَمِ عَلَى وَجْهِ الغُلُولِ فَهُوَ حَرَامٌ وإن قَلَّ ثَمَنُهُ، ومَا أَخَذَهُ الرَّجُلُ مِنَ المَغْنَمِ على غَيْرِ وَجْهِ الغُلُولِ، وكَانَ ثَمَنُهُ يَسِيرًا وكَانَ مُحْتَاجًا إليهِ، قالَ مَالِكٌ: كَالنَّعْل يَحْتَذِيهِ الرَّجُلُ، أَو الجِلْدُ يُغَشيه إكَافَهُ، وعِيدَانٌ يَعْمَلُ مِنْهَا مَشَاجِبَ (¬2)، فَلَا بَأْسَ بأَخْذِ مِثْلَ هَذا اليَسِيرِ إذا احْتَاجَ إليه، ولَمْ يَأْخُذهُ عَلَى وَجْهِ الغُلُولِ. * إنَّمَا كَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ على الغَالِّ إعْظَامَا مِنْهُ لِشَأْنِ الغُلُولِ، ولِكَيْ يَرْتَدِعَ بِذَلِكَ مَنْ هُمَّ أَنْ يَغُلَّ [1667]. * ومَعْنَى تَكْبِيرِه عَلَى القَبيلَةِ الذي وُجِدَ العِقْدُ في بَرْدَعَةِ أَحَدِهِمْ كَمَا يُكَبَّرُ عَلَى المَيِّتِ [1669]، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ هَلَكُوا بِسَببِ الغُلُولِ الذي كَانَ فِيهِم، فَصَارُوا بِذَلِكَ كَالمَوْتَى الذينَ يُصَلَّى عَلَيْهِم، ويُدْعَى لَهُمْ، وهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الغُلُولِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: السَّهْمُ الغَرِبُ هُوَ الذي يُرْمَى بهِ إلى جَمَاعَةِ النَّاسِ، وَلَا يُقْصَدُ بهِ وَاحِدٌ بِعَيْيهِ. ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى بن دينار: ابن مزين في تفسير كتاب الجهاد، الورقة (13 ب) (¬2) المشاجب جمع مِشْجَب، وهو ما يعلَّق عليه الثياب، المعجم الوسيط 1/ 483.

وأَقْسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مِدْعَمٍ أَنَّ الشَّمْلَةَ التِّي أَخَذَهَا غُلُولًا لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا لِعِلْمِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ [1669]. * ولَمْ تَحِلَّ الغَنَائِمُ لِغَيْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وإنَّمَا كَانَت الغَنِيمَةُ تُجْمَعُ فتنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فتَحْرِقَهَا، فَأحَلَّهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِهَذِه الأُمَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] يَعْنِي: أَنَّهُ سَبَقَ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ لِهَذِه الأُمَّةِ أَن أَحَلَّ لَهُمُ الغَنَائِمَ، ثُمَّ قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، فَكَانَتِ الغَنِيمَةُ في أَوَّلِ الإسْلَامِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ثُمَّ قَسَمَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، إلى آخِرِ الآيةِ، وصَارَتِ الأَرْبَعَةُ الأَخْمَاسِ للَّذِينَ غَنِمُوهَا، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ" [1666]، فَالخُمُسُ مَرْدُودٌ إلى مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، فَمِنْهُ يُعْطَى غَازِي المُسْلِمِينَ، وقَاضِيهِم، وصَاحِبُ أَعْمَالِهِمْ التّي لَا غِنَاءَ بالمُسْلِمينَ عَنْهَا، وعَنْ مَنْ يَقُومُ لَهُمْ فِيهَا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ: (مَا ظَهَرَ الغُلُولُ في قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أَلْقَى في قُلُوبهِمِ الرُّعْبَ، ولَا فَشَا الزِّنَا في قَوْمٍ قَطّ إِلَّا كثرَ فِيهِمُ المَوْتُ [1670]، وذَكَرَ الحَدِيثً إلى آخِرِه، فَفِي هَذا بَيَانٌ: أَنَّ المَعَاصِي إذا فَشَتْ في النَّاسِ فَلَمْ تُغَيَّرْ كَانَ لِكُلِّ صنْفٍ مِنْهَا عُقُوبَةً يُعَاقَبُ بِهَا كُلُّ مَنْ فَشَت فِيمَا بَيْنَهُمْ إذا لَمْ يُغَيِّرُوهَا، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فَدَلَّ بِهَذا أَنَّ العُقُوبَةَ قَدْ تُصِيبُ الظَّالِمَ وغَيْرَهُ إذا لَمْ تُغَيَّر المَعَاصِي علَى أَهْلِهَا، فتكُونُ عُقُوبَةً للظَّالِمِ، وكَفَّارَةً لِغَيْرِهِ، وإذا عُمِلَتِ المَعَاصِي سرًّا لَمْ تَضُرَّ إِلَّا لأَصْحَابِهَا. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَنْ قُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبا أَنَّهُ تُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ إلَّا الدَّيْنَ [1676]، يَحْتَمِلُ هَذا الحَدِيثُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ المَقْتُولُ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدّي بهِ دَيْنَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حتَّى قُتِلَ، وَمَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَلَقِيَ اللهَ وَهُوَ ظَالِمٌ لأَخِيهِ بِمَطْلِهِ دَيْنَهُ، وأَمَّا مَنْ كَانَ في عُسْرَة وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدّي مِنْهُ دَيْنَهُ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ، وقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -:

"مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، ومَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَالِيَّ " (¬1)، فَهَذا هُوَ الدَّيْنُ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ [أَدَائُهُ] (¬2) إلى صَاحِبهِ، فَمَتَى قُتِلَ هَذا في سَبيلِ اللهِ كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وكَانَ دَيْنُهُ في ذِمَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ [أبي] (¬3) النَّضْرِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ مِنَ الصَلَوَاتِ، فَقَالَ: مَنْ هَهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ؟ فأَجَابَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فقالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ حُبسَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ دُونَ الجَنَّةِ، فإنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقْضُوهُ عَنْهُ فَافْعَلُوا، فَفَعَلُوا" (¬4)، ولَمْ يَرْوِ يحيى بنُ يحيى في المُوطَّأ هَذا الحَدِيثَ. وفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مَنْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ بَعْدَ مَوْتهِ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّبعَةُ، كَمَا قَدْ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتهِ فَتَنْفَعُهُ الصَّدَقَةُ في قَبْرِهِ، وُيؤْجَرُ عَلَيْهَا. * قَوْلُهُ في البَقِيعِ: (مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بها مِنْهَا) [1978]، يَعْنِي: مَقْبَرَةَ المَدِينَةِ، فَفِي هَذا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ المَدِينَةِ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الدُّنْيَا. * وقَدْ تَمَنَّى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ بالمَدِينَةِ، وأَنْ يَمُوتَ شَهِيدًّا [1680]، فَأَعْطَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا تَمَنَّى مِنَ الشَّهَادَةِ، ودُفِنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَبي بَكْرٍ بالمَدِينَةِ، وقتَلَهُ مَجُوسِيٌّ لَا يَحْتَجّ عِنْدَ اللهِ بسَجْدَةٍ سَجَدَهَا لَهُ، فَفِي هَذا دَلِيلٌ على أَنَّ مَنْ سَجَدَ للهِ مُؤْمِنًا بِهِ مُصَدِّقًا بِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَحْتَجّ بِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ، وَلَا يُخَلَّدُ في النَّارِ، وإنْ وَاقَعَ الكَبَائِرَ، وَيَصْدُقُ هَذا قَوْلُهُ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّهٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيِمَانٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2268)، ومسلم (1619)، من حديث أبي هريرة. (¬2) جاء في الأصل: أداه، وهو خطأ ظاهر. (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة لابد منها. (¬4) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (86 أ)، نسخة تركيا. (¬5) رواه البخاري (22)، ومسلم (184)، من حديث أبي سعيد الخدري.

* قَوْلُ عُمَرَ: (كَرَمُ المُؤْمنِ تَقْوَاهُ) [1681]، يُرِيدُ: أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وأنَّ الحَسَبَ هُوَ الدِّينُ، وأَنَّ مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ فَقَدْ تَمَّتْ مُرُؤَتَهُ. و (الغَرَائِزُ): هِيَ الطِّبَاعُ التي يُطْبَعُ عَلَيْهَا ابنُ آدَمَ. وَقْولُهُ: (والقَتْلُ حَتْفٌ مِنَ الحُتُوفِ)، يَعْنِي: هُوَ مَنِيةٌ مِنَ المَنَايَا. (والشَّهِيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ)، يُرِيدُ: أَنَّهُ مَنْ قَاتَلَ إيِمَانًا واحْتِسَابًا حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ. * قالَ أَبو عُمَرَ: تَرْجَمَ مَالِكٌ في المُوَطَّأ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيءِ يُجْعَلُ في سَبِيلِ اللهِ) [1686]، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مَا جُعِلَ في سَبيلِ اللهِ في غَيْرِ السَّبيلِ، كَمَا كَرِهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لِمَنْ لَهُ نِصْفُ جَمَلٍ في سَبيلَ اللهِ، وَلِصَاحِبهِ نِصْفُ الجَمَلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِذَلِكَ الجَمَلِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: (احْمِلْنِي وَسُحَيْمًا) [1687]، فَسَمَّي زِقَّهُ سُحَيْمًا، طَمَعًا مِنْهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِظَهْرِ جَمَلٍ وَحْدَهُ، وإنَّمَا كَانَ لَهُ نِصْفُ جَمَل، فتَفَرَّسَ عُمَرُ في لَفْظِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ، فقَالَ لَهُ: (أُنْشِدُكَ اللهَ، أَسُحَيْم زِقٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ)، والسُّحَيْمُ تَصْغِيرُ أَسْحَم، وَهُوَ الأَسْوَدُ، فَلَمْ يُعْطْهِ عُمَرُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلى أَخْذِهِ سَبيلٌ، وكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ صَحِيحَ الفِرَاسَةِ، جَلِيلَ القَدْرِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعِندَ المُسْلِمِينَ. قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيْهِ: "إنَّ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وقَلْبِهِ" (¬1)، (وَلَمْ يَلْقَهُ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجَّا غَيْرَ فَجِّهِ) (¬2)، وَوَافَقَ رَبَّهُ جَلَّ وَعَزَّ في ثِلَاثٍ، وَوَافَقَهُ رَبُّهُ جَلَّ وَعَزَّ في ذَلِكَ (¬3)، إلى غَيْرِ مَا شَيءٍ يَطُولُ الكِتَابُ بِبَعْضِ فَضَائِلِه، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَعَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحْسَانٍ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ مِنْ خَالَاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرَّضَاعَةِ، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3682)، من حديث ابن عمر. (¬2) رواه البخاري (3120)، ومسلم (2396)، من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬3) رواه البخاري (393)، من حديث أنس.

وَهيَ أختُ أُمِّ سُلَيْمٍ امْرَأةِ أَبي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ، وفِي حَدِيثِها فَضْلُ غَزَاةِ البَحْرِ [1689]. قَوْلُهُ: (يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ)، يَعْنِي: يَرْكَبُونَ ظَهْرَ هَذا البَحْرِ للغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وفِي هَذَا الحَدِيثِ: إبَاحَةُ الغَزُو في البَحْرِ بالنِّسَاءِ، وَوَصْفُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صِفَةَ شُهَدَاءِ البَحْرِ والبَرِّ في الجَنةِ أَنَّهُمْ مُلُوك على الأَسِرَّةِ. وأَجَابَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- دَعْوَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّ حَرَامٍ فَجَعَلَها مِنْ شُهَدَاءِ البَحْرِ، وذَلِكَ أَنَّهَا صُرِعَتْ عَنْ دَابَّتَهَا بِقُبْرُسٍ (¬1) على سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَاتَتْ ودُفِنَتْ في ذَلِكَ المَكَانِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مُعَاذٍ: (الغَزْوُ غَزْوَانِ) [1693]، يَعْنِي: هُمَا غَزْوَانِ، مُبَارَكٌ، فِيهِ ومَذْمُومٌ. (فَالَّذِي تُنْفَقُ فِيهِ الكَرِيَمَةُ)، يُرِيدُ: الدَّهَبَ والفِضَّةَ، مِن كَسْبِ طَيِّبٍ. (وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ)، يَعْنِي: يُحْسِنَ الإنْسَانُ فِيهِ مُعَاشَرَةَ رَفِيقِه. (ويُطَاعُ فِيهِ ذُو الأَمْرِ)، يَعْنِي: يُطَاعَ فِيهِ أَمِيرُ الجَيشِ فِيمَا أَمَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَهَذا الغَزْوُ بَرَكَة عَلَى صَاحِبهِ كُلهِ، ومَا كَانَ ضِدُّ هَذا فَهُوَ غَرو مَذْمُومٌ لَا يَرْجِعُ صَاحِبُهُ مِنْهُ سَالِمًا مِنَ الوِزْرِ كَمَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ. قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "الخَيْلُ في نَوَاصِيهِا الخَيْرُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ"، يَعْنِي: الخَيْلَ المُعَدَّةِ في سَبيلِ اللهِ للجِهَادِ عَلَيْهَا في نَوَاصِيهَا الخَيْرِ، وَهُوَ الأَجْرُ والغَنِيمَةُ، بِخِلَافِ الخَيْلِ المُعَدَّةِ للفِتَنِ التي رُبِطَتْ فَخْرًا وَرِيَاءً ونَوَاءً لأَهْلِ الإِسْلَامِ. وفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الجِهَادَ مَاضٍ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وفِي غَيْرِ المُوَطَا أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الجِهَادُ مَاضٍ مِنْذُ بَعَثَ اللهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى آخِرِ عِصَابَةٍ مِنْ ¬

_ (¬1) قبرس -بضم أوله وسكون ثانيه ثم ضم الراء، وسين مهملة- هي الجزيرة في بحر الروم الذي يسمى اليوم بالبحر الأبيض المتوسط، ينظر: معجم البلدان 4/ 305.

أُمَّتِي تُقَاتِلُ الدَّجَّالَ" (¬1)، فَهَذا الحَدِيثُ يُقَوّي الأَؤلَ أَنَّ الجِهَادَ يَبْقَى في هَذِه الأُمَّةِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ. * [قالَ] عَبْدُ الرحْمَنِ: في مُسَابَقَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الخَيْلِ [1696]، مِنَ الفِقْهِ: رِيَاضَةُ الخَيْلِ المُعَدَّةِ للجِهَادِ، وأَنَّ المُسَابَقَةَ بَيْنَ الخَيْلِ سُنَّة، وأَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ تُجْرَى في المُسَابَقَةِ الأَمْيَالَ. * قالَ يَحْيىَ بنُ مُزَيْنِ: بَيْنَ الحَفْيَاءِ وبَيْنَ الوَدَاعِ خَمْسَةُ (¬2) أَمْيَالِ، وبَيْنَ الثَّنِيَّةِ ومَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ نَحْو مِنْ مِيل، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ثَنِيَّةُ الوَدَاعِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَّعَ بِهَا أَصْحَابَهُ في خُرُوجِهِ إلى بَعْضِ أَسْفَارِهِ (¬3) [1696]. وَجَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للخَيْلِ التِّي [لَمْ] (¬4) تُضَمَّرْ غَايَةً في الجَرِي دُونَ غَايَةِ التَّي قَدْ أُضْمِرَتْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُضَمَّرَةَ أَقْوَى عَلَى الجَرِي مِنَ التَّي لَمْ تُضَمَّرْ، وفي هَذِه إشَارَ إلى النَّاسِ لَا يَسْتَوُونَ في العِبَادَاتِ، وَحَسَبُ كُلِّ إنْسَانِ أَنْ يَتكَلَّفَ مِنْهَا مَا يُطِيقُ ويَدُومُ عَلَيْهِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ: (لَا بَأْسَ بِرِهَانِ الخَيْلِ إذا دَخَلَ فِيهَا مُحَلِّلٌ) [1679]، يَعْنِي: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَرَاهَنَ الرَّجُلَانِ فَيُخْرِجُ هَذَا مِنْ مَالِهِ سَبْقًا دِينَارًا أَو مَا أَشْبَهَهُ، ويُخْرِجُ الثَّانِي مِنْ مَالِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيُدْخِلَانَ مَعَ أَنْفُسِهِمَا رَجُلًا بِفَرَسِهِ لَاحِقًا بالفَرَسَيْنِ اللَّذَيْنِ للرَّجُلَيْنِ المُخْرِجَيْنِ للسَّبْقِ، وَلَا يُخْرِجُ صَاحِبُ ذَلِكَ الفَرَس شَيْئَا مِنْ مَالِهِ، وَهَذا هُوَ المُحَلّلُ، ثُمَّ يُجْرُونَ خَيْلَهُمْ، فإنْ سَبَقَ أَحَدُ الفَرَسَيِنِ اللًّذَيْنِ أَخْرَجَا السَّبْقَ بَيْنَهُمَا كَانَ مَا أَخْرَجَا مِنْ مَالِهِمَا لِمَن سَبَقَ بِفَرَسِهِ مِنْهُمَا، وإنْ سَبَقَ الفَرَسُ الذِي لَمْ يُخْرِجْ صَاحِبُهُ شَيْئًا أَخَذَ السَّبْقَيْنِ جَمِيعًا. ¬

_ (¬1) رواه الداني في السنن الواردة في الفتن 3/ 750 من حديث الحسن البصري مرسلا، ورواه أبو داود (2532) وغيره من وجه آخر عن أنس بنحوه، بإسناده ضعيف أيضًا. (¬2) عند ابن مزين: سبعة أميال. (¬3) نقل ابن مزين هذا في تفسير كتاب الجهاد، الورقة (7 ب) عن يحيى بن يحيى. (¬4) صوبه الناسخ في الحاشية، وكذا هو في الموطأ.

قالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ علَى هَذَا العَمَلُ (¬1)، وإنَّمَا الذي يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ سَبْقًا كَمَا يَفْعَلُ الإمَامُ، فإنْ سَبَقَ بِفَرَسِهِ كَانَ السَّبْقُ الذِي أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ لِصَاحِبِ الفَرَسِ المُصْلِ إذا كَانَتْ خَيْلًا كَثيرَةً، وَالمُصْلِي مِنَ الخَيْلِ هُوَ الذي يَكُونُ رَأْسُهُ عَلَى صِلَى الفَرَسِ السَّابِقِ في حِينِ جَرَى الخَيْلُ وصَلَى الفَرَسُ أَصْلَ إلْيَتِهِ، فإذا لَمْ يَكُنْ إلَّا فَرَسٌ جَاعِلٌ على السَّبْقِ وآخَرُ، فَسَبَقَ جَاعِلُ السَّبْقِ كَانَ السَّبْقُ طُعْمَةً، وإنْ سَبَقَ فَرَسُ الذِي لَمْ يُخْرِجْ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا أَخَذَ السَّبْقَ الذِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وفِي رِوَايةِ ابنِ بُكَيْرٍ سُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ سَمِعْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ"" فقالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقِيلَ لَهُ: مَا تَفْسِيرُهُ؟ فقالَ: أَمَّا (الجَلَبُ) فَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّفَ الفَرَسُ عَنِ الجَرِي في السَّبْقِ، فَيُحَرِّكُ وَرَأَهُ الشَّيءَ يَسْتَحِثُّ بهِ، فَيَزِيدُ في جَرْيهِ فَيَسْبِقُ، فَهَذا هُوَ (الجَلَبُ)، وأما (الجَنَبُ) فَإنَّهُ يُجْنِبُ مَعَ الفَرَسِ الذِي يُسَابِقُ بهِ فَرَسٌ آخَرُ، حَتَّى إذا دَنَى مِنْ مَوْضِعِ الغَايَةِ تَحَوَّلَ رَاكِبُهُ عَلَى الفَرَسِ المَجْنُوبِ فَسَبَقَ عَلَيْهِ وأَخَذَ السَّبْقَ (¬3). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَرْوِ يَحْيىَ بنُ يَحْيىَ في مُوطَّئِهِ هَذِه الحِكَايةِ عَنْ مَالِكٍ. ¬

_ (¬1) ينظر قول مالك في كتاب: النوادر والزيادات 3/ 434. والمصلي سمي بذلك لأن جحفلته على صلى السابق، وهو أصل ذنبه، والجحفلة لذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير كالشفة للإنسان، ينظر: النوادر والزيادات، والمعجم الوسيط 1/ 108. (¬2) نقل قول مالك: ابن مزين في تفسير كتاب الجهاد (15 أ). (¬3) لم أجد هذا النص في موطأ ابن بكير، في النسختين المختلفتين التي في حوزتي، ولكن نقله ابن عبد البر في التمهيد 14/ 91 من رواية القعنبي، ولم أجد هذا النص في النسخة المطبوعة من هذه الرواية. والحديث رواه أبو داود (2581)، والترمذي (1123)، والنسائي 6/ 111، من حديث عمران بن الحصين، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

*قَوْلُ اليَهُودِ حِينَ خَرَجَتْ إلى النَّخِيلِ بِمَسَاحِيهَا ومَكَاتِلِهَا، والمَكَاتِلُ: القَفَفُ (¬1)، فَصَبَّحَتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا رَأَؤْهَا قَالُوا: (مُحَمَّدٌ وَالخَمِيسَ)، يَعْنُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالعَسْكَرُ، وَهُوَ الخَمِيسُ، فَصَبَّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ في دِيَارِهِمْ آمِنُونَ [1699]. قَالَ عِيسَى: وَالعَمَلُ علَى أَنْ لَا يُغَارَ عَلَى العَدُوِّ بِلَيْلٍ. وقَالَ مَالِكٌ: وَلَا يُقَاتَلُ العَدُوُّ حَتَّى [يُدْعَى] (¬2) إلى الإسْلَامِ، فإنْ أَبُوا مِنَ الإسْلَامِ مِنْهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِم الجِزْيَةُ، فإنْ أَبُوا مِنْهَا قُوتلُوا، إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الإسْلَامُ، وَعَرَفُوا مَا يُقَاتَلُوا عَنْهُ، فإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ وَلَا يُدْعَوْنَ. قالَ غَيْرُهُ: كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأَهْلِ خَيْبَرَ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ دَعَاهُمْ إلى الإسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَبُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُجِيبُوهُ إليه. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ سَبَبُ إخْرَاجِ عَمْروِ بنِ الجَمُوحِ وعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ الأَنْصَارِيَيْنِ مِنْ قُبُورِهِمَا بَعْدَ سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْ يَوْمِ دُفِنَا بالبَقِيعِ يَوْمَ أُحُدٍ، القَنَاةَ التِّي جُلِبَتْ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ إلى المَدِينَةِ (¬3)، فَوَقَعَ حَفْرُهُا بِجَنْبِ قَبْرَيْهِمَا، فَلَمَّا خُشِيَ عَلَيْهِمَا السَّيْلُ أُخْرِجَا مِنْ ذَلِكَ القَبْرِ، لِيُدْفَنَا في غَيْرِهِ، فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، وَهَذا مِنْ بَرَكَةِ الشَّهَادَةِ في سَبِيلِ اللهِ [1704]. وقالَ غَيْرُهُ: في هَذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَرْضَ لَا تَأْكُلُ لُحُومَ الشُّهَدَاءِ. * * * تَمّ كتابُ الجِهَادِ بِحَمْدِ الله وعَوْنهِ، يتلُوه كتابُ الحجِّ إن شاء الله تعالى * * * ¬

_ (¬1) القفف، هي: الزنبيل الكبير ينقل فيها التراب وغيره، ينظر: تحفة الأحوذي 5/ 131. (¬2) جاء في الأصل: يدعو، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬3) كذا قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو وهم، فإن شهداء أحد لم يدفن أحد منهم بالبقيع، وإنَّما دفنوا في ساحة المعركة بأحد، وهذا مما لا خلاف فيه.

تفسير كتاب الحج لم يفسره ابن مزين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسيرُ كتَابِ الحَجِّ لَمْ يُفَسِّرْهُ ابن مُزَيْنٍ (¬1) بابُ الغُسْلِ للإحْرَامِ ومَا يَلْبَسَهُ المُحْرِمُ حدَّثنا أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، قالَ: حَدَّثنا أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ، قالَ: حَدَّثنا ابنُ وَضَّاحٍ، قالَ: حدَّثنا أَبو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قالَ: حدَّثَنَا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمَانَ، [عَن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عُمَر] (¬2) قالَ: حدَّثنا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ [قَالَتْ] (¬3): (نَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكْرٍ بالشَّجَرَةِ، فَأمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أبا بَكْير أَنْ يَأمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ") (¬4). * [قال] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَائِشَةَ [1150]. قَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ يَصِحُّ للقَاسِمِ سَمَاعٌ مِنْ أَسْمَاءَ، وحَدِيثُهُ عَنْهَا في المُوطَّأ مُرْسَلٌ، والصَّحِيحُ فِيهِ كَمَا رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ. ¬

_ (¬1) أي أن ابن مزين لم يفسره في كتابه تفسيرًا مفصلًا، وإنما ذكر فيه بعض المسائل، والدليل على ذلك أنه فد وصلنا جزء من تفسيره وفيه تفسيره لكتاب الحج، وقد ضمن فيه ابن مزين كثيرا من المسائل المنقولة عن أئمة المالكية. (¬2) زيادة من مصادر تخريج الحديث. (¬3) في الأصل: قال، وهو خطأ ظاهر. (¬4) رواه مسلم (1209)، وأبو داود (1743)، وابن ماجة (2911)، بإسنادهم إلى عبدة بن سليمان به.

فِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: حَجُّ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ وإنْ كانَتْ حَامِلًا، والغُسْلُ عِنْدَ الإهْلاَلِ بالحَجِّ، وفي أَمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - النُّفَسَاءِ بالغُسْلِ عِنْدَ الإحْرَامِ دَلِيلٌ على تَأْكِيدِ الغُسْلِ عِنْدَ الإحْرَامِ، إذْ يُؤْمَرُ بهِ مَنْ لَا يُصَلِّي، وَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ أَثِمَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ في ذَلِكَ فِدْيَةٌ. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَمَّا رَوَاهُ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ، عَنْ [ابن] (¬1) أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لأَزْوَاجِهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: (هَذِه، ثُمَّ ظُهُورُ الحُصُرِ)، فَقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هَذا حَدِيثٌ شِيعِيٌّ كَذِبٌ لا يَصِحُّ، وإنَّمَا أَرَادَ بهِ نَاقِلُهُ الطَّعْنَ عَلَى عَائِشَةَ بِخُروجِهَا في دَمِ عُثْمَانَ، وحَجُّهَا بَعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ لِتَسْمَعُ هَذا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ تُخَالِفُهُ (¬2). * [قال] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى يحيى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن إبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ حُنَيْنٍ [1154]، وَلَمْ يَذْكُر ابنِ بُكَيْرٍ نَافِعًا في هَذا المُسْنَدِ، وإنَّمَا قالَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَن إبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَهَذا هُوَ الصَّحِيحُ (¬3). [قال] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اخْتَلَفَ ابنُ عَبَّاسٍ وَالمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ وَهُمَا بالأَبْوَاءِ، وَهِيَ بِقُرْبِ الجُحْفَةِ، فِي المُحْرِمِ يَغْتَسِلُ مِنَ الحَرِّ، هَلْ يَغْسِلُ رَأْسَهُ أَمْ لَا يَغْسِلُهُ؟ ¬

_ (¬1) زيادة لابد منها، وهي موجودة في مصادر الحديث. (¬2) الحديث رواه أبو داود (1722)، وأحمد 5/ 218، والبيهقي في السنن 4/ 327، بإسنادهم إلى زيد بن أسلم به. وأشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/ 74 إلى أن إسناده صحيح، وقال: وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة لقصد ذم أُمّ المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عند عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على ان المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة ... إلخ. وقوله: (ظهور الحُصُر) منصوب على تقدير (ثم الْزَمْنَ)، والحصر جمع حصير، وهو ما يفرش في البيوت، والمراد أن يلزمن بيوتهن ولا يخرجن منها. (¬3) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (59 أ)، نسخة تركيا.

فأَفْتَاهُمَا أَبو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ وَهُوَ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ، يَعْنِي: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ بَيْنَ عَمُودَي البِئْرِ التِّي هِيَ بالجُحْفَةِ، بأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. * وقالَ عُمَرُ لِيعَلْى بنِ مُنَيَّةَ: (أُصْبُبْ عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ لَهُ يَعْلَى: أترِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي؟) يَعْنِي: أترِيدُ أنْ يُقَالَ: أَنَّ يَعْلَى بنَ مُنَيَّةَ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الُمحْرِمَ [يَغْسِلُ] (¬1) رَأْسَهُ في غَيْرِ غُسْلِ الجَنَابَةِ، فقال له عمر: (أُصْبُبْ، فَلَنْ يَزِدْهُ الماءَ إلَّا شَعَثًا)، يَعْنِي: أَنَّ الشَّعَثَ مَأْمُور بهِ في الحَجِّ، فإذَا بَلَّ الشَّعْرُ بالمَاءِ وَلَمْ يَمْشَطُ شَعَثٌ عِنْدَ ذَلِكَ [1155]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِتَرْكِ ابنِ عُمَرَ رَأْسِهِ فِي غَيْرِ غُسْلِ الجَنَابَةِ إذا كَانَ مُحْرِمًا [1157]، لأَنَّهُ مِنْ شَدَائِدِه على نَفْسِهِ، والغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مَأْمُور بهِ، وَمِثْلُهُ الغُسْلُ للوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمَنْ تَرَكَهُمَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ. * قالَ أَبو عُمَرَ: مَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ قالَ: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ يُرِيدُ: مَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ في حَالِ إحْرَامِهِ، فقالَ: "لَا تَلْبَسُوا القُمُصَ، ولَا السَّرَاوِيلاَتِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه [1160]. سَأَلْتَ أبا مُحَمَّدٍ عَنِ الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، [عَنْ عَمْروِ بنِ دِينَارٍ] (¬2)، عَنْ جَابِرِ بنِ زَيْدٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ، وَالخُفُّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ" (¬3)، فقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: انَفْرَدَ جَابِرُ بنُ زَيْدٍ بِهَذا الحَدِيثِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وَهَذا حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابنِ عَبَّاسٍ بالحِجَازِ، ولِهَذَا أَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وجَابِرُ بنُ زيدٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، ولَا يُعْرَفُ هَذا الحَدِيثُ بالمَدِينَةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: (يسغل)، وهو خطأ ظاهر. (¬2) زيادة من مصادر تخريج الحديث. (¬3) رواه مسلم (1178)، وأبو داود (1829)، والنسائي 5/ 332، بإسنادهم إلى حماد بن زيد به.

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَنْ لَمْ يَجدْ مِئْزَرَاً وَكَانَتْ مَعَهُ سَرَاوِيلُ شَقَّهَا واتَّزَرَ بِهَا، وَمَنْ لَم يَجِدِ النَّعْلَيْنِ قَطَعَ الخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَمَنْ لَبِسَ خُفَّيْنِ أَو سَرَاوِيلَ مِنْ ضرُورَةٍ افْتَدَى. * [قالَ] عَبْدُ الرحمن: قَوْلُ عُمَرَ لِطَلْحَةَ حِينَ رَأَى عَلَيْهِ الثَّوْبَ المَصْبُوغَ بالمَدَرِ، والمَدَرُ: المُغْرَةُ (¬1)، فقَالَ لَهُ عُمَرُ: (إِنَّكُمْ أيُّهَا الرَّهْطُ، أَئِمَةٌ يَقْتَدِي بكُمُ النَّاسُ) [1164]، ثُمَّ ذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا. فِي هَذَا مِنَ الفِقْهِ: قَطْعُ الذّرَائِعُ التِّي تُلَبِّسُ على النَّاسِ، وذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِعُلَمَائِهِمْ في كُلِّ مَا رَأَوْهُمْ يَصْنَعُونه، فَمَنْ كَانَ إمَامًا مُقْتَدَى بهِ لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ أَحْوَالِهِ، وتَرْكُ مَا يَلْتَبسُ عَلَى النَّاسِ، وَأَصْلُ قَطْع الذَّرَائِعِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، وذَلِكَ أَنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ للنبِّي - صلى الله عليه وسلم - إذا أَرَادُوا مُخَاطَبَتَهُ: رَاعِنَا سَمْعَكَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ هَذِه الكَلِمَةُ بِمَنْزِلَةِ السَّبِّ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا خَاطَبُوهُ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ قَالُوا لَهُ: رَاعِنَا بِسَمْعِكَ يا رَسُولَ اللهِ، فأَعْلَمَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مَذْهَبَ اليَهُودِ في هَذِه الكَلِمَةِ، وأَنْزَلَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} فَقَطَعَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذا مَا كَانَت اليَهُودُ يَتَذَرَّعُونَ بهِ إلى لسَبِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ حِينَ نزلَتْ هَذِه الآيةُ: (لَئِنْ سَمِعْتُ أَحَدَاً مِنَ اليَهُودِ يَقُولُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَاعِنَا لأَقْتُلَنَّهُ) (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تَلْبَسَ النِّسَاءُ فِي حَالَةِ الإحْرَامِ مِنَ الثِّيَابِ المُعَصَفَّرِ بالزُّعْفَرَانِ، والمَصْبُوغِ بالوَرْسِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَنتفِضُ على الجِلْدِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الطِّيبِ الذي نَهَى المُحْرِمُ أَنْ يَسْتَعِمَلَهُ فِي حَالَةِ إحْرَامِهِ. ¬

_ (¬1) المغرة: طين أحمر، وهو الذي يصبغ به الثياب، والمدر -بالتحريك- قطع الطين اليابس، والمراد به: الطين الأحمر الذي يصبغ به الثوب، فيصير أحمر، ينظر: تحفة الأحوذي 8/ 75. (¬2) رواه الطبري 12/ 133 من حديث ابن عباس.

* قالَ مَالِكٌ: مَا فَوْقَ الذَّقْنِ مِنَ الوَجْهِ والرَّأْسِ لا يُغَطِّيهِ، كَمَا قَالَ ابنُ عُمَرَ [1172]، وَمَن غَطَى وَجْهَهُ في حَالِةِ إحْرَامِهِ واسْتَدَامَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ، فإنْ لَمْ يَسْتَدِمْ ذَلِكَ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ. * [قالَ] عَبْدًالرَّحْمَنِ: إنَّمَا قَالَ مَالِكٌ هَذا مِنْ أَجْلِ مَا رَوَاهًالفَرَافِصَةُ بنُ عُمَيْرِ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ يُغْطِّي وَجْهَهُ وَهوَ مُحْرِمٌ [1171]، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذا مَالِكٌ فإذا فَعَلَ المُحْرِمُ مِنْ ذَلِكَ الشَيءَ اليَسِيرَ وَلَمْ يَسْتَدِمْ تَغْطِيةَ وَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيءٌ، فإنِ استَدَامَ تَغْطِيةَ وَجْهِهِ وَطَالَ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْهِ الفِدْيَةُ. قالَ مَالِكٌ: إحْرَامُ الرَّجُلِ في وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، وإحْرَامُ المَرْأةِ في وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، ولَا بَأْسَ أَنْ تَسْتُرَ المَرْأَةُ وَجْهَهَا إذا كَات شَابَة، فترْسِلُ المَقْنَعَةَ مِنْ أَعْلَى رَأسَهِا عَلَى وَجْهِهَا إذا أَرَادتْ بِذَلِكَ السِّتْرَ مِنَ النَّاسِ (¬1). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا كَرِهَ ابنُ عُمَرَ للمُحْرِمِ لِبْسَ المِنْطَقَةَ [1168]، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَعْقِدُ بَعْضهَا بِبعْضٍ، فَصَارَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الفبَاسِ الذي نُهِيَ عَنْهُ الُمحْرِمُ، وَرَخصَ ابنُ المُسَيَّبِ في لِبَاسِهَا للمُحْرِمِ إذا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَتُهُ، مِنْ أَجْلِ حَاجَتِهِ إلى ذَلِكَ [1169]، وقَالَ ابنُ بُكَيْر في رِوَايتِهِ: إذا جَعَلَ في طَرَفِهَا معَيْرَيْنِ يَعْقِدُ بَعْضَهَا بِبَعْضِ (¬2)، يُرِيدُ: إذا لَم يُدْخِلِ السير في [ثَقْبِ] (¬3) المِنْطَقَةِ. * وَرَوَى يحيى بنُ يحيى: إذا جَعَلَ في ظَرَفَيْهَا سُيُورَةً [1169] وَرِوَايةُ ابنُ بُكَيْرٍ أَبْيَنُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: صِفَةُ لِبَاسِ المُحْرِمِ المِنْطَقَةِ هوَ: أَنْ يَشُدَّهَا لَابِسُهَا على جِلْدِه، ولَا يَشُدُّهَا عَلَى مِئْزَرِهِ، لأَنَّ ذَلِكَ يَشْبَهُ اللِّبَاسَ الذِي نُهِيَ عَنْهُ المُحْرِمُ. ¬

_ (¬1) نقل قول مالك: ابن عبد البر في التمهيد 15/ 123. (¬2) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (60 أ)، نسخة تركيا. (¬3) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واستدركته من الإستذكار 4/ 224.

* سَألْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَن حَدِيثِ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَن ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ رَجُلًا وَقَصَت بهِ نَاقتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلُوهُ، وَكَفَّنُوهُ، ولَا تُخَمِّرُوا وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، فإن اللهَ يَبْعَثَهُ يومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا" (¬1)، فقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: انْفَرَدَ بِهَذا الحَدِيثِ ابنُ جُبَيرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وإنْ صحَّ هَذا الحَديثُ فَهُوَ خَاص لِذَلِكَ الرّجُلِ، مِن أَجْلِ أَنَّهُ مَاتَ وَقَد اتقَطَعَ عَنْهُ العَمَلُ، وَقَد كَفَّنّ ابنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَخَمَّرَ رَأْسَهُ حِينَ مَاتَ وَهُوَ مُخرِمٌ [1173] وَبِهَذا أَخَذَ مَالِكٌ في المُحْرِمِ إذا مَاتَ أَنَّهُ يُغَسَّلُ، وَيُكفَّنُ، ويُغَطَى رَأسُهُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، عَن نَافع، عَنِ ابنِ عُمَرَ أَن النبيَ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَنتَقِبُ المَرأَةُ المُحرمَةُ، وَلَا تَلبَسُ القَفازَيْنِ" (¬2)، وأَوْقَفَ مَالِكٌ هَذا الحَدِيثَ في المُوطَّأ على ابنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَبْلُغْ بهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -[1175]. وفِيهِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ المَرْأَةَ إذا سترتْ يَدَيْهَا في قَفَّازَيْن، أَو سَتَرتْ وَجْهَهَا وَهِيَ مُحرِمَة مِن غيرِ ضَرُورَةٍ أَنَّ عَلَيبها الفِدْيَةَ. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1206)، والنسائي (2852)، وأحمد 1/ 215، بإسنادهم إلى هشيم به. (¬2) رواه البخاري (1741)، بإسناده إلى الليث به.

باب ترك الطيب في الحج، وذكر المواقيت والإهلال

بابُ تَرْكِ الطِّيب في الحَجِّ، وَذَكْرِ المَوَاقِيتَ والإهْلَالِ * رَوَى النَّخَعِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى بِيضِ الطِّيبِ في مِفْرَقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ" (¬1)، وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كنتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَقَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ" [1178]. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: هَذا خَاصٌّ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "ولَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزُّعْفَرانُ ولَا الوَرْسُ" [1160] وأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَعْرَابِيَّ أَنْ يَغْسِلَ صُفْرَةَ طِيبٍ عَنْهُ إذ بَقِيتْ ظَاهِرَةً عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ [1179] وَكَرِهَ عُمَرُ الطِّيبَ للمُحْرِمِ، وَرَدَّ مُعَاوِيةَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةَ إلى المَدِينَةِ، وأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِي أُمَّ حَبيبَةَ التِّي كَانَتْ طَيَّبَتْهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لِتَغْسِلَ عَنْهًالطِّيبَ الذي كَانَتْ طَيَّبَتْهُ، وَلِكَي يُعْلَمُهَا [أنَّ الطِّيبَ] (¬2) في حَالَةِ الإحْرَامِ خَاصٌّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[11/ 80] وأَمَرَ كَثيرَ بنَ الصَّلْتِ حِينَ تَطَيَّبَ [وقَدْ لَبَّدَ رَأْسَهُ] (¬3) أَنْ يَذْهَبَ إلى شُرْبَةٍ فَيَغْسِلُ عَنْهُ الطِّيبَ [1181] وقالَ ابنُ عُمَرَ حِينَ كَفَّنَ ابْنَهُ: (لَوْلَا أَنّا حُرُمٌ لَطَيبْنَاهُ) [1173] [وهَذه] (¬4) الآثَارُ كُلُّهَا تَدُلُّ على أَنَّ الطِّيبَ في حَالَةِ الإحْرَامِ خَاصٌّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1190) وغيره بإسناده إلى إبراهيم النخعي به. (¬2) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل بسبب مسحه، واجتهدت بما رأيته مناسبًا للسياق. (¬3) ما بين المعقوفتين مسح في الأصل، وقد اجتهدت بما يتناسب مع سياق ما جاء في الموطأ. (¬4) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، وقد استظهرته بما يتناسب مع سياق الكلام.

وقَالَ [تَبَارَكَ وتَعَالَى] (¬1): {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] والتَّفَثُ هُوَ: ضِدُّ الطِّيبِ في حَالَةِ الإحْرَامِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يُرَخِّصْ [مَالِكٌ بَعْدَ] (¬2) رَمْي جَمْرَةَ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَتَطَيَّبَ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الإفَاضَةِ، كَمَا قَالَ سَالِمُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وَرَخَّصَ في ذَلِكَ خَارِجَةُ بنُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ للوَليدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ [1182]، فإنْ تَطَيَّبَ الرَّجُلُ بَعْدَ رَمْيهِ وَحِلَاقِةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ للإفَاضَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيءٌ، لِفُتْيَا خَارِجَةَ بِذَلِكَ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَوَاقِيتُ الحَجِّ رُخْصَةٌ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُمَّتِهِ وَرِفْقًا مِنْهُ بِهِمْ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قِيلَ في تَفْسِيرِ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] أَنَّ إتْمَامَهَا أَنْ يَهِلَّ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ بَلَدِهِ وَمَسْكَنِهِ، فَرَخَّصَ في ذَلِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأُمَّتِهِ، وَوَقَّتَ لَهُمْ مَوَاقِيتَ يَهِلُّونَ مِنْهَا بالحَجِّ والعُمْرَةِ، وَلَو أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ محرِمًا بالحجِّ مِنْ بَلَدِهِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِطُولِ السَّفَرِ، ولامْتِنَاعِهِ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الحَلَالُ [1186]. قالَ مَالِكٌ: فَلَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ المَوَاقِيتَ مِمَّنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَو عُمْرَةٍ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قُلْتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: مَا وَجْهُ إهْلَالِ ابنِ عُمَرَ مِنَ الفُرُعِ وَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةَ؟ [1188] فقالَ لِي: قَصَدَ ابنُ عُمَرَ إلى الفُرُعِ في حَاجَةٍ عُرِضَتْ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَتْ قَامَتْ لَهُ نِيَّة في السَّيْرِ إلى مَكَّةَ، فَأَهَلَّ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ مِمَّنْ هُمْ قُدَّامُ المَوَاقِيتِ إلى مَكَّةَ، يُهِلُّونَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ. قُلْتُ لَهُ: فَمَا وَجْهُ إهْلَالِهِ مِنْ إيلْيَاءَ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ؟ [1189]، فَقَالَ لِي: إنَّمَا أَهَلَّ مِنْهَا بالحَجِّ مِنْ أَجْلِ الفِتْنَةِ التِّي كَانَتْ بالحِجَازِ، وكَانَ النَّاسُ يُحِبُّونَ أَنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين أصابه المسح، ووضعت ما يتناسب مع السياق. (¬2) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل بسبب مسحه، واستظهرته بما رأيته مناسبًا للسياق.

يُصَيِّرُوا إليهِ الخِلَافَةَ، فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَخَلَ في إحْرَامِهِ، وَرَأَهُمْ أَنَّهُ في عَمَل مِنْ أَعْمَالِ الآخِرَةِ، لِكَي يَسْلَمَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ. وأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنَّ مَنْ اهَلَّ بِحَج أو عُمْرَةٍ مِنْ قَبْلِ مِيقَاتِهِ أنَّهُ يَلْزَمُهُ الإحْرَامُ. قُلْتُ لَهُ: فَحَدِيثُ المُعَافَى بنِ عِمْرَانَ، [عن أَفْلَحِ بنِ حُمَيْدِ]، عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّهَا قَالَتْ: "وَقَّتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ" (¬1)، فقالَ لِي: الصَّحِيحُ في هَذا تَوْقِيتُ عُمَرَ لأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتِ عِرْقٍ، في إيَّامِهِ افْتُتِحَ العِرَاقُ (¬2). قالَ مَالِكٌ: مَنْ جَاوَزَ مِيقَاتَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ مِمَّنْ يُرِيدُ الحَجَّ أَو العُمْرَةَ رَجَعِ إليهِ إنْ كَانَ قَرِيبًا فَأَحْرَمَ مِنْهُ، وإنْ بَعُدَ وَخَشِيَ فَوَاتَ الحَجِّ أَهَلَّ مِنْ مَكَانِهِ، وكَان عَلَيْهِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتهِ مِيقَاتِهِ غَيْرِ مُحْرِمٍ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا اعْتَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الجِعْرَانَةِ عَامَ الفَتْحِ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ حُنَيْنٍ لِكَيْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا، فأحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ الجِعْرَانَةِ، وَهِيَ في الِحلِّ قَرِيبٌ مِنَ الحَرَمِ، وَكَانَ هَذا قَبْلَ فَرْضِ الحجِّ [1190]. * ومِنْ هَذا الحَدِيثِ قَالَ العُلَمَاءُ: إنَّهُ لا يَعْتَمِرُ أَحَدٌ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ حِينَ اعْتَمَرتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَكَةَ إلى الحِلِّ فتَهِلَّ مِنْهُ بِعُمْرَة [1147] لِكَي تَجْمَعَ في عُمْرَتها بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1739) بإسناده إلى المعافى به، وما كان ما بين معقوفتين من مصادر تخريج الحديث. (¬2) نقله ابن عبد البر في الإستذكار 4/ 243، ورد عليه بقوله: هذه غفلة من قائل هذا القول، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق بالعقيق، كما وقت لأهل الشام الجحفة، والشام كلها يومئذ ذات كفر كما كانت العراق يومئذ ذات كفر، فوقت لأهل النواحي لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرها من البلدان ... إلخ.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: الإهْلَالُ رَفْعًالصَّوْتِ بالتَّلْبيَةِ، إجَابَةُ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] , فَدكَر أَنَّهُمْ يَأتُونَ مَكَّةَ رِجَالًا وَرُكْبَانًا. ومَعْنَى (لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ) أَيْ: إجَابَةً لَكَ بَعْدَ إجَابَةٍ. ومَعْنَى: (سَعْدَيْكَ) أَيْ: مُسَاعَدَةً لَكَ بَعْدَ مُسَاعَدَة عَلَى أَدَاءِ مَا أَوْجَبْتَهُ لَكَ عَلَيْنَا مِنْ فَرْضِ الحَجّ، فَالحَجُّ فَرْضٌ علَى المُسْتَطِيعِينَ البَالِغِينَ الأَحْرَارِ، مَرَّةً في العُمُرِ، وقَدْ سَأَلَ الأَقْرَعُ بنُ حَابسٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نزلَ فَرْضُ الحَجِّ، فقالَ: "يا رَسُولَ اللهِ، الحَجّ في كُلِّ عَامٍ أَو مَرَّةً وَاحِدَةً في العُمُرِ؟ فقالَ: بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ مُتَطَوِّع" (¬1). قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: السَّبيلُ إلى الحَجِّ الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ التِّي يَأْمَنُ الإنْسَانُ في سُلُوكِهَا على نَفْسِهَا، والزَّادُ المَبْلَغُ، والقُوَّةُ علَى الوُصُولِ إلى مَكَّةَ، إمَّا رَاجِلًا، وإمَّا رَاكِبًا مَعَ صَحَّةِ البَدَنِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى أَشْعَثُ بنُ سَوَّارٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى شَرَفِ البَيْدَاءِ أَهَلَّ" (¬2). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: شَرَفُ البَيْدَاءِ هُوَ الشَّرَفُ الذي قُدَّامُ ذِي الحُلَيْفَةِ في طَرِيقِ مَكَّةَ، وأَنْكَرَ ابنُ عُمَرَ هَذا الحَدِيثِ، وقَالَ: (بَيْدَاؤكمْ هَذِه التِّي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا، مَا أهَلَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -يَعْنِي بالحَجِّ- إلَّا مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ، ومَنْ قَالَ: إنَّهُ إنَّمَا ابْتدَأَ الإهْلَالَ مِنَ البَيْدَاءِ فَقَدْ كَذَبَ، وإنمَا بَدَأ بالإهْلَالِ مِنْ عِنْدِ بَابِ المَسْجِدِ حِينَ اسْتَوتَ بهِ رَاحِلَتِهِ) [1194]. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1721)، والنسائي (1620)، وابن ماجه (2886)، من حديث ابن عباس. (¬2) رواه أبو داود (1774)، والنسائي (2931)، بإسنادهما إلى أشعث به.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بِهَذَا الحَدِيثِ أَخَذَ مَالِكٌ، أَنَّ الإهْلَالَ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ بأَثرِ صَلَاةِ نَافِلَةٍ لِمَنْ مَرَّ بِذِي الحُلَيْفَةِ. * قَوْلُ عُبَيْدِ بنِ جُرَيْجٍ لإبنِ عُمَرَ: (رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، ثُمَّ ذَكَرَ القِصَّةَ إلى آخِرِهَا، لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أصْحَابكَ يَصْنَعُهَا، فَقَالَ: مَا هِيَ يا ابنَ جُرَيْجٍ؟ قالَ: رَأيْتُكَ لا تمَسَّ مِنَ الأَرْكَانِ إلَّا اليَمَانِيّيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النّعَالَ السَّبْتِيّةِ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبغُ بالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إذا كنتَ بمَكَةَ أَهَل النَّاسُ إذا رَأَوُا الهِلَالَ وَلَمْ تَهِل أَنْتَ حَتى كَانَ يَوْمُ التَّروِيةِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: أمَّا الأَرْكَانُ فَإنّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يمَسَّ إلَّا اليَمَانِيّينِ) [1195] , يَعْنِي: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسَّ مِنْ أَرْكَانِ البَيْتِ في طَوَافِهِ إلَّا اليَمَانِيَّيْنِ، يَعْنِي الرُّكْنَ الذي فِيهِ الحَجَرُ الأَسْوَدُ، والرُّكْنُ الذي يَتَّصِلُ بهِ مِنْ نَاحِيةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَهُمَا الرُّكْنَانُ اليَمَانِيَّانِ، وإنَّمَا قِيلَ لَهُمَا اليَمَانِيَّيْنِ لأَنَّهُمَا مِنْ نَاحِيةِ اليَمَنِ. وقَوْلُهُ: (وأَما النّعَالُ السَّبْتِيَّةُ)، يَعْنِي: المَحْلُوقَةَ الشَّعَرِ، (فإني رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُهَا حِينَ يَتَوضَّأُ وَالبَلَلُ بِرِجْلَيْهِ). (وأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبَغُ بِهَا ثِيَابَهُ لا شَعْرَهُ)، لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الشَّيْبِ إلى أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُغَيِّرَ شَيْبَهُ بِصُفْرَةٍ. وَقَوْلُهُ: (وأَمَّا الإهْلَالُ، فإني لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَهِلّ حَتَّى تَنْبَعَثَ بهِ رَاحِلَتَهُ)، يُرِيدُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَهَلَّ بالحَجِّ حِينَ شَرَعَ في عَمَلِ الحَجِّ وتَوَجَّهَ إليهِ، فَكَذَلِكَ أَفْعَلُ أَنَا إذا كَانَ وَقْتَ خُرُوجِي مِنْ مَكَّةَ لِعَمَلِ الحَجِّ أَهْلَلْتُ بهِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: الذي يأْخُذُ بهِ مَالِكٌ في وَقْتِ إهْلَالِ أَهْلِ مَكَةَ بالحَجِّ ومَنْ كَانَ مُقِيمًا بِهَا مِنْ غَيْرِهِم أَنْ يَهلُّوا بالحَجِّ إذا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ، كَمَا قالَ عُمَرَ لأَهْلِ مَكَّةَ: (يا أَهْلَ مَكةَ، مَا شَأنُ النَّاسِ يَأتونَ شُعْثًا وأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ؟ أَهِلُّوا إذا رَأَيتُمُ الهِلَالَ) [1222] , يَعْنِي: أَهِلّوا بالحَجِّ إذا رَأَيْتُم هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ، وإنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِهَذا أَنْ يَنَالَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ صُعُوبةِ الإحْرَامِ مِثْلَ مَا يَنَالُ أَهْلُ الآفَاقِ الَّذِينَ يَهِلُّونَ بالحَجِّ مِنَ المَوَاقِيتِ.

* [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ آمرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بالتَّلْبِيَةِ" [1199] , قَالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: يَرْفَعُونَهَا على قَدْرٍ، ولَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثْرَةُ الإلْحَاحِ بِذَلِكَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (لا تُرْفَعُ الأَصْوَاتُ بالتَلْبيَةِ في المَسَاجِدِ إلَّا في مَسْجِدِ مَكَّةَ، ومَسْجِدِ مِنَى) [1201] , قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ المَسْجِدَيْنِ بإبَاحَةِ التَّلْبيَةِ فِيهِمَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ لأَنَّهُمَا بُنِيَا للتَّلْبِيَةِ بالحَجِّ والصَّلَاةِ فِيهِمَا، وسَائِرُ المَسَاجِدِ إنَّمَا بُنِيتْ للصَّلَاةِ فِيهَا، فَلِذَلِكَ لا تُرْفَعُ فِيهَا الأَصْوَاتُ بالتَّلْبيَةِ ولَا غَيْرَهَا, ولِهَذا كَرِهَ العُلَمَاءُ رَفْعَ الأَصْوَاتِ في المَسَاجِدِ عِنْدَ المُنَاظَرةِ في العِلْمِ، وَلَمْ تَرْفَعِ المَرْأةُ صَوْتَهَا بالتَّلْبِيَةِ، لأَنَّهَا تُشْغِلُ نُفُوسَ النَّاسِ بِصَوْتهَا حِينَ إحْرَامِهِمْ.

باب إفراد الحج، وقرانه، ومتى تقطع التلبية في الحج

بابُ إفْرَادِ الحَجِّ، وقِرَانِهِ، وَمَتَى تقْطَعُ التَّلْبِيَةُ في الحَجِّ قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: ثَبَتَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَفْرَدَ الحَجَّ، وَسُمِّيتْ حَجَّتُهُ حَجَّةَ الوَدَاعِ، لأَنَّ فِيهَا وَدَّعَ النَّاسَ، وأَفْرَدَ الحَجَّ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمَانُ، وأَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ في حَجَّتِهِ القِرَانَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وَالتَمْتُعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، وأَفْرَدَ هُوَ - صلى الله عليه وسلم -. حَدَّثنا أَبو مُحَمَّدٍ البَاجِيُّ (¬1)، قالَ: حَدَّثنا أَحْمَدُ بنُ [عَمْروٍ] المَكِّي (¬2)، قالَ: حَدَّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ العَدَنِيُّ (¬3)، قالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ، فقالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهِلَّ مِنْكُمْ بِحَج وَعُمْرَة فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أنْ يَهِلَّ بالحَجِّ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَهِل بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، قَالَتْ: وأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحَجِّ" (¬4). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا الحَدِيثُ يُبيِّنُ فِعْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في خَاصَّةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الحَجَّ وأَبَاحَ لأَصْحَابِهِ القِرَانَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، والتَّمَتُعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، والإفْرَادُ بالحَجِّ أَحَبُّ إلى مَالِكٍ مِنَ القِرَانِ وَمِنَ التَّمَتُعِ، وذَلِكَ أَنَّ القِرَانَ ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الأندلسي الفقيه، تقدم التعريف به. (¬2) هو أحمد بن عمرو الخلال، أبو عبد الله المكي، شيخ الطبراني كما في المعجم الأوسط 1/ 156، ولم أجد له ترجمة، وذكره المزي في تهذيب الكمال 26/ 640 ضمن روى عن ابن أبي عمر العدني، وجاء في الأصل: (عمر) وهو خطأ. (¬3) هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني شيخ الإِمام مسلم وغيره، وهو صاحب المسند. (¬4) رواه مسلم (1211) عن ابن أبي عمر العدني به.

والتَّمَتُعَ يُوجِبَانِ علَى مَنْ فَعَلَهَا الهَدْيَ، والهَدْيُ أَبَدًا إنَّمَا يَلْزَمُ في الحَجِّ بِسَببِ تَوْهِيمٍ يَقَعُ في عَمَلِهِ كَسَجْدَتِي السَّهُوِ في الصَّلَاةِ إنَّمَا هُوَ لِتَوهِيمٍ يَقَعُ في الصَّلَاةِ، والإفْرَادُ بالحَجِّ لا يَجِبُ مَعَهُ هَدْيٌ ولَا غَيْرُه، ولِذَلِكَ التَزَمَهُ أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعُثْمَانُ، حَتَّى أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وكَانَ عَلَيٌّ يَرَى القِرَانَ مُبَاحًا عَلَى نَحْوِ مَا أَبَاحَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ، وَلِذَلِكَ غَضِبَ حِينَ رَاجَعَهُ في ذَلِكَ عُثْمَانُ حِينَ قَالَ لَهُ: (ذَلِكَ رَأْيِي)، فقالَ عَلَيٌّ -رَحِمَهُ اللهُ- حِينَئِذٍ: (لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) [1209] , وإنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ إذْ خَشِيَ أَنْ تَذْهَبَ سُنَّةَ القِرَانِ التّي أَبَاحَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ في قَوْلِ عَلَيٍّ: (لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ)، دَلِيل لِمَنْ يَرَى إرْدَافَ العُمْرَةِ عَلَى الحَجِّ، إذْ جَائِز أَنْ يَكُونَ عَلَيٌّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَوَّلَا عِنْدَ إحْرَامِهِ مِنَ المِيقَاتِ، وَجَائِز أَنْ يَهِلَّ أَوَّلَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَرْدَفَ الحَجَّ عَلَيْهَا، وقَدْ رَوَى غَيْرُ يحيى عَنْ مَالِكٍ في مَوْطَّئِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلَيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ في هَذا الحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: (لَبَّيْكَ بِعُمَرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعً) [1209] , (¬1)، على مَعْنَى: أَنْ يَرْدِفَ الأَكْثَرَ عَمَلًا -وَهُوَ الحَجِّ- عَلَى الأَقَلِّ عَمَلًا، وَهِيَ العُمْرَةُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَعْنَى قَوْلِ ابنِ عُمَرَ حِينَ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ مِنَ المِيقَاتِ، ثُمَّ قَالَ: (إنْ صُدِدْتُ عَنِ البَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) [1212] , يَعْنِي: كَمَا صَنَعُوا مَعَهُ عَامَ الحُدَيْبيّةِ حينَ صَدَّهُمْ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ فَحَلُّوا بِهَا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَنَحَرُوا وَحَلَقُوا، فَلِذَلِكَ قالَ ابنُ عُمَرَ: (مًا أَمْرُهُمَا إلَّا واحدٌ)، يَعْنِي: أَمْرَ الحَجِّ والعُمْرَةِ وَاحِدٌ فِيمَنْ صُدَّ عَنِ البَيْتِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، إمَّا بِحَجَّةٍ أَو بِعُمْرَة أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَيرْجِعُ إلى بَلَدِهِ. ¬

_ (¬1) هذه الرواية موجودة في موطأ يحيى في نسخة من نسخه المخطوطة كما في تعليقات المحقق، وهي موجودة في موطأ القعنبي (595)، وفي موطأ أبي مصعب الزهرِي 1/ 427.

وقَوْلُهُ: (أشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ الحَجَّ [مَعَ] (¬1) العُمْرَةَ)، يَعْنِي: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ قَرَنْتُ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ بإحْرَامِي هَذَا. قالَ أَبو عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَرْدَفَ الحَجَّ عَلَى العُمْرَةِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَالنِّيَةُ تَكْفِيهِ. صِفَةُ إرْدَافِ الحَجِّ عَلَى العُمْرَةِ هُوَ: أَنْ يَهِلَّ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ مِنَ المِيقَاتِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَنْ يَرْدِفَ الحَجَّ عَلَيْهَا، وذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بالبَيْتِ لِعُمْرَتِهِ وَيرْكَعْ، فإذا طَافَ وَرَكَعَ أتَمَّ عُمْرَتَهُ، وَلَمْ يَرْدِفِ الحَجَّ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إنَّ لَهُ أَنْ يَرْدِفَ الحَجَّ عَلَى العُمْرَةَ مَا لَمْ يَسْعَ، فإذا طَافَ بالبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ لَمْ يَرْدِفِ الحَجَّ عَلَى العُمْرَةِ، لأَنَّهُ قَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ. وقالَ أَشهَبُ: إنَّهُ مَتَى طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَلَو شَوْطًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْدِفَ عَلَى عُمْرَتِهِ حَجَّةً. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْتَحَبَّ مَالِكٌ للحَاجِّ أَنْ يَقْطَعُوا التَّلْبِيَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إذا تَوَجَّهُوا إلى مَوْقِفِ عَرَفَةَ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: وَإلى مَوْقِفِ عَرَفَةَ يَنتهِي غَايَةُ المُلَبّي، إذْ مِنْهَا دَعَى إبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ إلى الحَجِّ، وَمَنِ التَزَمِ التَّلْبيَةَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ مَوْقِفِ عَرَفَةَ إلى أَنْ يَرْمِي جَمْرَةَ العَقَبةَ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا مَعْنى لَهُ، إذْ مِنْ شَأْنِ المُلَبِّي أَنْ يُجِيبَ مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يَنتهِي إليهِ، فإذا انْصَرَفَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِتَلْبِيتِهِ إيَّاهُ مَعْنَى. قُلْتُ لَهُ: فَمَا تَقُولُ في حَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخِيهِ الفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةَ" (¬2)، فقالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَالعَمَلُ في قَطْعِ التَّلْبِيَةِ عَلَى قَوْلِ عَلَيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ الذي ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْهُمَا في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ، وجاء في الأصل: (و). (¬2) رواه أبو داود (1815)، وأحمد 1/ 213، بإسنادهما إلى وكيع بن الجراح به.

مُوَطَّئِهِ [1215 أو 1216] , وقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَى ابنِ مَسْعُودٍ تَلْبيتَهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ عَرَفَةَ، وقَالَ: (مَنْ هَذَا الأَعْرَابِيّ الجَافِي) (¬1)، إنْكَارًا مِنْهُ لِتَلْبيتِهَ حِينَئِذٍ، وإذْ لَمْ يَصْحَبِ الحَدِيثَ عَمَلٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُهُ: "عَرَفَةُ كلُّهَا مَوْقِفٌ" [1448] هَذَا الحَدِيثُ يُبِيحُ للرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ للدُّعَاءِ حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - تَنْزِلُ بِنَمِرَةَ مِنْ عَرَفَةَ، ثُمَّ تَحَولَّتْ مَرَّةً أُخْرَى إلى الأرَاكِ فَنَزَلَتْ فِيهِ [1219] وَنَمِرَةُ مِنْ مَوْقِفِ عَرَفَةَ مِنْ نَاحِيةِ اليَمَنِ، وإنَّمَا كَانَتْ عَائِشَةُ تَنْزِلُ مَرَّةً هَهُنَا، ومَرَّةً هَهُنَا لِقَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِف". [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اعْتَمَرتْ عَائِشَةُ آخِرَ أَمْرِهَا مِنَ الجُحْفَةِ في المُحَرَّمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ في أَوَّلِ أَمْرِهَا تَعْتَمِرُ في ذِي الحِجَّةِ، لِكَي تُوقِعَ عُمْرَتَهَا في غَيْرِ العَام الذِي حَجَّتْ فِيهِ، وبِهَذا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أَنْ يَكُونَ الحَجُّ في عَامٍ، والعُمْرَة في عَامٍ آخَرَ (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أُمِرَ مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يُؤَخِّرَ الطَّوَافَ والسَّعِي حتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنَى، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لا يَطُوفُ بالبَيْتِ ويَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، إلَّا مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا مِنَ الحِلِّ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لمَ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِفُتْيَا ابنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ بَعَثَ بِهَدْيهِ إلى مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ هُوَ، ويَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الحَاجُّ في حَالِ إحْرَامِهِ مِنْ إصَابَتِهِ النِّسَاءَ وغَيْرِ ذَلِكَ حتَّى يَنْحَرَ الهَدِيَ، وأَخَذَ مَالِكٌ في هَذا بِقَوْلِ عَائِشَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بِهَدْيِهِ مَعَ أَبي بَكْرٍ الصِّدّيقِ إلى مَكَّةَ، فَلَمْ يُحْرِم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولَا امْتنَعَ مِنْ شيءٍ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ مِنْ لَبْسِ الثّيَابِ، وَوَطءِ النّسَاءِ وغَيْرِ ذَلِكَ حتَّى نَحَرَ ذَلِكَ الهَدِيَ بِمَكَّةَ" [1224]. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 225. (¬2) ينظر: التمهيد 10/ 112، و 20/ 20.

قالَ مَالِكٌ: ولَا يَحْرُمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى وَشَرَعَ في عَمَلِ الحَجِّ أَو العُمْرَةِ، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لِمَنْ سَاقَ هَدْيًا إلى مَكَةَ في غَيْرِ حَجٍّ أو عُمْرَةٍ أَنْ يَدْخُلَهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ، بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ بَعَثَ إلى مَكَّةَ بِهَدي أَنَّهُ يَتَجَرَّدُ ويُحْرِمُ حتَّى يَنْحَرَ الهَدْيَ، فهذا نَحَرَ بِمَكَّةَ حَلَّ هُوَ مِنْ إحْرَامِهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا مُنِعَتِ الحَائِضُ مِنَ الطَّوَافِ بالبَيْتِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لا تَدْخُلِ المَسْجِدَ، بِسَببِ حَيضَتِهَا, ولأَنَّ الطَوَافَ بالبَيْتِ صَلَاةٌ، ولَكِنَّ الله أَحَل الكَلَامَ وأَبَاحَهُ، ولَيْسَ السَّعِيَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ مِثْلَ الطَوَافِ، لأَنَّهُ في غَيْرِ المَسْجِدِ، فهذا حَاضَتِ المَرْأَةُ بَعْدَ طَوَافِهَا وَرُكُوعِهَا سَعَتْ بَينَ الصفَا وَالمَرْوَةِ وَهِيَ حَائِضٌ، وكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذا انتقَضَ وُضُوئُهُ بَعْدَ طَوَافِهِ بالبَيْتِ وَرُكُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى، فإنَّهُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ وإنْ لَمْ يَتَوضَّأ وبالوُضُوءِ أَحْسَنُ.

باب ذكر العمرة، ومتى تقطع التلبية في العمرة، وذكر التمتع

بابُ ذِكْر العُمْرَةِ، وَمَتى تقْطَعُ التَّلْبِيَة فيَ العُمْرَةِ، وذِكْرِ التَّمَتُعِ * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ذَكَرَ أَبو دَاوُدَ [السِّجِسْتَانِيُّ] (¬1) في مُصَنَّفِهِ منْ طَرِيقِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ ثَلَاثًا" (¬2)، وَهَذا الحَدِيثُ عِنْدَ مَالِكٌ في مُوطَّئهِ بَلَاغٌ [1238] (¬3). وسَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ الذيْ قالَ فِيهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ أَرْبَعَا: عَامَ الحُدَيْبيةِ، وعَامَ القَضِيَّةِ، وعَامَ الجِعْرَانَةِ، والرَّابِعَةَ التَّي قَرَنَهَا بِحَجَّتِه" (¬4)، فَقَالَ أَبو مُحَمَّدٍ: عَائِشَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذا، وَهِيَ التِّي رَوَتْ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الحَجَّ، وأَنَّهُ لَمْ يُقْرِنْ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وإنَّمَا اعْتَمَرَ عُمَرَهُ الثَّلَاثةِ في أَشْهُرِ الحَجِّ مُخَالَفَة مِنْهُ لأَهْلِ الجَاهِلِيّهِ الذينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ العُمْرَةَ في شُهُورِ الحَجِّ، وَيرْونَهَا مِنَ الفُجُورِ، فَخَالَفَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَهَلَّ بالعُمْرَةِ عَامَ الحُدَيْبيَّةِ في شَوَّالٍ سنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ، وَهِيَ العُمْرَةُ التِّي صَدَّهُ فِيهَا المُشْرِكُون عَنِ الَبَيْتِ، وَالحُدَيْبيَّةُ مِنْ نَاحِيةِ جُدَّةَ، في طَرَفِ الحَرَمِ، فَحَلَّ بِهَا مِنْ إحْرَامِهِ هُوَ وأَصْحَابُهُ، ونَحَرُوًا الهَدْيَ وحَلَقُوا، وقَاضَى أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَأْتِيهِمْ في العَامِ الثَّانِي، فَيُخَلّوا بَيْنَهُ وبَيْنَ البَيْتِ، فَأَتَاهُمْ في العَامِ الثَّانِي في ذِي القِعْدَةِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، فَاعْتَمَرَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: الجستاني، وهو خطأ ظاهر. (¬2) رواه أبو داود (19991)، بإسناده إلى هشام بن عروة به. (¬3) ورواه مالك أيضًا (1239) عن هشام بن عروة عن أَبيه مرسلًا. (¬4) رواه أبو داود (1993)، والترمذي (816)، وابن ماجه (303)، بإسنادهم إلى ابن عباس

عُمْرَةَ القَضِيَّةِ، ثُمَّ انْصَرفَ إلى المَدِينَةِ، فَلَمَّا أَهَل شَهْرُ رَمَضَانَ خَرَجَ إلى مَكَّةَ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ فَافْتَتَحَهَا في شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الهِجْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلى حُنَيْنٍ فَسَبَى هَوَازِنَ، ثُمَّ انْصَرفَ إلى مَكَّةَ فَلَمَّا وَصَلَ إلى الجِعْرَانَةَ أَهَلَّ مِنْهَا بِعُمْرَة في ذِي القِعْدَةِ، فَلَمْ يَعْتَمِرْ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا ثَلَاثَ عُمَرٍ وَحَجَّ حَجَّةَ الفَرِيضَةِ. * قالَ أَبو عُمَرَ: رَخَّصَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لِعُمَرَ بنِ أَبي سَلَمَةَ في العُمْرَةِ في شَوَّالٍ وَهُوَ مِنْ شُهُورِ الحَجِّ [1241] , والمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بالعُمْرَةِ في غَيْرِ أَشْهُرِ الحَجِّ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: (افْصُلُوا بَيْنَ حَجَّكِمْ وعُمْرَتكُمِ، فإنَّ ذَلِكَ أتمَّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ، وأَتَمَّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ في غَيْرِ أَشْهُرِ الحَجِّ) [1259] , والمُسْتَحَبُّ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ تَكُونَ العُمْرَةُ في غَيْرِ شُهُورِ الحَجِّ، وإلى هَذا رَجَعَتْ عَائِشَةُ آخِرَ أَمْرِهَا، فَكَانَتْ إذا حَجَّتْ بَقِيتْ بِمَكَّةَ حَتَّى يَهِلَّ المُحَرَّمُ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ إلى المِيقَاتِ فتهِلَّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ، فَكَانَ يَقَعُ حَجَّهَا في عَامٍ، وعُمْرَتُهَا في أَوَّلِ عَامِ آخَرَ. وقالَ ابنُ عَبَّاس: (واللهِ مَا أَعْمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ في ذِي الحِجَّةِ إلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ المُشْرِكِينَ الذينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ العُمْرَةَ في شُهُورِ الحَجِّ) (¬1). [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬2): اسْتَحَبَّ مَالِكٌ أنْ لا يَعْتَمِرُ الرَّجُلُ في السَّنَةِ إلَّا عُمْرَةً وَاحِدَةً، كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ في ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: مَسْأَلةُ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ والضَّحَّاكِ بنِ قَيْسٍ حِينَ تَنَاظَرا في المُتَمَتِّعِ، فقَالَ فِيهَا الضَّحَّاكُ (¬3): (إنَّهُ لا يَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللهِ) [1247] يُرِيدًالضَّحَّاكُ بِقَوْلهِ هَذَا: إنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى ذَكَرَ في كِتَابهِ شُهُورَ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1987)، وابن حبان (3765)، والطبراني في المعجم الكبير 11/ 20، والبيهقي في السنن 4/ 344، عن ابن عباس بنحوه. (¬2) جاء في الأصل: (ع) وهي اختصار للمصنف عبد الرحمن، وقد أبدلت الرمز بالإسم كما جرت عادة الناسخ. (¬3) جاء هنا في الأصل: (أصحاب الضحاك) ولا شك أن إضافة (أصحاب) خطأ والصواب حذفها، كما في الموطأ، وكما هو سياق الكلام.

الحَجِّ للإهْلَالِ بالحَجِّ، فقالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] , فَأَوَّلُهَا شَوَّالُ إلى النِّصْفِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَلِذَلِكَ [قالَ لهُ] (¬1): (إنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ)، يَعْنِي: أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ العُمْرَةِ في أَشُهِرِ الحَجِّ، وَرَخصَ في ذَلِكَ عُمَرُ لِعُمَرَ بنِ أَبي سَلَمَةَ، فَاعْتَمَرَ في شَوَّالٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَتَمَتَّعْ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، وَكَانَ سَعْدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ يُفْتِي بالتَّمَتُّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ. وقالَ مَالِكٌ في هَذِه المَسْأَلةِ في غَيْرِ المُوَطَّأ: (عُمَرُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ مِنْ سَعْدٍ)، يُرِيدُ مَالِكٌ بِقَوْلهِ هَذَا: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الحَجَّ وَلَمْ يَتَمَتَّعْ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ كَمَا يُتَأَوَّلُ عَلَى سَعْدٍ. وإنَّمَا مَعْنَى قُوْلِ سَعْدٍ: (قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ)، أَيْ: قَدْ أَبَاحَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّمَتُّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فَصَنَعْنَا ذَلِكَ وَنَحْنُ مَعَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا مَعَهُ) (¬2)، أَيْ: قَدْ أَمَرَنَا بالرَّجْمِ فَرَجَمْنَا ونَحْنُ مَعَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ رَجَمَ أَحَدًا بِيَدِهِ، ولَكِنَّهُ أَمَرَ بالرَّجْمِ فَرَجَمَ النَّاسُ، كَمَا أَبَاحَ [التَّمَتُّعَ] (¬3) بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فتَمَتَّعَ النَّاسُ وَلَمْ يَتَمَتَّعْ هُوَ، ولَكِنَّهُ أَفْرَدَ الحَجَّ. * قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ ابنِ عُمَرَ: (وَاللهِ لأَنْ أَعْتَمِرَ قَبْلَ الحَجِّ وأُهْدِي أَحَبُّ إلي مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ بَعْدَ الحَجّ في ذِي الحِجَّةِ) [1248] , إنَّمَا قَالَ هَذا لأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يُقْرِنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وكَانَ أَيْضًا يَرَى التَّمَتُعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، يأْخُذُ في ذَلِكَ بِمَا أَبَاحَةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابهِ مِنْ ذَلِكَ، وَصِفَةُ التَّمَتّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ هُوَ أَنْ يَهِلَّ الرَّجُلُ بِعُمْرَة في أَشْهُرِ الحَجِّ، فَيَدْخُلُ مَكَّةَ مُحْرِمًا، فَيَطُوفُ بالبَيْتِ سَبْعًا ويَرْكَعُ، ثُمَّ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَو يُقَصِّرُ ويَحِلُّ مِنْ عُمْرَتهِ، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (ما قال لي)، وهو خطأ يأباه السياق، والصواب ما أثبته. (¬2) رواه أبو يعلى 1/ 141، وابن الجارود في المنتقى (812). (¬3) جاء في الأصل: (المتمتع)، وما وضعته هو المناسب للسياق.

وَيَبْقَى بِمَكَّةَ إلى وَقْتِ الحَجِّ، ثُمَّ يَهِل بالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الهَدِيُ أَو الصِّيَامُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] , أَيْ: فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ، يَذْبَحُ شَاةً وَيُعْطِيهَا المَسَاكِينَ، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}، يَعْنِي: يَصُومَهَا مِنْ وَقْتِ يَحْرُمُ بالحَجّ إلى يَوْمِ عَرَفَةَ، فإنْ فَاتَهُ ذَلِكَ صَامَ ثَلَاثةَ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنَى، وَسَبْعَةً إذا رَجَعَ مِنْ مِنَى، فَهَذا مَا يَلْزَمُ أَهْلُ الآفَاقِ في التَمَتُّع بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، حَاشَا أَهْلِ مَكَّةَ، لأَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً. قالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى مَكَّيٍّ اعْتَمَرَ في أَشهُرِ الحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ مِثْلَ مَا عَلَى غَيْرِ المَكّيِّ مِنَ الهَدِي أَو الصِّيَامِ. قُلْتُ لأَبِي مُحَمَّدٍ: غَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ: إنَّهُ مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ مِنْ وَرَاءِ المَوَاقِيتِ إلى مَكَّةَ فَحُكْمُهُمْ في التَّمَتُّعِ كَحُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ، لا هَدْيّ عَلَيْهِم وَلَا صِيامٌ؛ لأنَّهُمْ مِنْ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فقالَ لِي: القَوْلُ في ذَلِكَ مَا قالَ مَالِكٌ، إنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً، وذَلِكَ أَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قالَ في كِتَابهِ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] , وإنَّمَا كَانُوا بالحُدَيْبِيّةِ وَهِيَ بِقُرْبِ الحَرَمِ، فَلَمْ يَجْعَلْهُمْ اللهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ حَاضَرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ مَنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ المَوَاقِيتِ إلى مَكَةَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَيَّامٍ. قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: قَالَ ابنُ المَاجِشُونَ (¬1): إذا قَرَنَ المَكِيُّ الحَجَ مَعَ العُمْرَةِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُّ القِرَانِ، مِنْ أَجْلِ أنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَسْقَطَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ الدَّمَ والصِّيَامَ في التَّمَتُّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ خَاصَّةٍ، لا في القِرَانِ بَيْنِ الحَجَّ والعُمْرَةِ (¬2). ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون المدني الفقيه، تقدم التعريف به. (¬2) نقل قول ابن الماجشون: ابن عبد البر في التمهيد 8/ 355.

قالَ مَالِكٌ: لا أُحِبُّ لِمَكِّي أَنْ يُقْرِنَ بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَةِ، ومَا سَمِعْتُ أَنَّ مَكِّيًا قَرَنَ، فإنْ فَعَلَ لَم يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ ولَا صِيَامٌ (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: صفَةُ القِرَانِ هُوَ أَنْ يُلَبِّي الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعًا مِنَ المِيقَاتِ، فَيَقُولُ: (لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ)، وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ نِيَتَّهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ في عَمَلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الإفَاضةِ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَيهِ مَا يَجِبُ عَلَى المُتَمَتِّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ مِنَ الهَدِي إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَو الصِّيَامُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَهِلَّ بِعُمْرَةٍ في سَفَرٍ، ثُمَّ يُنْشِيءُ للحَجِّ سَفَرًا آخَرَ مِن بَلَدِه، أو بَلَدٍ في البُعْدِ مِنْ مَكَّةَ مِثْلَ بَلَدِهِ، فَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ في سَفرٍ وَاحِدٍ وأَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ وَجَبَ عَلَيهِ لِذَلِكَ الهَدْيَ أو الصِّيَامَ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، ومِنْ هَذا الوَجْهِ أَيْضًا وَجَبَ علَى المُتَمَتّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ مَا وَجَبَ مِنَ الهَدِي أَو الصِّيَامِ؛ لأنَّهُ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَمَتُّعِهِ سَفَرَ الحَجِّ الذي يُنْشِئُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وأَهَلَّ بالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للمَرْأَةِ التِّي سَأَلتْهُ عَنِ الحَجِّ الذي فَاتَهَا مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لَهَا: "اعْتَمِرِي في رَمَضَانَ فإنَّ عُمْرَةً فِيهِ كَحَجَّةِ"، رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَوْفٍ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ الوَهْبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إسحَاقَ، عَنْ عِيسَى بنِ مَعْقِلٍ، عَنْ يُوسُفَ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ مَعْقِلٍ، قالتْ: (لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَهُ أَصَابَنَا مَرَضٌ فَمَنَعَنَا مِنَ الحَجِّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إذْ فَاتَتْكِ هَذِه الحَجَّةُ مَعَنَا، فَاعْتَمِرِي في رَمَضَانَ، فإنَّ عُمْرَةً فِيهِ كَحَجَّةٍ، فَكَانَتْ أُمُّ مَعْقِل تَقُولُ: الحَجُّ حَجٌّ، وَالعُمْرَةُ عُمْرَةٌ، وقَدْ قَالَ لِي: هَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا أَدْرِي إنْ كَانَ هَذا لِي خَاصٌّ أَمْ لا؟! " (¬2). * قالَ أَبو عُمَرَ: إنَّمَا أَدْخَلَ في المُوَطَّأ: "اعْتَمِرِي في رَمَضَانَ، فَإنَّ عُمْرَةً فِيهِ ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 8/ 355: وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. (¬2) سنن أبي داود (1889).

كَحَجَّةٍ" [1258]، عَلَى أنَّ العُمْرَةَ تُسْتَحَبُّ في غَيْرِ أَشْهُرِ الحَجِّ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (افْصِلُوا بَيْنَ حَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ، فإنَّهُ أتمَّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ وأَتَمَّ لِعُمْرَتِهِ أنْ يَعْتَمِرَ في غَيْرِ أَشْهُرِ الحَجِّ) [1259]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ الإفْرَادُ بالحَجِّ عِنْدَهُ أَحْسَنَ مِنَ القِرَانِ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وَمِنَ التَّمَتُّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ. قالَ القَعْنَبِيُّ في تَعْجِيلِ عُثْمَانَ إذْ كَانَ يَعْتَمِرُ فَإذَا قَضى عُمْرَتَهُ لَمْ يَحِطَّ عَنْ رَاحِلَتِهِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، قالَ: (كَانَ يَكْرَهُ المَقَامَ بِمَكَّةَ) (¬1)، وذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ تَرَكَ سُكْنَاهَا وَهَاجَرَ مِنْهَا إلى اللهِ وَرَسُولهِ وسَكَنَ المَدِينَةَ، فَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَبْقَى في بَلْدَةٍ قَدْ تَرَكَ سُكْنَاهَا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِئَلَّا يَرْجِعَ في شَيءٍ قَدْ خَرَجَ عَنْهُ للهِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية القعنبي (628). (¬2) ينظر: الإستذكار 4/ 337.

باب في نكاح المحرم، وحجامته، وما يأكل من لحم الصيد

باب في نِكَاحِ المُحْرِمِ، وحجَامَتِهِ، ومَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ * في حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أبا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحَارِثِ [1267] , في هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: الوَكَالَةُ عَلَى النكِّاحِ، يُوكِلُ الرَّجُلُ رَجُلَيْنِ يُزَوِّجَانِهِ امْرَأَةً بِمَا رَأَيَاهُ مِنَ الصَّدَاقِ، ويُلْزِمهُ مَا فَعَلَا مِنْ ذلِكَ، وفِيهِ بَيَانُ أنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ قَبْلَ إحْرَامِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ للمُحْرِمِ أَنْ يَنْكَحَ في حَالِ إحْرَامِهِ، واحْتَجَّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ جَائِزًا بمَا رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ [عبَّاسٍ] (¬1): "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ خَالتهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ" (¬2)، وهَذا حَدِيثٌ خَالَفَ النَّاسُ فِيهِ ابنَ عَبَّاسٍ، وقَالُوا: إنَّمَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، ورَوَى مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ بنِ الأَصَمِّ ابنِ أَخِي مَيْمُونَةَ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفٍ" (¬3). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وتَذَاكَرَ عَطَاءُ بنُ أَبي رَبَاع وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ تَزْوِيجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحَارِثِ، فَقَالَ عَطَاءٌ بِقَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ، وقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ: إنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، ثُمَّ إنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى صَفِيَّةَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: القاسم، وهو خطأ ظاهر، فإن الحديث معروف عن ابن عباس، وميمونة أم المُؤمنين هي خالته. (¬2) رواه أبو داود (1844)، والتِّرمذيّ (843)، وأحمد 1/ 360، بإسنادهم إلى أيوب السختياني به. وقال ابن عبد البر في التمهيد 3/ 153: وما أعلم أحدًا من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم إلَّا عبد الله بن عباس. (¬3) رواه أبو داود (1843)، وأحمد 6/ 335، وابن حبان 6/ 335، بإسنادهم إلى ميمون بن مهران به.

فَسَأَلَاهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ ودَخَلَ بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (¬1). * وفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ عَفانَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى المُحْرِمَ مِنْ أنْ يَنكِحَ أَو يُنكِحَ" [1268] , وقَدْ فَسَخَ عُمَرُ نِكَاحَ مُحْرِمٍ عَقَدَا في حَالِ إحْرَامِهِ، وَبِهَذا أَخَذَ مَالِكٌ، لأَنَّ المُحْرِمَ لا يَنْكِحَ، وَمَتَى نَكَحَ في حَالِ إحْرَامِهِ فُسِخَ نِكَاحُهُ. * ومَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: (لا بَأْسَ أَنْ يُرَاجِعَ المُحْرِمُ امْرَأتَهُ إذا كَانَتْ في عِدَّةٍ مِنْهُ) [1272] , يُرِيدُ: أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُمَا مَا دَامَتْ في العِدَّةِ، ولَيْسَ مُرَاجَعَتَهِ إيَّاهَا اسْتِئْنَافُ نِكَاحٍ، وإنَّمَا هُوَ إشْهَادُ الزَّوْجِ عَلَى نَفْسِهِ باسْتِدَامَةِ النِّكاحِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَنِ احْتَجَمَ فَوْقَ رَأْسِهِ أَوفي قَفَاهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَحَلَقَ الشَّعَرَ لِمَوْضِعِ المَحَاجِمِ افْتَدَى، وفِدْيَتُهُ صِيَامُ ثَلَاثةُ أَيَّامٍ، أَو الطعَامُ سِتَّةُ مَسَاكِينَ مُذَيْنِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ لِكُل مِسْكِينٍ، أَو يُنْسِكُ بشَاة يَذْبَحُهَا حَيْثُ شَاءَ مِنَ البَلَادِ، وَهَكَذا يَفْعَلُ كُلُّ مَنْ أَمَاطَ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَتَأَذَّى بهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَو لَبسَ ثَوْبًا لِضَرُورَةٍ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ، أو تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ، فَمَنِ احْتَجَمَ ولَمْ يَحْلِقِ الشَّعَرَ لَمْ يَفْتَدِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: في حَدِيثِ أَبي قتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ حِينَ [كَانَ] (¬2) بِطَرِيقِ مَكَةَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ وأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ [1278] , إنّما كَانَ قَدْ تَرَكَ الإحْرَامَ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ المِيقَاتَ مِنْ أَجْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الإحْرَامِ، وَوَجَّهَهُ نَحْوَ طَرِيقِ البَحْرِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَيْنًا، مَخَافَةَ العُدُوِّ فَلَقَا أنَّهُ رَأَى الحِمَارَ اسْتَوَى على فَرَسِهِ، ثُمَّ إنَّهُ سَألَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ رُمْحَهُ فَأَبَوُا عَلَيْهِ، مِنْ أَجْلِ إحْرَامِهِمْ، وأَنْ لا يُعَاوِنُوهُ عَلَى صَيْدِ ذَلِكَ الحِمَارِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أن الُمحْرِمَ لا يُعَاوِنُ الصَّائِدَ عَلَى الإصْطِيادِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَصَادَ أَبو قَتَادَةَ ذَلِكَ الحِمَارَ لِنَفْسِهِ لا لأَصْحَابهِ ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في الإستذكار 4/ 352، وصفية هي بنت شيبة، كما جاء في التمهيد 3/ 155. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

الُمحْرِمِينَ، وَبِحَدِيثهِ أَخَذَ مَالِكٌ في الصَّيْدِ إذا لَمْ يُصَدْ للمُحْرِمِينَ وَلَمْ يَقْصِدُوا بهِ، أنَّ أَكْلَهُمْ لَهُ حَلَالٌ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ بإِبَاحَةِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ لأَصْحَابهِ المُحْرِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مَا صِيدِ لِمُحْرِمٍ إذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الصَّيْدُ قَدْ صِيدَ للمُحْرِمِ للأَكْلِ، وإنَّمَا قَصَدَ بِصَيْدِهِ غَيْرَ الأَكْلِ، فإنْ أكَلَهُ المُحْرِمُ الذي صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ كَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ، قَدْ رَوَى عَمْرو [عَن] (¬1) المُطَّلِبِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "صَيْدُ البَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَو يُصَادَ لَكُمْ" (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا الحَدِيثُ هُوَ نَحْو حَدِيثِ أَبِي قتَادَةَ الذي أَبَاحَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْلَ مَا قَدْ صَادَهُ أَبو قَتَادَةَ لِنَفْسِهِ لا لأَصْحَابهِ المُحْرِمِينَ الذينَ لَمْ يَصِيدُوُه ولَمْ [يُصَدْ] (¬3) مِنْ أَجْلِهِمْ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْمُ البَهْزِيِّ الذي أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحِمَارَ العَقِيرَ: زَيْدُ بنُ كَعْبٍ [1281]. وفِي حَدِيثهِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ الصَيْدَ مَالٌ للصَّائِدِ إذا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِرَمْيتِهِ، وفِيهِ: إبَاحَةُ قَبُولِ الهَدِيّةِ إذا كَانَتْ مِنْ حَلَالٍ، وفِيهِ: أَنَّ المُحْرِمَ يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ مَا لَم [يُصَدْ] (¬4) مِنْ أَجْلِهِ، وذَلِكَ أَنَ البَهْزِيَّ إنَّمَا كَانَ صَادَ ذَلِكَ الحِمَارَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ غيْرُ مُحْرِمٍ، فَلَمَّا أَهْدَاهُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ أَصْحَابهِ فَأَكَلُوهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وكَانَتْ قِصَّةُ البَهْزِيِّ وأَبي قتَادَةَ في بَعْضِ عُمَرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يُرْوَى عَنْ عَلِي بنِ أَبي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ للمُحْرِمِ أَكْلَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (بن) وهو خطأ والصواب ما أثبته، وعمرو هو ابن أبي عمرو، والمطلب هو ابن حنطب المخزومي، ولم يسمع من جابر. (¬2) رواه أبو داود (1851)، والترمذي (846)، والنسائي (2827)، بإسنادهم إلى عمرو بن أبي عمرو به. (¬3) في الأصل: يوصد، والصواب ما أثبته. (¬4) في الأصل: يوصد، وهو خطأ.

لَحْمِ الصَّيْدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يُبيحُ للمُحْرِمِ أَكْلَ لَحْمِ الصَّيْدِ إذا لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ، ولِذَلِكَ قَالَ لأَبي هُرَيْرَةَ حِينَ أَفْتَى المُحْرِمِينَ بِأَكْلِ لَحْمِ مَا لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِمْ: (لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لأَوْجَعْتُكَ) [1283]. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: كَرِهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ قَوْلَ كَعْبِ الأَحْبَارِ في الجَرَادِ حِينَ قَالَ: (إنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حُوتٍ) [1284] , وأَوْجَبَ فِيهِ عُمَرُ الفِدْيَةَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، لأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ البَرِّ، الذي يَفْدِيهِ المُحْرِمُ إذا قَتَلَهُ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَهْدَى الصَّعْبُ بنُ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيُّ الحِمَارَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ [1289] , وذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِمُرُورِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَوْضِعِه الذي هُوَ مُقِيمٌ فِيهِ أَعَدَّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولأَصْحَابهِ هَدِيَّةً، وكَانَ في جُمْلَتِهَا حِمَارٌ وَحْشِيّ قَدْ صَادَهُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَهْدَى إليهِ الهَدِيَّةَ والحِمَارَ رَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الحِمَارَ. قالَ أَشْهَبُ: سَمِعْتُ مَالِكَا يَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ الحِمَارُ المُهْدَى حَيًّا. قالَ غَيْرُهُ: وَلَو كَانَ ذَلِكَ الحِمَارُ مَذْبُوحًا لَمْ يَرُدُّهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لَحْمَ صَيْدٍ، قالَ: هَذَا هُوَ المَأْمُورُ بهِ، والذي عَلَيْهِ الفُتْيَا، وإذا كَانَ حِمَارٌ قَدْ صِيدَ لِمُحْرِمٍ لَمْ يَجُزْ ذَبْحُهُ، ولَا أَكلُهُ على حَالٍ. وبِظَاهِرِ هَذا الحَدِيثِ أَخَذَ مَالِكٌ فِيمَا صِيدَ للمُحْرِمِينَ ثُمَّ ذُبِحَ لَهُمْ أَنَّهُ لا يَأْكُلُهُ مُحْرِمٌ ولَا حَلَالٌ، وهَذا عَلَى سَبِيلِ الكَرَاهِيةِ لَهُ، وأَمَّا مَا صَادَهُ المُحْرِمُ ثُمَّ ذَبَحَهُ فَلَا يَأْكُلُهُ مُحْرِمٌ ولَا حَلَالٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، لأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وذَلِكَ أَنَّ ذَكَاةَ المُحْرِمِ للصَّيْدِ لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ، وإنَّمَا هُوَ مَقْتُولٌ، قالَ اللهُ تَبَاركَ وتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] , واعْتَذَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ حِينَ رَدَّ إليهِ الحِمَارَ، لِئَلَّا يَقَعَ في نَفْسِهِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ شَيءٍ كَرِهَهُ مِنْ نَاحِيتِه، وهَذا مِنْ حُسْنِ الأَدَبِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّ المُحْرِمَ لا يَسْتَبِيحُ أَخْذَ الصَّيْدِ. قالَ أَبو عُمَرَ: وفِي هَذا أَيْضًا مِنَ الفِقْهِ: رَدُّ الهَدِيَّةِ للعُذْرِ.

باب الحكم في قتل الصيد، إلى آخر باب حج الرجل عن غيره

بابُ الحُكْم في قَتْلِ الصَّيْدِ، إلى آخِر بَاب حَجِّ الرَّجُلِ عَنْ غَيْرِه قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى آخِرِ الآيةِ، قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الكَفَّارَةَ في قَتْلِ الصَّيْدِ في أَعْلَى وُجُوهِ القَتْلِ وَهُوَ العَمْدُ، لِيَدُلَّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ العَمْدِ مِنَ الخَطَأ تَجِبُ فِيهِ أَيْضًا الكَفَّارَةُ، كَمَا قَالَ في الإمَاءِ {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] , فكَانَ ذِكْرُ الجَلْدِ في إحْصَانِهِنَّ الذي هُوَ أَعْلَى يُبينُ أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ المُتَزَوِّجَاتِ مِنَ الإمَاءِ يُحْكَمُ فِيهِنَّ بالجَلْدِ إذا زَنَيْنَ، وكَانَ قَتْلُ الصَّيْدِ لا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ فِيهِ مِنَ الجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِدْيَة أو كَفَّارَةٌ، وقَدْ جَعَلَ اللهُ الكَفَّارَةَ في قَتْلِ المُؤْمِنِ خَطَأً، والدِّيَةَ في قَتْلِ الخَطَأ، فَلِهَذا أَلْزَمَ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا خَطَأ وَهُوَ مُحْرِمٌ جَزَاءً مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وقَدْ سَاوَى مَنْ خَالَفَ أَهْلَ المَدِينَةِ في هَذِه المَسْأَلةِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ في قَتْلِ الصَّيْدِ العَمْدِ، وبَيْنَ مَا سَكَتَ عَنْهُ في الخَطَأ في تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، كَمَا قالَ أَهْلُ المَدِينَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ [يَسْتَوِي] (¬1) قَتْلُ الخَطَأ والعَمْدِ في وُجُوبِ الكَفَّارَةِ عَلَى القَاتِلِ كَمَا اسْتَوَى قَتْلُ الخَطَأ والعَمْدِ بأنْ لا يُؤْكَلُ، وقَدْ قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، وعَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، والحَسَنُ بنُ [أبي الحَسَنِ] (¬2) البصري، وعَطَاءُ بنُ أَبي رَبَاح، وإبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وابنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: يستوفي، وهو خطأ مخالف للسياق. (¬2) في الأصل: (الحسن بن الحسين) وهو خطأ ظاهر.

ومَالِكُ بنُ أَنسٍ: إنَّهُ يُحْكَمُ علَى قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأ بجَزَاءِ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ في العَمْدِ (¬1). قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: وَقَدْ أَجْمَعِ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَ الحَلَالَ إذا قَتَلَ الصَّيْدَ في الحَرَمِ أَن عَلَيْهِ جَزَاءً مِثْلَ مَا قَتَلَ، ولَا نصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَكَذَلِكَ حَكَمَ أَهْلُ المَدِينَةِ في قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأ أَنَّ على المُحْرِمِ جَزَاءً مِثْلَ مَا قتَلَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَبَاحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في رِوَايةِ ابنِ عُمَرَ للمُحْرِمِ قَتْلَ الغُرَابِ، والحِدَأَةِ، والعَقْرَبِ، والفَأْرَةِ، والكَلْبِ العَقُورِ [1302]. وزَادَ أَبو سعيد الخُدْرِيِّ في حَدِيثهِ: الحيَّةَ، والسَّبُعَ (¬2)، وإنَّمَا أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ هَذِه كُلِّهَا للأَذِيَّةِ المَوْجُودَةِ فِيهَا، وهَذَا حُكْمُ كُلُّ مَا عَدَى علَى النَّاسِ مِنَ السِّبَاعِ والطَّيْرِ أَنْ يُقْتَلَ ولَا فِدْيَةَ فِيهَا. قالَ ابنًالقَاسِمِ: ولَا بَأْسَ أَنْ يَفْدِي الُمحْرِمُ سِبَاعَ الوَحْشِ العَادِيةِ بالقَتْلِ وإنْ لَمْ تُؤْذِه، لِدُخُولهَا في اسْمِ الكَلْبِ العَقُورِ، وأَمَّا صِغَارُ أَوْلَادَهَا فَلَا تُقْتَلُ، فَإنْ قتلَها المُحْرِمُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ في ذَلِكَ شَيءٌ، وأَمَّا صِغَارُ العَقَارِبِ، والحَيَّاتِ، والإحْدِيةِ، والفَئْرَانِ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِنَّ، لأَنَّ صِغَارَهَا تُؤْذِي كَمَا تُؤْذِي كِبَارُهَا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَسْنَدَ وَكِيعُ بنُ الجَرَّاح، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الحَرَمِ"، وأَرْسَل أَصْحَابُ مالك هَذَا الحَدِيثَ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[1304] (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر أقوالهم في: المحلى 7/ 215، والإستذكار 5/ 80. (¬2) رواه أبو داود (1848) وابن ماجه (3089)، هإسناده ضعيف. (¬3) ينظر: التمهيد لإبن عبد البر 22/ 277، والإيماء للداني 5/ 84، ورواه البخاري (3136) من حديث الزهرِي عن عروة عن عائشة، ورواه مسلم (1198) من حديث حماد بن زيد عن هشام عن أبيه عن عائشة به.

* [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِفِعْلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّاب في نَزْعِهِ القِرْدَانَ عَنْ بَعِيرِهِ [1309] , مِنْ أَجْلِ أَنَ القِرْدَانَ مِنْ ذوَاتِ الإبلِ، كَمَا أَنَّ القَمْلَ مِنْ ذَوَاتِ بَنِي آدَمَ، فَكَمَا لا يَطْرَحُ الرَّجُلَ القَمْلَ عَنْ نَفْسِهِ كَذَلِكَ لا يَنْزِعُ القِرْدَانَ عَنْ بَعِيرِهِ، وقَدْ كَانَ ابنُ عُمَرَ لا يَنْزِعُ قِرَادًا عَنْ بَعِيرِهِ، ولَا حَلَمَةً (¬1)، فَبِهَذا أَخَذَ مَالِكٌ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَجْهُ كَرَاهِيةِ مَالِكٍ للمُحْرِمِ أنْ يَنْظُرَ في المِرْآةِ لئَلاَّ يَرَى في وَجْهِه شَيْئًا فَيُغَيِّرُهُ، أَو يَنْتِفَ شَعْرًا مِنْ لِحْيتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا للفِدْيَةِ. وأَمَّا إذا انْكَسَرَ لَهُ ظُفْرٌ فإنَّهُ يَقْطَعُهُ ولَا شَيءَ عَلَيْهِ في قَطْعِهِ، مِنْ أَجْلِ أنَّهُ كَانَ يَتَأذَّى بِتَرْكِهِ لَهُ وَهُوَ مَكْسُورٌ. ورَخَّصَ لَهُ في أَنْ يَدْهِنَ سَاقَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بالبَانِ غَيْرِ المُطَيَّبِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ زَيْتٌ مَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الطِّيبُ، فإذا طُيِّبَ ذَلِكَ الزَّيْتُ لَمْ يَدْهِنْ بهِ المُحْرِمُ، فإنْ فَعَلَ وأَكْثَرَ مِنْهُ كَانَتْ عَلَيْهِ الفِدْيَةُ التي تَلْزَمُ مَنْ أَمَاطَ عَنْهُ الأَذَى (¬2). قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: لَمَّا لَمْ يَأْتِ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولَا عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ أَنَّ أَحَدًا صلَّى عَنْ أَحَدٍ حَيٍّ أَو مَيِّتٍ كَانَ الحَجّ عَنِ المَيتِ أَو الحَيِّ ضَعِيفًا، إذْ فِيهِ صَلَاةٌ وعَمَلُ بَدَنٍ، لَا سيِمَا حَجَّةُ الفَرِيضَةِ (¬3). * وحَدِيثُ الخَثْعَمِيَّةِ لَيْسَ بأَصْلٍ في هَذا، لأَنَّ أَبَاهَا لَمْ تَكُن الفَرِيضَةُ عَلَيْهِ قَطّ، لِقَوْلهَا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- في الحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شيْخًا كَبيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ علَى الرَّاحِلَةِ" [1317] , ووَجْة آخَرُ يَحْتَمِلُ سُؤَالُهَا عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا، وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بنُ زيدٍ، [عَنْ أيوبَ] (¬4)، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عَنِ ابنِ عبَّاس: "أَنَّ امْرَأةً سَأَلتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حلمة -بفتحتين- هي الصغيرة من القردان أو الكبيرة، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 195. (¬2) نقله ابن عبد البر في الإستذكار 4/ 408 - 409. (¬3) ينظر: التمهيد 9/ 124، والإستذكار 4/ 412. (¬4) زيادة لابد منها من مصادر تخريج الحديث.

فقالَتْ: إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحِجَّ، فقالَ لَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ" (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَهَذا عَلَى سَبيلِ التَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَرْوِ هَذا الحَدِيثَ مَالِكٌ، ولَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ أَيُّوبَ، ولَا رَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ غَيْرَ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ بَيَانُ: أَنَّ الحَيَّ لا يَحُجُّ عَنِ الحَيِّ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قالَ مَالِكٌ: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ حَيٍّ زَمِنٍ أو غَيْرِه، ولَا أُحِبُّ لأَحَدٍ أَنْ يَتَطَّوَعَ بِحَجٍ عَنْ مَيِّتٍ صَرُورَةً كَانَ المَحْجُوجُ عَنْهُ أو غَيْرَ صَرُورَةٍ، وَلْيَتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُوصِي أَحَدٌ أنْ يَحِجَّ بَعْدَ موتهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَنِ المُوصِي، لِئَلَّا تُبَدَّلُ الوَصِيةُ، لِقَوْلهِ تعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] الآيةَ (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: في حَدِيثِ الخَثْعَمِيَّةِ مِنَ الفِقَهِ: إبَاحَةُ الارْتدَافِ عَلَى الدَّوَابِّ المُطِيقَةِ، وأنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدَّمِهَا، وغَضُّ البَصَرِ عَنِ المَرْأَةِ الشَّابّهِ، لِصَرْفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَجْهَ الفَضْلِ عَنْهَا إلى نَاحِيةِ أُخْرَى، وإبَاحَةُ التَّطَوُّعِ بالحَجِّ عَنْ مَنْ لا يَجبُ عَلَيهِ الحَجُّ، وفِيهِ فُتْيَا العَالِمِ وَهُوَ رَاكِبٌ، وقَدْ سُئِلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ عَنْ مًسْأَلةٍ وَهُوَ رَاكِبٌ مُسْتَعْجِل، فقالَ للسَّائِلِ: (ارْكَبْ وَرَائِي)، فَرَكِبَ وسَارَ كَمَا هُوَ، وَسَأَلهُ فَأَفْتَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (انْزِلْ) فَنَزَلَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه النسائي (2634) بإسناده إلى حماد بن زيد به. (¬2) ينظر قول مالك في: المدونة 5064، والصرورة -بالصاد المهملة- هو من لم يحج قط، ينظر: النهاية 3/ 22. (¬3) رواه سحنون في المدونة 4/ 87، والبيهقي في السنن 7/ 208.

في المحصر عن البيت بعدو أو بمرض، إلى آخر باب استلام الركن

في المُحْصَرِ عَنِ البَيْتِ بَعِدُوٍّ أو بِمَرَضٍ، إلى آخِرِ بَابِ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ حُكْمُ مَنْ حَبَسَهُ العَدُوُّ مِنَ المُحْرِمِينَ عَنِ البَيْتِ حَتَّى يَفُوتَ الحَجّ أنَّهُ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ في المَكَانِ الذي حُبسَ فِيهِ، ويَنْحَرُ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُ، ويَحْلِقُ ويَنْصَرِفُ، فإنْ كَانَ حَجّهُ هَذا تَطوُّعًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةٌ، وإنْ كَانَ صَرُورَةً فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الفَرِيضَةِ، وَهَذِه السُّنَّةُ فِيمَنْ صُدَّ عَنِ البَيْتِ بِعَدُو، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابهِ عَامَ الحُدَيْبِيَّةِ بِقَضاءِ العُمْرَةِ التِّي صَدَّهُ المُشْرِكُونَ فِيهَا عَنِ البَيْتِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَيْسَ عَلَى مَنْ صُدَّ عَنِ البَيْتِ في حَج أو عُمْرَة هَدْيٌ. وقالَ أَشْهَبُ: عَلَيْهِ الهَدِي إذا صُدَّ، كَمَا نَحَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الهَدْيَ بالحُدَيْبِيَّةِ (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ ابنِ القَاسِمِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ أَشْهَبَ في هَذِه المَسْألَةِ، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا نَحَرَ بالحُدَيْبيّةِ الهَدْيَ الذي كَانَ قَدْ أَشْعَرَهُ وقَلَّدَهُ حِينَ أَحْرَمَ مِنَ المِيقَاتِ بِعُمْرَتهِ، فَلَمَّا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ أَمَرَ بهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنُحِرَ، لأَنَّهُ كَانَ هَدْيًا قَدْ وَجَبَ بالإشْعَارِ والتَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَنْحَرْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَببِ الصَّدِّ، فَلِهَذا لا يَكُونُ على مَنْ صُدَّ عَنِ البَيْتِ في حَجٍّ أو عُمْرَة بعَدُوٍّ هَدْيٌ، وأَمَّا مَنْ أُحْصِرَ عَنِ البَيْتِ بِمَرَضٍ مَنَعَهُ مِنَ الحَجِّ حَتَّى فَاتَهُ فإنَّهُ لا يَحِلَّهُ إلَّا ¬

_ (¬1) نقل قول ابن القاسم وأشهب: ابن عبد البر في التمهيد 15/ 198، وعقب على قول أشهب بقوله: وهو قول الشافعي.

البَيْتُ يَطُوفُ بهِ وَيسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ويَجْعَلُهَا عُمْرَةً، ويَهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدِي، وذَلِكَ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] , وهَذا هُوَ إحْصَارُ المَرِيضِ لا إحْصَارُ العَدُوِّ، ولَوْ كَانَ حَصْرُ العَدُوِّ لَقَالَ: (فَإنْ حُصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الهَدِي)، وذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: حَصَرَهُ العَدُوِّ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وأَحْصَرَهُ المَرَضُ فَهُوَ مُحْصَر، فالإحْصَارُ المَذْكُورُ في القُرْآنِ هُو إحْصَارُ المَرَضِ لا إحْصَارُ العَدُوّ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: المُحْصَرُ عَنِ الحَجِّ بِمَرَضٍ لا يَحِلُّهُ مِنْ إحْرَامِهِ إلَّا الطَوَافُ بالبَيْتِ والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، وإنْ أَقَامَ في مَرَضِهِ سِنِينَ وعَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ والهَدْيُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا حُكْمُ كُلِّ مَنْ حُبسَ عَنِ البَيْتِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِحَج إذا كَانَ حَبَسَهُ بِمَرَضٍ، أو فَاتَهُ الوُقُوفُ بِعَرَفةَ مَعً النَّاسِ بخَطَأ مِنْ عَدَدِ الأَيَامِ، أَو خَفِيَ عَلَيْهِ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ فَلَمْ يُدْرِك الوُقُوفَ مَعَ النَّاسِ، وبِهَذا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أبا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، وهَبَّارَ بنَ الأَسْوَدِ، ومَنْ كَانَ مَعَهُمَا حِينَ فَاتَهُمَا الوُقُوفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا بِعُمْرَةٍ، فهذا كَانَ عَامًا قَابِلَا حَجُّوا، وعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم الهَدْيُ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّام في الحَجِّ وسَبْعَةً إذا رَجَعَ مِنْ مِنْى [1329] , لأَنَهُمْ فَرَّقُوا عَمَلَ الحَجِّ الذي كَانُوا قَدْ أحْرَمُوا بِهِ أَوَّلَا في عَامَيْنِ، وكَانَتِ الحَجَّةُ التِّي فَاتَتْ هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ وأَصْحَابهُ حَجَّةُ تَطَوُّعٍ، وذَلِكَ أَنَ أبا أَيُّوبَ وهَبَّارَ بنَ الأَسْوَدِ قَدْ كَانَا حَجَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الوَدَاعِ، فَلِهَذا يَكُونُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ فَفَاتَهُ بِمَرضٍ أو بِخَطَأ مِنْ عَدَدِ الأَيَّامِ أنْ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ حَجهِ عَامًا آخَرَ، بِخِلَافِ مَنْ حَصَرَهُ العَدُوُّ عَنِ البَيْتِ، هَذا لا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وهَذِه الشُنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَذَ مَالِكٌ في القَارِنِ بِفِعْلِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ إذا قَرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا.

وقالَ غَيْرُ مالكٍ: عَلَى القَارِنِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ (¬1). والذي قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ الصَّحِيحُ، لأَنَّ الهَدْيَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى القَارِنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ جَعَلَ عَمَلَ الحَجِّ والعُمْرَةِ وَاحِدًا، وكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْشِيءَ مِنْ بَلَدِه العُمْرَةَ سَفَرًا وَعَمَلَا مِنْ طَوَافٍ وسَعْيٍّ، وَلِلْحَجّ طَوَافًا آخَرَ وعَمَلًا آخَرَ مِنْ طَوَافٍ وَسَعْي، فَلَمَّا جَمَعَ العَمَلَيْنِ جَمِيعًا حِينَ قَرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ في طَوَافٍ واحد وَسَعْيٍّ وَاحِدٍ وَجَبَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الهَدْيُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ" [1336] , يَعْنِي قُرَيْشًا، "حِينَ بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - "، إلى قَوْلهِ في آخِرِ الحَدِيثِ: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمَكِ بالكُفْرِ". قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمَّا هَمَّتْ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيّهِ بِبنَاءِ البَيْتِ وتَجْدِيدِه جَمَعُوا لِذَلِكَ مَالًا مِنْ أَطْيَبِ مَكَاسِبِهِم، فَلَمْ يَفِ ذَلِكَ المَالُ بينَاءِ البَيْتِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَاقْتُصِرَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وكَانَتْ صِفَةُ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ للبَيْتِ مُدَوَّرًا مِنْ وَرَائِهِ، وكَانَ لَهُ رُكْنَانِ وَهُمَا اليَمَانِيَّانِ، فَلَمَّا بَنتَهُ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيَّةِ جَعَلُوا لَهُ أَرْبَعَةَ أَرْكَانَ، وحَجَزُوا الحِجْرَ مِنْ وَرَائِهِ، إرَادَةً مِنْهُم اسْتِكْمَالَ الطَّوَافِ بالبَيْتِ، فَبَقِيَ البَيْتُ كَذَلِكَ إلى أيَّامِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فَهَدَمَهُ وبَنَاهُ علَى صِفَةِ بُنْيَانِ إبْرَاهِيمَ لَهُ، فَلَمَّا غَلَبَ الحَجَّاجُ عَلَى مَكَّةَ وقَتَلَ ابنَ الزُّبَيْرِ هَدَمَ البَيْتَ ثُمَّ بَنَاهُ عَلَى حَسَبِ بُنْيَانِ قُرَيْشٍ في الجَاهِليَّهِ، وجَعَلَ الحِجْرَ مِنْ وَرَائِهِ، فَهُوَ الآنَ مِنْ بُنْيَانِ الحَجَّاجِ. قالَ: وإنَّمَا مَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بُنْيَانِهِ مَا اتَّقَاهُ مِنْ إنكارِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ، فقالَ لِعَائِشَةَ: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَؤمكِ بالكُفْرِ لَنقَضْتُ بُنْيَانَ الكَعْبَةِ، وبَنَيْتُ البَيْتَ عَلَى حَسَبِ مَا كانَ إبْرَاهِيمُ بَنَاهُ". [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: في هَذا مِنَ الفِقْهِ: مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى عَلَيْهِ تَغَيُّرِ حَالِهِ في دِينِه، والرِّفْقُ بالجَاهِلِ قال لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في مَعْصِيةِ اللهِ. ¬

_ (¬1) هذا قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وغيرهم، ينظر: التمهيد 8/ 233، والمبسوط 4/ 28.

فَقُلْتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: مَا مَنَعَ الخُلَفَاءَ بَعْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْنُوهُ؟ فقالَ لِي: اشْتَغَلُوا عَنْ ذَلِكَ بالجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ، وتُرِكَ كَمَا تَرَكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: الرَّمَلُ بالبَيْتِ عِنْدَ الطَوَافِ مَأْمُورٌ بهِ، ومَنْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيءٌ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً، وكَانَ سَبَبُهُ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاس قالَ: "قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَاُبهُ مَكَّةَ وقَدْ وَهَنتهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَقَالَ المُشْرِكُوَّنَ: إنَّهُ يَقْدِمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنتهُمْ الحُمَّى، فأَطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ عَلَى مَا قَالُوا، فأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمَلُوا إذا طَافُوا بالبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوَا أَرْبَعًا، فَلَمَّا رَآهُمْ المُشْرِكُونَ فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنَا وأَقْوَى" (¬1). في هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْه: إظْهَارُ الجَلَدِ والقُوَّةِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ العَدُوِّ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَسْنَدَ الوَليدُ بنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا قَضَى طَوَافَهُ بالبَيْتِ وأَرَادَ الخُرُوجَ إلى الصَّفَا اسْتَلَمَ الحَجَرَ" (¬2). * وهَذا الحَدِيثُ في جَمِيعِ المُوَطَّآتِ [عَنْ] (¬3) مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا قَضَى طَوَافَهُ بالبَيْتِ" [1346]. * ومَالِكٌ يَسْتَحِبُّ لِمَنْ طَافَ بالبَيْتِ وَرَكَعَ أَنْ يَسْتَلِمَ الحَجَرَ، وكَذَلِكَ يَخْرُجَ إلى الصَّفَا للسَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ومَنْ تَرَكَ الاسْتِلَامَ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، وقَدْ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ: "كَيْفَ صَنَعْتَ في اسْتلَامِ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ؟ فقَالَ: اسْتَلَمْتُ وتَرَكتُ، فقَالَ: أَصَبْتَ" [1347] فَفِي هَذا بَيَانُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الإسْتِلَامَ مَنْ غَلَبَةُ أَلَّا شَيءَ عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1525)، ومسلم (1266)، بإسنادهم إلى حماد بن زيد به. (¬2) ينظر: التمهيد 24/ 413. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

* [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِفِعْلِ عُرْوَةَ إذ كَانَ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا في طَوَافِهِ بالبَيْتِ [1348] وأَخَذَ في ذَلِكَ بقَوْلِ ابنِ عُمَرَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَمَسَّ مِنَ الأَرْكَانِ في طَوَافِهِ بالبَيْتِ إلَّا اليَمَانِيِيْنِ" (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ للحَجَرِ: (إنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، ولَوْلَا أنِّي رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قبَّلْتك، ثُمَّ قَبَّلَهُ ومَضَى) [1350] يُرِيدُ: لا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ، وقَدْ كُنَّا نُعَظِّمُ أَمْرَ الحِجَارَةِ في الجَاهِلِيَّةِ فَهَجَرْنَا تَعْظِيمَهَا في الإسْلَامِ، غَيْرَ أَنِّي أَفْعَلُ في تَقْبِيلِكَ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَبْلَّهُ. فَفِي هَذا مِنَ الفِقْه: أَنَّ سُنَنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَفْعَالَهُ يُؤْتَى بِهَا كَمَا سَنَّهَا وَفَعَلَها مَا لَمْ يَنْسَخْهَا - صلى الله عليه وسلم - بِغَيْرِهَا أَو يَتْرُكُهَا الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لِشَيءٍ عَلِمُوهُ في ذَلِكَ. قالَ مَالِكٌ: مَنْ طَافَ بالبَيْتِ بَعْدَ الصُّبْحِ أَو بَعْدَ العَصْرِ لَمْ يَرْكَعْ لِطَوَافِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَو تَغرُبَ. وقالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ يَرْكَعُ مَنْ طَافَ بالبَيْتِ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ (¬2)، واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ بَابَاه، عَنْ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَمْنَعُوا أَحَدًا أَنْ يَطُوفَ بِهَذا البَيْتِ ويُصَلِّي، أَيَّ سَاعَةٍ كانَ مِنْ لَيْلٍ أَو نَهَارٍ" (¬3). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِه أَهْلَالمَدِينَةِ، وقَدْ رَوَى أَبو الزُّبَيْرِ: (أَنَّ ابنَ عباسٍ كَانَ يَطُوفُ بَعْدَ العَصْرِ ثُمَّ يدخلُ حُجْرَتَهُ، فَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ) [1360] فَلَوْ كَانَ الرُّكُوعُ عِنْدَ ابنِ عَبَّاسٍ مَعْلُومًا بَعْدَ الصُّبْحِ وبَعْدَ العَصْرِ لَرَكَعَ في المَسْجِدِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (164)، ومسلم (1187). (¬2) هذا قول الشافعي كما في الأم 1/ 149، وينظر: التمهيد 13/ 45. (¬3) رواه أبو داود (1894)، والترمذي (868)، والنسائي (585)، وابن ماجه (1254)، بإسنادهم إلى سفيان بن عيينة به.

تَغْرُبَ الشَمْسُ، وبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ (¬1)، فَمَنْ طَافَ بَعْدَ العَصْرِ لَمْ يَرْكَعْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فإذا غَرَبَتْ كَانَ بالخَيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَهُمَا قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ، وإنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا حَتَّى يُصَلّي المَغْرِبَ، ومَنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ رَكَعَ إذا طَلُعَتِ الشَّمْسُ. * * * ¬

_ (¬1) ثبت هذا في أحاديث كثيرة، ومنها حديث أبي هريرة، رواه البخاري (563)، ومسلم (825).

باب وداع البيت، وجامع الطواف، والسعي

بابُ وَدَاعِ البَيْتِ، وَجَامِعِ الطَّوَافِ، والسَّعْي * رَوَى القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ النَّاسَ بالرَّحِيلِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاع، ثُمَّ أتى البَيْتَ فَطَافَ بهِ سَبْعًا، ثُمَّ خَرَجَ) (¬1)، وهَذا لَمْ يَرْوِ 5 مَالِكٌ في المُوَطَّأ، وإنَّمَا رَوَى قَوْلَ عُمَرَ: (لا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بالبَيْتِ، فإنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بالبَيْتِ) [1365]. وطَوَافُ الوَدَاعِ مَأْمُورٌ بهِ، ولَيْسَ بِفَرْضٍ، والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صَفِيَّةَ حِينَ حَاضَتْ بَعْدَ طَوَافِهَا للإفَاضَةِ وقَبْلَ طَوَافِهَا للوَدَاعِ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، فقالَ: (أَخْرُجْنَ)، فَلَمْ يُوجِبْ على صَفِيّهَ طَوَافَ الوَدَاعِ إذْ مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ حَيْضَتَهَا، وخَرَجَتْ مَعِ أَزْوَاجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ تَطُفْ للوَدَاعٍ، فَدَلَّ هَذا عَلَى أَنَّ طَوَافَ الوَدَاعِ لَيْسَ بِفرْضٍ، وإنَّمَا الفَرْضُ طَوَافُ الإفَاضةِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَيْسَ العَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى رَدِّ عُمَرَ للَّذِي تَرَكَ طَوَافَ الوَدَاعِ، فَرَدَّهُ إليهِ مِنْ مَرِّ ظَّهْرَانَ لِبُعْدِه مِنْ مَكَّةَ، وذَلِكَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةَ سِتَّة عَشَرَ مِيلًا، وإنَّمَا يَرْجِعُ إليهِ مَن إذا ذَكَرَهُ وَهُو بِقُرْبِ مَكَّةَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ في انْصِرَافِهِ إليهِ ضَرَرٌ لَهُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّ سَلَمَةَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وأَنْتِ رَاكبَةٌ" [1371] فِيهِ مِنَ الفِقْه: إبَاحَةُ دُخُولِ البَعِيرِ المَسْجِدِ، وَطَوافُ النِّسَاءِ مَعَ الرَجَالِ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2005)، بإسناده إلى القاسم بن محمد به.

وقَوْلُهَا: "فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إلى جَانِبِ البَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ بـ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} "، وفِيهِ: إبَاحَةُ الجَهْرِ في النَّافِلَةِ بالنَّهَارِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا صَلَّى إلى جَانِبِ البَيْتِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ المَقَامَ حِينَئِذٍ كَانَ مُلْصَقَا بالبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ إلى المَوْضِعِ الذي هُوَ فِيهِ الآنَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَمَرَ ابنُ عُمَرَ المَرْأَةَ التِّي سَأَلتْهُ عَنْ غَلَبَةِ الدَّمِ عَلَيْهَا، وَكَثْرَةِ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ المُسْتَحَاضَةُ أَنْ تَغْتَسِلَ، وتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبٍ، ثُمَّ تَطُوفُ كَمَا تَفْعَلُ في الصَّلَاةِ [1372] وَلَو كَانَ ذَلِكَ الدَّمُ دَمَ حَيْضَةٍ لَمْ يَأْمُرْهَا بِدُخُولِ المَسْجِدِ، ولَا بالطَّوَافِ بالبَيْتِ، كَمَا لَمْ يَأْمُرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بالطَوَافِ بالبَيْتِ مِنْ أَجْلِ حَيْضَتِهَا، فَالحَائِضُ لا تَدْخُلُ المَسْجِدَ كَمَا أنَّهَا لا تُصَلِّي، وَالمُسْتَحَاضَةُ تَدْخُلُهُ، كَمَا أنَّهَا تُصَلِّي. * قَوْلُ عُرْوَةَ لِعَائِشَةَ حِينَ سَأَلَهَا عَنِ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، وَهُوَ يَوْمِئذٍ حَدِيثُ السِّنِّ [1381] يَعْنِي: أنَّهُ كَانَ يَوْمِيِّذٍ صَغِيرُ السِّنِّ لَمْ يَفْقَهْ كُلَّ الفِقْهِ، وذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ السَّعِيَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قُلْتَ، ثُمَّ ذَكَرَتْ أَنَّ الأَنْصَارَ كَانُوا في الجَاهِليّهِ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، تَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الصَّنَمَ الذي كَانَ بِمَنَاةَ التِّي هِيَ بِقُرْبِ الجُحْفَةِ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وكَانُوا لا يُعَظِّمُونَ الأَصْنَامَ التِّي كَانَتْ عَلَى الصَّفَا والمَرْوَةَ، تَحَرَّجْتِ الأَنْصَارُ أَنْ يَسْعَوا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الأَصْنَامِ التِّي كَانَتْ عَلَيْهِمَا في الجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَا لَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- السَّعْيَ بَيْنَ الصَفَا والمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ الحَجِّ. وذَكَرَ ابنُ سَلَامٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قالَ: (كَانَ عَلَى الصَّفَا الصَّنَمُ الذي يُقَالُ لَهُ: إسَافٌ، وعَلَى المَرْوَةِ الصَّنَمُ الذي يُقَالُ لَهُ: نَائِلَةُ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ وأَذْهَبَ اللهُ تِلْكَ الأَصْنَامَ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا، فأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا

وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬1). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُرْوَةَ في الَّذينَ كَانُوا يَسْعُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ رُكْبَانًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: (لَقَدْ خَابَ هَؤلَاءِ وَخَسِرُوا) [1382] , يَعْنِي: خَابُوا مِنْ أَجْرِ السَّعِي، وخَسِرُوا ثَوَابَهُ، فَلَيْس يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إلَّا مَاشِيًا، فإذا لَمْ يَسْتَطِعْ المَشِي رَكِبَ. أَوْجَبَ مَالِكٌ عَلَى مَنْ وَطِءَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَة قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ سَعْيَهُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أَنْ يَغْتَسِلَ ويُتِمَّ عُمْرَتَهُ، ويُبْدِلُهَا (¬2)، ويَهْدِي، مِثْلَ مَا وَجَبَ عَلَى مَنْ وَطِءَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبَةِ أَنْ يُتِمَّ حَجَّهُ الذي أَفْسَدَهُ بالوَطْءِ، ثم عَلَيْهِ حَجُّ قَابِلٍ وَالهَدِي. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الحَاجِّ أَحْسَنُ مِنْهُ للحَاجِّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَقَوُّونَ عَلَى الوُقُوفِ والدُّعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ، ولَمْ يَصُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ [1389] وَوَقَفَ بالمَوْقِفِ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِه، وهَذَا هُوَ المَأْمُورُ بهِ لِمَنْ كَانَ لَهُ ظَهْرٌ، أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا. قالَ الأَبْهَرِيُّ: الحَجُّ رَاكِبَاَّ أً فْضَلُ مِنْهُ رَاجِلًا، وكَذَلِكَ حَجَّ رَسُولُ اللهِ رَاكِبًا، وَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ. * * * ¬

_ (¬1) رواه يحيى بن سلام عن حماد عن داود بن أبي هند عن الشعبي به، ينظر: مختصر تفسير يحيى بن سلام لإبن أبي زمنين 1/ 56. (¬2) أي يبدلها بعمرة أخرى صحيحة قضاء عن عمرته التي فسدت بالوطء.

تفسير أبواب الهدايا

تَفْسِيرُ أَبْوَابِ الهَدَايَا * حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بنُ أَبي بَكْرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى جَمَلًا لأَبِي جَهْلِ بنِ هِشام" [1397] , هُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ في المُوطَّأ، وأَسْنَدَهُ أَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وقالَ: (في رَأْسِهِ بُرَةً مِنْ ذَهَبٍ، يَغِيظُ بِذَلِكَ المُشْرِكِينَ) (¬1). قالَ أَبو عُمَرَ: فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: هَدْيُ خِيَارِ الإبِلِ، وَهَدْيُ الذُكُورِ مِنْهَا، وهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الهَدَايَا لا تَكُونُ إلَّا مِنْ إنَاثِ الإبِلِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أَبَاحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَاحِبِ البُدْنَةِ أَنْ يَرْكَبَهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّةُ رَآهُ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ المَشِيُ، فقَالَ: "ارْكَبْهَا" [1398] , فقَالَ: "إنَّهَا بَدَنَةٌ"، أَيْ قَدْ جَعَلْتُهَا للهِ وأَخْرَجْتُهَا مِنْ مَالِي فَلَا انتفِعُ بِشَيءٍ أَخْرَجْتُهُ للهِ، فَرَخصَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في رُكُوبِهَا، مِنْ أَجْلِ مَشَقَةِ المَشِي عَلَيْهِ، فلَا يُسْتَباحُ رُكُوبُ البَدَنَةِ إلَّا مِن ضَرُورَةٍ، ولَا يُشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا عَنْ حَاجَةٍ، لِئَلَّا يَرْجِعَ في شَيءٍ جُعِلَ للهِ، ومِنْ هَذا الوَجْهِ كُرِهَ للَّرَجُلِ أَنْ يَنتفِعَ بِشَيءٍ مِنْ صَدَقَتِهِ، أَو يَرْجِعَ في شَيءٍ مِنْهَا. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: صِفَةُ إشْعَارِ البُدْنِ هُوَ أَنْ يُشَقَّ بالسِّكّينِ في سَنَامِ البَعِيرِ أَو النَّاقَةِ مِنَ الجَانِب الأَيْسَرِ عُرْضًا مِنْ نَاحِيةِ رَأْسِهِ إلى ذَنَبهِ، ومَعنَى الإشْعَارِ والتَّقْلِيدِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ: أَنَّ صَاحِبَ الجَمَلِ والنَّاقَةِ قَدْ أَخْرَجَ ذلِكَ مِنْ مَالِهِ للهِ جَلَّ وَعَزَّ، وجَعَلَ لِذَلِكَ عَلَامَة وَهِيَ الإشْعَارُ والتَّقْلِيدُ، فإنْ ضَلَّ البَعِيرُ المُشْعَرِ عَنْ رَبِّهِ فَوَجَدَهُ مَنْ بَلَّغَهُ مَحِلَّهُ ونَحَرَهُ بالمَنْحَرِ فَقَدْ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْ مُهْدِيهِ. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (1749).

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنِ الحَدِيثِ الذي يُذْكَرُ فِيهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى ضَأْنًا مُقَلَّدَةً" (¬1)، فقالَ لِي: هَذا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وتَقْلِيدُ الضَّاْنِ تَعْذِيبٌ لَهَا؛ لأنَّهَا لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرْعَى مِنَ الأَرْضِ، إذْ تُمْسِكُهَا القِلَادَةُ المُعَلَّقَةِ مِنْ عُنِقِهَا، ورُبَّمَا خَنَقَتْهَا القِلَادَةُ، وَهِيَ بِخِلَافِ الإبِلِ التِّي لا يَضُرُّهَا التَّقْلِيدُ (¬2). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ اسْمُ صَاحِبِ هَدَايَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذؤَيْبٌ، وَهُوَ وَالِدُ قَبِيصَةَ بنِ ذُؤيبٍ، فَذُؤَيبٌ صَاحِبٌ وابنُهُ صَاحِبٌ [1414]. قالَ أَبو عُمَرَ: في حَدِيثهِ مِنَ الفِقْهِ: أنَّهُ مَنْ بَعَثَ مَعَهُ هَدْي فَعَطَبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِفَهُ أنْ يَنْحَرَهُ وُيخْلِي بَيْنَ النَّاسِ وبَيْنَهُ يَأْكُلُونَهُ ولَا يَأْكُلُ هُو مِنْهُ، فإنْ أَكَلَ مِنْهُ ضَمِنَهُ. ومِنْ هَذَا الحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ في الرَّاعِي: إنَّهُ لا يَضْمَنُ مَا مَاتَ مِنَ الغَنَمِ أو غَيْرِهَا إلَّا [أنْ] (¬3) يُذْبَحَ أَو يُنْحَرَ، فإنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ قِيمَةَ مَا تَعَدَّى عَلَيْهِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ ابنُ عُمَرَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ بأَجِلَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ، ثُمَّ يَكْسُوهَا الكعْبَةَ إذا نَحَرَ البُدْنَ [1408]. قالَ أَبو عُمَرَ: كَانَتِ الكَعْبَةُ في الجَاهِليَّةِ تُكْسَى بِجُلُودِ [الأنطاع] (¬4) يُخْرَزُ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ ثُمَّ تُكْسَى بِهَا الكَعْبَةُ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ كُسِيتْ بالدِّيبَاجِ وغَيْرِهِ، فَكَانَ ابنُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِجِلَالِ بُدْنِهِ، وهَكَذَا يَفْعَلُ بَأَجِلَّةِ البُدْنِ الآنَ إذا نُحِرَتِ البُدْنُ. ¬

_ (¬1) قد ثبت في صحيح البخاري (1616) وغيره أن عائشة كانت تفتل قلائد الغنم ويبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. (¬2) هذا قول مالك وأصحاب الرأي في عدم جواز تقليد الغنم، ينظر: التمهيد 17/ 228، وفتح الباري 3/ 547. (¬3) ما بين المعقوفتين ليست واضحة في الأصل، وزدتها مراعاة للسياق. (¬4) ما بين المعقوفتين وضعته بما أراه مناسبًا للسياق، وكانت اللفظة في الأصل: (الطائف) ولم أجد لها معنى.

* [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَمَرَ عُرْوَةُ بَنِيهِ أَنْ يَهْدُوا للهِ خَيَارَ إبِلِهِم، ولَا يَتَقَرَّبُوا إليه بالدُّونِ مِنْهَا [1412] , وأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] , قالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هُوَ أنْ يَقْصِدَ الرَّجُلُ إلى رَذَالةِ مَالِهِ، فَيُخْرِجُهُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ زَكَاتِهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ هَدِي وَاجِبٌ مِنْ جَزَاءٍ، أَو هَدْي مُتْعَةٍ، أَو شِبهِ ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ بهِ إلى مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ قَلَّدَهُ وأَشْعَرَهُ فَعَطَبَ في الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلى مَكَّةَ كَانَ عَلَى صَاحِبهِ البَدَلُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مَحِلَّهُ، لأَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] , فَمَتى لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ أَبْدَلَهُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ هَدْي التَّطَوُّعِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَوْجَبَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ وَطِءَ امْرَأتهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إتْمَامَ الحَجِّ الذي كَانَا قَدْ أَحْرَما بهِ [1421] , مِنْ أَجْلِ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] , ومَنَعَ اللهُ مِنَ الرَّفَثِ في الحَجِّ وَهُو إصَابَةُ النّسَاءِ، فَلِهَذا أُمِرَ الوَاطِءُ في الحَجّ بإعَادَةِ الحَجَّةِ التِّي أَفْسَدَهَا، وَيُقَالُ لَهُمَا: إذا أَحْرَمْتُمَا مِنْ قَابِلٍ تَفَرَّقَا، خَشْيَة عَلَيْهِمَا أَنْ يَقَعَا فِيمَا وَقَعَا فِيهِ أَوَّلَا، وعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الهَدِي، وهَذا إذا كَانَ وَطْئُهُ إيَّاهَا قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبةَ يَوْمَ النَّحْرِ. فإنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الذي أَكْرَهَها عَلَى وَطْئِهِ إيَّاهَا لَزِمَهُ أَنْ يُهْدِي عَنْهَا، وعَلَيْهَا هِيَ إعَادَةُ الحَجِّ، لا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. فإنْ كَانَ وَطَئِهَا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةِ وقَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَفَ الإفَاضَةِ جَبَرَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ وهَدْيٍّ، ولَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. فإنْ كَانَ وَطَئِهَا في غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ ولَمْ يَكُنْ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ فإنَّهُ يَرْمِي الجَمْرَةَ ويَطُوفُ للإفَاضَةِ، وعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ ويَهْدِي، ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وإنَّمَا يَفْسُدُ حَجُّهُ إذا وَطِئَهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبةِ.

وقالَ مَالِكٌ: مَنْ وَطِءَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَدْ أَفَسَدَ حَجَّهُ. وقَالَ ابنُ أَبي حَازِمٍ (¬1): رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ هَذا القَوْلِ. يُرِيدُ: أنَّهُ إذا وَقَفَ بِعَرَفةَ ثم وَقَعَ وَطْئُهُ بَعْدَ الوُقُوفِ وقَبْلَ رَمْيهِ جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ أنَّهُ يَجْبِرُ حَجَّهُ بالعُمْرَةِ والهَدِي، وهَذه قَوْلَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ مَالِكٍ، لَم يَقُلْهَا أَحَا مِنْ أَصْحَابهِ عَنْهُ، بلْ قَالُوا عَنْهُ: إنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ علَى نحْوِ مَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يَقَعَ وَطْئُهُ إيَّاهَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مَنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بعَرَفَةَ مَعِ النَّاسِ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ في عُمْرَةٍ [1428] , لأَنَّهُ قَدْ فَاتهُ الحَجُّ، [إذ] (¬3) لَمْ يَقِفْ مَعَ النَّاسِ، ولَا وَقَفَ بِهَا حَتَّى فَاتَهُ الوُقُوفُ بِطُلُوعِ الفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وذَلِكَ أَنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَرِيضَةٌ، وكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ ويَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ المُحْرِمَ لا يَحِلُّهُ مِنْ إحْرَامِهِ إلَّا الطَوَافُ والسَّعِي، مَا لَمْ يُصَدَّ عَنِ البَيْتِ بِعَدُوٍّ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: سأَلَ الأَسْوَدُ بنُ يَزِيدَ عَائِشَةَ وَهُمْ بِعَرَفةَ، فقالَ لَهَا: (يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، إذا خَفِيَ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ عَنِ النَّاسِ فَوَقَعَ وُقُوفُهُمْ هَهُنَا في غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ: حَجُّهُمْ تَامٌّ) (¬4). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ في القَارِنِ إذا فَاتَهُ الحَجُّ أَنَّهُ يَحُجُّ قَابِلًا قَارِنًا ويُهْدِي هَدْيَيْنِ، هَدْيًا لِقِرَانهِ الحَجَّ مَعَ العُمْرَةِ، وهَدْيًا لَمَا فَاتَهُ مِنَ الحَجِّ [1430]. وقَالَ سَحْنُونُ في المُدَوَّنَةِ: إذا أَفْسَدَ القَارِنُ الحَجَّ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ هَدَايا، هَدْيا ¬

_ (¬1) هو عبد العزيز بن أبي حازم المدنِيّ الفقيه، ثقة روى له الستة، توفي سنة (182) وقيل سنة أربع، تهذيب الكمال 18/ 120. (¬2) ينظر قول مالك هذا في: التمهيد 7/ 271، والإستذكار 4/ 536. (¬3) جاء في الأصل: (إذا)، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬4) لم أجد هذا الأثر بعد بحث واسع عنه.

لِقِرَانِهِ أَوَّلًا، وَهَدْيَيْنِ في حَجَّةِ القَضَاءِ الوَاحِدِ لِفَسَادِ حَجَّهِ، والثَّانِي لِقِرَانِهِ الحَجَّ مَعَ العُمْرَةِ (¬1). وقالَ أَبو عُمَرَ: يَحْتَمِلُ مَا في المُوطَّأ مِنْ قَوْلهِ: (أَنَّهُ يَحُجُّ قَابِلًا قَارِنًا ويُهْدِي هَدْيَيْنِ) أَنْ يَكُونَ قَدْ قَدَّمَ الهَدْيَ الذي كَانَ سَاقَهُ في حَجَّتِهِ التِّي فَاتَتْهُ وَهُوَ قَارِن ونَحَرَهُ حِينَئِذٍ، ثُمَّ يَبْقَى عَلَيْهِ هَدْيَانِ في الحَجَّةِ التِّي يَقْضِيهَا، فَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ في المُوطَّأ ولَا في المُدَوَّنَةِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى عَطَاءٌ، عَنِ ابنِ عَبَّاس فِيمَنْ وَطِءَ أَهْلَهُ بَعْدَ جَمْرَةِ العَقَبةِ وقَبْلَ أنْ يَفِيضَ أَنَّهُ يَنْحَرُ بَدَنَةً [1432]. * ورَوَى عِكْرَمةُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْتَمِرُ ويَهْدِي [1433]. وذَكَرَ مَالِكٌ هَذا عَنْ عِكْرِمَةَ في المُوطَّأ، وصَرَّحَ باسْمِهِ في هَذِه المَسْأَلةِ، ولَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ اسْمَ عِكْرَمةَ في المُوطَّأ في غَيْرِ هَذِه المَسْألةِ. قالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: المَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ ابنِ عَبَّاس في هَذِه المَسْأَلةِ مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطَاءٌ لا مَا رَوُاهُ عَنْهُ عِكْرِمَةُ، وقَدْ رَوَى أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا أَفْتَيْتُ [برأَيِي] (¬2) قَطُّ إلَّا في ثَلَاثِ مَسَائِلَ، إحْدَاهُنَّ الذي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ للإفَاضَةِ أَنَّهُ يَعْتَمِرُ ويَهْدِي)، فَرِوَايةُ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا حَكَاهُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ في هَذِه المَسْألةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ ابنِ عَباس، وأَنَّ المَعْرُوفَ عَنْهُ مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطَاءٌ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بَدَنَةً. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَنْ نَسِيَ طَوَافَ الإفَاضَةِ حَتَّى رَجَعَ إلى بَلَدِهِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إلى مَكَّةَ للطَّوَافِ، لأَنَّ طَوَافَ الإفَاضَةِ لا يَتُمُّ الحَجُّ إلَّا بهِ، فإنْ كَانَ قَدْ طَافَ بَعْدَ أنْ رَجَعَ مِنْ مِنَى تَطَوُّعًا ولَمْ يَنْوِ بهِ طَوَافَ الإفَاضَةِ ثُمَّ نَسِيَ طَوَافَ الإفَاضَةِ وذَكَرَ ذَلِكَ في بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ طَوَافُ التَّطُوُّع عَنْ طَوَافِ الإفَاضَةِ، فَإذا لَمْ ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة 2/ 384، ومختصر المدونة 1/ 593 - 594، والنوادر والزيادات 2/ 424. (¬2) جاء في الأصل: (أبي) وهو خطأ، وينظر: التمهيد 7/ 271.

يَطُفْ تَطُوُّعًا ولَا للإفَاضَةِ رَجَعَ وطَافَ، فإنْ وَطِءَ قَبْلَ الطَّوَافِ طَافَ ثُمَّ اعْتَمَرَ وأَهْدَى. * قَوْلُ عَلِيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ: (إنَّ مَا استَيْسَرَ مِنَ الهَدْي شَاةٌ) [1436]. * ورَوَى نَافِعٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ: (أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي بَدَنَةٌ أَو بَقَرَةٌ) [1438]. * ورَوَى صَدَقَةُ بنُ يَسَارٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي شَاةٌ) [1441]. * وقَدْ حَلَّتْ عَمْرَةُ بنتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ التَّرْوِيةِ مِنْ عُمْرتِهَا، ثُمَّ أَهَلَّتْ بالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ ذبَحَتْ يَوْمَ النَّحْرِ شَاةً لِتَمَتّعِهَا بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ وَهِيَ مَا اسْتَيْسَر مِنَ الهَدْي [1439]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَنْ بُعِثَ مَعَهُ هَدْيٌ لِيَنْحَرُهُ في حَجٍّ فَنَحَرهُ في عُمْرَةٍ أَنَّهُ يَضْمِنُهُ لِصَاحِبهِ لِتَعَدِّيهِ مَا أَمَرَ بهِ صَاحِبهُ. * قالَ مَالِكٌ: والنُّسُكُ يَكُونُ حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُهُ أَنْ يَنْسِكَ وتَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وقَدْ نَسَكَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ عَنِ ابْنِهِ حُسَيْنن بالسُّقْيَا حِينَ أَمَاطَ عَنْهُ الأَذَى وحَلَقَ رَأْسَهُ، ولَيْسَ النُّسُكُ في هَذا كَالهَدْي الذي مَحِلَّهُ مَكَّةَ، لِقَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] , فَلَا يَكُونُ الهَدْيُ إلَّا بِمَكَّةَ أَو بِمِنَى [1446].

باب الوقوف بعرفة، إلى آخر باب الحلاق، والتقصير

بابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، إلى آخِرِ بَابِ الحِلَاقِ، والتَّقْصِيرِ * قالَ أَبو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ عَوْنِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثنا ابنُ الأَعْرَابِيِّ، قالَ: أَخبرنا أَبو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثنا [الحَسَنُ] (¬1) بنُ عَلَي، عَنْ أَبي أُسَامَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زيدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِف إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ" (¬2)، وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ، وهَذا عِنْدَ مَالِكٍ بَلَاغٌ غَيْرُ مُسْنَدٍ [1448]. قالَ عِيسَى: بَطْنُ عُرَنَةَ هُوَ بِعَرَفَةَ بِغَرْبِيّ جدَارِ مَسْجِدِ عَرَفَةَ، يُقَالُ: لَو سَقَطَ ذَلِكَ الجِدَارُ مَا سَقَطَ إلَّا في وَادِي عُرَنَه (¬3)، وهَذَا مَكَان لَيْسَ يَقِفُ أَحَدٌ فِيهِ للدُّعَاءِ، وإنَّمَا يَرْتَفِعُ النَّاسُ عَنْهُ، وبَطْنُ مُحَسِّرٍ هُوَ وَادٍ دُونَ المُزْدَلِفَةِ، لَيْسَ يَقِفُ فِيهِ أَحَدٌ للدُّعَاءِ إذا وَقَفَ النَّاسُ صَبِيحَةَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ المِشْعَرِ الحَرَامِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ ومَنْ دَانَ دِينُها يَقِفُونَ بالمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ المَنَارَةِ، وكَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَأْتِي عَرَفَاتَ وأَنْ يَفِيضَ مِنْهَا)، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (¬4) [البقرة: 199]. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: الحسين، وهو خطأ، والحسن بن علي هو الخلال الحلواني، شيخ الأئمة الستة إلا النسائي، ينظر: تهذيب الكمال 6/ 260. (¬2) سنن أبي داود (1937) عن الحسن بن علي الحلواني به، ولكن ليس فيه (إلا بطن عرنة) (¬3) نقل قول عيسى: ابن مزين في تفسيره، رقم (11). (¬4) والحديث في صحيح البخاري (4248)، ومسلم (1219)، بإسنادهما إلى هشام بن عروة به.

فَالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرِيضَة مِنْ فَرَائِضِ الحَجِّ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: (مَنْ [لَمْ يَقِفْ] (¬1) بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ المُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ، فإنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بهَا حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ المُزْدَلِفَةِ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ يَحِلُّ بعُمْرَةٍ وعَلَيْهِ حَجُّ قَابلٍ والهَدْي) [1455] , هَذا القَوْلُ مِنِ ابنِ عُمَرَ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ بُكَيْرِ بنِ [عَطَاءٍ] (¬2)، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَعْمُرٍ قالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ فَجَاءَهُ نَاس مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَأَمَروا رَجُلَا مِنْهُم فَنَادَى: كَيفَ الحَجُّ، فأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا فَنَادَى: الحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ المُزْدَلِفَةِ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُهُ) (¬3). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بِهَذا الحَدِيثِ أَخَذَ أَهْلُ المَدِينَةِ، وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ ابنِ عُمَرَ: (أَّنهُ [مَنْ لَمْ يَقِفْ] (¬4) بعَرَفَةَ قَبْلَ الفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ المُزْدَلِفَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ) [1455] , ولَيْلَةُ المُزْدَلِفَةِ لَيْلَةُ النَّحْرَ. فأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ الذي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ أَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمُزْدَلِفَةِ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَعَنا هَذِه الصَّلَاةُ"، يَعْنِي صَلَاةَ الصّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بالمُزْدَلِفَةِ، "وأَتَى قَبْلَ ذَلِكَ عَرَفَةَ لَيْلَا أَو نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" (¬5)، فَهَذا حَدِيثٌ قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ وعَلَّلُوهُ، ولَمْ يَأْخُذْ بهِ مَالِكٌ، والوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يَكُونُ بالنَّهَارِ وباللَّيْلِ، ويُجْزِيء الوُقُوفُ فِيهَا باللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، ولَا يُجْزِيُّ الوُقُوفُ فِيهَا بالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، ومَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلَمْ يَرْجِعْ إليهَا، ويُدْرِكُ الوُقوفَ بِها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ، وجاء في الأصل: (من وقف) وهو خطأ. (¬2) جاء في الأصل: (الأَشَج) وهو خطأ، وبكير بن عطاء هو الليثي الكوفي، وهو تابعي ثقة، ينظر: تهذيب الكمال 4/ 249. (¬3) رواه أبو داود (1949)، وأحمد 4/ 309، بإسنادهما إلى سفيان الثوري به. (¬4) ما بين المعقوفتين من الموطأ، وجاء في الأصل: (أنه وقف بعرفة) وهو خطأ. (¬5) رواه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3039)، وابن ماجه (3016)، وهو حديث صحيح.

قَبْلَ الفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ المُزْدَلِفَةِ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ، ويَكُونُ عَلَيْهِ الطَوَافُ بالبَيْتِ، والسَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ويَحْلِقُ بِمَكَّةَ، وعَلَيْهِ حَجُّ قَابِل والهَدْي (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الوُقُوفُ بالمَشْعَرِ الحَرَامِ بَعْدَ صَلَاةِ الصبحِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ سُنَّةٌ، وهَذا إجْمَاع إلَّا مَا حَكَاهُ أَبو عُبَيْدٍ أنَّهُ مَنْ لَمْ يَقِفْ بالمُزْدَلِفَةِ مَعَ الإمَامِ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ (¬2). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: وُيرَدُّ هَذا القُوْلَ تَقْدِيمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنَى باللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يَقِفُوا بالمَشْعَرِ الحَرَامِ، وهَذا يَدُلُّ عَلَى أَن الوُقُوفَ بالمُزْدَلِفَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وإنَّمَا هُوَ سُنَة، فإذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا وُقُوفَ بالمُزْدَلِفَةِ، كَمَا إذا طَلَعَ الفَجْرُ لَيْلَةَ النَحْرِ لَمْ يَكُنْ وُقُوفٌ بِعَرفَةَ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا حَرَّكَ ابنُ عُمَرَ رَاحِلَتَهُ في بُطْنِ مُحَسِّرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: "أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَوْضَعَ في وَادِي مُحَسِّرٍ" (¬3)، يَعْنِي: حَرَّك رَاحِلَتَهُ فِيهِ، والإيضَاعُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ. قالَ عِيسَى: مَنْ بَلَغَ هَدْيَهُ مِنَى فَلْيَنْحَرْهُ، أَو يَذْبَحُ ما يَذْبَحُ ويُعْطِيهِ المَسَاكِينَ، فإذا دَفَعَهُ إليهِمْ حَيَّا فَقَدْ جَهِلَ ولَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلَهُ. * حَدِيثُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَمْسِ لَيَالٍ بقِينَ لِذِي القَعْدَةِ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَم يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إذا طَافَ بالبَيْتِ، وَسعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أَنْ يَحْلِقَ" [1469] , وذكَرَتِ الحَدِيثَ إلى آخِرِه. قالَ الفُقَهاءُ مِنَ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ: هَذا الحَدِيثُ خَاصٌّ للَّذِينَ أَمَرَهُمْ ¬

_ (¬1) ينظر: التمهيد 9/ 274، والإستذكار 4/ 568. (¬2) لم أقف على قول أبي عبيد ولم أجد أحدًا نقله، وهو قول شاذ لا شك فيه، ينظر: الإستذكار 4/ 579. (¬3) رواه الترمذي (886)، والنسائي (3053)، وأحمد 3/ 301، بإسنادهم إلى أبي الزبير المكي به، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ، ويَفْسَخُوا حُجَّهُمْ في عُمْرَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا سَاقُوا مَعَهُمِ الهَدْيَ الذي يَلْزَمُ مَنْ سَاقَهُ في حَجِّهِ ألَّا يَنحَرَهُ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبةِ ويَحِلَّ بِمِنى. ومِثْلُ هَذا الحَدِيثِ أَيْضًا حَدِيثُ ابن عَبَّاسٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ مَنْ طَافَ وسَعَى أَنْ يَحِلَّ ثُمَّ يُنْشِيءُ الحَجَّ مِنْ مَكَّةَ" (¬1). وقَدْ جَاءَ بَيَانُ هَذا كُلِّه في حَدِيثِ رَبِيعَةَ [عَن] (¬2) الحَارِثِ بنِ بلَالٍ، عَنْ أَبيهِ بِلَالِ بنِ الحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ: "يا رَسُولَ اللهِ، فَسْخُ الحَجِّ لَنا خَاصَّة أَمْ لِمَن بَعْدَنَا؟ فقَالَ: لَكُمْ خَاصَّة" (¬3). وقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في هَذِه المَسْأَلةِ أَنْ نأْخُذَ بِكِتَابِ رَبنا، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] , وأَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا، فَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَحِلَّ مِنْ حَجِّهِ حَتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بِمِنَى (¬4). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقَوْلُ عُمَرَ هَذا وحَدِيثُ بِلَالِ بنِ الحَارِثِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ لَمْ يَفْسَخْهُ في عُمْرَةٍ، ولَمْ يَحِلَّهُ مِنْ حَجّهِ إلَّا طَوَافُ الإفَاضَةِ. وفِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَل بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ، وأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمَرَةٍ فَحَلَّ، وأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ، أَو جَمَعَ الحَجِّ والعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ" (¬5). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بِهَذا الحَدِيثِ أَخَذَ أَهْلُ المَدِينَةِ فِيمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، أَو جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ أنَّهُ لا يَفْسَخُ حَجَّهُ في عُمْرَةٍ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1644)، ومسلم (1245). (¬2) جاء في الأصل: (بن) وهو خطأ، وربيعة هو ابن عبد الرحمن الرأي. (¬3) رواه أبو داود (1808) بإسناده إلى ربيعة به. (¬4) ينظر قول عمر - رضي الله عنه -في صحيح البخاري (1484)، ومسلم (1221). (¬5) رواه البخاري (1487)، ومسلم (1211)، بإسنادهما إلى عروة بن الزبير به.

* وقَوْلُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ في حَدِيثِها: (دُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمُ النَّحْرِ بلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذا؟ فقَالُوا: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَزْوَاجِهِ البَقَرَ) [1469] , تَعْنِي: أَنَّهُ نَحَرَ الهَدْي عَمَّنْ تَمَتَّعَ مِنْ أَزْوَاجِهِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، أَو عَمَّنْ أَرْدَفَ مِنْهُنَّ الحَجَّ عَلَى العُمْرَةِ كَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ. وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: إبَاحَةُ النَّحْرِ في البَقَرِ، والذَّبْحُ في البَقَرِ مَذْكُورٌ في القُرآنِ (¬1)، فَالذَبْحُ والنَّحْرُ فِيهَا جَائِزٌ، ومِثْلُ هَذا الهَدْي الذي نَحَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَزْوَاجِهِ يَأْكُلُ مِنْهُ الأَغْنِيَاءُ، ويَأْكُلُ مِنْهُ مُهْدِيهِ، والذي لا يَأْكُلُ مِنْهُ مُهْدِيهِ هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، وفِدْيَةُ الأَذَى، ونَذْرُ المَسَاكِينَ، ولَهُ أَنْ يَأكُلَ مِنْ هَدْي التَّطَوُعِ إذا بَلَغَهُ مِنَى ونَحَرَهُ، أَو ذَبَحَهُ بِمِنَى، فإنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَحِلَّهُ ونَحَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ إذًا خَافَ عَلَيْهِ المَوْتَ لَمْ يَأْكُلْ مُهْدِيهِ مِنْهُ، فإنْ فَعَلَ ضَمِنَهُ، وكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ضَمِنَهُ. * [قالَ] عَبْدُ اِلرَّحْمَنِ: حَدِيثُ حَفْصَةَ حِينَ قَالَتْ للَّنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا شَانُ النَّاسِ حَلُّوا ولَمْ تَحْلِلْ اْنْتَ مِنْ عُمْرَتك؟ " [1470] , فَقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ في هَذا الحَدِيثِ: "وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ" إلَّا مَالِكٌ، والمَشْهُورُ مِنْ فِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الحَجَّ، ولَمْ يَتَمَتَّعْ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ. وحَدَّثني عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، قالَ: حَدَّثنِي أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ، قالَ: حدَّثنا عَلَيّ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، قالَ: حَدَّثنا أَبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلَّامٍ، قالَ: حَدَّثنا يحيى بنُ سَعِيدٍ القَطَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابنِ عُمَرَ، عنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّها قَالَتْ: "يا رَسُولَ اللهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلّوا ولَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: إني لَبَّدْتُ رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيِ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلُّ مِنَ الحَجِّ" (¬2). ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. (¬2) رواه البخاري (1610)، ومسلم (1229)، بإسنادهما إلى يحيى بن سعيد القطان به.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَذَكَرَ عُبَيْدُ اللهِ فِي هَذَا الحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافع: (مِنْ عُمْرَتِك). وقَدْ حَدَّثنا أَبو مُحَمَّل, القَلْزُمِيُّ بِمِصْرَ (¬1)، قالَ: حَذَثنا أَحْمَدُ بنُ زيدٍ المَكِّي (¬2)، قالَ: حَدَّثنا ابنُ أَبِي عُمَرَ العَدَنِيِّ، قالَ: حَدَّثنا [هِشَامُ بنُ سُلَيْمَانَ] (¬3)، عَن ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِع، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فقَالَتْ حَفْصَةُ: مَا يَمْنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ يا رَسُولَ اللهِ؟ فقَالَ: إني لَبَّدْتُ رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيِ، فَلَا أَحِلُ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْي" (¬4). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَقُلْ ابنُ جُرَيْج فِي هَذا الحَدِيثِ: "مِنْ عُمْرَتِكَ" كَمَا قَالَ مَالِكٌ وعُبَيْدُ اللهِ بنُ [عُمَرَ] (¬5)، وقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذا الإخْتِلاَفُ مِنْ قِبَلِ نَافِعٍ لَا مِنْ قِبَلِ مَالِكٍ، كَمَا قَالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّ مَالِكَاً انْفَردَ بهِ (¬6). ¬

_ (¬1) هو أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسن، تقدم التعريف به. (¬2) هو أحمد بن زيد بن مروان، كذا في التمهيد، ولم أقف له على ترجمة. (¬3) جاء في الأصل: (ابن هشام عن سليمان)، وهو خطأ، والتصويب من التمهب، وهشام بن سليمان هو ابن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي المكي، روى عنه محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني وغيره، ويروي عن ابن جريج وغيره، وحديثه في صحيح مسلم وغيره، ينظر: تهذيب الكمال 30/ 211. (¬4) رواه ابن عبد البر في التمهيد 15/ 298 عن شيخه الإِمام القنازعي مصنف هذا الكتاب عن الحسن بن يحيى القلزمي به. (¬5) جاء في الأصل: (عبد الله) وهو خطأ، وعبيد الله بن عمر هو العمري المدني الإِمام المشهور. (¬6) رد ابن عبد البر في التمهيد كلام أبي محمد ردا قويا فقال: وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع: (ولم تحل أنت من عمرتك) إلَّا مالك وحده، وجعل هذا القول جوابا لسائله عن معنى هذا الحديث، قال ابن عمر: فلا أدري ممن أتعجب، من المسئول الذي استحيا أن يقول: لا ادري، أو من السائل الذي قنع بمثل هذا الجواب، والله المستعان، ثم ذكر بأن هذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم: مالك، وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني ... إلخ.

*-[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ جَعْفُرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نحَرَ بَعْضَ هَدْيهِ بيَدِه، ونَحَرَ غَيرُهُ بَعْضَهُ" [1472] هَكَذا رَوَى يَحْيى بنُ يَحْيى عَنْ مَالِلب بِهَذا السَّنَدِ، ورَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ، وأَرْسَلَهُ ابنُ وَهْبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ بَعْضَ هَدْيهِ بِيَدِه، ونَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ" (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْتُحِبَّ أَنْ لا يَنْحَرَ للرَّجُلِ ولَا يَذْبَحُ لَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ إلَّا مِنْ ضَرَوُرَةٍ، فإنْ فَعَلَ أُجْزِأَ عَنْهُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ، قَالُوا: والمُقَصِّرِينَ يا رَسُولَ اللهِ" [1477] وذَكَرَ الحَدِيثَ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَتْ هَذِه القِصَّةُ في عُمْرَةِ الحُدَيْبيَّةِ حِينَ صَدَّ المُشْرِكُونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابَهُ عَنِ البَيْتِ، فَحَلُّوا بِها، وأَمَرَهُمِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْلِقُوا رُؤُوسَهُم، فتَوقَّفَ بَعْضُهُم عَنِ الحِلاَقِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فحِينَئِذٍ قالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ" قَالَها ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَدَلَّ هَذا الحَدِيثُ على أَنَّ حِلاَقَ الرَّأسِ في الحَجًّ والعُمْرَةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، لِدُعَاءِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاَثَ مَرَّاتٍ للمُحَلِّقِينَ، ومَرَّة وَاحِدَةً للمُقَصِّرِينَ، والتَّقْصِيرُ: هُوَ أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُ الرَّأْسِ كُلِّهِ ويُتْركَ بَعْضَهُ، والحِلاَقُ: أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ بالمُوسَى. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دَخَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَةَ نَهَاراً، دَخَلَ مِنَ الثَّنِتةِ العُلْيَا التِّي بأَعْلَى مَكَّةَ، وَهِيَ التِّي يُقَالُ لَهَا كَدَاءُ -بالفتح- وخَرَجَ مِنَ الثَّنِتةِ السُّفْلَى، وَهِيَ التِّي يُقَالُ لَهَا كُدَاءُ -بالضَّمَ- وهَذا هُوَ المُسْتَحَبّ في دُخُولِ مَكَّةَ أَنْ يَدْخُلَهَا الإنْسَانُ مِنَ الطَرِيقِ الأَعْلَى، وَيخْرُجَ مِنَ الطَرِيقِ الأَسْفَلِ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ المَدِينَةِ، أَو خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ. ¬

_ (¬1) ينظر: التمهيد 2/ 106، فقد روى هذه الروايات.

قالَ ابنُ نَافِعٍ: ومُبَاحٌ للرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ لَيْلٍ أَو نَهَارٍ، ودَخَلَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَارَاً. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَمَرَ مَالِكٌ مَنْ قَصَّرَ بَعْضَ شَعْرِهِ، أَو قَصَّرَ شَعْرَ امْرَأتِهِ ثُمَّ وَطِئَها قَبْلَ تَمَامٍ تَقْصِيرِ شَعْرِه كُلِّهِ أَو شَعْرِهَا كُلِّهَا أَنْ يَهْرِيقَ دَمَاً إذا فَعَلَ ذَلِكَ [1485]، مِنْ أَجْلِ أنَّهُ لَمْ يَسْتَوعِبْ تَقْصِيرَ شَعْرهِ كُلَّه، وذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ بَعْضَ نُسُكِهِ الوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِي بهِ كُلِّهَ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الدَّمُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، يَذْبَحُ شَاةً ويَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى المَسَاكِينِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُمَرَ: (مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ، ولَا تَشَبَّهُوا بالتَّلْبِيدِ) [1489] يَعْنِي بِقَوْلهِ: (وَلاَ تَشَبَّهُوا) أَي: لَا تَخْلِطُوا عَلَيْنَا، فإنَّ حُكْمَ التَّضْفِيرِ الحِلاَقُ كَحُكْمِ التَّلْبيدِ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ: "أَنَّ مَنْ لَبَّدَ شَعْرَ رَأْسِهِ فِي حِينِ إحْرَامِهَ أنَّهُ يًحْلِقُهُ إذا حَلَّ" (¬1)، فَكَذَلِكَ يُلْزَمُ مَنْ ضَفَرَ شَعْرَ رَأْسِهِ الحِلاَقُ، ولَا يَجْزِيهِ التَّقْصِيرُ. وَصِفَةُ التَّلْبيدِ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الصَّمْغَ فَيَحِلُّهُ في المَاءِ ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ، فَيَشْتَدُّ ذَلِكَ الصَّمْغُ عَلَى الشَعْرِ، ويَصِيرُ كالسَّطْحِ يَمْنَعُ الغُبَارَ أَنْ يَصِلَ إلى جِلْدَةِ الرَّأْسِ، فأَوْجَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ الحِلاَقَ، فَكَذَلِكَ أَوْجَبَ عُمَرُ عَلَى مَنْ ضَفَرَ شَعْرَهُ الحِلاَقَ، مِثْلَ المُلَبِّدِ سَوَاءٌ. * * * ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن 5/ 135 من حديث ابن عمر مرفوعا قال: (من لبد رأسه للإحرام فقد وجب عليه الحلاق) وإسناده ضعيف، قال البيهقي: والصحيح من قول عمر وابن عمر.

باب الصلاة في البيت، والصلاة بمنى وعرفة

بابُ الصَّلَاةِ فِي البَيْتِ، والصَّلاَةِ بِمِنَى وعَرَفَةَ قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمْ يَصِحّ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ صَلَّى في دَاخِلِ البَيْتِ فَرِيضَةً قَطُّ، وإنَّمَا صَلَّى فِيهِ نَافِلَةً. قالَ ابنُ عُمَرَ: (وكُنْتُ يَوْمَ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غيْرَ مُتَوضِّئٍ، فَذَهَبْتُ لأَتَوضَّأَ فتوضَّاتُ ثُمَّ جِئْتُ فَوَجَدْتُ بَابَ الكَعْبةِ مُغْلَقَاً) (¬1). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: فَلَوْ صَلَّى فِيهِ فَرِيضَة مَا أَغْلَقَ البَابَ عَلَى نَفْسِهِ، وانْفَرَدَ فِيهَا بالصَّلَاةِ دُونَ النَّاسِ. قالَ مَالِكٌ: مَنْ صَلَّى فِي البَيْتِ فَرِيضَةً أَعَادَ صَلَاتَهُ في الوَقْتِ، لأنَّهُ مُسْتَدْبِرٌ لِبَعْضِ القِبْلَةِ فَلِذَلِكَ يُعِيدُ صَلَاتَهُ فِي الوَقْتِ. وقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الكَعْبَةِ فَرِيضَةً أنَّهُ يُعِيدُ (¬2). قُلْتُ لأَبي مُحَمَّدٍ: يُلْزَمُ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الكَعْبَةِ فَرِيضَة أَنْ يُعِيدَ أَبَداً، لأَنَّهُ لَا قِبْلَةَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَوجَّهَ إليهَا، بِخِلاَفِ مَنْ صَلَّى فِي دَاخِلِ البَيْتِ إذْ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضُ القِبْلَةِ، فقَالَ لِي أَبو مُحَمَّدٍ: بلْ عَلَيْهِ الإعَادَةُ فِي الوَقْتِ، لأَنَّ الكَعْبَةَ يَنتهِي أَعْلاَهَا إلى السَّمَاءِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ سَالِمِ بنِ عَبْدِ اللهِ للحَجَّاجِ: (إنْ كنتَ تُرِيدُ أَنْ ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، ولعل المصنف ذكره بالمعنى، والحديث ثابت بنحوه في صحيح البخاري (356)، وموطأ مالك (1492). (¬2) نقله ابن عبد البر في التمهيد 15/ 319.

تُصِيبَ السُّنَّةَ اليومَ فَاقْصِرِ الخُطْبةَ، وعَجّلِ الصَّلَاةَ) [1493]، يَعْنِي: إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التِّي سَنَّهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَلَا تُطَوِّلُ في خُطْبَتِكَ، وذَلِكَ أنَّ الحَجَّاجَ كَانَ إذا خَطَبَ طَوَّلَ فِي خُطْبَتِهِ، فقالَ لَهُ سَالِمٌ: افْعَلْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَصَّرَ الخُطْبَةَ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ صَلَّى وَعَجَّلَ الوُقوفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِمَوْقِفِ عَرَفَةَ للدُّعَاءِ، وصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وَهَذا الحَدِيثُ يَدْخُلُ فِي المُسْنَدَاتِ مِنَ الأَحَادِيثِ، لِقَوْلِ سَالِمٍ للحَجَّاجِ: (إنْ كنتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ)، يُرِيدُ: السُّنَّةَ التِّي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّتِهِ لأُمَّتِهِ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وَصَحَّ بِهَذا الحَدِيثِ للزُّهْرِيِّ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، لأَنَّهُ شَاهَدَ هَذِه القِصَّةَ. قالَ عِيسَى: فِي الحَجِّ ثَلاَثُ خُطَبٍ، أَوَّلُهَا: اليَوْمُ السَّابع مِنَ العَشْرِ، يَخْطُبُ الإمَامُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أنَّ يُصَلِّي الظهْرِ، فَيُعَلِّمُ النَّاسَ كَيْفَ يَخْرُجُونَ إلى مِنَى يَوْمَ التَّرْوِيةِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا قِيلَ لليومِ الثَّامِنِ مِنَ العَشْرِ يَوْمَ التَّرْوِيةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنَى كَانَتْ قَبْلَ الإسْلَامِ لَا مَاءَ فِيهَا، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إلى مِنَى ويتَزَوَّدُونَ بالمَاءِ فِي القِرَابِ وَشَبَهِهَا لِيَرْوُوا مِنْهُ بِمِنَى، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ يَوْمُ التَّرْوِيةِ. قالَ عِيسَى: فإذا فَرَغَ الإمَامُ فِي ذَلِكَ اليومِ السَّابع مِنَ الخُطْبَةِ بِمَكَّةَ صَلَّى صَلَاةَ الظهْرِ بالنَّاسِ. قالَ عِيسَى: والخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذَا جَمَعَ الإمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، يَخْطُبُ بِمُصَلَّى عَرَفَةَ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا كَيْفَ يَقِفُونَ بمَوْقِفِ عَرَفَةَ للدُّعَاءِ، ومَتَى يَدْفَعُونَ مِنَ المَوْقِفِ إلى المُزْدَلِفَةِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وجَمْعِهِمْ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بالمُزْدَلِفَةِ، ووَقُوفِهِمْ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ، ودَفْعِهِمْ مِنَ المُزْدَلِفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ورَمْيهِمْ جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَحْرِ، ونَحْرِهِمْ، وحِلاَقِهِمْ،

وَطَوَافِهِمْ للإفَاضَ، وإحْلاَلِهِمْ مِنْ إحْرَامِهِمْ، فإذا فَرَغَ الإمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ هَذِه صَلَّى بِهِم الظُّهْرَ والعَصْرَ، ثُمَّ دَفَعَ بِهِمْ إلى مَوْقِفِ عَرَفَةَ. قالَ عِيسَى: والخُطْبَةُ الثالِثَةُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، يَخْطُبُ الإمَامُ فِي اليومِ الثانِي بِمَسْجِدِ مِنَى قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَاسَ فِيهَا مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ رَمْيِهِمْ، ومَالَهُمْ مِنَ السِّعَةِ فِي التَّعْجِيلِ مِن مِنَى إلى بِلاَدِهِمْ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِهِم الجِمَارِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، ويَأمْرُهُمْ بتمَام مَنَاسِكِهِمْ، ويُعَلِّمُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَجْرِ، ويَفْتَتِحُ الخُطَبَ كُلَّهَا بالتكبيرِ كَمَا يَفْتَتِحُ فِي خُطْبَةِ العِيدَيْنِ، ويَجْلِسُ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ مِنْهَا، ولِكُل صَلاَة بِعَرَفَةَ وَالمُزْدَلِفَةِ أَذَانٌ وإقَامَةٌ (¬1). * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَةَ نَزَلَ بالشِّعْبِ الذي بَيْنَ عَرَفَةَ وَالمُزْدَلِفَةِ فَبَالَ ثُمَّ اسْتَنْجَى بالمَاءِ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: (الصَّلَاةَ يا رَسُولَ اللهِ) [1500]، وذَلِكَ أَنَّهُ ظَن أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَسِيَ صَلَاةَ المَغْرِبِ، فَذَكَّرَهُ بِهَا، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ"، فَمَضَى حَتَّى نزلَ المُزْدَلِفَةَ، فتوضَّأَ، وجَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بأَذَانٍ وإقَامَةٍ لِكُلِّ صَلاَةٍ، فَصَارَ الجَمْعُ بِهَا سُنَةً، إلَّا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لِعُذْرٍ فَقَدْ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّي المَغْرِبَ فِي وَقْتِهَا، وَالعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا في غَيْرِ المُزْدَلِفَةِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فِي هَذا الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْتَنْجِي بالمَاءِ عِنْدَ الحَدَثِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى السَّعَةِ فِي وَقْتِ المَغْرِبِ، لأَنَّهُ أَخَّرَهَا إلى وَقْتِ مَغِيبِ الشَّفَقِ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا أتَمَّ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ بِمِنَى وَلَمْ يُصَلِّهَا صَلَاةَ سَفَرٍ لأَنَّهُ كَانَ اتَّخَذَ أَهْلاً بالطَّائِفِ، فَصَارَ كَالحَضَرِيِّ [1505]. وقالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا أتَمَّهَا لأَنَّهُ قَالَ: أَنا خَلِيفَةٌ، فَحَيْثُ مَا كُنْتُ فأَنا فِي عِيَالِي كَالمُقِيمِ فِي أَهْلِهِ. ¬

_ (¬1) نقل قول عيسى بن دينار في خطب الإِمام الثلاثة في الحج: ابن مزين في تفسيره (26).

وقِيلَ لَهُ أَيْضَأ: إنَّهُ إنَّمَا أَتَمَّهَا مِنْ أَجْلِ أنَّ القَصْرَ فِي السَّفَرِ رُخْصَة، فتَرَكَ الرُّخْصَةَ والتَزَمَ التَّمَامَ الذي هُوَ الأَصْلُ، ولَوْ كَانَ القَصْرُ في السَّفَرِ فَرِيضَةً لَوَجَبَ عَلَى مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ الإعَادَةَ أَبَدَاً. ومَالِكٌ يَقُولُ: إنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ سَفَرٍ فِي الوَقْتِ، لِكَي يُوَافِقَ المُسْتَحَبَّ مِنْ فِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَبي بَكْرٍ، وعُمَرَ.

باب التكبير أيام التشريق، إلى آخر باب إفاضة الحائض

بابُ التكبِيرِ أيامِ التَّشْرِيقِ، إلى آخِرِ بَابِ إفَاضَةِ الحَائِضِ قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} [الحج: 36]، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] لَهُ مِنْ مَنَاسِكِ الحَجِّ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: تَكْبِيرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ اليومَ الثَّانِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَكَانَ يُكَبِّرُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَافِعَاً صَوْتَهُ، لِكَي يُشْعِرَ النَّاسَ أَمْرَ التكبِيرِ، وكَذَلِكَ تَكْبيرُهُ بَعْدَ ارْتَفِاعِ النَّهَارِ هُوَ فِي مَعْنَى التكبيرِ الأَوَّلِ، وأَمَّا تَكْبِيرُهُ عِنْدَ الزَّوَالِ فَمَعْنًاهُ لِكَي يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ لِرَمْيِّ الجَمَارِ فَيَرْمُونَ [1514]. قالَ: وذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُرْمَى الجِمَارُ فِي غَيْرِ يَوْمٍ النَّحْرِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، ومَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ الرَّمِي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي أيَّامِ مِنَى. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (التَكبيرُ فِي أَيَّامِ التَشْرِيقِ فِي دُبُرِ الصَّلَواتِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) [1515]. قالَ: (وإنَّمَا يَأْتَمُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بإمَام الحَاجِّ والنَّاسُ بمِنَى)، يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ الآفَاقِ يَمْتَثِلُونَ تَكْبِيرَ إمَامِ الحَاجِّ بِمِنَى والنَّاَسُ مَعَهُ، فَيُكَبِّرُ أَهْلُ الآفَاقِ بِتَكْبِيرِهِمْ. وقَوْلُهُ في آخِرِ المَسْأَلةِ: (فأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَّاً فإنَّهُ لَا يَأْتَمُّ بِهِم إلَّا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامِ التّشرِيقِ)، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يُرِيدُ مَالِكٌ بِقَوْلهِ: (فأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَّاً) أَيْ: مَنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بالحَجِّ ثُمَّ فَاتَهُ الحَجُّ وجَعَلَ حَجَّهُ عُمْرَةً فإنَّهُ لَا يَأْتَمُّ بأَهْلِ مِنَى في شَيءٍ مِنْ عَمَلِ الحَجِّ إلَّا فِي التكبيرِ دُبُرَ الصَلَوَاتِ خَاصَّةً كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الآفَاقِ كُلهَا.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اسْتَحَبَّ مَالِكٌ لِمَن انْصَرَفَ اليومَ الرَّابعِ مِنْ مِنَى إلى مَكَّةَ أنْ يَنْزِلَ بأَبْطَحِ مَكَّةَ، وَهُو الذي بِمَقْبَرَةِ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ مِنَى، فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَكَذَلِكَ فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ انْصَرفَ مِنْ مِنَى إلى مَكَّةَ. * وكَذَلِكَ اسْتَحَبَّ أَيْضَا مَالِكٌ لِمَنْ مَرَّ بِمُعَرَّس النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَنْزِلَ فِيهِ، وَهُو المُعَرَّسُ الذي فِيمَا بَيْنَ ذِي الحُلَيْفَةِ والمَدِينَةِ، فَيُصَلَي فِيهِ مَا بَدَا لَهُ، فإنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ جَمِيعَاً فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ [1520]. قَوْلُ مَالِكٍ: لَا يَبِتْ أَحَدٌ مِنَ الحَاجِّ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنَى بِمَكَّةَ، فإنْ فَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ الهَدْيُ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: رَخَّصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّه العَبَّاسِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي المَبِيتِ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنَى مِنْ أَجْلِ السِّقَايةِ الَّتي كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا، ويَقُومُ عَلَيْهَا، ويَسْقِي شَرَابَهَا الحَاجَّ أَيَّامِ المَوْسِمِ (¬1)، كَمَا رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإبِلِ فِي المَبِيتِ عَنْ مِنَى لَيَالِي أَيَّامَ مِنَى مِنْ أَجْلِ ضرُورَتهِم وحَاجَتِهِم إلى رَعْي الإبِلِ، وخُرُوجِهِم بِهَا إلى المَرَاعِي الَّتي تَبْعُدُ عَنْ مِنَى، وأَمَّا مَنْ سِوَى هَؤُلاَءِ فَلَا يَبيتُوا لَيَالِيَ مِنَى إلَّا بِمِنَى، فإنْ بَاتَ أَحَدٌ مِنَ الحَاجِّ فِي غَيْرِ مِنَى لَيَالِي مِنَى كَانَ عَلَيْهِ الهَدْي. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا وَقَفَ عُمَرُ للدُّعَاءِ حِينَ رَمَى الجَمْرَةَ الأُولَى الَّتي تَأْتِي [قِبَلَ] (¬2) مِنَى، فتَقَدَّمَ أَمَامَهَا، وذَكَرَ اللهَ، لأَنَّهُ مَوْضِع مِنْ مَوَاضِعِ الدُّعَاءِ، وكَذَلِكَ فَعَلَ عِنْدَ رَمْيهِ للجَمْرَةِ الوُسْطَى، ولَمْ يَقِفْ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبةِ حِينَ رَمَاهَا، وَهَذِه السُّنَّةُ المَعْمُولُ بِهَا عِنْدَ رَمِي الجِمَارِ [1527]. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا اسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ تَكُونَ حَصَى الجِمَارِ أكبَرَ مِنْ حَصَى الخَذْفِ قَلِيلاً [1530]، لِكَيْ يَسْتكْمِلَ صِفَةَ الجِمَارِ الَّتي يُرْمَى بِها، إذْ قَدْ يُخْذَفُ ¬

_ (¬1) ينظر: صحيح البخاري (1553)، ومسلم (1314). (¬2) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، وإنما استظهرتها بما يتناسب مع السياق.

بِمِثْلِ الحَبَّةِ والشُّعَيْرَةِ، وأَرَادَ مَالِكٌ بِهَذا تَعْظِيمَ أَمْرِ اللهِ فَيُرْمَى بأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً. * وسُنَّةُ رَمْي الجِمَارِ أَنْ يَرْمِيهَا الرَّجُلُ مَاشِيا، وإنَّمَا رَكِبَ مُعَاوِيةُ بنُ أَبي سُفْيَانَ فِي رَمْيهِ إيَّاهَا حِينَ ثَقُلَ، وحَمَلَ اللَّحْمَ، وصَعُبَ عَلَيْهِ المَشْيُ [1532]. قالَ عِيسَى: مَنْ رُمِيتْ عَنْهُ الجِمَارُ أَيَّامَ مِنَى مِنْ أَجْلِ مَرَضِهِ وَصَحَّ في آخِرِها أَنَّهُ يَرْمِي مَا رُمِيَ عَنْهُ ويَهْدِي، لانَّةُ وَضَعَ رَمْيَهُ فِي غَيْرِ حِينِه، فَلِذَلِكَ يَهْدِي. * قالَ أحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: أَخْطَا يَحْيى بنُ يحيى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي بَكْرِ بنِ حَزْمِ، [عَنْ أَبيهِ] (¬1) أَنَّ أبا البَدَّاحِ عَاصِمَ بنَ عَدِيِّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبيهِ: "أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإبِلِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ [1538] فأَخْطَأ فِي قَوْلهِ: "أَن أبا البَدَّاحِ عَاصِمَ بنَ عَدِي"، وإنَّمَا الصَّحِيحُ فِيهِ: "أَنَّ أبا البَدَّاحِ بنَ عَاصِمِ بنِ عَدِي أَخْبَرَهُ عَنْ أَبيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإبِلِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ، وكَذَلِكَ رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُم (¬2). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وقَدْ حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ (¬3)، عَنْ [ابن] أَبي غَسَّانَ (¬4)، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ ثَوْرٍ، عَن ابنِ جُرَيْج، عَنْ مُحَقَدِ بنِ أَبي بَكْرٍ (¬5)، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبي البَدَّاحِ بنِ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبيهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْخَصَ لِرِعَاءِ الإبلِ أَنْ يَتَعَاقَبُوا، فَيَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَدْعُوا يَوْمَاً ولَيْلَةً، ثُمَّ يَرْمُونَ مِنَ الغَدِ" (¬6)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) نقل كلام أحمد بن خالد: ابن عبد البر في التمهيد 17/ 252. (¬3) هو عبيد الله بن محمد الصنعاني، ويقال له: عبيد الكشوري، المحدث الثقة المصنف، توفي سنة (284)، ينظر: الأنساب 5/ 77، والسير 13/ 349. (¬4) هو عبد الله بن أبي غسان الصنعاني، كذا جاء المعجم الأوسط للطبراني 5/ 105، واللباب في تهذيب الأنساب 3/ 100. وما بين المعقوفتين زيادة من هذين المصدرين. (¬5) هو محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أبو عبد الملك المدني القاضي. (¬6) رواه الطبراني في المعجم الكبير 17/ 172، بإسناده إلى عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج به.

يَعْنِي: يَرْمُوا لليومِ الذي غَابُوا فِيهِ عَنْ مِنَى للرَّعِي، ثُمَّ يَرْمُونَ عَنْ يَوْمِهِم الذي آتَوا فِيهِ مِنْ رَعْيهِم إلى مِنَى. قالَ أَحْمَدُ: وهَذا الحَدِيثُ أَبْيَنُ مِنْ حَدِيثِ المُوطَّأ، لأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئَاً إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ، فإذا رَمُوا يَوْمَ النَّحْرِ جَمْرَةَ [العَقَبةِ] (¬1) ثُمَّ غَابُوا عَنْ مِنَى اليومَ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وأَتَوا اليومَ الثَّالِثِ رَمُوا عِنْدَ الزَّوَالِ عَنِ اليومِ الذي غَابُوا فِيهِ عَنْ مِنَى، وعَنْ يَوْمِهِم ذَلِكَ، فإنْ أَرَادُوا بَعْدَ ذَلِكَ الرَّمْيَ أنْ يَتَعَجَّلُوا إلى بِلاَدِهِم كَانَ ذَلِكَ مُبَاحَاً لَهُم مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ وَهُم بِمِنَى، فإنْ غَابَتِ الشَّمْسُ وَهُم بِمِنَى أَقَامُوا بِهَا حَتَّى يَرْمُوا مَعَ النَّاسِ اليومَ الرَّابعِ عِنْدَ الزَّوَالِ، ونَفَرُوا إلى بِلاَدِهِمْ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِم البَقَاءُ بِمِنَى إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فِي اليومِ الثَّالِثِ وَهُم بِمِنَى قَبْلَ أَنْ يَتَعَجَّلُوا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ اليومُ الذي فِيهِ رُخْصَةُ النَّفْرِ والتَّعَجِيلِ، وحَبَسَتْهُم لَيْلَةُ اليومِ الرَّابِعِ، فَلِهَذا لا يَنْفِرُوا مِنْ مِنَى حَتَّى يَرْمُوا اليومَ الرَّابِعِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أَوْجَبَ مَالِكٌ الدَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى غَرُبَتِ لَهُ الشَّمْسُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وَضَعَ جَمْرَةَ العَقَبةِ فِي غَيْرِ الوَقْتِ الذي يُرْمَى فِيهِ، فَلَمَّا أَخَّرَهَا يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ وَقْتِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ لِذَلِكَ [1542]. * ولَمْ يَاْخُذْ مَالِكٌ فِي هَذه المَسْأَلةِ بِرُخْصَةِ ابنِ عُمَرَ لِصَفِيّهَ حِينَ تَخَلَّفتْ بالمُزْدَلِفَةِ [1541]، مِنْ أَجْلِ النّفَاسِ حَتَّى غَرُبتِ الشَمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فأَمَرَها ابنُ عُمَرَ حِينَ أَتَتْ هِيَ ومَنْ كَانَ مَعَها بالرَّمِي، ولَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى صَفِيّهَ ولَا عَلى مَنْ كانَ مَعَهَا دَمَاً، وأَخَذَ مَالِكٌ فِي هَذه المَسْأَلةِ وشَبَهِها بِقَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ: (مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسِكِه شَيْئاً أو تَرَكهُ فَعَلَيْهِ الدَّمُ) [1485]، فَلِهَذا أَوْجَبَ مَاِلكٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ رَمْي جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَحْرِ وَرَمَاهَا باللَّيْلِ الدَّمَ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

* حَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِعُمْرَةٍ [1547]، قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: أَخْطَأ يحيى بنُ يحيى فِي سَنَدِ أحَدِيثِه، (¬1) عَنْ عَائِشَةَ، ذَكَرَهُ عَنْ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ فأَهْلَلْنَا بِعُمَرَةٍ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى اَخِرِه، وَرَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ وغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ (¬2)، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يِحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا، قَالَتْ: فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وأنا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بالبَيْتِ ولَا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ، وامْتَشِطِي، وأَهِلِّي بالحَجِّ، وَدَعِي العُمْرَةَ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ"، ثُمَّ ذَكَرَ عُرْوَةُ هَذا الحَدِيثَ إلى آخِرِه. * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: فَجَعَلَ يَحْيَى بنُ يحيى مَتْنَ هَذا الحَدِيثِ فِي سَنَدِ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وأَخْطَأ في ذَلِكَ، والذي فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "قَدِمْتُ مَكَّةَ وأَنا حَائِضٌ فَلَمْ أَطُفْ بالبَيْتِ، ولَا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أنْ لَا تَطُوفِي بالبَيْتِ، ولَا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْور حَتَّى تَطْهُرِي" [1549] (¬3). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وبِهَذا الحَدِيثِ أَخَذَ مَالِكٌ فِي المُعْتَمِرَةِ تَقْدُمُ مَكَّةَ مُوَافِيةً للحَجِّ ثُمَّ تَحِيضُ أَنَّهَا تَهِلُّ بالحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهَا، وتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَرَنَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، ويَكُونُ عَلَيْهَا الهَدْيُ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (حديث)، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) لم أجد الحديث في موطأ ابن بكير، وقد رجعت إلى نسختين مختلفتين هما نسخة الظاهرية ونسخة تركيا. (¬3) ينظر كلام أحمد بن خالد في: التمهيد 8/ 199، و 19/ 264.

وحَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مُخَالِفٌ لِهَذا، لأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهَا بِرَفْضِ العُمْرَةِ والإحْلاَلِ مِنْهَا". قالَ أَحْمَدُ: وكِلاَ الحَدِيثَيْنِ ثَابِتَانِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، إلَّا أنَّ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ أَدْخَلَ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ شَيْئَاً يُوهَنُ بهِ مَا خَالَفَ فِيهِ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ مِنْ رَفْضِ العُمْرَةِ والإحْلاَلِ مِنْهَا، وذَلِكَ مَا حَدَّثنا بهِ الحَسَنُ بنُ أَحْمَدَ (¬1)، قالَ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ، قالَ: حَدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - موَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الحِجَّةِ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ شَاءَ أنْ يَهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَهِلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَهِلَّ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَج، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، قَالَتْ: فَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إذا كُنْتُ بِسَرِفٍ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَنَا أَبْكِي، فقالَ: مَا شَانُكِ؟ فَقَالتْ (¬2): وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَخْرُجِ العَامَ"، وذَكَرتْ لَهُ مَحِيضَها، قالَ عُرْوَةُ: فَحَدَّثنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لَهَا: "دَعِي عُمْرَتكِ وانْقُضِي رَأْسَكِ، وامْتَشَطِي، وافْعَلِي مَا يَفْعَلُ المُسْلِمُونَ فِي حَجِّهِم، قَالَتْ: فأَطَعْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الصَّدْرِ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ أَبي بَكْرٍ فأَخْرَجَهَا إلى التَّنْعِيمِ، فأَهَلَّتْ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ" (¬3). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: فَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ عُرْوَةَ بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ: (دَعِي عُمْرَتك، وانْقُضِي رَأْسَكِ، وامْتَشِطِي) لَمْ ¬

_ (¬1) هو الحسن بن أحمد بن حبيب الكِرْماني أبو علي، نزيل طرسوس، شيخ النسائي وغيره، ومحمد بن عبيد هو ابن حساب الغُبَري البصري شيخ مسلم وأبي داود وغيرهما. (¬2) وضع الناسخ على هذه الكلمة علامة (صح) وذلك للدلالة على صحتها. (¬3) رواه ابن عبد البر في التمهيد 8/ 225، بإسناده إلى أحمد بن خالد عن الحسن بن أحمد به، ورواه البخاري (311) و (1694)، ومسلم (1211)، بإسنادهما إلى هشام بن عروة به.

يُحَدِّثْ بهِ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وإنَّمَا قَالَ: فَحَدَّثنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: "دَعِي عُمْرَتكِ" وهَذِه عِلَّةٌ فِي هَذا الحَدِيثِ، ولَمْ يَخْتِلَفْ فِي حَدِيثِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها: "افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أنْ لَا تَطُوفِي بالبَيْتِ، ولَا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ حَتَّى تَطْهُرِي". قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وبِهَذا الحَدِيثِ أَخَذَ مَالِكٌ فِي المَرْأَةِ تَقْدُمُ مَكَةَ، وتَدْخُلَها بِعُمْرَةٍ، فتَحِيضُ قَبْلَ طَوَافِهَا بالبَيْتِ وسَعْيِهَا أنَّهَا تَهِلُّ بالحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهَا، وتَكُونُ قَارِنَةً بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ. وأَخَذَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بِمَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَرْفُضُ العُمْرَة (¬1)، وتَنْقُضُ رأَسْهَا، وتُنْشِيءُ الحَجَّ مِنْ مَكَّةَ، وتَكُونُ عَلَيْهَا بَعْدَ تَمَامِ حَجِّهَا إعَادَةُ العُمْرَةِ التَي تَرَكَتْهَا والهَدْيُ (¬2). قالَ أَحْمَدُ: ومَالِكٌ يَسْتَحِبُّ لَها قَضَاءَ تِلْكَ العُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ، وقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَئهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا رَسُولَ اللهِ، يَرْجِعُ صَوَاحِبي بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ وأَرْجِعُ أَنا بالحَجِّ، فأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ أَبي بَكْرٍ فأَعْمَرَهَا مِنَ التنْعِيمِ لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ نَفْسَهَا" (¬3). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ أَحَداً لا يَهِل بِعُمْرَةٍ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وإنَّمَا يَهِلُّ بِهَا مِنَ الحِلِّ، وأَنَّ المَرْأةَ لَا تَخْرُجُ إلى سَفَرٍ وإنْ قَلَّتْ مَسَافتهُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أَنَّهُ قالَ: (لَا تَنْفِرُ الحَائِضُ مِنْ ¬

_ (¬1) أي: تترك التحلل من العمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة، وهذا هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعي عمرتك وانقضي رأسك ... الحديث) (¬2) هذا هو قول أبي حنيفة أيضا، ينظر: التمهيد 8/ 228. (¬3) رواه أبو داود (1782)، وأحمد 6/ 219، بإسنادهما إلى القاسم بن محمد عن عائشة به.

مَكَّةَ وإنْ كَانَتْ قَدْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ حَتَى تَطُوفَ بالبَيْتِ طَوَافَ الوَدَاعِ) (¬1)، وكانَ طَوَافُ الوَدَاعِ عِنْدَ ابنِ عُمَرَ وَاجِبَاً، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذا مَالِكٌ، وأَخَذَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: (أَنَّ المَرْأةَ إذا طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهَا تَنْفِرُ إلى بَلَدِهَا وتَتْرُكُ طَوَافَ الوَدَاعِ)، وَبِمِثْلِ هَذا قالَ ابنُ عَبَّاسٍ أَنَّهَا إذا أَفَاضَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهَا تَنْفِرُ إلى بَلَدِهَا إنْ شَاءَتْ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وفِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ بَيَانُ هَذا، وذَلِكَ أَنَّهَا حَاضَتْ بَعْدَما طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ، فَذَكَرتْ حَيْضَتَها لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أَحَابسَتُنَا هِي؟ " [1554]، يَعْنِي: أَتَحْبسَنَا عَنِ الرَّحِيلِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا، وتَطُوَفَ بالبَيْتِ طَوَافَ الإفَاضَةِ، فَقِيلً لَهُ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضتْ، قالَ: "فَاخْرُجْنَ إذاً". فَبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذا الحَدِيثِ أَنَّ طَوَافَ الوَدَاعِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وأَن الفَرْضَ هُوَ طَوَافُ الإفَاضَةِ، وأنَّ الحَائِضَ إذا حَاضَتْ بَعْدَهُ خَرَجَتْ إلى بَلَدِهَا وتَرَكَتْ طَوَافَ الوَدَاعِ، ولِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ في حَدِيثِها: (ونَحْنُ نَذْكرُ ذَلِكَ، فَلِمَ يَقُدِّمُ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُن؟) [1557]، يَعْنِي: نحْنُ نَذْكُرُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اخْرُجْنَ إذاً". ونَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي هَذِه المَسْأَلةِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ المَرْأةَ إذا حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الوَدَاعِ أَنَّهَا تُقِيمُ حَتَى تَطُهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ للوَدَاعِ، وكَذَلِكَ تَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ (¬3). وحَدِيثُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُبيِّنُ أَنَّهَا تَخْرُجُ وتترُكُ طَوَافَ الوَدَاعِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: (ولَوْ كَانَ قَوْلَ الذي يَقُولُونَ حَقَّا لأَصْبَحَ بِمِنَى أَكثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلافِ امْرَأةٍ حَائِضٍ كُلُّهُنَّ قَدْ أَفَضْنَ)، يَعْنِي: لَو كَانَ قَوْلَ الذي يَقُولُ: لاَبُدَّ للحَائِضِ أَنْ تَبْقَى بِمَكَّةَ حَتَّى تَطُوفَ للوَدَاعِ حَقَّاً، لَبَقِيَ مِنَ النِّسَاءِ بِمَكَةَ كَثيرٌ، كُلُهُن قَدْ أَفَضْنَ يَنتظِرْنَ الطُّهْرَ ثُمَّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (323)، وكان هذا من ابن عمر في أول الأمر إلا أنه رجع عن ذلك ورخص في الخروج لهن قبل طواف الوداع، ينظر: التمهيد 17/ 270. (¬2) رواه البخاري (323)، وابن حبان (3898). (¬3) ينظر هذا القول في التمهيد 17/ 269.

يَطُفْنَ بَعْدَ ذَلِكَ للوَدَاعِ، فَهُنَّ لا يَبْقِينَ لِذَلِكَ، لأَنَّ النَّاسَ قَدَّمْنَهُن يَوْمَ النَّحْرِ، فَطُفْنَ طَوَافَ الإفَاضَةِ خِيفَةَ حَيْضِهِنَّ فَلِهَذا انتفَعَنَ بِطَوَافِ الإفَاضَةِ، وخَرَجْنَ إلى بِلاَدِهِنَّ، وتَرَكْنَ طَوَافَ الوَدَاعِ الذي لَيْسَ بِفَرْضٍ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ذَكَرَ ابنُ بُكَيْبر فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ (¬1): "أَن أُمَّ سُلَيْمِ بنْتِ مِلْحَانَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحَاضَتْ، أَو وَلَدَتْ بَعْدَما أَفَاضَتْ يَوْمَ اَلنَّحْرِ، فأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَتْ" [1558]، يَعْنِي: خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ ولَمْ تَطُفْ طَوَافَ الوَدَاعِ. * قالَ مَالِكٌ: (وإذا حَاضَتِ المَرْأةُ بِمِنَى قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ للإفَاضَةِ فإنَّهَا تُقِيمُ حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ بالبَيْتِ للإفَاضَةِ، وَيُحْبَسُ عَلَيهَا كَرِيُّهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْبِسُ الحَائِضَ الدَّمُ، حَتَّى تَطُوفَ طَوَفَ الإفَاضَةِ، ثُمَّ يَخْرُجَ بِهَا إلى بِلاَدِهَا، ولَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُعِينَهُ فِي العَلَفِ) [1559 - 1560] (¬2). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَمَّا الاَنَ فَلَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا كَرِيُّهَا، ويُفَاسِخُهَا الكِرَاءَ، لِتَغَيُّيرِ الحَالِ وفَسَادِ النَّاسِ، وتَبْقَى هِيَ بِمَكَّةَ، لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الإفَاضَةِ ثُمَّ تَخْرُجُ. * * * ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (85 أ)، نسخة تركيا. (¬2) ينظر شرح هذا القول لمالك في كتاب: التاج والإكليل 3/ 138.

باب فدية ما أصيب من الطير والوحش

بابُ فِدْيةِ مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ والوَحْشِ * رَوَى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ أَبي الزُّبَيْرِ المَكّي، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: (أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قَضَى فِي الضَّبْعِ بِكَبْشٍ، وفِي الغَزَالِ بِعَنْزٍ، وفِي الأَرْنَبِ بعَنَاقٍ، وفِي اليَرْبُوعِ بجَفْرَةٍ) [15621]، ولَمْ يَرْوِ يحيى بنُ يَحْيىَ في سَنَدِ هَذَا اَلحَدِيثِ جَابِرَ بنَ عَبْدِ اللهِ، والصَّحِيحُ كَمَا رَوَاهُ ابنُ بُكَيْرٍ (¬1). والعَنَاقُ والجَفْرَةُ: الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلاَدِ المَعْزِ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ العَمَلُ عَلَى قَضَاءِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فِي الأَرْنَبِ واليَرْبُوعِ بالعَنَاقِ والجَفْرَةِ، لأَنَّهُمَا الصَّغِيرَانِ مِنْ أَوْلاَدِ المَعْزِ، ولَيسَ يُحْكَمُ في جَزَاءِ شَيءٍ مِنَ الصَّيْدِ عَلَى المُحْرِمِ بِدُونِ المُسِنِّ مِنَ الضَّأْنِ، ومَا لَمْ يَبْلُغْ جَزَاؤُهُ ذَلِكَ، وإنَّمَا هُوَ طَعَامٌ أو صِيَامٍ، يُنْظَرُ إلى مَا يُسَاوِي المُفْدَى مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدَّاً مِنْ طَعَامٍ بِمُدِّ النبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَو يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمَاً كَامِلاً، ويَصُومُ لِكَسْرِ المُدِّ يَوْمَاً كَامِلاً، وهَكَذا العَمَلُ فِي مِثْلَ هَذا. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الرَّجُلُ الذي سأَلَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فقَالَ: (إني أَجْرَيْتُ أَنا وصَاحِبٍ لِي فَرَسَيْنِ، نَسْتَبِقُ إلى ثَغْرَة ثَنِيّهٍ) [1563]، يَعْنِي: أَجْرَيْنَا فَرَسَيْنِ إلى ثُلْمَةٍ فِي هَذا الجَبَلِ، هَذَا الرَّجُلُ هُوَ قَبِيصَةُ بنُ جَابِرٍ [الأَسَديُّ] (¬2) وإنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِ عُمَرُ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ بِجَزَاءِ الظَّبْي الذي لَمْ يَقْصِدْ إلى ¬

_ (¬1) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (73 ب) نسخة تركيا. (¬2) جاء في الأصل: الأزدي، وهو خطأ، والصواب ما أثبثه، وانظر: تهذيب الكمال 23/ 472.

قَتْلِهِ مِنْ أَجْلِ أنَّ الأَجْرَاءَ كَانَ مِنْ سَبَبهِ، فَلِذَلِكَ أَوجَبَا عَلَيْهِ الجَزَاءَ. وقالَ ابنُ مُزَيْنٍ: عَبْدُ المَلِكِ بنُ قُرَيْبٍ الذي رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ هَذِه القِصَّةَ هُوَ الأَصْمَعِيُّ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ هُوَ الأَصْمَعِيُّ، لأَنَّ الأَصْمَعِيَّ لَمْ يُدْرِكْ مُحَمَّدَ بنَ سِيرِينَ، ولَا رَوَى عَنْهُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَوْجَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ الجَزَاءَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً. ومَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ: (هَذا أَمِيرُ المُؤْمنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْي حتَّى دَعَا رَجُلاً فَحَكَمَ مَعَهُ)، فكأَنَّهُ [اسْتَصْغَرَهُ] (¬1) فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا فَهِمَ عُمَرُ مَعْنَى مَا قَالَ سأَلهُ: (هَلْ تَقْرأُ سورَةَ المَائِدَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا)، فَحِينَئِذٍ قَالَ: (لَوْ أَخْبَرْتَنِي أنَّكَ تَقْرأُهَا لأَوْجَعْتك ضَرْباً)، يَعْنِي: كَنْتُ أَضْرِبُكَ لِقِرَاءَتِكَ القُرانَ بِغَيْرِ تَفَقُّهٍ، ثُمَّ عَذَرَهُ بِجَهْلِهِ، وأَعْلَمَهُ أَنَّ اللهَ أَمَرَ أَنْ يَحْكُمَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ قتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ حَكَمَانِ، ويَكُونَانِ عَدْلاَنِ، ولِذَلِكَ قالَ لَهُ: (وهَذا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُرْوَةَ: (فِي البَقَرَةِ مِنَ الوَحْشِ إذا قَتَلَها المُحْرِمُ بقَرَةً، وفِي الظَّبْي شاةٌ) [1564]، وهَذا هُوَ المِثْلُ الذي قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. * قالَ مَالِكٌ: (ولَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أنَّ فِي النَّعَامَةِ إذا قَتَلَها المُحْرِمُ بَدَنَةً، وأَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ النَّعَامَةِ، كمَا يَكُونُ فِي الجَنِينِ عُشْرُ دِيةِ أُمِّه الحُرَّةِ) [1567 و 1568]، وَوَقَعَ فِي غَيْرِ المُوَطَّأ: (أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ البَدَنَةِ) (¬2)، ولَمْ يَرْوِ هَذا ابنُ بُكَيْرٍ، ولَا يحيى بنُ يَحْيىَ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (استقصره)، وما وضعته هو الصواب، لأن معنى (استقصره) أي: عده مقصرا، كما في اللسان 5/ 3646، اما استصغره فمعناه عده صغيرا. (¬2) ينظر هذا القول في: الكافي 1/ 157.

قالَ مَالِكٌ: الحُكْمُ أَبَداً مُسْتَأْنَفٌ فِي كُلِّ شَيءٍ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ المِثْلُ، وفِيمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِثْلٌ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حُكْمُ مَنْ قَتَلَ صَيْداً وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنْ يَقْصِدَ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْ فُقَهَاءِ المُسْلِمِينَ، فَيُخْبِرُهُمَا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، فَيُخْبِرانِهِ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَيْهِ بِمَا يُرِيدَانِ يَحْكُمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فإنْ قَالَ: احْكُمَا عَلَيَّ بالمِثْلِ، حَكَمَا عَلَيْهِ بِجَزَاءِ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَبْلُغُهُ مَكَّةَ ويَنْحَرُهُ، أو يَذْبَحُهُ بِهَا ويُطْعِمُهُ المَسَاكِينَ، كَمَا قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وإنْ قالَ: احْكُمَا عَلَيَّ بالطَّعَامِ، نُظِرَ إلى قِيمَةِ المُفْدَى مَا يُسَاوِي مِنَ الطَّعَامِ، فأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدَّاً مِنَ ذَلِكَ الطَعَامِ، وإنْ قَالَ: احْكُمَا عَلَيَّ بالصِّيَامِ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍ مِنْ عَدَدِ الطَّعَامِ يَوْماً، وصَامَ لِكَسْرِ المُدِّ يَوْماً كَامِلاً مِثْلَ أَنْ يَكُونَ المُفْدَى يُسَاوِي عَشَرَةَ أَمْدَادٍ ونِصْفَ مُدٍّ، فَاخْتَارَ المَحْكُومُ عَلَيْهِ الصِّيامَ، فإنَّهُ يَصُومُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمَاً، إذ لا يَتَبَعَّضُ صِيامُ اليَوْمِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لِكَعْبٍ حِينَ أَمَرَ الذي قتَلَ جَزَاءَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فقالَ كَدْب: (عَلَيْكَ دِرْهَمٌ) [1573]، فقالَ لَهُ عُمَرُ: (إنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ، لَتَمْرَةٍ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ)، يُرِيدُ بِقَوْلهِ: (إنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ)، أَي: إنَّكَ صَاحِبُ دَرَاهِمَ تَتَسَخَّا بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، ثُمَّ أَفْتَى عُمَرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَنْ يَطْعَمَ عَنِ الجَرَادَةِ التي قتَلَهَا فِي حَالِ إحْرَامِهِ شَيْئاً مِنَ الطَّعَامِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: (تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ). وقَالَ لرجُلٍ قَتَلَ جَرَادَاتٍ بِسَوْطِهِ: (أَطْعِمْ قَبْضةً مِنْ طَعَام) [1572]. * قالَ أَبو عُمَرَ: كَعْب هَذا هُوَ غَيْرُ كَعْبِ الأَحْبَارِ الذي جَعَلَ الجَرَادَ فِي أَوَّلِ هَذا الكِتَابِ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ حِينَ قالَ: (إنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ) [1284]، فَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ جَزَاءً. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَعْب المَذْكُورُ هَهُنَا هُوَ كَعْبُ الأَحْبَارِ، وهَذا خِلاَفُ قَوْلهِ

أَوَّلاً أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ الذي لَا جَزَاءَ فِيهِ، وجَعَلَ فِيهِ هَهُنَا الجَزَاءَ، لأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ صَيْدِ البَرِّ، [فَاخْتَلَفَ] (¬1) فِيهِ قَوْلُهُ. وبِقَوْلِ عُمَرَ أَخَذَ مَالِكٌ فِي الجَرَادِ إذا قتَلَهَا الُمحْرِمُ أَنْ عَلَيْهِ جَزَاءَ مِثْلِ مَا قتَلَ، لأَنَّ الجَرَادَ مِنْ صَيْدِ البَرِّ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الجَزَرِيِّ، عَن [ابن، (¬2) أَبي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ [1575]، لَيْسَ يَرْوِي أَهْلُ المَدِينَةِ هَذا الحَدِيثَ إلَّا عَنِ الكُوفيِينَ. وقالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلِ المَدِينَةِ يَحْتَاجُونَ فِي السُّنَنِ إلى غَيْرِهِمْ كَمَا يَحْتَاجُ غَيْرُهُم فِيهَا إليهِم. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: ولَيْسَ هَذا كَمَا قَالَ هَذا القَائِلُ، وذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ هَذا الحَدِيثِ مَدَنِيّ، وكَعْبُ بنُ عُجْرَةَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، رَوَاهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَفْتَاهُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ، وأَمَرَهُ بالفِدْيةِ، ثُمَّ رَحَلَ بَعْدَ ذَلِكَ كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ مِنَ المَدِينَةِ إلى الكُوفَةِ، فَحَدَّثَ بِهَذا الحَدِيثِ فِي الكُوفَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الحَدِيثُ إلى أَهْلِ المَدِينَةِ كَمَا خَرَجَ عَنْهُم إلى الكُوفَةِ، وقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلى أَهْلِ المَدِينَةِ فِي السُّنَنِ والآثاَرِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ فِي عُمْرَةِ الحُدَيْبيَّةِ، ولَمْ يَأمُرْهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِطَرْحِ القَمَلِ مِنْ رَأْسِهِ، وإنْ كَانَتْ قَدْآذَتْهُ وكَثُرَتْ فِي رَأسِهِ وَلِحْيَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ ابنِ آدَمَ. ومِنْ هَذا الحَدِيثِ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَطْرَحَ الرَّجُلُ عَنْ بَعِيرِه القُرْدَانَ، لأَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ البَعِيرِ، وأَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَعْبَ بنَ عُجْرَةَ بِحِلاَقِ رَأْسِهِ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَذِيَّةِ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: فاختلاف، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة لابد منها، وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي التابعي الثقة الفقيه.

القَمَلِ، كَمَا قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، يَعْنِي: مَنْ كَانَ بهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ الفِدْيةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذا المَوْضِعِ تَفْسِيرُ الفِدْيَةِ لِمَنْ أَمَاطَ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئَاً. * قالَ مَالِكٌ: (لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِيمَا قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الحَرَمِ شَيْئَاً) [1591]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: أَجْمَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِ الحَرَمِ شَيْئَاً أنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، ولَكِنَّهُ أَثِمَ فِي قَطْعِهِ إيَّاهَا وأَخْطَأ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُعْضَدَ شَجَرُ مَكَّةَ، أَيْ يُكْسَرُ أَو يُقْطَعُ. وقالَ غَيْرُ أَهْلِ المَدِينَةِ: مَنْ قَطَعَ شَيْئَا مِنْ شَجَرِ الحَرَمِ أنَّ عَلَيْهِ الفِدْيةَ فِي الشَّجَرَةِ الكَبيرَةِ على قَدْرِهَا، وفِي الصَّغِيرَةِ عَلَى قَدْرِهَا، يُنْظَرُ إلى قِيمَةِ مَا كَسَرَ، فَيُطْعِمُ المَسَاَكِينَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) هذا قول الشاقعي وغيره، ينظر: الإستذكار 5/ 99، والقوانين الفقهية ص 96.

باب جامع الحج، إلى آخر كتاب الحج

بابُ جَامِع الحَجِّ، إلى آخِرِ كِتَابِ الحَجِّ * قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْروِ بنِ العَاصِ: "وَقَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للنَاسِ بمِنَى فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ يَسْألونَهُ، فَجَاءَ رَجُل فقَالَ: يا رَسُولُ اللهِ، لَمْ أَشعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قالَ: اذْبَحْ ولَا حَرَجَ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى قَوْلهِ: "فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيء قُدِّمَ ولَا أُخِّرَ إلَّا قالَ: افْعَلْ ولَا حَرَجَ" [1594]، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا أَفْتَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرَيْنِ قَدْ وَقَعَا فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، وفِيمَنْ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، فأمَرَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَخرَهُ مِنْ ذَلِكَ، ولَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. ومَذْهَبُ مَالِكٍ وفتيَاهُ أَنهُ لَا يَحْلِقُ أَحَدٌ رَأْسَهُ حَتَى يَنْحَرَ هَدْيهُ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، يَعْنِي: حَتَى يَنْحَرَ الهَدْي بِمِنَى، فإنَّ حَلَقَ أَحَدٌ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اذْبَحْ ولَا حَرَجَ". قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: ومَعْنَى قَوْلِ المُحَدِّثِ: "فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيءٍ قُدّمَ ولَا اخّرَ إلَّا قالَ: افْعَلْ ولَا حَرَجَ"، يُرِيدُ: مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَقْدِيمُ والتأخِيرُ، وأَمَّا مَنْ حَلَقَ رَأْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبةَ فَعَلَيْهِ الفِدْيةُ، وُيمِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ المُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ: مَنْ طَافَ طَوَافَ الإفَاضَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ العَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَلْيَرْمِي، ثُمَّ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُعِيدُ طَوَافَ الإفَاضَةِ. قالَ: ومَنْ طَافَ للإفَاضَةِ قَبْلَ الحِلاَقِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةِ أَنَّهُ

يَحْلِقُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُعِيدُ طَوَافَ الإفَاضَةِ، فإنْ لَمْ يَعُدْ طَوَافَ الإفَاضَةِ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَدْ طَافَ (¬1). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للمَرْأةِ الَّتي سَألَتْهُ عَنِ الصَّبِيِّ الَّتي حَجّتْ بهِ، فَقَالَتْ: "أَلِهَذَا حَجّ؟ فقَالَ: نَعَمْ ولَكِ أَجْر" [1596]، يُرِيدُ - صلى الله عليه وسلم - بقَوْلهِ: "نَعَمْ"، أَيْ: إنَّهُ يُؤْجَرُ الصَّبِي عَلَى حَجِّهِ كَمَا يُؤْجَرُ فِي صَدَقَتِهِ إذا تَصَدَّقَ بِهَا، وعَلَى زَكَاةِ مَالِهِ الَّتي تُؤْخَذُ مِنْهُ إذا وَجَبتْ عَلَيْهِ، وعَلَى وَصِيَّتِهِ التّي يُوصِي بِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ فتخْرَجُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتهِ. ومَعْنَى قَوْلهِ للمَرْأةِ: "ولَكِ أَجْر"، يَعْنِي: أَنَّهَا تُؤْجَرُ فِيمَا تَمَوَّنَتهُ مِنْ مُعَاوَنَتِهَا لَهُ عَلَى أَعْمَالِ الحَجِّ، غَيْرَ أَنَّ فَرْضَ الحَجّ بَاقٍ عَلَيْهِ إذا بَلَغَ، وكَانَ مِنْ أَهْلِ الاسْتَطِاعَةِ، وذَلِكَ أَنْ ببُلُوغِ الحُلُمِ مِنَ الصِّبْيَانِ، والحَيْضِ مِنَ النّسَاءِ تَلْزَمُهُم الفَرَائِضُ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]، فلِهَذا كَانَ حَجُّ الصَّبِيِّ قَبْلَ بُلُوغِهِ تَطَوُّعَاً لَا يُجْزِيهِ مِنْ حَجَّةِ الإسْلَامِ، لأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي شَيءٌ قَبلَ وَقْتِهِ وقَبْلَ وُجُوبهِ، وكَذَلِكَ لَا يُجْزِي حَجُّ العَبْدِ قَبْلَ عِتْقِهِ، لأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ سَيِّدِه، ولَا يَقْدِرُ عَلَى مَالي يَحُجُّ بهِ، إذ للسيِّدِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ مَتَى أَحَبَّ، وقَدْ حَجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأَزْوَاجِهِ ولَمْ يَحُجّ وَلَدُهُ، فَلَا يُلْزَمُ العَبْدُ الحَجَّ حَتَّى يُعْتَقَ، فإذا عُتِقَ وَقَدْ أَحْرَمَ بالحَجّ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُ مَا دَخَلَ فِيهِ، لِقَوْلهِ تَعَالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فَمَنْ دَخَلَ في شَيءٍ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: انْفَرَدَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيّ بِحَدِيثِ المِغْفَرِ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ وعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ" [1599]. وَرَوى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِفي، عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ المَكّي، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: "أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَةَ وعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، ولَمْ يَكُنْ ¬

_ (¬1) نقل كلام ابن عبد الحكم: ابن عبد البر في التمهيد 7/ 373.

رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ مُحْرِمَاً" (¬1)، وهَذَا خَاصٌّ لَهُ ولِمَنْ دَخَلَها مَعَهُ ذَلِكَ اليوم، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: "إن مَكَةَ لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، ولَا تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وإنَّمَا أحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ" (¬2). ولِهَذا قالَ مَالِكٌ: إنَّ أَحَدأ لا يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمَاً بحَج أو عُمْرَةٍ، وكَانَ الزُّهْرِيّ يُرَخِّصُ فِي فىُ دخُولهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ أَيضاً مَالِكٌ للحَطَّابِينَ، وأَصْحَابِ الفَوَاكِهِ والأَطْعِمَةِ الذينَ يُكْثِرُونَ الإخْتِلاَفَ إلى مَكَّةَ، فقَالَ: لَا بَاْسَ أَنْ يَدْخُلُوهَا بغَيْرِ إحْرَام، لأَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ مِنْهُم، فَلَو أُلْزمُوا الإحْرَامَ كُلَّمَا جَاؤُهَا لَشُقَّ بهِ عَلَيهِم (¬3). إنَّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ ابنِ خَطَل بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمَّنْ أَهْلَ مَكَّةَ بِقَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ"، ثُمَّ قَتَلَ ابنَ خَطَلٍ لأَنَّهُ كَانَ يَهْجُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ويُؤْذِيهِ، فَكَانَ عَدُواً للهِ ولِرَسُولهِ، وهَذا أَصْلٌ فِي إقَامَةِ الحُدُودِ بِمَكَّةَ، وهذا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الحُدُودَ لَا تُقَامُ بِمَكَّةَ (¬4)، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمرانْ 97]، وهَذا مَنْسُوخ، نَسَخَهُ نُزُولُ القُرْآنِ بإقَامَةِ الحُدُودِ عَلَى مَنْ أَصَابَهَا، فأَمَرَ اللهُ بقَطْعِ السَّارِقِ، وجَلْدِ الزَّانِي، وقَتْلِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ، ولَمْ يَخُصَّ بُقْعَةً دُون بُقعَبة ولِهَذا قتَلَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ خَطَلٍ بِمَكَّةَ. وهَذا حُكْمُ كُلِّ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَو قَالَ: إنَّ ثَوْبَهُ أو إزَارَهُ وَسِخٌ أَنْ يُقْتَلَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّه الإزْرَاءَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فحُكْمُهُ القَتْلُ. وكَذَلِكَ لَا حَظَّ فِي شَيءٍ مِنَ الفَيءِ، ولَا سَهْمَ لِمَنْ سَبَّ وَاحِدَاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابهِ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1358)، وأبو داود (4076)، والترمذي (1735)، وابن ماجه (2822)، بإسنادهم إلى أبي الزبير به. (¬2) رواه البخاري (112)، ومسلم (1355)، من حديث أبي هريرة به. (¬3) ينظر: التمهيد 6/ 162 - 163. (¬4) هذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه، ينظر: حاشية ابن عابدين 6252.

* [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: (إذا كنتَ بينَ الأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنَى) [1602]، يَعْنِي: إذا كُنْتَ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي مَشْرِقِ مِنَى وَغَرْبِها، الذي بَطْنُ وَادِي مِنَى بَيْنَهُمَا، (فإنَّ هُنَاكَ وَادِيَاً يُقَالُ لَهُ الشُرَرُ، بهِ سَرْحَة سُرَّ تَحْتَها سَبْعُونَ نَبِيَّاً)، السَّرْحَةُ: الشَّجَرَةُ العَظِيمَةُ مِنْ شَجَرِ الصُّنُوبَرِ أو غَيْرِهَا. وقَوْلُهُ: (سُرَّ تَحْتَها سَبْعُونَ نَبِيَّا)، يَعْنِي: بُشِّرُوا بالنُبُّوةِ وَهُمْ تَحْتَها فَسُرُّوا بِذَلِكَ، وقِيلَ: وُلِدُوا تَحْتَهَا وقُطِعَتْ سُرَرُهُمْ تَحْتَها، فَدَلَّ بِهَذا عَلَى أَنَّ مِنَى بُقْعَة مُبَارَكَة، لَا يَتِمُّ الحَجُّ إلَّا بإتْيَانِهَا، وفِيهَا تُرْمَى الجِمَارُ، وتُنْحَرُ الهَدَايا، وتُحْلَقُ الرُّؤُسُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا نَهَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ المَجْذُومَةَ عَنِ الطَّوَافِ بالبَيْتِ [1603] مِنْ أَجْلِ أَئهَا تُؤْذِي النَّاسَ بِرَائِحَتِهَا، ونَظَرِهِم إليهَا، ولِهَذا الحَدِيثِ مُنِعَ الجَذْمَاءُ مُشَاهَدَةَ الجَمْعِ فِي الجَوَامِع [مع] (¬1) النَّاسِ. وقَوْلُهَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ: (مَا كنتُ لأَطيعُهُ حَيَّاً وأَعْصِيهِ مَيْتاً)، فِيهِ بَيَانُ: أَنَّ مَنْ أَمَرَهُ إمَام عَادِلٌ بأَمْرٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَهُ فِي حَيَاةِ الآمِرِ وبَعْدَ مَمَاتِهِ، إذْ الحَقُّ لَا يَمُوتُ بِمَوتِ الآمِرِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَقَعَ فِي مُوَطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ: مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: (مَابَيْنَ الرُّكْنَيْنِ والبَابِ المُلْتَزَمُ) (¬2)، وَوَقَعَ فِي رِوَايةِ يَحْيَى بنِ يَحْيَى: (مَا بَيْنَ الزُكْنِ والمَقَامِ المُلْتَزَمُ) [1604]. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: رِوَايةُ يَحْيَى بنِ يحيى فِي هَذا صَحِيحَة، وذَلِكَ أَنَّ المَقَامَ كَانَ أَوَّلأ مُلْصَقَاً بالبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عَنْ أَصْلِ حَائِطِ البَيْتِ إلى المَكَانِ الذي هُوَ فِيهِ اليَوْمَ، فَكَانَ المُلْتَزَمُ حِينَئِذٍ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقَامِ، فَلَمَّا أُزِيلَ المَقَامُ عَنْ مَوْضعه الذي كَانَ فِيهِ صَارَ المُلْتَزَمُ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ والبَابَ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين وضعته لمناسبة السياق معه، وجاء في الأصل: (من)، ولا أراه مناسبا. (¬2) موطأ مالك برواية ابن بكير، الورقة (81 ب) نسخة تركيا.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أَخرَ عُمَرُ المَقَامَ عَنْ أَصْلِ جِدَارِ البَيْتِ، وجَعَلَهُ فِي المَوْضِعِ الذي هُوَ فِيهِ الاَنَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَذْهَبَ بهِ السَّيْلُ عِنْدَ كَثْرَةِ المَطَرِ، فَيَنْحَدِرُ المَاءُ مِنْ جبَالِ مَكَّةَ، ويَشُقُّ صَحْنَ المَسْجدِ فَلِهَذا أَخَّرَهُ عَنْ مَوْضِع السَّيْلِ. ومَعْنَى المُلْتَزَم أَنَّهُ مَوْضِعٌ يُلْتَزَمُ الوُقُوفُ فِيهِ للدُعَاءِ، وَهُوَ مِنْ مَوَاضِع الدُّعَاءِ، وقَدِ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ الدّعَاءَ عِنْدَهُ، وَهُوَ بِقُرْبِ الرّكْنِ الذي فِيهِ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ نَاحِيةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ وبَابِ الكَعْبَةِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ أَبي ذَرٍّ للرَّجُلِ القَاصِدِ للحَج: (هَلْ نَزَعَكَ غَيْرُهُ؟) [1605]، يَعْنِي: هَلْ خَرَجْتَ مِنْ بَلَدِكَ لِغَيْرِ الحَجّ، فقالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا أَخْرَجَنِي مِنْ بَلَدِي غَيْرَ الحَجِّ وطَلَبِ مَا عِنْدَ اللهِ، فقَالَ لَهُ: (استأنِفِ العَمَلَ)، يُرِيدُ: أَنَّكَ مَغْفُور لَكَ، وصَرْتَ كَيَومِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، وهَذا نَحْوِ مَا رَوَاهُ أَبو هُرَيْرَةَ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ: "مَنْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَجْهَلْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (¬1)، يَعْنِي: مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَلاَلٍ، وتَجَنَّبَ الكَلاَمَ القَبِيحَ، وإصَابَةَ النسَاءِ فِي حَالَةِ الإحْرَامِ، ولَمْ يُؤْذِ أَحَداً مِنَ النَّاسِ بَيَدٍ ولَا لِسَانٍ غُفِرَتْ ذُنُوبهُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَنْكَرَ الزّهْرِيُّ حَدِيثَ الإسْتِثْنَاءِ فِي الحَجِّ ولَمْ يَعْرِفْهُ [1606]، وهَذا الحَدِيثُ الذي أَدْخَلَهُ أَبو بَكْرِ بنُ أَبي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: "أن ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزّبَيْرِ أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إني أُرِيدُ الحَجَّ أَفَأَشْتَرِطُ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ، قَالَتْ: فَكَيْفَ أَقُولُ؟ فَقَالَ لَهَا: قُولي: لَبّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، ومَحِلِّي مِنَ الأَرْضِ حَيْثُ حَبَسْتَنِي" (¬2)، يَعْنِي: حَيْثُ مَا حَبَسَكَ مَرَضٌ أَو غَيْرُهُ حَتَّى فَاتَكَ الحَجُّ أَنَّكَ تَحِلّ مِنْ حَجَّتِكَ وتَرْجِعُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، ولِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ ولَمْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1449)، ومسلم (1350). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة 4/ 406 - 407، والحديث في صحيح البخاري (4801)، ومسلم (1257) من حديث عروة عن عائشة.

يَعْرِفْهُ، وقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مَنْ حُبسَ عَنِ الوُقُوفِ بِعَرفَةَ حَتَّى فَاتَهُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَحِلَّهُ مِنْ إحْرَامِهِ إلَّا الطَّوَافُ بالبَيْتِ، ولَمْ يَقُلْ لَهُ: مَحِلُّكَ حَيْثُ حُبسْتَ، وكَذَلِكَ فَعَلَ عَليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ بابْنِهِ حُسَيْنٍ حِينَ حُبسَ بِمَرضٍ حَتَّى فَاتَهُ الحًجُّ أَنْ يَأتِيَ مَكَّةَ إذا صَحَّ، فَيَطُوفُ بالبَيْتِ ويَسْعَى بَيْنَ الصًّفَا والمَرْوَةِ، ويَنْسِكُ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ أو العُمْرَةِ بالتَّمَامِ، فقالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، كَمَا قالَ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وكَدلِكَ سَائِرُ الأَعْمَالِ المُفْتَرَضةِ، والمُتَطَوِّعِ بِهَا، لَا يَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ فِي شَيءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يممَّهَا عَلَى سُنَتِهَا (¬1). * * * تَمَّ كِتَابُ الحَجِّ بِحَمْدِ اللهِ وحُسْنِ عَوْنهِ. يَتْلُوهُ كِتَابُ العُقُولِ بِحَوْلِ اللهِ. * * * ¬

_ (¬1) ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى منع الإشتراط في الحج أو العمرة، ينظر: التمهيد 15/ 191.

تفسير كتاب العقول

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ العُقُولِ * أَرْسَلَ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ حَدِيثَ الدِّيَاتِ [3139]، وأَسْنَدَهُ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَمْروِ بنِ حَزْمٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ كِتَاباً، وبَعَثَهُ مَعَهُ إلى اليَمَنِ" (¬1)، وذَكَرَ القِصَّةَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَهَا مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ، وجَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِيَّةَ النَّفْسِ مَائةً مِنَ الإبلِ، وَقَوَّمَهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَجَعَلَها عَلَى أَهْلِ الذهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وعَلَى أَهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَم، وهَذا أَصْل في الإجْتِهَادِ لِذَوِي الرُّسُوخِ فِي العِلْمِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ولَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الدِّيَةَ فِي قَتْلِ العَمْدِ رُخْصَة لِهَذِه الأُمَّةِ بِقَولهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وتَفسِيرُهُ عِنْدَ مَالِكٍ: أنَّهُ مَنْ أَعْطَى مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ مِنَ العَقْلِ فَلْيتبِعِ القَاتِلَ بالمَعْرُوفِ، وليهوَد إليه المَطْلُوبَ بإحْسَانٍ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، يَعْنِي: أنَّهُ خَفَّفَ عَنْ هَذِه الأُمَّةِ مَا كَانَ كَتَبهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45]، يَعْنِي: فِي التَّوْرَاةِ، {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وجَعْلَ لِهَذِه الأُمَّةِ ¬

_ (¬1) رواه بطوله ابن حبان (6559)، والحاكم 1/ 395، والبيهقي 4/ 89، بإسنادهم إلى سليمان بن داود به، وإسناده ضعيف، لأن سليمان بن داود هو سليمان بن أرقم وهو متفق على ضعفه، وقد غلط أحد الرواة في اسم والده، فقال: سليمان بن داود، ومع ضعفه فإن كثيرا من مفردات الحديث ثابت في أحاديث أخرى.

القِصَاصَ فِي قَتْلِ العَمْدِ، بِقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]، يَعْنِي: لا يُقْتَلُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ. قالَ مَالِكٌ: (لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ فِي الدِّيَةِ الأبِلُ، ولَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ البَدْوِ الذَّهَبُ ولَا الوَرِقُ، ولَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْل الذَّهَبِ الوَرِقُ، ولَا مِنْ أَهْلِ الوَرِقِ الذَّهَبُ) [3143]، إنَّمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَجْلِ أنَّهُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الدِّيَةِ إبِل مِنْ أَهْلِ البَدْوِ فَفَسَخَها فِي دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بالدَّيْنِ، وذَلِكَ لَا يَجُوزُ، ومَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَفَسَخَها فِي دَرَاهِمَ إلى أَجَلٍ، أَو وَجَبَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَفَسَخَها فِي دَنَانِيرَ إلى أَجَلٍ دَخَلَهُ الصَّرْفُ المُتَأَخِّرُ الذي لَا يَجُوزُ، ولَو كَانَ هَذا كُلُّهُ بَعْدَ أَنَّ حَلَّ أَجَلُ الدِّيةِ لَكَانَ جَائِزَاً إذا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُنَاجَزَةً. * وذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ دِيَةَ العَمْدِ فِي الإبِلِ خَمْسٌ وعِشْرُونَ بنتَ مَخَاضٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ حِقَّة، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ جَذَعَةً [3145] * وأنَّ دِيَةَ الخَطَأ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضيى، وعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ ذُكُورَاً، وعِشْرُونَ حِقَاقَاً، وعِشْرُونَ جَذَاعَاً [3151]، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ أَسْنَانِ الإبِلِ فِي كِتَابِ الزَكَاةِ. * [قالَ] (¬1) عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مُعَاوِيةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ: الَيْسَ عَلَى مَجْنُودب قَوَل) [3146]، وإنَّمَا جِنَايَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وأَمَّا السَّكْرَانُ فإنَّهُ يُقَادُ مِنْهُ، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لأَنَّ المَجْنُونَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، والقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ، فَفِعْلُهُ أَبَدَاً مِنَ الخَطَأ الذي تَحْمِلُهُ العَاقِلَةُ، وَهُوَ بِخِلاَفِ السَّكْرَانِ الذي يُؤْخَذُ بِمَا جَنَاهُ فِيمَا قَلَّ وكَثُرَ، لأنَّهُ هُوَ الذي أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ السُّكْرَ، والقَلَمُ جَارٍ عَلَيْهِ، فَلِهَذا يَجِبُ عَلَيْهِ القِصَاصُ إنْ قَتَلَ، أَو يُحَدُّ إنْ قَذَفَ حُرَّاً أَو حُرَّة. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: لَيْسَ العَمَلُ عَلَى تَبْدِئَةِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ المُدَّعَى عَلَيْهِم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة وضعتها للتوضيح، وكذا ما يأتي بعد.

الدَّمَ في أَيْمَانِ القَسَامَةِ، ولَكِنْ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ خَمْسِينَ يِمِينَاً [لَمَا مَاتَ] (¬1) المَقْتُولُ مِنْ ذَلِكَ، ويَسْتَحِقُّونَ الدِّيةَ عَلَى عَاقِلَةِ الجَانِي، أَو يَقْتَلُونَ الجَانِي إنْ شَاءُوا فِي قَتْلِ العَمْدِ، أَو يَأْخُذُونَ مِنْهُ الذَيَةَ [3150]. ذَكَرَ ابنُ مُزَيْنٍ عَنْ مُطَرِّفٍ (¬2)، قالَ: حَدَّثنا ابنُ أَبي حَازِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ (¬3) عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ بَدَّا المُدَّعِينَ فِي القَسَامَةِ فِي أَمْرِ الجُهَنِيِّيْنَ والسَّعْدِيّيْنَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وهَذَا خِلاَفُ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ، أنَّ عُمَرَ بَدَّا المُذَعَى عَلَيْهِم [3150]، والعَمَلُ بالمَدِينَةِ عَلَى تَبْدِيةِ المُدَّعِينَ للدَّم فِي القَسَامِةِ، وبهِ حَكلمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا ضَمَّنَ عُمَرُ مُجْرِي الفَرَسِ الدِّيَةَ وإنْ كَانَ مَغْلُوبَاً مِنْ أَجْلِ أَنَّ الإجْرَاءَ كَانَ مِنْ سَبَبِهِ، ثُمَّ إنَّهُ قَضَى بِشَطْرِ الذَيةِ عَلَى عَاقِلَةِ الجَانِي عَلَى وَجْهِ (¬4) الصُّلْحِ، كَمَا وَدَاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منْ مَالِهِ فِي قِضَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَهْل عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ [3275، و 3276]. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬5): قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ كَسَرَ مِنَ الإنْسَانِ يَدَاً أو رِجْلاً خَطَأً فَبَرِئَ أَنَّهُ لَا عَقْلَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَبْرَأَ عَلَى عَثَل، والعَثَلُ: العَيْبُ والنُّقْصَانُ، فَيَكُونُ فِيهِ مِنْ عَقْلِهِ بِحِسَابِ مَا نَقَصَ [3155]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إلى حَالِ اليَدِ أَو الرِّجْلِ كَمْ الذي نَقَصَ مِنْ حَالِهَا الأَوَّلِ فإنْ كَانَ ثُلُثَاً فَلَهُ ثُلُثُ دِيةِ اليَدِ أَو الرِّجْلِ، وإنْ كَانَ نِصْفَاً أو أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ عَلَى الجَانِي فِي العَمْدِ، وعَلَى العَاقِلَةِ فِي الخَطَأ. ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (لمات)، والصواب ما أثبته مراعاة للسياق. (¬2) مطرّف هو ابن عبد الله ابن أخت مالك، وأحد من روى الموطأ عنه، وتقدمت ترجمته (¬3) من هنا تبدأ قطعة مكتبة القيروان في هذا الموضع، وهذه القطعة رمزت لها بحرف (ق). (¬4) في (ق): معنى. (¬5) من (ق)، وفيها رمز بحرف (ع) للدلالة على المصنف عبد الرحمن، وقد أبدلته بذكر اسمه، مع إضافة (قال) للتوضيح، وكذا كل ما سيأتي من ذكر عبد الرحمن.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إذا كَانَ ثُلُثَ الدِّيةِ فَصَاعِدَاً (¬1). * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: لَمْ يُلْزَمُ الطبيبُ العَالِمُ بالطبِ إذا اجْتَهَدَ فِي عِلاَجِهِ وأَخْطَأ قَوَدٌ فِيمَا أَخْطَأ فِيهِ [3159]، مِنْ أَجْلِ أَنَّ التَّدَاوِي والخِتَانَ شَيءٌ أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، فإذا أَخْطَأ فِي ذَلِكَ العَالِمُ كَانَتِ الدِّيةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، إذْ هُوَ مِنَ الخَطَأ الذي تَحْمِلُهُ العَاقِلَةُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ ابنِ المُسَتبِ: (إنَّ المَرْأةَ تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إلى ثُلُثِ الدِّيةِ) [3161]. * وقَالَهُ أَيْضَاً عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ [3162]، فإذا بَلَغَتِ الثُّلُثَ [فَمَا] (¬2) زَادَ رَجَعَتْ إلى نِصْفِ عَقْلِ الرَّجُلِ، وهَذِه السُّنَّةُ المَعْمُولُ بِهَا، وذَلِكَ أَنَّ الله [جَل وَعَزَّ] (¬3) لَمَّا جَعَلَ لَهَا نِصْفَ مِيرَاثِ الرَّجُلِ، وجَعَلَ شَهَادَتَها نِصفَ شَهَادَةِ الرَّجُلِ كَانَتْ دِيَتُهَا نِصْفَ دِيةِ الرَّجُلِ، فَهِي تَجْرِي مَجْرَى الرَّجُلِ فِي اليَسِيرِ مِنَ الدِّيةِ، فإذا بَلَغَتِ الثُّلُثَ وَهِيَ فِي حَير الكَثيرِ رَجَعَتْ إلى دِيتِهَا، وأَمَّا إذا قتَلَهَا رَجُلٌ عَمْدَاً فإنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ولِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُونَ تتكَافَاُ دِمَاؤُهُمْ" (¬4). ولَمْ يُقْتَل الحُرُّ بالعَبْدِ، لأَنَّ اللهَ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬5) قالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، فإذا قتَلَ حُرٌّ عَبْدَاً كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، ويُقْتَلُ العَبْدُ بالحُرِّ عَلَى سَبيلِ الارْتدَاعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ المُمَاثِلَةِ أَنَّه مِثْلُهُ، كَمَا قَدْ يُقْتَلُ المُسْلِمُ بالكَافِرِ إذا قَتَلَهُ قَتْلَ غِيلَةٍ، وإنَّمَا قُتِلَ بهِ عَلَى سَبِيلِ الإرْتدَاعِ ونَقْضِ العَهْدِ الذي عُقِدَ لَهُ. ¬

_ (¬1) هذه العبارة الأخيرة ليست موجودة في (ق). (¬2) من (ق)، وفي الأصل: فأزاد. (¬3) من (ق). (¬4) رواه أبو داود (2751)، وابن ماجه (2685)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬5) من (ق).

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّجُلِ إذا أَصَابَ امْرَأتِهِ بِجَرْحِ قَوَد فِي الخَطَأ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ تَأْدِيبَهَا مُبَاح لَهُ، ولَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بالمَعْرُوفِ، فإن قصَدَ إلى جَرْحِهَا عَمْدَا أُقِيدَتْ (¬1) مِنْهُ، وإنْ قَتَلَها عَمْدَاً قُتِلَ بِهَا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ امْرَأَتْيِنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى" [3167]، إلى آخِرِ الحَدِيثِ (¬2)، فِي هَذَا الحَدِيثِ زِيَادَ لِغَيْرِ مَالِكٍ عَن الزُّهْرِيِّ، رَوَاهُ مَعْمَر ويُونسٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالاَ في حَدِيثِهِمَا [عَنْهُ] (¬3): "أَنَّهَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فأَسْقَطَتْ جَنِينَاً مَتِّتَاً، ثُمَّ [مَاتَتْ] (¬4)، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الجَنِينِ بِغُزَةِ عَبْدٍ أَو وَلِيدَةٍ، وقَضَى بِدِيةِ المَرْأةِ عَلَى عَاقِلَةِ القَاتِلَةِ، وَوَرِثَها وَلَدُهَا" (¬5)، ولَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ فِي الحَدِيثِ: "أَنَّ المَرْأةَ المَضْرُوبةِ مَاتَتْ"، مِنْ أَجْلِ الاخْتِلاَفِ الذي فِي دِيتِهَا، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ قَاتِلَهَا، ذَكَرَ هَذا ابنُ عَبَّاسٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ورَوَى غَيْرُ ابنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضَى بِدِيةِ المَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ القَاتِلَةِ". وقَصَدَ مَالِكٌ مِنَ الحَدِيثِ إلى ذِكْرِ دِيَةِ الجَنِينِ الذي أَسْقَطَتْهُ المَضْرُوبَةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لا اخْتِلاَفَ فِي أَنَّهُ قَضَى بِدِيةِ الجَنِينِ عَلَى الضَّارِبةِ، وَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى (¬6). ورَوَى طَاوُوس عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ بِمَا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الجَنِينِ يُطْرَحُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، فأَتَاهُ حَمَلُ بنُ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في (ق): اقتصت. (¬2) في (ق): فذكر الحديث. (¬3) زيادة من (ق). (¬4) من (ق) وفي الأصل: مات، وهو خطأ. (¬5) رواه مسلم (1681) من حديث معمر ويونس عن ابن شهاب به. (¬6) أي على حكم ما فرضه الله -عَزَّ وَجَلَّ- في المواريث.

فِي الجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بغُرَّةِ عَبْدٍ، وأَنْ تُقْتَلَ المَرْأةُ مَكَانَها" (¬1)، يَعْنِي: تُقْتَلَ المَرْأَةُ القَاتِلَةُ الَّتي قتَلَتِ المَرْأَةً التَي أَسْقِطَتِ الجَنِينَ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: كَانَتِ المَرْأَةُ القَاتِلَةُ قَدْ ضَرَبَتِ المَرْأَةَ المَقْتُولَةَ بِعُودِ الخِبَاءِ البَطْنَ، فأَلْقَتْ جَنِينَهَا ومَاتَتِ المَضْرُوبةُ مِنْ ضَرْبَتِهَا، وبِهَذا قَالَ أَهْلُ المَدِينَةِ: أنَّهُ مَنْ قتَلَ أَحَدَاً بَعَصَا فإنَّهُ يُقْتَلُ بِمِثْلِ مَا قتَلَ بهِ. وأَمَّا أَهْلُ العِرَاقِ فَلَا يَرَوْنَ القِصَاصَ فِيمَا كَانَ القَتْلُ فيهِ إلَّا بالحَدِيدِ خَاصَةً (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دِيةُ الجَنِينِ إذا ضُرِبَ بَطْنُ أُمِّهِ فَسَقَطَ مَيتَا غُرَّةَ عَبْدٍ أَو وَلِيدَةٍ، وقِيمَةُ ذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارَاً، أَو سِتَّمَائةِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَلَى كِتَابِ اللهِ (¬3). ولا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الإبِلِ فِي ذَلِكَ إبِل، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِيهِ بالغُرَّةِ والنَّاسُ يَوَمِئِذٍ أَهْلُ إبِلٍ. وشَبَّهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَ القَاتِلِ الذي حُكِمَ عَلَيْهِ بِدِيَةِ الجَنِينِ فَقَالَ: "كَيْفَ أُغْرَمُ مَالاَ أكلَ، ولَا شَرِبَ، ولَا نَطَقَ، ولَا اسْتَهَلَّ" بِقَوْلِ الكَاهِنِ الذِي يَسْجَعُ كَلاَمَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّمَا هَذا مِنْ إخْوَانِ الكُهَّانِ" [3168]. وقَالَ عِيسَى بنُ دِينَارٍ: إنْ شَاءَ الجَانِي أَعْطَى الغُرَّةَ، وإنْ شَاءَ أَعْطَى خَمْسِينَ دِينَارَاً، أو سِتَّمَائةِ دِرْهَمٍ. قالَ: وفِي جَنِينِ أُمِّ الوَلَدِ (¬4) مِنْ سَيِّدِهَا مِثل مَا فِي جَنِينِ الحُرَّةِ، وفِي جَنِينِ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4572)، والنسائي (4739)، وابن ماجه (2641)، بإسنادهم إلى طاووس به. (¬2) ينظر قول أبي حنيفة وأصحابه في: تبيين الحقائق 6/ 100، وحاشية ابن عابدين 6/ 527. وفي (ق): (فلا يرون القصاص إلا فيما كان القتل فيه بالحديد خاصة)، وما أثبته من نسخة الأصل هو الصحيح، وهو الموافق لمذهب أبي حنيفة. (¬3) ينظر: التمهيد 6/ 486. وقوله (وهي موروثة على كتاب الله تعالى) لا توجد في (ق). (¬4) في (ق): الأم ولد.

الأَمَةِ عُشْرُ ثَمَنِ أُمِّةِ، لأَنَّهَا مَمْلُوكَة، ووَلَدُهَا عَبْدٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيّدِهَا، فإنْ كَانَ مِنْهُ فَفَيهِ مِثْلُ مَا فِي جَنِينِ الحُرَّةِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قالَ مَالِكٌ: إذا قُطِعَتِ الشِّفَتَانِ كَانَ فِيهِمَا الدِّيةُ، وفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيةِ، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ اليَدَيْنِ، اليُمْنَى أَنْفَعُ مِنَ اليُسْرَى، ودِيَتُهُمَا سَوَاءٌ، ولَيْسَ العَمَلُ فِي الشِّفتَيْنِ عَلَى قَوْلِ ابنِ المُسَيَّبِ حِينَ قَالَ: (إنَّ فِي الشفَةِ الشُفْلَى ثُلُثَيْ الدِّيةِ) [3176]، وإنَّمَا فِيهَا شَطْرُ الدِّيَةِ (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قالَ عِيسَى: كُلُّ مَنْ أَصَابَ عَيْنَ رَجُلٍ عَمْدَاً ولَهُ عَيْن مِثْلُهَا فَلَيْسَ للمَجْنِي عَلَيْهِ خَيَار وإنَّمَا لَهُ القَوَدُ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَي عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا، أَو عَلَى الدِّيةِ خَمْسِمَائةِ دِينَارٍ، إلَّا فِي الصَّحِيحِ العَيْنَيْنِ يَفْقَأ عَيْنَ الأَعْوَرِ، فإن هَذا خَاصَّة بالخَيَارِ، إنْ شَاءَ اسْتَقَادَ فأَخَذَ عَيْنَأ بِعَيْيهِ، وإنْ شَاءَ أَخَذَ الذيةَ أَلْفَ دِينَايى، لأئهُ قَدْ تُرِكَ أَعْمَى وكَانَ يَبْصُرُ بِعَيْيهِ الوَاحِدَةِ، كَمَا كَانَ يُبْصِرُ صَاحِبُ ذِي عَيْنَيْنِ. وقالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا هَذا فِي أَعْوَبى فَقَأَ عَيْنَ أَعْوَرٍ مِثْلَهُ، فإنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وإلَّا أَخَذَ دِيةَ العَيْنِ الذي يُتْرَكُ للأَعْوَرِ الَّتي يُبْصِرُ بِهَا كَمَا يُبْصِرُ صَاحِبُ ذِي عَيْنَيْنِ. قالَ عِيسَى: حَجَاجُ العَيْنِ: هُوَ العَظْمُ الذي عَلَيْهِ الحَاجِبُ، يُقَالُ لَهُ: حَجَاجٌ، وحِحاج، بالفَتْحِ وبالكَسْرِ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا قالَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ أَنَّهُ يُزَادُ فِي مُوضِحَةِ الوَجْهِ [إذا عَيَّبتِ الوَجْهَ] (¬3) مَا بَيْنَهَا وبَيْنَ نِصْفِ عَقْلِ المُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ [3187] مِنْ أَجْلِ الجَمَالِ الذِي فِي الوَجْهِ (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر قول مالك في: المدونة 11/ 197، وتفسير غريب الموطأ لإبن حبيب 1/ 443. (¬2) في (ق): بفتح الحاء وكسرها. (¬3) زيادة من (ق). (¬4) الموضحة هي الجرح الذي أفضى إلى العظم من الرأس والجبهة والخدين وغير ذلك، ينظر: التعليق على الموطأ للوقَّشي 2/ 271.

وقالَ مَالِكٌ: يُزَادُ فِي عَقْلِهَا بِقَدْرِ مَا شَانَتْ مِنَ الوَجْهِ، ويُجْتَهَدُ فِي ذَلِكَ لأَنَّهَا رُبَّمَا عَيَّبتِ الوَجْهَ عَيْبَا فَاحِشَاً (¬1). * قالَ مَالِكٌ: وحَدُّ ذَلِكَ مِنَ الوَجْهِ الجَبْهَةُ، والصُّدْغُ، والخَدُّ، فأما الأَنْفُ واللَّحْيُّ الأَسْفَلُ فَلَيْسَا مِنَ الوَجْهِ فِي جِرَاحِهِمَا خَاصَّة، وإنَّمَا هُمَا عَظْمَانِ مُنْفَرِدَانِ [3192] [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬2): الجَائِفَةُ: هِيَ جُرْحَة تَصِلُ إلى الجَوْفِ قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ. والمأمُومَةُ: هِيَ ما وَصَلَ إلى الدِّمَاغِ قَل ذَلِكَ أَو كَثُرَ. والمَنْقَلَةُ: مَا طَارَ فِرَاشُهَا مِنَ العَظْمِ (¬3). والمُوضَحَةُ: مَا أَوْضَحَ العَظْمَ، قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ، ولَا يَكُونَ إلَّا فِي الوَجْهِ، أَو فِي الرَّأْسِ. والبَاضِعَةُ: مَا بَضَّعَ فِي اللَّحْمِ. والدَّامِيَةُ: هِيَ التّي تَدمَى، فإذا كَانَتِ البَاضِعَةُ والدَّامِيةُ خَطَأً فَلَا دِيةَ فِيهِمَا، إلَّا أَنْ تَبْرأَ عَلَى شَيْنٍ، فَيَعْقِلُ للمَجْرُوحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ الشَّيْنِ. قالَ عِيسَى: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي عَقْلِ المَأْمُومَةِ والجَائِفَةِ، فقالَ: عَقْلُهُمَا فِي العَمْدِ والخَطَأ [فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا] (¬4) عَلَى العَاقِلَةِ. وقالَ أَيْضًا: إنْ كَانَ لِجَانَيهِمَا عَمْداً مَالٌ فَالعَقْلُ فِي مَالِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَالعَقْلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وبِهَذا كَانَ يَأْخُذُ ابنُ كِنَانَةَ (¬5). ¬

_ (¬1) ينظر: غريب الموطأ لإبن حبيب 1/ 444. (¬2) وضع الناسخ علامة (ع) وهو اختصار لإسم المصنف. (¬3) الفراش -بفتح الفاء وكسرها- وهي: اللحمة التي تحت العظم، المعجم الوسيط 2/ 682. (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬5) هو عثمان بن عيسى بن كنانة المدني الفقيه، تقدم التعريف به.

وكانَ ابنُ القَاسِمِ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ أَصَابَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئَاً مِنْ جَسَدِهِ ولَهُ مِثْلُ الذي أَصَابَ فَلَمْ يَكُنْ إلى القِصَاصِ سَبيلٌ لِسُنَّةٍ مَضتْ فِيهِ، فَدِيةُ ذَلِكَ عَلَى العَاقِلَةِ إذا بَلَغَ [ثُلُثُ الدِّيَةِ] (¬1) عَمْدَاً [كَانَ] (¬2) أَو خَطَأً مِثْلَ المَأْمُومَةِ والجَائِفَةِ. قالَ: وَكُلُّ مَنْ أَصَابَ شَيْئَاً مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عَمْدَاً مِمَّا فِيهِ القِصَاصُ إلَّا أَنَّه لَيْسَ لَهُ مِثْلَهُ، فَلَمْ يُوجَدْ إلى القِصَاصِ سَبيلٌ، فإنَّ عَقْلَ ذَلِكَ عَلَى الجَانِي فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أتْبِعَ بهِ، مِثْلُ [دِيةِ] (¬3) الرِّجْلِ، واليَدِ، والذَّكَرِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) من (ق)، وفي الأصل: الثلث. (¬2) زيادة من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬4) نقل هذا النص بطوله من بداية قول عيسى بن دينار: ابن عبد البر في التمهيد 17/ 366، ثم قال: الذي عليه جمهور العلماء وعامة الفقهاء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا، ولا تعقل عمدا، ولا تحمل من دية الخطا إلا ما جاوز الثلث، وقد روى عن مالك مثل ذلك كله، وهو الصحيح في مذهبه.

باب عقل الأصابع والأسنان والعمل في ذلك

بابُ عَقْلِ الأَصَابِعِ والأَسْنَانِ والعَمَلِ فِي ذَلِكَ * قَوْلُ ابنِ المُسَيَّبِ لِرَبِيعَةَ حِينَ أَكْثَرَ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلةِ عَقْلِ أَصَابعِ المَرْأَةِ، فقالَ لَهُ: (أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ) [3195]، إنَّمَا قالَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عِنْدَ أَهْلِ المَدِينَةِ لا اعْتِرَاضَ فِيهَا، وإنَّمَا يَفْعَلُ هَذا أَهْلُ العِرَاقِ. قالَ عِيسَى: إذا قُطِعَ مِنْ يَدِ المَرْأَةِ أُصْبَع كَانَ لَهَا عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ، ثُمَّ فِي الثَّانِيةِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ فِي الثَّالِثةِ مِثْلُ ذَلِكَ، فإذا قُطِعَتْ لَهَا الرَّابِعَةُ كَانَ لَهَا خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ، وإذا قُطِعَتْ لَهَا أَرْبَع فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ لَهَا عِشْرُون مِنَ الإبِلِ، ولَا تُضَافُ أَصَابعُ إحْدَى اليَدَيْنِ إلى [أَصَابعِ] (¬1) اليَدِ الأُخْرَى، وأَصَابعُ كُلِّ يَدٍ عَلَى حِدَتِهَا، إلَّا أَنْ تُصَابَ بِذَلِكَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَة، فإنَّهَا تُضَافُ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ ويَعْقَلُ لَهَا ذَلِكَ. قالَ: وإذا أُصِيبَتْ أُصْبَعُ رَجُلٍ خَطَأ كَانَ لَهُ عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ مِنْ أَسْنَانِ دِيةِ الخَطَأ الخَمْسِ، يأْخُذُ بَعِيرَيْنِ مِنْ كُلِّ سِنٍّ. ومَنْ أَصَابَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ خَطَأ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأتِيَ بِخَمْسٍ مِنَ الإبِلِ مِنْ كُلِّ سِنٍّ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الجَارِحُ فِيهَا شَرِيكَاً للمَجْرُوحِ، ويَكُونُ للمَجْرُوحِ ثُلُثَا كُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا، وللجَارِحِ الثُّلُثُ، فإذا أُصِيبَتْ لَهُ أُنْمَلَتَانِ كَانَ عَلَى الجَانِي أَنْ يَأتِي بِعَشرٍ مِنَ الإبِلِ، فَيَكُونُ فِيهَا شَرِيكَا مَعَ المَجْرُوحِ للجَانِىِ ثُلُثُ كُلِّ بَعِيرٍ، وللمَجْنِي عَلَيْهِ ثُلُثَا كُلِّ بَعِيرٍ. ¬

_ (¬1) من (ق)، وفي الأصل: أصبع.

قالَ: وإذا أُصِيبَ أُصْبَعُ رَجُلٍ عَمْداً كَانَ عَلَى الجَانِي أَنْ يَأْتِي بِثَمَانِيةِ أَبْعِرَةٍ مِنْ أَسْنَانِ العَمْدِ الأَرْبَعِ، مِنْ كُلِّ سِن بَعِيرَيْنِ فَيَكُونُ للمُجْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يأْتِي بأَرْبَعَةِ أَبْعِرَة، فَيَكُونَانِ فِيهَا شَرِيكَيْنِ، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ بَعِيرٍ. * قَوْلُ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ حِينَ ذَكَرَ قَضَاءَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ومُعَاوِيةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ فِي الأَضْرَاسِ واخْتِلاَفِهِمَا فِي ذَلِكَ، فقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَتبِ: (لَوْ كنتُ أَنا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَثنِ بَعِيرَيْنِ، فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاء) [3200]، يُرِيدُ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطابِ كَانَ يَجْعَلُ فِي الأَضْرَاسِ عَلَى الجَانِي إذا قَلَعَهَا فِي كُل ضِرْسٍ بَعِيراً والأَضْرَاسُ عِشْرُونَ ضِرْسَاً، وكَانَ يَجْعَلُ فِي الأَسْنَانِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، والأَسْنَانُ اثْنتَا عَشَرَ سِنَّاً، أَرْبَعُ ثنايَا، وأَرْبَعُ رُبَاعِيَّات، وأَرْبَعَةُ أَنْيَاب، فَدِيةُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ ثَمَانُون بَعِيرَاً، وكَان مُعَاوِيةُ يَجْعَلُ فِي الأًضْرَاسِ والأَسْنَانِ خَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ [خَمْسَةَ أَبْعِرَةٍ] (¬1)، فَجِمِيعُ ذَلِكَ سِتُّونَ ومَائةِ بَعِيرٍ، فقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ: (لَوْ كنتُ أَنا لَجَعَلْتُ فِي الأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بعيرين)، فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ بَعِيرَاً، وفِي الأَسْنَانِ خَمْسَاً خَمْسَاً فَذَلِكَ سِتُّونَ بَعِيرَاً، فتَمَّت الآنَ [الدِّيةُ] (¬2) مَائة مِنَ الإبِلِ، والذي قالَ بهِ مَالِكٌ أنَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ خَمْساً خَمْسَاً مِنَ الإبِلِ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ" [3140]، والضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الأَسْنَانِ. قَوْلُ مَالِكٍ: (لَيْسَ عِنْدَنا فِي لِسَانِ الأَخْرَسِ إلَّا الإجْتِهَادُ) (¬3)، يَعْنِي بالأَخْرَسِ الذي لَا يَتكَلَّمُ، فأَمَّا إذا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِبَعْضَ الكَلاَمِ وَيخْرَسُ عَنْ بَعْضِهِ فَلَهُ مِنَ العَقْلِ بِقَدْرِ الذي كَان يُفْصِحُ بهِ (¬4) مِنَ الكَلاَمِ، ويَبْطُلُ بِقَدْرِ الذي كَانَ يَخْرُسُ عَنْهُ. قالَ عِيسَى: إذا ضَرَبَ رَجُل رأْسَ رَجُلٍ فَذَهَبَ بَعْضُ بَصَرِهِ، وطَلَبَ العَقْلَ، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) من (ق). (¬3) ينظر قول مالك في المدونة 11/ 204. (¬4) إلى هنا انتهت نسخة مكتبة القيروان العتيقة وهي المرموز لها بحرف (ق) في هذا الموضع.

فإنَّهُ يُعْمَدُ إلى رَجُلٍ مِنْ سِنَّهِ، بَصَرُهُ مِنْ أَوْسَطِ أَبْصَارِ ذَلِكَ السِّنِّ، فَيُجَرَّبُ أَقْصَى مُنتهَى بَصَرِهِ بِبَيْضَةٍ أو بِدِرْهَم، فَإذا عُرِفَ مُنتهَى بَصَرِهِ جُعِلَ فِي المَوْضِعِ عَلاَمَة، ثُمَّ يُقَاسُ بَصَرُ المَضْرُوبِ فَيُنْصبُ لَهُ ذَلِكَ الشَيءُ فِي المَوْضِع الذي انتهَى إليه بَصَرُ الأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ يُقْعَدَ فِي المَكانِ الذي أُقْعِدَ فِيهِ الأَوَّلُ، فإن أَبْصَرَ ذَلِكَ الشَّيءَ كَمَا أَبْصَرَهُ الأَوَّلُ فَإنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ بَصَرِهِ شَيءُ، وإنْ قَالَ: لا أُبْصِرُهُ، قُرِّبَ إليهِ أَبَدَاً حَتَّى يَقُولَ: قَدْ أَبْصَرُتُهُ، فَيَقُاسُ الآنَ مُنتهى بَصَرِهِ مِنْ بَصَر الأَوَّلِ، ويُعْرَفُ قَدْرُ تَقْصِيرِه عَنْهُ، فإنْ كَانَ ثُلُثاً أو نِصْفَاً كَانَ لَهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ دِيةِ البَصَرِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الثُّلُثَ، أَو بِقَدْرِ نِصْفَ ذَلِكَ إنْ كَانَ نِصْفَاً أَو رُبْعَاً أَو مَا كَانَ بَعْدَ الإسْتِثْباتِ فِي ذَلِكَ، ويُقَاسُ ذَلِكَ فِي أَمْكِنَه شَتَّى ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ ويُعْطَى عَقْلَهُ. قالَ: وإنْ اخْتُلِفَ قَدْرُ بَصَرِهِ فِي هَذِه المَوَاضِعِ وكَانَ اخْتِلاَفَا يَسِيرَاً الذِّرَاعُ ونُحْوَه، أُحْلِفَ عَلَى الأقَلِّ مِنْ ذَلِكَ وعَقَلَ لَهُ النقْصَانُ، وإنْ كَانَ اخْتِلاَفَاً كَثيرَاً لا يُشَكّ فِي كَذِبهِ اسْتُوفِيَ بهِ وَخُوَّفَ اللهَ، فإذا بَلَغَ أَقْصَى أَمْرِهِ أُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ، وعَقَلَ لَهُ ذَلِكَ النقْصَانُ. قالَ: وأَمَّا نُقْصَانُ السَّمْعٍ فإنَّهُ يُنْظَرُ أَيْضَاً إلى رَجُلٍ مِنْ سِنِّهِ مِنْ أَوْسَطِ أَهْلِ ذَلِكَ الشن، فَيُفْعَلُ فِي ذَلِكَ نحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الفِعْلِ فِي نُقْصَانِ البَصَرِ. قالَ: وأَمَّا نُقْصَانُ المَنْطِقِ فإنَّهُ يُقَدَّرُ ذَلِكَ بإجْتِهَادِ النَّاظِرِ إليهِ عَلَى نَحْوِ مَا يُتَوهَّمُ إذا اخْتَبَرهُ أَهْلُ العَدْلِ والمَعْرِفَةِ أيَّامَاً، فإذَا قَالُوا: إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قُلُوبِنَا أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ نِصْفُ كَلاَمِهِ أَو رُبْعُهُ، وكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِيمَا يَرَوْنَهُ بيِّنَا أُعْطِيَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فإنْ شَكُّوا فَقَالُوا: ذَهَبَ مِنْ كَلاَمِهِ الثُلُثُ أَو الرُّبع أُعْطِيَ ثُلُثُ الدِّيةِ، وكَانَ الظَّالِمُ أَحَقَّ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ. وقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ يُخْتَبَرُ بالحُرُوفِ، فإنْ سَمَّاهَا كُلُّهَا لَمْ يُنْقَصْ مِنْ كَلاَمِهِ شَيء وإنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِبَعْضِهَا أُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ كَلاَمُهُ مِنْهَا. وأَنْكَرَ مَالِكٌ هَذا القَوْلَ، وقالَ: الحُرُوفُ بَعْضُهَا أَثْقَلُ مِنْ بَعْضٍ فِي المَنْطَقِ،

وقالَ: بَلْ يُعْطَى بِقَدْرِ ما قالَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ إنَّهُ نَقَصَ مِنْ كَلاَمِهِ (¬1). قالَ: وأَمَّا نُقْصَانُ العَقْلِ فإنَّهُ إذا قالَ أَهْلُ التَّجْرُبةِ لَهُ أَنَّهُ لَيَفِيقُ أَكْثَرُ نَهَارِهِ، فَإفَاقتهُ قَدْرَ ثُلُثَيْ نَهَارِهِ، أَو ثَلاَثةَ أَرْبَاع نَهَارِه أُعْطِيَ مِنَ العَقْلِ بِقَدْرِ مَا رَأَوُهُ بإجْتِهَادِهِم، وإنْ شَكُّوا فِي ذَلِكَ احْتِيطَ لَهُ عَلَى الجَانِي، وكَانَ الجَانِي أَحَقُّ مَنْ حُمِلَ عَلَيْهِ. * إنَّمَا جَعَلَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ فِي السِّنِّ إذا ضُرِبَتْ فَاسْوَدَّتْ عَقْلُهَا تَامَّاً، ثُمَّ إنْ قُلِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَيْضَاً فِيهَا عَقْلُهَا [3201] مِنْ أَجْلِ أَنَّ فِي السِّنّ جَمَالاً ومَنْفَعَةً، فإذا ضُرِبَتْ فَاسْوَدَّتْ فَقَدْ ذَهَبَ جَمَالُهَا، فَدِيةُ ذَلِكَ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ، ثُمَّ إنْ قُلِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ، لأَنَّهُ حِينَئِذٍ ذَهَبتْ مَنْفَعَتُهَا. * * * ¬

_ (¬1) ينظر: المدونة 11/ 189.

باب جرح العبد، ودية الذمي

بابُ جَرْحِ العَبْدِ، ودِيةِ الذِّمِّي * قالَ عِيسَى: إنَّمَا قَالَ مَالِكٌ فِي مُوضِحَةِ العَبْدِ، ومَنْقَلَتِهِ، ومَأْمُوَمَتِهِ، وجَائِفَتِه أَنَّهَا تَجْرِي مِنْهُ فِي قِيمَتِهِ كَمَا يَجْرِي ذَلِكَ مِنَ الحُرِّ فِي دِيَّتِهِ، ومَا سِوَى هَذا مِنْ جِرَاحِ العَبْدِ كَاليَدِ، والرِّجْلِ، والعَيْنِ فإنَّمَا فِيهِ قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ العَبْدِ [3211]. قالَ عِيسَى: لأَنَّ المَأْمُومَةَ، والجَائِفَةَ، والمَنْقَلَةَ، والمُوضِحَةَ قَدْ يَبْرَأَنِ، ويَعُدْنَ إلى حَالِهِنَّ بِغَيْرِ نَقْصٍ مِنَ الجَسَدِ، وأَمَّا مَا سِوَاهُنَّ كاليَدِ، والرِّجْلِ، والعَيْنِ يَذْهَبُ ذَلِكَ مِنْ جَسَدِ العَبْدِ، ورُبَّمَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ إبْطَالُهُ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ مَا نُقِصَ مِنْ ثَمَنِهِ، يُقَامُ صَحِيحَاً، ثُمَّ يُقَامُ مَعِيبَاً، ثُمَّ يُغْرَمُ الجَانِي قَدْرَ مَا نَقَصَهُ مِنْ قِيمَتِهِ صَحِيحَاً. قالَ: وإذا جُرِحَ العَبْدُ خَطَأ فَصَحَّ مِنْ ذَلِكَ الجَرْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى جَارِحِهِ شَيءٌ مِمَّا أَنْفَقَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ ولَا غَيْرُهُ، إلَّا أَنْ يَبْرَأَ عَلَى عَثَلٍ (¬1)، فَيَكُونُ (¬2) عَلَى مَنْ أَصَابَهُ قَدْرَ مَا نَقَصَهُ، فإنْ كَانَ الذي أَصَابَهُ بِذَلِكَ عَمَدَ لِجَرْحِهِ أَدَّبَهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ قِيمَةُ مَا نَقَصَهُ. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي العَبْدِ المُسْلِمِ يَجْرَحُ اليَهُودِيَّ أو النَّصْرَانِيَّ أَنَّ سَيِّدَ العَبْدِ إنْ شَاءَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ فَذَلِكَ لَهُ، وإنْ شَاءَ أَنْ ¬

_ (¬1) عثل -بفتح المهملة والمثلة- أي بريء على غير استواء. (¬2) من هنا تبدأ نسخة (ق) في هذا الموضع.

يُسْلِمَهُ أَسْلَمَهُ بِجِنَايَتِهِ، فَيُعْطَى اليَهُودِيُّ أَو النَّصْرَانِيُّ دِيةَ جَرْحِهِ مِنْ ثَمَنِ العَبْدِ أَو ثَمَنِهِ كُلِّهِ إن أَحَاطَ بِثَمَنِهِ [3212]. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وهَذِه المَسْأَلةُ خَطَأ فِي الكِتَابِ، وقَدْ كَانَ يُقْرَأُ هَكَذا عَلَى مَالِكٍ فَلَا يُغيرُهُ، وإنَّمَا الأَمْرُ فِيهِ إذا أَسْلَمَهُ سَيِّدُهُ فِي الجِنَايةِ فَبِيعَ أَنَّ للنَصْرَانِيِّ أَو اليَهُودِيِّ جَمْيعُ الثَّمَنِ الذِي يُبَاعُ بهِ كَانَ أَقَلَّ مِنْ دِيةِ جَرْحِهِ أو أَكْثَرَ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الصَّحِيحُ فِي هَذِه المَسْأَلةِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي المُوطَّأ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّصْرَانِى لَا يَتَمَلَّكُ العَبْدَ المُسْلِمَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِهِ إذا بِيعَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الجِنَايةِ إذا زَادَ ثَمَنُهُ عَلَى قِيمَتِهَا، والبَاقِي يَكُونُ للمُسْلِمِينَ، ولَا يَكُونُ مِنْهُ شَيء للسَّيِّدِ، لأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَهُ فِي الجِنَايةِ (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ذَكَرَ أَبو دَاوُدَ فِي مُصَنَفِهِ حَدِيثَاً مِنْ طَرِيقِ عَمْروِ بنِ شُعَيْب، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّه أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "دِيةُ المُعَاهِدِ مِثْلُ نِصْفِ دِيةِ الحُرِّ المُسْلِمِ" (¬2)، وبِهَذا حَكَمَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي المَدِينَةِ بِحَضْرَةِ التابِعِينَ، وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: (إنَّ دِيةَ المُعَاهِدِ مِثْلُ دِيةِ الحُرِّ المُسْلِمِ) (¬3)، ويَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] قالَ أبو مُحَمَّدٍ: هَذا كَلاَلم مَعْطُودت عَلَى أَوَّلِ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، يَعْنِي: إنْ كَانَ المَقْتُولُ مُؤْمِنَاً وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ كَفَرَةٍ أَعْدَاءٍ للمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 9/ 338: لا خلاف علمته فيه بين العلماء أن اليهودي والنصراني لا يسلم إليهما عبد مسلم بجنايته. (¬2) سنن أبي داود (4583). (¬3) هذا قول أبي حنيفة وأصحابه والثور وغيرهم، ينظر: الحجة لمحمد بن الحسن الشيباني 4/ 322، والتمهيد 17/ 360.

فَلأَهْلِهِ الدِّيةِ إذا كَانُوا مُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُونُوا كَفَرة، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الكَافِرَ لَا يَرِثُ المُسْلِمَ، وَيعْتِقُ القَاتِلُ رَقَبَةً مُؤْمِنَة مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ قَالَ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬1): {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، فإنَّمَا هَذا كُلُّهُ فِي مَقْتُولٍ مُؤْمِنٍ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ المَذْكُورينِ، لَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ. قالَ مَالِكٌ: دِيَةُ اليَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ نِصْفِ دِيةِ الحُرِّ المُسْلِمِ، ودِيةُ المَجُوسِيِّ [ثَمَانِمَائِةِ] (¬2) دِرْهَمٍ، ودِيَةُ نِسَائِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيةِ رِجَالِهِم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق)، وفي الأصل: مائة، وهو خطأ. (¬3) نقل قول مالك: ابن عبد البر في التمهيد 17/ 359.

باب ما يوجب على الرجل العقل في ماله، وميراث العقل، والتغليظ فيه

بابُ مَا يُوجِبُ عَلَى الرَّجُلِ العَقْلُ في مَالِهِ، ومِيرَاثِ العَقْلِ، والتَّغْلِيظِ فِيهِ * السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى العَاقِلَةِ عَقْلٌ فِي قَتْلِ العَمْدِ، [وإنَّمَا] (¬1) عَلَيْهِمْ عَقْلُ قَتْلِ الخَطَأ، وأنَّ دِيةَ العَمْدِ عَلَى الجَانِي، وأَنَّهَا لَا تُقَطعُ عَلَيْهِ كَمَا تُقَطَّعُ دِيةُ الخَطَا عَلَى العَاقِلَةِ (¬2)، ولَكَنْ يَنْبَغِي لِوَليّ الدَّمِ أَنْ يُتْبِعَ القَاتِلَ بِمَعْرُوفٍ، ويُؤَدِّي إليه المَطْلُوبَ بإحْسَانٍ، ولَيْسَ فِي ذَلِكَ أَجَلٌ يُحْكَمُ بهِ (¬3) عَلَى أَوْلِيَاءِ القَتِيلِ، وتُورَثُ الدِّيةُ عَلَى فَرَائِضِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وتَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجَةُ فَرْضَهَا فِي كِتَابِ اللهِ، لِقَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، كَمَا قَالَ [فِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَلَّ وعَزَّ] (¬4): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، ولَىْ يَسْتَثْنِ بَعْضَ الأَهْلِينَ فِي تَسْلِيمِهِم الدِّيةَ إليهِم، إلَّا مَنْ مَنَعَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ القَاتِلُ الذِي يَقْتُلُ وَليَّهُ لِيَرِثَهُ، فَهَذا يُمْنَعُ مِيرَاثُهُ، لِقَولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاث" (¬5)، فَصَارَ هَذا مَمْنُوعَاً مِنَ المِيرَاثِ، بِسَبِبِ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ القَتْلِ، فَوَجَبَ بهَذا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ لَيْسَ بمَنُوع أنْ يَرِثَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ الدِّيةِ، وقَدْ وَرَّثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيةِ زَوْجِهَا، وحَكَمَ بهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ [3228]، كَمَا حَكَمَ عَلَى الذِي رَمَى ابْنَهُ بالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ بالدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، ولَمْ يَقْتُلْهُ بهِ ¬

_ (¬1) من (ق)، وفي الأصل: إنما. (¬2) قوله (تقطع) أي تنجَّم وتقسَّط على العاقلة. (¬3) في (ق): فيه. (¬4) من (ق). (¬5) رواه ابن ماجه (2646)، والبيهقي 6/ 220، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

لِحُرْمَةِ الأُبُّوَةِ، وأَمَرَ سُرَاقَةَ بِجَمْعِ إبِلِ تِلْكَ الدِّيةِ [3229]، مِنْ أَجْلِ أنَّ سُرَاقَةَ كَانَ سَيِّدَ ذَلِكَ الحَيِّ، ثُمَّ دَفَعَهَا عُمَرُ إلى أَخِي المَقْتُولِ، لأَنَّهُ هُوَ الذِي انْفَرَدَ بِمِيرَاثِهِ، ولَمْ يَحْجِبْهُ أَبُوهُ عَنِ المِيرَاثِ، لأَنَّهُ لَمْ يَرِثْ ابْنَهُ المَقْتُولِ بِسَببِ قَتْلِهِ إيَّاهُ، وكُلُّ مَنْ لَا يَرِثْ فَلَا يَحْجِبْ وَارِثَاً عَنْ مِيرَاثِهِ، ولَيْسَ يُقْتَلُ الأَبُ بابْنِهِ، إلَّا أَنْ يُضْجِعَهُ الأَبُ فَيَذْبَحُهُ، فَحِينَئِذٍ يُقْتَلُ بِهِ، والأُمُّ مِثْلُ الأبِ فِي هَذا، ولَكِنْ تُغَلَّظُ عَلَيْهِمَا الدِّيةُ، يَكُونُ فِيهَا ثَلاَثُونَ حِقَّةً، وثَلاَثُونَ جَذَعَةً، وأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُويهَا أَوْلاَدَهَا، وهَكَذا حُكْمُ أَهْلِ الإبِلِ في تَغْلِيظِ الدِّيةِ عَلَيْهِمِ. قالَ عِيسَى: وتَفْسِيرُ تَغْلِيظِهَا عَلَى أَهْلِ الوَرِقِ أَو الذَّهَبِ أَنْ يُنْظَرَ إلى قِيمَةِ [دِيةِ] (¬1) أَسْنَانِ الخَطَأ، فَيُعْرَفُ مَا قِيمَتُهَا، فإنْ قِيلَ قِيمَتُهَا سِتِّمَائةِ دِينَارٍ، قِيلَ: فَمَا قِيمَةُ أَسْنَانِ التَّغْلِيظِ، فإنْ قِيلَ ثَمَانِمَائةٍ، فَبَيْنَ القِيمَتَينِ مَائَتانِ، وَهُوَ مِقْدَارُ ثُلُثِ دِيةِ الخَطَأ، فَيُزَادُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَب أَو الوَرِقِ قَدْرَ مَا يَزِيدُهُ بهِ التَّغْلِيظُ عَلَى دِيةِ الخَطَأ قَلَّ ذَلِكَ أَو كَثُرَ، وكَذَلِكَ تُغَلًّظُ الدِّيةُ أَيْضَاً عَلَى الأَبِ إذا جَرَحَ ابْنَهُ جَرْحَا لَهُ فِيهِ قِصَاصٌ، كَمَا تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الدِّيةُ فِي النَّفْسِ (¬2). * قالَ ابنُ القَاسِمِ: كَانَتْ قِصَّةُ أُحَيْحَةَ بنِ الجُلاَح فِي الجَاهِلِيَّةِ، وذَلِكَ أنَّهُ قَتَلَ قَرِيبَهُ طَمَعَاً مِنْهُ فِي أَنْ يَرِثَهُ فَحُرِمَ مِيرَاثَهُ، لأَنَّهُ لَا مِيرَاثُ لِمَنْ قتَلَ وَلِيَّهُ [3231]. قالَ عِيسَى: قَوْلُهُ: (كُنُّا أَهْلَ ثُمَّةٍ وَرُمؤ)، يَعْنِي: خَؤولَةُ المَقْتُولِ الذِينَ كَانُوا قَدْ رَبّوهُ عِنْدَهُمْ، كُنَّا أَهْلُ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، الثُّمُّ: هُوَ الخَيْرُ، والرُّمُّ: هُوَ الشَّرُّ. (حَتَّى إذا اسْتَوَى عَلَى عَمَمِّهِ)، يَعْنِي إذا اسْتَوى وتَمَّ وبَلَغَ عَلَيْنَا (حَقُّ امْرِئٍ فِي عَمِّهِ)، أَي: غَلَبَنَا عَلَى مِيرَاثِهِ حَقَّ عَصَبَتِهِ، فأَخَذُوا مَالَهُ وَوَجَبتْ لَهُمْ دِيَّتَهُ، ولَمْ يَكُنْ لِخَؤُلَةِ المَقْتُولِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، لأَنَّ الخَؤُولَةَ لَيْسُوا بِعَصَبةٍ، وإنَّمَا العَصَبةُ ¬

_ (¬1) زيادة من (ق). (¬2) نقله بنحوه ابن عبد البر في التمهيد 22/ 439، ثم قال: هذا مذهب مالك وأصحابه وعامة العلماء.

مِنْ قِبَلِ الأَبِ، ولَمْ يَأْخُذْ القَاتِلُ عَمَّ المَقْتُولِ مِنْ ذَلِكَ [كُلِّه] (¬1) شَيْئَاً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ قتَلَهُ عَمْدَاً، فَلِهَذا لَا يَرِثُ قَاتِلُ العَمْدِ مَنْ قتَلَهُ مِنْ قَرَابَتِهِ، وأَمَّا إذا قتَلَهُ قَرِيبُهُ خَطَأ فإنَّهُ يَرِثُ المَالِ ولَا يَرِثُ الدِّيةَ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ قَاتِلَ الخَطَأ لَا يَرِثُ مِنْ المَالِ شَيْئَاً ولَا مِنَ الدّيةِ، والأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينةِ. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: وتَشْبَهُ هَذِه القِصَّةُ قِصَّةُ الذي كَانَ قَتَلَ قَرِيبَهُ فِي زَمَنِ (¬2) مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِكَيْ يَرِثَهُ، فَحَكَمَ مُوسَى فِي ذَلِكَ بالقِصَاصِ، وحَرَمَ القَاتِلَ المِيرَاثَ (¬3)، وبِهَذا يُحْكَمُ فِي شَرِيعَتِنَا، وحَكَمَ بهِ عُمَرُ فِي المُدْلِجِيِّ الذِي قتَلَ ابْنَهُ، أُعْطِيَ دِيةُ المَقْتُولِ لأَخِيهِ. * * * ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) في (ق): زمان. (¬3) ذكره ابن حجر في فتح الباري 6/ 440.

تفسير باقي أبواب كتاب العقول

تَفْسِيرُ بَاقِي أبْوَابِ كِتَابِ العُقُولِ * قَوْلُ النبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "جَرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ" [3234]، يَعْنِي: جَرْحَ البَهَائِمِ هَدْرٌ، ولَا دِيَةَ فِيهَا عَلَى أَرْبَابِ البَهَائِمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرْحُهَا بِسَبَبِ قَائِدِ الدَّابّةِ، أَو سَائِقِهَا، أو رَاكِبِهَا، فَيَلْزَمَهُمْ [حِينَئِذٍ] (¬1) ضَمَانُ مَا جَنَتِ (¬2) الدَّابّهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ جِنَايَتِهَا كَانَتْ بِسَبَبِهِمْ، وهَذا إجْمَاع مِنَ الفُقَهَاءِ المَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ (¬3). * قالَ عِيسَى فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ نَزَلاَ فِي البئْرِ فَجَبَذَ الأَسْفَلُ الأَعْلَى فَخَرَّ عَلَيْهِ فَمَاتَا، فَوَجَبتْ دِيةُ الأَعْلَى عَلَى عَاقِلَةِ الأَسْفَلِ [3237]، وإنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيةُ الأَعْلَى لأَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِسَبَبِ الذي جَبَذَهُ، ولَمْ يَكُنْ للأَسْفَلِ الجَابِذِ دِيَة ولَا عَقْل، لأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، ولَيْسَ يَعْقِلُ عَمَّنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَنْ أَمَرَ صَبيَّاً أَنْ يَفْعَلَ شَيْئَأ فِيهِ غَرَر فَفَعَلَهُ الصَّبِيُّ وتَلِفَ فِي ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى الآمِرِ (¬4)، لأنَّهُ غَرَّرَ بالصَّبِيِّ، وكَانَ هَلاَكُهُ مِنْ سَبَبهِ (¬5)، وأَمَّا إذا أَمَرَ بذَلِكَ كَبيراً فَهَلَكَ فِيهِ الكَبيرُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الآمِرِ شَيءٌ، لأَنَّ الكَبِيرَ قَدْ عَلِمَ قَدْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، لأَنَّه إذا قِيلَ لَهُ: اطْلَعْ فِي هَذِه النَّخْلَةِ، أو أَنْزِلْ فِي ¬

_ (¬1) زيادة من (ق). (¬2) في (ق): جنته. (¬3) في (ق): الفقهاء المشهورين بالمدينة. (¬4) في (ق): كانت الجناية على الآمر. (¬5) في (ق): هلاكه بسببه.

هَذا البئْرِ (¬1) أنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ فِي ذَلِكَ، فَلِهَذا لا تَكُونُ لَهُ دِيَةٌ إنْ هَلَكَ [فِي ذَلِكَ] (¬2) عَلَى الَذِي أَمَرَهُ، ولَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، إلَّا أَنْ يُغَرَّرَ بالكَبِيرِ فِيمَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ فَيَهْلَكُ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَلَى الآمِرِ ضَمَانُ مَا أَصَابَهُ مِنْ دِيةِ نَفْسٍ، أَو أَرْشِ جَرْحٍ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (عَقْلُ المَوَالِي تَلْزَمُهُ العَاقِلَةُ كَانُوا أَهْلَ دِيوَالغ أَو مُنْقَطَعِينَ) [3240]، وتَفْسِيرُ هَذا: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ لَمَّا افْتُتِحَتْ الأَمْصَارُ فِي أيَّامِهِ، وكَثُرَتِ الجُيُوشُ دُونَ الدَّوَاوِينِ، فَجَعَلَ جُنْدَ أَهْلِ الحِجَازِ فِي دِيوَانٍ، وأَهْلِ العِرَاقِ فِي دِيوَانٍ، [وأَهْلِ الشَّامِ فِي دِيوَانٍ] (¬3)، فإذا جَنَى أَحَدٌ مِنْ مَوَالِي أَهْلِ تِلْكَ الدَّوَاوِينِ جِنَايةً كَانَتْ جِنَايَتَهُ عَلَى أَهْلِ دِيوَانِ مَوْلَاهُ، يُؤَدُّونَها عَنْهُمْ كَمَا تَفْعَلُ العَاقِلَةُ. قالَ: وكَذَلِكَ حُكْمُ المُنْقَطَعِينَ فِي الدَّوَاوِينِ الذينَ لَيْسُوا بِمَكْتُوبِينَ فِيهِم أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْ مَوَالِيهِم كَمَا يَعْقِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، تَعْقِلُ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَنْ مَوَالِيهَا. قالَ ابنُ القَاسمُ: وكَانَ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِ النَّاسِ الذينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، بِسَببِ جِنَايةٍ لَزِمَتْهُمْ مِنْ كُل مَائةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ ويصْفٌ فِي كُلِّ عَطِيَّةٍ يُعْطُونَهَا، ويُدْفَعُ ذَلِكَ إلى المُجْنَى عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَوفِي أَرْشَ جِنَايَتِهِ. قالَ مَالِكٌ: ومَنْ كَانَ مَعَ غَيْرِ قَوْمِهِ فِي دِيوَانٍ فَلْيَعْقِلْ مَعَهُمْ، ويَعْقِلُونَ عَنْهُ دُونَ قَوْمِهِ كَمَا تَفْعَلُ العَصَبةُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا قَتَلَتْ حَفْصَةُ مُدَبَّرَتهَا حِينَ سَحَرتْهَا [3247]، مِنْ أَجْلِ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِر، وقَدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بالسَّيْفِ" (¬4)، وقَدْ حَكَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَارُوتَ ومَارُوتَ أنَّهُمَا يَقُولاَنِ للَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ السِّحْرَ ¬

_ (¬1) في ق: هذه البئر. (¬2) زيادة من (ق). (¬3) زيادة من (ق). (¬4) رواه الترمذي (1460)، والطبراني في المعجم الكبير (1665)، والبيهقي في السنن 8/ 136، من حديث جندب.

مِنْهُمَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، [وقَدْ] (¬1) قالَ اللهُ [جَلَّ وعَزَّ]: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، قالَ المُفَسِّرُونَ: يَعْنِي: بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ للَقَتْلِ بِتَعْلِيمِهِم السِّحْرَ وعَمَلِهِ (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: والذِي يُؤْمَرُ بهِ سَيِّدُ العَبْدِ إذا عَمِلَ العَبْدُ السِّحْرَ أَنْ يُرْفَعَ أَمْرُهُ إلى السُّلْطَانِ، فَيَكُونُ السُّلْطَانُ هُوَ الذِي يَقْتُلُهُ بَعْدَمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ. قالَ عِيسَى: كُلُّ مَنْ وَجَبَ لَهُ القَوَدُ فَلَمْ يُحْكِمْ قَتْلَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ، أَو جَزَعَ لِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يُجْهِزُ عَلَى المَقْتُولِ إذا كَانَ القَتْلُ بالسَّيْفِ، وأما إذا كَانَ القَتْلُ بالعَصَا فإنَّ الوَليَّ يَضْرِبُ أَبَدأ بِمِثْلِ مَا قُتِلَ بهِ وَلِيُّهُ حَتَّى تَذْهَبَ نَفْسُ القَاتِلِ، ولَا يُتْرَكُ يَطُولُ تَعْذيبه لَيَحْتهدْ فى ذَلكَ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬3): إنَّمَا وَجَبَ الحَدُّ عَلَى المُفْتَرِي قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ إذا افْتَرَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَعَرَّةَ الفِرْيةِ تَبْقَى عَلَى المُفْتَرَى عَلَيْهِ إذا لَمْ يُجْلَدْ قَاذِفُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ ولَيْسَ ذَلِكَ فِي الجِرَاحِ، لأَنَّ القَتْلَ يأتِي عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ لَا يُجْرَحُ المُفْتَرِي لِمَنْ جَرَحَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، إلَّا أنْ يَعْفُوا أَوْلِياءُ النَّفْسِ لَهُ عَنْ قَتْلِهِ عَلَى أَخْذِ دِيةٍ أَو غَيْرِهَا، فإنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ لأَهْلِ الجِرَاحِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحُرِّ والعَبْدِ قَوَد فِي شَيءٍ مِنَ الجِرَاحِ، مِنْ أَجْلِ أنَّ العَبْدَ سِلْعَة مِنَ السِّلَعِ، فَعَلَى مَنْ جَرَحَهُ أَو أَعَابَهُ قَدْرَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ صَحِيحَاً، ولَمْ يُقْتَل الحُرُّ بالعَبْدِ لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]، فَجَعَلَ نَفْسَ [الُحرِّ] (¬4) مُمَاثِلَةً لِنَفْسِ حُرٍّ مِثْلِهِ، كَمَا جَعَلَ نَفْسَ العَبْدِ مُمَاثِلَة لِعَبْدٍ مِثْلِهِ، فإذا قَتَلَ حُرٌّ عَبْدَاً خَطَأ وَدَى قِيمَتَهُ إلى سَيِّدِه، فإنْ قتَلَهُ عَمْدَاً أَدَّبَهُ السُّلْطَانُ، وأَخَذَ سَيِّدُهُ مِنْهُ قِيمَتَهُ، ويُقْتَلُ العَبْدُ بالحُرِّ. ¬

_ (¬1) زيادة من (ق)، وكذا المعقوفتين بعدها. (¬2) إلى هنا انقطعت نسخة (ق) في هذا الموضع. (¬3) في الأصل: (ع) وهي مختصر لإسم المصنف. (¬4) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.

قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا يُقْتَلُ العَبْدُ بالحُرّ عَلَى وَجْهِ الإرْتدَاعِ لَا عَلَى جِهَةِ المُمَاثَلِةِ، وقَدْ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ)، وقَدْ يُقْتَلُ المُؤْمِنُ بالكَافِرِ إذا قتَلَهُ المُؤْمِنُ قَتْلَ غِيلَةٍ، لأَنَّ الغِيلَةَ مِنَ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَتْلِ مَنْ سَعَى فِي الأَرْضِ فَسَادَاً، فَلِهَذا يُقْتَلُ بهِ. * قالَ مَالِكٌ: (إذا عُفِيَ عَنِ القَاتِلِ عَمْدَاً بَعْدَ أنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ القَتْلُ ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ مَائةً وسَجَنَهُ عَامَاً) [3263]، ولَا يَنْبَغِي للسُّلْطَانِ أَنْ يَعْفُو عَنْ هَذا الأَدَبِ، لأَنَّ فِي أَدَبِهِ ارْتدَاعٌ لِمَنْ هَمَّ أنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: مَنْ حَبَسَ رَجُلاً لِرَجُلٍ يَتْبَعَهُ فَقتَلَهُ المُتْبَعُ، فإنْ حَبَسَهُ لَهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ قتْلَهُ فإنَّ السُّلْطَانَ يَقْتُلُ القَاتِلَ، وُيعَاقِبُ المُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرَى مِنَ العُقُوبَةِ بهِ. وقالَ عِيسَى: يَضْرِبُهُ مَائةً، ويَسْجِنُهُ عَامَا. قالَ ابنُ نَافِعٍ: وإنْ أَمْسَكَهُ لَهُ وَهُوَ يَرَاهُ يَطْلُبُهُ بِسَيْفٍ أَو رُمْحٍ فَقَتَلَهُ فإنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ بهِ جَمِيعَاً، لأَنَّهُمَا تَعَاونَا عَلَى قَتْلِهِ. [قالَ] (¬1) ابنُ مُزَيْنٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: وَلاَءُ المُعْتِقِ سَائبةٍ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، هُمْ يَرِثُونَهُ، ويَعْقِلُونَ عَنْهُ (¬2). * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا خِلاَفُ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ الدِّيةَ إنْ قتلَ، فإنْ قَتَلَ هُوَ أَحَدَاً خَطَأ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ [3271]. ومَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ لِعُمَرَ: (هُوَ إذاً كَالأَرْقَمِ إنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ، وإنْ يُقْتَلَ يَنْقَمْ)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة وضعتها للتوضيح. (¬2) ينظر: التمهيد 3/ 73، ومعنى سائبة هي أن يقول لعبده: أنت سائبة يريد به العتق، ولا خلاف في جوازه ولزومه، وإنما كره مالك العتق بلفظ سائبة لإستعمال الجاهلية لها في الأنعام.

يَعْنِي: هُو إذًا كَالحَنَشِ إنْ تُرِكَ لَسَعَ، وإنْ قُتِلَ انتُقِمَ لَهُ، نَحْوَ قِصَّةِ الأَنْصَارِيِّ الذِي قتَلَ الحَيَّةَ، ورَكَزَ فِيهَا رُمْحَهُ، فَاضْطَرَبتِ الحَيَّةُ في رَأْس الرُّمْح وخَرَّ الأَنْصَارِيُّ مَيْتَاً" (¬1). يَقُولُ: فَقَدْ صَارَ هَذا المُعْتِقُ سَائِبَةً، بِمَنْزِلَةِ الحَنَشِ إنْ قتَلَنِي خَطَأ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِيةٌ، وإنْ قتَلْتُهُ أَنَا كَانَتْ دِيَّتُهُ عَلَى عَاقِلَتِي، والذِي قَالَ مَالِكٌ: إنَّ عَقْلَ جِنَايةِ السَّائِبَةِ عَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، كَمَا يَرِثُونَهُ كَذَلِكَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يُعْتَقُ مِنَ الزَّكَاةِ. * * * تَمَّ كِتَابُ العُقُولِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَتْلُوهُ كِتَابُ القَسَامَةِ بِحَوْلِ اللهِ. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2236) من حديث أبي سعيد الخدري.

تفسير كتاب القسامة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ القَسَامَةِ * رَوَى يَحْيىَ عَنْ مالك، عَنْ أَبي لَيْلَى، عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ [3275] , ورَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مالك، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبي لَيْلَى، عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ [هُوَ وَ] (¬1) رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، وهَذا هُوَ الصَّحِيحُ. وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ المَقْتُولَ إذا قُتِلَ وطُرِحَ عَلَى بَابِ قَوْمٍ لَمْ يُؤْخَذُوا بِدَمِهِ، وإنَّمَا تَعَلَّقَتْ تُهْمَةُ القَتْلِ في هَذِه القِصَّةِ عَلَى اليَهُودِ مِنْ أجْلِ عَدَاوَتهِم للمُسْلِمِينَ، وفِيهِ أَيْضًا: تَبْدِئَةُ أَوْلِياءِ الدَّمِ بالقَسَامَةِ، وتَقْدِمَةُ الأَسَنِّ فَالأَسَنِّ فِيمَا يَسْتَوي فِيهِ أَمْرُ الجَمَاعَةِ، وتَكُونُ دَعْوَاهُمْ في ذَلِكَ وَاحِدةٌ. وحَدَّثنا أَبو مُحَمَّدِ بنُ عُثْمَانَ، قالَ: حدَثنا سَعِيدُ بنُ [خُمَيْرٍ] (¬2)، قالَ: حدَّثنا ابنُ مُزَيْنٍ، قالَ: حَدَّثنا مُطَرِّفٍ، عَنْ مُسْلِمِ بنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ، عَنْ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، إلَّا في القَسَامَةِ، فإنَّ المُبَدِّينَ فِيهَا المُدَّعُونَ" (¬3)، يَعْنِي: يُبَدَّا فِيهَا بالأيْمَانِ المُدَّعُونَ لِلدَمِ. ¬

_ (¬1) زيادة من التمهيد 24/ 151، وأطراف الموطأ للداني 3/ 118. (¬2) جاء في الأصل: حميد، وهو خطأ، وسعيد بن خمير، وتقدم التعريف به. (¬3) رواه ابن عبد البرقي التمهيد 23/ 204، والبيهقي في السنن 8/ 122، بإسنادهما إلى مطرف بن عبد الله به، وقال ابن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان في إسناده لين فإن الآثار المتواترة في حديث هذا الباب تعضده.

[قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬1): وفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ سَهْلٍ تَوَرُّعِ الإنْسَانِ عَنْ أنْ يَحْلِفَ إلَّا فِيمَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ وحَقِيقتَهُ، وَوَدَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دِيةَ ذلِكَ المَقْتُولِ مِنْ عِنْدِه عَلَى سَبِيلِ المَصْلَحَةِ، ومِثْلُ هَذا القَتْلِ لا دِيةَ فِيهِ. وقَدْ رَوَى ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ قُتِلَ فَادَّعَى بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ قُتِلَ عَمْدًا، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا عِلْمَ لَنَا بِمَنْ قَتَلَهُ ولَا نَحْلِفُ، فإنَّ دَمَهُ بَطْل هَدْرٌ) (¬2)، يَعْنِي: تَسْقُطُ دَعْوَاهُمْ بِنُكُولهِمْ عَنِ الأَيْمَانِ، ومَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الدَّمَ لا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا. قالَ الزّهْرِيُّ: قالَ حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (¬3): (كَانَتِ القَسَامَةُ في الجَاهِلِيَّةِ، فأَقَرَّهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسْلَامِ) (¬4)، ومَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لا يُقْسَمُ في قَتْلِ العَمْدِ مِنْ أَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا. قالَ عَبْدُ المَلِكِ (¬5): لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا عَرَضَهَا عَلَى جَمَاعَةٍ، والجَمَاعَةُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وتَجِبُ القَسَامَةُ أَيْضًا في قَتْلِ الخَطَأ، وإنْ كَانَ لا يُقْتَلُ [قَاتِلُ] (¬6) الخَطَأ، وذَلِكَ أَنَّ الدِّيَةَ لا تَكُونُ في قَتْلِ الخَطَأ حَتَّى يَكُونَ دَمًا، والدَّمُ لا يَسْتَحِقّ بأقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَلِذَلِكَ يُقْسَمُ في الخَطَأ كَمَا يُقْسَمُ في العَمْدِ. قالَ عِيسَى: إذا ادُّعِيَ القَتْلُ عَلَى جَمَاعَةٍ قِيلَ لأَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ: احْلِفُوا عَلَى مَنْ شِئْتمْ مِنْهُم خَمْسِينَ يِمِينًا أَنَّ مَنْ ضَرَبَهُ مَاتَ، فإذَا حَلَفُوا قُتِلَ المَحْلُوفُ عَلَيْهِ، ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: ع. (¬2) نقل كلام مالك مختصرًا: ابن عبد البر في التمهيد 23/ 211. (¬3) هو حُميد بن عبد الرحمن بن عوف القُرشي الزُّهري المدني، تابعي ثقة، توفي سنة (95)، التهذيب 7/ 379. (¬4) نقل مثله عن سعيد بن المسيب، رواه النسائي (4709)، وعبد الرزاق 10/ 27. (¬5) هو عبد الملك بن حبيب السلمي الأندلسي، الإِمام الفقيه صاحب الكتب ومنها الواضحة وغيرها، وتقدم التعريف به. (¬6) جاء في الأصل: القتل، وما وضعته هو المناسب للسياق.

ويُضْرَبُ الآخَرُونَ مَائةً مَائَةً، ويُحْبَسُونَ عَامًا ثُمَّ يُخْلَى سَبِيلُهُمْ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ إنَّهُمْ ضَرَبُوهُ جَمِيعًا، وأنَّ مَنْ ضَرَبَ فُلَانًا مَاتَ، فإذَا كَانَ القَتْلُ خَطَأ حَلَفُوا عَلَيْهِم أَنَّهُ مَاتَ مِنْ قَتْلِهِمْ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ دِيةَ المَقْتُولِ مِنْ عَوَاقِلِهمْ. فأما إذا كَانَ المُدَّعُونَ للدَّمِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا فإنَّ الأَيْمَانَ تُرَدَّدُ عَلَيْهِمْ، ومَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْلِفُ هَذَا يَمِينَاً، وهَذا يَمِينَاً، ثُمَّ يُرْجَعُ إلى الأَوَّلِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ الذي يَلَيْهِ، ثُمَّ الذِي يَلَيْهِ، حَتَّى تَتِمُّ الأَيْمَانُ كُلُّهَا. قالَ مَالِكٌ: وإنَّمَا يَحْلِفُونَ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الدّيَةِ، وإذَا وَقَعَ في الأَيْمَانِ كُسُورًا أتمَّهَا أَكْبَرُهُمْ مِيرَاثًا مِنَ المَقْتُولِ، وإذا أَبَى وُلَاةُ المَقْتُولِ مِنَ الأَيْمَانِ صُرفَتِ الأَيْمَانُ عَلَى المُدَعَى عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ باللهِ خَمْسِينَ يِمِينًا أَنَّهُ مَا قتلَ، ويَبْرَأُ مِنَ التَّبِعَةِ. فإنْ كَانَ المُدَّعَى عَلَيْهِمْ جَمَاعَة حَلَفَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا (¬1). رَوَى ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْ مالك أَنَّهُ قَالَ: تُوجَبُ القَسَامَةُ بالشَّاهِدِ الوَاحِدِ العَدْلِ، أَو اللَّوْثُ مِنَ البَيِّنَةِ (¬2)، وإنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً يُرَى المُتَهَّمُ نَحْوَ المَقْتُولِ وقُرْبِهِ، وإنْ لَم يَرَوْ حِينَ أَصَابَهُ. قالَ ابنُ أَبي زيدٍ: قِصَّةُ صَاحِبِ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ أَحْيَاهُ اللهُ وقَالَ: (قتَلَنِي فُلَانٌ) دَلِيل عَلَى قَبُولِ قَوْلِ المَقْتُولِ: (دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، وَهُوَ الذِي قتلَنِي)، ويُقْسَمُ مَعَهُ (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر قول مالك في التمهيد 23/ 214. (¬2) اللوث: هو ما يكون شبه الدلالة على حديث من الأحداث ولا يكون بينة تامة، وذلك مثل رؤية العدل المقتول يتشحط في دمه ويضطرب فيه والشخص المتهم بقربه وعليه أثر القتل بأن كان معه الآلة ملطخة بالدم، ينظر: الفواكه الدواني 2/ 181، والمعجم الوسيط 2/ 844. (¬3) نقله ابن عبد البر في التمهيد 219/ 23 - 220، وقال: احتج جماعة من المالكيين =

قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولا يَقْسِمُ في العَمْدِ إلَّا اثنَانِ فَصَاعِدًا كَمَا أَنَّهُ لا يُقْتَلُ بأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، ولِذَلِكَ لا يَحْلِفُ النّسَاءُ في العَمْدِ، إذْ لا تَجُوزُ شَهَادَتَهُنَّ فِيهِ، ويَحْلِفْنَ في الخَطَأ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَالٌ، وشَهَادَتَهُنَّ في الأَمْوَالِ جَائِزَةٌ. قالَ عِيسَى: الذينَ لا يُقْتَلُ المُدَّعَى عَلَيْهِمْ القَتْلُ بِسَببِ نُكُولهِمْ عَنِ الأَيْمَانِ هُم البَنُونُ والأُخْوَةُ، فإذَا عَفَى أَحَدُهُمْ عَنِ المُدَّعَى عَلَيْهَمْ فَلَا سَبيلَ إلى الدَّمِ، ويَكُونُ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إنْصَافُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، وهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وقالَ ابنُ القَاسِمِ: لا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الدّيةِ شَيءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَقْسَمُوا ثُمَّ عَفَى بَعْضُهُمْ، فأما إذا نَكَلَ أَحَدُهُمْ عَنِ القَسَامَةِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَقِيَ شَيءٌ مِنَ الدِّيةِ. قالَ عِيسَى: وإذا كَانَ أَؤلِياءُ الدَّمِ مِنَ العَصَبةِ وللمَقْتُولِ بَنَاتٌ فَعَفَى أَحَدٌ مِنَ العَصَبةِ أَو البَنَاتِ وأَبَى الآخَرُونَ مِنَ الغُفْرَانِ مَنْ قَامَ بالدَّمِ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الذينَ عَفَوا عَنْهُ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإذَا رُدَّتِ الأَيْمَانُ عَلَى أَوْلياءِ القَاتِلِ حَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وبَرِيءَ المُدَعَى عَلَيْهِ، ولَا يَحْلِفُ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ تُرَدَّدُ عَلَيْهِمَا الأَيْمَانُ أنَّ وَلِيَّهَمْ مَا قُتِلَ، وإنَّمَا هَذَا إذا تَطَوَّعُوا بَحْمِلِ الأيْمَانِ عَنْهُ، ولَا يَحْلِفُ المُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَهُمْ بَعْضُهَا، إمَّا أَنْ يَحْلِفُوهَا كُلّهَا أَو يَتْرُكُوهَا عَلَيْهِ، وذَلِكَ أَنَّهُ لا يُبَرَّئُ المُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّمِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا. * قالَ مَالِكٌ: (لَوْ عُمِلَ في الدِّمَاءِ كَمَا يُعْمَلُ في الحُقُوقِ هَلَكَتِ الدّمَاءُ، واجْتَرأَ النَّاسُ عَلَيْهَا) [3280] , فإذَا حُكِمَ فِيهَا بِقَوْلِ المَقْتُولِ ارْتَدَعَ النَّاسُ عَنِ القَتْلِ خِيفَةَ القَوَدِ مِنْهُمْ. ¬

_ = لمذهب مالك في ذلك بقصة المقتول من بني إسرائيل، ثم ذكر بأنه لا معنى لذكر قتيل بني إسرائيل ها هنا، وأن شريعتنا فيها أن الدماء والأموال لا تستحق بالدعاوى دون البينات، ولم نتعبد بشريعة من قبلنا.

وقالَ غَيْرُهُ: قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] , تَأويلُهُ: أَنَّ القَاتِلَ إذا هَمَّ بالقَتْلِ وذَكَرَ أَنَّهُ يُقْتَصّ مِنْهُ تَرَكَ القَتْلَ الذِي هَمَّ بهِ، فَكَانَ ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ. قالَ عِيسَى: إذا ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا أَو وَكَزَهُ فَادَّعَى أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ فإنَّهُ يُحْمَّلُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَحَمَّلَ، وتَمْضِي القَسَامَةُ عَلَى سُنَّتِهَا، وإنْ رَمَى بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ، وأصْدَقُ مَا يَكُونُ الرَجُلُ إذا نَزَلَ بهِ المَوْتُ، وإذا رَمَى رَجُلًا بِدَمِهِ ثُمَّ هَلَكَ ثُمَّ أَتَى المُدَّعَى عَلَيْهِ ببيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُم بِبَلَدٍ بَعِيدٍ في اليَوْمِ الذي زَعَمَ الهَالِكُ أنَّهُ قتَلَهُ فِيهِ فإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ دَعْوَاهُ، والبيِّنَةُ العَادِلَةُ أَصْدَقُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يُحَلَّفُ المُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينَا ويَبْرَأُ مِنَ الدَّعْوَى. قالَ: ولَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ عَدْلٍ بِعَايِنَةِ الضَّرْبِ، وشَهِدَتْ بَيِّنَةُ عَدْلٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ، وتَكَافأَتِ البَيِّنتَانِ قَضَى بالتّي شَهِدَتْ بالضَّرْبِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ للمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِلْمًا مِنْ إعْلَامِ النَّاسِ لا يَخْفَى مَكانهُ، فإنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ دَعْوَى المُدَّعِي. * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمْدِ اللهِ، يَتْلُوهُ كِتَابُ الرَّجْمِ والحُدُودِ

تفسير كتاب الرجم والحدود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ الرَّجْمِ والحُدُودِ * حدَّثنا ابنُ عُثْمَانَ، قالَ: حدَّثنا سَعِيدُ بنُ [خُمَيْرٍ] (¬1)، قالَ: حدَّثنا ابنُ مُزَيْنٍ، عَنِ ابنِ القَاسِمِ، في حَدِيثِ عُمَرَ، قال: "إنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " [3035] وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه، قال: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الذمَّةِ، وإنَّمَا حَكَّمُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَكَمِ بَيْنَهُمْ في الزَّانِيَيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَنْ زَنَى أنَّهُ يُرْجَمُ إذا كَان مُحْصَنًا. وقالطَ أبو مُحَمَّدٍ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ فَدَكٍ، وكَانُوا مُوَادِعِينَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولَمْ تَكُنْ آيةُ الجِزْيةِ نزلَتْ حِينَئِذٍ عَلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَانَ يَلْزَمُهُ الحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وإنَّمَا أَرَادَ اللهُ بِهَذا أَنْ يُقَرِّرَ اليَهُودَ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا التَّوَرَاةَ وبَدَّلُوا مَا فِيها. قال ابنُ القَاسِمِ: إذا أَتَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلى حَكَمٍ مِنْ حُكَّامِ المُسْلِمِينَ بِزَانِيَيْنِ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِمَا، والزَّانِيَانِ لا يَرْضِيَانِ بِحُكْمِهِ فإنَّهُ لا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَرْضِيَا الزَّانِيَيْنِ بِذَلِكَ، فإنْ رَضِيا كَانَ الحَكَمُ بالخَيَارِ إنْ شَاءَ حَكَمَ، وإنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ، وأَحَبُّ إليَّ ألَّا يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]. * [قالَ]، عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدِيثُ ابنِ المُسَيَّبِ: (أنَّ رَجُلَا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلى أَبي ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: جبير، وهو خطأ، وسعيد بن خُمير تقدم التعريف به.

بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الآخَرَ زَنَى) [3036] هُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وإنَّمَا رَدَّهُ أَبو بَكْرٍ وعُمَرُ وقَالَا لَهُ: (تُبْ إلى اللهِ، واسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ) مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمِئِذٍ إليهما إقامَةُ الحُدُودِ، ولَمْ يَكُنْ إعْرَاضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذَلِكَ المُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بالزّنَا مِنْ جهَةِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بالزِّنَا، كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: إنَّهُ [مِمَّنْ] (¬1) أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بالزّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَمَا في ظَاهِرِ حَدِيثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَيُقَالُ لِمَنْ تأَوَّلَ هَذا إنَّمَا أَعْرَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ هَذا المُقِرِّ بَعْدَ إقْرَارِهِ مِنْ أَجْلِ مَا وَقَعَ في نَفْسِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِشَيءٍ حَدَثَ بِهِ، ولِذَلِكَ سَأَلَ عَنْهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ صَحِيحُ العَقْلِ، وأَنَّهُ أَقَرَّ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ غَيْرَ فَارٍّ مِنْ شَيءٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنيا أَمَرَ بهِ فَرُجِمَ. * قالَ عِيسَى: قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِهَزَّالٍ: "لَوْ سَتَرْتَهُ برِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ" [3037] , قالَ: كَان مَاعِزُ يَتِيمًا عِنْدَ هَزَّالي، وكَانَ مُحْصَنًا، فَقَالَ لِهَزَّالي: (إنّي زَنَيْتُ بامْرَأةٍ مِنَ الحَيِّ)، فَأمَرَهُ هَزَّالُ أَنْ يَأتِي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَعْتَرِفُ عِنْدَهُ بالزِّنَا، فأَتَاهُ فاعْتَرَفَ، فَلَمَّا أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهِ وأَحْرَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ أُنيسٍ فَرَمَاهُ فَقتلَهُ، فقَالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَبْدَ اللهِ، لَوْ تَرَكْتَهُ لَعَلَّهُ كَانَ يَتُوبُ فَيتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ"، فَحِينَئِذٍ قَالَ لِهَزَّالي: "يا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ برِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ"، يَعْنِي: لَوْ أَمَرْتَهُ بالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ أَخْبَرَكَ بِمَا صَنَعَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ أَنْ تَأْمُرَهُ أَنْ يأْتِي إلى مَنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ الحَدُّ إذا أَقَرَّ عِنْدَهُ كَمَا فَعَلَ بهِ أَبو بَكْرٍ وعُمَرُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَنْ يَسْتُرَ الرَّجُلُ عَلَى أَخِيهِ مَعْصِيَتَهُ، وأَنْ يَأْمُرَهُ بالتوْبةِ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وفِي هَذا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ المُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ بالزِّنَا إذا رَجَعَ عَنْ قَوْلهِ، وقَالَ: (إنّي مَا زَنَيْتُ)، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَبْدِ اللهِ بنِ أنيْسٍ: "لَوْ تَرَكْتَهُ لَعَلَّهُ كَانَ يَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ"، فإذا رَجَعَ المُقِرُّ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (من) وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ينظر: الإستذكار 9/ 22.

عَلَى نَفْسِهِ بالزِّنَا عَنْ قَوْلهِ، وقَالَ: (إني مَا زَنَيْتُ)، سَقَطَ عَنْهُ الحَدُّ، إلَّا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وقَدْ مَضَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الحَدِّ، فإنَّهُ لا يُقْبَلُ حِينَئِذٍ رُجُوعُهُ، لأَنَّهُ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْهُ نَدَمٌ. قالَ مَالِكٌ: يَأْمُرُ الإمَامُ بالرَّجْمِ، ولَا يَتَولَّى هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، ويُرْجَمُ المَرْجُومُ بِحِجَارَةٍ يُرْمَى بِمِثْلِهَا, ولَا يُرْجُمُ بالصُّخُورِ العِظَامِ، ولا يُرْفَعُ عَنْهُ حَتَّى يَمُوتُ، وُيخْلَى بَيْنَهُ وبَيْنَ أَهْلِهِ يُغَسِّلُونَهُ، ويُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيدْفِنُونَهُ، ولَا يُصَلِّ عَلَيْهِ الإمَامُ، وذَلِكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُصِلِّ عَلَى المَرْجُومِ، ولَمْ يَمْنَعْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: يُرْجَمُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، ولَا يُحْفَرُ لَهُ حُفْرَةً. وقالَ أَصْبَغُ: اسْتَحِبُّ الحَفْرَ للمَرْجُومِ، وذَلِكَ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ حُفْرَةً يُدْخَلُ فِيهَا، ويُشَدُّ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وتُتْرَكُ لَهُ يَدَاهُ يَتَّقِي بِهَا عَنْ وَجْهِهِ. قالَ عِيسَى: إذا أَقَرَّتْ امْرأَة حَامِلٌ عَلَى نَفْسِهَا بالزِّنَا عِنْدَ السُّلْطَانِ صُنِعَ في أَمْرِهَا كَمَا صَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المَرْأةِ الحَامِلِ الَّتي أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَهُ بالزِّنَا، وَهِيَ سُنَّةُ سنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقَالَ غَيْرُهُ: إذا وَضَعَتِ الحَامِلُ المُقِرَّةُ عَلَى نَفْسِهَا بالزِّنَا اسْتَرْضَعَ الإمَامُ للمَوْلُودِ، واسْتَعْجَلَ إقَامَةَ الحَدِّ عَلَيْهَا، فإنْ لَمْ يَقْبَلِ المَوْلُودُ غَيْرَ ثَدْي أُمِّهِ أُخِّرَتْ حَتَّى يَتِمَّ رِضَاعَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِرَجْمِهَا فترْجُمُ. * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: كَانَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ أنَّ المُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بالزِّنَا لا يُرْجَمُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بالزِّنَا, ولَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ [3038] , لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أنيْسَ الأَسْلَمِيَّ أنْ يَسْأَلَ المَرْأَةَ الَّتي وَجَّهَهُ إليهَا: "هَلْ زَنَتْ أَمْ لا؟ " فَاعْتَرَفَتْ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَرَجَمَهَا, ولَمْ يَأْمُرْهَا أَنْ تَعْتَرِفَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّة وَاحِدَة ولَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرْجَمُ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحَاكَمَا إليه: "لأَقْضَيَنَّ بَيْنكُمَا بِكَتَابِ اللهِ" [3040] , ثُمَّ قضى بَيْنَهُمَا بالرَّجْمِ، ولَيْسَ هُوَ في كِتَابِ اللهِ،

فَمَعَنى ذَلِكَ: لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللهِ وفَرْضِهِ، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] , يَعْنِي: حُكْمَ اللهِ عَلَيْكُمْ وفَرْضَهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَابِ اللهِ". وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] , أَنَّ العَذَابَ المَذْكُورَ هَهُنَا هُوَ الرَّجْمُ في المُحْصَنَةِ المُسْلِمَةِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: في هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: نَقْضُ الصُّلْحِ الحَرَامِ، لِقَولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِوَالِدِ الزَّانِي: "أَمَّا غَنَمُكَ وجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ". وفِيهِ: التَّغْرِيبُ عَلَى الزَّانِي الحُرِّ المُسْلِمِ البِكْرِ إذا جُلِدَ مَائَةَ جَلْدَةٍ. وفِيهِ: أَنَّهُ مَنْ وَجَّهَهُ الإمَامُ لِحُكْمِ مَا أنَّهُ يُنْفِذُ ذَلِكَ ولا إعْذَارَ فِيهِ، كَمَا يَعْذِرُ الحَاكِمُ إلى المَحْكُومِ عَلَيْهِ في سَائِرِ الأحْكَامِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (إيَّاكمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيةِ الرَّجْمِ) [3044] , يَعْنِي: إيَّاكُمْ أنْ تَهْلِكُوا بالحُكْمِ بِغَيْرِ آيةِ الرَّجْمِ، فَتُعَطِّلُوا حَدًّا قَدْ أَمَرَ اللهُ بهِ، فَيَقُولُ قَائِلٌ مِنْكُمْ: (لَّا نَجِدُ حَدَّيْنِ في كِتَابِ اللهِ)، يَعْنِي: أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ في القُرآنِ حَدَّ البكْرِ الزَّانِي، وحَدَّ الحُرِّ المُحْصَنِ، ثُمَّ بيَنَ لَهُمْ أَنَّ آيةَ الرَّجْمِ قَدْ نزلَتْ بِقَوْلهِ: (والشَّيْخُ والشَيْخَةُ)، يَعْنِي: الثَّيِّبَ والثَّيِّبَةَ (فَارْجُوهُمَا البَتَّةَ)، يَعْنِي: ارْجُمُوهُمَا إذا زَنَيا, ولَا تَشُكُّوا في ذَلِكَ. ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ عُمَرُ هَذِه الآيةَ مَسْطُورَةً في المَصَاحِفِ، وإنَّمَا أَرَادَ إحْيَاءَ حُكْمِهَا، وإمَاتَةَ تِلَاوَتهَا، والقُرْآنُ المَتْلُو هُوَ: مَا نَقَلَتْهُ الأُمَّةُ كَافَّةً جَمِيعًا لا مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ، ومَا قَدْ ضَمِنَ اللهُ جَمْعَهُ وقُرْأَنَهُ. قالَ أَبو عُبَيْدٍ: وهَذِه الآيةُ مِمَّا نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ خَطُّهُ وثَبَتَ حُكْمَهُ (¬1). وفِي اسْتِلْقَاءِ عُمَرَ نَفْسِهِ عَلَى التُّرَابِ: تَوَاضُعُ الإمَامِ العَدْلِ، والزُّهْدُ في ¬

_ (¬1) لم أجد هذا النقل في كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، فلعله ذكره في كتاب آخر.

الدُّنيا، وإبَاحَةُ التَّمَنِّي بالمَوْتِ عِنْدَ خَوْفِ الإنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ الفِتْنَةَ، لِقَوْلهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (واقْبِضْنِي إليكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ)، يَعْنِي: غَيْرَ مَفْتُونٍ في دِينِه، ولَا مُضَيِّعٍ لِشَيءٍ مِنْ أُمُورِ رَعِيّتِهِ الذي هُوَ مَسْئُولٌ عَنِ العَدْلِ فِيهِم. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَجْمُ عُثْمَانَ المَرْأَةَ الَّتي أُتِيَ بِهَا إليهِ، وقَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمٍ زُوِّجَتْ [3045] عَلَى وَجْهِ الإجْتِهَادِ في الحُكْمِ، والقَاضِي إذا اجْتَهَدَ في الحُكْمِ فأخْطَأ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ في ذَلِكَ تَبعَة، ولَا دِيةٌ في مَالِهِ، ولَا عَلَى عَاقِلَتِه، كَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عُثْمَانَ ولَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَرْجِمْهَا عَلَى وَجْهِ الخَطَأ الذي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ المُخْطِيءِ، والكَفَّارَةُ عَلَى القَاتِلِ. وعِلْمُ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ مِنْ تَأْوِيلِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- في هَذِه القِصَّةِ مَا خَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ مَالِكٍ: (مَنْ عَمِلَ قَوْمَ لُوطٍ رُجِمَا جَمِيعًا الفَاعِلُ والمَفْعُولُ بهِ). قالَ رَبِيعَةُ: وَهِيَ العُقُوبَةُ الَّتي أَنْزَلَها اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بقَوْمِ لُوط، وبِذَلِكَ حَكَمَ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وبَعَثَ بهِ إلى خَالِدٍ بنِ الوَليدِ بَعْدَ أَنْ شَاوَرَ في ذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ [- صلى الله عليه وسلم -] (¬1)، فَرأَوهُ وَرَأَهُ مَعَهُم. قالَ ابنُ القَاسِمِ: ولَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ أَو كَافِرَيْنِ لَرُجِمَا. وقالَ أَشْهَبُ: أمَّا العَبْدَانِ فَيُجْلَدَانِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ، وأَمَّا الكَافِرَانِ فَيُؤَدَّبَانِ أَدَبَا مُوجِعًا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: جَلَدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّانِيَ والزَّانِيَةَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ [3048] , وفِي هَذَا مِنَ الفِقْهِ: التَّخْفِيفُ عَنِ الزَّانِي البكْرِ، وتَرْكُ العُنْفِ [عَلَيْهِ] (¬2) في جَلْدِهِ. ¬

_ (¬1) من هنا تبدا نسخة (ق) في هذا الموضع، وما بين المعقوفتين منها. (¬2) زيادة من نسخة (ق).

وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ"، يَعْنِي: مَنْ يُظْهِرُ لَنَا وَجْهُهُ، وُيقِرُّ بِحَدٍ مِنْ حُدُودِ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬1) نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] فَنَضْرِبُهُ الحَدَّ الذي أَمَرَ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ] بهِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا أَقَامَ أَبو بَكْرٍ الحَدَّ عَلَى غَاصِبِ الجَارِيةِ البكْرِ لإقْرَارِهِ بِوَطْئِهَا، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ (¬2) مَعَ الحَدِّ صُدَاقُ مِثْلِهَا، لأَنهُ قَدْ تَلَدَّذَ مِنْهَا، ونَفَاهُ عَنِ المَدِينَةِ [3049]. وهَذا أَصْلٌ في نَفْي الزَّانِي الحُرِّ عَنْ وَطَنِهِ بَعْدَ أَخْذِ الحَدِّ مِنْهُ، ولَمْ يَكُنْ عَلَى المَرْأَةِ الزانِيةِ نَفْيٌّ إذا أُقِيمَ عَلَيْهَا الحَدُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا عَوْرَةٌ، وأَنَّهَا إذا غُرِّبَتْ عَنْ بَلَدِهَا كَانَ سَبَبًا [لإتْيَانِهَا] (¬3) الفَاحِشَةَ، وأنَّهَا لا تُسَافِرُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا، فَيُكَلَّفُ وَلِيُّها في سَفَرِه مَعَهَا مَشَقَةً عَظِيمَةً. * ولَمْ يَكُنْ عَلَى العَبْدِ نَفْي إذا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الزَّنا، لَأَنَّةُ سِلْعَة مِنَ السِّلَعِ، وقَدْ قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكمْ فَلْيَجْلِدْهَا" [3053] , ولَمْ يَأْمُرْ بِنَفْيِهَا، وأَمَرَ بِبَيْعِهَا، وَإِنَّمَا نَفَى عُمَرُ العَبْدَ الذِي اسْتَكْرَهَ الوَليدَةَ الَّتي كَانَتْ مِنْ وَلَائِدِ دَارِ الإمَارَةِ بَعْدَ أنْ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا ونَفَاهُ [3054] , لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدَ رَجُلٍ (¬4) بِعَيْنِهِ، فَلِذَلِكَ نَفَاهُ، وإنَّمَا كَانَ [مَوْقُوفًا لِخِدْمَةِ] (¬5) المُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِه مِنَ العَبِيدِ. قالَ أبو مُحَمَّدٍ: كُنَّ وَلَائِدَ الإمَارَةِ خَدَمٌ نَوْبِيَاتٍ، كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ قَدْ رَتَّبَهُنَّ يَصْنَعْنَ الطَّعَامَ لأَصْحَابِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ يُطْعِمُهُمْ إيَّاهُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَياشِ [بنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ] (¬6): ¬

_ (¬1) من (ق)، وكذا الموضعين المشابهين بعده. (¬2) في (ق): ثم عليه مع الحد. (¬3) من (ق)، وفي الأصل: لاتباعها. (¬4) في (ق) عبدُ الرجل. (¬5) من (ق)، وفي الأصل: موقفا لجماعة المسلمين. (¬6) زيادة من (ق).

(أَمَرَنا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَلَدْنَا ولَائِدَ الإمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ في الزِّنَا) [3055] , قالَ عِيسَى: هُم الذينَ جَلَدُوهُمْ بأَيْدِيهِمْ، وكَانُوا مَعَ ذَلِكَ طَائِفَةً، لِقَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَمَرَهُ إمَامٌ عَادِلٌ بإقَامَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬1) أَنْ يُطِيعَهُ في ذَلِكَ، وقَدْ أَقَامَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِب حَدًّا أَمَرَهُ بإقَامَتِهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ. * قالَ مَالِكٌ: إذا وُجِدَتِ المَرْأَةُ غَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ حَامِلًا أُقِيمَ عَلَيْهَا الحَدُّ، إلَّا أَنْ تَدَّعِيْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلهَا بِبيِّنَةٍ يَعْرِفُونَ مَا تَدَّعِيهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهَا حِينَئِذٍ (¬2) الحَدُّ [3057]. وقالَ أَبو حَنِيفَةَ: يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيمَا تَدْعِيهِ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ (¬3). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يَرُدُّ هَذا القَوْلُ قَوْلَ عُمَرَ: (الرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَا إذا أُحْصِنَّ، إذا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أو كَانَ الحَمْلُ، أَو الإعْتِرَافُ) (¬4)، فَمَتَى وُجِدَتِ المَرْأةُ حُبْلَى وكَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أُقِيمَ عَلَيْهَا الحَدُّ وإنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بالصَّلَاحِ، إلَّا أنْ يَثْبُتَ أنَّهَا غُصِبتْ نَفْسُهَا، فَيَسْقُطُ عَنْهَا حِينَئِذٍ (¬5) الحَدُّ. * * * ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) في (ق): فيسقط حينئذ عنها. (¬3) ينظر قول أبي حنيفة في شرح فتح القدير 5/ 246. (¬4) رواه البخاري (6441)، من حديث ابن عباس عن عمر. (¬5) في (ق): فيسقط حينئذ عنها

باب الحد في القذف والتعريض

بابَ الحَدِّ في القَذْفِ والتَّعْرِيضِ * قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: إنَّمَا جَلَدَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ العَبْدَ الذي افْتَرَى عَلَى الحُرِّ ثَمَانِينَ جَلْدَة مِنْ جِهَةِ حُرْمَةِ الحُرِّ [3060] , ولَيْسَ عَلَيْهِ العَمَلُ، وإنَّمَا عَلَى العَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الحُرِّ، وكَذَلِكَ هُوَ في جَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِنَ الطَّلَاقِ، إلَّا في كَفَّارَاتِهِ، فَحُكْمُهُ فِيهَا حُكْمُ الحُرِّ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اخْتُلِفَ قَوْلُ مَالِكٍ في إجَازَةِ عَفْوِ الرَّجُلِ المَقْذُوفِ عَنْ قَاذِفِه إذا بَلَغَ بهِ الإمَامَ، فَقَالَ: إذا أَرَادَ سِتْرًا جَازَ عَفْوَهُ عَنْهُ، وذَلِكَ أَنْ يَكُونَ المُفْتَرَى عَلَيْهِ يَخَافُ إنْ كُشِفَ ذَلِكَ مِنْهُ أنْ تَقُومَ [عَلَيْهِ] (¬1) بذَلِكَ بَيِّنَةٌ، فإذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَفْوُهُ جَائِزٌ (¬2). * وقالَ أَيْضًا: إنَّ لَهُ العَفْوَ عَنِ الحَدِّ وإنْ بَلَغَ الإمَامَ، أَرَادَ سِتْرًا أَو لَمْ يُرِدْهُ، نَحْوَ مَا كَتَبَ بهِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إلى رُزيقِ بنِ حَكِييم في الذي افْتَرَى عَلَيْهِ ثُمَّ عَفَا عَنِ المُفْتَرِي بَعْدَ أَنْ رَفَعَهُ إلى السُّلْطَانِ، فقَالَ لَهُ: (أَجِزْ عَفْوَهُ) [3061] , وأَمَّا إذا كَانَ الحَدُّ مِنْ حُدُودِ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬3) لَمْ يَجُزْ للإمَامِ إذا بَلَغَهُ العَفْوُ عَنْهُ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَفْوانَ حِينَ عَفَا عَنْ سَارِقِ رِدَائِهِ بَعْدَ مَا بَلَغَهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِينِي بهِ" (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من (ق)، وقد شطب عليه في الأصل. (¬2) ينظر هذا القول في كتاب: الكافي لإبن عبد البر 1/ 577. (¬3) من (ق). (¬4) رواه أبو داود (4394)، والنسائي (4879)، وابن ماجه (2595)، من حديث صفوان بن أمية.

قالَ مَالِكٌ: ولَا أُحِبُّ لأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ [جَلَّ وعَزَّ] (¬1) بَعْدَ أنْ يَصِلَ إلى الإمَامِ، أَو بَعْدَ أَنْ يَقَعَ صَاحِبُ الحَدِّ في أَيْدِي الحَرَسِ، وأَمَّا قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بهِ، إلَّا فِيمَنْ عُرِفَ شَرُّهُ وأَذَاهُ للنَّاسِ فَلَا يَشْفَعُ فِيهِ (¬2). قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] , يَعْنِي: الذينَ يَقْذِفُونَ المُسْلِمَاتِ الحَرَائِرَ العَفَائِفَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، فَنَابَ ذِكْرَ النِّسَاءِ في هَذِه الآيةِ عَنْ ذِكْرِ الرِّجَالِ، وهَذا مِنَ [الذِي يُحْكَمُ فِيهِ للمَسْكُوتِ] (¬3) عَنْهُ بِحُكْمِ مَا يَشْبَهَهُ مِنَ المَذْكُورِ، فَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا بالزِّنَا فَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالَ جُلِدَ حَدُّ القَذْفِ ثَمَانِينَ. * وقالَ مَالِكٌ: إنْ قَذَفَ جَمَاعَة في كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَو وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ [3063]. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قالَ بَعْضُ أَهْلِ الأَمْصَارِ: إنْ قَذَفَ جَمَاعَة في كَلِمَةٍ وَاحِدَة، أو وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، حُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدَّ الفِرْيةِ (¬4). وقالَ أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ: جَلَدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذينَ خَاضُوا في أَمْرِ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللهُ عَنْهَا] (¬5) كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدًّا وَاحِدًا، ولَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ المُخَالِفُ لَجَلَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدَّيْنِ حَدَّيْنِ، حَدًّا عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللهُ عَنْهَا] , وحَدًّا عَنِ الذي رَمَوْهَا بهِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إذا حُدَّ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً حَدًّا وَاحِدًا عَنْهُمْ كُلُّهُمْ كَانَ ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) ينظر قوله في: المدونة 11/ 172 - 173. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) وفي الأصل: الحكم المسكوت، وما وضعته أكثر وضوحا. (¬4) هذا قول للشافعي، وهو مذهب عثمان البتِّي، ينظر: الإستذكار 9/ 89. (¬5) من (ق)، وكذا المعقوفتين التاليتين.

ذَلِكَ لكُلُّ حَدٍّ تَقَدَّمَ فِيمَنْ حُدَّ لَهُ وفِي غَيْرِهِ، وكَذَلِكَ إذا حُدَّ الرَّجُلُ في شُرْبِ الخَمْرِ كَانَ ذَلِكَ لِكُلِّ شُرْبٍ تَقَدَّمَ وإنْ حُدَّ في الزِّنَا كَانَ ذَلِكَ لِكُلّ زِنَا تَقَدَّمَهُ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا لَزِمَ الحَدُّ عِنْدَ مَالِكٍ في التَّعْرِيضِ بالسَّبّ كَمَا يَلْزَمُ بالتَّصْرِيحِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الحُكْمَ في الأَشْيَاءِ لِمَعَانِيهَا، وذَلِكَ أنَّ المُعْرِضَ بالقَذَفِ إنَّمَا أَرَادَ بهِ مَا في نَفْسِهِ لا مَا ظَهَرَ مِنْ لَفْظِهِ، وأَصْلُ التَّعْرِيضِ بالسَّبِّ قَوْلُ قَوْمِ شُعَيْبِ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] , وإنَّمَا عَرَّضُوا لَهُ بالسَّبِّ بِضِدِّ قَوْلهِمْ، ولَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ في اعْتِقَادِهِمْ حَلِيمَا رَشِيدًا لأَجَابُوُه إلى مَا دَعَاهُم إليه وصَدَّقُوهُ في ذَلِكَ، ومِنْهُ قَوْلُ اليَهُودِ حِينَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُون لَهُ: يا مُحَمَّدُ، رَاعِنَا سَمْعَكَ، وكَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ سَبَّهُ بالرُّعُونَةِ، فَمَنَعَ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬1) مِنْ ذَلِكَ المُؤْمِنِينَ، وأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]. * * * ¬

_ (¬1) من (ق).

باب ما لا حد فيه، وجامع القطع، إلى آخر الكتاب

بابُ مَا لا حَدَّ فِيهِ، وجَامِعِ القَطْعِ، إلى آخِرِ الكِتَابِ قالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: مَنْ وَطِءَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ أَنَّهَا إنْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى هَيْئَتِهَا، وكَانَ للشَّرِيكِ عَلَى الوَاطِيءِ نِصْفُ مَا نَقَصَها الوَطْءُ مِنْ ثَمَنِهَا، فإنْ حَمَلَتْ قُوِّمَتْ عَلَيْهِ، وكانَ لِشَرِيكِهِ عَلَيْهِ [إذا كَانَ لَهُ مَالٌ] (¬1) نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ. وقالَ أيضًا: لا تُبَعْ نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ إذا قُوِّمَتْ (¬2). وقالَ غَيْرُهُ: إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تُقَوَّمُ فِيهِ عَلَيْهِ، فإنْ شَاءَ الشَرِيكُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إليه وْيُتْبِعَهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وإنْ شَاءَ بِيَعَ لَهُ نِصْفَهُا، فإنْ نَقَصَهُ مِنْ قِيمَتِهَا شَيءٌ أَتْبَعَهُ الشَّرِيكُ بهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، ولَمْ يُبَعِ الوَلَدُ وعَلَيْهِ العُقُوبةُ في وَطْئِهِ إيَّاهَا, ولا يَبْلُغُ بهِ الحَدَّ، لأَنَّهُ لا يَجتَمِعُ أَبَدًا حَدٌّ وثُبُوتُ نَسَبٍ، وكَذَلِكَ أَيْضًا يُدْرَأُ الحَدُّ عَمَّنْ وَطِءَ جَارِيةً أَحَلَّهَا لَهُ سَيّدُهَا، وتُقَوَّمُ عَلَيْهِ، ويُلْحَقُ بهِ الوَلَدُ، بِسَببِ شُبْهَةِ الهِبَةِ التّي كَانَتْ، ومِنْ أَجْلِهَا يَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ الوَاطئِ، ولَا تَجُوزُ إعِارَةُ الفُرُوجِ، ويَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ الأَب في وَطْءِ (¬3) جَارِيةِ ابْنِهِ، لِحُرْمَةِ الأُبُّوَةِ، ولِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ ومَالَكَ لأَبِيكَ" (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من (ق). (¬2) هذه الجملة لا توجد في نسخة (ق). (¬3) في (ق): وطئه. (¬4) رواه ابن ماجه (2292)، وأحمد 2/ 204، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال ابن حبان في الصحيح 2/ 142: معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - زجر عن معاملته إياه بما يعامل به الأجنبي، وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معا، لا أن مال الإبن يملكه أبوه في حياته عن غير طيب نفس من الإبن به.

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إذا ادَّعَتْ امْرَأةٌ أن زَوْجَهَا وَطِءَ جَارِيتَهَا غَصْبًا، وقَالَ الزَّوْجُ: إنَّهَا وَهَبَتْهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَرَّتِ المَرْأَةُ بالهِبَةِ أَنَّهُ لا حَدَّ عَلَى الزوْجِ، ولَا عَلَى المَرْأَةِ، مِنْ أَجْلِ الغِيرَةِ، هَذَا قَوْلُ (¬1) عِيسَى بنِ دِينَارٍ. وقالَ أَشْهَبُ: عَلَيْهَا الحَدُّ لِرَمْيِهَا إيَّاهُ بالزِّنَا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابنِ عَبَّاس، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ وَطِءَ بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوهَا" (¬2)، هَذا حَدِيثٌ لَيْسَ مِنْ أَحَادِيثِ (¬3) أَهْلِ المَدِينَةِ، وقَدْ رَوَى أَبو رَزِينَ، عَنِ ابنِ عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الذي يَأتِي بَهِيمَةً حَدٌّ) (¬4)، وهَذِه الرّوَايةُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، ولِهَذا قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ المَدِينَةِ: إنَّ البَهِيمَةَ لا تُقْتَلُ، ولَا يُقْتَلُ وَاطِئُهَا. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: في حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثةُ دَرَاهِمَ" [3074] , في هَذا مِنَ الفِقْهِ: أنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-[وَضَعَ] (¬5) نبَيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - منْ كِتَابِهِ مَوْضِعَ البَيَانِ عَنْهُ، فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُفَسِّرَة للقُرْآنِ الذي نَصَّ اللهُ [سُبْحَانَهُ] (¬6) فِيهِ القَطْعَ عَلَى السَّارِقِ (¬7) بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ لِقِيمَةِ السَّرِقَةِ، فَلَوْ تُرِكْنَا وَظَاهِرُ القُرْآنِ لَقَطَعْنَا كُلَّ سَارِقٍ يَسْرِقُ مَا قَلَّ أَو كَثُرَ كَمَا قَالَتِ الخَوَارِجُ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تتّبَعَ مِنْ قَوْلِ الخَوَارِجِ. ¬

_ (¬1) في (ق): قال هذا. (¬2) رواه أبو داود (4464)، والترمذي (1455)، وابن ماجه (2564)، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس. (¬3) في (ق): حديث. (¬4) رواه أبو داود (4465)، والترمذي (1455)، وقال: هذا الحديث أصح من الحديث الأول. (¬5) زيادة من (ق). (¬6) من (ق). (¬7) في (ق): السارقين.

* وقَالَ أَبو حَنِيفَةَ: لا يَكُونُ القَطْعُ إلَّا في عَشَرَةِ (¬1) دَرَاهِمَ (¬2)، واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "القَطْعُ في عَشَرَةِ دَرَاهِمَ" (¬3). قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: يُقَالُ لَهُ القَطْعُ في عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا أنَّ القَطْعَ في مَائةِ دَرْهَمٍ وأَزْيَدَ، وقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَة دَرَاهِمَ" [3074] , والمِجَنُّ: التُّرْسُ، ورَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ في رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬4)، وقَطَعَ عُثْمَانُ في أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ [3076]. قالَ مَالِكٌ: وكَانَتْ أُتْرُجَّةً تُؤْكَلُ وكَذَلِكَ قُوِّمَتْ، وأَنَّهَا سُرِقَتْ مِنْ حِرْزٍ لا مِنْ شَجَرَتِهَا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَجْهُ إبَائِةِ سَعِيدِ بنِ العَاصِ أنْ تُقْطَعَ يَدُ غُلَامِ ابنِ عُمَرَ حِينَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ [3081] , مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَذَرَهُ بالضَّرُورَةِ الَّتي اضْطَرْتَهُ إلى السَّرِقَةِ لِمَغِيبه عَنْ نَفَقَةِ مَوْلَاهُ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (لا قَطْعَ في عَامِ سَنَةٍ) (¬5)، يُرِيدُ، لا قَطْعَ في عَامِ مَجَاعَةٍ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ العَبْدُ الآبِقِ إنَّمَا سَرَقَ مِنْ جُوعٍ، فَعَذَرَهُ سَعِيدُ بنُ العَاصِي بِذَلِكَ، وأَبَى مِنْ قَطْعِ يَدِهِ. * وقالَ مَالِكٌ: (يُقْطَعُ يَدُ العَبْدِ الآبِقِ إذا سَرَقَ مَا فِيهِ القَطْعُ) [3084] ,إنَّمَا قالَ: إنَّهُ يُقْطَعُ إذا لَمْ يَقُمْ لَهُ عُذْرٌ بالحَاجَةٍ. قالَ: ولَا يَقْطَعُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ إذا سَرَقَ دُونَ الإمَامِ، لِئَلَّا يُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ العِتْقَ ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت نسخة (ق) في هذا الموضع. (¬2) ينظر: بدائع الصنائع 7/ 77، وشرح فتح القدير 5/ 360. (¬3) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1633، بإسناده إلى عمرو بن شعيب به. (¬4) رواه البخاري (6407)، ومسلم (1684)، بإسنادهما إلى الزُّهْرِيّ به. (¬5) رواه عبد الرزاق 10/ 242، وابن أبي شيبة 10/ 27، بإسنادهما إلى يحيى بن أبي كثير عن ابن عمر به.

الذي يُلْزَمُ مِنْ مَثَّلَ بِعَبْدِه بِدَعْوَاهُ أنَّهُ سَرَقَ، فَلِهَذا لا يَقْطَعْهُ إلَّا الإمَامُ. قِيلَ لإبنِ القَاسِمِ: أَرَأَيْتَ مَنْ سَرَقَ مَا فِيهِ القَطْعُ فَلَمْ يُرْفَعْ إلى الإمَامِ حَتَّى وَرِثَ تِلْكَ السَّرِقَةَ، أو وُهِبتْ لَهُ، أَيَدْرَأُ عَنْهُ الإمَامُ الحَدَّ؟ فَقَالَ: إذَا رُفِع أَمْرُهُ إلى الإمَامِ قَطَعَهُ، ولَمْ يُنْظَرْ إلى قَوْلِ صَاحِبِ السَّرِقَةِ إذا قالَ: إنّي وَهَبْتُهَا لَهُ، كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في رِدَاءِ صَفْوَانَ بنِ أُمَيّهَ الذِي وَهَبَهُ للسَّارِقِ بَعْدَمَا أُتِي بهِ إلى النبيِّ في - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الهِبَةُ القَطْعَ، وقالَ: "هَلاَّ وَهَبْتَهُ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِينِي بهِ". [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: الذِي يُوجِبُ القَطْعَ عَلَى السَّارِقِ هُوَ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ حِرْزٍ، وأنْ يَأْتِي مُسْتَسِرًّا، وأَنْ يَسْرِقَ مَا قِيمَتُهُ رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وإذا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ ثُمَّ وُجِدَتِ السَّرِقَةُ مَعَهُ رُدَّتْ إلى صَاحِبهَا، فإنْ لَمْ تُوجَدْ مَعَهُ وكَانَ عَدِيْمَا لَمْ يُتْبَعْ بِهَا دَيْنًا، لأَنَّهُ قَدْ أُخِذَتْ يَدُهُ عِوَضًا مِنَ السَّرِقَةِ، وإنَّمَا جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَزَاءَهُ قَطْعَ يَدِه، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَازَى بأَكْثَرَ مِمَّا جَازَاهُ اللهُ بهِ، فَيتْبَعُ بِقِيمَةِ السَّرِقةِ في عَدَمِهِ، ومَنْ أَلْزَمَهُ غَرِمَهَا في عَدَمِهِ عَاقَبَهُ عُقُوبَتَيْنِ، وأَمَّا إذا كَانَ مَليئًا فإنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بَعْدَ قَطْعِهِ قِيمَةُ السَّرِقَةِ إنْ كَانَتْ عَرْضًا لا تُوزَنُ ولَا تُؤْكَلُ، أَو مِثْلُهَا مِنَ المكِيلِ والمَوْزُونِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وَفَّرَ مَالَهُ بِتِلْكَ السَّرِقَةِ التّي انتفَعَ بِهَا وأَدْخَلَهَا في [مَصَالِحِه] (¬1). قالَ ابنُ القَاسِمِ: تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ اليُمْنَى ثُمَّ تُكْوَى بالنَّارِ، ثُمَّ يُخْلَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ ثَانِيَة قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ ثَالِثَةً قُطِعَتْ يَدُهُ اليُسْرَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ رَابِعَة قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُمْنَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ ضُرِبَ وَسُجِنَ. قالَ عِيسَى: وإذا أَخْطَأ بهِ في أَوَّلِ مَرَّةٍ أُخِذَ بالسَّرِقَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ اليُسْرَى مَكَانَ اليُمْنَى لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ القَطْعُ مَرَّة ثَانِيَة فتقْطَعُ يَدُهُ اليُمْنَى، وتُجْزِيءُ بِقَطْعِ يَدِهِ اليُسْرَى عَنِ اليُمْنَى، فإنْ سَرَقَ ثَانِيَة قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُمْنَى، ولَا تُقْطَعْ رِجْلُهُ اليُسْرَى، لِئَلَّا تَذْهَبَ جَوَارِحُهُ مِنْ شِق واحد فَيَبْقَى بِشِق وَاحِدٍ، وإذا قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ كَانَ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: مصالحته، وما وضعته هو المناسب للسياق.

القَطْعُ لِكُلِّ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا قَبْلَ القَطْعِ، وُيغْرَمُ قِيمَةُ كُلِّ مَالٍ سُرِقَ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ. في قِصَّةِ الأَقْطَعِ الذِي آوَاهُ أَبو بَكْرٍ مِنَ الفِقْهِ: إضَافَةُ أَهْلِ البَلَاءِ، وأَنَّهُ مَنْ رُأيَا بِخَيْرٍ ظُنَّ بهِ خَيْرٌ. * ولَيْسَ العَمَلُ عَلَى قَوْلِ أَبي بَكْرٍ: (وأَبيكَ، مَا لَيْلُكَ بلَيْلِ سَارِقٍ) [3089] , لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بآبَائِكُمْ" (¬1)، وذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِشَيءٍ فَإنَّمَا يُرِيدُ تَعْظِيمَهُ، ولَا يُعَظَّمُ غَيْرُ اللهِ (¬2)، وفِيهِ: أَنَّ الضَّيْفَ إذَا سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ قُطِعَ. قالَ أَبو عُمَرَ: إنَّمَا أَوجَبَ عَلَيْهِ غُرْمَ السَّرِقَةِ إذا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ أَجْلِ أنَّهُ وَفَّرَ مَالَهُ بِقِيمَةِ السَّرِقَةِ الَّتي أَتْلَفَهَا. قالَ مَالِكٌ: المُحَارِبُ: هُوَ الذِي يَخْرُجُ قَاطِعًا للطَرِيقِ مُكَابِرًا عَلَى أَخْذِ الأَمْوَالِ عَلَى وَجْهِ الفَسَادِ في الأَرْضِ. والمُغْتَالُ: هُوَ الذِي يَخْدَع الرَّجُلَ أَو الصَبِيَّ حَتى يَأْمْنَهُ فَيُدْخِلُهُ بَيْتًا ثُمَّ يَقْتُلُهُ عَلَى مَالِهِ ويَأخُذُه، فَهَذِه الغِيلَةُ الَّتي لا عَفوٌ فِيهَا, ولَا بدَّ مَنْ قَتْلِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وإنْ عَفَا عَنْهُ وَليُّ المَقْتُولِ. وذُو النَّائِرَةِ (¬3): هُوَ الرَّجُلُ الذِي يَأْتِي إلى الرَّجُلِ في حَرِيْمِه فَيَقْتُلُهُ علَى عَدَاوَة بَيْنَهُمَا، ويَذْهَبُ ولَا يَأْخُذُ مَالًا، وفِي مِثْلِ هَذا يَكُونُ القَتْلُ أَو العَفْوُ إلى أَوْلِياءِ المَقْتُولِ، فإِنْ عَفَوا عَنِ القَاتِلِ جَازَ عَفْوَهُمْ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: الذِي رَأَيْتُ مَالِكًا يَنْحُو إليهِ في المُحَارِبِينَ أَنَّهُ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ وقَدْ قتَلَ فَإنَّهُ يُقْتَلُ، ومَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ وقَدْ قَطَعَ الطَّرِيقَ ولَمْ تَطُلْ إخَافتهُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5757)، ومسلم (1645) من حديث عمر بن الخطاب. (¬2) قال الباجي في المنتقى 7/ 166: يحتمل أن يكون أبو بكر قال (وأبيك) على عادة العرب في تخاطبها وتراجعها دون أن يقصد به القسم. (¬3) النائرة: هي الحقد والعداوة، مشتقة من النار، يقال: سعيت في إطفاء النائرة، أي: في تسكين الفتنة، ينظر: اللسان 6/ 4593.

وعِيَاثتهُ فإنَّهُ يُقْطِعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، ومَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَقْطَعَ طَرِيقًا ضُرِبَ ضرْبًا وَجِيعًا، ونُفِيَ إلى بَلْدَة يُسْجَنُ فِيهِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. وقالَ عِيسَى: وَيجُوزُ للإمَامِ قَتْلُ هَذا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ والإجْتِهَادِ ولِيَرْتَدِعَ بِذَلِكَ (¬1) غَيْرُهُ. قالَ عِيسَى: لَيْسَ عِنْدَنا في تَعْزِيرِ الإمَامِ لِمَنْ وَجَبَ تَعْزِيرُهُ بالسَّوْطِ حَدٌّ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ، وذَلِكَ إلى اجْتِهَادِ الإمَامِ، وقدْ كَتَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إلى أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ ألَّا يَزِيدَ في التَعْزِيرِ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَوْطًا (¬2)، ولأَنْ يُخْطِيءُ الإمَامُ في العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَجَاوَزَ في العُقُوبَةِ. قالَ ابنُ القَاسِمِ: مَنْ سَرَقَ عَبْدًا جَاهِلًا لا يَعْرِفُ شَيْئًا، أَو سَرَقَ صَبيًّا صَغِيرًا مِنْ حِرْزِهِ فإنَّهُ يُقْطَعُ، وأَمَّا إذا كَانَ عَبْدًا نَافِذًا في أَمْرِهِ (¬3) فإنَّهُ لا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَهُ، ولَكِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ السُّلْطَانُ الأَدَبَ المُوجِعَ، وكَذَلِكَ يَفْعَلُ بالمُخَنَّثينَ (¬4). قالَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ: (يُقْطَعُ يَدُ النَّبَّاشِ، لأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى المِيّتِ بَيْتَهُ) (¬5)، يَعْنِي: دَخَلَ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ، واسْتَخْرَجَ أَكْفَانَهُ، (¬6) وإنَّمَا قِيلَ للنبَّاشِ مُخْتَفٍ، لأَنَّهُ يَخْتَفِي بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ، وقالَ اللهُ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]، يَعْنِي: أَنَّهَا تَضُمُّ الخَلْقَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عَلَى ظَهْرِهَا، وتَضُمُّهُمْ إذا مَاتُوا وصَاروا في القُبُورِ، فإذا أَخْرَجَ النَبّاشُ الكَفَنَ مِنَ القَبْرِ وبَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا قُطِعَتْ يَدُهُ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رَوَى حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيىَ بنِ سَعِيدٍ، عَنْ ¬

_ (¬1) من هنا تبدأ نسخة (ق) في هذا الموضع. (¬2) في (ق): ثلاثين سوطا، والأثر رواه ابن أبي شيبة 10/ 105 - 106. (¬3) في (ق): أموره. (¬4) جملة (وكذلك يفعل بالمخنثين) لا توجد في (ق). (¬5) رواه أبو داود (4409) من قول حماد بن أبي سليمان معلقًا. (¬6) هنا في الأصل: وقال غيره، ولا توجد هذه الجملة في (ق)، وهذا هو الصحيح مراعاة لسياق الكلام.

مُحَمَّدِ بنِ يَحْيِى بنِ حِبَّانَ: (أنَّ غُلَامًا لِعَمِّه يُقَالُ لَهُ فتيْل، وقِيلَ: فِيلٌ، سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ، فَغَرسَهُ في حَائِطِ سَيِّدِه) (¬1)، ثُمَّ ذَكَرَ الحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ في المُوَطَّأ [3104]. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬2): في هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّهُ لا قَطْعَ في الثِّمَارِ المَغْرُوسَةِ إذا سُرِقَتْ مِنْ- حِرْزٍ كَثُرتْ قِيمَتُهَا أَو قَلَّتْ، لِقَوْلهِ: "لا قَطعَ في [ثَمَرٍ ولا كثَرٍ] " (¬3). قالَ أَبو عُمَرَ: وإنْ كَثُرَ ثَمَنُهَا, ولَكِنْ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ مِنَ العُقُوبَةِ. وفِيهِ: بَيَانُ [العَالِمِ] (¬4) للإمَامِ إذا أَرادَ أنْ يَقْضِي بِخِلَافِ السُّنَّةِ. وفِيهِ: رُجُوعُ الإمَامِ إلى قَوْلِ العَالِمِ إذا عَلِمَ أَنَّ الحَقَّ في قَوْلهِ، كَمَا رَجَعَ مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ إلى مَا أخْبَرَهُ بهِ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قالَ: "لا قَطْعَ في ثَمَرٍ ولَا كَثَرٍ"، يَعْنِي: لا تُقْطَعُ يَدُ مَنْ سَرَقَ مِنَ الثِّمَارِ المُعَلَّقَةِ في رُؤُوسِ الشَّجَرِ، ولَا عَلَى مَنْ قَلَعَ كَثَرًا مِنْ حَائِطِ رَجُلٍ فَغَرسَهُ في حَائِطِه، والكَثَرُ: الجُمَّارُ، وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ، وجَمِيعُ نُقُولِ الثِّمَارِ، فَمَنْ سَرَقَها مِنْ حِرْزٍ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ، وعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِقِيمَةِ مَا سَرَقَ، وُيؤَدِّبُهُ السُّلْطَانُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ مِنَ الأَدَبِ. وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سَحْنُونَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَقَ شَجَرَةً أو نَخْلَةً مِنْ دَارِ رَجُلٍ فإنَّهُ يُقْطَعُ. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن 8/ 362، وابن عبد البر في التمهيد 23/ 306، بإسنادهما إلى حماد بن زيد، ورواه ابن ماجه (2593) من طريق سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري به. والودي. بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد التحتية - النخل الصغير. (¬2) في الأصل، و (ق): ع، وقد أبدلته بذكر الإسم صريحًا، كما هي عادته في مواضع كثيرة. (¬3) جاء في الأصل: (كثير الثمار)، وهو خطأ، والصواب ما ذكرته كما في رواية الموطأ. (¬4) من (ق)، وفي الأصل: العلم، وهو خطأ.

وقال لَنا أَبو عُمَرَ: لا قَطْعَ عَلَيْهِ، واحْتَجَّ في ذَلِكَ بِحَدِيثِ رَافِعِ بنِ خَدِيج. وحدَّثنا أَبو عِيسَى يحيى بنُ عَبْدِ اللهِ، قال: حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ يحيى، عَنْ أَبيهِ يحيى بنِ يحيى، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، عَنِ ابنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرُوِ بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدّهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فقَالَ: "مَنْ أَصَابَ [مِنْهُ] (¬1) مِنْ ذِي حَاجَةٍ فَلَا شَيءَ عَلَيْهِ، ومَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ بِشَيءٍ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (¬2) والعُقُوبَةُ، ومَنْ سَرَقَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيهِ الجَرِينُ فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَمَنَ المِجَنِّ فَعَلَيْهِ القَطْعُ" (¬3). [قال] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لا قَطْعَ في الثِّمَارِ المُعَلَّقَةِ في رُؤُوسِ الشَّجَرِ، وإنَّ للمُضْطَرّ أَنْ يَأْكُلَ [مِنْهَا] (¬4) مَا يَسُدُّ جُوعَهُ وإنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ في ذَلِكَ صَاحِبُهَا, ولَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْهَا شَيْئًا، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّدَ مِنَ المَيْتَةِ في قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ، فإذَا أَخْرَجَ مَعَهُ شَيْئَا مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ الحَائِطِ الذِي أَكَلَ مِنْهُ صَارَ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيا، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا خَرَجَ بهِ مِنْ ذَلِكَ، وعَلَيْهِ العُقُوبَةُ لِتَعَدّيهِ في إخْرَاجهِ، فإذَا وَضَعَ الثمَرَ في الجَرِينِ صَارَ مَحْرُوزًا، فَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ مَا فِيهِ القَطَعُ قُطِعَ، لأَنَّهُ [قَدْ] (¬5) خَرَجَ عَنْ مَعْنَى الثَّمَرِ التّي جَاءَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ فَلِهَذا يُقْطَعُ. * [قال] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّمَا قَالَ مَالِكٌ: أنَّ إقْرَارَ العَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا تَقَعُ بهِ العُقُوبَةُ عَلَيهِ في جَسَدِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ [3108] مِنْ جِهَةِ أنَّهُ لا يُتَهَّمُ في أَنْ يُوقعَ عَلَى نَفْسِهِ عُقُوبَةً. فإن اعْتَرَفَ بمَا يَسْتَضِرُّ بهِ سَيّدُهُ مِنْ غُرْمٍ يَغْرِمُهُ لَمْ يَجْزِ اعْتِرَافُهُ بِذَلِكَ، لأَنَّهُ يُتَهَّمُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا يُرِيدُ باعْتِرَافِهِ أنْ يَخْرُجَ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِه طَمَعًا مِنْهُ أنْ يُسْلِمَهُ السَّيّدُ في الجِنَايةِ التّي أَقَرَّ بِهَا، فَلِذَلِكَ لا يَجُوزُ إقْرَارُهُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ للمُقِرّ لَهُ ¬

_ (¬1) زيادة من (ق). (¬2) في (ق): غرامته. (¬3) رواه أبو داود (4390)، والنسائي (4958)، بإسناده إلى الليث بن سعد به. (¬4) من (ق)، وفي الأصل: منه. (¬5) زيادة من (ق).

بِشَاهِدَيْنِ، أو بِشَاهِدٍ ويَمِينٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَاهِدٌ ويَمِينٌ، ثُمَّ يَكُونُ السَّيِّدُ بَعْدَ ذَلِكَ بالخَيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَهُ بِقِيمَةِ جِنَايَتِهِ، وإنْ شَاءَ أَسْلَمَهُ فِيهَا ويَكُونُ عَبْدًا للمُجْنَى عَلَيْهِ. * قالَ مَالِكٌ: لا قَطْعَ عَلَى المُسْتَعِيرِ [3110]. سَأَلْتُ أبا مُحَمَّدٍ عَنِ الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ مَعْمَر: "أَنَّ امْرَأةً اسْتَعَارَتْ حُلْيًا ثُمَّ جَحَدَتْهُ فأمَرَ بِهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا" (¬1)، فقالَ لِي: انْفَرَدَ بِهَذا الحَدِيثِ مَعْمَر، لَم يَرْوهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وقدْ أَدْخَلَ البخاري في كِتَابهِ حَدِيثًا أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا قَطْعَ عَلَى المُسْتَعِيرِ" (¬2)، وبِهَذا قَالَ مَالِكٌ. * * * تَمَّ الكِتَابُ بِحَمْدِ اللهِ، يَتْلُوهُ كِتَابُ الأَشْرِبَةِ إنْ شَاءَ اللهُ * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4374) من طريق معمر عن الزُّهْرِيّ عن عروة عن عائشة به. (¬2) لم أجده في صحيح البخاري ولم ينسبه أحدٌ إليه، ولا أرى إلّا أن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهم في نسبته إلى الصحيح، وقد بعثت عن هذا الحديث بهذا اللفظ فلم أجده.

تفسير كتاب الأشربة، والحد في الخمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحمدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كتابِ الأَشْرِبةِ، والحَدِّ فِي الخَمْرِ * قَؤلُ عُمَرَ بن الخَطَّابِ: (إنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَزَعَمَ أَنّهُ شَرِبَ الطِّلَاءَ) [3116] , وذَكَرَ الحَدِيثَ إلى آخِرِه، فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: أَنَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابًا مُسْكِرًا أَنَّهُ يُحَدُّ إذا شَهِدَ شَاهِدَانِ من [المُسْلِمينَ] (¬1) يَعْرِفَانِ رَائِحَةَ الخَمْرِ أَنَّهُ شَرِبَ شَرَابًا مُسْكِرًا. وأَن الإمَامَ يُقِيمُ الحُدُودَ عَلَى القَرِيبِ والبَعِيدِ. وقَدْ ثَبَتَ أنَّ مَا أَسكَرَ كَثيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ جَمِيعِ الأَشْرِبةِ، والخَمْرُ تَكُونُ مِنْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ العَسَلِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، وإنَّمَا حُرِّمَتْ الخَمْرُ [لأَنَّهَا تُوَلِّدُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ، وتَصُدُّ عَنْ ذَكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلَاةِ] (¬2) وشَرَابُهُمْ يَومِيِّذٍ فَضِيخُ التَّمْرِ، وقَدْ بيَّنَ اللهُ في كِتَابهِ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا فقالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. قالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: وأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى انْتِقَالِ اسْمِ العَصِيرِ إلى اسْمِ الخَمْرِ بالشِّدَّةِ الحَادِثةِ في العَصِيرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إنَّ الشِّدَّةَ عِلَّةَ (¬3) التَّحْرِيمِ، فَكُلَّمَا ¬

_ (¬1) وقع في الأصل (المسلمان) وهو خطأ، وفي (ق): شاهدان مسلمان. (¬2) الزيادة من (ق). (¬3) في (ق) بدلًا من كلمة علة: أصل.

كَانَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ مَوْجُودَةً مِنْ جَمِيعِ الأَشْرِبةِ وَجَبَ لَهُ حُكْمُ الخَمْرِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬1): جَعَلَ عُمَرُ مَسْأَلةَ إقَامَةِ الحَدِّ في الخَمْرِ مَسْأَلةَ شُورَى، وأَخَذَ في ذَلِكَ بِقَوْلِ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ [- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -] (¬2)، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ (¬3) أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -[3117] , ولَمْ يَثْبَتْ فِيهِ حَدّ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا أَنَّهُ جَلَدَ فِيهِ بالجَرِيدِ والنِّعَالِ، وجَلَدَ فِيهِ أَبو بَكْرٍ [- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -] (¬4) أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ (¬5) في أَيَّامِ عُمَرَ عَلَى جَلْدِ ثَمَانِينَ سَوْطًا. * قالَ ابنُ القَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: يُنْبَذُ في الظُّرُوفِ كُلِّهَا إلَّا الدُّبَاءَ والمُزَفَّتَ، لأَنَّهُ [ثَبَتَ] (¬6) نَهْيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإنْتِبَاذِ فِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، وأَبي هُرَيْرَةَ [3122 و 3123] (¬7). قالَ عِيسَى: لا يُنتبَذُ البُسْرُ والتَّمْرُ، ولا التَّمْرُ والزَّبِيبُ جَمِيعًا. قالَ: ولَا يُخْلَطُ المُعَسَّلُ والسّكُرْكَةُ، والسّكُرْكَةُ شَرَابٌ يُعْمَلُ مِنَ القَمْحِ (¬8). قالَ: ولَا بَأْسَ أَنْ يُخْلَطَ العَسَلُ واللَّبَنُ. قالَ: ولَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ العَسَلُ في النَّبِيسِ (¬9)، لأَنَّهُمَا خَلِيطَانِ. ¬

_ (¬1) وفي الأصل و (ق): ع. (¬2) من (ق). (¬3) في (ق): ومن وافقه عليه من الصحابة - رضي الله عنهم -. (¬4) من (ق). (¬5) في (ق) ثم أجمعوا. (¬6) من (ق). (¬7) ينظر قول مالك في المدونة 11/ 106. (¬8) السكركة -بضم السين والكاف وسكون الراء- نوع من الشراب يتخذ من الذُّرة يصنعه أهل الحبشة خاصة، ويسمى أيضًا الغبيراء، ينظر: مواهب الجليل 3/ 233 واللسان 3/ 2049. (¬9) لم أعرف هذا الشراب ولم أجده إلا في كتاب النوادر والزيادات 14/ 289 قال: عن ابن وهب سئل عن النبيس يجعل فيها العسل هل هو من الخليطين؟ قال: لا بأس به، والنبيس مثل الماء.

قالَ ابنُ مُزَيْنٍ: رَخَّصَ أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ في شَرَابِ النَّبَابِيِسِ. قالَ عِيسَى: ولَا يُخْلَطُ نَبيذُ زَبِيبٍ ونَبيذُ تَمْرٍ ثُمَّ يُشْرَبَانِ وإنْ لَمْ يُسْكِرا، وقَدْ كَانَ ابنُ عُمَرَ يَنْبُذَ النَّبيِذَ، فَيَنْظُرُ إلى التَمْرَةِ بَعْضُهَا بُسْرَةٌ وبَعْضُهَا رُطْبَةٌ فَيَقْطَعُهَا، ولَا يَنْبذْهَا كُلُّهَا، كَرَاهِيةَ أَنْ يُنْبَذَ البُسْرَ والرُّطَبَ جَمِيعًا، لِنَهْى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الخَلِيطَيْنِ في الإنْتِبَاذِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يُهَيِّجُ بَعْضًا. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: حَدِيثُ عَائِشَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ البِتْعِ، فقالَ: "كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" [3128]. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وقالَ فِيهِ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: أَنَا أَقِفُ عِنْدَ هَذا الحَدِيثِ، والبِتْعُ: شَرَابُ العَسَلِ، وفِيهِ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وقَدْ رَدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - راوِيةَ الخَمْرِ الَّتي أُهْدِيتْ إليهِ، وقالَ: "إنَّ الذي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا" (¬1). قالَ عِيسَى (¬2): شَرَابُ الفَضِيخِ هُوَ: أَنْ يُؤْخَذَ البُسْرُ فَيُهَشَّمُ ويُصَبُّ عَلَيْهِ المَاءُ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَطِيبَ ويُشْرَبَ، ومَنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَحْدُثُ فِيهِ الشِّدَّةُ صَارَ حَرَامًا. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَبَاحَ مَالِكٌ الانْتِفَاعَ بأَوَانِي الخَمْرِ بَعْدَ أَنْ تُغْسَلَ مَا لَمْ تَكُنْ زِقَاقًا (¬3)، ولَمْ يَأْخُذْ [مَالِكٌ] (¬4) في ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبي طَلْحَةَ لأَنسِ بنِ مالك حِينَ قَالَ لَهُ: (قُمْ إلى هَذِه الجِرَارِ فَاكسِرْهَا) [3133] , وأَما الزِّقَاقُ فتَدْخُلُهَا نَجَاسَةُ الخَمْرِ، فَلَا يُنتفعُ بِهَا لأَنَّهَا تُفْسُدُ كُلَّمَا جُعِلَ فِيهَا. * قَوْلُ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ [لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ حِينَ طَبَخَ لَهُ الشَّرَابَ، فقَالَ فِيهِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1578)، من حديث ابن عباس. (¬2) هنا في (ق): وحرمت الخمر وشرابهم يومئذ فضيخ الخمر. (¬3) الزقاق، جمع زق، وهو: وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف للشراب وغيره، ينظر: المعجم الوسيط 1/ 396. (¬4) من (ق).

عُمَرُ: (مَا أَرَى بهَذا بَأْسًا)، فقَالَ عُبَادَةُ] (¬1): (أَحْلَلْتَهَا والله يا أَميرَ المُؤْمِنِينَ) [3134] , إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ [عُبَادَةُ] (¬2) مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اتَّقَى أَلَّا يُبَالِغَ في طَبْخِهَا، فَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا فتَصِيرُ خَمْرًا، فَلَمَّا فَهمَ عُمَرُ مَعْنَى قَوْلِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قالَ: (اللَّهُمَّ إني لا أَحِلُّ لَهُمْ شَيْئًا حَرَّمْتَهُ عَلَيْهِمْ، ولَا أُحْرِّمُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحْلَلْتَهُ لَهُمْ)، في هَذا مِنَ الفَقْهِ: أَنْ يَتَبَرَّأُ العَالِمُ مِنْ قَوْلَةٍ يَقُولُهَا إذا اتَّقَى فِيهَا فَسَادَ النَّاسِ، وكَانَ إمَامًا يُقْتَدَى بهِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنيا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ" [3132] فَسَّرَهُ بَعْضُ الفُقَهَاءِ فقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْسَاهَا في الجَنَّةِ إذا دَخَلَها فَلَا تَجْرِي لَهُ عَلَى بَالٍ، كَمَا قَدْ يَنْظُرُ إلى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ في دَرَجَةٍ عَالِيةٍ فَلَا يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا، والجَنَةُ دَرَجَاتٌ ومَنَازِلُ، تُدْخَلُ بِرَحْمَةِ اللهِ، وتُتَبَوَّأُ مَنَازِلُهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِ العِبَادِ (¬3). وقِيلَ أَيْضًا: أنَّ مَعْنَى هَذا الحَدِيثِ [مَعْنَى] (¬4) الوَعِيدِ، وأَنَّهُ يُحْرِمُهَا في وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، ولَوْ كَانَ يُحْرَمُهَا أَبَدًا في الجَنَّةِ لَكَانَتْ عُقُوبَةَ شُرْبِ الخَمْرِ في الدّنيا تتبَعُهُ في الجَنَّةِ، وكُلُّ مَنْ دَخَلَ الجَتةَ فَقَدْ غَفَرَ اللهُ [جلَّ وعزَّ] (¬5) ذُنُوبَهُ. * * * تَمَّ الكِتَابُ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَتْلُوهُ كِتَابُ الجَامِعِ إنْ شَاءَ اللهُ * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) من (ق). (¬3) جملة (والجنة درجات ... إلى آخرها) لا توجد في (ق). (¬4) من (ق). (¬5) من (ق).

تفسير كتاب الجامع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، وعلى آلهِ وسَلَّم تَسْلِيمَا تَفْسِيرُ كِتَابِ الجَامِعِ * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ إني أَدْعُوكَ لِلْمَدِينهِ بمِثْلِ مَا دَعَاكَ بهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ ومثْلَهُ مَعَهُ" [3303] , فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ المَدِينَةِ عَلَىَ مَكَّةَ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَهْلِ المَدِينَةِ بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ، ودُعَاءُ إبْرَاهِيمُ (¬1) لِمَكَّةَ أنْ يَرْزُقُهَمْ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ] (¬2) مِنَ الثَّمَرَاتِ، وأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهِمْ، يَعْنِي: يَجْلِبُونَ إليهَا الأَقْوَاتَ، ودَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَهْلِ المَدِينَةِ أَنْ يُبَارِكَ لَهُمْ في طَعَامِهِمْ المَكِيلَ بالصَّاعِ والمُدّ -الذِي بهِ قِوَامُ الأَبْدَانِ المُفْتَرَضِ عَلَيْهَا الطَاعَاتِ- بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بهِ إبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - لأَهْلِ مَكَّةَ. وسَمَّى اللهُ تبَارَكَ وتَعَالَى المَدِينَةَ دَارَ الإيمَانِ، فقالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] , يَعْنِي بهِ الأَنْصَارَ سُكَّانَ المَدِينَةِ، ورَوَى سَعِيدُ بنُ أَبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المَدِينَةُ قُبَّةُ الإسْلَامِ، ودَارُ الإيمَانِ، وأَرْضُ الهِجْرَةِ، ومُبْتَدأُ الحَلَالِ والحَرَامِ" (¬3). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: واخْتَارَ اللهُ [جَلَّ وعَزَّ] المَدِينَةَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمَحْيَاهُ ¬

_ (¬1) في (ق): والذي دعا به إبراهيم لأهل مكة. (¬2) من (ق)، وكل ما سيأتي محصورا بين معقوفتين فهو زيادة من هذه النسخة. (¬3) رواه الطبراني في الأوسط 5/ 380 بإسناده إلى سعيد المقبري به، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 298: وفيه عيسى بن ميناء قالون وحديثه حسن، وبقية رجال ثقات.

ومَمَاتَهُ، وجَعَلَهَا دَارَ الهِجْرَةِ إليهِ، وَهِيَ مَحْفُوفَةٌ بالشُّهَدَاءِ، وعَلَى أَنْقَابِهَا مَلَائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، ولَا الدَّجَّالُ، وبِهَا رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، ولَوْ عَلِمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بُقْعَةً أَفْضَلَ مِنْهَا مَا دَعَا الله [جَلَّ وَعَزَّ] أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا. وقالَ مَالِكٌ [-رَحِمَهُ اللهُ-]: افْتُتِحَتِ القُرَى بالسَّيْفِ حَتَّى مَكَّةَ، وافْتُتِحَتِ المَدِينَةُ بالقُرْآنِ (¬1). * قَوْلُ ابنِ عُمَرَ لِمَوْلَاتهِ حِينَ شَاوَرَتْهُ في الخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ فَقَالَ لَهَا: (اقْعُدِي لُكَعُ) [3305] , يَقُولُ: اقْعُدِي يا دَانِيةَ الحَالِ، ثُمَّ أَعْلَمَهَا بِمَا للصَّابِرِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى لأَوَاءِ المَدِينَةِ، واللأَوْاءُ: هُوَ الجُوعُ ونَكَدُ الكَسْبِ (¬2). وفِي هَذا الحَدِيثِ بَيَان لِفَضْلِ المَدِينَةِ عَلَى سَائِرِ البُلْدَانِ كُلِّهَا، وعَلَى المُسْلِمِ نَصِيحَةُ المُسْلِمِ إذا شَاوَرَهُ، وقَدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" (¬3). * قَوْلُ الأَعْرَابِيِّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (أَقِلْنِي بَيْعَتِي) [3306] , يَعْنِي: أَقِلْنِي مَا بَايَعْتُكَ عَلَيْهِ مِنَ البَقَاءِ مَعَكَ بالمَدِينَةِ وتَرْكِي وَطَنِي، فأَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ [عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ المَدِينَةِ] (¬4) عَاصيًا للهِ [جَلَّ وَعَزَّ] ولِرَسُولهِ [- صلى الله عليه وسلم -] وتَرَكَ هِجْرَتِهِ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ: "إنَّمَا المَدِينهُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَها، ويَنْصَعُ طِيبُهَا"، يَعْنِي: تَنْفِي مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ، ويَبْقَى فِيهَا الطَّيِّبُونَ النَّاصِعُونَ، والنَّاصِعُ: هُوَ الشَّيءُ الصَّافِي النَّقِيُّ اللَّوْنِ. قالَ أَبو عُمَرَ: خُرُوجُ ذَلِكَ الأَعْرَابِيِّ مِنَ المَدِينَةِ (¬5) بَعْدَ هِجْرَتهِ إليهَا شَبيهٌ بالرِّدَّةِ، وذَلِكَ أَنَّ بَيْعَةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلنَاسِ في أَوَّلِ قُدُومِهِ إلى المَدِينَةِ كَانَتْ عَلَى أَنْ لا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْهَا، فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا كَانَ عَاصيًا للهِ وَرَسُولهِ. ¬

_ (¬1) نقله ابن أبي زيد في الجامع ص 167. (¬2) في (ق): وشدة الكسب. (¬3) رواه مسلم (55) من حديث تميم بن أوس الداري. (¬4) من (ق). (¬5) إلى هنا انتهت نسخة (ق) في هذا الموضع.

وقالَ غَيْرُهُ: كَانَتِ الهِجْرَةُ في أَوَّلِ قُدُومِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المَدِينَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ في بَلَدِهِ فَرْضًا، فَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلى المَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ مُوَالَاةٌ، وذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] , فَبَقِيَ النَّاسُ عَلَى هَذا إلى عَامِ الفَتْحِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" (¬1)، يَعْنِي: إذَا دُعِيتُمْ- إلى الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ فَانْفِرُوا إليه مِنْ أَوْطَانِكُمْ، فَارْتَفَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الهِجْرَةُ إلى المَدِينَةِ، وبَقِيَ فَرْضُ الجِهَادِ عَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ إلى يَوْمِنَا هَذَا. * قَوْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى" [3307] يَعْنِي: يَفْتَتِحَ أَهْلُهَا القُرَى، فأَقَامَ القَرْيَةَ مَقَامَ الأَهْلِ. وقَوْلُهُ: "يَقُولُونَ: يَثْرِبُ"، يَعْنِي: أَنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَهَا يَثْرِبَ، وَإنَّمَا اسْمُهَا المَدِينَةُ، وسُمِّيتْ في القُرْآنِ يَثْرِبَ عَلَى وَجْهِ الحِكَايةِ، لِتَسْمِيةِ المُشْرِكِينَ لَهَا يَثْرِبَ قَبْلَ أَنْ يُسَمِّيهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- دَارَ الإيْمَانِ. وقَوْلُهُ: "يَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ"، يَعْنِي: يَحْمِلُونَ بأَهْلِيهِم، ويُوَلُونَ المَدِينَةَ، ويُزَيِّنُونَ لَهُم الخُرُوجَ عَنْهَا إلى غَيْرِهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] , يَعْنِي: تَسَيَّرَتِ الجِبَالُ تَسْيِرًا. وقَوْلُهُ: "والمَدِينهُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ"، يَعْنِي: صَبْرَهُمْ في المَدِينَةِ مَعَ شِدَّةِ الحَالِ خَيْر لَهُمْ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَنْهَا إلى غَيْرِهَا. * وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَتُتْرَكَنَّ المَدِينهُ عَلَى أَحْسَنِ مَا كانَتْ، حَتَّى يَدْخُلَ الكَلْبُ أَو الذِّئْبُ فَيُغَذِّي عَلَى بَعْضِ سَوَارِي المَسْجِدِ أَو عَلَى المِنْبَرِ" [3310] , وهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبْقَى بِمَسْجِدِه حَتَّى تَبْقَى المَدِينَةُ خَالِيةً لا أَحَدَ فِيهَا يَمْنَعُ الكَلبَ أَو الذِّئْبَ مِنْ أنْ يَبُولَ عَلَى المِنْبَرِ، ويُقَالُ: غَدَّتِ المَرْأةُ وَلَدَهَا - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2631)، ومسلم (1353)، من حديث ابن عباس.

مُشَدَّدَةً -إذا بَالَتْهُ، وغَدَتْهُ -مُخَفَّفَةً- إذا رَبَّتْهُ، وإنمَا يَقُولُ النَّاسُ بالمَدِينَةِ في آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ شِدَّةِ الحَالِ وتَغَيِّرِ الزَّمَانِ. *وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ" [3313] , يَعْنِي: هَذا جَبَلٌ يُحِبُّنَا أَهْلُهُ، وَهُم الأَنْصَارُ السَّاكِنُونُ بِجَبَلِ أُحُدٍ، وكَانُوا يُحِبُّونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويُحِبُّهُمْ هُوَ، وقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ المَحَبَّةُ للجَبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا يَكُونُ مِنْهُ التَّسْبِيحُ، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ,فَكَمَا يُسَبِّحُ الجَبَلُ كَذَلِكَ تَكُونُ لَهُ مَحَبّةٌ، وقَدْ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِجَبَلٍ أُحُدٍ إذْ تَحَرَّكَ بهِ وبأَصْحَابهِ: "اسْكُنْ أُحُدٌ، فإنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وصِدِّيقٌ، وشَهِيدٌ" (¬1)، وكَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأَبُو بَكْرِ وعُمَرَ، فَخَاطَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الجَبَلَ مُخَاطَبَةَ مَنْ يَعْقِلُ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ مَحَبَّةٌ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ آوُوهُ، ونَصَرُوهُ، وقَامُوا بالإسْلَامِ. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في المَدِينَةِ: "مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ" [3314] , قالَ ابنُ نَافِع: الَّلابِتَانِ هُمَا الحَرَّتَانِ، إحْدَاهُمَا الَّتي يَنْزِلُ بِهَا الجَامعُ إذا رَجَعُوا مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ بِغَرْبِيِّ المَدِينَةِ، والأخْرَى مِمَّا تَلِيهَا مِنْ شَرْقِيِّ المَدِينةِ، فَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الحَرَّتَانِ حَرَامٌ أَنْ يُصَادَ فِيهَا طَيْرًا وغَيْرَهُ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: وَحَرَّةٌ أُخْرَى مِمَّا تَلِي القِبْلَةَ مِنَ المَدِينَةِ، وحَرَّةٌ رَابِعَةٌ مِنْ جِهَةِ الجَوْفِ (¬2)، فَمَا بَيْنَ هَذِه الحِرَارِ كُلِّهَا في الدُّوُرِ مُحَرَّمٌ أَنْ يُصَادَ فِيهَا، ومَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَثِمَ، ولَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا صَادَهُ، كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ في حَرِمِ مَكَّةَ (¬3). * وقالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَجْعَلْ في صَيْدِ المَدِينَةِ جَزَاءً عَلَى مَنْ صَادَهُ لِعِظَمِ شَأْنِهِ، كَمَا لَمْ يَجْعَلْ في اليَمِينِ الغَمُوسِ كَفَّارَةً عَلَى مَنْ حَلَفَ بِهَا لِعِظَمِ إثْمِهَا، فَكَذَلِكَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3496) من حديث أنس، وفي آخره: (وشهيدان) وهما عمر وعثمان. (¬2) كذا جاء مثله في التمهيد 6/ 313، وفي الإستذكار 7/ 50: مما يلي دبر المدينة. (¬3) نقل كلام ابن نافع: ابن عبد البر في التمهيد، وفي الإستذكار في الموضع المشار إليه آنفًا.

لَمْ يَجْعَلْ عَلَى مَنْ صَادَهُ في حَرَمِ المَدِينَةِ جَزَاءً عَلَى مَنْ صَادَهُ لِعِظَمٍ الإثْمِ في ذَلِكَ، ومَنْ صَادَ في حَرَمِ المَدِينَةِ صَيْدًا لَمْ يَصِحُّ لَهُ مُلْكُهُ، ولَذِلَكَ نزَعَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مِنْ يَدِ شُرَحْبِيلِ بنِ سَعْدٍ النَّهَسَ الذِي كَان صَادَهُ في حَرَمِ المَدِينَةِ [3316] , والنَّهَسُ: طَيْرٌ صَغِيرٌ، فأَخَذَهُ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مِنْ يَدِه وأَطَارَهُ، وهَكَذا يُفْعَلُ أيضًا بِمَنْ صَادَهُ في حَرَمِ مَكَّةَ صَيْدًا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ يَدِه، وُيسَرَّحُ إذْ لا يَسْتَقِرُّ مُلْكُ الصَّائِدِ عَلَيْهِ. * قالَ عِيسَى: مَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ: (كانَ بِلَالٌ إذا أَقْلَعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتُهُ) [3318] , يَعْنِي: كَانَ إذا أَقْلَعَتْ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ صَوْتَهُ بإنْشَادِ الشَّعْرِ. قالَ: (والإذْخِرُ والجَلِيلُ): شَجَرتَانِ طَيِّبَتَانِ تَكُونَانِ بأَوْدِيةِ مَكَّةَ. (وشَامَةٌ وَطَفِيلُ): جَبلَانِ مِنْ جِبَالِ مَكَةَ، فَكَانَ بِلَالٌ يَتَمَنَّى العَوْدَةَ إلى مَكَّةَ، فَدَعَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُحَبِّبَ اللهُ إليهِ المَدِينَةَ وإلى أَصْحَابهِ كَحُبِّهِمْ مَكَّةَ وأَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، وأَنْ يُصَحّحَهَا لَهُمْ مِنَ الوَبَاءِ، وأَنْ يَنْقُلَ حُمَّاهَا إلى أَهْلِ الجُحْفَةِ، وكَانَ أَهْلُ الجُحْفَةِ يَوْمِيِّذٍ كَافِرِينَ، فَدَعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَبْتَلِيهِم بالحُمَّى، وكَانَ دُخُولُ عَائِشَةَ عَلَى بِلَالٍ وعِيَادَتِهَا لَهُ قَبْلَ نزولِ الحِجَابِ. * قالَ الأَخْفَشُ (¬1): أَنْقَابُ المَدِينَةِ هِيَ طُرُقُهَا وفِجَاجُهَا، فَعَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ يَمْنَعُونَ الطَّاعُونَ والدَّجَّالَ مِنْ دُخُولِ المَدِينَةِ [3320] , لِدُعَاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَحِّحَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ البَلَاءِ والآفَاتِ، غَيْرَ أَنَّهَا قَدْ تَبْقَى في آخِرِ الزَّمَانِ خَالِيَةً، ويَذْهَبُ أَهْلُهَا حَتَّى يَدْخُلَ الكَلْبُ فَيَبُولُ في المَسْجِدِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَطَأُ الدَّجَّالُ جَمِيعَ الأَرْضِ حَاشَا المَدِينَةَ لِمَنع المَلَائِكَةِ إيَّاهُ مِنْ دُخُولهَا، وقَدْ يدخلَالدَّجَّالُ مَكَّةَ، ورَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيهَا في مَنَامِهِ حِينَ رَأَى عِيسَى بنَ مَرْيَمَ يَطُوفُ بالبَيْتِ، فَوَصَفَهُ بِصِفَتِهِ كَمَا وَصَفَ الدَّجَّالَ بِصِفَتِهِ حِينَ رَآهُ بِمَكَّةَ. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن عمران بن سلامة البصري المتوفى سنة (250)، وتقدم التعريف به.

* قالَ مَالِكٌ: جَزِيرَةُ العَرَبِ: مَكَةُ، والمَدِينَةُ، واليَمَنُ (¬1). يُفْعَلُ بِمَنْ سَكَنَها مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الإسْلَامِ مِثْلُ مَا فَعَلَ عُمَرُ بأَهْلِ فَدَكَ ونَجْرَانَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ في جَزِيرَةِ العَرَبِ" [3323، 3324]. قالَ عِيسَى: كَرِهَ عُمَرُ بنُ الخطاب لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَيَّاشٍ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ مَكَّةَ عَلَى المَدِينَةِ، فَلِذَلِكَ قالَ لَهُ: (أَنتَ القَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْر مِنَ المَدِينةِ؟)، فقالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَيَّاشٍ: (هِيَ حَرَمُ اللهِ وأَمْنُهُ وفِيهَا بَيْتُهُ)، فَجَاوَبَهُ عَبْدُ اللهِ عَنْ غَيْرِ مَا سَأَلهُ عَنْهُ عُمَرُ مِمَّا لا يُنْكِرُهُ عُمَرُ، وهَذِه حَيْدَةٌ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِ عُمَرَ ، وَلَو أَجَابَهُ عَلَى لَفْظِ سُؤَالهِ فقالَ: هِيَ أَفْضَلُ مِنَ المَدِينَةِ لَضَرَبَهُ عُمَرُ بالدِّرَّةِ، ولَمْ يَشُكُّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في أَنَّ المَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، ولِذَلِكَ تَمَنَّى أَنْ يَمُوتَ فِيهَا ويُدْفَنَ بِهَا, ولِمَا خَصَّها اللهُ بأنْ جَعَلَ فِيهَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، ولِذَلِكَ جَعَلَ فِيهَا قَبْرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَوْضِعِ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيهَا" (¬2)، وهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ علَى فَضْلِ المَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ. *قالَ أَبو عُمَرَ: تَلَقَّى النَّاسُ حَدِيثَ الطَّاعُونِ "إذا سَمِعْتُمْ بهِ بأَرْضٍ فلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهَا، وإذا وَقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" [3329] عَلَى سَبيلِ الرُّخْصَةِ إنْ شَاءُوا خَرَجُوا، وإنْ شَاءُوا لَمْ يَخْرُجُوا إذا لَمْ يُرِيدُوا بِخُرُوجِهِم الفِرَارَ ¬

_ (¬1) نقل قول مالك: ابن عبد البر في التمهيد 1/ 172. وقد اختلف في تحديد جزيرة العرب، ولكن رجح ياقوت الحموي في معجم البلدان 2/ 137 والحميري في الروض المعطار ص 163 بأن لها خمسة أقسام عند العرب في أشعارها وأخبارها: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن، فما كان من جهة جبال السراة فهي تهامة، وصار ما دون جبل السراة الحجاز، ثم تمتد بلاد نجد إلى أرض العراق والسماوة شمالا، وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما ولاها شرقًا العروض، وصار ما والاها من البلاد إلى حضرموت وعمان: اليمن. (¬2) رواه البخاري (2735) عن سهل بن سعد.

مِنَ القَدْرِ، فإذَا أَرَادَ الخَارِجُ مِنْ أَرْضِ الطَاعُونِ بِخُرُوجِهِ الفِرَارُ مِنَ القَدْرِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الخُرُوجُ، لأَنَّهُ يُخَالِفُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُكَذّبُ بالقَدَرِ، لأَنَّهُ يَقُولُ: إن خُرُوجِي يَدْفَعُ عَنِّي مَا نَزَلَ بأَهْلِ هَذِه الأَرْضِ، وأَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْ بِخُرُوجِهِ الفِرَارَ مِنَ الطَّاعُونِ، ويَعْتَقِدُ أنَ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئُهُ فَمُبَاح لَهُ الخُرُوجُ، وكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّاخِلِ في بَلَدِ الطَاعُونِ إذا أَقَرَّ أَنَّ دُخُولَهُ لَيْسَ يَجْلِبُ حَتْفًا لَمْ يَكُنْ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَمُبَاحٌ لَهُ الدُّخُولُ، وهَذا تَأْوِيلُ العُلَمَاءِ في هَذا الحَدِيثِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: (سَرْغُ) الذي انْصَرَفَ مِنْهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ هُوَ مِنْ آخِرِ عَمَلِ الحِجَازِ وأَوَّلِ عَمَلِ الشَّامِ، وذَلِكَ أَنَّةُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِدِمَشْقَ انْصَرَفَ بالنَاسِ، وكَرِهَ أَنْ يَقْدِمَ بَأَصْحَاب رَسُولِ اللهِ أَرْضَ الطَاعُونِ، وانْصَرَفَ بِهِم بَعْدَ أَنْ شَاوَرَ الصَّحَابةَ في ذَلِكَ، وَأَخبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ أَنَّهُ سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إذا سَمِعْتُمْ بهِ بأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيهَا". وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: مُشَاوَرَةُ الإمَامِ عُلَمَاءَ المُسْلِمِينَ فِيمَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتهِ، وأَخْذِه في ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهِ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ، فقالَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] , قالَ أَهْلُ التفْسِيرِ: إنَّمَا أَمَرَ اللهُ بمَشُورَتهِمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ وَحْيٌّ، [وقَالُوا] (¬1): مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الَأَرْضِ أَسَدَّ رَأْيًا مِن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولَكِنْ أَمَرَهُ اللهُ بِمَشُورَتهِمْ لِيَكُونَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابهِ وغَيرِهِمْ مِنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَقَعَ في رِوَايةِ ابنِ المُنْكَدِرِ في هَذا الحَدِيثِ: "وإذَا وَقَعَ بأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" عَلَى مَعْنَى: لا تَخْرُجُوا فَارِّينَ مِنْهُ، وَوَقَعَ في رِوَايةِ أَبي النَّضرِ: "لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا مِنْهُ"، وهَكَذا رَوَاهُ يحيى بنُ يحيى [3330]. ¬

_ (¬1) في الأصل: وقال، وما وضعته هو المناسب للسياق.

قالَ أَبو عمَرَ: ظَاهِرُ هَذِه الرِّوَايةِ يُبِيحُ الخُرُوجَ مِنْ أَرْضِ الطَّاعُونِ وإنْ قَصَدَ الخَارِجُ بِخُرُوجهِ الفِرَارَ مِنْهُ، وهَذا خِلَافُ مَعْنَى قَوْلهِ: "لا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" وَرِوَايةُ ابنِ المُنْكَدِرِ إنَّمَا تُبِيحُ الخُرُوجَ إذا لَمْ يَقْصِد الخَارِجُ بِخُرُوجِهِ الفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللهِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬1): سأَلْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَنْ رِوَايةِ يحيى مِنْ طَرِيقِ أَبي النَّضْرِ: "لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا مِنْهُ"، فَقَالُوا: لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا مِنْهُ إنْ خَرَجْتُمْ، ومَعْنَى هَذِه الرِّوَايةِ: لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا مِنْهُ إنْ خَرَجْتُمْ، وظَاهِرُ هَذِه الرِّوَايةِ تَمْنَعُ مِنَ الخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ الطَاعُونِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَرَوى ابنُ بُكَيْرٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذَكَرَ الحَدِيثَ، وقَالَ في آخِرِه: "إذا وَقَعَ بأَرْضٍ وأَنتمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا مِنْهُ" (¬2). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرِوَايةُ ابنِ بُكَيرٍ في هَذا الحَدِيثِ عَنْ مالكٍ، عَنِ أَبي النَّضْرِ تُوَافِقُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابنُ المُنْكَدِرِ: أنَّ الخُرُوجَ مِنْ أَرْضِ الطَّاعُونِ مُبَاحٌ لِمَنْ أَرَادَ أنْ يَخْرُجَ إنْ لَمْ يَرِدْ بِخُرُوجِهِ الفِرَارَ مِنَ الطَّاعُونِ، وإذَا خَرَجَ فَارًّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: (رُكْبَةُ) [3333] الَّتي أَحَبَّهَا عُمَرُ وفَضَّلَ سُكْنَاهَا عَلَى الشَّامِ هِيَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ والعِرَاقِ في نَاحِيةِ الطَّائِفِ، وأَرَادَ عُمَرُ أَنَّ سَاكِنِيهَا أَطْوَلَ أَعْمَارًا وأَسْلَمَ أَبْدَانًا مِمَّنْ سَكَنَ أَرْضَ الشَّامِ، مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الوَبَاءِ بالشَّامِ، ولَمْ يُرِدْ عُمَرُ أَنَّ (رُكْبَةَ) تَزِيدُ في طُولِ أَعْمَارِ أَهْلِهَا, ولَكِنْ لَمَّا قَدَّرَ اللهُ أَعْمَارَهُمْ طَوِيلَةً سَكَّنَهُمْ في تِلْكَ الأَرْضِ، فأَحَبَّ عُمَرُ في هَذا الحَدِيثِ طُولَ البَقَاءِ في الدُّنيا، والمُعَافَاةَ ¬

_ (¬1) في الأصل رمز الناسخ بعلامة (ع)، وهي اختصار لإسم المصنف، وقد فعلت هذا في مواضع مشابهة تقدمت. (¬2) موطأ ابن بكير، الورقة (181 أ)، نسخة تركيا.

مِنَ الأَمْرَاضِ، ثُمَّ تَمَنَّى آخِرَ عُمُرهِ المَوْتَ حِينَ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الفِتْنَةَ في دِينِه لئَلاَّ يَذْهَبُ دِينُهُ، فقالَ: (اللَّهُمَ كَبُرتْ سِنِّي، وانْتَشَرتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إليكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) [3044].

باب النهي عن القول بالقدر، إلى آخر باب جامع القدر

بابُ النَّهْي عَنِ القَوْلِ بالقَدَرِ، إلى آخِرِ بَابِ جَامِعِ القَدَرِ * تَرْجَمَ مَالِكٌ في المُوطَّأ في رِوَايةِ يحْيِى عَنْهُ أَوَّلَ هَذا البَابِ، فقالَ: (هَذا بَابُ النَّهْي عَنِ القَوْلِ بالقَدْرِ) [3335] , قالَ أَبو عُمَرَ: عَلَى مَعْنَى هَذا بَابُ النَّهْيِّ عَنِ القَوْلِ بِنَفِي القَدَرِ، وتَرْجَمَهُ ابنُ بُكَيْرٍ في رِوَايَتِهِ عَنْ مالك: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ القَوْلِ بالقَدَرِ) (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سُئِلَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ السّكُوتِ عَنِ الكَلَامِ في القَدَرِ، فقَالَ: مَنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُقِرٌّ بالقَدَرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وإنْ سَكَتَ وَهُوَ شَاكٌّ في القَدَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، فَأمَّا الجِدَالُ فِيهِ فَمَكْرُوهٌ، وقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ: (إذا ذُكِرَ القَدَرِ فأَمْسِكُوا) (¬2)، يَعْنِي: آمِنُوا بالقَدَرِ، وأَمْسِكُوا عَنِ الكَلَامِ فِيهِ، والمُجَادَلةِ في ذَلِكَ، وهَذا عَلَى ظَاهِرِ تَرْجَمَةِ الكِتَابِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" [3336] يَعْنِي: غَلَبَ آدَمُ مُوسَى بالحُجَّةِ، وأَلْزَمَهُ أَنَّ قَضَاءَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- نَافِذٌ عَلَى العَبْدِ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ شَيءٌ. وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: إبَاحَةُ المُنَاظَرةِ في أُصُولِ الدِّيَانةِ، وإقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا، وأَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ قَدَّرَ عَلَى العِبَادِ مَا هُمْ صَائِرُونَ إليهِ، ¬

_ (¬1) موطأ ابن بكير، الورقة (179 ب) (¬2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10448)، من حديث ابن مسعود، وذكره الهيثمي 7/ 202، وقال: فيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح.

وإنمَا صَحَّتِ الحجةُ في هَذه المَسْأَلةِ لَآدَمَ عَلَى مُوسَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ غَفَرَ لآدمَ ذَنْبَهُ، وأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَحْتَجُّ عَلَى مَعْصِيةٍ بأن يَقُولَ: (إنَّ اللهَ قَدْ قَدَّرَها عَلَيَّ)، إذْ لا يَدْرِي كَيْفَ يَنْجُو مِنْهَا في الآخِرَةِ، وَلِمِثْلِ هَذا المَعْنَى احْتَجَّ ابنُ عُمَرَ عَلَى الذِي سَأَلهُ عَنْ عُثْمَانَ وفِرَارَهِ يَوْمَ أُحُدٍ عَنِ العَدُوِّ، وقالَ ابنُ عُمَرَ: (مَا عَلَى عُثْمَانَ مِنْ ذَنْبٍ) (¬1)، قَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُ لِقولهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] , فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ غُفِرَ ذَنْبُهُ أَمْ لَمْ يُغْفَرْ لَمْ تُقَمْ لَهُ حُجَّةٌ بأن يَقُولَ: (إنَّ الله قَدْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ). وأَدْخَلَ مَالِكٌ حَدِيثَ آدَمَ ومُوسَى حُجَّةً بأن أَعْمَالَ العِبَادِ كُلَّهَا قَدْ قَدَّرَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّةُ عَلِمَهَا قَبْلَ كَوْنِهَا، بِخِلَافِ قَوْلِ أَهْلِ البدَعِ الذينَ يَقُولُونَ: (أَفْعَالُ العِبَادِ لَيْسَتْ مُقْدُورَةً للهِ)، ويَقُولُونَ: (إنَّ الله خَلَقَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا غَيْرَ الأَعْمَالِ)، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّا كَبيرًا، قال اللهُ تعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: رَوَى غَيْرُ مَالِكٍ حَدِيثَ مُسْلِمِ بنِ يَسَار، عَنْ [نُعيْمِ] (¬2) بنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّاب، بأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] إلى آخِرِ القِصَّةِ. قالَ أَحْمَدُ: ولَمْ يَذكُرْ مَالِكٌ في سَنَدِ هَذا الحَدِيثِ [نُعَيْمَ] بنَ رَبِيعَةَ، وذِكْرُهُ في الحَدِيثِ هُوَ الصَّحِيحُ، وبهِ يُسْنَدُ الحَدِيثُ، وعَلَى رِوَايةِ مَالِكٍ هُوَ غَيْرُ مُسْنَدٍ، إذْ لا يَتَّصِلُ مُسْلِمُ بنُ يَسَارٍ بِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ [3337] (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3839) بنحوه. (¬2) جاء في الأصل: (مسلم) والصحيح ما أثبته، قال ابن حجر في تقريب التهذيب 4/ 22: تفرد بالرواية عنه مسلم بن يسار الجهني، ولا يعرف. (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد 6/ 6: وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس =

[قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وفِيهِ: أَنَّ للهِ يَمِينًا، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ بِلَا كَيْفٍ ولَا تَحْدِيدٍ. وقالَ ابنُ أَبي زَيْدٍ: [واليَدَانِ] (¬1) غَيْرُ النِّعْمَتَيْنِ، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (¬2) [ص: 75]. وفِي هَذا الحَدِيثِ: أَنَّ الله خَلَقَ أَهْلَ الجَنَّةِ للجَنَّةِ، وأَهْلَ النَّارِ للنَّارِ، وأنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ في أُمِّ الكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلِقَهُمْ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألونَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَدْخَلَ مَالِكٌ في بَابِ القَدَرِ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللهِ، وسُنَّةَ رَسولهِ" [3338] عَلَى مَعْنَى: أنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ كَانَ مُوقِنًا بالقَدَرِ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُ أَبي سُهَيْلٍ في القَدَرِيَّةِ: (إنْ لَمْ يَتُوبُوا عُرِضُوا عَلَى السَّيفِ) [3342] , قَالَ مَالِكٌ: (وذَلِكَ رَأْيِي فِيهِم)، مَعْنَى هَذا القَوْلِ: إِنَّ القَدَرِيَّةَ وغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ إذا خَرَجُوا عَلَى إمَامٍ عَادِلٍ يُرِيدُونَ قِتَالَهُ، وَيدْعُونَ إلى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّهَمْ يُدْعَوْن إلى السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، فإنْ أَبَوا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ ومَا هُمْ عَلَيْهِ قُوتلُوا. قالَ أَبو عُمَرَ: إنَّمَا يُسْتَتَابُ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ مَنْ أَعْلَنَ بِدْعَتَهُ، وخَرَجَ عَلَى الأئِمَةِ، وأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ غَيْرَ خَارِج مِنْهُمْ، فإِنَّ هَؤُلَاءِ لا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، ولَا يُنْكَحُ إليهِم، ولَا يُعَادُ مَرِيضُهُمْ، ولا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ، وبِهَذا أَفْتَى الفُقَهَاءُ بِقُرْطُبَةَ في أَصْحَابِ ابنِ مَسَزرَّةَ حِينَ شَاوَرَهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَبْدُ ¬

_ = إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ... إلخ، وينظر: أطراف الموطأ للداني 2/ 292. (¬1) في الأصل: واليدين، وما أثبته هو الصحيح. (¬2) وينظر قول ابن أبي زيد في الجامع ص 140.

الرَّحْمَنِ بنُ أُمَيَّةَ فِيمَا كَانُوا قَدْ ظَهَرُوا مِنْ مَذْهَبِ ابنِ مَسَرَّةَ (¬1)، وعَهِدَ حِينَئِذٍ إلى النَّاسِ أَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْهُم إمَامًا، ولَا مُؤَذِّنًا، ولَا مُؤَدِّبًا يُؤَدِّبُ الصِّبْيَانَ، ولَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا يَشْهَدُوا بهِ عِنْدَ الحَاكِمِ، وكَانَ ذَلِكَ سَنَةً ثَلَاثٍ وأَرْبَعِينَ وثَلَاثِمَائةَ. * [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَوْلُهُ: "لا تَسْألُ المَرْأةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا" [3344] يَعْنِي: لا تَسْأَلُ المَرْأةَ زَوْجَهَا أنْ يُطَلّقَ امْرَأةً لَهُ أُخْرَى لِتَتَفَرَّدَ هِيَ بِزَوْجِهَا، وتُفْرِغَ صَحْفَةَ أُخْتِهَا مِنْ (¬2) طَعَامِ زَوْجِهَا، فإنَّ سُؤَلَهَا ذَلِكَ لَيْسَ بِزَائِدٍ في رِزْقِهَا, ولَا فِيمَا قَدَّرَهُ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ] لَهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَضُرَّ بأُخْتِهَا, ولتَرْضَ بِقَضَاءِ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] فإنَّ ضرَرَها بِهَا لَيْسَ بِنَافِعِهَا شَيْئًا. قَوْلُهُ: "لا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" [3534] , قالَ الأَخْفَشُ: الجَدُّ الحَظُ والبَخْتُ، وكَانُوا في الجَاهِلِيّهِ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُرْزَقُ الإنْسَانُ بِجَدِّهِ، يُرِيدُونَ بِبَخْتِهِ، فَرَدَّ النبيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلَهُمْ هَذا، وقالَ: إنَّمَا هُوَ رِزْقُ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] لَيْسَ يُرْزَقُ أَحَدٌ بِجَدٍ، ولَكِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُعْطِي ويَمْنَعُ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُهُ: "الحَمْدُ لله الذِي خَلَقَ كُل شَيءً كمَا يَنْبَغِي الذي لا يُعْجِلُ شَيءٌ أَنَاهُ وقَدَرَهُ" [3346] (¬3)، قالَ الأَخْفَشُ: أَنَا الشَّيءِ وَقْتُهُ وبُلُوغُهُ، ¬

_ (¬1) ابن مسرة هو وهب بن مسرة بن مفرج أبو الحزم التميمي الأندلسي المالكي الحافظ صاحب التصانيف، كان فقيهًا محدثا مع ورع وتقوى، ولكنه كان يقول بالقدر، ونقل عنه أيضًا أنه كان يقول: ليست الجنة التي خرج منها أبونا آدم بجنة الخلد، بل جنة في الأرض، توفي سنة (346)، ينظر: السير 15/ 556. أما أمير المؤمنين فهو الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل المرواني الأندلسي، باني مدينة الزهراء، دامت دولته خمسين سنة، وكان صاحب فتوحات كثيرة، توفي سنة (350)، السير 15/ 562. (¬2) من هنا تبدا نسخة القيروان في هذا الموضع، وهذه النسخة هي التي رمزت لها بحرف (ق). (¬3) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار 1/ 126: ورواه القنازعي بضم يعجل.

يَعْنِي: أَنَّهُ لا يَأْتِي شَيءٌ قَبْلَ قَدَرِ اللهِ [جَلَّ وعَزَّ] الذِي قَدَّرَهُ لِذَلِكَ الشَّيءِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ. وقوله: "أَجْمِلُوا في الطَّلَبِ"، يَعْنِي: اطْلُبُوا الحَلَالَ بِرِفْقٍ، لأَنَّ الرِّفْقَ لَمْ يَكُنْ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا زَانَهُ، ولَا مُنِعَ مِنْ شَيءٍ إلَّا شَانه، فَطَلَبُ الرِّزْقِ بِرِفْقٍ أَجْمَلُ مِنْ طَلَبِهِ بِعُنْفٍ.

باب في حسن الخلق، والحياء، والغضب، والمهاجرة

بابٌ في حُسْنِ الخُلُقِ، والحَيَاءِ، والغَضَبِ، والمُهَاجَرَةِ رَوَى ابنُ بُكَيْبر عَنْ مالك، عَنْ يَحْيىَ بنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَل، أَنَّهُ قالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي في الغَرْزِ أَنْ قَالَ: "أَحْسِنْ خُلُقَكَ للنَّاسِ" (¬1). [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا الحَدِيثُ مُرْسَل، لأَنَّ يَحْيىَ بنَ سَعِيدٍ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ. و (الغَرْزُ) هُوَ: رِكَابُ رَحْلِ البَعِيرِ، وَهُوَ مِثْلُ رِكَابِ سَرْجِ الدَّابَّةِ. وفِي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: وُصَاةُ الإمَامِ عَامِلَهُ بالرِّفْقِ بِرَعِيّتِهِ، وأنْ يُحْسِنَ لَهُمْ خُلُقَهُ، وذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ أَحْسَنَ (¬2) خُلُقَهُ للنَّاسِ رَفَقَ بِهِمْ، ولَمْ يُؤْذِهِمْ، ولَا تَجَبَّرَ عَلَيْهِمْ، وتَحْسِينُ الأَخْلَاقِ قَائِدٌ إلى كُلِّ خَيرٍ، والفَظَاظَةُ مَكْرُوهَةٌ، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. * قَوْلُ عَائِشَةَ: "ما خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في أَمْرَيْنِ إلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا" [3351] , وذَكَرتِ، (¬3) الحَدِيثَ إلى آخِرِه، فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: رِفْقُ الإنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِيمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، لأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَدِيمُ بهِ العَمَلُ، وإذا حَمَّلَ نَفْسَهُ ¬

_ (¬1) موطأ ابن بكير، الورقة (181 أ)، نسخة تركيا، ورواه يحيى في موطئه (3350) عن مالك: أن معاذ بن جبل .... إلخ. (¬2) في (ق): حسَّن. (¬3) من (ق)، وفي الأصل: وذكره

المَشَقَّةَ (¬1) رُبَّمَا انْقَطَعَ فَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، وفِيهِ: تَرْكُ الإثْمِ، وتَرْكُ الإثْمِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، وفِيهِ: العَفْوُ عَنِ النَّاسِ فِيمَا دُونَ الحُدُودِ، وإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وارْتَفَعَتْ إلى الأئِمَّةِ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهَا (¬2)، وهَذا كُلُّهُ مِنْ تَحْسِينِ الأَخْلَاقِ. * قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" [3352] , يُرِيدُ: أنَّهُ مَنْ تَرَكَ مَا لا يَعْنِيهِ فَقَدْ حَسُنَتْ أَخْلَاقُهُ، وسَلِمَ صَدْرُهُ، ومَنِ اتَّبَعَ مَا لا يَعْنِيهِ أَضَرَّ بِدِينِه ودُنْيَاهُ. وهَذا الحَدِيثُ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، [عَنْ عَلِيُّ بنِ حُسَيْنٍ] (¬3)، وأَسْنَدَهُ [عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ] (¬4) العُمَرِيُّ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ" (¬5)، وهَذا الحَدِيثُ هُوَ أَحَدُ الأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ الَّتي هِيَ دَعَائِمُ الإسْلَامِ، والحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّينُ النِّصِيحَةُ، للهِ، ولِرَسُولهِ، ولِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ، ولِخَاصَّتِهِمْ" (¬6)، والحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "الأَعْمَالُ بالنّيَّاتِ، ولِكُلِّ امْرِيٍّ مَا نَوَى" (¬7)، والحَدِيثُ الرابع: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - للذِي اخْتَصَرَ لَهُ في الوَصِيَّةِ: "لا تَغْضَبْ". ¬

_ (¬1) في (ق): مشقة. (¬2) في (ق): يعفوا عنها. (¬3) زيادة من (ق). (¬4) جاء في الأصل و (ق): عبد الرحمن عن عمرو، وهو خطأ. (¬5) رواه الطبراني في المعجم الكبير 3/ 128 بإسناده إلى عبد الله بن عمر العمري به، ورواه في المعجم الأوسط 8/ 202 بإسناده إلى عبيد الله بن عمر العمري عن الزُّهْرِيّ به، وذكره الدارقطني في العلل 3/ 108، وذكر الإختلاف فيه، ثم قال: والصحيح قول من أرسله عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬6) في (ق) وخاصتهم، وهذا الحديث في صحيح مسلم. (¬7) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وكذا الحديث بعده.

* قالَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ حَبيبٍ: كَانَ الرَّجُلُ الذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: "بئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ" [3353] عُيَيْنَةَ بنَ بَدْرٍ الفَزَارِيَّ، يَعْنِي: هَذا بِئْسَ الرَّجُلُ (¬1). [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: في هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ: أَلَّا غِيبَةَ في الفَاسِقِ إذا ذُكِرَتْ أَفْعَالُهُ، وقَدْ جَاءَ في غَيْرِ حَدِيثِ مالك: "اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيهِ، كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ" (¬2)، وفِي مُحَادَثَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لذَلِكَ الرَّجُلِ -الذِي قَالَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ: "بئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ" وَضَحِكُهُ مَعَهُ- رُخْصَةٌ في مُجَالَسَةِ مَنْ يُتَقَّى أَذَاهُ، ولا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ، لأَنَّ في ذَلِكَ اسْتِدْفَاعًا لِضُرّهِ، وهَذا كُلّهُ مِنْ تَحْسِينِ الأَخْلَاقِ. قَوْلُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ: (في صَلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ) [3356] , يَعْنِي: أَنْ يَسْعَى الإنْسَانُ في الصُّلْحِ بَيْنَ مَنِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، وتَشَتَّتْ أُمُورُهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، والسَّعِيّ في هَذا خَيْر مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، ومِنْ صَدَقةِ التَّطَوّعِ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بالإلْفَةِ، ونَهَى عَنِ الفُرْقَةِ، فَقَالَ [جَلَّ ثَنَاؤُهُ] (¬3): {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] , وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وقَوْلُ سَعِيدٍ: (وإيَّاكُمْ والبَغْضَةَ، فَإنَّهَا هِيَ الحَالِقَة)، يَعْنِي: أَنَّهَا حَالِقَةُ الدِّينِ لا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وذَلِكَ أَنَّهَا تُذْهِبُ بالدِّينِ وتُغَيِّرُهُ، ومَنْ أَحَبَّ لأَخِيهِ المُسْلِمِ مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. قَوْلُهُ: "لِكُل دِينٍ خُلُقٌ" [3359] , يَعْنِي: لِكُلّ دِينٍ شَرِيعَةٌ، "وخُلُقُ الإسْلَامِ الحَيَاءُ"، يَعْنِي: الحَيَاءَ الذِي يَقُودُ إلى خَيْرٍ، ويَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ]. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 24/ 262: هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، نسبه إلى جده الأعلى، وينظر: فتح الباري 12/ 418. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (220)، والعقيلي في الضعفاء 1/ 202، من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقال العقيلي: ليس له من حديث بهز أصل ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه. (¬3) من (ق).

قالَ أَبو عُمَرَ: إلَّا في طَلَبِ العِلْمِ، فإنَّ الحَيَاءَ فِيهِ ضَعْفٌ، والإسْتِكْبَارُ فِيهِ مَذْمُومٌ، وقالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ: مَا تَعَلَّمَ مُسْتَحِيٌّ، ولَا مُسْتَكْبِرٌ. قالَ عِيسَى: قَوْلُ الرَّجُلِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ" [3362] , [يَعْنِي: أَعِيشُ] (¬1)، وتَصْحَبَنِي الكَلِمَاتُ، فَقَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْضَبْ"، يُرِيدُ: أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَغْضَبْ حَسُنَتْ أَخْلَاقُهُ، وخَفَّتْ مَؤُونتهُ، وأَحَبَّهُ النَّاسُ. * قَوْلُهُ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ" [3363] يَعْنِي: لَيْسَ القَوِيُّ مَنْ يُصَارِعُ النَّاسَ فَيَغْلِبُهُمْ، "إنَّمَا القَوِيُّ الذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"، يَعْنِي: يَغْلِبَ نفْسَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ، فَيَمْنَعَهَا مِنْ إنْفَاذِ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ. * قَوْلُهُ: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ" [3367] , يُرِيدُ: إيَّاكُمْ أَنْ يَظُنَّ أَحَدُكُمْ بأَخِيهِ المُسْلِمِ ظَنَّ سُوءٍ إذا كَانَ الخَيْرُ عَلَيْهِ غَالِبًا، ولَا يَسْمَعُ مِنْهُ مَقَالَةَ نَاقِلٍ عَنْهُ قَوْلَ سُوءٍ، "فالظَّنُ أَكْذَبُ الحَدِيثِ"، وقَدْ قَالَ عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ: (مَنْ عَلِمَ مِنْ أَخِيهِ مُرُوَءةً جَمِيلَةً فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ مَقَالَاتِ الرِّجَالِ، ولا يَقْبَلُ إلَّا مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ في أُمُورٍ لا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، ومَنْ حَسُنَتْ عَلَانِيَتُهُ فَنَحْنُ [لِسَرِيرَتهِ] (¬2) أَرْجَا)، ثُمَّ قَالَ: (ألَّا إنَّ بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ أَرْبَعُ أَصَابِعِ)، وَوَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وعَيْنَيْهِ، فَقَالَ: (الحَقُّ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، والبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ: سَمِعْتُ بأُذُنَيَّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الإنْسَانُ في أَخِيهِ إلَّا مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ) (¬3). * وقَوْلُهُ في حَدِيثِ المُوَطَّأ: "لاتباغضوا" [3366] أَي: لا يُبْغِضْ بَعْضَكُمْ بَعْضًا، ولَا يُبْغِضْ بَعْضَكُمْ بَعْضًا إلى بَعْضٍ. "ولَا تَحَاسَدُوا"، يَعْنِي: لا تَتَنَافَسُوا في أُمُورِ الدُّنيا، حَتَّى يَحْسَدَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَيُولِّدُ ذَلِكَ بَيْنَكُم العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ. ¬

_ (¬1) زيادة من (ق). (¬2) من (ق)، وفي الأصل: لسرِّه بربه. (¬3) لم أجد هذا القول من سيدنا علي فيما بحثت عنه في المصادر.

وقَوْلُهُ: "ولَا تَدَابَرُوا"، يَعْنِي: لا يَعْرِضُ أَحَدُكُمْ عَنْ أَخِيه المُسْلِمُ بِوَجْهِهِ، ويُوَلّيهِ دُبُرَهُ اسْتِثْقَالًا لَهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبلَهُ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ، ويُحْسِنَ لَهُ خُلُقَهُ، وقالَ ابنُ عُمَرَ: (البِرُّ شَيءٌ هَيِّن، وَجْهٌ طَلِيقٌ، وكَلَامٌ لَيِّنٌ" (¬1). وقَوْلُهُ: "ولَا تَجَسَّسُوا"، يَعْنِي: لا يُرْسِلُ أَحَدُكُمْ مَنْ يَسْأَلُ لَهُ عَمَّا يُقَالُ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ، والتَّجَسُّسُ -بالجِيمِ-: البَحْثُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وسُوءُ الظَّنِّ بِهِم. وقَوْلُهُ: "لا يَحِلُّ لأَحَدٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ" [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: هَذا حَدٌّ مَوقُوتٌ في مُهَاجَرَةِ الرَّجُلِ أَخَاهُ، ومَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الغِلِّ الذِي لا يَحِلُّ إلَّا في أَهْلِ البدَعِ، أَو مَنْ يُجَاهِرُ بالكَبَائِرِ لا يَسْتَحِي مِنَ اللهِ [جَلَّ وَعَزَّ] ولَا مِنَ النَّاسِ، أو ظَالَمٌ يَظْلِمُ النَّاسَ لا يُرَاقِبُ الله [جَلَّ وَعَزَّ] فِيهِم، فَهُجْرَانُ هَؤُلَاءِ مُبَاحٌ، وتَرْكُ مُجَالَسَتِهِم وَاجِبَةٌ، ولَا غِيبَةَ فِيهِم. قِيلَ لِمَالِكٍ: الرَّجُلُ يَهْجُرُ أَخَاهُ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَهُوَ مُجْتَنِبٌ لِكَلَامِهِ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا لَهُ لَمْ [يَتَبَرَّءْ] (¬2) مِنَ الشَّحْنَاءِ حَتَّى يُكَلِّمَهُ، ويُسْقِطَ مَا كَانَ مِنْ هُجْرَانهِ أَخَاهُ. وقالَ غَيْرُهُ: وهَذا في غَيْرِ الفَاسِقِ المُعْلِنِ الفِسْقَ الذِي لا يَقْبَلُ المَوْعِظَةَ إذا وُعِظَ، فَهُجْرَانُ هَذا مُبَاحٌ، ولَا غِيبَةَ فِيهِ إذا ذُكِرَتْ أَفْعَالُهُ. * وقَوْلُهُ: "اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا" [3369] يَعْنِي: اتْرُكُوا هَذَيْنِ المُتَصَارِمَيْنِ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَهُمَا حَتَّى يَرْجِعَا عَنْ هُجْرَانِهِمَا، فإذا كَانَ الهُجْرَانُ مَانِعًا للغُفْرَانِ لَمْ يَنْبَغِ للمُسَلِّمَيْنِ أَنْ يَتَمَادَيا فِيهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (316)، والبيهقي في شعب الإيمان 6/ 255. (¬2) من (ق)، وفي الأصل: يبر.

تفسير أبواب اللباس والإنتعال

تَفْسِيرُ أَبْوَابِ اللّبَاسِ والإنْتِعَالِ * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: أَدْرَكَ زيدُ بنُ أَسْلَمَ جَابِرَ بنَ عَبْدِ اللهِ ولَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وحَدِيثُهُ عَنْهُ مُرْسَلٌ في المُوَطَّأ [3373]. قالَ أَبو عُمَرَ: مَعْنَى كَسْرِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ للقِثَّاءِ الذِي وَضَعَهُ بَيْنَ يَدِي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِكَيْ يُرِيهِ أَنَّهُ للأَكْلِ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وحُكْمُ مَنْ وَضَعَ بَيْنِ يَدِي ضَيْفِه خَبْزًا أَنْ يُكَسِّرَهُ لِكَي يَرَى الضَّيْفُ أنَّهُ للأَكْلِ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: ومَعْنَى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِجَابِرٍ: "مَنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذا الجِرْو قِثَّاءً "، وسُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْتَغْرَبَهُ في ذَلِكَ المَكَانِ الذِي كَانُوا فِيهِ، ولَمْ يَرِدْ بِسُؤَالهِ لَهُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ؟ وحُكْمُ مَنْ وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ أنْ يَأْكَلَ إذا احْتَاجَ إلى الأَكْلِ ولَا يَسْأَلُ، إلَّا أنْ يَكُونَ الذِي وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ خَبِيثَ المَكْسَبِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ. وكَرِهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ يَجِد الثِّيَابَ أَنْ يَلْبَسَ الخَلِقَ، ولا سِيَّما عِنْدَ مُلَاقَاةِ العَدُوِّ، وقَدْ أَمَرَ اللهُ [سُبْحَانَهُ] (¬1) المُسْلِمِينَ أَنْ يَعُدُّوا للمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ، وَلِذَلِكَ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ حِينَ خَلَعَ عَنْهُ الخَلِقَ ولَبسَ مَا تَجَمَّلَ بهِ فاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ [فِيهِ] (¬2)، وقُتِلَ في سَبِيلِ [اللهِ جَلَّ وعَزَّ] (¬3) شَهِيدًا. * قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (إذا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [3375] ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) من (ق). (¬3) من (ق).

يَعْنِي: إذَا أَوْسَعُ اللهُ [جَلَّ وَعَزَّ] عَلَيْكُمْ في الحَلَالِ فَأَوْسِعُوا مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ في اللِّبَاسِ وغَيْرِه، وعَلَى أَهْلِيكُمْ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَرَفًا. وقَوْلُهُ: (جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ)، قالَ ابنُ وَهْبٍ: هُوَ أَنْ يَلْبَسُ الرَّجُلُ ثَوْبَيْنِ في الصَّلَاةِ، ويُنَقِّيهُمَا مِنَ الوَسَخِ، وصَلَاةُ الرَّجُلِ في ثَوْبَيْنِ مَأْمُورٌ بهِ، وصَلَاتُهُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ رُخْصَةٌ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فقَالَ: "أَولِكُلِكُمْ ثَوْبَانِ؟ " (¬1)، فأَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ العَدَمِ. [قالَ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَجَازَ مَالِكٌ للرَّجُلِ (¬2) لِبَاسَ المَلَاحِفِ (¬3) المُعْصَفَّرَةِ في البيُوتِ وفِي أَفْنِيةِ الدُّورِ، وكَرِهَ لِبَاسَهَا في المَحَافِلِ، وعِنْدَ الخُرُوجِ إلى الَأَسْوَاقِ. وفِي غَيْرِ حَدِيثِ مَالِكٍ: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لَبْسِ القَسِيِّ، وعَنِ المُعْصَفَّرِ" (¬4)، فَلِهَذا الحَدِيثِ كَرِهَ [مَالِكٌ] (¬5) لِبَاسَ المُعَصَّفَرِ مِنَ الثِّيَابِ في مَحَافِلِ الرّجَالِ. ........................................................................... .................................................................. (¬6) * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (351)، ومسلم (515)، عن أبي هريرة. (¬2) إلى هنا انتهت نسخة الأصل وهي المصورة من الخزانة العامة بالرباط، وما كان بعد ذلك إلى نهاية الكتاب فهو من نسخة القيروان. (¬3) الملاحف جمع ملحفة -بكسر الميم- وهي الملاءة التي يلتحف بها. (¬4) رواه مسلم (2078)، من حديث علي بن أبي طالب. (¬5) ما بين المعقوفتين لم يظهر في (ق)، ووضعت ما يتناسب مع السياق. (¬6) سقط عدد من الأوراق، وفيها سبعة أبواب من الموطأ، وهي بقية ما جاء في كتاب اللباس، من صفحة 1338، إلى صفحة 1346.

[تفسير كتاب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -]

[تَفْسِيرُ كِتَابِ صِفَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) * قالَ أَنسَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليْسَ بالطَّوِيلِ البَائِنِ"، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ بالطَّوِيلِ المُتَفَاوِتِ، وَلَمْ يَكُنْ بالقَصِيرِ، كَانَ رَبع القَامَةِ. * وقَوْلُهُ: "ولَيْسَ بالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ"، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ بالشَّدِيدِ البَيَاضِ الذِي يَتَوَهَّمُهُ النَّاظِرُ إليهِ بَرَصَاً مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِهِ، وكَانَ بَيَاضَهُ مُشْرَباً بِحُمْرَةٍ. "ولَمْ يَكُنْ بالآدَمِ"، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ السُّمْرَةِ. "ولَا بالجَعْدِ القَطَطِ"، يَعْنِي: الشَّدِيدَ الجُعُودَةِ. "ولَا بالسَّبِطِ"، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ مُرْسَلَ الشَّعْرِ، كَانَ وَسَطَ الخِلْقَةِ - صلى الله عليه وسلم -. وَوَصَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيسَى بنَ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - بالصُّورَةِ الَّتي خَلَقَهُ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَرَأَهُ يَطُوفُ بالبَيْتِ، وهَذِه رُؤْيَةُ حَق، لأَنَ الشَيَاطِينَ لَا تَتَمَثَّلُ في صُورَةِ الأَنْبيَاءِ، ولَا شَكَّ في أَنَّ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - في السَّمَاءِ، وَهُوَ حَيٌّ، ويَفْعَلُ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ في خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ. وقِيلَ لِعِيسَى - صلى الله عليه وسلم - المَسِيحُ مِنْ أَجْلِ سِيَاحَتِهِ في الأَرْضِ. * وَوَصَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ بِصُورَتهِ، ودَلَّ هَذا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الدَّجَّالَ يدخلُ مَكَّةَ، ولَيْسَ يدخلُ المَدِينَةَ؛ لأن المَلاَئِكَةَ الذينَ عَلَى أَنْقَابِهَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ دُخُولهَا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من الموطأ.

وقَوْلُهُ في الدَّجَّالِ: "كأنَّ عَينَهُ عِنَبةٌ طَافِيَةٌ"، قَالَ الأَخْفَشُ: يَعْنِي كَأَنَّهَا عَنَبَةٌ قَدْ طَفَتْ وامْتَلأَتْ وبَرَزَتْ. وقالَ غَيْرُهُ: "كَأَنَّها عَنَبَةٌ طَافِيَةٌ"، يَعْنِي: قَدْ ذَهَبَ ضَوْئُهُا وتَغَيَّضَتْ، ومِنْهُ قِيلَ لَهُ: المَسِيحُ، لأَنَّهُ مَمْسُوحُ العَيْنِ. * قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: أَوْقَفَ مَالِكٌ حَدِيثَ أَبي هُرَيْرَةَ: "خَمسٌ مِنَ الفِطْرَةِ"، إلَّا أَنَّهُ يدخلُ في المُسْنَدَاتِ، لِقَوْلهِ: "الفِطْرَةِ" وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَوَاهُ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ"، وذَكَرَ الحَدِيثَ وأَسْنَدَهُ (¬1). الخِتَانُ سُنَّة في الرِّجَالِ، وأَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ إبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ حَبيبٍ: أَوَّلُ مَنْ شَابَ إبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ الله -جَلَّ وَعَزَّ- عَنْ مَعْنَى الشَّيْبِ، فَأَوْحَى اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- إليهِ أَنَّهُ وَقارٌ (¬2). وكَرِهَ مَالِكٌ حَلْقَ الشَّارِبِ كُلَّهُ وعَابَهُ، ورَأَهُ مُثْلَةً، وقَدْ كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّاب -رَحْمَهُ اللهِ عَلَيْهِ- إذا أَكْرَبَهُ أَمْرٌ فتَلَ شَارِبَهُ، ولَوْ كَانَ مَحْلُوقَاً مَا وَجَدَ مَا يَفْتِلُ مِنْهُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5550)، ومسلم (257)، بإسنادهما إلى سفيان بن عيينة به. (¬2) رواه ابن عبد البر في التمهيد 22/ 139 من قول سعيد بن المسيب. (¬3) رواه أحمد في كتاب العلل 2/ 73، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 1/ 100، بإسنادهما إلى عبد الله بن الزبير به.

باب الأكل بالشمال، والطعام، والشراب، والعمل في ذلك

بابُ الأَكلِ بالشِّمَالِ، والطَّعَامِ، والشَّرَابِ، والعَمَلِ في ذَلِكَ مَعْنَى كَرَاهِيةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ، أو يَشْرَبَ بِشِمَالِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ، ولَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ شَيءٌ مِنْ فِعْلِهِ، فَاليَدُ اليُمْنَى للأَكْلِ والشُّرْبِ والمُنَاوَلةِ، واليُسْرَى للإسْتِنْجَاءِ وشِبْهِ ذَلِكَ. * قَوْلُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا المِسكِينَ ولَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" (¬1) ........................................................................... ........................................................................... .......................................................................... ....................................................... [قَوْلُ أَبِي طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: (لَقْدْ سَمِعْتُ صَوْتَ] (¬2) رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَعِيفَاً أَعْرِفُ فِيهِ الجُوُعَ)،فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إجَازَةِ الشَّهادَةِ عَلَى الصَّوْتِ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْحَقَهُ مِنْ أَلَمِ الجُوُع مَا يَلْحَقُ البَشَرِ مِنْ ضَعْفِ الصَّوْتِ، وَضَعْفِ البَدَنِ، وقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الجُوعِ، وقَالَ: "إنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ" (¬3)، ¬

_ (¬1) سقطت ورقة أو أكثر بعد هذا الموضع، وفيها تفسير أربعة أبواب من الموطأ، من صفحة 1352، إلى صفحة 1357. (¬2) ما بين المعقوفتين زدتها من الموطأ وبما يتناسب مع السياق، وذلك لضياع الورقة السابقة. (¬3) رواه أبو داود (1547)، والنسائي (5468)، وابن ماجه (3354)، من حديث أبي هريرة.

فَوَجَّهَتْ حِينَئِذٍ أُمُّ [سُلَيْمٍ] (¬1) أَقْرَاصَاً مِنْ شَعِيرٍ لَقتْهَا بِبَعْضِ خِمَارِهَا، وأَعْطَتْهَا أَنسَ بنَ مَالِكٍ، وطَرَحَتْ فَصْلَةَ الخِمَارِ عَلَى ظَهْرِ أَنسٍ. فِفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: سَدُّ الرَّجُلِ خَلَّةَ أَخِيهِ إذا عَلِمَ مِنْهُ حَاجَةً نزلَتْ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَسْألهُ ذَلِكَ، وهَذا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ. وعَلِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ ميَسُرّهُ مَسِيرَهُ إليهِ هُوَ وأَصْحَابُهُ، ولِذَلِكَ لاَقَاهُ أَبو طَلْحَةَ مَسْرُورَاً بهِ وبأصْحَابِهِ، ولَيْسَ العَمَلُ عَلَى ظَاهِرِ هَذا، مِنْ أَجْلِ أَنَّ هَذا لَا يَحْتَمِلَهُ كُل النَّاسِ، ولِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ دُعِيَ إلى طَعَامِ وَلِيمَةٍ أَو غَيْرِهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ غَيْرَهُ، إذْ لَا يَدْرِي هَلْ يُسَرّ ذَلِكَ صَاحِبُ الوَليمَةِ أَمْ لَا. قالَ مَالِكٌ: إلَّا أَنْ يُقَالَ لَهُ: (ادْعُ مَنْ لَقِيتَ)، فَمُبَاحٌ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ غَيْرَ (¬2). وَفْي حَدِيثِ أَبي طَلْحَةَ البَرَكَةُ في الثَّرِيدِ، لِفِعْلِهِ ذَلِكَ - صلى الله عليه وسلم -، وفِيهِ: إبَاحَةُ أَكْلِ الطَّعَامِ المَأدُومِ، والأَكلُ حَتَّى يَشْبَعُ الإنْسَانُ، وأن لا يَجْلِسَ عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ إذا كَانُوا جَمَاعَةً، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "ائدنْ لِعَشَرَةٍ"، وظَهَرَتْ بَرَكَةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هَذا الطَّعَامِ اليَسِيرِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهُ العَدَدُ الكَثيرُ، وهَذا مِنْ عَلاَمَاتِ نبوَّتهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ أَبو عُمَرَ: وذُكِرَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أكلَ آخِرَ القَوْمِ، وهَذا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "طَعَامُ الاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ"، يَعْنِي: أَنَّهُ مَا يَشْبَعُ مِنْهُ اثْنَانِ مِنَ الطَّعَامِ يَكْفِي ثَلاَثَةَ رِجَالٍ، وَيرْوَى عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ هَمَّ في سَنَةِ مَجَاعةٍ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَهُمْ عَلَى سَبيلِ المُوَاسَاةِ، وقَالَ: (إنَّ الرَّجُلَ لَا يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ قُوتهِ) (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: سلمة، وهو خطأ. (¬2) ينظر قول مالك في: التمهيد 1/ 290. (¬3) ذكره ابن عبد البر في التمهيد 19/ 25، والعيني في عمدة القارئ 5/ 101.

* قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْكوا السِّقَاءَ"، يَعْنِي: أَرْبِطُوا فَمَ قِرْبَةَ المَاءِ بالوِكَاءِ، والوِكَاءُ: الخَيْطُ الذِي يُرْبَطُ بهِ فَمُ القِرْبَةِ. وقَوْلُهُ: "خَمِّرُوا الإنَاءَ"، يَعْنِي: غَطُّوا إنَاءَ المَاءِ إذا كَانَ فِيهِ المَاءُ بِخِرْقَةٍ أَو غَيْرِهَا، والتَّخْمِيرُ: التَّغْطِيَةُ. وقَوْلُهُ: "أَغْلِقُوا البَابَ"، يَعْنِي: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ البِيُوتِ إذا نِمْتُمْ باللَّيْلِ. "وأَطْفِئُوا المَصَابِيحَ"، يَعْنِي عِنْدَ النَّوَمِ، "فَإنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ غَلَقَاً، ولَا يَحِلُّ وِكلاءً، ولَا يَكْشِفُ إنَاءً"، وأَمَرَ بإطْفَاءِ المَصَابِيحَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الفَأْرَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الفَتِيلَةَ مِنَ القِنْدِيلِ وَهِيَ مَوْقُودَةٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً لِحَرْقِ البَيْتِ، وقَدْ عُرِضَ مِثْلُ هَذا بالمَدِينَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَباً لِحَرْقِ البَيْتِ ومَا كَانَ دَاخِلُهُ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الضَّيْفِ: "جَائِزَتُهُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ"،يَعْنِي: يُكْرِمُهُ ضَيْفُهُ بأَطْيَبِ طَعَامِهِ يَوْمَاً ولَيْلَةً، ثُمَّ يُقَدِّمُ إليهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ عِنْدَهُ. * قالَ: "والضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيام، ومَا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ"، فَلَا يَسْتَبِيحُ أَكْلَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثَةِ الأيَّام إلَّا مَنْ تحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ. قالَ ابنُ وَضاحٍ: قَالَ سَحْنُونُ: إنَّمَا الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْلِ القُرَى، وأَمَّا في الحَضَرِ فالفِنْدِقُ يَنْزِلُ فِيهِ [المُسَافِرُ] (¬1). قَالَ أَبو عُمَرَ: مِنْ مَكَارِم الأخْلاَقِ أَنْ يَضِيفَ الإنْسَانُ صَدِيقَهُ في بَادِيةٍ كَانَ أَو حَاضِرَةٍ، وقَدْ حَضَّ عَلَى الضِّيَافَةِ خِيَارُ النَّاسِ، وسَلَفُ الأُمَّةِ. وقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرُ في قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، أَنَّهَا نَزَلَتْ في الضيَافَةِ، وَهُوَ أنْ يَقُولَ مَنْ نَزَلَ عَلَى ¬

_ (¬1) نقل قول سحنون: ابن عبد البر في التمهيد 21/ 43، وفي الإستذكار 10/ 61، وما كان بين المعقوفتين زيادة منه.

صَدِيقِهِ فَلَمْ يُحْسِنْ ضِيَافتَهُ: إنَّ فُلاَناً قَصَّرَ في أَمْرِي، فأبيحَ لَهُ القَوْلُ فِيهِ ومَلاَمَتِهِ (¬1). [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (¬2): في حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ حِينَ بَعَثَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في جُمْلَةِ السَّرِيَّةِ الَّتي وَجَّهَهَا قِبَلِ السَّاحِلِ، مِنَ الفِقْهِ: مُوَاسَاةُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضَاً عِنْدَ عَدَمِ الأَقْوَاتِ، ونَظَرُ الإمَامِ في ذَلِكَ، وفِيهِ إبَاحَةُ أَكْلِ مَا رَمَى بهِ البَحْرُ مَيْتَاً مِنْ دَوَابِّهِ. وقَالَ أَبو عُمَرَ: لَمْ يَأْكُلُوا ذَلِكَ الحُوتَ المَيَّتَ عَلَى وَجْهِ مَا تُؤْكَلُ عَلَيْهِ المَيْتَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إليهَا، وذَلِكَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الحُوتِ أيَّامَاً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، والمُضْطَرُّ إلى المَيْتَةِ إنَّمَا يأْكُلُ مِنْهَا ثُمَّ يَنتقِلُ عَنْهَا بطَلَبِ المُبَاحِ مِنَ القُوتِ، وقدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - في البَحْرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬3). * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابهِ: "عَلَيْكُمْ بالمَاءِ القَرَاحِ"، يَعْنِي: عَلَيْكُمْ بِشُرْبِ المَاءِ الذِي لَا يُخَالِطُهُ شَرَابٌ غَيْرُهُ. "والتقْلُ البَرِّيِّ"، يَعْنِي: البَقْلَ الذِي تُنْبِتُهُ الأَرْضُ بِغَيْرِ مَؤُنَةٍ ولَا زِرَاعَةٍ. وقَوْلُهُ في خُبْزِ البُرِّ: "لَنْ تَقُومُوا بشُكْرِه"، يَعْنِي: لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِ النَّعِيمِ في الدُّنيا فَخُذُوا مِنْهَا بالقَصْدِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: هَذا في شَرِيعَةِ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - لا في شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَبَاحَ [لهذه] (¬4) الأُمَّةِ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الحَلاَلِ، وقَدْ أَكَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ أبي الهَيْثَمِ بنِ التَّيْهَانِ الخُبْزَ، واللَّحْمَ، وشَرِبَ الماءَ العَذْبِ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير ابن سلام باختصار ابن زمنين 1/ 182، وتفسير الطبري 6/ 2. (¬2) جاء في الأصل: (ع) وهو اختصار لإسم المصنف، وقد أبدلته يذكره الصريح مع إضافة كلمة (قال) للتوضيح، وكذا فعلت ما سيأتي مثله بعد ذلك. (¬3) رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386)، من حديث أبي هريرة. (¬4) في الأصل: هذه، وما وضعته هو الذي يقتضيه السياق.

قَال لأَصْحَابهِ الذِين أَكَلُوا مَعَهُ: "لَتسْئَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذا اليَوْمِ"، يَعْنِي: تَسْأَلُونَ عَنْهُ سُؤَالَ امْتِنَانٍ، لَا سُؤَالَ حِسَابٍ، ولا سُؤَالَ مُنَاقَشَةٍ. قالَ أَبو عُمَرَ: أَدْخَلَ مَالِكٌ هَذا الحَدِيثَ في كِتَابِ الجَامِعِ في إثْرِ حَدِيثِ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم -، لِكَيْ يُرِي النَّاسَ تَوْسِعَةَ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- عَلَى هَذِه الأُمَّةِ في أَكْلِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: في قَوْل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأَبي الهَيْثَمِ حِينَ هَمَّ بِذَبْحِ الشَّاةِ، فَقَالَ لَهُ: "نكبْ عَنْ ذَاتِ الدَّرِّ"، يَعْنِي: اتْرُكْ ذَبْحَ ذَاتِ اللَّبَنِ. فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: تَرْكُ ذَبْحِ ذَوَاتِ اللَّبَنِ الَّتي يَعِيشُ أَهْلُهَا مِنْ لَبَنِهَا، وفِيهِ أَيْضَاً: قُصُودُ الإخْوَانِ إلى أَبْيَاتِ إخْوَانِهِمْ كلِ طَعَامِهِمْ عِنْدَ الحَاجَةِ إلى الطَّعَامِ، وفِيهِ: إكْرَامُ الرَّجُلِ زُوَّارَهُ بأَطْيَبَ طَعَامِهِ، وهَذا مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَصِلَةِ الإخْوَانِ بَعْضَهُمْ بَعْضَاً. * قالَ أَبو عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَكُولاً، ولَذِلَكَ أَكَلَ الصَّاعَ مِنَ التَّمْرِ، ولَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ طَعَامَاً قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَضَرَّ بهِ الجُوُعُ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: التَّمْرُ إذا نُزِعَ نَوَاهُ ذَهَبَ نِصْفُهُ، وإنَّمَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ الصَّاعِ الذِي وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ نِصْفُ الصَّاعِ، وفِي أَكْلِ عُمَرَ لِجَمِيعِه في مَرَّة وَاحِدَةٍ مِنَ الفِقْهِ: إبَاحَةُ الشِّبَعِ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ إذا كَانَ مِنْ حَلاَلٍ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ عُمَرَ للَّذِي أَكَلَ مَعَهُ الخُبْزَ بالسَّمِنِ: (كأنَّكَ مُقْفِرٌ، يَعْنِي بالمُقْفَرِ: الذِي لَا شَيءَ لَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ سَمْنَاً ولَا أَكْلاً عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ في حَاجَةٍ، فَقَالَ: (لَا آكُلُ سَمْنَاً حَتَّى يَحيَا النَّاسُ)، يَعْنِي: حَتَّى يُغَاثُ النَّاسُ بالحَيَا والخَصْبِ، وأَرَادَ بِهَذا عُمَرُ أنْ يُشَارِكَ النّاسَ في ضِيقِ عَيْشِهِمْ، وهَكَذا يَفْعَلُ [أَهْلُ] (¬1) العَدْلِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: أَكْلُ الجَرَادِ مُبَاحٌ، ولِذَلِكَ قَا" عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ حِينَ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: (إليه)، وما وضعته هو المناسب لسياق الكلام.

سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: (وَدِدتُ أَنَّ عِنْدَنا قَفْعَة نَأكُلُ مِنْهُ) يَعْنِي: لَيْتَ عِنْدَنا قَفَّة مَمْلُوئَةً مِنْ جَرَادٍ نأكُلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الجَرَادُ إلَّا بِذَكَاة، لأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ البَرِّ الذِي يَتَولَّدُ فِيهِ، وذَكَاتُهُ قَطْعُ أَرْجُلِهِ وأَجْنِحَتِهِ، أَو يُسْوَى في النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ، فإن مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْنَعَ بهِ شَيءٌ مِنْ هَذا لَمْ يُؤْكَلْ لأَنَّهُ مَيْتَةٌ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: حَدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ حِينَ بَعَثَ إلى أُمِّه في الطَّعَامِ الذِي أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَ بهِ زُوَّارَهُ، فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: إكْرَامُ الرَّجُلِ إخْوَانَهُ الذِينَ يَزُورُونه بِطَعَامِهَ، وأن لا يَحْتَقِرَ الإنْسَانُ شَيْئَاً يُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيْ إخْوَانِهِ، وَتَرْكُ القَوْمِ الأَكْلَ إذا لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إلى الطَّعَامِ، وشُكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- عِنْدَ تَوَسُّعِهِ عَلَى العَبْدِ بِنِعْمَةٍ، لِقَوْلِ أَبي هُرَيْرَةَ: (الحَمْدُ للهِ الذِي أَشْبَعَنا مِنَ الخُبْزِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامَنَا إلَّا الأَسْوَدَيْنِ التَّمْرَ والمَاءَ)، وإنَّمَا قَالَ: (الأَسْوَدَانِ) والمَاءُ لَيْسَ بأَسْوَدَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ، فَغَلَبَ أَحُدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، كَمَا قِيلَ: (سُنَّةُ العُمَرَيْنِ) يَعْنُونَ سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وعُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. وقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ في الغَنَمِ: (امْسَحْ الرُّعَامَ عَنْهَا)، يَعْنِي: امْسَحْ مُخَاطَهَا. وقَوْلُهُ: (أَطِبْ مَرَاحَهَا)، يَعْنِي: نَظِّفِ المَوْضِعَ الذِي تَرُوحُ إليه، وتَأْوِي فِيهِ. (فإنَّهَا مِن دَوَابِّ الجَنَّةِ)، يَعْنِي: هِيَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الجَنَّةِ، قالَ اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- في أَهْلِ الجَنَّةِ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22] يَعْنِي بهِ: لَحْمَ الضَّأنِ. و (الثَّلَّةُ مِنَ الغَنَمِ) هِيَ: القَلِيلَةُ مِنَ العَدَدِ، والثُّلَّةُ -بِرَفْعِ الثَّاءِ- الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وقَوْلُ أَبي هُرَيْرَةَ: (لَيَأتِيَنَّ عَلَىِ النَّاسِ زَمَان يَكُونُ فِيهِ الثَّلَّةُ مِنَ الغَنَم خير مِنْ دَارِ مَرْوَانَ)، يَعْنِي: أنَّ الزَّمَانَ يَتَغيَّرُ بِتَغَيِّر أَهْلِهِ، وَيَشْتَدُّ الحَالُ حَتَّى يَكونَ حَالُةُ الفَارِّ بِدِييهِ المُسْتَغْنِي بالغَنَمِ اليَسِيرَةِ خَيْرٌ مِنْ حَالَةِ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ، ولَمْ يَكُنْ أَبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ هَذَا إلَّا بِعِلْمٍ سَمِعَهُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ للَّذِي سَأَلهُ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ لَبَنِ يَتيمِهِ،

فَقَالَ لَهُ: (إنْ كنتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا)، يَعْنِي: إنْ كُنْتَ تَطْلُبُ الضَّالَّةَ مِنْهَا حَتَّى تَرُدَّهَا. (وتَهنَأَ جَرْبَاهَا)، يَعْنِي: تَطْلِي الجَرْبَةَ مِنْهَا بالهِنَاءِ، وَهُوَ القَطِرَانُ. (وَتَلُطُّ حَوْضَهَا)، يَعْنِي: تُطَيِّنُ الحَوْضَ الذِي تَصُبُّ فِيهِ لِهَا المَاءَ عِنْدَ شُرْبِهَا وَتُصلِحَهُ. (فَاشرَبْ غير مُضِرٍّ بنَسْلٍ)، يَعْنِي: اشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا مَا لَمْ يَضُرُّ شُرْبُكَ بأَوْلاَدِهَا فَيَمْنَعَهَمْ لَبَنُهَا. (ولَا تَنْهَك في الحَلْبِ)، يَعْنِي: لَا تَسْتَقْصِ جَمِيعَ اللَّبَنِ الذِي في ضُرُوعِهَا. فَفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: أَلَّا يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ يَتِيمِه إلَّا عِنْدَ خِدْمَتِهِ إيَّاهُ، يَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي خِدْمَتِهِ لَهُ؛ لأن الله -جَلَّ وَعَزَّ- قَدْ مَنَعَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ اليَتَامَى. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لِجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ حِينَ رَأَهُ قَدْ اشْتَرَى لَحْمَاً بِدَرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ: (أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكمْ أَنْ يَطْوِي بَطْنَهُ عَنْ جَاره وابنِ عَمِّه)،يَعْنِي: أَنْ يَصْبِرَ عَنْ أَكْلِ الشَّهَواتِ، ويُؤثرَ بِطَعَامِهِ جَارَهُ وابنَ عَمِّه عِنْدَ الحَاجَةِ والضَّرَوُرَةِ، ثُمَّ نَزَعَ (¬1) بالآيةِ التّي أُنْزِلَتْ فِيمَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ في حَيَاتِهِ الدُّنيا، وَهَذِه الآيةُ إنَّمَا نَزَلَتْ في قَوْمٍ كُفَّارٍ وامْتَثَلَهَا عُمَرُ في أَهْلِ الإتْرَافِ عَلَى وَجْهِ الزُّهْدِ في الدُّنيا والقَصْدِ فِيهَا. قالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ: إدْمَانُ أكلِ اللَّحْمِ يُقْسِي القَلْبَ، وإغْبَابُ أَكْلِهِ هُوَ الصَّوَابُ (¬2)، وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: "مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمَاً سَاءَ خُلُقُهُ" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) يعني استدل. (¬2) يعني: أكله في يوم وتركه في يوم آخر، ومنه الحديث: (زر غبا تزدد حبا). (¬3) رواه البيهقي في شعب الإيمان 5/ 92، وإسناده ضعيف، ويصح الحديث من قول علي.

باب في لباس الخاتم إلى آخر باب الطيرة والرؤيا

باب في لباس الخَاتَمِ إلى آخِرِ بَابِ الطَّيرَةِ وَالرُّؤيَا * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: أَجَازَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ التَّخَتُّمَ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، وَالمُسْتَحْسَنُ في لِبَاسِ الخَاتَمِ أَنْ يُجْعَلَ في اليَدِ الشِّمَالِ، وذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ يَأخُذَ الشَّيءَ بِيَمِينهِ فَيَجْعَلَهُ في شِمَالِهِ، ولَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَنْجِي الرَّجُلُ عِنْدَ الغَّائِطِ وفِي شِمَالِهِ خَاتَم في فُصّهِ نَقْشُ اسْمِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، قَالَهُ مَالِكٌ وغَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ. ورَوَى أَبو دَاوُدَ، عَنْ نَصْرِ بنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبي عَلِي الحَنَفِيِّ، [عَنْ هَمَّامٍ] (¬1)، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنسَ بنِ مَالِكٍ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا أرَادَ الخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ)، قالَ أَبو دَاوُدَ: هَذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وإنَّمَا المَعْرُوفُ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عنْ زِيَادِ بنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ خَاتَمَاً مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ نَبَذَهُ) (¬2). * وهَكَذا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: وَقَعَ في غَيْرِ [مُوَطَّأ] (¬3) يَحْيىَ بنِ يَحْيىَ: "الرِّفْقَةُ الَّتي فِيهَا الجَرَسُ لَا تَصْحَبُهَا المَلاَئِكَةُ" (¬4)، ولِهَذا الحَدِيثِ تَرْجَمَ مَالِكٌ في كِتَابِ ¬

_ (¬1) زيادة من سنن أبي داود. (¬2) سنن أبي داود (19)، وتكملة كلامه: (والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام). (¬3) في الأصل: الموطأ، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬4) رواه مسلم (2112)، وأبو داود (2555)، والترمذي (1703)، من حديث أبي هريرة بنحوه.

الجَامِعِ مِنْ رِوَايةِ يحيى: (مَا جَاءَ في نَزْعِ المَعَالِيقِ وَالجَرَسِ). * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَبْقِيَنَّ في عُنقِ بَعِيرٍ قِلاَدَةً مِنْ وَتَر إلَّا قُطِعَتْ"، إنَّمَا أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَطْعِهَا مِنْ أَجْلِ أنَّ الذِي عَلَّقَهَا في عُنُقِ بَعِيرِه أَرَادَ بِتَعْلِيقِهِ إيَّاهَا مُدَافَعَةَ العَيْنِ، وإنَّمَا للعَيْنِ الوُضُوءُ كَمَا أَمَرَ بهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. ومِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بنِ أَبي سُلَيْمَانَ الكُوفيِّ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قَلِّدُوا الخَيْلَ، ولَا تُقَلِّدُوهَا الأَوْتَارَ" (¬1)، قالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ: لَا تَرْكَبُوهَا في الفِتَنِ، فَيُعَلِّقُ في عُنُقِ فَرَسِهِ وَتَراً يَطْلُبُ بهِ، إن قتَلَتَ عَلَيْهِ أَحَداً وأنتَ ظَالِمٌ (¬2). ولَا بَأْسَ بتَقْلِيدِ الخَيْلِ قَلاَئِدَ العِهْنِ إذا لَمْ يُرِدْ مُقَلِّدُهَا بِتَقْلِيدِه إيَّاهَا مُدَافَعَةَ العَيْنِ، وإنَّمَا أرَادَ بِذَلِكَ الزِّينَةَ، ولَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الكُتُبِ التّي فِيهَا أَسْمَاءُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَعْنَاقِ المَرْضَى عَلَى جِهَةِ التَّبُّركِ بِهَا إذا لَمْ يُرِدْ مُعَلِّقُهَا عَلَى لَبْسِهِ بِذَلِكَ مُدَافَعَةَ العَيْنِ. * قالَ ابنُ وَضَّاح: (الخَرَّارُ) الذِي اغْتَسَلَ فِيهِ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ هِيَ عَيْنٌ بِخَيْبَرَ. * قالَ عِيسَى: مَعْنَى قَوْلهِ: (فَلُبَطَ سَهْلٌ) أَيْ: صَرَعْتُهُ الحُمَّى، فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[حِينَ] (¬3) أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ أَنْ يَتَوضَّأ لَهُ. قالَ ابنُ نَافِعٍ: صِفَةُ وُضُوئِهِ هُوَ: أنْ يَغْسِلَ العَائِنُ وَجْهَهُ، وَيَدْيهِ، وَمِرْفَقَيْهِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَةُ إزَارِهِ، وَهُوَ الطَّرَفُ المُتَدَلِّي الدَّاخِلُ إلى البَدَنِ ¬

_ (¬1) لم أجده من رواية حماد، وإنما وجدته من حديث أبي وهب الجُشَمي، رواه أبو داود (2553)، والنسائي (3565)، وأحمد 4/ 345. (¬2) نقل قول وكيع بن الجراح: ابن عبد البر في التمهيد 17/ 165، ونص العبارة التي نقلها عنه: (لا تركبوها في الفتن، فمن ركب فرساً في فتنة لم يسلم أن يتعلق به وتر، يطلب به إن قتل أحداً على فرسه في مخرجه في الفتنة عليه، وهو في خروجه ذلك ظالم) (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

مِنَ المِئْزَرِ، وُيجْمَعُ ذَلِكَ الماءُ في إنَاءٍ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَى المَعِينِ، فَإنَّهُ يَبْرَأُ بإذنِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. قالَ أَبو عُمَرَ: إذا اتَّهَمَ بِذَلِكَ أَحَداً وكَانَ بِذَلِكَ مَعْرُوفَاً قُضِيَ عَلَيْهِ بالوُضُوءِ كَمَا فَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ: وإنَّمَا يُسْتَرْقَى للمَرِيضِ إذا لَمْ يُعْلَمْ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ، فإذَا عُرِفَ مَنْ أَصَابَهُ بهِ أُمِرَ بالوُضُوءِ. قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاضَنَةِ ابْنَيْ جَعْفَرِ بنِ أَبي طَالِبٍ: "اسْتَرقُوا لَهُمَا، فَإنَّهُ لَوْ سَبَقَ شَيءٌ القَدَرَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ" يُرِيدُ: أَنَّ العَيْنَ الَّتي يَكُونُ الوَعْكُ والمَرَضُ بِسَبَبِهَا حَقٌّ، وأنْ الرُّقَى بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وأَسْمَائِهِ مِمَّا يُسْتَشْفَى بهِ المَعِينُ، وهَذا إذا لَمْ يُعْرَفْ مَنْ أَصَابهُ بِعَيْنِهِ، وأَمَّا إذا عُرِفَ أُمِرَ بالوُضُوءِ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُثْمَانَ بنِ أَبي العَاصِي: "امْسَح الوَجَعَ سَبْعَ مَرَّاتِ، وقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وقُدْرَتهِ مِنْ شرّ مَا أَجِدُ" هَذا الحَدِيثُ أَصْلٌ في أَنْ لَا يَسْتَرِقِي الإنْسَانُ إلَّا بأَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وَصِفَاتِهِ وكِتَابِهِ، وقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذَاتِ ويَنْفَثُ، كَمَا يَنْفَثُ آكِلُ الزَّبِيبِ إذا رَمَى بعُجْمِهِ مِنْ فِيهِ، وهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ في صَحَّةِ الأَجْسَامِ، وَالإسْتِعَانة باللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- مِنَ البَلاَءِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: كَرِهَ ابنُ وَهْبٍ أَنْ يَرْقَي اليَهُودِيُّ أَو النَّصْرَانِيُّ المُسْلِمَ، وأَجَازَهُ مَالِكٌ إذا رَقَا بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، كَمَا قالَ أَبو بَكْرٍ لليَهُودِيَّةِ الَّتي كَانَتْ تَرْقِي عَائِشَةَ، فقَالَ لَهَا: (ارْقِيهَا بِكِتَاب اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-)، يَعْنِي: أَرْقِيهَا بِكَلاَمِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- الذِي فِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. " قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ"، يَدُلُّ هَذا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ دَاءٍ قَدْ جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- في الأَرْضِ دَوَاءَهُ، فَالتَدَاوِي مُبَاحٌ، والإسْتِرْقَاءُ مُبَاحٌ، والإكْتِوَاءُ مُبَاحٌ، وتَرْكُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُبَاحٌ لِمَنْ تَرَكَهُ واسْتَسْلَمَ

لأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، وَرَضِيَ بِقَضَائهِ وَصَبرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ كَوَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بنَ زُرَارَةَ (¬1)، وكَوَى سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ حِينَ قُطِعَ عِرْقَهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ (¬2)، وَفَعَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ مثْلَ ذَلِكَ. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحُمَّى: "أَبرِدُوَها بالمَاءِ" قالَ أَبو عُمَرَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَتَبَرَّدَ المَحْمُومُ بالمَاءِ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ، إمَّا يَغْسِلُ، أَو يُرَشُّ، أَو يُبَلِّلُ، أو كَيْفَ مَا احْتَمَلَ، وَيُقَالُ: (اكْشِفِ البَأسَ رَبَّ النَّاسِ لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاءُكَ). * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا عَدوَى"، يَعْنِي: أنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ شَيءٌ مِنَ الأَمْرَاضِ إلى غَيْرِ مَنْ بهِ المَرَضُ. وقَوْلُهُ: "لَا هَامَ، ولَا صَفَرَ"، يَعْنِي: لَا تَتَطَيَّرُوا بِالْهَامِ، كَتَطَيُّرِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ بِهَا، وذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إذا نَزَلَ طَيْرُ الهَامِ عَلَى بَيْتٍ خَرَجَ مِنْهُ مَيِّتٌ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ذَلِكَ، وكَانُوا أَيْضَاً يَقُولُونَ: إذا كَثُرَتِ الصُّفَارُ في جَوْفِ الرَّجُلِ قَتَلَتْهُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هذا مِنْ قَوْلهِمْ، وأَوْجَبَ أَنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الفَاعِلُ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ولَا يَحِلُّ المُمْرِضُ عَلَى المُصِحِّ"، يَعْنِي: لَا يَحِلُّ صَاحِبُ الإبِلِ المِرَاضِ، أَو المَاشِيةُ المَرِيضَةِ عَلَى صَاحِبِ المَاشِيةِ الصَّحِيحَةِ، فَرُبَّمَا مَرِضَتِ الصِّحَاحُ فَيَقَعُ في نَفْسِ صَاحِبهَا أَنَّ بِسَببِ حُلُولِ صَاحِبِ الإبِلِ المَرِيضَةِ عَلَيْهِ مَرِضَتْ إبلُهُ، أَو مَاشِيتَهُ، فَسَادَاً بِهَذا الظَّنًّ. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 321، من حديث أنس. وسعد بن زرارة هو أبو أمامة، ويقال له أسعد، وهو النقباء ليلة العقبة، وأول من بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ، وقد شهد العقبة الأولى والثانية والثالثة، وكان نقيب بني النجار، وهو أول من صلى الجمعة بالمدينة، مات قبل بدر سنة إحدى من الهجرة وهو أول من دفن بالبقيع، ينظر: تعجيل المنفعة 1/ 32. (¬2) رواه أبو داود (3866)، وابن ماجه (3494)، وأحمد 3/ 363، من حديث جابر بن عبد الله.

ومَنْ غَيْرِ حَدِيثِ مَالِكٍ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قِيلَ لَهُ: البَعِيرُ الجَرِبُ يَحِلُّ بالإبِلِ فتجْرَبُ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلُ؟ " (¬1)، يَعْنِي: أنَّ الله -جَلَّ وَعَزَّ- الذِي أَجْرَبَ الأُولَى هُوَ فَعَلَ بِهَذِه مَا فَعَلَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلهِ: (لَا عَدْوَى). * وقِيلَ أَيْضَاً في تَأْوِيلِ قَوْلهِ: "لَا يَحِلُّ المُمْرِضُ عَلَى المُصِحِّ"، أَيْ: لَا يَحِلُّ مَنْ أَصَابَهُ جُذَامٌ مَحِلَّةِ الأَصِحَّاءِ فَيُؤْذِيهِم بِذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ رَائِحَةِ الجُذَامِ، وقَدْ قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ للمَرْأةِ المَجْذُومَةِ الَّتي كَانَتْ تَطُوفُ بالبَيْتِ: (لَوْ جَلستِي في بَيْتِكِ كَانَ خَيْرَاً لَكِ)، وإنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ رَائِحَةِ الجُذَامِ، والنَّظَرِ إليهَا. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: أَمْرَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بإحْفَاءِ الشَّوَارِبِ، وإعْفَاءِ اللِّحَى، قالَ ابنُ أَبِي زَيْدٍ: مَعْنَى هَذا أنْ تُعْفَى اللِّحْيَةُ، وتُوَفَّرُ، ولَا تُقَصُّ. قال مَالِكٌ: ولَا بَأْسَ بالأَخْذِ مِنْ طُولهَا إذا طَالَتْ سَرَفَاً. وقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابةِ والتَّابِعِينَ، وإنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لأَنَّهَا إذا طَالَتْ سَرَفَاً سُمِجَتْ، وخَرَجَ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ إلى حَدِّ الشُّهْرَةِ، فإذا أَخَذَ مِنْ طُولهَا يَسِيرَاً حَسُنَ ذَلِكَ. وأَمَّا إحْفَاءُ الشَّوَارِب فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ طَرَفِ شَعْرِ شَارِبهِ حَتَّى يَظْهَرَ طَرَفُ الشَفَّةِ، لَا حَلْقُهُ كُلُّهُ؛ لأن حَلْقَهُ مُثْلَةٌ. * [قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: القُصَّةُ الَّتي تَنَاوَلَها مُعَاوِيةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ يَدِ الحَرَسِيِّ كَانَتْ جُمَّةً مِنْ شَعَرٍ، وذَلِكَ أَنَّ المَرْأةَ رُبَّمَا جَعَلَتْ عَلَى شَعْرِهَا جُمَّةً مِنْ غَيْرِ شَعْرِهَا لِكَيْ يَرَى مَنْ يَرَاهَا أنَّهُ شَعْرُهَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ أَجْلِ أنَّ فَاعِلَةَ ذَلِكَ لَمْ تَرْضَ بِمَا أَعْطَاهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَغَيَّرَتْ خَلْقَهَا، كَفِعْلِ الوَاصِلَةِ شَعْرَهَا بِغَيْرِ شَعْرِهَا، وقَدْ لَعَنَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5387)، ومسلم (2220)، من حديث أبي هريرة.

يَعْنِي الفَاعِلَةَ ذَلِكَ والمَفْعُولَ بِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا تَعَاوَنتَا عَلَى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. وقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: "إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِه نِسَاؤهُمْ"، فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ عُصَاة كَانَ شَرِيكَاً لَهُمْ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: فَرْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ سُنَّةٌ، وقَدْ فَرَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَعْرَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْسَلاً. * وَرَخَّصَ مَالِكٌ في صَبغ الشَّعْرِ بِغَيْرِ السَّوَادِ، وتَرْكُ الصَّبغ عِنْدَهُ مُبَاحٌ لِمَنْ تَرَكَ شَعْرَهُ غَيْرَ مَصبُوغٍ. أَجَازَ مَالِكٌ خِصَاءَ الأَنْعَامِ، لأَنَّهُ صَلاَح لِلُحُومِهَا، وإنَّمَا يُكْرَهُ خِصَاءُ الخَيْلِ، والبِغَالِ، والحَمِيرِ لأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- في ظِلِّه"، يَعْنِي: يَجْعَلَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- في سِتْرهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. فَذَكَرَ أَوَّلَهُمْ: "الإمَامُ العَدْلُ"، يَعْنِي: الذِي يَقْصدُ العَدْلَ بَيْنَ خَلْقِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ في جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، ومَا هُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ مِنْ أُمُورِهِمْ، فإذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الأَجْرُ، وعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ، وإذَا جَارَ عَلَيْهِمْ كَانَ عَلَيْهِ الوِزرُ، وعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ. قَوْلُهُ: "وشَابٌّ نَشَأ في عِبَادِةِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-"، يَعْنِي: أَطَاعَ الله -جَلَّ وَعَزَّ- مِنْ وَقْتِ عَقَلَ، [وَرَاضِياً] (¬1) عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. قالَ أَبو عُمَرَ: المَحَبَّةُ في ذَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- عَلَى المُؤْمِنِينَ فَرْضٌ، وَهِيَ مِمَّا تُعِينُ عَلَى التَّقَرُّبِ إلى اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. وفِي هَذا الحَدِيثِ بَيَانُ أنَّ إخْفَاءَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إعْلاَنِهَا، لِقَوْلهِ: ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

"وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا"، وأَمَّا صَدَقَةُ الفَرْضِ فَإعْلاَنُهَا أَفْضَلُ مِنْ إخْفَائِهَا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، يَعْنِي: صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ [يَعْلَى] (¬1) بنِ عَطَاءٍ، قالَ: سَمِعْتُ الوَليدَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدّثُ عَنْ أَبِي إدْرِيس الخَوْلاَنِي قالَ: لَقِيتُ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ (¬2)، ثُمَّ ذَكَرَ الحَدِيثَ الذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي إدْرِيس الخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ. قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: سَنَدُ شُعْبَةَ في هَذا الحَدِيثِ هُوَ الصَّحِيحُ، لأَنَّ أبا إدْرِيسَ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، وذَلِكَ أَنَّ مَعْمَراً رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي إدْريسَ الخَوْلَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: (أَدْرَكْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفَاتَنِي مُعَاذ بنُ جَبَلٍ). قالَ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: وهَذا مِمَّا يُصَحِّحُ رِوَايةَ شُعْبَةَ في هَذا الحَدِيثِ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْوِيهِ أَبو إدْرِيس عَنْ عُبَادَةَ، لَا عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ. قالَ أَحْمَدُ: وانْفَردَ أَبو حَازِمِ بنُ دِينَارٍ عَنْ أَبي إدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ عَنْ مُعَاذٍ بِسَنَدِ هَذا الحَدِيثِ، والمَحْفُوظُ فِيهِ عَنِ الوَليدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي إدْرِيس الخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ (¬3). * قالَ أَبو عُمَرَ: الحُبُّ في اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، والتَزَاوُرُ في اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، والمُجَالَسَةُ في اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإيْمَانِ، كَمَا أَنَّ القَصْدَ في جَمِيعِ ¬

_ (¬1) جاء في الأصل: يحيى، وهو خطأ، والصواب ما أثبته، وينظر: تهذيب الكمال 32/ 393. (¬2) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (572)، عن شعبة بن الحجاج به. (¬3) رد ابن عبد البر هذه الأقوال في التمهيد 21/ 125، ورجح سماع أبي إدريس من معاذ، ثم وجه قول الزُّهريّ المتقدم بقوله: يحتمل أنه يريد فوقه لزوم وطول مجالسة، أو فاتني في حديث كذا، أو معنى كذا ... إلخ.

أَحْوَالِ الإنْسَانِ، والتُّؤَدَةَ -أَعنِي التَّأَنِّي في الأُمُورِ- وتَرْكَ العَجَلَةِ، وحُسْنَ السَّمْتِ، يَزِيدُ الوَقَارَ، والسَّكِينَةَ جُزْءٌ مِنْ عِشْرِينَ جُزْءَاً مِنَ النُّبُوَّةٍ، وهَذِه الأَحْوَالُ كُلُّهَا مِنْ أَخْلاَقِ الأَنْبَياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلاَمَهُ وَرَحْمَتُهُ عَلَيْهِمْ، فمَنْ كَانَت فِيهِ أَو بَعْضُهَا فَلْيَحْمَدِ اللهِ -جَلَّ وعَزَّ- عَلَيْهَا. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتي يُسَرُّ بِهَا مَنْ يَرَاهَا، أَو مَنْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءَاً مِنَ النُّبُوَّةِ، وذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النُبُوَّةِ هُوَ أَنْ يُخْبَرَ صَاحِبُهَا بأُمُورٍ رَغَائِبةٍ فَتَقَعُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، ولذَلِكَ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبوَّةِ إلَّا المُبَشِّرَاتِ"، يَعْنِي: الرؤيَا الصَّادِقَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالح. قالَ أَبو عُمَرَ: فأَمَّا الحُلْمُ فإنَّهُ الفَظِيعُ مِنَ الأَحْلاَمِ، يُرِيهِ الشَّيطَانُ الرَّجُلَ المُؤْمِنَ لِيُحْزِنْهَ بذَلِكَ، فَمَنْ رأَى مِثْلَ هَذهِ الرؤيَا اسْتَعَاذَ باللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- إذا انْتبهَ مِنْ نَوْمهِ مِنْ شَرِّهَا، وتَفَلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثاً، فإنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، وبهَذا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ رَأَى رُؤيَا يَكْرَهُهَا أنْ يَفْعَلَ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُهُ: "مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَا الله -جَلَّ وَعَزَّ- وَرَسُولُه - صلى الله عليه وسلم - " إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لأَنَّهُ لَعِبٌ يُلْهِي عَنْ ذَكْرِ اللهِ تَعَالَى. قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: سَأَلتْ [ابنَ أَبِي] (¬1) زَيْدٍ عَنْ صِفَةِ النَّرْدِ، فَلَمْ يَعْرِفْ صِفتَهُ، وقالَ لِي: هُوَ لَعِبٌ لَا يَكُونُ أَبَداً إلَّا بِقِمَارٍ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ كَمَا كَرِهَ الشِّطْرَنج، ولَيْسَ الإشْتِغَالُ بِهَذا والانْبِهَارُ فِيهِ مِنْ عَمَلِ الأَبْرَارِ (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة لابد منها، وجاء في الأصل: أبا زيد، وهو خطأ فيما أراه، وليس هو بأبي زيد عبد الرحمن بن إبراهيم بن عيسى الفقيه؛ لأن أبا محمد لم يدركه، فقد كانت وفاة أبي زيد سنة (256)، بينما كانت ولادته أبي محمد سنة (283)، وينظر: تاريخ علماء الأندلس 1/ 295. (¬2) ينظر كراهية مالك في التمهيد 13/ 179.

قالَ ابنُ القَاسِمِ: يُخْرَجُ مِنْ دَارِهِ مَنْ أَظْهَرَ المَعَاصِي فِيهَا، وفَعَلَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- والمُسْلِمُونَ، كمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا للَّذِينَ كَانُوا سُكَّانَاً في دَارِهَا وكَانُوا يَلْعَبُونَ بالنَّرْدِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: (إمَّا أنْ تَخْرِجُوا النَّرْدَ مِنْ دَارِي، وإلَّا أَخْرَجْتكُمْ مِنَها).

باب في الإستئذان، إلى آخر باب الغنم

بابٌ في الإسْتِئْذَانِ، إلى آخِرِ بَابِ الغَنَمِ قَوْلُ ابنِ عَبَّاس وابنِ عُمَرَ: "إنْتِهَاءُ السَّلَامِ إلى البرَكَةِ)، هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: السَّلاَمُ عَلَيْكمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: مَعْنَى سَلاَمِ اليَهُودِ عَلَى المُسْلِمِينَ: (السَّامُ عَلَيْكُمْ)، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ: المَوْتَ عَلَيْكُمْ، فأَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مِثلَ قَوْلهِمْ، فَيَحِيقُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زُمْعَةَ بنِ صالح قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ طَاوُوسَ يَقُولُ: (إذا سلَّمَ عَلَيْكُمْ اليَهُودِيُّ أو النَّصْرَانِيُّ، فَقُلْ لَهُ: عَلاَكَ السَّلاَمُ) (¬1)، أَيْ ارْتَفِعْ عِنْدَ السَّلَامِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: إنَّمَا كَرِهَ ابنُ عُمَرَ قَوْلَ المُسَلِّمِ عَلَيْهِ: (والغَادَيَاتَ والرَّائِحَاتِ)، يُرِيدُ: عَلَيْكَ سَلاَمُ الطَّيْرِ الَّتي تَغْدُوا في طَيَرَانِهَا، وتَرُوُحُ، فَكَرِهَ ابنُ عُمَرَ ذَلِكَ، لأَنَّهُ خِلاَفُ مَا فَعَلَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابُهُ، لأَنَّ السَّلاَمَ انتهَى إلى البَرَكَةِ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ مَكْرُوهَةٌ. ومَنْ قَالَ في سَلاَمِهِ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركَاتُهُ)، كُتِبَ لَهُ ثَلاَثُونَ حَسَنَةً، والمَرْأةُ مِثْلُ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 8/ 444، بإسناده إلى زمعة بن صالح به، وقال ابن عبد البر في التمهيد 17/ 93: هذا لا وجه له مع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو جاز مخالفة الحديث إلى الرأي في مثل هذا لا تسع في ذلك القول، وكثرت المعاني.

والإبْتِدَاءُ بالسَّلاَمِ مَأْمُور بهِ، والرَّدُّ وَاجِبٌ، قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، يَعْنِي: إذا قِيلَ لَكَ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ)، فَقُلْ: (وعَلَيْكُمْ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ)، فَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ بهِ، وإنْ قُلْتَ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ) كَمَا قِيلَ لَكَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ. * قَوْلُ السَّائِلِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي"، يَعْنِي: إذا أَرَدْتُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا، فقَالَ لَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ في المُرَاجَعَةِ، قَالَ لَهُ: "أتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُريَانَةً؟ قالَ: لَا"، فَلَا يَحِلُّ للإنْسَانِ أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ إلى شَيءٍ مِنْ عَوْرَةِ أُمِّهِ ولَا غَيْرِهَا مِنْ قَرَابَتِهِ، وَمُبَاحٌ للَرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَرَاهَا عُرْيَاتة وقَدْ يَغْتَسِلُ مَعَهَا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، ولَيْسَ يَنْبَغِي للعَبيِدِ والبَالِغِينَ مِنَ الأَحْرَارِ أنْ يَدْخُلُوا في الأَوْقَاتِ الثَّلاَثِ: بَعْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ، وفِيَ القَائِلَةِ، وبَعْدَ صَلَاةِ العِشَاءِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَأذِنُوا، لِئَلَّا يَطَلِعُوا عَلَى عَوْرَةٍ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: إنَّمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ إذا دَخَلَ بَيْتَاً لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، لأَمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى بذَلِكَ، وذَلِكَ قَوْلهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ} [النور: 61]، فَيَقُولُ الإنْسَانُ عِنْدَ دُخُولهِ: (السَّلاَمُ عَلَيْنَا مِنْ رَبنا -جَلَّ وَعَزَّ- وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركَاتَهُ). * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: لَمْ يَتَّهِمْ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أبا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ فِيمَا حَدَّثَهُ بهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ حَدِيثِ الاسْتِئْذَانِ، وإنَّمَا شَدَّدَ في ذَلِكَ عُمَرُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَرَاهِيةَ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لَمْ يَقُلْ. وَسَمِعَ حَدِيثَ الاسْتئِذَانِ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، وَسَمِعَهُ أَبو سعيد الخُدْرِيِّ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَحَدَّثَ بِهِ أَيْضَاً أَبو مُوسَى أبا سَعِيدٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: مَنْ سَلَّمَ في الإسْتِئْذَانِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَسْمَعْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ.

وقَالَ ابنُ نَافِع: لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ، ومَعْنَاهُ: أَنَّ المَرَّةَ الأُولَى اسْتِئْذَان، والثَّانِيةَ: مَشُورَةٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ في الدُّخُولِ أَمْ لَا؟، والثَّالِثَةُ: عَلاَمَة للرّجُوعِ، فَلِذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلاَثَةِ، وكَذَلِكَ في حَدِيثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ مَالِكٌ: لَا يُسَمَّتُ (¬1) العَاطِسُ إلَّا أَنْ يُسْمَعَ مِنْهُ حَمْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، كَمَا أَنَّهُ لَا يُرَدّ السَّلاَمُ إلَّا عَلَى مَنْ سَلَّمَ ابْتِدَاء، فتَسْمِيتُ العَاطِسِ هُوَ مِنْ نَحْوِ سَلاَمِ المُسْلِمِ، فإذَا زَادَ ذَلِكَ أَرْبَعَاً فَقُلْ: (إنَّكَ مَضْنُوكٌ)؛ أيْ مَزْكُومٌ، والضِّنَاكُ: الزُّكْمَةُ. * قَوْلُهُ: "لَا تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتَاً فِيهِ تَمَاثِيلُ أَو تَصَاوِيرُ" يُرِيدُ: لَا تَدْخُلُهُ مَلاَئِكَةُ الوَحِي، فأَمَّا الحَفَظَةُ فَلَا تُزَايِلُ أَصحَابَهَا في البِيُوتِ وغَيْرِهَا، قالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: رَخَّصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ في امْتِهَانِ مَا كَانَ مِنَ التَّصَاوِيرِ رَقْمَاً فَي ثَوْبٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ أَبو طَلْحَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- للإخْتِلاَفِ الذِي فِيهِ، ولَذِلَكِ قالَ: (هُوَ أَطْيَبُ لِنَفْسِي). وقَدْ رَوَى حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، مِنْ طَرِيقِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ عَلَى بَابِي سِتْرَاً فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَلْقُوهُ، فَقَطَّعْنَاهُ وَجَعْلَنَا مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬2)، فَجَاءَتِ الرُّخْصَةُ في هَذا الحَدِيثِ فِيمَا يُمْتَهَنُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بهِ، وأَمَّا مَا كَانَ صُورَةً قَائِمَة فَمَكْرُوهٌ إيْجَادُهَا في البِيُوتِ وغَيْرِهَا. ¬

_ (¬1) يقال: الشمت والسمت لغتان معروفتان عند العلماء، أما التشميت فمعناه: أبعد الله عنك الشماتة وجنّبك ما يشمت به عليك، وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن ونحو هذا، ينظر: التمهيد 17/ 337. (¬2) رواه البخاري (2347)، ومسلم (2107)، بإسنادهما إلى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه به.

* [قالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ]: مَعْنَى سُؤَالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّبَابِ حِينَ جُعِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ للأَكلِ، فَقَالَ: "مِنْ أينَ لَكُمْ هَذِه؟ "،لَمْ يُرِدْ بِسُؤَالِهِ عَنْهَا: هَلْ هِيَ مِنْ حَلاَلٍ أَو حَرَامٍ؟، وإنَّمَا أَرَادَ أنْ يَعْلَمَ: كَيْفَ وَصَلُوا إليهَا؟. وتَأَوَّلَ قَوْمٌ هَذا الحَدِيثَ، فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى يَسْألَ: هَلْ هُوَ مِنْ حَلاَلٍ أَو حَرَامٍ؟، ولَيْسَ لَهُمْ فِيهِ حُجة، لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَّهِم الذِينَ وَضَعُوا ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكَسْبِ الحَرَامِ وَقَدْ سَقَوْهُ في ذَلِكَ الحِينِ لَبَناً كَانَ عِنْدَهُمْ فَشَرِبَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلهُمْ، وحُكْمُ مَنْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخُوهُ أو صَدِيقُهُ طَعَاماً أَنْ يَأكُلَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الذِي وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ خَبيثُ المَكْسَبِ فَلَا يَأْكلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَإنَّمَا امْتَنَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَكلِ الضَّبِّ مِنْ أَجْلَ رَائِحَتِهِ، كَرِهَ أَنْ يَلْقَى بِهَا جِبْرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - عنْدَ نزولهِ عَلَيْهِ بالوَحِي، ولَمْ يُحَرِّمْ أَكْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَيْمُونَةَ في جَارِيَتِهَا الَّتي كَانَتْ شَاوَرَتْهُ في عِتْقِهَا، فقالَ لَهَا: "أَعْطِهَا أُخْتَكِ وَصِلِي رَحِمَكِ، فإنَّهُ خَيْرُ لَكِ"، فَدَلَّ هَذا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنَ العِتْقِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِ الكِلاَبِ المُؤْذِيةِ الَّتي مَنِ اقْتَنَاهَا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالح قِيرَاطَانِ مِنَ الأَجْرِ، وذَلِكَ أَنَّ اتِّخَاذَهُ لَهَا سَبَبٌ إلى أَنْ يُحْرَمَ مِنَ العمَلِ الصَّالح مِقْدَارَ قِيرَاطَيْنِ مِنَ الأَجْرِ، وأُبِيحَ لَهُ اتَّخَاذُهَا للصَّيْدِ والمَاشِيةِ للضَّرُورَةِ إليهَا، وقَدْ أَبَاحَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ المَيْتَةِ عِنْدَ الضرُورَةِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: أَصْلُ الفَدِيدِ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ الحَرَكَةِ، والعَمَلُ نَحْوَ مَا يَفْعَلُهُ الجَمَّالُونَ عِنْدَ سَقْيهِم الجِمَالَ وعِنْدَ رَحِيلِهِم عَلَيْهَا. قالَ مَالِكٌ: وَالفَدَّادُونَ هُمْ أَهْلُ الجَفَاءِ (¬1). * وقَوْلُهُ: "وَالفَخْرُ والخُيَلاَءُ في أَهْلِ الخَيْلِ"، يَعْنِي: الذِينَ يُمْسِكُونَهَا ¬

_ (¬1) نقل قول مالك: الباجي في المنتقى 7/ 290، وابن عبد البر في التمهيد 18/ 143.

للنتَاجِ، وأما أَصْحَابُ الغَنَم فَهُمْ أَهْلُ سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُفَدْفِدُونَ عِنْدَ سَقْيهَا [ولا عِنْدَ رَحِيلِهِم] (¬1) بِذَلِكَ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: وقَوْلُهُ: "رَأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِقِ"، يُرِيدُ أنَّهُم كَانُوا في ذَلِكَ الوَقْتِ كُفَّارَاً، وإنَّمَا فُتِحَ المَشْرِقُ في أَيَّامِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وسَكَنَهُ المُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَهَابِ الكُفَّارُ مِنْهُ. * قَوْلُهُ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمَاً يَتبعُ بِهَا شُعَفَ الجِبَالِ"، يُرِيدُ: بِرَعْيهَا فِيمَا تَشَعَّبَ مِنَ الجِبَالِ والمَوَاضِعِ الوَعِرَةِ. "يَفِرُّ بِدِينِهِ"، يَعْنِي: يَفِرُّ مِنَ الفِتَنِ الذِي يُذْهِبُ بالدِّينِ. وفِي هَذا مِنَ الفِقْهِ: اعْتِزَالُ النَّاسِ عِنْدَ فَسَادِ أَحْوَالِهِمْ كَيْفَمَا يُمْكِنُ الإعْتِزَالُ، لأَنَّ مُصِيبَةَ الدِّينِ لَا تَنْجَبِرُ. ومَنْ رَوَى هَذِه اللَّفْظَةَ "يَتْبَعُ بِهَا شُعَبَ الجِبَالِ" فإنَّهُ يَعْنِي: أَطْرَافَ لجِبَالِ وأَعَالِيهَا. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشيةَ أَحَدٍ إلَّا بإذْنِهِ"، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَلَّا يَسْتَبِيحَ أَحَدٌ مَالَ غَيْرِه إلَّا بإذْنِهِ، لأَنَّهُ إذْ نَهَى - صلى الله عليه وسلم -عَنْ حَلْبِ اللَّبَنِ بغَيْرِ إذْنِ صَاحِبهِ- وَهُوَ يُحْلَبُ غُدْوَةً وَيعُودُ عَشِيّهً في الضِّرْعِ فَمَا كَانَ مِمَّا لَا يَعُودُ أَحْرَى أَنْ لَا يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ في ذَلِكَ صَاحِبُهُ. وقَوْلُهُ: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤتَى مَشْرَبَتَهُ فَتُكسَرَ خِزَانَتُهُ"، يَعْنِي: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى غُرْفَتُهُ فَيُكْسَرُ قُفْلُهَا وُينتقَلُ طَعَامُهُ، فَمَعْنَى هَذا: أنْ يَكْرَه الإنْسَانُ لأَخِيهِ المُسْلِمِ مَا يَكْرَهَهُ لِنَفْسِهِ، ولَا يَرْضى في مَالِ أَخِيهِ مَالاَ يَرْضَاهُ في مَالِ نَفْسِهِ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واجتهدت بما رأيته مناسباً.

باب الأكل عند حضور الصلاة، إلى آخر باب ذكر المشرق

بابُ الأكلِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاة، إلى آخِرِ بَابِ ذِكْرِ المَشْرِقِ * رَوَى يَحْيىَ بنُ سَعِيدٍ القَطَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا وُضِعَ طَعَامُ أَحَدِكُمْ وأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا يَقُمْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ عَشَائِهِ" (¬1)، مَعْنَاهُ: لِكَيْ يَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ للصَّلاَةِ فَلَا تَشْتَغِلُ نَفْسُهُ بِسَبَبِ الطَّعَامِ الذِي قَامَ عَنْهُ، وكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمَرَ يَفْعَلُ. * قالَ ابنُ خَالِدٍ: رَوَى القَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ حَدِيثَ الفَأْرَةِ تَقَعُ في السَّمْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَيْمُونَةَ (¬2)، والصَّحِيحُ فِيهِ كَمَا رَوَاهُ يَحْيىَ بنُ يَحْيىَ في المُوطَّأ عَنْ مَالِكٍ. ورَوَى مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بنِ أَبي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الفَأْرَةِ تَقَعُ في السَّمْنِ، فَقَالَ: "إنْ كَانَ جَامِدَاً فأَلْقُوهَا ومَا حَوْلَهَا، وإنْ كَانَ مَائِعَاً فَلَا تَقْرَبُوهُ" (¬3)، يَعْنِي: لَا تَقْرَبُوهُ للأَكْلِ. قالَ ابنُ خَالِدٍ: وَحَدَّثنا ابنُ وَضَّاح، عَنْ سَحْنُونَ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بنِ عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبيهِ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3757)، بإسناده إلى يحيى القطان به، ورواه البخاري (642)، ومسلم (559)، بإسنادهما إلى عبيد الله بن عمر العمري به. (¬2) لم أجده في موطأ القعنبي، ونقله عنه أيضاً الجوهري في مسند الموطأ ص 182. (¬3) رواه النسائي (4260)، وابن عبد البر في التمهيد 9/ 38، بإسنادهما إلى معمر بن راشد به.

سَقَطَتْ في سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ إنْ كَانَ السَّمْنُ مَائِعَاً؟ فقَالَ: انتفِعُوا بهِ ولَا تَأكُلُوهُ" (¬1). [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: مِنْ هَذا الحَدِيثِ أُبِيحَ الإسْتِصْبَاحُ بالزَّيْتِ تَقَعُ فِيهِ الفَأْرَةُ فتَمُوتُ فِيهِ إلَّا في المَسَاجِدِ، وإنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ تَدْخُلَ النَّجَاسَةُ في المَسَاجِدِ. * قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إنْ كَانَ الشُّؤمُ فَفِي الدَّارِ، والمَرْأةِ، والفَرَسِ"، قالَ أَبو عُمَرَ: قَدْ يَكُونُ الشُّؤْمُ في هَذِه الأَشْيَاءِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، واللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- أَعْلَمُ، لِقَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (لَا عَدْوَى). وقَالَ مَعْمَرٌ: (شُؤْمُ المَرْأةِ أنْ تَكُونَ غَيْرُ وَلُودٍ، وَشُؤْمُ الفَرَسِ إذا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ في سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-). .................................................................... ...................................................... (¬2) * * * ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في التمهيد 369: هذا الإسناد عندنا غير محفوظ، وهو خطأ، ولا يعرف هذا الحديث من حديث سالم، وعبد الجبار ضعيف جداً، ورجح البيهقي في السنن 9/ 354 وقفه على ابن عمر. (¬2) سقطت ورقة واحدة فيما يبدو بعد هذا الموضع، وفيها الأبواب التالية: ما يكره من الأسماء، وما جاء في الحجامة، وما جاء في المشرق، وما جاء في قتل الحيات، وهذه الأبواب في الموطأ من صفحة 1417، إلى صفحة 1423.

[باب ما يؤمر به من الكلام في السفر، إلى آخر باب الكلام]

[بابُ مَا يؤْمَرُ بهِ مِنَ الكَلَامِ في السَّفَرِ، إلى آخِر بَاب الكَلَامِ] (¬1) ........................................................................... .......................................................................... ........................................................................... ........................................................................... .......................................... واليَومَ الآخِرَانِ تَطْهُرِي لنَا أَو تُودِّعَنا، فإن طَهَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قُبلْتَ. * وقَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ"، قالَ أَبو مُحَمَّدٍ: الوَعْثَاءُ أَصْلُهُ الشِّدَّةُ، وَهُوَ الطَرِيقُ الوَعِثُ الخَشِنُ. "والكَآبةُ": الحُزْنُ، وَهُوَ أَنْ يَنْقَلِبَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِه إلى أَمْرٍ يَكْتَئِبُ مِنْهُ ويُحْزِنُهُ، وَهُوَ سُوءُ المَنْظَرِ في الأَهْلِ والمَالِ، وذَلِكَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ بَعْدَهُ مَا يَغُمُّهُ فِيهِم. * قَوْلُهُ: "الرَّاكِبُ شَيطَانُ" يَعْنِي: رَاكِبَ البَعِيرِ الذِي يُسَافِرُ وَحْدَهُ عَلَى بَعِيرِه سَفَراً تُقْصَرُ في مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وإنَّمَا قِيلَ لِهَذا شَيْطَانُ لأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ الذِي يُسَافِرُ وَحْدَهُ. وكَذَلِكَ "الرَّاكِبانِ شَيْطَانَانِ" لأَنَّهُمَا فَعَلاَ فِعْلَ الشَّيْطَانَيْنِ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين وضعته من الموطأ، وذلك لضياع الورقة المتعلقة بأول هذا الباب وما يليه.

"والثَّلاَثَةُ رَكبٌ"، يَعْنِي: أنَّ سَفَرهُمْ ثَلاَثتَهُمْ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مُبَاحٌ، لأَنَّهُمْ يَتَعاوَنُونَ ويُسَدِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَيَتَقَدَّمُهُمْ إمَامُهُمْ في الصَّلَاةِ، وَيَكُونَا مِنْ وَرَائَهُ صَفَّاً. * وقَوْلُهُ: "فإن كَانَتِ الأَرْضُ جَدْبةً فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا" يعنِي: فَأَسْرِعُوا السَّيْرَ عَلَى الدَّوَابِّ في الأَرْضِ الجَدْبَةِ إنْ كَانَتِ الدَّوَابُّ ذَاتَ شَحْمٍ ومُخٍّ، والنَّقْيُّ: الشَّحْمُ وَالمُخُّ، ومَعْنَى هَذا: لِكَيْ تَخْرُجُوا مِنَ الجُدُوبَةِ إلى أَرْضٍ ذَاتِ مَاءٍ وَمَرْعَى، فإن كَانَتْ الدَّوَابُّ ضِعَافَاً فَارْتَفِقُوا ولَا تُعَنِّفُوا عَلَيْهَا. * قَوْلُ عُثْمَانَ: (لَا تُكَلِّفُوا الأَمَةَ غير ذَاتِ الصَّنْعَةِ الكَسْبَ) يَعْنِي: لَا تَجْعَلُوا عَلَيْهَا مَرْتَبَةً تَأْتِي بِهَا في كُلِّ يَوْم، لأَنَّهَا رُبَّمَا (كَسَبت بِفَرْجِهَا) وأَتَتَكْمُ بهِ، وذَلِكَ حَرَامٌ. (ولَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الكَسْبَ فإنَّهُ رُبَّمَا سَرَقَ) وجَاءَكُم بهِ، وذَلِكَ حَرَامٌ، ظَلاَ تُكَلِّفُوا الكَسْبَ مَنْ لَا يُطِيقُهُ. (وعَلَيْكُمْ مِنَ المَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا)، يَعْنِي: عَلَيْكُم بالحَلاَلِ، فَكُلُوا مِنْهُ واكْتَسِبُوه. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: كَرِهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ للإمَاءِ أَنْ يَتَشَبَّهَنَ عِنْدَ خُرُوجِهِنَّ بالحَرَائِرِ، ولِذَلِكَ قالَ لابْنَتِهِ: (أَلَمْ تَرِ جَارِيةَ أُخْتِكِ تَجُوسُ النَّاسَ في هَيْئَةِ حُرَّةٍ) يَعْنِي: رَأَهَا تَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ مُغَطِّيَةَ الرَّأْسِ بثَوْبٍ كَالحُرَّةِ، فَدَلَّ هَذا مِنْ قَوْلهِ عَلَى أنَّ الأَمَةَ تَخْرُجُ في حَوَائِجِهَا [مَكْشَوفَةَ] (¬1) الرَّأْسِ، وأَنَّهُ لَا بَأْسَ بالنظَرِ إلى شُعُورِ الإمَاءِ، إذْ مِنْ شَأْنِهِنَّ الخُرُوجُ مَكْشُوفَاتِ الرُّؤُوسِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: إنَّمَا كَانَ الإمَاءُ يَخْرُجْنَ في حَوَائِجِهنَّ مَكْشُوفَاتِ الرُّؤُوسِ عِنْدَ صَلاَحِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وأَمَّا حِينَ فَسَدَتْ فَلَا يَنْبَغِي للسَّادَةِ أَنْ يُخْرِجُوهُنَّ إلَّا مُسْتَّرَاتٍ كَالحَرَائِرِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: مكشفة، وما وضعته هو المناسب للسياق.

* [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: بَيْعَةُ الإمَامِ العَدْلِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى سُنَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وَسُنَّةِ رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا اسْتَطَاعَهُ النَّاسُ مِنْ أَعْمَالِ البرِّ، وهَكَذا أَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، وكَذَلِكَ الْتَزَمَهَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لِعَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ حِينَ وَلِيَ الخِلاَفَةَ. * قَوْلُهُ: "مَنْ قَالَ لأَخِيهِ المُسْلِمِ: يا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بهَا أَحَدُهُمَا" يَعْنِي: فَقَدْ لَحِقَ بِهَذِه الكَلِمَةِ إحْدَاهُمَا، فإن كَانَ الذِي قِيلَ لَهُ: يا كَافِرُ كَمَا قِيلَ فَهُوَ كَافِر، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِيفَ عَلَى القَائِلِ لَهُ: يا كَافِرُ، أَنْ يَصِيرَ كَافِرَاً بِقَوْلهِ لأَخِيهِ المُسْلِمِ: يا كَافِرُ، وإذا خِيفَ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَصِيرَ كَافِرَاً تَسَبَّبَ أَذِيَّتِهِ لأَخِيهِ المُسْلِمِ بالقَوْلِ القَبِيحِ، أَفَلَيْسَ هُوَ أَشَدُّ حَالاً وأَعْظَمُ وِزْرَاً فِيمَا يَسْتَضِرُّ بهِ مِنْ قَتْلِهِ في نَفْسِهِ، ومَالِهِ، وأَهْلِهِ؟!. ........................................................................... ........................................................................... .......................................................................... ....................................................... (¬1) وفِيمَا يَكْرَهُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ-، قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] يَعْنِي: سَدَادَاً مِنَ الإنْفَاقِ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذِي الوَجْهَيْنِ: "هُوَ الذِي يأتي هَؤُلاَءِ بَوْجهٍ وَهَؤُلاَءَ بَوَجْهٍ" يَعْنِي: الذِي يَكُونُ مَعَ النَّاسِ كُلِّهِمْ في غَيْرِ الحَقِّ يُدَاهِنُ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ في البَاطِلِ، فَهَذا مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-. ¬

_ (¬1) سقطت ورقتين أو أكثر من الأصل، وفيها سبعة أبواب من الموطأ، من صفحة 1434، إلى صفحة 1442.

* قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالحُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إذا كثرَ الخَبَثُ"، يَعْنِي: إذا كَثُرَ أَوْلاَدُ الزِّنَا. قالَ أَبو عُمَرَ: يَدُلُّ هَذا الحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ قَدْ يَهْلَكُوا بِهَلاَكِ أَهْلِ المَعَاصِي المُجَاهِرِينَ بِهَا، ولَكِنْ يَكُونُ هَلاَكُهُمْ شَهَادَةً لَهُمْ لأَمْرِهِمْ بالمَعْرُوفِ وكَرَاهِيَتِهِمْ لأَفْعَالِ أَهْلِ المَعَاصِي، واللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً سُبْحَانَهُ وتَعَالَى. * وَحَدِيثُ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ غَيَّرَ عَلَى أَهْلِ المَعَاصِي بِلِسَانهِ أَو بِقَلْبهِ لَمْ يُعَذَّبْ بِعَذَابِ العَامَّةِ، إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ المُنْكَرِ، وغَلَبَةِ السُّفَهاءِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ العُقُوبَةُ نَازِلَةَّ بَأَهْلِ المُنْكَرِ، ويَكُونُ مَوْتُ الصَّالِحِينَ شَهَادَة لَهُمْ، لإنْكَارِهِمْ عَلَى العُصَاةِ المُسْتَحِلِّينَ للمَحَارِمِ (¬1). * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لِنَفْسِهِ: (وَاللهِ لَتَتَّقِينَ اللهَ -جَلَّ وَعَزَّ- أَو لَيُعَذِّبَنَّكِ) مَعْنَاهُ: لَيُعَذِّبَكِ إنْ جَازَاكِ بِعَمَلِكِ، واللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وُيعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. قالَ مُجَاهِدٌ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِسَوْطِهِ، وتَسْبِيحِهِ، وَوَعِيدِه لأَهْلِ الأَرْضِ شَدِيدٌ (¬2). * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَرَكتُهُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائي وَمَؤُنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقةٌ"، يَعْنِي بِعَامِلهِ: عُمَّالَ حَوَائِطِه الَّتي مَاتَ عَنْهَا، يُخْرَجُ مِنْ ثَمَرتِهَا نَفَقَةُ نِسَائِهِ، ومَؤُنة عُمَّالِهَا، وَيَتَصَدَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الفُقَرَاءِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ تَجْرِي عَلَى نِسَائِهِ بَعْدَهُ مِنْ ثَمَرِ حَوَائِطِهِ إلى أَيَّامِ عُمَرَ بنِ الخطاب، فَلَمَّا صَارَ الأَمْرُ إليهِ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَتَمَادِيْنَ عَلَى ذَلِكَ، أَو يَقْطَعْ لَهُنَّ قِطَائِعَاً، فَاخْتَارَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ - رَضِيَ اللهُ ¬

_ (¬1) قال محمد بن عبد الحق اليفرني في كتاب الإقتضاب 2/ 528: (استحلوا العقوبة) أي: استوجبوا أن تحل بهم العقوبة، واستحقوا أن تحل بهم، وكذا رواه القنازعي بالقاف. (¬2) رواه الطبري في التفسير 1/ 150، والبيهقي في السنن 3/ 363.

عَنْهُمَا - أَنْ يَقْطَعَ لَهُمَا، فَقَطَعَ لَهُمَا قَطِيعَاً بالغَابةِ، وأَخْرَجَهُمَا عَنْ حِصْتِهِمَا عَنْ ثَمَرةِ تِلْكَ الحِيطَانِ، فَمَلَكَتَا مَا أَقْطَعَهُمَا مِنْ ذَلِكَ عُمَرُ إلى أَنْ مَاتتا، وَوُرِثَ ذَلِكَ عَنْهُمَا. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ في صِفَةِ جَهَنَّمَ: (لَهِيَ أَسْوَدَ مِنَ القَارِ) هَكَذا رَوَاهُ يَحْيىَ، ورَوَى غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ: (لَهِيَ أَشَدُّ سَوَادَاً مِنَ القَارِ)، وَهُوَ الصَّوَابُ، لأَنَّ العَرَبَ لَا تَقُولُ: هَذا أَسْوَدُ مِنْ هَذا، وإنَّمَا تَقُولُ: هُوَ أشَدُّ سَوَادَاً. قالَ: والقَارُ هُوَ الزِّفْتُ. * قَوْلُهُ في الصَّدَقةِ الطَّيِّبةِ: "إنَّ الله -جَلَّ وَعَزَّ- يُربِّيهَا لِصَاحِبهَا"، هُوَ مِنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: كَانَ بَيْرُحَاءُ حَائِطَاً لأَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ بالمدِينَةِ، وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدْخُلُهُ، وَيشْرَبُ مِنْ مَائِهِ. قَالَ أَبو عُمَرَ: هَذا أَصْلٌ في الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ الأَجِنَّةِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، فتصَدَّقَ بهِ أَبو طَلْحَةَ، فَقَالَ في ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ مَالٌ رَايحٌ"، يَعْنِي: يَرُوحُ عَلَى أَبي طَلْحَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَجْرَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ومَنْ رَوَاهَا: "هُوَ مَالٌ رَابِحٌ"- بالبَاءِ مُعْجَمَةٍ بِوَاحِدَةٍ تَحْتَها - فَمَعْنَاهُ: هُوَ مَالٌ كَثيرُ الرِّبْحِ. وَفِي قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي طَلْحَةَ: "اجْعَلهُ في الأَقْرَبِينَ"، فِيهِ مِنَ الفِقْهِ: أَنْ يَجْعَلَ المُوصَى إليه مَا فَضَلَ بِيَدِه مِنْ وَصِيَّةِ المُوصِي حَيْثُ يَرَاهُ مِنْ [سُوءِ المَخْبَرِ] (¬1). وفِيهِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ المَوْقُوفَةَ تَرْجِعُ إلى قَرَابةِ المُتَصَدِّقِ بِهَا، إلَّا أَنْ يُسَبِّلَهَا المُتَصَدِّقُ بِهَا في شَيءٍ مِنْ وُجُوهِ البرِّ فَلَا تُحَالُ عَنْهُ. ¬

_ (¬1) أثّر البلل على ما بين المعقوفتين فلم تظهر الكتابة، ولذا اجتهدت في وضعه.

وفِيهِ: أَنَّ [صَّدَقَةَ] (¬1) التَّطَوِّعِ عَلَى القَرَابةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقةِ عَلَى غَيْرِ القَرَابةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ في ذَلِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةُ رَحِمٍ، بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ لأَنَّهَا لِمَنْ سَمَّى اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- في كِتَابهِ، وذَكَرَهُمْ في قَوْلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَحِل الصَّدَقَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ", يُرِيدُ: بَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِم، لَا تَحِلُّ لَهُمْ صَدَقَةُ الفَرْضِ ولَا التَّطَوُّعِ. قَالَ عِيسَى: يُفْرَضُ للفَقِيرِ مِنْهُمْ مِنْ جِزْيةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وكَانَ ابنُ القَاسِمِ لَا يَرَى هَذا الحَدِيثَ إلَّا في صَدَقةِ الفَرْضِ خَاصَّةً، وكَانَ يَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مَوَالِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَدَقةِ التَّطَوُّعِ. إنَّمَا تَصَدَّقَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بحَبّةِ عِنَبٍ عَلَى المِسْكِينِ الذِي سَألها لِكَيْ تُرِي مَنْ يَحْضِرْنَهَا مِنَ النِّسَاءِ ألَّا تَحْتَقِرَنًّ شَيْئَاً تَتَصَدَّقُ بهِ وإنْ كَانَ يَسِيرَاً. * قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للذِي سَألهُ أَنْ يُعطيهِ شَيْئَاً، فَقَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ شَيءٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ"، يَعْنِي: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ مَالٍ فَلَنْ أَمْنَعْكُمُوهُ. ثُمَّ قَالَ: "إنَّ اليَدَ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"، فَفِي هَذا بَيَانُ أَنْ لَا يَسْأَلَ الإنْسَانُ أَحَداً شَيْئَاً إلَّا عِنْدَ الحَاجَةِ والضَّرُورَةِ، لأَنَّهُ إذا كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى مَعَ إبَاحَةِ المَسْألةِ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الضَّرُورَةِ. * وقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: "مَا أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ فَخُذْهُ، وإنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَزَّ- إليكَ"، في هَذا الحَدِيثِ رُخْصَةٌ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مَا أُعْطِيهِ مِنْ غَيْرِ مَسْألةٍ ولَا تَعَرُّضٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوِي الحَاجَةِ. وكَانَ مالكٌ يَرَى تَرْكَ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ عَلَى حَقّه [مِنَ] (¬2) الصَّدَقةَ تَجِبُ إليهِ مِنْ أَحَدٍ، وإنْ لَمْ يَسْألْ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: الصدقة، وما وضعته هو المناسب للسياق. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

* قالَ مَالِكٌ: وقَدْ كَانَ حَكِيمُ بنُ حِزَام يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عُمَرَ بنِ الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُعْطِيهِ مِنْ عَطَايَاه الوَاجِبةِ لَهُ، وكَانَ يَتَأَوَّلُ في ذَلِكَ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ: "أَنَّ خَيْرَاً لأَحَدِكُمْ أَنْ لَا يَأخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئَاً". [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: وهَذا الحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ عَنْ مَسْأَلةٍ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، ولَا يَخْتَلِفُ حَدِيثُ عُمَرَ وحَدِيثُ حَكِيمٍ، وفِي إشْهَادِ عُمَرَ عَلَيْهِ حِينَ كَانَ يأْبَى أَنْ يَأْخُذَهَ، دَلِيل عَلَى أَنَّ أَخْذَ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ، لأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، ولَوْ كَانَ التَّرْكُ خَيْراً عَلَى الجُمْلَةِ مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ولَعَذَرَهُ بِتَرْكِهِ إيَّاهُ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ الرَّجُلِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سَأَلهُ أَنْ يُعْطِيهِ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما يُعْطِيهِ، فَقَالَ لَهُ: "إنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ"، هَذا رَجُل جَاهِل، لأَنَّهُ اتَّهَمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[بالمَنع] (¬1) إيَّاهُ. قالَ مَالِكٌ: مَنْ تَوَلَّى إعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ لَمْ يَعْدِمْ مَنْ يَلُومَهُ، وقَدْ كُنْتُ أَتَولَّى إعْطَاءَهَا بِنَفْسِي حَتَّى أُوذِيتُ فَتَركتُهَا (¬2). [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: قَوْلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ ولَهُ أُوقِيَّةٌ أَو عَدْلُهَا مِنَ الوَرِقِ فَقَدْ أَلْحَفَ في مَسألَتِهِ"، والمُلْحِفُ [هُوَ] (¬3) الذِي لَا تِحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَخَذَهَا [سَرَفاً] (¬4)، وأَمَّا مَنْ أتَاهُ شَيءٌ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ فَمَبُاحٌ [لَهُ أَخْذُهُ]، ومُبَاحٌ لَهُ تَرْكُهُ إنْ أَحَبَّ ذَلِكَ. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: إنَّمَا غَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - علَى الرَّجُلِ الذِي كَانَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقةِ [وأَرَادَ إبِلاً] (¬5) سأَلهُ مِنْهَا، فَغَضِبَ وَلَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليس واضحة في الأصل، واستظهرته بما رأيته مناسباً للسياق. (¬2) نقل كلام مالك: ابن عبد البر في التمهيد 4/ 96. (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬4) ما بين المعقوفتين لم يظهر في الأصل، واستظهرته بما رأيته مناسباً للسياق، وكذا المعقوفتين التاليتين. (¬5) ما بين المعقوفتين أصابه البلل فلم يظهر واستظهرته بما رأيته مناسباً لسياق الحديث.

[...............] (¬1) إن أَخَذَ أَجْرَ سِعَايَتِهِ عَلَى جَمْعِ الصَّدَقةِ والقُدُومُ بِهَا إلى المَدِينةِ، ثُمَّ سَأَلهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيهِ مِنْهَا فَلَمْ يَفْعَلْ؛ لأنَّهُ مِنَ الأَغْنِياءِ الذِينَ لَا تَحِلُّ لَهُم الصَّدَقةُ، وإنَّمَا حَلَّ لَهُ الأَخْذُ مِنْهَا أوَّلاً مِنْ أَجْلِ سِعَايَتِهِ عَلَى جَمْعِهَا، لأنَّهُ مِنَ العَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَخَذَ أَجْرَ سِعَايَتِهِ صَارَ غَنِيَّاً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَائِرَهَا شَيْئَاً. * [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: الحِمَى الذِي اسْتَعَمَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ هُنَيَّاً هُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ المَدِينةِ، يُقَالُ لَهُ النَّقِيعُ -بالنُّونِ- وَهُوَ غَيْرُ البَقِيع الذِي فِيهِ المَقْبَرةُ، وهَذا الحِمَى هُوَ كَثيرُ الكَلأ، فَأَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنْ يَحْفَظَ ذَلِكَ الكَلأَ، ويُقَدَّمُ للرَعِي فِيهِ رَبُّ الصُّرَيْمَةِ والغُنَيْمَةِ. وَالصُّرَيْمَةُ مِنَ الغَنَمِ: هِيَ الثَّلاَثُونَ إلى الأَرْبَعِينَ. والغُنَيْمَةُ: العَدَدُ اليَسِيرُ، فَكَانَ يُبْدَأ بِهَؤُلاَءِ في الرَّعِي قَبْلَ أَصْحَابِ المَاشِيةِ الكَبيرَةِ، وإنَّمَا يَكُونَ هَذا في الشَّيءِ الذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الفُقَرَاءُ والأَغْنِياءُ مِنَ الكَلأ والمَاءِ عِنْدَ الحَاجَةِ، فَيُبْدَأُ فِيهِ بالفُقَرَاءِ قَبْلَ الأَغْنِياءِ، ثُمَّ يَكُونُ فَضْلَةُ ذَلِكَ للأَغْنِيَاءِ. [قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ]: اللِقْحَةُ الصَّفِيِّ: هِيَ النَّاقَةُ الغَزِيرَةُ اللَّبَنِ. * قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "وأَنا العَاقِبُ"، يَعْنِي: أَنَّهُ آخِرُ المُرْسَلَيْنَ، لأَنَّهُ أَرْسَلَ عَقِبَهُمِ أَجْمَعِينَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَنْزِلُ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - آخِرَ الزَّمَانِ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، ولَا يُغيِّرُ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً، وَيُصَلِّي خَلْفَ الإمَامِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَيتَزَوَّجُ. * * * ¬

_ (¬1) أصاب البلل مقدار ثلاث كلمات فمسحتها، ولم أستطع استظهارها.

قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَرْوَانَ: جَمَعَتُ هَذا الكِتَابَ عَلَى قَدْرِ فَهْمِي، وَمَبْلَغِ عِلْمِي، وعَلَى حَسَبِ مَا ضَبَطْتُهُ عَنْ شُيُوخِي -رَحِمَهُمْ اللهُ-، ولَسْتُ أُحَاشِي نَفْسِي فِيهِ مِنَ الغَلَطِ، والنِّسْيَانِ، والخَطَأ. فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ (تَفْسِيرِ يحيى بنِ إبْرَاهِيمَ بِنِ مُزَيْنٍ)، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ خُمَيرٍ، عَنِ ابنِ مُزَيْنٍ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (تَفْسِيرِ الأَخْفَشِ)، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو مُحمَّدٍ البَاجِي، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ (¬1)، عَنْ يحيى بنِ عُمَرَ (¬2)، عَنِ الأَخْفَشِ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (تَفْسِيرِ ابنِ نَافِعٍ)، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو عِيسَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ يحيى، عَنِ ابنِ نَافِعٍ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (مُوطَّأ ابنِ بُكَيْرٍ)، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو مُحَمَّدٍ بنِ رَشِيقٍ، عَنْ أَبي جَعْفَرٍ (¬3)، عَنِ ابنِ بكَيْرٍ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنَ (المُدَوَّنَةِ)، فَحَدَّثَنِي بهِ أَبو بَكْرِ بنِ أَبِي عُقْبَةَ، عَنْ جَبَلَةَ بنِ حَمُّودٍ، (¬4) عَنْ سَحْنُونَ بنِ سعيد. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (حَدِيثِ اللَّيْثِ)، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو عِيسَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ يحيى، عَنِ اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ. ¬

_ (¬1) هو ابن الجبَّاب القرطبي، الإِمام الفقيه، تقدم التعريف به. (¬2) هو يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الأندلسي ثم الإفريقي، الإِمام العلامة الفقيه العابد، توفي سنة (289)، ترتيب المدارك 4/ 357، والسير 13/ 462، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1354. (¬3) هو أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن رباح المؤدب المصري مولى آل مروان، المحدث، توفي سنة (296)، ينظر: فهرس ابن خير ص 84، وتاريخ الإِسلام 22/ 72. (¬4) هو أبو يوسف الصدفي، الإِمام الفقيه العابد، توفي سنة (299)، ترتيب المدارك 4/ 371، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 1/ 374.

ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ [مُصَنَّفِ] (¬1) ابنِ عَبْدِ الحَكَمِ، فَحَدَّثنِي بهِ أَبو جَعْفَرِ بنُ عَوْنِ اللهِ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ جَامِعٍ (¬2)، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ (¬3)، عَنْ أَبيهِ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (مُصَنَّفِ أَبي دَاوُدَ)، فَحَدَّثَنِي بهِ أَبو جَعْفَرٍ، عَنِ ابنِ الأَعْرَابِيِّ (¬4)، عَنْ أَبي دَاوُدَ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (مُصَنَّفِ البُخَارِيِّ)، فَحَدَّثَنِي بهِ أَبو جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ السَّكَنِ (¬5)، عَنِ الفِرَبْرِيِّ (¬6)، عَنِ البخاري. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ (مُسْنَدِ ابنِ أَبي شَيْبَةَ)، فَحَدَّثَنِي بهِ أَبو مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ، عَنِ ابنِ وَضَّاح (¬7)، عَنِ ابنِ أَبِي شَيْبَةَ. ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ ابنِ أَبي زَيْدٍ، فَبْعَضُهُ مِمَّا سَمِعْتُهُ قِرَاءَة عَلَيْهِ، ومِنْهُ مَا أَجَازَ لِي مِنْ رِوَايَتِهِ (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم يظهر جيداً في الأصل، وإنما ظهرت ملامح الكلمة غير واضحة، ولذا اجتهدت ما رأيته مناسباً. (¬2) هو أحمد بن إبراهيم بن جامع أبو العباس المصري، المحدث الصدوق، توفي سنة (351)، السير 16/ 24. (¬3) هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، أبو عبد الله القرشي الأموي مولاهم المصري، الإِمام العلامة الفقيه المصنف، انتهت إليه رئاسة الفقه بمصر، روى عنه النسائي في سننه، توفي سنة (268)، ترتيب المدارك 4/ 157، تهذيب الكمال 25/ 497، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية 3/ 1113. (¬4) هو أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري نزيل مكة، الإِمام العلامة الحافظ الزاهد شيخ الإسلام، وصاحب التصانيف، توفي سنة (340)، السير 15/ 407. (¬5) هو أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن المصري، تقدم التعريف به. (¬6) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفِرَبري، الإمام المحدّث الثقة راوي الجامع الصحيح عن البخاري، توفي سنة (320)، السير 15/ 10. (¬7) هو أبو عبد الله محمد بن وضاح المرواني، محدّث الأندلس مع بقي بن مخلد، كان محدثًا ثقة، توفي سنة (287)، السير 15/ 445. (¬8) قال ابن بشكوال في الصلة 2/ 323 في ترجمة أبي المطرف: ثم انصرف إلى القيروان فسمع على أبي محمد بن أبي زيد جملة من تواليفه وأجاز له سائرها.

ومَا كَانَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الأَبْهَرِيِّ، وَهُوَ مِمَّا كَتْبَهُ إليَّ إجِازَةً وأنَا بِمِصْرَ (¬1). ومَا كَانَ فِيهِ قَالَ أَبو عُمَرَ، وَهُوَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ الإشبيلِيُّ حِفْظُتُه عَنْهُ في طُولِ ...... (¬2) * * * ¬

_ (¬1) قال ابن بشكوال في الموضع السابق: أجاز له أبو بكر الأبهري ولم يلقه. (¬2) إلى هنا انتهت نسخة القيروان، وبهذا انتهى هذا الكتاب المستطاب، والله تعالى نسأل أن يغفر لمؤلفه، ويتجاوز عنه بما قدم من جهد في رعايته لكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتوضيحه لسنة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ويرفعه في أعلى عليين، وأن يعفو عن محققه وقارئه بمنّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين.

فهرس مصادر التحقيق والدراسة

فهرس مصادر التحقيق والدراسة 1 - الآثار المروية في الأطعمة السرية والآلات العطرية، لإبن بشكوال، تحقيق محمد ياسر الشعيري، مكتبة أضواء السلف، الرياض. 2 - أبو الوليد ابن الفرضي القرطبي، وكتابه الألقاب، إعداد أحمد اليزيدي، وزارة الأوقاف المغربية. 3 - أحكام القرآن، للجصاص، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت. 4 - الإستذكار، لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، لإبن عبد البر، تحقيق حسَّان عبد المنان ومحمود قيسية، دار النداء، بيروت. 5 - الإصابة في تمييز الصحابة، لإبن حجر، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت. 6 - أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق أحمد بن سعد حمدان، دار طيبة، الرياض. 7 - الإقتضاب في شرح غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب، لليفرني التلمساني، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثينين، مكتبة العبيكان، الرياض. 8 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والإنساب، لإبن ماكولا، تحقيق محمد بن يحيى المعلمي، دار المعارف العثمانية، بالهند. 9 - الأم، للإِمام الشافعي، المكتبة العلمية، بيروت.

10 - الأماكن، أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة، للحازمي، تحقيق وتعليق العلامة حمد الجاسر، إدارة مجلة العرب، الرياض. 11 - الإِمام مالك وأثره في علم في علم الحديث النبوي، لمشعل الحدادي، دار غراس، الكويت. 12 - الأنساب، للسمعاني، دار الكتب العلمية، بيروت. 13 - أوجز المسالك إلى موطأ مالك، للكاندهلوي، تحقيق الدكتور تقي الدين الندوي، دار القلم في دمشق. 14 - الأوسط في السنن والإجماع والإختلاف، لإبن المنذر، تحقيق الدكتور صغير أحمد حنيف، مكتبة طيبة، الرياض. 15 - الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ، للداني، تحقيق رضا الجزائري، وعبد الباري عبد الحميد، دار المعارف بالرياض. 16 - الإيمان، لأبي عبيد، تحقيق الألباني، الدار الأرقم بالكويت. 17 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت 18 - البدور الزاهرة في القراءات المتواترة العشرة، لعبد الفتاح القاضي، دار السلام، القاهرة. 19 - برنامج شيوخ القاسم التجيبي، تحقيق عبد الحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب في ليبيا وتونس. 20 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، للضبي، دار الكتاب العربي بمصر. 21 - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لإبن عذارى، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 22 - التاج والإكليل لمختصر خليل، للمواق، طبع بهامش مواهب الجليل للحطاب. 23 - تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق عمر التدمري، دار الكتاب العربي، بيروت. 24 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، مكتبة الخانجي، القاهرة. 25 - تاريخ دمشق، لإبن عساكر، تحقيق العمروي، دار الفكر، بيروت.

26 - تاريخ علماء الأندلس، لإبن الفرضي، الدار المصرية للتأليف والترجمة. 27 - تبيين الحقائق، للزيلعي، دار الفكر، بيروت. 28 - تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي، للمباركفوري، المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة. 29 - تذكرة الحفاظ، للذهبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 30 - تراث المغاربة في الحديث النبوي وعلومه، لمحمد بن عبد الله التليدي، دار البشائر الإِسلامية، بيروت. 31 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، وزارة الأوقاف المغربية. 32 التعليق على الموطأ، للوقشي، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، الرياض. 33 - تغليق التعليق، لإبن حجر، تحقيق الدكتور سعيد القزقي، دار عمار، والمكتب الإسلامي في بيروت. 34 - تفسير ابن أبي زمنين، وهو مختصر لتفسير يبيح بن سلام، مكتبة الفاروق بمصر. 35 - تفسير ابن كثير، مكتبة الفتح بالشارقة. 36 - تفسير الطبري، دار المعرفة، بيروت. 37 - تفسير القرطبي، دار الكتب المصرية. 38 - تفسير الموطأ، لإبن مزين، مخطوط، منه نسخة ناقصة في مكتبة القيروان العتيقة، وفي خزانتي مصورتها. 39 - تفسير غريب الموطأ، لإبن حبيب، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، بالرياض. 40 - تفسير عبد الرزاق، تحقيق الدكتور مصفى مسلم، مكتبة الرشد، بالرياض. 41 - التكملة لكتاب الصلة، لإبن الأبار، تحقيق عبد السلام الهراس، دار المعرفة بالدار البيضاء.

42 - التكملة لكتاب الصلة، للقضاعي، دار الجيل، بيروت. 43 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لإبن حجر، تصحيح وترقيم السيد عبد الله هاشم اليماني بالمدينة المنورة. 44 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لإبن عبد البر، وزارة الأوقاف المغربية. 45 - تنوير الحوالك على موطأ مالك، للسيوطي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر. 46 - تهذيب الكمال، للمزي، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت. 47 - تهذيب المدونة، للبراذعي، تحقيق الدكتور محمد الأمين ولد محمد سالم بن شيخ، دار البحوث الإِسلامية في دبي. 48 - التوسط بين مالك وابن القاسم، لأبي عبيد القاسم بن خلف الجبيري، تحقيق مصطفى باجو، دار الضياء في طنطا. 49 - توضيح المشتبه، لإبن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت. 50 - الثمر الداني شرح رسالة القيرواني، للأزهري، دار الكتب العلمية، بيروت. 51 - الجامع، لإبن أبي زيد القيرواني، تحقيق عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 52 - جامع الترمذي، تحقيق العلامة أحمد شاكر للمجلدين الأوليين، ثم أكمله غيره، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 53 - جامع العلوم والحكم، لإبن حجر، دار المعرفة، بيروت. 54 - جامع بيان العلم وفضلة، لإبن عبد البر، تحقيق الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام. 55 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي، الدار المصري للتأليف والترجمة.

56 - الجرح والتعديل, لإبن أبي حاتم، دائرة المعارف العثمانية، بالهند. 57 - جمهرة الفقهاء المالكية، للدكتور قاسم سعد، دار البحوث الإِسلامية وإحياء التراث، دبي. 58 - حاشية ابن عابدين، المسماة: رد المحتار على الدر المختار، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. 59 - الحجة على أهل المدينة، للشيباني، دار عالم الكتب، بيروت. 60 - حركة الحديث بقرطبة خلال القرن الهجري الخامس، لخالد الصمدي، وزارة الأوقاف المغربية. 61 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم، دار الفكر، بيروت. 62 - دراسات في مصادر الفقه المالكي، للدكتور ميكلوش موراني، دار الغرب الإسلامي. 63 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لإبن فرحون، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة. 64 - سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مصر. 65 - سنن أبي داود، تحقيق عزت عبيد الدعاس، حمص، سوريا. 66 - سنن الدارقطني، تصحيح وترقيم السيد عبد الله هاشم يماني، بالمدينة المنورة. 67 - السنن الكبرى للبيهقي، دائرة المعاراف الإِسلامية، بالهند. 68 - سنن النسائي، ترقيم عبد الفتاح أبو عدة، مكتب المطبوعات الإِسلامية بحلب. 69 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت. 70 - شجرة النور الزكية، لمخلوف، دار الفكر، بيروت. 71 - شرح السنة، للبغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت. 72 - الشرح الكبير على مختصر خليل، للدردير، دار الفكر، بيروت. 73 - شرح فتح القدير، للكمال ابن الهمام، دار الفكر، بيروت.

74 - شرح معاني الآثار، للطحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت. 75 - شعب الإيمان، للبيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت. 76 - صحيح ابن حبان، بترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وحسين أسد، مؤسسة الرسالة. 77 - صحيح ابن خزيمة، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت. 78 - صحيح البخاري، مع شرحه فتح الباري. 79 - صحيح مسلم، تحقيق محمد قؤاد عبد الباقي، مصطفى البابي الحلبي في القاهرة. 80 - الصلة، لإبن بشكوال، الدار المصري للتأليف والترجمة. 81 - الضعفاء، للعقيلي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت. 82 - طبقات القراء، المسمى: معرفة القراء الكبار، للذهبي، تحقيق صالح مهدي عباس، وبشار عواد، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت. 83 - العبر في خبر من غير، للذهبي، تحقيق فؤاد سيد، والمنجد، الكويت. 84 - العلل، للدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن السلفي، مكتبة طيبة، الرياض. 85 - عمدة القارئ بشرح صحيح البخاري، للعيني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. 86 - عون المعبود في شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي، المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة. 87 - غاية النهاية في طبقات القراء، لإبن الجزري، دار الكتب العلمية، بيروت. 88 - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق الدكتور حسين شرف، مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 89 - الغنية، للقاضي عياض، تحقيق محمد بن عبد الكريم، الدار العربية للكتاب. 90 - غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأحاديث المسندة، لإبن بشكوال، تحقيق عز الدين السيد وولده محمد كمال الدين، عالم الكتب، بيروت.

91 - فتح الباري بشرح صيح البخاري، لإبن حجر، المكتبة السلفية بالقاهرة. 92 - فهرسة ابن عطية الغرناطي، تحقيق محمد أبو الأجفان، ومحمد الزاهي، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 93 - فهرسة شيوخ ابن خير، دار الآفاق، بيروت. 94 - الفواكه الدواني، للنفزاوي، دار الكتب العلمية، بيروت. 95 - القاموس المحيط، للفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت. 96 - القبس في شرح موطأ الإِمام مالك، لإبن العربي، تحقيق الدكتور محمد عبد الله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي. 97 - القوانين الفقهية، لإبن جزي الكلبي، دار العلم للملايين، بيروت. 98 - الكافي في فقه أهل المدينة، لإبن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة. 99 - لسان العرب، لإبن منظور، دار الشعب، بالقاهرة. 100 - المبسوط، للسرخسي، دار المعرفة، بيروت. 101 - المحلى، لإبن حزم، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت. 102 - محمد بن وضاح القرطبي، للدكتور نوري معمر، مكتبة المعارف بالرباط. 103 - مدرسة الحديث في القيروان من الفتح الإسلامي إلى منتصف القرن الخامس الهجري، للحسين بن محمد شواط، الدار العالمية للكتاب الإسلامي بالرياض. 104 - المدونة، لسحنون بن عبد السَّلام، تحقيق السيد علي الهاشمي، في أبو ظبي. 105 - المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، الهند. 106 - المستغثين بالله، لإبن بشكوال، مصر. 107 - مسند أبي يعلى، تحقيق حسين أسد، دار المأمون، دمشق. 108 - مسند أحمد، الطبعة الميمنية بالقاهرة. 109 - المسند الجامع، جمع بشار عواد معروف وغيره، دار الجيل بيروت. 110 - مسند الموطأ، للجوهري، تحقيق طه بوسريع ولطفي الصغير، دار الغرب الإسلامي.

111 - مشارق الأنوار، تحقيق البلعمشي أحمد يكن، طبع وزارة الأوقاف المغربية. 112 - مصنف ابن أبي شيبة، الدار السلفية بالهند. 113 - مصنف عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت. 114 - المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، لمحمد محمد حسن شراب، دار القلم في دمشق، والدار الشامية في بيروت. 115 - معالم الإيمان، للقيرواني، دار الغرب الإسلامي. 116 - معجم الأمكنة الواردة ذكرها في صحيح البخاري، لسعد جنيدل، دارة الملك عبد العزيز بالرياض. 117 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر، بيروت. 118 - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، وزارة الأوقاف العراقية. 119 - معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، لعاتق بن غيث البلادي، دار مكة. 120 - المعجم الوسيط، لمجموعة من علماء اللغة في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 121 - المغانم المطابة في معالم طابة، للفيروزآبادي، تحقيق جماعة من المحققين، مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة. 122 - المعجم المفهرس، لإبن حجر، تحقيق الدكتور يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت. 123 - المغرب في محاسن حلي المغرب، لأبي سعيد المغربي، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف بالقاهرة. 124 - المغني، لإبن قدامة المقدسي، مكتبة الرياض الحديثة. 125 - المقتنى في سرد الكنى, للذهبي، تحقيق محمد صالح مراد، مطبوعات الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة. 126 - المنتقى، لإبن الجارود، تحقيق عبد الله البارودي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.

127 - المنتقى شرح موطأ مالك، لأبي الوليد الباجي، دار الفكر العربي، بيروت. 128 - مواهب الجليل، للحطاب، دار الفكر، بيروت. 129 - الموطأ، رواية ابن القاسم، بتلخيص القابسي، تحقيق الدكتور السيد محمد علوي مالكي، دار الشروق، جدة. 130 - الموطأ، رواية ابن بكر، مخطوط، نسخة مصورة من الظاهرية، ومن المكتبة السليمانية في استنبول. 131 - الموطأ، رواية ابن زياد، تحقيق محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية للنشر. 132 - الموطأ، رواية أبي مصعب، تحقيق بشار عواد ومحمود خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت. 133 - الموطأ، رواية القعنبي، تحقيق عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 134 - الموطأ، رواية يبيح بن يبيح الليثي، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، دار زايد لأعمال الخيرية. 135 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للمقّري، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت. 136 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لإبن الأثير، تحقيق الطناحي والزاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة. 137 - النوادر والزيادات، لإبن أبي زيد القيرواني، تحقيق جماعة من المحققين، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 138 - الوافي بالوفيات، للصفدي، بيروت. 139 - وفيات المصريين، لإبن الطحان، تحقيق محمود الحداد، دار العاصمة، بالرياض. 140 - وفيات المصريين، للحبال، تحقيق محمود الحداد، دار العاصمة

نبذة تعريفية في الهيئة القطرية للأوقاف

نبذة تعريفية في الهيئة القطرية للأوقاف الوقف: علامة فارقة في مسيرة الحضارة الإسلامية، وقد أثبت دوره ومكانته في مجالات التعليم والصحة، والعمل الثقافي والإجتماعي بمختلف أشكاله، وما زالت المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات تقف شاهدة على عظمة وأهمية الوقف عبر تاريخنا المجيد. وفي هذا السياق من العطاء والتواصل الإنساني تهدف الهيئة القطرية للأوقاف التي أُعلن عن إنشائها بالقرار الأميري رقم /41/ لسنة/ 2006 م/ إلى إدارة الأموال الوقفية، واستثمارها على أسس اقتصادية، وفق ضوابط شرعية بما يكفل نماءها، وتحقيق شروط الواقفين، وتعد الأوقاف إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني، سواء من ناحية النشأة والقدم، أو الإختصاصات المناطة بها. وانطلاقاً من النهضة الوقفية المعاصرة تم توسيع نطاق الوقف، وتنويع مصارفه من خلال إنشاء المصارف الوقفية الستة المشتملة على مختلف نواحي الحياة الثقافية والتربوية والصحية والإجتماعية .. إلخ، وذلك تشجيعاً لأهل الخير، وإرشاداً لهم لوقف أموالهم على المشاريع الخيرية التنموية، وتنظيماً لقنوات الصرف والإنفاق المساهمة في بناء المجتمع الإسلامي الحضاري. وأما المصارف الستة فهي: 1 - المصرف الوقفي لخدمة القرآن والسنة. 2 - المصرف الوقفي لرعاية المساجد. 3 - المصرف الوقفي لرعاية الأسرة والطفولة. 4 - المصرف الوقفي للرعاية والتقوى. 5 - المصرف الوقفي للرعاية الصحية. 6 - المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية.

فانطلاقاً من الإيمان العميق بدور العلم الشرعي، والثقافة الإسلامية بشكل خاص، والعلوم التطبيقية بشكل عام في تقدم الأمة وتطورها، جاء إنشاء المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية؛ ليكون رافداً غنيًا للعطاء الثقافي والعلمي ضمن نطاق اختصاصاته، وأبرز مثال في إطار أعمال وإنجازات هذا المصرف رحلات العمرة للمتميزين، إلى جانب إقامة العديد من الدورات العلمية. ولا ننسى الإشارة إلى الدور المهم الذي نهض به الوقف تاريخاً في تنشيد الحرف العلمية والثقافية، وذلك بإقامة المدارس، والمكتبات والمعاهد وغيرها، ليصنع بذلك حضارة أفادت منها الإنسانية جمعاء. * أهدافه: 1 - تشجيع ودعم إقامة الأنشطة والفعاليات العلمية والثقافية. 2 - الحث على الإهتمام بالتعليم، وبيان دوره في رقي الإنسان ونمو المجتمعات. 3 - نشر العلم الشرعي والثقافة الإِسلامية على أوسع نطاق، والإرتقاء بمستوى العاملين في هذا المجال. * وسائله: 1 - إقامة المؤتمرات والندوات، وحلقات الحوار والمهرجانات، والمعارض والمراكز الثقافية الدائمة والموسمية. 2 - دعم وإنشاء المكتبات العامة. 3 - دعم تنظيم الدورات التدريبية التأهيلية لتنمية المهارات والقدرات في مختلف المجالات العلمية والثقافية. وبالله التوفيق

§1/1